فصل: تفسير الآيات (72- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (72- 74):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)}
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وهم الملكانية واليعقوبية منهم، {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} يعني: المرقوسية، وفيه إضمار معناه: ثالث ثلاثة آلهة، لأنهم يقولون: الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، يبين هذا قوله عز وجل للمسيح: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة، 116]، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به الإلهية لا يكفر، فإن الله يقول: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة، 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما». ثم قال ردا عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} ليصيبن {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون.
{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ}؟ قال الفراء: هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} [المائدة، 91]، أي: انتهوا، والمعنى: أن الله يأمركم بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

.تفسير الآيات (75- 76):

{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}
قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ} مضت {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} أي: ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة، {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} أي: كثيرة الصدق.
وقيل: سُميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله، كما قال عز وجل في وصفها: {وصدقت بكلمات ربها} [التحريم، 12]، {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} أي: كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام؟
وقيل: هذا كناية عن الحدث، وذلك أن من أكل وشرب لابد له من البول والغائط، ومَنْ هذه صفته كيف يكون إلها؟
ثم قال: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي يُصرفون عن الحق.

.تفسير الآيات (77- 78):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} أي: لا تتجاوزوا الحد، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين، وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} أي: في دينكم المخالف للحق، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه، {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ} والأهواء جمع الهوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} يعني: رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى، والخطاب للذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا} يعني: من اتبعهم على أهوائهم {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} عن قصد الطريق، أي: بالإضلال، فالضلال الأول من الضلالة، والثاني بإضلال من اتبعهم.
قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} يعني: أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، وقال داود عليه السلام: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة، {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي: على لسان عيسى عليه السلام، يعني: كفار أصحاب المائدة، لما لم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير، {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}.

.تفسير الآيات (79- 81):

{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} أي: لا ينهى بعضهم بعضا {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا الحسن محمد بن الحسين أنا أحمد بن محمد بن إسحاق أنا أبو يعلى الموصلي أنا وهب بن بقية أنا خالد- يعني ابن عبد الله الواسطي- عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، وجعل منهم القردة والخنازير، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم».
قوله تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} قيل: من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن: منهم يعني من المنافقين يتولون اليهود، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة، {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} غضب الله عليهم، {وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}.
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} محمد صلى الله عليه وسلم، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} يعني القرآن، {مَا اتَّخَذُوهُمْ} يعني الكفار، {أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى.

.تفسير الآيات (82- 83):

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)}
قوله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} يعني: مشركي العرب، {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم، لا ولاء، ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه، وقيل: نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى، لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود.
قال أهل التفسير: ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يُؤمرْ بعدُ بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: «إن بها ملكا صالحا لا يَظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا» وأراد به النجاشي، واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولهم قيصر وكسرى، فخرج إليهم سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وحاطب بن عمرو وسهل بن بيضاء رضي الله عنهم، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان.
فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم، فعصمه الله، وذُكرت القصة في سورة آل عمران.
فلما انصرفا خائبين، أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره، وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان- وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها،- ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت: أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا، وقالت: أنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدَّقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به، وحاجتي منك أن تقرئيه منك السلام، قالت نعم: وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر.
قالت أم حبيبة: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام، وأنزل الله عز وجل: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة} يعني: أبا سفيان مودة، يعني: بتزويج أم حبيبة، ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة، قال: ذلك الفحل لا يُقرع أنفه.
وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلا من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسملت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقال: آمنوا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} يعني: وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون، وكانوا أصحاب الصوامع.
وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام.
وقال عطاء: كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام.
وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} أي علماء، قال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم، {وَرُهْبَانًا} الرهبان العبّاد أصحاب الصوامع، واحدهم راهب، مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق.
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} محمد صلى الله عليه وسلم، {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ} تسيل، {مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: يريد النجاشي ولأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص، فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة. {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، دليله قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة، 143].

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}
{وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ} وذلك أن اليهود عيّروهم وقالوا لهم: لِمَ آمنتم؟ فأجابوهم بهذا، {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أي: في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بيانه {أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء، 105].
{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ} أعطاهم الله، {بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} وإنما أنجح قولهم وعلق الثواب بالقول لاقترانه بالإخلاص، بدليل قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} يعني: الموحدين المؤمنين، وقوله من قبل: {ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} يدل على أن الإخلاص والمعرفة بالقلب مع القول يكون إيمانا.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية قال أهل التفسير: ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوما ووصف القيامة، فرقّ له الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرِّن رضي الله عنهم، وتشاوروا واتفقوا على أن يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبُّوا مذاكيرهم، ويصوموا الدهر، ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم والودك، ولا يقربوا النساء والطيب، ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أم حكيم بنت أبي أمية، واسمها الخولاء، وكانت عطارة: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان بشيء فقد صدقك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أؤمر بذلك»، ثم قال: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا، فإني اقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، ثم جمع الناس وخطبهم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات النساء؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء، ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان واستقيموا يُستقم لكم، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع»، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الكشميهني أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال أنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد حدثني ابن أنعم عن سعد بن مسعود أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذن لنا في الاختصاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خصى ولا اختصى، خصاء أمتي الصيام»، فقال: يا رسول الله ائذن لنا في السياحة، فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله»، فقال: يا رسول الله ائذن لنا في الترهب، فقال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد وانتظار الصلاة».
ورُوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال: يا رسول الله إني أصبت من اللحم فانتشرت وأخذتني شهوة، فحرّمت اللحم، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: اللذات التي تشتهيها النفوس، مما أحل لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، {وَلا تَعْتَدُوا} أي: ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام، وقيل: هو جبّ المذاكير {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.