فصل: الاستحسان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نصب الراية لأحاديث الهداية **


 الاستحسان

- ظن أناس ممن لم يمارس العلم، ولم يؤت الفهم، أن الاستحسان عند الحنفية هو الحكم بما يشتهيه الإنسان، ويهواه ويلذه، حتى فسره ابن حزم في ‏"‏أحكامه‏"‏ بأنه ما اشتهته النفس ووافقتها، خطأ، أو صوابًا، لكن لا يقول بمثل هذا الاستحسان فقيه من الفقهاء، فلو كان هذا مراد الحنفية بالاستحسان، لكان للمخالفين، ملء الحق، في تقريعهم، والرد عليهم، إلا أن المخالفين ساءت ظنونهم، وطاشت أحلامهم، ففوَّقوا سهامًا إليهم، ترتد إلى أنفسهم، وذلك لتقاصر أفهامهم عن إدراك مرامهم، ودقة مدرك هذا البحث في حد ذاته، وايس بين القائلين بالقياس من لا يستحسن بالمعنى الذي يريده الحنفية، وهذا الموضع لا يتسع لذكر نماذج من مذاهب الفقهاء، في الأخذ بالاستحسان، وإبطال الاستحسان ما هو إلا سبق قلم من الإمام الشافعي رضي اللّه عنه، فلو صحت حججه في إبطال الاستحسان، لقضت على القياس الذي هو مذهبه، قبل أن يقضي على الاستحسان‏.‏

ومن الحكايات الطريفة في هذا الباب، ما يروى عن إبراهيم بن جابر، أنه لما سأله أحد كبار القضاة في عهد المتقي للّه العباسي، عن سبب انتقاله من مذهب الشافعي إلى مذهب أهل الظاهر، جاوبه قائلًا‏:‏ ‏"‏إني قرأت إبطال الاستحسان للشافعي، فرأيته صحيحًا في معناه، إلا أن جميع ما احتج به في إبطال الاستحسان هو بعينه يبطل القياس، فصح به عندي بطلانه‏"‏، كأنه لم يرد أن يبقى في مذهب يهد بعضه بعضًا، فانتقل إلى مذهب يبطلهما معًا، لكن القياس، والاستحسان كلاهما بخير، لم يبطل واحد منهما بالمعنى الذي يريده القائلون بهما، بل الخلاف بين أهل القياس في الاستحسان، لفظي بحت، وأود أن أسوق بعض كلمات من فصول أبي بكر الرازي، لتنوير المسألة، لأنه من أحسن من تكلم فيه بإِسهاب مفهوم - فيما أعلم - ، وهو يقول في الفصول في بحث الاستحسان‏:‏ ‏"‏وجميع ما يقول فيه أصحابنا بالاستحسان، فإنهم قالوه مقرونًا بدلائله وحججه، لا على جهة الشهوة، واتباع الهوى، ووجوه دلائل مسائل الاستحسان موجودة في الكتب التي عملناها، في شرح كتب أصحابنا، ونحن نذكر هنا جملة تفضي بالناظر فيها إلى معرفة حقيقة قولهم في هذا الباب، بعد تقدمة القول في جواز إطلاق لفظ الاستحسان، فنقول‏:‏ لما كان ماحسَّنه اللّه تعالى بإقامته الدلائل على حسنه، مستحسنًا، جاز لنا إطلاق لفظ الاستحسان، فيما قامت الدلالة بصحته، وقد ندب اللّه تعالى إلى فعاله، وأوجب الهداية لفاعله، فقال عز من قائل‏:‏‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ‏.‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اْلقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الأَلْبَابِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وروي عن ابن مسعود، وقد روي مرفوعًا إلى النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ، أنه قال ‏"‏ما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند اللّه حسن، وما رآه المؤمنون سيئًا، فهو عند اللّه سيء‏"‏، فإذا كنا قد وجدنا لهذا اللفظ أصلًا في الكتاب، والسنة، لم يمنع إطلاقه في بعض ما قامت عليه الدلالة بصحته على جهة تعريف المعنى وإفهام المراد‏.‏‏.‏‏.‏ ثم ليس يخلو العائب للاستحسان من أن ينازعنا في اللفظ، أو في المعنى، فإن نازعنا في اللفظ، فاللفظ مُسَلم له، فليعبر هو بما شاء، على أنه ليس للمنازعة في اللفظ وجه، لأن لكل أحد أن يعبر عن المعنى بما عقله من المعنى، بما شاء من الألفاظ، لا سيما بلفظ يطابق معناه في الشرع، وفي اللغة، وقد يعبر الإنسان عن المعنى بالعربية تارة، وبالفارسية أخرى، فلا ننكره، وقد أطلق الفقهاء لفظ الاستحسان في كثير من الأشياء، وقد روي عن إياس بن معاوية أنه قال‏:‏ ‏"‏قيسوا القضاء، ما صلح الناس، فإذا فسدوا، فاستحسنوا‏"‏، ولفظ الاستحسان موجود في كتب مالك بن أنس، وقال الشافعي‏:‏ أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهمًا، فسقط بما قلنا، المنازعة في إطلاق الاسم، أو منعه، وإن نازعنا في المعنى، فإنما لم يسلم خصمنا تسليم المعنى لنا، بغير دلالة، وقد اصطحب جميع المعاني التي تذكرها، مما ينتظمه لفظ الاستحسان، عند أصحابنا، إقامة الدلالة على صحته، وإثباته بحجته، ولفظ الاستحسان يكتنفه معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ استعمال الاجتهاد، وغلبة الرأي في إثبات المقادير، الموكولة إلى اجتهادنا وآرائنا، نحو تقدير متعة المطلقات، قال اللَّه تعالى‏:‏‏{‏فَمَتِّعُوهُنَّ، عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًَّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 236‏]‏‏.‏، فأوجبها على مقدار يسار الرجل وإعساره، ومقدارهما غير معلوم، إلا من جهة أغلب الرأي، وأكثر الظن، ونظيرها أيضًا، نفقات الزوجات، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهًنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏، ولا سبيل إلى إثبات المعروف من ذلك، إلا من طريق الاجتهاد، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا، فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكينَ، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏‏.‏، ثم لا يخلو المثل المراد بالآية، من أن يكون القيمة، أو النظير من النَّعَم على حسب اختلاف الفقهاء فيه، وأيهما كان، فهو موكول إلى اجتهاد العَدْلَين، وكذلك أُروش الجنايات التي لم يرد في مقاديرها نص، ولا اتفاق، ولا تعرف إلا من طريق الاجتهاد، ونظائرها في الأصول أكثر من أن تحصى، وإنما ذكرنا منها مثالًا يستدل به على نظائره، فسمى أصحابنا هذا الضرب من الاجتهاد استحسانًا، وليس في هذا المعنى خلاف بين الفقهاء، ولا يمكن أحدًا منهم القول بخلافه، وأما المعنى الآخر من ضربي الاستحسان، فهو ترك القياس، إلى ما هو أولى منه، وذلك على وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون فرع يتجاذبه أصلان، يأخذ الشبه من كل واحد منهما، فيجب إلحاقه بأحدهما، دون الآخر، لدلالة توجبه، فسموا ذلك استحسانًا، اذ لو لم يعرض شبه للوجه الثاني، لكان له شبه من الأصل الآخرْ، فيجب إلحاقه به، وأغمض ما يجيء من مسائل الفروع، وأدقها مسلكًا، ما كان من هذا القبيل، ووقف هذا الموقف، لأنه محتاج في ترجيح أحد الوجهين على الآخر، إلى إنعام النظر، واستعمال الفكر، والروية في إلحاقه بأحد الأصلين دون الآخر فنظير الفرع الذي يتجاذبه أصلان، فيلحق بأحدهما دون الآخر، ما قال أصحابنا، في الرجل يقول لامرأته‏:‏ إذا حضت، فأنت طالق، فتقول‏:‏ قد حضت‏:‏ إن القياس أن لا تصدق حتى يعلم وجود الحيض منها، أو يصدقها الزوج، إلا أنا نستحسن، فنوقع الطلاق‏.‏ قال محمد‏:‏ وقد ندخلُ في هذا الاستحسان بعض القياس، قال أبو بكر‏:‏ أما قوله‏:‏ إن القياس أن لا تصدق، فإن وجهه أنه قد ثبت بأصل متفق عليه، إن المرأة لا تصدق في مثله في إيقاع الطلاق عليها، وهو‏:‏ الرجل يقول لامراته‏:‏ إن دخلت الدار، فأنت طالق، وإن كلمت زيداُ، فأنت طالق، فقالت بعد ذلك‏:‏ قد دخلتها بعد اليمين، أو كلمت زيدًا، وكذبها الزوج، إنها لا تصدق، ولا تطلق حتى يعلم ذلك ببينة، أو بإقرار الزوج، فكان قياس هذا الأصل يوجب أن لا تصدق في وجود الحيض، الذي جعله الزوج شرطًا لإيقاع الطلاق، وكما أنه لو قال لها‏:‏ إذا حضت، فإن عبدي حر، أو قال فامرأتي الأخرى طالق، فقالت‏:‏ حضت، وكذبها الزوج، لم يعتق العبد، ولم تطلق المرأة الأخرى، فقد أخذت هذه الحادثة شبهًا من هذه الأصول التي ذكرنا، فلو لم يكن لهذه الحادثة غير هذه الأصول لكان سبيلها أن تلحق بها، ويحكم لها بحكمها، إلا أنه قد عرض لها أصل آخر، منع إلحاقها بالأصل الذي ذكرنا، وأوجب إلحاقها بالأصل الثاني، وهو أن اللّه تعالى لما قال‏:‏‏{‏وَلا يَحِلُّ لُهَنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏‏.‏، وروي عن السلف، أنه أراد‏:‏ من الحيض والحبل ‏.‏

وعن أبيّ بن كعب أنه قال‏:‏ ‏"‏من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها‏"‏، دَلَّ، وعظه إياها، ونهيه لها عن الكتمان، على قبول قولها في براءة رحمها من الحبل، وشغلها به، ووجود الحيض وعدمه، كما قال تعالى في الذي عليه الدَّيْن‏:‏‏{‏فَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏، فوعظه ونهاه عن البخس والنقصان، علم أن المرجع إلى قوله في مقدار الدَّيْن، فصارت الآية التي قدمنا أصلًا في قبول قول المرأة، إذا قالت‏:‏ أنا حائض، وتحريم وطئها في هذه الحال، فإنها إذا قالت‏:‏ قد طهرت، حل لزوجها قربها، وكذلك إذا قالت، وهي معتدة‏:‏ قد انقضت عدتي، صدقت في ذلك، وانقطعت رجعة الزوج عنها، وانقطاع الزوجية بينهما‏.‏ وكان المعنى في ذلك أن انقضاء العدة بالحيض معنى يخصها، ولا يعلم إلا من جهتها، فيوجب على ذلك إذا قال الزوج‏:‏ إذا حضت، فأنت طالق، فقد قالت‏:‏ قد حضت، أن تصدق في باب وقوع الطلاق عليها، كما صدقت في انقضاء العدة، مع إنكار الزوج، لأن ذلك معنى يخصها، أعني أن الحيض لا يعلم وجوده إلا من جهتها، ولا يطلع عليه غيرها، ولأجل ذلك أنها لا تصدق على وجود الحيض، إذا علق به طلاق غيرها، أو علق به عتق العبد، لأنه إنما جعل قولها كالبينة في الأحكام التي تخصها، دون غيرها، ألا ترى أنهم قالوا‏:‏ إن الزوج لو قال‏:‏ قد أخبرتني أن عدتها انقضت، وأن أريد أن أتزوج أختها، كان له ذلك، ولا تصدق هي على بقاء العدة في حق غيرها، وتكون عدتها باقية في حقها، ولا تسقط نفقتها، فصار كقولها‏:‏ قد حضت، وله حكمان‏:‏ أحدهما‏:‏ فيما يخصها، ويتعلق بها‏.‏ وانقضاء عدتها، وما جرى مجرى ذلك، فيجل قوله فيه كالبينة، والآخر‏:‏ في طلاق غيرها، أو عتق العبد، فصارت في هذه الحال شاهدة، كإخبارها بدخول الدار، وكلام زيد إذا علق به العتق، أو الطلاق، اهـ‏.‏

ثم ضرب أبو بكر الرازي أمثالًا كثيرة، مما يكون فيه لقولها حكمان من الوجهين، وأجاد في ذكر النظائر، إلى أن أتى دور الكلام في القسم الآخر من الاستحسان، وهو تخصيص الحكم مع وجود العلة، وشرحه شرحاُ ينثلج به الصدر، ولا يدع شكًا لمرتاب، في أن هذا القسم من الاستحسان، مقرون أيضًا في جميع الفروع، بدلالة ناهضة، من نص‏.‏ أو إجماع‏.‏ أو قياس آخر يوجب حكمًا سواه في الحادثة، وهذا القدر يكفي في لفت النظر، إلى أن قول الخصوم في الاستحسان بعيد عن الوجاهة‏.‏

شروط قبول الأخبار

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 1‏)‏‏:‏ - ظن أناس ممن لم يمارس العلم، ولم يؤت الفهم، أن الاستحسان عند الحنفية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

يرى الحنفية قبول الخبر المرسل إذا كان مرسله ثقة، كالخبر المسند، وعليه جرت جمهرة فقهاء الأمة، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، إلى رأس المائتين، ولا شك أن إغفال الأخذ بالمرسل - ولا سيما مرسل كبار التابعين - تَرْكٌ لشطر السُّنَّة‏.‏ قال أبو داود صاحب ‏"‏السنن‏"‏ في رسالته إلى أهل مكة المتداولة بين أهل العلم بالحديث‏:‏ ‏"‏وأما المراسيل، فقد كان يحتج بها العلماء، فيما مضى، مثل سفيان الثوري‏.‏ ومالك بن أنس، والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيه‏"‏، وقال محمد بن جرير الطبري‏:‏ ‏"‏لم يزل الناس على العمل بالمرسل، وقبوله، حتى حدث بعد المائتين القول برده‏"‏ كما في ‏"‏أحكام المراسيل‏"‏ - للصلاح العلائي، وفي كلام ابن عبد البر ما يقتضي أن ذلك إجماع، ومناقشة من ناقشهم بأنه يوجد بين السلف من يحاسب بعض من أرسل محاسبة غير عسيرة، مناقشة في غير محلها، لأن تلك المحاسبة إنما هي من عدم الثقة بالراوي المرسل، كما ترى مثل هذه المحاسبة في حق بعض المسندين، فإذن ليست المسألة مسألة إسناد وإرسال، بل هي مسألة الثقة بالراوي، والشافعي، لما رد المرسل، وخالف من تقدمه اضطربت أقواله، فمرة قال‏:‏ إنه ليس بحجة مطلقًا، إلا مراسيل ابن المسيِّب، ثم اضطر إلى رد مراسيل ابن المسيِّب نفسه في مسائل، ذكرتها فيما علقت على طبقات الحفاظ، ثم إلى الأخذ بمراسيل الآخرين، ثم قال بحجية المرسل عند الاعتضاد، ولذلك تعب أمثال البيهقي في التخلص من هذا الاضطراب، وركبوا الصعب، وفي ‏"‏مسند‏"‏ الشافعي نفسه مراسيل كثيرة، بالمعنى الأعم الذي هو المعروف بين السلف، وفي ‏"‏موطأ مالك‏"‏، نحو ثلاثمائة حديث مرسل، وهذا القدر أكثر من نصف مسانيد ‏"‏الموطأ‏"‏ وما في أحكام المراسيل للصلاح العلائي من البحوث في الإرسال، جزء يسير، مما لأهل الشان من الأخذ والرد في ذلك، وفيما علقناه على شروط الأئمة الخمسة، وجه التوفيق بين قول الفقهاء بتصحيح المرسل، وقول متأخري أهل الرواية بتضعيفه، مع نوع من البسط في الاحتجاج بالمرسل، بل البخاري نفسه تراه يستدل في كتبه بالمراسيل، وكذا مسلم في المقدمة، وجزء الدباغ، ولا يتحمل هذا الموضع لبسط المقال في ذلك بأكثر من هذا‏.‏ ومن شروط قبول الأخبار عند الحنفية مسندة، كانت، أو مرسلة، أن لا تشذ عن الأصول المجتمعة عندهم، وذلك أن هؤلاء الفقهاء بالغوا في استقصاء موارد النصوص من الكتاب والسنة، وأقضية الصحابة، إلى أن أرجعوا النظائر المنصوص عليها، والمتلقاة بالقبول إلى أصل تتفرع هي منه، وقاعدة تندرج تلك النظائر تحتها، وهكذا فعلوا في النظائر الأخرى، إلى أن أتموا الفحص والاستقراء، فاجتمعت عندهم أصول - موضع بيانها، كتب القواعد والفروق - يعرضون عليها أخبار الآحاد، فإذا ندت الأخبار عن تلك الأصول، وشذت، يعدونها مناهضة لما هو أقوى ثبوتًا منها، وهو الأصل المؤصل من تتبع موارد الشرع الجاري مجرى خبر الكافة، والطحاوي كثير المراعاة لهذه القاعدة في كتبه، ويظن من لا خبرة عنده أن ذلك ترجيح منه لبعض الروايات على بعضها بالقياس، وآفة هذا الشذوذ المعنوي في الغالب، كثرة اجتراء الرواة على الرواية بالمعنى، بحيث تخل بالمعنى الأصلي، وهذه قاعدة دقيقة، يتعرف بها البارعون في الفقه مواطن الضعف، والنتوء في كثير من الروايات، فيرجعون الحق إلى نصابه بعد مضاعفة النظر في ذلك، ولهم أيضًا مدارك أخرى في علل الحديث دقيقة، لا ينتبه إليها دهماء النقَلة، وللعمل المتوارث عندهم شأن يختبر به صحة كثير من الأخبار، وليس هذا الشأن بمختص بعمل أهل المدينة، بل الأمصار التي نزلها الصحابة وسكنوها، ولهم بها أصحاب، وأصحاب أصحاب‏.‏ سواء في ذلك - وفي رسالة الليث إلى مالك، ما يشير إلى ذلك - ‏.‏

ومن القواعد المرضية، عند أبي حنيفة أيضًا اشتراط استدامة الحفظ من آن التحمل إلى آن الأداء، وعدم الاعتداد بالحفظ، إذا لم يكن الراوي ذاكرًا لمرويه، كما في ‏"‏الإِلماع‏"‏ - للقاضي عياض‏.‏ وغيره، وكذلك اقتصار تسويغ الرواية بالمعنى على الفقيه، مما يراه أبو حنيفة حتمًا‏.‏ ومن قواعدهم أيضًا مراعاة مراتب الأدلة في الثبوت، والدلالة، فللقطعي ثبوتًا‏.‏ أو دلالة مرتبته، وللظني كذلك حكمه عندهم، فلا يقبلون خبر الآحاد إذا خالف الكتاب، ولا يعدون بيان المجمل به في شيء من المخالفة للكتاب، فلا يكون بيان المجمل بخبر الآحاد من قبيل الزيادة على الكتاب عندهم، وإن أورد بعض المشاغبين ما هو من قبيل البيان على قاعدة الزيادة، تعنتًا، وجهلًا بالفارق، ومن قواعدهم أيضًا رد خبر الآحاد في الأمور المحتمة التي تعم بها البلوى، وتتوفر فيها الدواعي إلى نقلها بطريق الاستفاضة، حيث يعدون ذلك مما تكذبه شواهد الحال، واشتراط شهرة الخبر عند طوائف الفقهاء‏.‏ ويقول ابن رجب‏:‏ إن أبا حنيفة يرى أن الثقات إذا اختلفوا في خبرٍ، زيادة، أو نقصًا، في المتن، أو السند، فالزائد مردود إلى الناقص، إلى غير ذلك من قواعد رصينة، أقاموا الحجج على كل منها، في كتب الأصول المبسوطة، فمن يقبل الحديث عن كل من دَبَّ وهبَّ، في عهد ذيوع الفتن، وشيوع الكذب، بنص الرسول صلوات اللّه عليه، يظن بهم أنهم يخالفون الحديث، لكن الأمر ليس كذلك، بل عمدتهم الآثار في التأصيل، والتفريع، كما يظهر ذلك لمن أحسن البحث، ووُفق للإجادة في المقارنة والموازنة، من غير أن يستسلم للّهوى، والتقليد الأعمى، واللّه سبحانه هو الموفق‏.‏

منزلة الكوفة من علوم الاجتهاد

ولا بدَّ هنا من استعراض ما كانت عليه الكوفة، من عهد بنائها إلى زمن أبي حنيفة، ليعلم من لا يعلم وجه امتيازها عن باقي الأمصار، في تلك العصور، حتى أصبحت مشرق الفقه الناضج، المتلاطم الأنوار، فأقول‏:‏ لا يخفى أن المدينة المنورة زادها اللّه تشريفًا - كانت مهبط الوحي، ومستقر جمهرة الصحابة - رضوان اللّه عليهم أجمعين - إلى أواخر عهد ثالث الخلفاء الراشدين، خلا الذين رحلوا إلى شواسع البلدان للجهاد ونشر الدين، وتفقيه المسلمين، ولما ولي الفاروق رضي اللّه عنه، وافتتح العراق في عهده، بِيَد سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه، أمر عمر ببناء الكوفة، فبنيت سنة 17 هـ، وأسكن حولها الفصح من قبائل العرب، وبعث عمر رضي اللّه عنه عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه، إلى الكوفة، ليعلم أهلها القرآن، ويفقههم في الدَّين، قائلًا لهم‏:‏ ‏"‏وقد آثرتكم بعبد اللّه على نفسي‏"‏ وعبد اللّه هذا منزلته في العلم بين الصحابة عظيمة جدًا، بحيث لا يستغني عن علمه - مثل عمر - في فقهه، ويقظته، وهو الذي يقول فيه عمر‏:‏ ‏"‏كُنَيْفٌ ملئ فقهًا‏"‏، وفي رواية ‏"‏علمًا‏"‏، وفيه ورد حديث‏:‏ ‏"‏إني رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد‏"‏، وحديث‏:‏ ‏"‏وتمسكوا بعهد ابن مسعود‏"‏، وحديث‏:‏ ‏"‏من أراد أن يقرأ القرآن غضًا، كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد‏"‏، وقال النبي صلوات اللّه عليه‏:‏ ‏"‏خذوا القرآن من أربعة‏"‏، وذكر ابن مسعود في صدر الأربعة، وقال حذيفة رضي اللّه عنه‏:‏ ‏"‏كان أقرب الناس هديًا، ودلًا، وسمتًا، برسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ ابن مسعود، حتى يتوارى منا في بيته، ولقد علم المحفظون من أصحاب محمد أن ابن أم عبد، هو أقربهم إلى اللّه زلفى‏"‏، وحذيفة حذيفة، وما ورد في فضل ابن مسعود، في - كتب السنة - شيء كثير جدًا، فابن مسعود عُني بتفقيه أهل الكوفة، وتعليمهم القرآن من سنة بناء الكوفة، إلى أواخر خلافة عثمان رضي اللّه عنه، عناية لا مزيد عليها، إلى أن امتلأت الكوفة بالقراء، والفقهاء المحدثين، بحيث أبلغ بعض ثقات أهل العلم عدد من تفقه عليه، وعلى أصحابه، نحو أربعة آلاف عالم، وكان هناك معه أمثال سعد بن مالك - أبي وقاص - وحذيفة، وعمار، وسلمان، وأبي موسى، من أصفياء الصحابة رضي اللّه عنهم، يساعدونه في مهمته، حتى إن علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، لما انتقل إلى الكوفة سُرَّ من كثرة فقهائها، وقال‏:‏ ‏"‏رحم اللّه ابن أم عبد، قد ملأ هذه القرية علمًا‏"‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏أصحاب ابن مسعود، سُرُج هذه القرية‏"‏ ولم يكن باب مدينة العلم، بأقل عناية بالعلم منه، فوالى تفقيههم، إلى أن أصبحت الكوفة لا مثيل لها في أمصار المسلمين، في كثرة فقهائها، ومحدثيها، والقائمين بعلوم القرآن، وعلوم اللغة العربية فيها، بعد أن اتخذها علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه، عاصمة الخلافة، وبعد أن انتقل إليها أقوياء الصحابة، وفقهاؤهم، وبينما ترى محمد بن الربيع الجيزي، والسيوطي لا يستطيعان أن يذكرا من الصحابة الذين نزلوا مصر إلا نحو ثلاثمائة صحابي، تجد العجلي يذكر أنه توطن الكوفة وحدها، من الصحابة، نحو ألف وخمسمائة صحابي، بينهم نحو سبعين بدريًا، سوى من أقام بها، ونشر العلم بين ربوعها، ثم انتقل إلى بلد آخر، فضلًا عن باقي بلاد العراق، وما يروى عن ربيعة ومالك من الكلمات البتراء في أهل العراق، ليس بثبات عنهما أصلاُ، وجلَّ مقدارهما عن مثل تلك المجازفة، ولسنا في حاجة هنا إلى شرح ذلك، فنكتفي بالإشارة، فكبار أصحاب علي‏.‏ وابن مسعود رضي اللّه عنهما بها، لو دونت تراجمهم في كتاب خاص لأتى كتابًا ضخمًا، والمجال واسع جدًا لمن يريد أن يؤلف في هذا الموضوع، وقد قال مسروق بن الأجدع التابعي الكبير‏:‏ ‏"‏وجدت علم أصحاب محمد ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ ينتهي إلى ستة‏:‏ إلى علي‏.‏ وعبد اللّه‏.‏ وعمر‏.‏ وزيد بن ثابت‏.‏ وأبي الدرداء‏.‏ وأبيّ بن كعب، ثم وجدت علم هؤلاء الستة انتهى إلى عليّ، وعبد اللّه‏"‏، وقال ابن جرير‏:‏ ‏"‏لم يكن أحد له أصحاب معرفون، حرروا فتياه ومذاهبه في الفقه، غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه، وقوله، لقول عمر‏.‏ وكان لا يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويرجع من قوله، إلى قوله‏"‏ وكان بين فقهاء الصحابة من يوصي أصحابه بالإلتحاق إلى ابن مسعود، إقرارًا منهم بواسع علمه، كما فعل معاذ بن جبل، حيث أوصى صاحبه عمرو بن ميمون الأودي باللحاق بابن مسعود، بالكوفة

ولا مطمع هنا في استقصاء ذكر أسماء أصحاب علي‏.‏ وابن مسعود بالكوفة، ولكن لا بأس في ذكر بعضهم هنا، فنقول‏:‏

- 1 - منهم - عبيدة بن قيس السلماني، المتوفى سنة 72 هـ، كان شريح إذا اشتبه عليه الأمر في قضية يرسل إلى السلماني هذا يستشيره، كما في ‏"‏المحدث المفاصل‏"‏ - للرامهرمزي، وشريح ذلك، المعروف بكمال اليقظة في الفقه، وأحكام القضاء‏.‏

- 2 - ومنهم - عمرو بن ميمون الأودي، المتوفى سنة 74 هـ، من قدماء أصحاب معاذ بن جبل كما سبق، معمر مخضرم، أدرك الجاهلية، وحج مائة عمرة وحجة‏.‏

- 3 - ومنهم - زر بن حبيش، المتوفى سنة 82 هـ، معمر مخضرم، كان يؤم الناس في التراويح، وهو ابن مائة وعشرين سنة، وهو رواية قراءة ابن مسعود، ومنه أخذها عاصم، وقد رواها عنه أبو بكر بن عياش، وفيها الفاتحة‏.‏ والمعوذتان‏.‏ وأما ما يروى عن ابن مسعود من الشواذ، فليس بقراءته، وإنما هي ألفاظ رويت عنه في صدد التفسير‏.‏ فدوَّنها من دَوَّنها في عداد القراءة، كما يظهر من ‏"‏فضائل القرآن‏"‏ - لأبي عبيد، وكان زر من أعرب الناس، وكان ابن مسعود يسأله عن العربية‏.‏

- 4 - ومنهم - أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن حبيب السلمي، المتوفى سنة 74 هـ، عرض القرآن على عليّ كرم اللّه وجهه، وهو عمدته في القراءة، وقد فرَّغ نفسه لتعليم القرآن لأهل الكوفة بمسجدها، أربعين سنة‏.‏ كما أخرجه أبو نعيم بسنده، ومنه تلقى السبطان الشهيدان، القراءة بأمر أبيهما، وعاصم تلقى قراءة عليٍّ عنه، وهي القراءة التي يرويها حفص عن عاصم، وقراءة عاصم بالطريقين في أقصى درجات التواتر في جميع الطبقات، وعرض السلمي أيضًا على عثمان‏.‏ وزيد بن ثابت‏.‏

- 5 - ومنهم - سويد بن غفلة المذحجي، ولد عام الفيل، فصحب أبا بكر، ومن بعده، إلى أن توفي بالكوفة سنة 82 هـ‏.‏

- 6 - ومنهم - علقمة بن قيس النخعي، المتوفى سنة 62 هـ، وعنه يقول ابن مسعود‏:‏ ‏"‏لا أعلم شيئًا إلا وعلقمة يعلمه‏"‏‏.‏ وفي ‏"‏الفاصل‏"‏‏:‏ حدثنا الحسن بن سهل العدوي، من أهل رامهرمز، حدثنا علي بن الأزهر الرازي، حدثنا جرير عن قابوس، قال‏:‏ قلت لأبي، كيف تأتي علقمة، وتدع أصحاب النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ يا بني، لأن أصحاب النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ يستفتونه، وله رحلة إلى أبي الدرداء بالشام، والى عمر‏.‏ وزيد‏.‏ وعائشة بالمدينة، وهو ممن جمع علوم الأمصار‏.‏

- 7 - ومنهم - مسروق بن الأجدع، عبد الرحمن الهمداني المتوفى سنة 63 هـ، معمر مخضرم، أدرك الجاهلية، وله رحلات واسعة في العلم‏.‏

- 8 - ومنهم - الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، المتوفى سنة 74، مُعَمر مخضرم، حج ثمانين، ما بين حجة وعمرة وهو ابن أخي علقمة، وكان خال إمام أهل العراق، إبراهيم بن يزيد النخعي‏.‏

- 9 - ومنهم - شريح بن الحارث الكندي، مُعَمر مخضرم، وَلَي قضاء الكوفة في عهد عمر، واستمر على القضاء، اثنتين وستين سنة، إلى أيام الحجاج، إلى أن توفي سنة 80 هـ‏.‏ وهو الذي يقول فيه عليّ بن أبي طالب كرم اللّه وجهه‏:‏ ‏"‏قم يا شريح‏!‏ فأنت أقضى العرب‏"‏ ‏[‏وليكن بين عينيك أنه قول من ورد فيه ‏"‏وأقضاهم عليّ‏"‏، نعم إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه‏.‏ ‏"‏البنوري‏"‏‏.‏‏]‏ فناهيك بقاض يكون مَرْضيَّ القضاء في عهد الراشدين، وفي الدولة الأموية طول هذه المدة، وقد غَذَّى بأقضيته الدقيقة، فقه أهل الكوفة، ودربهم على الفقه العلمي‏.‏

- 10 - ومنهم - عبد الرحمن بن أبي ليلى، أدرك مائة وعشرين من الصحابة، وَوَلِيَ القضاء، غرق مع ابن الأشعث شهيدًا، سنة 83 هـ‏.‏

‏(‏يتبع‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏

‏(‏تابع‏.‏‏.‏‏.‏ 2‏)‏‏:‏ - ظن أناس ممن لم يمارس العلم، ولم يؤت الفهم، أن الاستحسان عند الحنفية‏.‏‏.‏‏.‏ ‏.‏‏.‏‏.‏

- 11 - ومنهم - عمرو بن شرحبيل الهمداني‏.‏ 12 - ومرة بن شراحبيل‏.‏ 13 - وزيد بن صوحان‏.‏ 14 - والحارث بن قيس الجعفي‏.‏ 15 - وعبد الرحمن بن الأسود النخعي‏.‏ 16 - وعبد اللّه بن عتبة بن مسعود‏.‏ 17 - وخثيمة بن عبد الرحمن‏.‏ 18 - وسلمة بن صهيب‏.‏ 19 - ومالك بن عامر‏.‏ 20 - وعبد اللّه بن سخبرة‏.‏ 21 - وخلاس بن عمرو‏.‏ 22 - وأبو وائل شقيق بن سلمة‏.‏ 23 - وعبيد بن نضلة‏.‏ 24 - والربيع بن خيثم‏.‏ 25 - وعتبة بن فرقد‏.‏ 26 - وصلة بن زفر‏.‏ 27 - وهمام بن الحارث‏.‏ 28 - والحارث بن سويد‏.‏ 29 - وزاذان أبو عمرو الكندي‏.‏ 30 - وزيد بن وهب‏.‏ 31 - وزياد بن جرير‏.‏ 32 - وكرودس بن هانئ‏.‏ 33 - ويزيد بن معاوية النخعي، وغيرهم من أصحابهما، وأكثر هؤلاء لقوا عمر‏.‏ وعائشة أيضًا، وأخذوا عنهما، وهؤلاء كانوا يفتون بالكوفة، بمحضر الصحابة، فلو تلِيَ حديث هؤلاء، أو فقههم على مجنون لأفاق، فلا يستطيع من يدري ما يقول، أن يوجه أي مؤاخذة نحو حديث هؤلاء، وفقههم، وتليهم طبقة لم يدركوا عليًا، ولا ابن مسعود، ولكنهم تفقهوا على أصحابهما، وجمعوا علوم علماء الأمصار إلى علومهم، وما ذكره ابن حزم، منهم نبذة يسيرة فقط، وعدد هؤلاء في غاية الكثرة، وأمرهم في نهاية الشهرة، ولسنا بسبيل سرد أسمائهم إلا أنا نلفت الأنظار إلى عدد الذين خرجوا مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، على الحجاج الثقفي، في دير الجماجم، سنة 83 هـ، من الفقهاء القراء خاصة من أهل الطبقتين، وبينهم أمثال ‏(‏آ‏)‏ - أبي البختري سعيد بن فيروز‏.‏ ‏(‏ب‏)‏ - وعبد الرحمن بن أبي ليلى‏.‏ ‏(‏ج‏)‏ - والشعبي‏.‏ ‏(‏د‏)‏ - وسعيد بن حبير، قال الجصاص في ‏"‏أحكام القرآن‏"‏ ص 71 - 1‏:‏ وخرج عليه من القراء أربعة آلاف رجل، هم خيار التابعين، وفقهاؤهم، فقاتلوه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، اهـ‏.‏

فإذا نظرت إلى علماء سائر الأمصار ‏[‏يشير الأستاذ المحقق إلى مزية الكوفة وعلمائها، علمًا، وديانة، وورعًا، وتقوى، وهذا مهم، فاعلمه‏.‏‏]‏ يعدُّ من أحسنهم حالًا من يهاجر أباه، ومن يقبل جوائز الحكام، ويساير أهل الحكم، وقَلَّ بينهم من يخطر له على بال مقاومة الظلم، وبذل كل مرتخص وغال في هذا السبيل، فبذلك أصبحت أحوال الكوفة في أمر الدِّين‏.‏ والخُلُق‏.‏ والفقه‏.‏ وعلم الكتاب‏.‏ والسنة‏.‏ واللغة العربية ماثلة أمام الباحث المنصف، فيحكم بما تمليه النَّصَفة، في الموازنة بين علماء الأمصار‏.‏ وهذا مما يجعل للكوفة مركزًا لا يسامى على توالي القرون، ولولا ذلك لما كانت الكوفة معقل أهل الدين، يفر اليها المضطهدون، طول أيام الجور، في عهد الأموية‏.‏

وسعيد بن جبير وحده، جمع علم ابن عباس إلى علمه حتى أن ابن عباس كان يقول، حينما رأى أهل الكوفة يأتونه ليستفتوه‏:‏ أليس فيكم ابن أم الدهماء‏؟‏ يعني ‏"‏ابن جبير‏"‏، يذكرهم ما خصه اللّه من العلم الواسع، بحيث يغني علمه أهل الكوفة، عن علم ابن عباس‏.‏

وإبراهيم بن يزيد النخعي من أهل هذه الطبقة، قد جمع أشتات علوم هاتين الطبقتين، بعد أن تفقه على علقمة، قال أبو نعيم‏:‏ أدرك إبراهيم أبا سعيد الخدري، وعائشة، ومن بعدهما، من الصحابة رضي اللّه عنهم، اهـ‏.‏

وعامر بن شراحيل الشبي، الذي يقول عنه ابن عمر، لما رآه يحدث بالمغازي‏:‏ ‏"‏لهو أحفظ لها مني، وإن كنت قد شهدتها مع رسول اللّه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ‏"‏، يفضل أبا عمران إبراهيم النخعي هذا، على علماء الأمصار كلها، حيث يقول لرجل حضر جنازته، عندما توفي سنة 95 هـ‏:‏ ‏"‏دفنتم أفقه الناس‏"‏، فقال الرجل‏:‏ ومِنَ الحسن‏؟‏ قال‏:‏ أفقه من الحسن، ومن أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، وأهل الشام، وأهل الحجاز، كما أخرجه أبو نعيم بسنده إليه‏.‏ وأهل النقد يعدون مراسيل النخعي صحاحًا، بل يفضلون مراسيله على مسانيد نفسه، كما نص على ذلك ابن عبد البر في ‏"‏التمهيد‏"‏، ويقول الأعمش‏"‏‏:‏ ما عرضت على إبراهيم حديثًا قط إلا وجدت عنده منه شيئًا، وقال الأعمش أيضًا‏:‏ كان إبراهيم صيرفي الحديث، فكنت إذا سمعت الحديث من بعض أصحابنا عرضته عليه، وقال إسماعيل بن أبي خالد‏:‏ كان الشعبي، وأبو الضحى، وإبراهيم، وأصحابنا يجتمعون في المسجد، فيتذاكرون الحديث، فإذا جاءتهم فتْيا، ليس عندهم منها شيء، رموا بأبصارهم إلى إبراهيم النخعي‏.‏ وقال الشعبي، عن إبراهيم‏:‏ أنه نشأ في أهل بيت فقه، فأخذ فقههم، ثم جالسنا، فأخذ صفو حديثنا، إلى فقه أهل بيته، فإذا نعيته أنعى العلم، ما خلف بعده مثله، وقال سعيد بن جبير‏:‏ تستفتوني، وفيكم إبراهيم النخعي‏؟‏‏!‏، ومما أخرجه أبو نعيم في ‏"‏الحلية‏"‏‏:‏ حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا أبو أسيد ثنا أبو مسعود ثنا ابن الأصبهاني ثنا عثام عن الأعمش، قال‏:‏ ما رأيت إبراهيم يقول برأيه في شيء قط‏.‏ اهـ‏.‏ ومثله في ‏"‏ذم الكلام‏"‏ - لابن مت، فعلى هذا يكون كل ما يروى عنه من الأقوال في أبواب الفقه، في ‏"‏آثار‏"‏ أبي يوسف‏.‏ و‏"‏آثار‏"‏ محمد بن الحسن، و‏"‏المصنف‏"‏ لابن أبي شيبة، وغيرها أثرًا من الآثار‏.‏

والحق أنه كان يروي ويرى، فإذا روى فهو الحجة، واذا رأى واجتهد، فهو البحر الذي لا تعكره الدّلاء، لتوفر أسباب الاجتهاد عنده بأكملها، بل هو القائل‏:‏ ‏"‏لا يستقيم رأي إلا برواية، ولا رواية إلا برأي‏"‏ كما أخرجه أبو نعيم بسنده إليه، وهي الطريقة المثلى في الأخذ بالحديث والرأي‏.‏ وقال الخطيب في ‏"‏ الفقيه والمتفقه‏"‏‏:‏ أخبرنا أبو بشر محمد بن عمر الوكيل أخبرنا عمر بن أحمد بن الواعظ ثنا محمد بن معاوية ثنا أبو بكر بن عياش حدثني الحسن بن عبيد اللّه النخعي، قال‏:‏ قلت لإِبراهيم‏:‏ أكل ما أسمعك تفتي به سمعته‏؟‏ فقال لي‏:‏ لا، قلت‏:‏ تفتي بما بما لم تسمع‏؟‏‏!‏، فقال‏:‏ سمعت الذي سمعت، وجاءني ما لم أسمع، فقسته بالذي سمعت، اهـ‏.‏ وهذا هو الفقه حقًا، وبمثل هذا الإمام الجليل تفقه حماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وكان حماد شديد الملازمة لإِبراهيم، قال أبو الشيخ في ‏"‏تاريخ أصبهان‏"‏‏:‏ حدثنا أبو بكر أحمد بن الحسن بن هارون بن سليمان بن يحيى بن سليمان بن أبي سليمان، قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ حدثني أبي عن جدي، قال‏:‏ وجه إبراهيم النخعي حمادًا، يومًا يشتري له لحمًا بدرهم، في زنبيل، فلقيه أبوه راكبًا دابة، وبيد حماد الزنبيل، فزجره، ورمى به من يده، فلما مات إبراهيم جاء أصحاب الحديث، والخراسانية يدقون على باب مسلم بن يزيد - والد حماد - ، فخرج إليهم في الليل بالشمع، فقالوا‏:‏ لسنا نريدك، نريد ابنك حمادًا، فدخل إليه، فقال‏:‏ يا بني‏!‏ قم إلى هؤلاء، فقد علمت أن الزنبيل أدى بك إلى هؤلاء، اهـ‏.‏

وقال أبو الشيخ، قبيل هذا‏:‏ حدثنا أحمد بن الحسن، قال‏:‏ سمعت ابن خالي عبيد بن موسى، يقول سمعت جدتي، تقول عن جدتها الكبرى عاتكة، أخت حماد بن أبي سليمان‏:‏ قالت‏:‏ كان النعمان ببابنا يندف قطننا، ويشري لبننا وبقلنا، وما أشبه ذلك، فكان إذا جاء الرجل يسأله عن المسألة، قال‏:‏ ما مسألتك‏؟‏ قال‏:‏ كذا‏.‏ وكذا، قال‏:‏ الجواب فيها، كذا، ثم يقول‏:‏ على رِسلك، فيدخل إلى حماد، فيقول له‏:‏ جاء رجل، فسأل عن كذا، فأجبته بكذا، فما تقول أنت‏؟‏ فقال‏:‏ حدثونا بكذا، وقال أصحابنا، كذا، وقال‏:‏ إبراهيم كذا، فيقول‏:‏ فأروي عنك‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيخرج فيقول‏:‏ قال حماد، كذا، اهـ‏.‏ هكذا كانت ملازمة بعضهم لبعض، وخدمة بعضهم لبعض، أوان الطلب، وبهذا نالوا بركة العلم‏.‏ وقد أخرج ابن عدي في ‏"‏الكامل‏"‏ بطريق يحيى بن معين عن جرير عن مغيرة، قال‏:‏ قال حماد بن أبي سليمان‏:‏ ‏"‏لقيت قتادة، وطاوسًا، ومجاهدًا، فصبيانكم أعلم منهم، بل صبيان صبيانكم أعلم منهم‏"‏ إنما قاله هذا تحديثًا بالنعمة، وردًا على بعض شيوخ الرواية، ممن لم يؤت نصيبًا من الفقه، حيث كان يفتي في مسجد الكوفة، غلطًا، ويقول‏:‏ لعل هناك صبيانًا يخالفوننا، في هذه الفتاوى، وماذا يفيد تقدم السن في الرواية لمن حرم الدراية، ويريد بالصبيان التلاميذ، وقد أخرج ابن عدي في ‏"‏الكامل‏"‏ بطريق يحيى بن معين عن ابن إدريس عن الشيباني عن عبد الملك بن إياس الشيباني، أنه قال‏:‏ قلت لإِبراهيم‏:‏ من نسأل بعدك‏؟‏ قال‏:‏ حمادًا، اهـ، وحماد بن أبي سليمان هذا، توفي سنة 120‏.‏

وقال العقييلي‏:‏ حدثنا أحمد بن محمود الهروي، قال‏:‏ حدثنا محمد بن المغيرة البلخي، قال‏:‏ حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني، قال‏:‏ لما مات إبراهيم اجتمع خمسة من أهل الكوفة، فيهم عمر بن قيس الماصر، وأبو حنيفة، فجمعوا أربعين ألف درهم، وجاؤوا إلى الحكم بن عتيبة، فقالوا‏:‏ إنا قد جمعنا أربعين ألف درهم، نأتيك بها، وتكون رئيسنا‏.‏ فأبى عليهم الحكَم، فأتوا حماد بن أبي سليمان، فقالوا، فأجابهم، اهـ، وبهذا القدر نكتفي من أنباء هذه الطبقة، لكثرة رجالها، وتشعب أنبائها، مقتصرًا على سَوْق خبريْن، مما يدل على اتساع الكوفة في الرواية والدراية، في تلك الطبقة‏.‏

قال أبو محمد الرامهرمزي في ‏"‏الفاصل‏"‏‏:‏ حدثنا الحسين بن نبهان ثنا سهيل بن عثمان ثنا حفص بن غياث عن أشعث عن أنس بن سيرين، قال‏:‏ أتيت الكوفة فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربعمائة قد فقهوا، اهـ‏.‏ وفي أي مصر من أمصار المسلمين، غير الكوفة، تجد مثل هذا العدد العظيم للمحدثين، والفقهاء‏.‏ وفي هذا ما يدل على أن الفقيه مهمته شاقة جدًا، فلا يكثر عدده كثرة عدد النقلة‏.‏ وقال الرامهرمزي أيضًا‏:‏ حدثنا عبد اللّه بن أحمد بن معدان حدثنا مذكور بن سليمان الواسطي، قال‏:‏ سمعت عفان يقول - وسمع قومًا يقولون‏:‏ نسخنا كتب فلان، ونسخنا كتب فلان - ، فسمعته يقول‏:‏ نرى هذا الضرب من الناس لا يفلحون، كنا نأتي هذا فنسمع منه ما ليس عند هذا، ونسمع من هذا ما ليس عند هذا، فقدمنا الكوفة فأقمنا أربعة أشهر ولو أردنا أن نكتب مائة ألف حديثًا لكتبناها، فما كتبنا إلا قدر خمسين ألف حديث، وما رضينا من أحد إلا مالأمة ‏[‏يريد‏:‏ لم نرض في قبول حديث أحد، أو روايته، إلا ما تلقاه الأمة، انظر إلى هذا الشرط الصعب، ثم إلى هذا الاستكثار، وهذا مهم، فاعلمه‏.‏ ‏"‏البنوري‏"‏‏.‏

قال في لسان العرب‏:‏ واللأم الإتفاق، وقد تلاءم القوم والتأموا‏:‏ اجتمعوا واتفقوا، وتلاءم الشيئانإذا اجتمعا واتصلا، ويقال‏:‏ التأم الفريقان والرجلان إذا تصالحا واجتمعا، اهـ‏.‏ فلينظر هذا المعنى فهو يفيد عدم قبول الأخبار إلا ما ورد من عدة طرق مقبولة‏]‏، إلا شريكًا، فإنه أبى علينا، وما رأينا بالكوفة لحانًا مجوزًا، اهـ‏.‏

أنظر، مصرًا يكتب بها - مثل - عفان - في أربعة أشهر‏.‏ خمسين ألف حديث‏!‏ مع هذا التروي ‏[‏وعفان هذا، هو‏:‏ عفان بن مسلم الأنصاري البصري، شيخ البخاري، وأحمد، وإسحاق، وخلائق، وهو الذي يقول فيه ابن المديني‏:‏ كان إذا شك في حرف من الحديث تركه، كذا في ‏"‏التقريب‏"‏، ويقول أبو حاتم‏:‏ إمام ثقة، متقن متين، ويقول ابن عدي‏:‏ أوثق من أن يقال فيه شيء، كذا في ‏"‏خلاصة التذهيب‏"‏ ‏"‏البنوري‏"‏‏.‏‏]‏، ومسند أحمد أقل من ذلك بكثير، أيعد مثل هذا البلد قليل الحديث‏؟‏‏!‏ على أن أحاديث الحرمين مشتركة بين علماء الأمصار في تلك الطبقات، لكثرة حجهم، وكم بينهم من حج أربعين حجة وعمرة، وأكثر، وأبو حنيفة وحده، حج خمسًا وخمسين حجة، وأنت ترى البخاري يقول‏:‏ ولا أحصي ما دخلت الكوفة في طلب الحديث، حينما يذكر عدد ما دخل باقي الأمصار، ولهذا أيضاُ دلالته في هذا الصدد‏.‏

ومما يدل عليه الخبر السابق، براءة علماء الكوفة من اللحن الذي اكتظت به بلاد الحجاز، والشام، ومصر في ذلك العهد، وأنت تجد في كلام ابن فارس مدافعته عن مالك في ذلك، وقول الليث في ربيعة، تجده في‏"‏الحلية‏"‏ وقول أبي حنيفة في نافع، تجده في - كتاب - ابن أبي العوام، والكلمة التي تروى عن أبي حنيفة، ‏[‏يريد بها الأستاذ كلمة ‏"‏أبا قبيس‏"‏ وسمعت منه أن المراد به خشية الجزار، يقطع عليها اللحم، في حوار أهل الكوفة عندئذ، لا الجبل المعروف بمكة، زادها اللّه تكريمًا‏]‏ بدون سند متصل، على أن وجهها في العربية ظاهرًا جدًا، على فرض ثبوتها عنه، وقد توسع المبرد في - اللحَنة - أنباء اللاحنين من أهل الأمصار، سوى بلاد العراق، وقد نقل مسعود بن شيبة جملة من ذلك في ‏"‏التعليم‏"‏، على أن مصر كانت تعاشر القبط، والشام يساكن الروم، وكان الحجاز يطرقه كل طارق من الأعاجم، ولا سيما بعد عهد كبار التابعين، مع عدم وجود أئمة بها للغة، يحفظونها من الدخيل‏.‏ واللحون، وأما الكوفة، والبصرة، ففيهما دونت العربية، فأهل الكوفة راعوا تدوين جميع اللّهجات العربية، في عهد نزول الوحي، ليستعينوا بذلك على فهم أسرار الكتاب والسنة، ووجوه القراءة، وأهل البصرة انتهجوا مسلك التخير من اللّهجات، ما يحق أن يتخذ لغة المستقبل، فأحد المسلكين لا يغني عن الآخر‏.‏

فعلم بذلك مركز الكوفة في الفقه‏.‏ والحديث‏.‏ واللغة، وأما القرآن، فالأئمة الثلاثة، من السبعة، كوفيون، وهم‏:‏ 1 - عاصم‏.‏ 2 - وحمزة‏.‏ 3 - والكسائي، وزد خلفًا، العاشر، من بين العشرة، وقد سبق بيان قراءة عاصم‏.‏