فصل: تفسير الآيات (96- 97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (96- 97):

{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}
قوله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} والمراد بالبحر جميع المياه، قال عمر رضي الله عنه: «صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به». وعن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة: طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا.
وقال قوم: هو المالح منه وهو قول سعيد بن جبير وعكرمة وسعيد بن المسيب وقتادة والنخعي.
وقال مجاهد: صيده: طريه، وطعامه: مالحه، متاعا لكم أي: منفعة لكم، وللسيارة يعني: المارة.
وجملة حيوانات الماء على قسمين: سمك وغيره، أما السمك فميتته حلال مع اختلاف أنواعها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال» ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب، وعند أبي حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب من وقوع على حجر أو انحسار الماء عنه ونحو ذلك.
أما غير السمك فقسمان: قسم يعيش في البر كالضغدع والسرطان، فلا يحل أكله، وقسم يعيش في الماء ولا يعيش في البر إلا عيش المذبوح، فاختلف القول فيه، فذهب قوم إلى أنه لا يحل شيء منها إلا السمك، وهو معنى قول أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب قوم إلى أن ميت الماء كلها حلالٍ لأن كلها سمك، وإن اختلفت صورها، كالجريث يقال له حية الماء، وهو على شكل الحية وأكله مباح بالاتفاق، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة، وبه قال شريح والحسن وعطاء، وهو قول مالك وظاهر مذهب الشافعي.
وذهب قوم إلى أن ما له نظير في البر يؤكل، فميتته من حيوانات البحر حلال، مثل بقر الماء ونحوه، وما لا يؤكل نظيره في البر لا يحل ميتته من حيوانات البحر، مثل كلب الماء والخنزير والحمار ونحوها.
وقال الأوزاعي كل شيء عيشه في الماء فهو حلال، قيل: فالتمساح؟ قال نعم.
وقال الشعبي: لو أن أهلي أكلوا الضفادع لأطعمتهم، وقال سفيان الثوري: أرجو أن لا يكون بالسرطان بأسا.
وظاهر الآيه حجة لمن أباح جميع حيوانات البحر، وكذلك الحديث. أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن صفوان بن سلمان عن سعيد بن سلمة من آل بني الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب في البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أنا يحيى عن ابن جريج أخبرني عمر أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول: غزوت جيش الخَبَط وأُمِّر أبو عبيدة، فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله، يقال له العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه، فمر الراكب تحته. وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: قال أبو عبيدة: كلوا فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلوا رزقا أخرجه الله إليكم، أطعمونا إن كان معكم» فأتاه بعضهم بشيء منه فأكلوه.
قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} صيد البحر حلال للمحرم، كما هو حلال لغير المحرم، أما صيد البر فحرام على المحرم وفي الحرم، والصيد هو الحيوان الوحشي الذي يحل أكله، أما ما لا يحل أكله فلا يحرم بسبب الإحرام، وللمحرم أخذه وقتله، ولا جزاء على من قتله إلا المتولد بين ما لا يؤكل لحمه وما يؤكل، كالمتولد بين الذئب والظبي لا يحل أكله ويجب بقتله الجزاء على المحرم، لأن فيه جزاء من الصيد.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور».
وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقتل المحرم السبع العادي» وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية والعقرب والحدأة والفأرة والكلب العقور».
وقال سفيان بن عيينة: الكلب العقور كل سبع يعقر، ومثله عن مالك، وذهب أصحاب الرأي إلى وجوب الجزاء في قتل ما لا يؤكل لحمه، من الفهد والنمر والخنزير ونحوها إلا الأعيان المذكورة في الخبر، وقاسوا عليها الذئب فلم يوجبوا فيه الكفارة، وقاس الشافعي رحمه الله عليها جميع ما لا يؤكل لحمه لأن الحديث يشتمل على أعيان بعضها سباع ضارية وبعضها هوام قاتلة وبعضها طير لا يدخل في معنى السباع ولا هي من جملة الهوام وإنما هي حيوان مستخبث اللحم، وتحريم الأكل يجمع الكل فاعتبره ورتب الحكم عليه.
قوله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قال مجاهد: سميت كعبة لتربيعها، والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة، قال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البناء، وقيل: سميت كعبة لارتفاعها من الأرض، وأصلها من الخروج والارتفاع، وسمي الكعب عكبا لنتوئه، وخروجه من جانبي القدم، ومن قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها: تكعّبت. وسمي البيت الحرام: لأن الله تعالى حرّمه وعظّم حرمته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض» {قِيَامًا لِلنَّاسِ} قرأ ابن عامر {قيما} بلا ألف والآخرون: {قياما} بالألف، أي: قواما لهم في أمر دينهم ودنياهم، أما الدين لأن به يقوم الحج والمناسك، وأما الدنيا فيما يجبي إليه من الثمرات، وكانوا يأمنون فيه من النهار والغارة فلا يتعرض لهم أحد في الحرم، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت- 67] {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} أراد به الأشهر الحرم وهي ذو العقده وذو الحجة والمحرم ورجب، أراد أنه جعل الأشهر الحرم قياما للناس يأمنون فيها القتال، {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} أراد أنهم كانوا يؤمنون بتقليد الهدي، فذلك القوام فيه.
{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فإن قيل: أي اتصال لهذا الكلام بما قبله؟ قيل: أراد أن الله عز وجل جعل الكعبة قياما للناس لأنه يعلم صلاح العباد كما يعلم ما في السموات وما في الأرض، وقال الزجاج: قد سبق في هذه السورة الإخبار عن الغيوب والكشف عن الأسرار، مثل قوله: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين}، ومثل إخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك، فقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ} راجع إليه.

.تفسير الآيات (98- 100):

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} التبليغ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.
{قل لا يستوى الخبيث والطيب} أي الحلال والحرام، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} سرك {كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} نزلت في شريح بن ضبيعة البكري، وحجاج بن بكر بن وائل {فَاتَّقُوا اللَّهَ} ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين، وقد مضت القصة في أول السورة، {يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

.تفسير الآيات (101- 102):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا حفص بن عمر أنا هشام عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فغضب فصعد المنبر فقال: «لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم»، فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كان رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي، فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يُدعى لغير أبيه، فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: «حذافة»: ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا نعوذ بالله من الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إني صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط»، وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
قال يونس عن ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قط أعق منك، أأمنت أن تكون أمك قد فارقت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس؟ قال عبد الله بن حذافة والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وروي عن عمر قال: يا رسول الله إنا حديثو عهد بجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه وتعالى عنك، فسكن غضبه.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا الفضل بن سهل أخبرنا أبو النضر أنا أبو خيثمة أنا أبو جويرية عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها. وروي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت} قال رجل: يا رسول الله أفي كل عام فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي: إن تظهر لكم تسؤكم، أي: إن أمرتم بالعمل بها فإن من سأل عن الحج لم يأمن أن يؤمر به في كل عام فيسوءه، ومن سأل عن نسبه لم يأمن من أن يلحقه بغيره فيفتضح.
وقال مجاهد نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا تراه ذكرها بعد ذلك؟ {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} معناه صبرتم حتى ينزل القرآن بحكم من فرض أو نهى أو حكم، وليس في ظاهره شرح ما بكم إليه حاجة ومست جاحتكم إليه، فإذا سألتم عنها حينئذ تبد لكم، {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} كما سألت ثمود صالحا الناقة وسأل قوم عيسى المائدة، {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} فأهلكوا، قال أبو ثعلبة الخشني: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

.تفسير الآيات (103- 104):

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104)}
قوله عز وجل: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} أي: ما أنزل الله ولا أمر به، {وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع البحيرة هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي: شقوها وتركوا الحمل عليها وركوبها، ولم يجزّوا وَبَرها ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا إلا خامس ولدها فإن كان ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى بحروا أذنها، أي: شقوها وتركوها وحُرّم على النساء لبنها ومنافعها، وكانت منافعها خاصة للرجال، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء.
وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثا سُيّبت فلم يُركب ظهرها ولم يُجزّ وبرُها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل، فلم تُركب ولم يُجزّ وبرُها ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السائبة.
وقال أبو عبيد: السائبة البعير الذي يُسيّب، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال إن شفاني الله تعالى أو شفي مريضي أو عاد غائبي، فناقتي هذه سائبة، ثم يسيّبها فلا تحبس عن رعي ولا ماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة.
وقال علقمة: هو العبد يُسيّب على أن لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق».
والسائبة فاعلة بمعنى المفعولة، وهي المسيبة، كقوله تعالى: {مَاءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق و{عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}.
وأما الوصيلة: فمن الغنم كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإذا كان السابع ذكرا ذبحوه، فأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه، وكان لبن الأنثى حراما على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا.
وأما الحام: فهو الفحل إذا ركب ولد ولده، ويقال: إذا نتج من صلبه عشرة أبطن، قالوا: حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يُسيّبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء.
قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَه في النار، وكان أول من سيّب السوائب».
روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن جون الخزاعي: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدَق يجر قصبه في النار فما رأيت رجل أشبه برجل منك به ولا به منك» وذلك أنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة وحمى الحام، «فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه»، فقال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ فقال: «لا إنك مؤمن وهو كافر».
قوله عز وجل: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في قولهم الله أمرنا بها {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام، {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} من الدين، قال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}.