فصل: تفسير الآية رقم (160):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (160):

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)}
قوله عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وبُهتانهم على مريم، وقولهم: إنّا قتلنا المسيح {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وهي ما ذكر في سورة الأنعام، فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام- 146].
ونظم الآية: فبظلم من الذين هادوا وهو ما ذكرنا، {وَبِصَدِّهِم} وبصرفهم أنفسَهم وغيرَهم، {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} أي: عن دين الله صدًا كثيرًا.

.تفسير الآيات (161- 162):

{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}
{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} في التوراة {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} مِنَ الرشا في الحكم، والمآكل التي يصيبونها من عوامِّهم، عاقبناهم بأنْ حرّمنا عليهم طيبات، فكانُوا كلّما ارتكبوا كبيرةً حُرّم عليهم شيءٌ من الطيبات التي كانت حلالا لهم، قال الله تعالى: {ذلكَ جَزَيْنَاهم بِبَغْيِهم وإنّا لصادقون} [الأنعام- 146]، {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}.
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} يعني: ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة، لكن الراسخون البالغون في العلم أولو البصائر منهم، وأراد به الذين أسْلَموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، {وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني: المهاجرون والأنصار، {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} يعني: القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} يعني: سائر الكتب المنزلة، {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} اختلفوا في وجه انتصابه، فحُكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان: أنه غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله في سورة المائدة {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون} [المائدة- 62]، وقوله: {إن هذان لساحران} [طه- 63] قالوا: ذلك خطأ من الكاتب.
وقال عثمان: إن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيرّه؟ فقال: دعوه فإنه لا يُحلُّ حرامًا ولا يُحرِّم حلالا.
وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح، واختلفوا فيه، قيل: هو نصب على المدح، وقيل: نصب بإضمار فعل تقديره: أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة، وقيل: موضعه خفض.
واختلفوا في وجهه، فقال بعضهم: معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقيل: معناه يؤمنون بما أَنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، ثم قوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} رجوع إلى النسق الأوّل، {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون.

.تفسير الآية رقم (163):

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} هذا بناء على ما سبق من قوله: {يسألك أهل الكتاب أن تُنَزِّلَ عليهم كتابا من السماء} [النساء- 153]، فلما ذكر الله عيوبهم وذنوبهم غضبوا وجحدوا كل ما أنزل الله عز وجل، وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، فنزل: {وما قَدَرُوا الله حقَّ قَدْرِه إذ قالُوا ما أنزل الله على بشر مِنْ شيء} [الأنعام- 91] وأنزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} فذكر عدَّةً من الرسل الذين أوحى إليهم، وبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه السلام، قال الله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات- 77] ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول من عذبت أمته لردِّهم دعوته، وأهُلك أهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرًا وجعلت معجزته في نفسه، لأنه عمّر ألف سنة فلم تسقط له سن ولم تشب له شعرة ولم تنتقص له قوة، ولم يصبر نبيٌّ على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره.
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ} وهم أولاد يعقوب، {وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} قرأ الأعمش وحمزة: {زُبُورًا} والزُّبور بضم الزاي حيث كان، بمعنى: جمع زُبور، أي آتينا داود كُتبًا وصُحُفًا مزبورة، أي: مكتوبة، وقرأ الآخرون بفتح الزاي وهو اسم الكتاب الذي أنزل الله تعالى على داود عليه السلام، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل، وكان داود يبرزَ إلى البرية فيقوم ويقرأ الزّبورَ ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجنّ خلف الناس، الأعظمُ فالأعظم، والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم يرَ ذلك، فقيل له: ذاك أُنس الطاعة، وهذه وحْشَةُ المعصية.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو بكر الجوزقي، أنا أبو العباس، أنا يحيى بن زكريا، أنا الحسن بن حماد، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيتَ مِزْمارًا من مزامير آل داود»، فقال: أمَا والله يا رسول الله لو علمتُ أنك تستمع لحَبّرته لحَبرّته وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول: ذكِّرْنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده.

.تفسير الآية رقم (164):

{وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}
قوله تعالى: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} أي: وكما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل، {وَرُسُلا} نصب بنزع حرف الصفة، وقيل: معناه وقصصنا عليك رسلا وفي قراءة أبيّ {ورسل قد قصصناهم عليك من قبل} {وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} قال الفراء: العرب تسمي ما يُوصل إلى الإنسان كلامًا بأيّ طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر، ولم يكن إلا حقيقة الكلام- كالإرادة- يقال: أراد فلان إرادةً، يريدُ حقيقة الإرادة، ويقال: أراد الجدار، ولا يقال أراد الجدار إرادةً لأنه مجاز غير حقيقة.

.تفسير الآيات (165- 167):

{رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167)}
قوله تعالى: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} فيقولوا: ما أرسلتَ إلينا رسولا وما أنزلتَ إلينا كتابًا، وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول، قال الله تعالى: {وما كُنّا مُعذِّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا} [الاسراء- 15]، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، ثنا موسى بن إسماعيل، أنا أبو عوانة، أنا عبد الملك، عن ورَّاد كاتب المغيرة، عن المغيرة قال: قال سعد بن عُبادة رضي الله عنه: لو رأيتُ رجلا مع امرأتي لضربتهُ بالسيف غير مُصْفِح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغْيَرُ منه، والله أغيرُ مني، ومن أجل غيرة الله حرّم الله الفواحش ما ظهرَ منها ومَا بَطَن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعثَ المُنذرين والمُبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد اللهُ الجنةَ».
قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد سأَلْنَا عنكَ اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونَكَ، ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم: إني- والله- أعلم إنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} إن جحدوك وكذّبوك {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بكتمان نَعْتِ محمد صلى الله عليه وسلم، {قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا}.

.تفسير الآيات (168- 171):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171)}
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} قيل: إنما قال: {وظلموا}- مع أن ظلمهم بكفرهم- تأكيدا، وقيل: معناه كفروا بالله وظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته، {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} يعني: دين الإسلام.
{إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} يعني اليهودية، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} وهذا في حق من سبق حكمه فيهم أنهم لا يؤمنون.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} تقديره: فآمنوا يكن الإيمان خيرًا لكم، {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} نزلت في النصارى وهم أصناف: اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية: عيسى هو الله، وكذلك الملكانية، وقالت النسطورية: عيسى هو ابن الله، وقالت: المرقوسية ثالث ثلاثة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويقال الملكانية يقولون: عيسى هو الله، واليعقوبية يقولون: ابن الله، والنسطورية يقولون: ثالث ثلاثة. علَّمهم رجل من اليهود يقال له بَوْلَس، سيأتي في سورة التوبة إنْ شاء الله تعالى.
وقال الحسن: يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى، فإنهم جميعًا غلوا في أمر عيسى، فاليهود بالتقصير، والنصارى بمجاوزة الحدّ، وأصل الغلو: مجاوزة الحدّ، وهو في الدين حرام.
قال الله تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} لا تُشدِّدوا في دينكم فتفتَرُوا على الله {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} لا تقولوا إنّ له شريكًا وولدًا {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُه} وهي قوله: {كن} فكان بشرًا من غير أب، وقيل غيره، {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أي أعلمها وأخبرها بها، كما يقال: ألقيتُ إليك كلمة حسنة، {وَرُوحٌ مِنْهُ} قيل: هو روح كسائر الأرواح إلا أن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا.
وقيل: الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في دِرْعِ مريم فحملته بإذن الله تعالى، سميّ النفخ روحًا لأنه ريح يخرج من الروح وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره.
وقيل: {روح منه} أي ورحمة، فكان عيسى عليه السلام رحمةً لمن تبعه وأمن به.
وقيل: الروح: الوحي، أوحى إلى مريم بالبشارة، وإلى جبريل عليه السلام بالنفخ، وإلى عيسى أن كن فكان، كما قال الله تعالى: {يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بالرُّوح مِنْ أمرِه} [النحل- 2] يعني: بالوحي، وقيل: أراد بالروح جبريل عليه السلام، معناه: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها إليها أيضًا روح منه بأمره وهو جبريل عليه السلام، كما قال: {تنزل الملائكةُ والرُّوح} [القدر- 4] يعني: جبريل فيها، وقال: {فأرسلنا إليها روحنا} [مريم- 17]، يعني: جبريل.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أنا صدقة بن الفضل، أنا الوليد، عن الأوزاعي، حدثنا عمرو بن هاني، حدثني جُنادة بن أمية، عن عُبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنّ عيسى عبدُ الله ورسولهُ وكلمته ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، وأن الجنَّةَ والنّارَ حقٌ أدْخَلَه الله الجنة على ما كانَ من العمل».
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أي: ولا تقولوا هم ثلاثة، وكانت النصارى تقول: أب وابن وروح قدس، {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} تقديره: انتهوا يكن الانتهاء خيرًا لكم، {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} واعلم أنّ التبني لا يجوز لله تعالى، لأنّ التبني إنما يجوز لمن يُتصور له ولد، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا}.

.تفسير الآية رقم (172):

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)}
قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} وذلك أنّ وفد نجران قالوا: يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول: إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّه ليس بعار لعيسى عليه السلام أن يكون عبدًا لله»، فنزل: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ} لن يأنف ولن يتعظم، والاستنكاف: التكبر مع الأنفة، {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} وهم حملة العرش، لا يأنفون أن يكونوا عبيدًا لله، ويستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر، لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة، ولا يُرْتقي إلا إلى الأعلى، لا يقال: لا يستنكف فلان من هذا ولا عبده، إنّما يقال: فلان لا يستنكف من هذا ولا مولاه، ولا حجة لهم فيه لأنه لم يقل ذلك رفعًا لمقامهم على مقام البشر، بل رَّدًا على الذين يقولون الملائكة آلهة، كما ردّ على النصارى قولَهم المسيح ابن الله، وقال ردا على النصارى بزعمهم، فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة. قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} قيل الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة، والاستكبار هو العلو والتكبر من غير أنَفَةٍ.