فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (42):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي {للسحت} بضم الحاء، والآخرون بسكونها، وهو الحرام، وأصله الهلاك والشدة، قال الله تعالى: {فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} [طه، 61]، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم.
قال الحسن: كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة.
وعنه أيضا قال: إنما ذلك في الحَكَم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا. فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك، وقال ابن مسعود: هو الرشوة في كل شيء، وقال ابن مسعود: من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلماٍ فأهدي له فقبل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال: الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى: {يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة، 44].
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله الراشي والمرتشي».
والسحت كل كسب لا يحل.
قوله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك.
واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا؟ فقال أكثر أهل العلم: هو حكم ثابت، وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة.
وقال قوم: يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [سورة المائدة، 49]، وهو قول مجاهد وعكرمة، وروي ذلك عن ابن عباس وقال: لم ينسخ من المائدة إلا آيتان، قوله تعالى: {لا تحلوا شعائر الله} نسخها قوله تعالى: {اقتلوا المشركين} وقوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} نسخها قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة. قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط} أي: بالعدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المقسطون عند الله على منابر من نور».

.تفسير الآيات (43- 44):

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاة} هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه اختصار، أي: كيف يجعلونك حكما بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة؟ {فِيهَا حُكْمُ اللَّه} وهو الرجم، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} أي بمصدقين لك.
قوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} أي: أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين} [سورة البقرة، 131]، وكما قال: {وله أسلم من في السموات والأرض} [سورة آل عمران، 83]، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام، قال الله سبحانه وتعالى: {لكل جعلنا منك شرعة ومنهاجا} [سورة المائدة، 48].
وقال الحسن والسدي: أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم، ذكر بلفظ الجمع كما قال: {إن إبراهيم كان أمة قانتا} [سورة النحل، 120].
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} فيه تقديم وتأخير، تقديره: فيها هدى ونور للذين هادوا. ثم قال: يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون، وقيل: هو على موضعه، ومعناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، كما قال: {وإن أسأتم فلها} [سورة الإسراء، 7] أي: فعليها، وقال: {أولئك لهم اللعنة} [سورة الرعد، 25] أي: عليهم، وقيل: فيه حذف، كأنه قال: للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا.
{وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ} يعني العلماء: واحدهم حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها، والكسر أفصح، وهو العالم المحكم للشيء، قال الكسائي وأبو عبيد: هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها، وفي الحديث: «يخرجُ من النار رجل قد ذهب حبره وسبره» أي: حسنه وهيئته، ومنه التحبير وهو التحسين، فسمى العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه، وقيل: الربانيون هاهنا من النصارى، والأحبار من اليهود، وقيل: كلاهما من اليهود.
قوله عز وجل: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} أي: استودعوا من كتاب الله، {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} أنه كذلك.
{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال قتادة والضحاك: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة. رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين، وقيل: هي على الناس كلهم.
وقال ابن عباس وطاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.
قال عطاء: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وقال عكرمة معناه: ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق.
وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات، فقال: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات. وقال العلماء: هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي: أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة، {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يعني: نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به، {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} تفقأ بها، {وَالأنْفَ بِالأنْفِ} يُجدع به، {وَالأذُنَ بِالأذُنِ} تُقطع بها، قال ابن عباس: أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو: أن النفس بالنفس إلى آخرها، فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين، ويفقأون بالعين العينين، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن وثقلها الآخرون، {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص، {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فهذا تعميم بعد تخصيص، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن، ثم قال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته، وقرأ الكسائي {والعين} وما بعدها بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو {والجروح} بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس.
قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قيل: الهاء في {له} كناية عن المجروح وولي القتيل، أي: كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة.
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه».
وقال جماعة: هي كناية عن الجارح والقاتل، يعني: إذا عفا المجني عليه من الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى- 40]، رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

.تفسير الآيات (46- 48):

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}
قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ} أي: على آثار النبيين الذين أسلموا، {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ}.
أي: في الإنجيل، {هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا} يعني الإنجيل، {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}.
{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قرأ الأعمش وحمزة {ولِيحكمَ} بكسر اللام وفتح الميم، أي لكي يحكم، وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر، قال مقاتل بن حيان: أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما في التوراة، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل، فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الخارجون عن أمر الله تعالى.
قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} يا محمد {الْكِتَابَ} القرآن، {بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} أي: من الكتب المنزلة من قبل، {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أي شاهدا عليه وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والكسائي.
قال حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ** والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد: شاهدا ومصدقا.
وقال عكرمة: دالا وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة، مؤتمنا عليه، وقال الحسن: أمينا وقيل: أصله مؤيمن، مفيعل من أمين، كما قالوا: مبيطر من البيطار، فقلبت الهمزة هاء، كما قالوا: أرقت الماء وهرقته، وإيهات وهيهات، ونحوها. ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج: القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا.
وقال سعيد بن المسيب والضحاك قاضيا، وقال الخليل: رقيبا وحافظا، والمعاني متقاربة، ومعنى الكل: أن كل كتاب يشهد بصدقه القرآن فهو كتاب الله تعالى، وما لا فلا. {فَاحْكُمْ} يا محمد، {بَيْنَهُمْ} بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك، {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} بالقرآن، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي لا تعرض عما جاءك من الحق ولا تتبع أهواءهم، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أي سبيلا وسنة، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة وشرعة، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة، ولكل أهل ملة شريعة.
قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى وأمه عيسى وأمه محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، للتوراة شريعة والإنجيل شريعة وللفرقان شريعة، والدين واحد وهو التوحيد. {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على ملة واحدة، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ} ليختبركم، {فِي مَا آتَاكُمْ} من الكتب وبين لكم من الشرائع فيتبين المطيع من العاصي والموافق من المخالف، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} فبادروا إلى الأعمال الصالحة، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.

.تفسير الآيات (49- 50):

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
قوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك، ويتبعنا غيرنا، ولم يكن قصدهم الإيمان، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن، {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي: فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} يعني اليهود، {لَفَاسِقُونَ}.
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} قرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء وقرأ الآخرون بالياء، أي: يطلبون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.