فصل: تفسير الآيات (7- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (7- 9):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} يعني: النعم كلها، {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون، {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا، وهو قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد ومقاتل: يعني الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بما في القلوب من خير وشر.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي: كونوا قائمين بالعدل قوّالين بالصدق، أمرهم بالعدل والصدق في أفعالهم وأقوالهم، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} ولا يحملنكم، {شَنَآنُ قَوْمٍ} بغض قوم، {عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} أي: على ترك العدل فيهم لعداوتهم. ثم قال: {اعْدِلُوا} يعني: في أوليائكم وأعدائكم، {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} يعني: إلى التقوى، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} وهذا في موضع النصب؛ لأن فعل الوعد واقع على المغفرة، ورفعها على تقدير أي: وقال لهم مغفرة وأجر عظيم.

.تفسير الآيات (10- 11):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم} بالدفع عنكم، {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل.
قال قتادة: نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك، وأنزل الله صلاة الخوف.
وقال الحسن: كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل، فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمدا؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قالوا: وددنا أنك قد فعلت ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة، فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم، أحدهم عمرو بن أمية الضمري، فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: الله أكبر الجنة ورب العالمين، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، قالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلسْ حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا فقال: لا تبرح مقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل: توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)}
قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء من أرض الشام وهي الأرض المقدسة، وكانت لها ألف قرية في كل قرية ألف بستان، وقال: يا موسى إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها، فلقيهم رجل من الجبابرة يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاث وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويُروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام، وكان فرسخا في فرسخ، وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقوّر الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله، وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته، وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك.
ورُوي أنه جعلهم في كُمِّه وأتى بهم إلى الملك فطرحهم بين يديه، فقال الملك: ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم، وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس، فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم، وقال بعضهم لبعض يا قوم: إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك، ثم إنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى: إلا رجلان فذلك قوله تعالى: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} ناصركم على عدوكم، ثم ابتدأ الكلام فقال: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ} يا معشر بني إسرائيل، {وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} نصرتموهم، وقيل: ووقرتموهم وعظمتموهم؛ {وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قيل: هو إخراج الزكاة، وقيل: هو النفقة على الأهل، {لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} لأمحون عنكم سيئاتكم، {وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: أخطأ قصد السبيل، يريد طريق الحق وسواء كل شيء: وسطه.

.تفسير الآيات (13- 14):

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)}
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ} أي: فبنقضهم، وما صلة، {مِيثَاقَهُم} قال قتادة: نقضوه من وجوه لأنهم كذّبوا الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه {لَعَنَّاهُم} قال عطاء أبعدناهم من رحمتنا، قال الحسن ومقاتل: عذبناهم بالمسخ، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف، وهما لغتان مثل الذاكية والذكية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قاسية أي يابسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل معناه: إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق، ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} قيل: هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: تحريفهم بسوء التأويل، {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: وتركوا نصيب أنفسهم مما أُمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، {وَلا تَزَالُ} يا محمد {تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} أي: على خيانة، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية، وقيل: هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل روَّاية ونسابة وعلامة وحسابة، وقيل: على فرقة خائنة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: على خائنة أي: على معصية، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّهم بقتله وسمّه، ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت، {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} أي: أعرض عنهم ولا تتعرض لهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا منسوخ بآية السيف.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} قيل: أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكر اليهود، وقال الحسن: فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} بالأهواء المختلفة والجدال في الدين، قال مجاهد وقتادة: يعني بين اليهود والنصارى، وقال قوم: هم النصارى وحدهم صاروا فرقا منهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكل فرقة تكفّر الأخرى، {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} في الآخرة.

.تفسير الآيات (15- 17):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
قوله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يريد: يا أهل الكتابين، {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من التوارة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} أي: يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولا يؤاخذكم به، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} يعني: محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: الإسلام، {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} أي: بيّن، وقيل: مبين وهو القرآن.
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} رضاه، {سُبُلَ السَّلامِ} قيل: السلام هو الله عز وجل، وسبيله دينه الذي شرع لعباده، وبعث به رسله، وقيل: السلام هو السلامة، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد، والمراد به طرق السلامة، {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، {بِإِذْنِهِ} بتوفيقه وهدايته، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام.
قوله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهم اليعقوبية من النصارى يقولون المسيح هو الله تعالى، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي: من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا إذا قضاه؟ {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}
قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قيل: أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة، وقال إبراهيم النخعي: إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري، فبدلوا يا أبناء أبكاري، فمن ذلك قالوا: نحن أبناء الله، وقيل: معناه نحن أبناء رسل الله.
قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده، والحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون أنه معذبكم؟ وقيل: فلم يعذبكم أي: لِمَ عذّب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير؟ {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} فضلا {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} عدلا {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.

.تفسير الآيات (19- 20):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)}
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أعلام الهدى وشرائع الدين، {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} أي انقطاع من الرسل.
واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو عثمان النهدي: ستمائة سنة، وقال قتادة: خمسمائة وستون سنة، وقال معمر والكلبي، خمسمائة وأربعون سنة وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم. {أَنْ تَقُولُوا} كيلا تقولوا، {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} أي: منكم أنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني أصحاب خدم وحشم، قال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم. ورُوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا».
وقال أبو عبد الرحمن الحُبُلي: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم. قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك.
قال السدي: وجعلكم ملوكا أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، قال الضحاك: كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني عالمي زمانكم، قال مجاهد: يعني المنّ والسلوى والحَجَر وتظليل الغمام.