فصل: تفسير الآيات (110- 111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (110- 111):

{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} قال الحسن: ذكر النعمة شكرها، وأراد بقوله: {نِعْمَتِي} أي: نعمي، قال الحسن لفظه واحد ومعناه جمع، كقوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، {وَعَلى وَالِدَتِكَ} مريم ثم ذكر النعم فقال: {إِذْ أَيَّدْتُكَ} قويتك، {بِرُوحِ الْقُدُسِ} يعني جبريل عليه السلام، {تُكَلِّمَ النَّاسَ} يعني: وتكلم الناس، {فِي الْمَهْدِ} صبيا، {وَكَهْلا} نبيا قال ابن عباس: أرسله وهو ابن ثلاثين سنة، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه، {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} يعني الخط، {وَالْحِكْمَةَ} يعني العلم والفهم، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ} تجعل وتصور، {مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} كصورة الطير، {بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا} حيا يطير، {بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ} وتصحح، {الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى} من قبورهم أحياء، {بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ} منعت وصرفت، {بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني اليهود، {عَنْكَ} حين هموا بقتلك، {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: الدلالات والمعجزات، وهي التي ذكرنا.
{فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} يعني: ما جاءهم به من البينات، قرأ حمزة والكسائي {ساحر مبين} هاهنا وفي سورة هود والصف، فيكون راجعا إلى عيسى عليه السلام، وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (112- 114):

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114)}
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} ألهمتهم وقذفت في قلوبهم، وقال أبو عبيدة يعني أمرت و{إِلَى} صلة، والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه السلام، {أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} عيسى {قَالُوا} حين وافقتهم {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قرأ الكسائي {هل تستطيع} بالتاء {ربك} بنصب الباء وهو قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد، أي: هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك، وقرأ الآخرون {هل يستطيع} بالياء و{ربك} برفع الباء، ولم يقولوه شاكين في قدرة الله عز وجل، ولكن معناه: هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا وقيل: يستطيع بمعنى يطيع، يقال: أطاع واستطاع بمعنى واحد، كقولهم: أجاب واستجاب، معناه: هل يطيعك ربك بإجابة سؤالك؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله، وأجرى بعضهم على الظاهر فقالوا: غلط القوم، وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا، فقال لهم عيسى عليه السلام عند الغلط، استعظاما لقولهم {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: لا تشكّوا في قدرته.
{أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} المائدة الخوان الذي عليه الطعام، وهي فاعلة من: ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه، كقوله ماره يميره، وامتاد: افتعل منه، والمائدة هي المطعمة للآكلين الطعام، وسمي الطعام أيضا مائدة على الجواز، لأنه يؤكل على المائدة، وقال أهل الكوفة: سميت مائدة لأنها تميد بالآكلين، أي: تميل. وقال أهل البصرة: فاعلة بمعنى المفعول، أي تميد بالآكلين إليها، كقوله تعالى: {عيشة راضية} أي: مرضية، {قَالَ} عيسى عليه السلام مجيبا لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فلا تشكّوا في قدرته، وقيل: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم يسأله الأمم قبلكم، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
{قَالُوا نُرِيدُ} أي: إنما سألنا لأنا نريد، {أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} أكل تبرك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته، {وَتَطْمَئِنَّ} وتسكن، {قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} بأنك رسول الله، أي: نزداد إيمانا ويقينا، وقيل: إن عيسى ابن مريم أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما، فإذا أفطروا لا يسألون الله شيئا إلا أعطاهم، ففعلوا وسألوا المائدة، وقالوا: {ونعلم أن قد صدقتنا} في قولك، إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلا أعطانا، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} لله بالوحدانية والقدرة، ولك بالنبوة والرسالة، وقيل: ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} عند ذلك، {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وقيل: إنه اغتسل ولبس المسح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى، ثم قال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، {تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا} أي: عائدة من الله علينا حجة وبرهانا، والعيد: يوم السرور، سمي به للعود من الترح إلى الفرح، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك، وسمي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان كل سنة، قال السدي: معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدا لأولنا وآخرنا، أي: نعظمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان: نصلي فيه، قوله: {لأوَّلِنَا} أي: لأهل زماننا {وَآخِرِنَا} أي: لمن يجيء بعدنا، وقال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم، {وَآيَةً مِنْكَ} دلالة وحجة، {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ}.

.تفسير الآية رقم (115):

{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}
{قَالَ اللَّهُ} تعالى مجيبا لعيسى عليه السلام، {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} يعني: المائدة وقرأ أهل المدنة وابن عامر وعاصم {منزلها} بالتشديد لأنها نزلت مرات، والتفعيل يدل على التكرير مرة بعد أخرى، وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله: أنزل علينا، {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} أي: بعد نزول المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا} أي جنس عذاب، {لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} يعني: عالمي زمانه، فجحد القوم وكفروا بعد نزول المائدة فمُسِخُوا قردة وخنازير، قال عبد الله بن عمر: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون.
واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا؟ فقال مجاهد والحسن: لم تنزل لأن الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا، وقالوا: لا نريدها، فلم تنزل، وقوله: {إني منزلها عليكم}، يعني: إن سألتم.
والصحيح الذي عليه الأكثرون: أنها نزلت، لقوله تعالى: {إني منزلها عليكم}، ولا خلف في خبره، لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين.
واختلفوا في صفتها فروى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها نزلت خبزا ولحما، وقيل لهم: إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبؤوا فما مضى يومهم حتى خانوا وخبؤوا فمسخوا قردة وخنازير.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن عيسى عليه السلام قال لهم: صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه، فصاموا فلما فرغوا قالوا: يا عيسى إنا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا، وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، علها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
قال كعب الأحبار: نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض، عليها كل الطعام إلا اللحم.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم، قال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة.
وقال عطية العوفي: نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء.
وقال الكلبي: كان عليها خبز ورز وبقل.
وقال وهب بن منبه: أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوا جميعهم وفضل.
وعن الكلبي ومقاتل: أنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة، فأكلوا ما شاء الله تعالى، والناس ألف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم، ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد، وقالوا: ويحكم إنما سحر أعينكم، فمن أراد الله به الخير ثبَّته على بصيرته، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره، ومسخوا خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة، فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا، وكذلك كل ممسوخ.
وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبني إسرائيل، وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي لما سأل الحوارين المائدة لبس عيسى عليه السلام صوفا وبكى، وقال: اللهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها، وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى، وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه، فقال عيسى عليه السلام: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين: أنت أولى بذلك منا فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيرا، ثم كشف المنديل عنها، وقال: بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله، قالوا: يا روح الله كن أول من يأكل منها، فقال عيسى عليه السلام: معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها، فدعا لها أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين، فقال: كلوا من رزق الله ولكم المهنأ ولغيركم البلاء، فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامراة من فقير ومريض وزَمِن ومبتلى كلهم شبعان، وإذا السمكة بهيئتها حين نزلت، ثم طارت سفرة المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت، فلم يأكل منها زَمِن ولا مريض ولا مبتلى إلا عُوفي ولا فقير إلا استغنى، وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فإذا نزلت اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء، ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها حتى توارت عنهم، وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكُوا الناس فيها، وقالوا: أترون المائدة حقا تنزل من السماء؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: إني شرطت أن من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات، ويأكلون العذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السلام وبكوا فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا.

.تفسير الآيات (116- 117):

{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}
قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} واختلفوا في أن هذا القول متى يكون، فقال السدي: قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف {إذ} يكون للماضي، وقال سائر المفسرين: إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة بدليل قوله من قبل {يوم يجمع الله الرسل} [المائدة، 109]. وقال من بعدها {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة، 119]، وأراد بهما يوم القيامة، وقد تجيء إذ بمعنى إذا كقوله عز وجل: {ولو ترى إذ فزعوا} أي: إذا فزعوا يوم القيامة والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة.
قوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ فإن قيل: فما وجه هذا السؤال مع علم الله عز وجل أن عيسى لم يقله؟
قيل هذا السؤال عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر: أفعلت كذا وكذا؟ فيما يعلم أنه لم يفعله، إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما.
وأيضا: أراد الله عز وجل أن يقر عيسى عليه السلام عن نفسه بالعبودية، فيسمع قومه، ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك، قال أبو روق: وإذا سمع عيسى عليه السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة في جسده عين من دم، ثم يقول مجيبا لله عز وجل: {قَالَ سُبْحَانَكَ} تنزيها وتعظيما لك {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك، وقيل معناه: تعلم سري ولا أعلم سرك، وقال أبو روق تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة، وقال الزجاج: النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته، يقول: تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك، {إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} ما كان وما يكون.
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} وحدوه ولا تشركوا به شيئا، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ} أقمت، {فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} قبضتني ورفعتني إليك، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} والحفيظ عليهم، تحفظ أعمالهم، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.