فصل: تفسير الآية رقم (129):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (129):

{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)}
قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أي: لن تقدروا أن تُسووا بين النساء في الحب وميل القلب، {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على العدل، {فَلا تَمِيلُوا} أي: إلى التي تُحبونها، {كُلَّ الْمَيْلِ} في القسم والنّفقة، أي: لا تُتبعُوا أهواءَكم أفعالَكم، {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} أي فَتَدعُوا الأخرى كالمنوطة لا أيمًّا ولا ذاتَ بعل. وقال قتادة: كالمحبوسة، وفي قراءة أُبي بن كعب: كأنها مسجونة.
ورُوي عن أبي قلابة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقْسِمْ بين نسائه، فيعدل ويقول: «اللّهم هذا قَسْمِي فيما أملك فلا تَلُمْنِي فيما تَمْلِكَ ولا أملك»، ورواه بعضهم عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها متصلا.
ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كانت له امرأتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقُّه مائل». {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} الجورَ، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.

.تفسير الآية رقم (130):

{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)}
{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} يعني: الزوج والمرأة بالطلاق، {يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} من رزقه، يعني: المرأة بزوج آخر والزوج بامرأة أخرى، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} واسعَ الفضل والرحمة حكيمًا فيما أمر به ونهى عنه.
وجملةُ حُكم الآية: أنّ الرجل إذا كانت تحته امرأتان أو أكثر فإنه يجب عليه التسوية بينهن في القسْم، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسْم عصى الله تعالى، وعليه القضاء للمظلومة، والتسوية، شرط في البيتوتة، أما في الجماع فلا لأنه يدور على النشاط وليس ذلك إليه ولو كانت في نكاحه حُرَّةٌ وأمَةٌ فإنه يبيت عند الحرّة ليلتين وعند الأمة ليلة واحدة، وإذا تزوج جديدة على قديمات عنده يخصُّ الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال على التوالي إن كانت بكرًا، وإن كانت ثيبًا فثلاث ليال ثم يُسوّي بعد ذلك بين الكل، ولا يجب قضاء هذه الليالي للقديمات.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يوسف بن راشد، ثنا أبو أسامة، ثنا سفيان الثوري، ثنا أيوب وخالد، عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: مِنَ السنّة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم قَسَمَ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا، ثم قسم. قال أبو قلابة: ولو شئتُ لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا أراد الرجل سفَر حاجة فيجوز له أن يحمل بعض نسائه مع نفسه بعد أن يُقرع بينهنّ فيه، ثم لا يجب عليه أن يقضي للباقيات مدة سفره، وإن طالت إذا لم يزد مقامه في بلده على مدة المسافرين، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الربيع، ثنا الشافعي، ثنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرَعَ بين نسائه فأيتهُن خرج سهْمُها خرج بها، أما إذا أراد سفر نقلة فليس له تخصيص بعضهن لا بالقرعة ولا بغيرها».

.تفسير الآيات (131- 132):

{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132)}
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} عبيدًا ومُلكًا {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم، {وَإِيَّاكُمْ} أهل القرآن في كتابكم، {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} أي: وحّدُوا اللهَ وأطيعوه، {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بما أوصاكم الله به {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} قيل: فإن لله ملائكة في السموات والأرض هي أطوع له منكم، {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم، {حَمِيدًا} محمودًا على نعمه.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} قال عكرمة عن ابن عباس: يعني شهيدًا أن فيها عبيدًا، وقيل: دافعًا ومجيرًا.
فإن قيل: فأي فائدة في تكرار قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} قيل: لكلّ واحد منهما وجه، أمّا الأول: فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وهو يُوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيتَه، وأمّا الثاني فيقول: فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيًّا أي: هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون وأمّا الثالث فيقول: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي: له الملك فاتخذوه وكيلا ولا تتوكلوا على غيره.

.تفسير الآيات (133- 135):

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
قوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} يُهلككم {أَيُّهَا النَّاسُ} يعني: الكفار، {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يقول بغيركم خير منكم وأطوع، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} قادرًا.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} يُريد من كان يريد بعمله عَرَضًا من الدنيا ولا يريد بها الله عز وجل آتاه الله من عَرَضِ الدنيا أو دفع عنه فيها ما أراد الله، وليس له في الآخرة من ثواب، ومن أراد بعمله ثواب الآخرة آتاه الله من الدنيا ما أحب وجزاه الجنة في الآخرة: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} يعني: كونوا قائمين بالشهادة بالقسط، أي: بالعدل لله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت، {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} في الرحم، أي: قُولُوا الحقَّ ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين، فأقيموها عليهم لله، ولا تُحابوا غنيًا لغناه ولا ترحموا فقيرًا لفقره، فذلك قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} منكم أي أقيموا على المشهُود عليه وإن كان غنيًا وللمشهود له وإن كان فقيرًا فالله أولى بهما منكم، أي كِلُوا أمرَهما إلى الله. وقال الحسن: معناه الله أعلم بهما، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق، وقيل: معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي: لتكونوا عادلين كما يقال: لا تتبع الهوى لترضي ربك.
{وَإِنْ تَلْوُوا} أي: تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق {أَوْ تُعْرِضُوا} عنها فتكتموها ولا تقيموها، ويقال: تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال: لَوَيْتهُ حقَّه إذا دفعتَه، ومطلتَه، وقيل: هذا خطاب مع الحكام في ليِّهم الأشداق، يقول: وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه، قرأ ابن عامر وحمزة {تَلُوُوا} بضم اللام، قيل: أصله تلووا، فحذفت إحدى الواوين تخفيفًا، وقيل: معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءَها {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.

.تفسير الآية رقم (136):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأُسيد ابنى كعب، وثعلبة بن قيس وسلامّ بن أخت عبد الله بن سلامّ، وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مُؤمُنوا أهل الكتاب أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا نُؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل آمِنُوا بالله ورسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والقرآن وبموسى والتوارة، وبكل كتاب قبله»، فأنزل الله هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبموسى عليه السلام والتوراة {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم، {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} يعني القرآن، {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب.
قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو {نزل} و{أنزل} بضم النون والألف، وقرأ الآخرون {نزل} و{أنزل} بالفتح أي أنزل الله.
{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} فلما نزلت هذه الآية قالوا: فإنا نؤمن بالله ورسوله والقرآن وبكل رسولٍ وكتابٍ كان قبل القرآن، والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
وقال الضحاك: أراد به اليهود والنصارى، يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بموسى وعيسى {آمِنُوا} بمحمدٍ والقرآن، وقال مجاهد: أراد به المنافقين، يقول: يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب وقال أبو العالية وجماعة: هذا خطاب للمؤمنين يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} أي أقيمُوا واثبتُوا على الإيمان، كما يُقال للقائم: قُمْ حتى أرجع إليك، أي اثبت قائمًا، وقيل: المراد به أهل الشرك، يعني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} باللات والعزى {آمِنُوا} بالله ورسوله.

.تفسير الآيات (137- 139):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} قال قتادة: هم اليهود آمَنُوا بموسى ثم كَفَرُوا من بعد بعبادتهم العجل، ثم آمَنُوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازْدَادَوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو في جميع أهل الكتاب آمَنُوا بنبيهم ثم كَفَرُوا به، وآمَنُوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به، وكفرهم به: تركهم إيّاه ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هذا في قوم مرتدين آمنوا ثمّ ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا ثُمّ آمنوا ثم ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا.
ومثل هذا هلْ تُقبل توبته؟ حُكي عن علي رضي الله عنه: أنه لا تُقبل توبته بل يقتل، لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وأكثر أهل العلم على قبول توبته، وقال مجاهد: ثم ازدادوا كفرًا أي ماتوا عليه، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ما أقاموا على ذلك، {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} أي طريقًا إلى الحق، فإن قيل: ما معنى قوله: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ومعلوم أنه لا يغفر الشرك إن كان أول مرّة؟.
قيل: معناه أن الكافر إذا أسلم أول مرّة ودام عليه يُغفر له كفرُه السابق، فإن أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يُغفر له كفرُه السابق، الذي كان يُغفر له لو دَامَ على الإسلام.
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} أخبرهم يا محمد، {بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} والبشارة: كل خبر يتغير به بشرة الوجه سارًّا كان أو غير سار، وقال الزجاج: معناه اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب، كما تقول العربك تحيّتُك الضرب وعِتَابُك السيف، أي: بدلا لك من التحية، ثم وصف المنافقين فقال: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} يعني: يتخذون اليهودَ أولياء وأنصارًا أو بطانة {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} أي: المعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: وقيل: أيطلبون عندهم القوة والغلبة، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ} أي: الغلبة والقوة والقدرة، {لِلَّهِ جَمِيعًا}.

.تفسير الآيات (140- 141):

{وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141)}
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} قرأ عاصم ويعقوب {نزل} بفتح النون والزاي، أي: نزل الله، وقرأ الآخرون {نزل} بضم النون وكسر الزاي، أي: عليكم يا معشر المسلمين، {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ} يعني القرآن، {يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} يعني: مع الذي يستهزئون، {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي: يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا إشارة إلى ما أنزل الله في سورة الأنعام {وإذا رأيتَ الذين يخُوضُون في آياتنا فأَعرضْ عنهم حتى يخوُضوا في حديث غيرِه} [الأنعام- 68].
وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: دخل في هذه الآية كلُّ مُحْدِث في الدين وكلُّ مبتدع إلى يوم القيامة، {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} أي: إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة، وقال الحسن: لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره، لقوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} والأكثرون على الأول. وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أوْلَى: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.
{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} ينتظرون بكم الدوائر، يعني: المنافقين، {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} يعني: ظفر وغنيمة، {قَالُوا} لكم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} على دينكم في الجهاد، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني دولة وظهور على المسلمين، {قَالُوا} يعني: المنافقين للكافرين، {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} والاستحواذ: هو الاستيلاء والغلبة، قال تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} [المجادلة- 19] أي: استولى وغلب، يقول: ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونطلعكم على سرهم؟
قال المبرِّد: يقول المنافقون للكفار ألم نغلبكم على رأيكم {وَنَمْنَعْكُم} ونصرفكم، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: عن الدخول في جملتهم، وقيل: معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ونمنعكم من المؤمنين؟ أي: ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إيّاكم بأخبارهم وأمورهم، ومُرادُ المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين.
{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} يعني: بين أهل الإيمان وأهل النفاق، {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} قال عليُّ: في الآخرة، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم: أي حجة، وقيل: ظهورًا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.