فصل: تفسير الآيات رقم (32- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما كان لكل حق حقيقة، ولكل قول صادق بيان، قال مؤذناً بفضلهن‏:‏ ‏{‏يا نساء النبي‏}‏ أي الذي أنتن من أعلم الناس بما بينه وبين الله من الإنباء بدقائق الأمور وخفايا الأسرار وما له من الزلفى لديه ‏{‏لستن كأحد من النساء‏}‏ قال البغوي‏:‏ ولم يقل‏:‏ كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث- انتهى، فالمعنى كجماعات من جماعات النساء إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد فيهن جماعة تساويكن في الفضل لما خصكن الله به من قربة بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزول الوحي الذي بينه وبين الله في بيوتكن‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ بل أنتن أعلى النساء، ذكر شرط ذلك فقال‏:‏ ‏{‏إن اتقيتن‏}‏ أي جعلتن بينكن وبين غضب الله وغضب رسوله وقاية، ثم سبب عن هذا النفي قوله‏:‏ ‏{‏فلا تخضعن‏}‏ أي إذا تكلمتن بحضرة أجنبي ‏{‏بالقول‏}‏ أي بأن يكون لينا عذباً رخماً، والخضوع التطامن والتواضع واللين والدعوة إلى السواء؛ ثم سبب عن الخضوع‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فيطمع‏}‏ أي في الخيانة ‏{‏الذي في قلبه مرض‏}‏ أي فساد وريبة والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة، لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه، فأريد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التكلف للإتيان بضده‏.‏

ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخامة الصوت، أمرهن بضده فقال‏:‏ ‏{‏وقلن قولاً معروفاً‏}‏ أي يعرف أنه بعيد عن محل الطمع‏.‏

ولما تقدم إليهن في القول وقدمه لعمومه، أتبعه الفعل فقال‏:‏ ‏{‏وقرن‏}‏ أي اسكنّ وامكثن دائماَ ‏{‏في بيوتكن‏}‏ فمن كسر القاف وهم غير المدنيين وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين، ومن فتحه فهو عنده قرر بكسرها، وهما لغتان‏.‏

ولما أمرهن بالقرار، نهاهن عن ضده مبشعاً له، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تبرجن‏}‏ أي تظاهرن من البيوت بغير حاجة محوجة، فهو من وادي أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهن بعد حجة الوداع بلزوم ظهور الحصر ‏{‏تبرج الجاهلية الأولى‏}‏ أي المتقدمة على الإسلام وعلى ما قبل الأمر بالحجاب، بالخروج من بيت والدخول في آخر، والأولى لا تقتضي أخرى كما ذكره البغوي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها ما بين نوح وإدريس عليهما السلام، تبرج فيها نساء السهول- وكن صباحاً وفي رجالهن دمامة- لرجال الجبال وكانوا صباحاً وفي نسائهن دمامة، فكثر الفساد، وعلى هذا فلها ثانية‏.‏

ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب، أرشدهن إلى التحلية بالرغائب، فقال‏:‏ ‏{‏وأقمن الصلاة‏}‏ أي فرضاً ونفلاً، صلة لما بينكن وبين الخالق لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ‏{‏وآتين الزكاة‏}‏ إحساناً إلى الخلائق، وفي هذا بشارة بالفتوح وتوسيع الدنيا عليهن، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقاً عن القوت فضلاً عن الزكاة‏.‏

ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما، عم وجمع في قوله‏:‏ ‏{‏وأطعن الله‏}‏ أي ذاكرات ما له من صفات الكمال ‏{‏ورسوله‏}‏ في جميع ما يأمران به فإنه لم يرسل إلا للأمر والنهي تخليصاً للخلائق من أسر الهوى‏.‏

ولما كانت هذه الآيات قد نهت عن الرذائل فكانت عنها أشرف الفضائل قال مبيناً أن ذلك إنما هو لتشريف أهل النبي صلى الله عليه وسلم لتزيد الرغبة في ذلك مؤكداً دفعاً لوهم من يتوهم أن ذلك لهوان أو غير ذلك من نقصان وحرمان‏:‏ ‏{‏إنما يريد الله‏}‏ أي وهو ذو الجلال والجمال بما أمركم به ونهاكم عنه من الإعراض عن الزينة وما تبعها، والإقبال عليه، عزوفكم عن الدنيا وكل ما تكون سبباً له ‏{‏ليذهب‏}‏ أي لأجل أن يذهب ‏{‏عنكم الرجس‏}‏ أي الأمر الذي يلزمه دائماً الاستقذار والاضطراب من مذام الأخلاق كلها ‏{‏أهل‏}‏ يا أهل ‏{‏البيت‏}‏ أي من كل من تكون من إلزام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء من الأزواج والإماء والأقارب، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى الله عليه وسلم أخص وألزم، كان بالإرادة أحق وأجدر‏.‏

ولما استعار للمعصية الرجس، استعار للطاعة الطهر، ترغيباً لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة، في الطاعة، وتنفيراً لهم عن المعصية فقال‏:‏ ‏{‏ويطهركم‏}‏ أي يفعل في طهركم بالصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه، وزاد ذلك عظماً بالمصدر فقال‏:‏ ‏{‏تطهيراً‏}‏‏.‏

ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة ما يتكرر من تردد الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن، فقال مخصصاً من السياق لأجلهن رضي الله عنهن، منبهاً لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار‏:‏ ‏{‏واذكرن‏}‏ أي في أنفسكن ذكراً دائماً، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم‏.‏

ولما كانت العناية بالمتلو، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏ما يتلى‏}‏ أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال‏:‏ ‏{‏في بيوتكن‏}‏ أي بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن ‏{‏من آيات الله‏}‏ الذي لا أعظم منه‏.‏

ولما كان المراد بذلك القرآن، عطف عليه ما هو أعم منه، فقال مبيناً لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتماداً على أن العامل فيه معروف لأن التلاوة لا يقال في غير الكتاب‏:‏ ‏{‏والحكمة‏}‏ أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم، ولا تنسين شيئاً من ذلك‏.‏

ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا، وكانت الحكمة منفرة عنها، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا، فقال مؤكداً ردعاً لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي والذي له جميع العظمة ‏{‏كان‏}‏ أي لم يزل ‏{‏لطيفاً‏}‏ أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد ‏{‏خبيراً‏}‏ أي يدق علمه عن إدراك الأفكار، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالباً لها على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق، ويعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا يصلح، وما يصلح الناس دنيا وديناً وما لا يصلحهم، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس «من انقطع إلى الله كفاه كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب» رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضي الله عنه «من توكل على الله كفاه، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها»- رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضي الله عنه أيضاً، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خيبر، فأفاض بها ما شاء من رزقه الواسع، ثم لما توفي نبيه صلى الله عليه وسلم ليحيمه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن، فعم الفتح جميع الأقطار‏:‏ الشرق والغرب والجنوب والشمال، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز جميع تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلاً، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه‏:‏ لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة ونزّل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال‏:‏ تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه، ولكن قد علمت أن فيه فضلاً، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه غنماً، فجعلها بسوادكم، فإذا خرج عطاؤه ثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه، فإني لا أدري ما يكون بعدي، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«من مات غاشاً لرعيته لم يرح ريح الجنة»، فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها، وروى عن برزة بنت رافع قالت‏:‏ لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت‏:‏ غفر الله لعمر‏!‏ غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني، قالوا‏:‏ هذا كله لك يا أم المؤمنين، قالت‏:‏ سبحان الله‏!‏ واستترت منه بثوب، ثم قالت‏:‏ صبوه واطرحوا عليه ثوباً، ثم قالت لي‏:‏ ادخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب، قالت برزة بنت رافع‏:‏ فقلت‏:‏ غفر الله له يا أم المؤمنين، والله لقد كان لنا في هذا المال حق، قالت‏:‏ فلكم ما تحت الثوب، فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت‏:‏ اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا، فماتت- ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد‏.‏

ولما حث سبحانه على المكارم والأخلاق الزاكية، وختم بالتذكير بالآيات والحكمة، أتبعه ما لمن تلبس من أهل البيت بما يدعو إليه ذلك من صفات الكمال، ولكنه ذكره على وجه يعم غيرهم من ذكر وأنثى مشاكلة لعموم الدعوة وشمول الرسالة، فقال جواباً لقول النساء‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ذكر الله الرجال ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعة، بادئاً الوصف الأول الأعم الأشهر من أوصاف أهل هذا الدين مؤكداً لأجل كثرة المنافقين المكذبين بمضمون هذا الخبر وغيرهم من المصارحين‏:‏ ‏{‏إن المسلمين‏}‏ ولما كان اختلاف النوع موجباً للعطف، قال معلماً بالتشريك في الحكم‏:‏ ‏{‏والمسلمات‏}‏‏.‏

ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط، أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان، فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكين الجامعين لهذه الأوصاف من كل وصف منها‏:‏ ‏{‏والمؤمنين والمؤمنات‏}‏ ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال‏:‏ ‏{‏والقانتين‏}‏ أي المخلصين في إيمانهم وإسلامهم ‏{‏والقانتات‏}‏ ولما كان القنوت كما يطلق على الإخلاص المقتضي للمداولة قد يطلق على مطلق الطاعة قال‏:‏ ‏{‏والصادقين‏}‏ في ذلك كله ‏{‏والصادقات‏}‏ أي في إخلاصهم في الطاعة، وذلك يقتضي الدوام‏.‏

ولما كان الصدق- وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه- قد لا يكون دائماً، قال مسيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع‏:‏ ‏{‏والصابرين والصابرات‏}‏ ولما كان الصبر قد يكون سجية، دل على صرفه إلى الله بقوله‏:‏ ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏ ولما كان الخشوع- وهو الخضوع والإخبات والسكون- لا يصح مع توفير المال فإنه سيكون إليه، قال معلماً أنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته‏:‏ ‏{‏والمتصدقين‏}‏ أي المنفقين أموالهم في رضى الله بغاية الجهد من نفوسهم بما أشار إليه إظهار التاء فرضاً وتطوعاً سراً وعلانية بما أرشد إليه الإظهار أيضاً تصديقاً لخشوعهم ‏{‏والمتصدقات‏}‏‏.‏

ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار، أتبعه ما يعين عليه فقال‏:‏ ‏{‏والصائمين‏}‏ أي تطوعاً للإيثار بالقوت وغير ذلك ‏{‏والصائمات‏}‏ ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها، قال‏:‏ ‏{‏والحافظين فروجهم‏}‏ أي عما لا يحل لهم بالصوم وما أثاره الصوم ‏{‏والحافظات‏}‏ ولما كان حفظ الفروج وسائر الأعمال لا تكاد توجد إلا بالذكر‏.‏ وهو الذي فيه المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحيية بالفناء قال‏:‏ ‏{‏والذاكرين الله‏}‏ أي مع استحضار ما له من الكمال بصفات الجلال والجمال ‏{‏كثيراً‏}‏ بالقلب واللسان في كل حالة ‏{‏والذاكرات‏}‏ ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم‏.‏

ولما كان المطيع وإن جاوز الحد في الاجتهاد مقتصراً عن بلوغ ما يحق له، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله مكرراً الاسم الأعظم إشارة إلى ذلك وإلى صغر الذنوب إذا نسبت إلى عفوه‏:‏ ‏{‏أعد الله‏}‏ أي الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يتعاظمه شيء ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ أي لهفواتهم وما أتوه من سيئاتهم بحيث يمحو عينه وأثره، فلا عتاب ولا عقاب، ولا ذكر له سبب من الأسباب‏.‏

ولما ذكر الفضل بالتجاوز، أتبعه التفضل بالكرم والرحمة فقال‏:‏ ‏{‏وأجراً عظيماً *‏}‏ وإعداد الأجر يدل على أن المراد بهذه الأوصاف اجتماعها لأن مظهر الإسلام نفاقاً كافر، وتارك شيء من الأوصاف متصف بضده وحينئذ يكون مخلاً بالباقي وأن المراد بالعطف التمكن والرسوخ في كل وصف منها زيادة على التمكن الذي أفاده التعبير بالوصف دون الفعل، وحينئذ تعدم الكبائر فيتأتى تكفير الصغائر، فتأتي المغفرة والأجر، وأما آية التحريم فلم تعطف لئلا يظن أنهن أنواع كل نوع يتفرد بوصف، وإفادة الرسوخ هنا في الأوصاف من سياق الامتنان والمدح بكونهن خيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏37‏)‏ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كان الله سبحانه قد قدم قوله‏:‏ ‏{‏النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم‏}‏- الآية، فعلم قطعاً أنه تسبب عنها ما تقديره‏:‏ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة لأن يكون له ولي غير النبي صلى الله عليه وسلم، فطوى ذلك للعلم به، واستدل على مضمون الآية وما قبلها بقصة الأحزاب، وأتبعها نتيجة ذلك مما ذكر تأديب الأزواج له صلى الله عليه وسلم وتهذبيهن لأجله وتطهير أهل بيته وتكريمهم حتى ختم سبحانه بالصفات العشر التي بدأها بالإسلام الذي ليس معه شيء من الإباء، وختمها بأن ذكر الله يكون ملء القلب والفم وهو داعٍ إلى مثل ذلك لأنه سبب الإسلام، عطف على مسبب آية الولاية ما يقتضيه كثرة الذكر من قوله‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏‏.‏

ولما كان الإيمان قد يدعى كذباً لخفاء به، قال‏:‏ ‏{‏لمؤمن‏}‏ أي من عبد الله بن جحش وزيد وغيرهما ‏{‏ولا مؤمنة‏}‏ أي من زينب وغيرها، فعلق الأمر بالإيمان إعلاماً بأن من اعترض غير مؤمن وإن أظهر الإيمان بلسانه ‏{‏إذا قضى الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا ينبغي لعاقل التوقف في أمره ‏{‏ورسوله‏}‏ الذي لا يعرف قضاؤه إلا به ‏{‏أمراً‏}‏ أي أيّ أمر كان‏.‏

ولما كان المراد كل مؤمن، والعبارة صالحة له، وكان النفي عن المجموع كله نفياً عما قل عنه من باب الأولى، قال‏:‏ ‏{‏أن تكون‏}‏ أي كوناً راسخاً على قراءة الجماعة بالفوقانية، وفي غاية الرسوخ على قراءة الكوفيين بالتحتانية ‏{‏لهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الخيرة‏}‏ مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس ‏{‏من أمرهم‏}‏ أي الخاص بهم باستخارة لله ولا بغيرها ليفعلوا خلاف ذلك القضاء، فإن المراد بالاستخارة ظن ما اختاره الله، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم قطعي الدلالة على ما اختاره الله تعالى، وفي هذا عتاب لزينب رضي الله عنها على تعليق الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم عند ما خطبها لنفسه الشريفة على الاستخارة، وعلى كراهتها عند ما خطبها لزيد مولاه، ولكنها لما قدمت بعد نزول الآية خيرته صلى الله عليه وسلم في تزويجها من زيد رضي الله عنهما على خيرتها، عوضها الله أن صيرها لنبيه صلى الله عليه وسلم ومعه في الجنة في أعلى الدرجات، فالخيرة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا ينطق عن الهوى، فمن فعل غير ذلك فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن عصاه عصى الله لأنه لا ينطق إلا عنه ‏{‏ومن يعص الله‏}‏ أي الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي معصيته معصيته لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم ‏{‏فقد ضل‏}‏ وأكده المصدر فقال‏:‏ ‏{‏ضلالاً‏}‏ وزاده بقوله‏:‏ ‏{‏مبيناً‏}‏ أي لا خفاء به، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صلى الله عليه وسلم في كل ما يختاره وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلفاً بقول الشاعر حيث قال‏:‏

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي *** متأخر عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي عامداً *** ما من يهون عليك ممن يكرم

ولما كان قد أخبره سبحانه- كما رواه البغوي وغيره عن سفيان بن عيينة عن علي ابن جدعان عن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- أن زينب رضي الله عنها ستكون من أزواجه وأن زيداً سيطلقها، وأخفى في نفسه ذلك تكرماً وخشية من قاله الناس أنه يريد نكاح زوجة ابنه، وكان في إظهار ذلك أعلام من أعلام النبوة، وكان مبنى أمر الرسالة على إبلاغ الناس ما أعلم الله به أحبوه أو كرهوه، وأن لا يراعي غيره، ولا يلتفت إلى سواه وإن كان في ذلك خوف ذهاب النفس، فإنه كافٍ من أراد بعزته، ومتقن من أراد بحكمته، كما أخذ الله الميثاق به من النبيين كلهم ومن محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان من المعلوم أن التقدير‏:‏ اذكر ما أخذنا منك ومن النبيين من الميثاق على إبلاغ كل شيء أخبرناكم به ولم ننهكم من إفشائه وما أخذنا على الخلق في كل من طاعتك ومعصيتك، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإذ تقول‏}‏ وذلك لأن الأكمل يعاتب على بعض الكمالات لعلو درجته عنها وتحليه بأكمل منها من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، وبين شرفه بقوله‏:‏ ‏{‏للذي أنعم الله‏}‏ أي الملك الذي له كل كمال ‏{‏عليه‏}‏ أي بالإسلام وتولى نبيه صلى الله عليه وسلم إياه بعد الإيجاد والتربية، وبين منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏وأنعمت عليه‏}‏ أي بالعتق والتبني حين استشارك في فراق زوجه الذي أخبرك الله أنه يفارقها وتصير زوجتك‏:‏ ‏{‏أمسك عليك زوجك‏}‏ أي زينب ‏{‏واتق الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة في جميع أمرك لا سيما ما يتعلق بحقوقها ولا تغبنها بقولك‏:‏ إنها تترفع عليّ- ونحو ذلك ‏{‏وتخفي‏}‏ أي والحال أنك تخفي، أي تقول له مخفياً ‏{‏في نفسك‏}‏ أي مما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عن طلاق زيد ‏{‏ما الله مبديه‏}‏ أي بحمل زيد على تطليقها وإن أمرته أنت بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها، وهو دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عن طلاق زيد لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه لأنه لا يبدل القول لديه، روى البخارى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن هذه الآيات نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة رضي الله عنهما‏.‏

ولما ذكر إخفاءه ذلك، ذكر علته فقال عاطفاً على «تخفي»‏:‏ ‏{‏وتخشى الناس‏}‏ أي من أن تخبر بما أخبرك الله به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لا سيما اليهود والمنافقون ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الذي لا شيء أعظم منه ‏{‏أحق أن تخشاه‏}‏ أي وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئاً أخبرك به لشيء يشق عليك حتى يفرق لك فيه أمر، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية‏.‏

ولما علم من هذا أنه سبحانه أخبره بأن زيداً سيطلقها وأنها ستصير زوجاً له من طلاق زيد إياها، سبب عنه قوله عاطفاً عليه‏:‏ ‏{‏فلما قضى زيد منها وطراً‏}‏ أي حاجة من زواجها والدخول بها، وذلك بانقضاء عدتها منه لأنه به يعرف أنه لا حاجة له فيها، وأنه قد تقاصرت عنها همته، وطابت عنها نفسها، وإلا لراجعها ‏{‏زوجناكها‏}‏ ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها، تشريفاً لك ولها، بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به، وسرت به جميع النفوس، ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ اذهب فاذكرها علي، فانطلق زيد رضي الله عنه حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال‏:‏ فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن انظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت‏:‏ يا زينب‏!‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، قالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قال‏:‏ ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون فذكره، سيأتي‏.‏ وقال البغوي‏:‏ قال الشعبي‏:‏ كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن‏:‏ جدي وجدك واحد، وأني أنكحينك الله في السماء، وأن السفير لجبريل عليه السلام‏.‏

ولما ذكر سبحانه التزويج على ما له من العظمة، ذكر علته دالاً على أن الأصل مشاركة الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وأن لا خصوصية إلا بدليل فقال‏:‏ ‏{‏لكي لا يكون على المؤمنين‏}‏ أي الذين أزالت عراقتهم في الإيمان حظوظهم ‏{‏حرج‏}‏ أي ضيق ‏{‏في أزواج أدعيائهم‏}‏ أي الذين تبنوا بهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة ‏{‏إذا قضوا منهن وطراً‏}‏ أي حاجة بالدخول بهن ثم الطلاق وانقضاء العدة‏.‏

ولما علم سبحانه أن ناساً يقولون في هذه الواقعة أقوالاً شتى، دل على ما قاله زين العابدين بقوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏ أي من الحكم بتزوجيها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله به كراهية لسوء القالة واستحياء من ذلك، وكذا كل أمر يريده سبحانه ‏{‏مفعولاً *‏}‏ لأنه سبحانه له الأمر كله لا راد لأمره ولا معقب لحكمه‏.‏

ولما أنتج هذا التسهيل لما كان استصعبه صلى الله عليه وسلم والتأمين مما كان خافه، عبر عن ذلك بقوله مؤكداً رداً على من يظن خلاف ذلك‏:‏ ‏{‏ما كان على النبي‏}‏ أي الذي منزلته من الله الاطلاع على ما لم يطلع عليه غيره من الخلق ‏{‏من حرج فيما فرض‏}‏ أي قدر ‏{‏الله‏}‏ بما له من صفات الكمال وأوجبه ‏{‏له‏}‏ لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقاً حرج في ذلك، فكيف برأس المؤمنين، فصار منفياً عنه الحرج مرتين خصوصاً بعد عموم تشريفاً له وتنويهاً بشأنه‏.‏

ولما كان مما يهون الأمور الصعاب المشاركة فيها فكيف إذا كانت المشاركة من الأكابر، قال واضعاً الأسم موضع مصدره‏:‏ ‏{‏سنة الله‏}‏ أي سن الملك الذي إذا سن شيئاً أتقنه بما له من العزة والحكمة فلم يقدر أحد أن يغير شيئاً منه ‏{‏في الذين خلوا‏}‏ وكأنه أراد أن يكون أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام أولى مراد بهذا، تبكيتاً لملبسي أتباعهم فأدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من الأنبياء الأقدمين في إباحة التوسيع في النكاح لهم، وهو تكذيب لليهود الذين أنكروا ذلك، وإظهار لتلبيسهم‏.‏

ولما كان المراد بالنسبة الطريق التي قضاها وشرعها قال معلماً بأن هذا الزواج كان أمراً لا بد من وقوعه لإرادته له في الأزل فلا يعترض فيه معترض ببنت شفة يحل به ما يحل بمن اعترض على أوامر الملك، ولأجل الاهتمام بهذا الإعلام اعترض به بين الصفة الموصوف فقال‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏ أي قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره من كل ما يستحق أن يأمر به ويهدي إليه ويحث عليه، وعبر عن السنة بالأمر تأكيداً لأنه لا بد منه ‏{‏قدراً‏}‏ وأكده بقوله‏:‏ ‏{‏مقدوراً‏}‏ أي لا خلف فيه، ولا بد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه، وهو مؤيد أيضاً لقول زين العابدين وكذا قوله تعالى واصفاً للذين خلوا‏:‏ ‏{‏الذين يبلغون‏}‏ أي إلى أمهم ‏{‏رسالات الله‏}‏ أي الملك الأعظم سواء كانت في نكاح أو غيره شقت أو لا ‏{‏ويخشونه‏}‏ أي فيخبرون بكل ما أخبرهم به ولم يمنعهم من إفشائه، ولوّح بعد التصريح في قوله ‏{‏وتخشى الناس‏}‏‏:‏ ‏{‏ولا يخشون أحداً‏}‏ قلَّ أو جلَّ ‏{‏إلا الله‏}‏ لأنه ذو الجلال والإكرام‏.‏

ولما كان الخوف من الملك العدل إنما هو من حسابه كان التقدير‏:‏ فيخافون حسابه، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال ‏{‏حسيباً *‏}‏ أي مجازياً لكل أحد بما عمل وبالغاً في حسابه الغاية القصوى، وكافياً من أراد كفايته كل من أراده بسوء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 46‏]‏

‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏45‏)‏ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أي بوجه من الوجوه مطلق كون ‏{‏محمد‏}‏ أي على كثرة نسائه وأولاده ‏{‏أبا أحد من رجالكم‏}‏ لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل‏:‏ من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها- ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع ما كان قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم- على جميعهم الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة قال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ كان في علم الله غيباً وشهادة أنه ‏{‏رسول الله‏}‏ الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، أما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوفير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادعوهم لآبائهم‏}‏ ووظيفة الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه‏.‏

ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوه الرجال قال‏:‏ ‏{‏وخاتم النبيين‏}‏ أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبياً، وذلك مقتض لئلا يبلغ له ولد يولد منه مبلغ الرجال، ولو قضي أن يكون بعده نبي لما كان إلا من نسله إكراماً له لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظم شرفاً، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها أو أعظم منها، ولو صار أحد من ولده رجلاً لكان نبياً بعد ظهور نبوته، وقد قضى الله ألا يكون بعده نبي إكراماً له، روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابنه إبراهيم‏:‏ «لو عاش لكان صديقاً نبياً»، وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه‏:‏ لو قضى أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه، ولكن لا نبي بعده‏.‏

والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً، فقد آل الأمر إلى أن التقدير‏:‏ ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان- مع أنه رسول الله- ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولداً له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وأما إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام بعد تجديد المهدي رضي الله عنه لجميع ما وهن من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة ياجوج وماجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي، وما أحسن ما نقل عن حسان بن ثابت رضي الله عنه في مرثيته لإبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏

مضى ابنك محمود العواقب لم يشب *** بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل

رأى أنه إن عاش ساواك في العلا *** فآثر أن يبقى وحيداً بلا مثل

وقال الغزالي رحمه الله في آخر كتابة الاقتصاد‏:‏ إن الأمة فهمت من هذا اللفظ- أي لفظ هذه الآية- ومن قرائن أحواله صلى الله عليه وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً، وعدم رسول بعده أبداً، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص، وقال‏:‏ أن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه، من أنواع الهذيان، لا يمنع الحكم بتكفيره، لأنه مكذب بهذا النص الذي أجمع الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص هذا كلامه في كتاب الاقتصاد، نقلته منه بغير واسطة ولا تقليد، فإياك أن تصغي إلى من نقل عنه غير هذا، فإنه تحريف يحاشي حجة الإسلام عنه‏:‏

وكم من عائب قولاً صحيحاً *** وآفته من الفهم السقيم

وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه الصلاة والسلام غير قادح في هذا النص، فإنه من أمته صلى الله عليه وسلم المقررين لشريعته، وهو قد كان نبياً قبله لم يستجد له شيء لم يكن، فلم يكن ذلك قادحاً في الختم وهو مثبت لشرف نبيناً صلى الله عليه وسلم، ولولا هو لما وجد، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى الله عليه وسلم مثله أو أعلى منه، وقد كانت الأنبياء تأتي مقرره لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مجددة لها، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم المتبع لملته من كان ناسخاً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان المقام في هذا البت بأنه لا يكون له ولد يصير رجلاً مقام إحاطة العلم، كان التقدير‏:‏ لأنه سبحانه أحاط علماً بأنه على كثرة نسائه وتعدد أولاده لا يولد له ولد ذكر فيصير رجلاً ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً ‏{‏بكل شيء‏}‏ من ذلك وغيره ‏{‏عليماً‏}‏ فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر‏:‏ واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام- انتهى‏.‏ وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية‏.‏

ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه من إحاطة العلم مستلزماً للإحاطة بأوصاف الكمال، وكان قد وعد من توكل عليه بأن يكفيه كل مهم، ودل على ذلك بقصة الأحزاب وغيرها وأمر بطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم وتقدم بالوصية التامة في تعظيمه إلى أن أنهى الأمر في إجلاله، وكانت طاعة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كل وجه حتى يكون مسلوب الاختبار معه، فيكون بذلك مسلماً لا يحمل عليها إلا طاعة الله، وكانت طاعة الله كذلك لا يحمل عليها إلا دوام ذكره، قال بعد تأكيد زواجه صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله عنها بأنه هو سبحانه زوجه إياها لأنه قضى أن لا بنوة بينه وبين أحد من رجال أمته توجب حرمة زوج الولد‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ‏{‏اذكروا‏}‏ أي تصديقاً لدعواكم ذلك ‏{‏الله‏}‏ الذي هو أعظم من كل شيء ‏{‏ذكراً كثيراً‏}‏ أي بأن تعقدوا له سبحانه صفات الكمال وتثنوا عليه بها بألسنتكم، فلا تنسوه في حال من الأحوال ليحملكم ذلك على تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم حق تعظيمه، واعتقاد كماله في كل حال، وأنه لا ينطق عن الهوى، لتحوزوا مغفرة وأجراً عظيماً، كما تقدم الوعد به‏.‏

ولما كان ثبوت النبوة بينه وبين أحد من الرجال خارماً لإحاطة العلم، وجب تنزيهه سبحانه عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وسبحوه‏}‏ أي عن أن يكون شيء على خلاف ما أخبر به، وعن كل صفة نقص بعد ما أثبتم له كل صفة كمال ‏{‏بكرة وأصيلاً *‏}‏ أي في أول النهار وآخره أي دائماً لأن هذين الوقتين إما للشغل الشاغل ابتداء أو انتهاء أو للراحة، فوجوب الذكر فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، تم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله‏.‏ وهما أيضاً مشهودان بالملائكة ودالان على الساعة‏:‏ الثاني قربها بزوال الدنيا كلها، والأول على البعث بعد الموت، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر، لأن المواظبة عليهما- لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري في وقتيهما من الشغل بالراحة وغيرها- دالة على غاية المحبة للمثول بالحضرات الربانية حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى، ويؤكد هذا الثاني تعبيره بلفظ الصلاة في تعليل ذلك بدوتم ذكره لنا سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم‏}‏ أي بصفة الرحمانية متحنناً، لأن المصلي منا يتعطف في الأركان ‏{‏وملائكته‏}‏ أي كلهم بالاستغفار لكم وحفظكم من كثير من المعاصي والآفات ويتردد بعضهم بينه سبحانه وبين الأنبياء بما ينزل إليهم من الذكر الحافظ من كل سوء فقد اشتركت الصلاتان في إظهار شرف المخاطبين‏.‏

ولما كان فعل الملائكة منسوباً إليه لأنه مع كونه الخالق له الآمر به قال‏:‏ ‏{‏ليخرجكم‏}‏ أي بذلك ‏{‏من الظلمات‏}‏ أي الكائنة من الجهل الموجب للضلال ‏{‏إلى النور‏}‏ أي الناشئ من العلم المثمر للهدى، فيخرج بعضكم بالفعل من ظلمات المعاصي المقتضية للرين على القلب إلى نور الطاعات، فتكونوا بذلك مؤمنين ‏{‏وكان‏}‏ أي ازلاً وأبداً ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ أي الذين صار الإيمان لهم ثابتاً خاصة ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي بليغ الرحمة يتوفيقهم لفعل ما ترضاه الإلهية، فإنهم أهل خاصته فيحملهم على الإخلاص في الطاعات، فيرفع لهم الدرجات في روضات الجنات‏.‏

ولما كان أظهر الأوقات في تمرة هذا الوصف ما بعد الموت، قال تعالى مبيناً لرحمتهم‏:‏ ‏{‏تحيتهم يوم يلقونه‏}‏ أي بالموت أو البعث ‏{‏سلام‏}‏ أي يقولون له ذلك، «أنت السلام ومنك السلام فجئنا ربنا بالسلام» كما يقوله المحرم المشبه لحال من هو في الحشر فيجابون بالسلام الذي فيه إظهار شرفهم ويأمنون معه من كل عطب ‏{‏وأعد‏}‏ أي والحال أنه أعد ‏{‏لهم‏}‏ أي بعد السلامة الدائمة ‏{‏أجراً كريماً *‏}‏ أي غدقاً دائماً لا كدر في شيء منه‏.‏

ولما وعظ المؤمنين فيه صلى الله عليه وسلم له بما أقبل بأسماعهم وقلوبهم إليه، وختم بما يوجب لهم الفوز بما عنده سبحانه، وكان معظم ذلك له صلى الله عليه وسلم فإنه رأس المؤمنين، أقبل بالخطاب عليه ووجهه إليه فقال منوهاً من ذكره ومشيداً من قدره بما ينتظم بقوله ‏{‏الذين يبلغون رسالات الله‏}‏ الآية وما جرها من العتاب‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ أي الذي مخبره بما لا يطلع عليه غيره‏.‏

ولما كان الكافرون- المجاهرون منهم والمساترون- ينكرون الرسالة وما تبعها، أكد قوله في أمرها وفخمه فقال‏:‏ ‏{‏إنا أرسلناك‏}‏ أي بعظمتنا بما ننبئك به إلى سائر خلقنا ‏{‏شاهداً‏}‏ أي عليهم ولهم مطلق شهادة، لأنه لا يعلم بالبواطن إلا الله، وأنت مقبول الشهادة، فأبلغهم جميع الرسالة سرهم ذلك أو ساءهم سرك فعلهم أو ساءك‏.‏

ولما كان المراد الإعلام برسوخ قدمه في كل من هذه الأوصاف، عطفها بالواو فقال‏:‏ ‏{‏ومبشراً‏}‏ أي لمن شهدت لهم بخير بما يسرهم، وأشار إلى المبالغة في البشارة بالتضعيف لما لها من حسن الأثر في إقبال المدعو وللتضعيف من الدلالة على كثرة الفعل والمفعول بشارة بكثرة التابع وهو السبب لمقصود السورة، وكانت المبالغة في النذارة أزيد لأنها أبلغ في رد المخالف وهي المقصود بالذات من الرسالة لصعوبة الاجتراء عليها فقال‏:‏ ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي لمن شهدت عليهم بشر بما يسوءهم ‏{‏داعياً‏}‏ أي للفريقين ‏{‏إلى الله‏}‏ أي إلى ما يرضي الذي لا أعظم منه بالقول والفعل، وأعرى الدعاء عن المبالغة لأنه شامل للبشارة والنذارة والإخبار بالقصص والأمثال ونصب الأحكام والحدود، والمأمور به في كل ذلك الإبلاغ بقدر الحاجة بمبالغة أو غيرها فمن لم ترده عن غيه النذارة، وتقبل به إلى رشده البشارة، حمل على ذلك بالسيف‏.‏

ولما كان ذلك في غاية الصعوبة، لا يقوم به أحد إلا بمعونة من الله عظيمة، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بتمكينه لك من الدعاء بتيسير أسبابه، وتحمل أعبائه، وللمدعو من الإقبال والإتباع إن أراد له الخير‏.‏

ولما كان الداعي إلى الله يلزمه النور لظهور الأدلة قال‏:‏ ‏{‏وسراجاً‏}‏ يمد البصائر فيجلي ظلمات الجهل بالعلم المبصر لمواقع الزلل كما يمد النور الحسي نور الأبصار‏.‏ ولما كان المقام مرشداً إلى إنارته، وكان من السرج ما لا يضيء، وكان للتصريح والتأكيد شأن عظيم قال‏:‏ ‏{‏منيراً *‏}‏ أي ينير على من أتبعه ليسير في أعظم ضياء، ومن تخلف عنه كان في أشد ظلام، فعرف من التقييد بالنور أنه محط الشبه، وعبر به دون الشمس لأنه يقتبس منه ولا ينقص مع أنه من أسماء الشمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ‏(‏47‏)‏ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏48‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏49‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما تقدمت هذه الأوصاف الحسنى، وكان تطبيق ثمراتها عليها في الذروة، من العلو، وكان الشاهد هو البينة، فكان كأنه قيل‏:‏ فأقم الأدلة النيرة، وادع وأنذر كل من خالف أمرك، وكان المقام لخطاب المقبلين، طوى هذا المقدر لأنه للمعرضين، ودل عليه بقوله عاطفاً عليه‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أي الذين صح لهم هذا الوصف‏.‏ فإنك مبشر ‏{‏بأن لهم‏}‏ وبين عظمة هذه البشرى بقوله‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات العظمة ‏{‏فضلاً كبيراً *‏}‏ أي من جهة النفاسة ومن جهة التضعيف من عشرة أمثال الحسنة إلى ما لا يعلمه إلا الله‏.‏

ولما أمره سبحانه بما يسر نهاه عما يضر، فقال ذاكراً ثمرة النذارة‏:‏ ‏{‏ولا تطع الكافرين‏}‏ أي المشاققين ‏{‏والمنافقين‏}‏ أي لا تترك إبلاغ شيء مما أنزلته إليك من الإنزال، وغيره كراهة شيء من مقالهم أو فعالهم في أمر زينب أو غيرها، فإنك نذير لهم، وزاد على ما في أول السورة محط الفائدة في قوله مصرحاً بما اقتضاه ما قبله‏:‏ ‏{‏ودع‏}‏ أي اترك على حالة حسنة بك وأمر جميل لك ‏{‏أذاهم‏}‏ فلا تراقبه في شيء، ولا تحسب له حساباً أصلاً، واصبر عليه فإنه غير ضائرك لأن الله دافع عنك لأنك داع بإذنه‏.‏

ولما كان ترك المؤذي، والإعراض عنه استسلاماً في غاية المشقة، ذكره بالدواء فقال‏:‏ ‏{‏وتوكل على الله‏}‏ أي الملك الأعلى في الانتصار لك منهم وإبلاغ جميع ما يأمرك به وفي جميع أمرك لأن الله متم نورك ومظهر دينك والاكتفاء به من ثمرات إنارته لك بجعلك سراجاً، ولما كان الوكيل قد لا ينهض بجميع الأمور، قال معلماً بأن كفايته محيطه‏:‏ ‏{‏وكفى‏}‏ وأكد أمر الكفاية بإيجاد الباء في الفاعل تحقيقاً لكونه فاعلاً كما مضى في آخر سورة الرعد فقال‏:‏ ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة، وميز النسبة بالفاعل في الأصل لزيادة التأكيد في تحقيق معنى الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏وكيلاً *‏}‏ فمن اكتفى به أنار له جميع أمره‏.‏

ولما أمر سبحانه بإبلاغ أوامره من غير التفات إلى أحد غيره، وكان من المعلوم أنه لا بد في ذلك من محاولات ومنازعات، لا يقوم بها إلا من أعرض عن الخلائق، لما هو مشاهد له من عظمة الخالق، أمر سبحانه بالتوكل عليه، وأقام الدليل الشهودي بقصة الأحزاب وقريظة على كفاية لمن أخلص له، فلما تم الدليل رجع إلى بيان ما افتتح به السورة من الأحكام بعد إعادة الأمر بالتوكل، فذكر أقرب الطلاق إلى معنى المظاهرة المذكورة أول السورة بعد الأمر بالتوكل التي محط قصدها عدم قربان المظاهر عنها بعد أن كان أبطل المظاهرة‏.‏ فقال ناهياً لمن هو في أدنى أسنان الإيمان بعد بشارة المؤمنين قاطعاً لهم عما كانوا يشتدون به في التحجر على المرأة المطلقة لقصد مضاجرتها أو تمام التمكن من التحكم فيه‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك ‏{‏إذا نكحتم‏}‏ أي عاقدتم، أطلق اسم المسبب على السبب فقد صار فيه حقيقة شرعية ‏{‏المؤمنات‏}‏ أي الموصوفات بهذا الوصف الشريف المقتضي لغاية الرغبة فيهن وأتم الوصلة بينكم وبينهن‏.‏

ولما كان طول مدة الحبس بالعقد من غير جماع لا يغير الحكم في العدة وإن غيرها في النسب بمجرد إمكان الوطئ، وكان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح وبعد حل الوطئ بالنكاح، أشار إليه بحرف التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم طلقتموهن‏}‏ أي بحكم التوزيع، وقيل لابن عباس‏:‏ إن ابن مسعود رضي الله عنهم يقول بصحة تعليق الطلاق قبل النكاح فقال‏:‏ زلة علم- وتلا هذه الآية‏.‏

ولما كان المقصود نفي المسيس في هذا النكاح لا مطلقاً، وكانت العبرة في إيجاب المهر بنفس الوطئ لا بإمكانه وإن حصلت الخلوة، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل أن تسموهن‏}‏ أي تجامعوهن، أطلق المسّ على الجماع لأنه طريق له كما سمي الخمر إثماً لأنها سببه‏.‏ ولما كانت العدة حقاً للرجال قال‏:‏ ‏{‏فما لكم‏}‏ ولما كانت العدة واجبة، عبر بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهن‏}‏ وأكد النفي بإثبات الجار في قوله‏:‏ ‏{‏من عدة‏}‏ ودل على اعتيادهم ذلك ومبالغتهم فيه والمضاجرة به كما في الظهار بالافتعال فقال‏:‏ ‏{‏تعتدونها‏}‏ أي تتكلفون عدها وتراعونه، وروي عن ابن كثير من طريق البزي شاذاً بتخفيف الدال بمعنى تتكلفون الاعتداء بها على المطلقة‏.‏

ولما كان هذا الحكم- الذي معناه الانفصال- للمؤمنات اللاتي لهن صفات تقتضي دوام العشرة وتمام الاتصال، كان ذلك للكتابيات من باب الأولى، وفائدة التقييد الإرشاد إلى أنه لا ينبغي العدول عن المؤمنات بل ولا عن الصالحات من المؤمنات‏.‏ ولما كان الكلام كما أشير إليه في امرأة قريبة من المظاهر عنها، وكان ما خلا من الفرض للصداق أقرب إلى ذلك، سبب عما مضى قوله‏:‏ ‏{‏فمتعوهن‏}‏ ولم يصرح بأن ذلك لغير من سمى لها لتدخل المسمى لها في الكلام على طريق الندب مع ما لها من نصف المسمى كما دخلت الأولى وجوباً ‏{‏وسرحوهن‏}‏ أي أطلقوهن ليخرجن من منازلكم ولا تعتلوا عليهن بعلة ‏{‏سراحاً جميلاً *‏}‏ بالإحسان قولاً وفعلاً من غير ضرار بوجه أصلاً ليتزوجهن من شاء‏.‏

ولما كان النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكان المراد الأعظم في هذه الآيات بيان ما شرفه الله به من ذلك، أتبع ما بين أنه لا عدة فيه من نكاح المؤمنين وما حرمه عليهم من التضييق على الزوجات المطلقات بعض ما شرفه الله تعالى به وخصه من أمر التوسعة في النكاح، وختمه بأن أزواجه لا تحل بعده، فهن كمن عدتهن ثابتة لا تنقضي أبداً، أو كمن زوجها غائب عنها وهو حي، لأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ ذاكراً سبحانه الوصف الذي هو مبدأ القرب ومقصوده ومنبع الكمال ومداره‏.‏

ولما كان الذين في قلوبهم مرض ينكرون خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أكد قوله‏:‏ ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ أي نكاحهن، قال الحرالي في كتابه في أصول الفقه‏:‏ تعليق الحكم بالأعيان مختص بخاص مدلولها نحو حرمت أو حللت المرأة أي نكاحها، والفرس أي ركوبه، والخمر أي شربها، ولحم الخنزير أي أكله، والبحر أي ركوبه، والثور أي الحرث به، وكذلك كل شيء يختص بخاص مدلوله، ولا يصرف عنه إلا بمشعر، ولا إجمال فيه لترجح الاختصاص- انتهى‏.‏

ولما كان المقصود من هذه السورة بيان مناقبه صلى الله عليه وسلم وما خصه الله به مما قد يطعن فيه المنافقون من كونه أولى من كل أحد بنفسه وماله، بين أنه مع ذلك لا يرضى إلا بالأكمل، فبين أنه كان يعجل المهور، ويوفي الأجور، فقال‏:‏ ‏{‏اللاتي آتيت‏}‏ أي بالإعطاء الذي هو الحقيقة، وهي به صلى الله عليه وسلم أولى أو بالتسمية في العقد قال الكشاف‏:‏ وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم وما لا يعرف بينهم غيره ‏{‏أجورهن‏}‏ أي مهورهن لأنها عوض عن منفعة البضع، وأصل الأجر الجزاء على العمل ‏{‏وما ملكت يمينك‏}‏‏.‏

ولما كان حوز الإنسان لما سباه أطيب لنفسه وأعلى لقدره وأحل مما اشتراه قال‏:‏ ‏{‏مما أفاء‏}‏ أي رد ‏{‏الله‏}‏ الذي له الأمر كله ‏{‏عليك‏}‏ مثل صفية بنت حيي النضرية وريحانة القرظية وجويرية بنت الحارث الخزاعية رضي الله عنهن مما كان في أيدي الكفار، أسنده إليه سبحانه إفهاماً لأنه فيء على وجهه الذي أحله الله لا خيانة فيه، وعبر بالفيء الذي معناه الرجوع إفهاماً لأن ما في يد الكافر ليس له وإنما هو لمن يستلبه منه من المؤمنين بيد القهر أو لمن يعطيه الكافر منهم عن طيب نفس، ومن هنا كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم ما يطلب منه من بلاد الكفار أو نسائهم، وما أعطى أحداً شيئاً إلا وصل إليه كتميم الداري وشويل رضي الله عنهما، وقيد بذلك تنبيهاً على فضله صلى الله عليه وسلم ووقوعه من كل شيء على أفضله كما تقدمت الإشارة إليه، وإشارة إلى أنه سبق في علم الله أنه لا يصل إليه من ملك اليمين إلا ما كان هذا سبيله، ودخل فيه ما أهدى له من الكفار مثل مارية القبطية أم ولده إبراهيم عليه السلام، وفي ذلك أيضاً إشارة إلى ما خصه به من تحليل ما كان خطره على من كان قبله من الغنائم ‏{‏وبنات عمك‏}‏ الشقيق وغيره من باب الأولى، فإن النسب كلما بعد كان أجدر بالحل‏.‏

ولما كان قد أفرد العم لأن واحد الذكور يجمع من غيره لشرفه وقوته وكونه الأصل الذي تفرع منه هذا النوع، عرف بجميع الإناث أن المراد به الجنس لئلا يتوهم أن المراد إباحة الأخوات مجتمعات فقال‏:‏ ‏{‏وبنات عماتك‏}‏ من نساء بني عبد المطلب‏.‏

ولما بدأ بالعمومة لشرفها، أتبعها قوله‏:‏ ‏{‏وبنات خالك‏}‏ جارياً أيضاً في الإفراد والجمع على ذلك النحو ‏{‏وبنات خالاتك‏}‏ أي من نساء بني زهرة ويمكن أن يكون في ذلك احتباك عجيب وهو‏:‏ بنات عمك وبنات أعمامك، وبنات عماتك وبنات عمتك، وبنات خالك وبنات أخوالك، وبنات خالاتك وبنات خالتك، وسره ما أشير إليه‏.‏

ولما بين شرف أزواجه من جهة النسب لما علم واشتهر أن نسبه صلى الله عليه وسلم من جهة الرجال والنساء أشرف الأنساب بحيث لم يختلف في ذلك اثنان من العرب، بين شرفهن من جهة الإعمال فقال‏:‏ ‏{‏اللاتي هاجرن‏}‏ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏معك‏}‏ إلى أن الهجرة قبل الفتح ‏{‏أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏ ولم يرد بذلك التقييد بل التنبيه على الشرف، وإشارة إلى أنه سبق في عمله سبحانه أنه لا يقع له أن يتزوج من هي خارجة عن هذه الأوصاف، وقد ورد أن هذا على سبيل التقييد؛ روى الترمذي والحاكم وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والطبراني والطبري وابن أبي حاتم كلهم من رواية السدي عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت‏:‏ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏- الآية، فلم أكن لأحل له لأني لم أهاجر‏.‏ كنت من الطلقاء قال الترمذي‏:‏ حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث السدي‏.‏

ولما بين ما هو الأشرف من النكاح لكونه الأصل، وأتبعه سبحانه ما خص به شرعه صلى الله عليه وسلم من المغنم الذي تولى سبحانه إباحته، أتبعه ما جاءت إباحته من جهة المبيح إعلاماً بأنه ليس من نوع الصدقة التي نزه عنها قدره فقال‏:‏ ‏{‏وامرأة‏}‏ أي وأحللنا لك امرأة ‏{‏مؤمنة‏}‏ أي هذا الصنف حرة كانت أو رقيقة ‏{‏إن وهبت نفسها للنبي‏}‏‏.‏

ولما ذكر وصف النبوة لأنه مدار الإكرام من الخالق والمحبة من الخلائق تشريفاً له به وتعليقاً للحكم بالوصف، لأنه لو قال «لك» كان ربما وقع في بعض الأوهام- كما قال الزجاج- أنه غير خاص به صلى الله عليه وسلم، كرره بياناً لمزيد شرفه في سياق رافع لما ربما يتوهم من أنه يجب عليه القبول فقال‏:‏ ‏{‏إن أراد النبي‏}‏ أي الذي أعلينا قدره بما اختصصناه به من الإنباء بالأمور العظمية من عالم الغيب والشهادة ‏{‏أن يستنكحها‏}‏ أي يوجد نكاحه لها يجعلها من منكوحاته بعقد أو ملك يمين، فتصير له مجرد ذلك بلا مهر ولا ولي ولا شهود‏.‏

ولما كان ربما فهم أن غيره يشاركه في هذا المعنى، قال مبيناً لخصوصيته واصفاً لمصدر ‏{‏أحللنا‏}‏ مفخماً للأمر بهاء المبالغة ملتفتاً إلى الخطاب لأنه معين للمراد رافع للارتياب‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏ وزاد المعنى بياناً بقوله‏:‏ ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏ أي من الأنبياء وغيرهم، وأطلق الوصف المفهم للرسوخ فشمل من قيد بالإحسان والإيقان، وغير ذلك من الألوان، دخل من نزل عن رتبتهم من الذين يؤمنون والذين آمنوا وسائر الناس من باب الأولى مفهوم موافقة، وقد كان الواهبات عدة ولم يكن عنده منهن شيء‏.‏ روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول‏:‏ أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها، فلما نزلت ‏{‏ترجى من تشاء منهن‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، ما أرى ربك إلا يسارع في هواك‏.‏

ولما كان التخصيص لا يصح ولا يتصور إلا من محيط العلم بأن هذا الأمر ما كان لغير المخصوص تام القدرة، ليمنع غيره من ذلك، علله بقوله‏:‏ ‏{‏قد‏}‏ أي أخبرناك بأن هذا أمر يخصك دونهم لأنا قد ‏{‏علمنا ما فرضنا‏}‏ أي قدرنا بعظمتنا‏.‏

ولما كان ما قدره للإنسان عطاء ومنعنا لا بد له منه، عبر فيه بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ أي المؤمنين ‏{‏في أزواجهم‏}‏ أي من أنه لا تحل لهم امرأة بلفظ الهبة منها ولا بدون مهر ولا بدون ولي وشهود، وهذا عام لجميع المؤمنين المتقدمين والمتأخرين‏.‏ ولما كان هذا عاماً للحرة والرقيقة قال‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانهم‏}‏ أي من أن أحداً غيرك لا يملك رقيقة بهبتها لنفسها منه، فيكون أحق من سيدها‏.‏

ولما فرغ من تعليل الدونية، علل التخصيص لفاً ونشراً مشوشاً بقوله‏:‏ ‏{‏لكيلا يكون عليك حرج‏}‏ أي ضيق في شيء من أمر النساء حيث أحللنا لك أنواع المنكوحات وزدناك الواهبة‏.‏ ولما ذكر سبحانه ما فرض في الأزواج والإماء الشامل للعدل في عشرتهن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الناس فهماً وأشدهم لله خشية، وكان يعدل بينهن، ويعتذر مع ذلك من ميل القلب الذي هو خارج عن طوق البشر بقوله «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» خفف عنه سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المتصف بصفات الكمال من الحلم والأناة والقدرة وغيرها أزلاً وأبداً ‏{‏غفوراً رحيماً *‏}‏ أي بليغ الستر فهو أن شاء يترك المؤاخذة فيما له أن يؤاخذ به، ويجعل مكان المؤاخذة الإكرام العظيم متصفاً بذلك أزلاً وأبداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ‏(‏51‏)‏ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

ولما ذكر هاتين الصفتين، أتبعهما ما خففه عنه من أمرهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم مما كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله، فقال في موضع الاستئناف، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة‏:‏ ‏{‏ترجي‏}‏ بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر ‏{‏من تشاء منهن‏}‏ أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية لعطفك ‏{‏وتؤي‏}‏ أي تضم وتقرب بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع وبغير جماع تخصيصاً له بذلك عن سائر الرجال ‏{‏إليك من تشاء‏}‏ وسيب نزول هذه الآية أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن‏:‏ يا نبي الله‏!‏ اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت‏.‏ ودعنا على حالنا، فنزلت‏.‏

ولما كانت ربما مال إلى من فارقها، بين تعالى حكمها فقال‏:‏ ‏{‏ومن ابتغيت‏}‏ أي مالت نفسك إلى طلبها ‏{‏ممن عزلت‏}‏ أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة ‏{‏فلا جناح عليك‏}‏ أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد النكاح أو القسم‏.‏

ولما كانت المفارقة من حيث هي- ولا سيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها- أنها تكره الرجعة، أخبر سبحانه أن نساءه صلى الله عليه وسلم على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة، لما لك من الشرف ‏{‏أدنى‏}‏ أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في القرآن المعجز، إلى ‏{‏أن تقر أعينهن‏}‏ أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه- هذا إن كان من القرار بمعنى السكون، ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر، لأن المسرور تكون عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فلذلك يقال للصديق‏:‏ أقر الله عينك، وللعدو‏:‏ أسخن الله عينك ‏{‏ولا يحزن‏}‏ أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك ‏{‏ويرضين‏}‏ لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام من الإعجاز ‏{‏بما آتيتهن‏}‏ أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها‏.‏

ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع أكد فقال‏:‏ ‏{‏كلهن‏}‏ أي ليس منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك إن آويتها أو أرجأتها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم، فكان ذلك أقل لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار، وزاد ذلك تأكيداً لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله عطفاً على نحو ‏{‏فالله يعلم ما في قلوبهم‏}‏‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏يعلم‏}‏ أي علماً مستمراً لتعلق ‏{‏ما في قلوبكم‏}‏ أي أيها الخلائق كلكم، فلا بد إن علم ما في قلوب هؤلاء‏.‏

ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره من ودهن ذلك، لكونه صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب، زاده ترغيبا بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي أزلاً وأبداً ‏{‏عليماً‏}‏ أي بكل شيء ممن يطيعه ومن يعصيه ‏{‏حليماً *‏}‏ لا يعاجل من عصاه، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه، وحلمه مقتض للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديد، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره، روى البخاري في التفسير عن معاذة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ‏{‏ترجي من تشاء منهن‏}‏ الآية، قلت لها‏:‏ ما كنت تقولين‏؟‏ قالت‏:‏ كنت أقول له‏:‏ إن كان ذاك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً‏.‏

ولما أمره بما يشق من تغير العوائد في أمر العدة، ثم بما قد يشق عليه صلى الله عليه وسلم من تخصيصه بما ذكر خشية من طعن بعض من لم يرسخ إيمانه، وختم بما يسر أزواجه، وصل به ما يزيد سرورهن من تحريم غيرهن عليه شكراً لهن على إعراضهن عن الدنيا واختيارهن الله ورسوله فقال‏:‏ ‏{‏لا يحل لك النساء‏}‏ ولما كان تعالى شديد العناية به صلى الله عليه وسلم لوّح له في آية التحريم إلى أنه ينسخه عنه، فأثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد‏}‏ أي من بعد من معك من هؤلاء التسع- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه، شكراً من الله لهن لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله، فتكون الآية منسوخة بمت تقدم عليها في النظم وتأخر عنها في الإنزال من آية ‏{‏إنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ وفي رواية أخرى من بعد ‏{‏اللاتي أحللنا لك‏}‏ بالصفة المتقدمة من بنات العم وما معهن، ويؤيدها ما تقدمت روايته عن أم هانئ رضي الله عنها‏.‏

ولما كان ربما فهم أن المراد الحصر في عدد التسع، لا بقيد المعينات، قال‏:‏ ‏{‏ولا أن تبدل بهن‏}‏ أي هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي شيئاً من ‏{‏أزواج‏}‏ أي بأن تطلق بعض هؤلاء المعينات وتأخذ بدلها من غيرهن بعقد النكاح بحيث لا يزيد العدد على تسع، فعلم بهذا أن الممنوع منه نكاح غيرهن مع طلاق واحدة منهن أولاً، وهو يؤيد الرواية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما لأن المتبدل بها لا تكون إلا معلومة العين، والجواب عن قول أم هانئ رضي الله عنها أنه فهم منها، لا رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عند موت واحدة منهن فلا حرج في نكاح واحدة بدلها‏.‏

ولما علم من هذا المنع من كل زوجة بأيّ صفة كانت، أكد معنى وحققه، وصرح به في قوله حالاً من فاعل «تبدل»‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك حسنهن‏}‏ أي النساء المغايرات لمن معك، وفي هذا إباحة النظر إلى من يراد نكاحها لأن النظرة الأولى لا تكاد تثبت ما عليه المرئي من حاق الوصف؛ ولما كان لفظ النساء شاملاً للأزواج والإماء، بين أن المراد الأزواج فقط بقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما ملكت يمينك‏}‏ أي فيحل لك منهن ما شئت، وقد ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة رضي الله عنها من سبي بني قريظة، واستمرت في ملكه مدة لا يقربها حتى أسلمت، ثم ملك بعد عام الحديبية مارية رضي الله عنها أو ولده إبراهيم عليه السلام‏.‏

ولما تقدم سبحانه في هذه الآيات فأمر ونهى وحد حدوداً، حذر من التهاون بشيء منها ولو بنوع تأويل فقال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي لا شيء أعظم منه، وهو المحيط بجميع صفات الكمال ‏{‏على كل شيء رقيباً‏}‏ أي يفعل فعل المراعي لما يتوقع منه من خلل على أقرب قرب منه بحيث لا يفوت مع رعايته فائت من أمر المرعى، ولا يكون الرقيب إلا قريباً، ولا أقرب من قرب الحق سبحانه، فلا أرعى من رقبته، وهو من أشد الأسماء وعيداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما كان القرب والإحاطة لله، كان بالحقيقة لا رقيب إلا هو، والآية على كل حال منسوخة إن قلنا بالاحتمال الأول أو الثاني، فقد روى الترمذي في التفسير عن عائشة رضي الله عنها وناهيك بها ولا سيما في هذا الباب أنها قالت‏:‏ ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء، وقال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح- انتهى‏.‏ ونقل ابن الجوزي عنها رضي الله عنها أن الناسخ آية ‏{‏أنا أحللنا لك أزواجك‏}‏ وكذا عن جماعة منهم علي وابن عباس وأم سلمة رضي الله عنهم، ولكن صلى الله عليه وسلم ترك ذلك أدباً مع الله تعالى حيث عبر في المنع بصيغة الخبر والفعل المضارع، ورعاية أشار الله إليه من رعاية حقهن في اختيارهن من الدار الآخرة‏.‏

ولما قصره صلى الله عليه وسلم عليهن، وكان قد تقدم إليهن بلزوم البيوت وترك ما كان عليه الجاهلية من التبرج، أرخى عليهن الحجاب في البيوت ومنع غيره صلى الله عليه وسلم مما كانت العرب عليه من الدخول على النساء لما عندهم من الأمانة في ذلك، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل هذا الدين لما ذكر في سبب نزولها، ولأن المؤمنين كانوا منتهين عن ذلك بغير ناه كما يدل عليه ما يأتي من قول عمر رضي الله عنه في الحجاب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا الإيمان صدقوا دعواكم فيه بأن ‏{‏لا تدخلوا‏}‏ مع الاجتماع، فالواحد من باب الأولى‏.‏

ولما كان تشويش الفكر ربما كان شاغلاً عن شيء مما يبنئ الله به كما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم «بينت لي ليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فأنسيتها»- أو كما قال صلى الله عليه وسلم، عبر بصفة النبوة في قوله‏:‏ ‏{‏بيوت النبي‏}‏ أي الذي يأتيه الإنباء من علام الغيوب بما فيه غاية رفعته، في حال من الأحوال أصلاً ‏{‏إلا‏}‏ في حال ‏{‏أن يؤذن لكم‏}‏ أي ممن له الإذن في بيوته صلى الله عليه وسلم منه أو ممن يأذن له في ذلك، منتهين ‏{‏إلى طعام‏}‏ أي أكله، حال كونكم ‏{‏غير ناظرين إناه‏}‏ أي وقت ذلك الطعام وبلوغه واستواءه للأكل، فمنع بهذا من كان يتحين طعام النبي صلى الله عليه وسلم، لأن في ذلك تكليفاً له صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه جداً، فإنه ربما كان ثم من هو أحوج إلى ذلك الطعام من المتحين أو غير ذلك من الأعذار، فلا يتوجه الخطاب إلى غير أهل السن السافل، ومن وقعت له فلتة ممن فوق رتبتهم دخل في خطابهم بما أنزل من رتبته، والتعبير باسم الفاعل المجرد في «ناظرين» أبلغ في النهي‏.‏

ولما كان هذا الدخول بالإذن مطلقاً، وكان يراد تقييده، وكان الأصل في ذلك‏:‏ فإذا دعيتم- إلى آخره، ولكن لما كان المقام للختم بالجزم فيما يذكر، وكان للاستدراك أمر عظيم من روعة النفس وهزها للعلم بأن ما بعده مضاد لما قبله قال‏:‏ ‏{‏ولكن إذا دعيتم‏}‏ أي ممن له الدعوة ‏{‏فادخلوا‏}‏ أي لأجل ما دعاكم له؛ ثم سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فإذا طعمتم‏}‏ أي أكلتم طعاماً أو شربتم شراباً ‏{‏فانتشروا‏}‏ أي اذهبوا حيث شئتم في الحال، ولا تمكثوا بعد الأكل لا مستريحين لقرار الطعام في بطونكم ‏{‏ولا مستأنسين لحديث‏}‏ أي طالبين الأنس لأجله، قال حمزة بن نضر الكرماني في كتابه جوامع التفسير‏:‏ قال الحسن‏:‏ حسبك في الثقلاء أن الله لم يتجوز في أمرهم- انتهى، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ حسبك بالثقلاء أن الله لم يحتملهم، ثم علل ذلك بقوله مصوباً الخطاب إلى جميعه، معظماً له بأداة البعد‏:‏ ‏{‏إن ذلكم‏}‏ أي الأمر الشديد وهو المكث بعد الفراغ من الأكل والشرب ‏{‏كان يؤذي النبي‏}‏ أي الذي هيأناه لسماع ما ننبئه به مما يكون سبب شرفكم وعلوكم في الدارين، فاحذروا أن تشغلوه عن شيء منه فننبئه بشيء تهلكون فيه‏.‏ ثم سبب عن ذلك المانع له من مواجهتهم بما يزيل أذاه فقال‏:‏ ‏{‏فيستحيي‏}‏ أي يوجد الحياء، وأصله إيجاد الحياة‏.‏ كأن من لا حياء له جماد لا حياة له ‏{‏منكم‏}‏ أي أن يأمركم بالانصراف ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر ‏{‏لا يستحيي من الحق‏}‏ أي لا يفعل فعل المستحيي فيؤديه ذلك إلى ترك الأمر به‏.‏

ولما كان البيت يطلق على المرأة لملازمتها له عادة، أعاد الضمير عليه مراداً به النساء استخداماً فقال‏:‏ ‏{‏وإذا سألتموهن‏}‏ أي الأزواج ‏{‏متاعاً‏}‏ أي شيئاً من آلات البيت ‏{‏فسئلوهن‏}‏ أي ذلك المتاع، كائنين وكائنات ‏{‏من وراء حجاب‏}‏ أي ستر يستركم عنهن ويسترهن عنكم ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة الذي أنبئكم جميعكم به من السؤال من وراء حجاب وغيره ‏{‏أطهر لقلوبكم وقلوبهن‏}‏ أي من وساوس الشيطان التي كان يوسوس بها في أيام الجاهلية قناعة منه بما كانوا في حبالته من الشرك ‏{‏وما كان لكم‏}‏ أي وما صح وما استقام في حال من الأحوال ‏{‏أن تؤذوا‏}‏ وذكرهم بالوصف الذي هو سبب لسعادتهم واستحق به عليهم من الحق ما لا يقدرون على القيام بشكره فقال‏:‏ ‏{‏رسول الله‏}‏ صلى الله عليه وسلم، أي الذي له جميع الكمال فله إليكم من الإحسان ما يستوجب منكم به غاية الإكرام والإجلال، فضلاً عن الكف عن الأذى، فلا تؤذوه بالدخول إلى شيء من بيوته بغير إذنه أو المكث بعد فراغ الحاجة ولا بغير ذلك‏.‏

ولما كان قد قصره صلى الله عليه وسلم عليهن، ولزم ذلك بعد أن أحل له غيرهن قصرهن عليه بعد الموت زيادة لشرفه وإظهاراً لمزيته فقال‏:‏ ‏{‏ولا أن تنكحوا‏}‏ أي فيما يستقبل من الزمان، ‏{‏أزواجه من بعده‏}‏ أي بعد فراقه لمن دخل منهن بموت أو طلاق لما تقدم أنه حي لم يمت ‏{‏أبداً‏}‏ فإن العدة منه ينبغي أن لا تنقضي لما له من الجلال والعظمة والكمال، وهو حي في قبره لا يزال، وثم علة أعم من هذه لمسها في الميراث، وهي قطع الأطماع عن امتدادها إلى شيء من الدنيا بعده لئلا يتمنى أحد موته صلى الله عليه وسلم ليأخذ ذلك فيكفر لأنه لا إيمان لمن لا يقدمه على نفسه، وأما العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتزوجت غيره فكان أمرها قبل نزول هذه الآية- ذكره البغوي عن معمر عن الزهري‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن ذلكم‏}‏ أي الإيذاء بالنكاح وغيره الذي ينبغي أن يكون على غاية البعد ‏{‏كان عند الله‏}‏ أي القادر على كل شيء ‏{‏عظيماً *‏}‏ وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أشياء، روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ بعثتني أم سليم رضي الله عنها برطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على طبق في أول ما أينع ثمر النخل قال‏:‏ فدخلت عليه فوضعته بين يديه فأصاب منه ثم أخذ بيدي فخرجنا وكان حديث عهد بعرس زينب بنت جحش رضي الله عنها، قال‏:‏ فمر بنساء من نسائه وعندهن رجال يتحدثون فهنأنه وهنأه الناس فقالوا‏:‏ الحمد لله الذي أقر بعينك يا رسول الله، فمضى حتى أتى عائشة رضي الله عنها، فإذا عندها رجال، قال‏:‏ فكره ذلك، وكان إذا كره الشيء عرف في وجهه، قال‏:‏ فأتيت أم سليم فأخبرتها، فقال أبو طلحة رضي الله عنه‏:‏ لئن كان ما قال ابنك حقاً ليحدثن أمر، قال‏:‏ فلما كان من العشي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم تلا هذه الآية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ الآية، قال‏:‏ وأمر بالحجاب وأصله في التفسير من جامع الترمذي، وروى البخاري وغيره عنه رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب رضي الله عنها، فقالت لي أم سليم‏:‏ لو أهدينا للنبي صلى الله عليه وسلم هدية‏!‏ فقلت لها‏:‏ افعلي، فعمدت إلى تمر وأقط وسمن، فاتخذت حيسة في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فقال لي‏:‏ ضعها، ثم أمرني فقال لي‏:‏ ادع لي رجالاً- سماهم- وادع لي من لقيت، ففعلت الذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله- وفي رواية الترمذي ان الراوي قال‏:‏ قلت لأنس‏:‏ كم كانوا‏؟‏ قال‏:‏ زهاء ثلاثمائة- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله ثم جعل يدعو عشرة عشرة يأكلون منه، ويقول لهم‏:‏ اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجل مما يليه، حتى تصدعوا كلهم عنها، قال الترمذي‏:‏ فقال لي‏:‏ يا أنس، ارفع، فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أو حين رفعت- فخرج منهم من خرج وبقي نفر يتحدثون، قال‏:‏ وجعلت أغتم- قال الترمذي‏:‏ ورسول الله جالس وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقال عبد الرزاق في تفسيره‏:‏ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً- ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات وخرجت في أثره، فقلت‏:‏ إنهم قد ذهبوا، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلو بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم‏}‏ الآية، وفي رواية الترمذي‏:‏ ثم رجع، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، فابتدروا الباب، فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأهن على الناس ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي‏}‏ الآية، وروى الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه- وهذا لفظ البخاري- في روايات قال‏:‏ بنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً، فيجيء قوم يأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون، فدعوت حتى ما أجد أحداً أدعو، فقلت‏:‏ يا نبي الله‏!‏ ما أجد أحداً أدعو، قال‏:‏ ارفعوا طعامكم، فجلسوا يتحدثون في البيت فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر، وفي رواية، ثلاثة رهط، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال‏:‏ السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله‏.‏

فقالت‏:‏ وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك‏!‏ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة رضي الله عنها‏.‏ ويقلن له كما قالت عائشة- رضي الله عنهن، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا القوم جلوس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقاً، نحو حجرة عائشة رضي الله عنها، وفي رواية‏:‏ أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب بنت جحش رضي الله عنها فأشبع الناس خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه، فيسلم عليهن ويدعو لهن، ويسلمن عليه ويدعون له، فلما رجع إلى بيته رأى رجلين جرى بهما الحديث، فلما رآهما رجع عن بيته، فلما رأى الرجلان نبي الله صلى الله عليه وسلم رجع عن بيته وثبا مسرعين، فما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو أخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة وأخرى خارجة أرخى الستر، وفي رواية‏:‏ فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي‏}‏ الآية، وللبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ احجب نساءك قالت‏:‏ فلم يفعل، وكان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع، خرجت سودة بنت زمعة وكانت امرأة طويلة رضي الله عنها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المجلس فقال‏:‏ عرفتك يا سودة، حرصاً على أن ينزل الحجاب، قالت‏:‏ فأنزل الله عز وجل الحجاب وللبخاري عن أنس رضي الله عنه ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما عن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يتحجبن، فنزلت آية الحجاب، وروي في السبب أشياء غير هذه، وقد تقدم أنه ليس ببدع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب مستوية الدرجة، أو بعضها أقرب من بعض، على أنه قد روى البخاري في التفسير في سياق هذه الآية ما هو صريح في أن قصة سودة بعد الحجاب عن عائشة رضي الله عنها، قالت‏:‏ خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ يا سودة‏!‏ أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت‏:‏ فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه يتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت‏:‏ فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال‏:‏ قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن وهؤلاء الذين جلسوا- والنبي صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الكراهة لجلوسهم بما ذكر من هيئته في حيائه وتهيئه للقيام ونحو ذلك- لم يستثمروا الفقه من أحواله، بل كانوا واقفين عندما يسمعونه من مقاله، وطريقة الكمل الاستبصار برسمه وحاله كما يستبصرون من قاله وفعاله، قال الحرالي‏:‏ الحال كل هيئة تظهر عن انفعال باطن، ويختص بتفهمها المشاهد المتوسم، وذلك كضحكه صلى الله عليه وسلم للذي رآه يوم خيبر وقد أخذ جراب شحم من فيء يهود وهو يقول‏:‏ لا أعطي اليوم من هذا أحداً شيئاً، وكتغير وجهه لعمر رضي الله عنه لما أخذ يقرأ عليه صحيفة من حكم الأولين حتى نبه عمر رضي الله عنه من توسم في وجهه صلى الله عليه وسلم الكراهة لفعل عمر، وإنباء كل حال منها يحسب ما يفيده الانفعال من الانبساط والانقباض والإعراض ونحو ذلك مما يتوسمه المتفطن، ويقطع بمقتضاه المتفهم، وأما الرسم فهو كل ما شأنه البقاء بعد غيبته ووفاته، فيتفهم منه المعتبر حكم وضعه ومقصد رسمه، كالذي يشاهد من هيئة بنائه مسجده على حال اجتزاء بأيسر ممكن وكبنائه بيوته على هيئة لا تكلف فيها، ولا مزيد علة مقدار الحاجة، وكمثل الكساء الملبد الذي تركه، وفراشه ونحو ذلك من متاع بيوته، وكما يتفهم من احتفاله في أداة سلاحه مثل كون سيفه محلى بالفضة وقبضته فضة، ومثل احتفاله بالتطيب حتى كان يرى في ثوبه وزره، فيتعرف من رسومه أحكامه، كما يتعرف من أحواله وأفعاله وأقواله، وذلك لأن جميع هذه الإبانات كلها هي حقيقة ما هو الكلام- انتهى‏.‏

وبرهان ذلك أن الأصل في الكل الكلام النفسي الذي هو المنشأ، والقول والفعل والحال والرسم مترجمة عنه، وليس بعضها أحق بالترجمة من بعض، نعم بعضها أدل من بعض وأنص وأصرح، فتهيؤ النبي صلى الله عليه وسلم للقيام من بيته مثل لو قال‏:‏ أريد أن تذهبوا، فإنه يلزم من قيام الرجل من بيته الذي هو محل ما يستره عن غيره أن يريد ذهاب، غيره منه لئلا يطلع على ما لا يحب أن يطلع عليه أحد، وإتيانه ليدخل فإذا رآهم رجع مثل لو قال‏:‏ إنما يمنعني من الدخول إلى محل راحتي جلوسكم فيه لثقل جلوسكم عليّ، وكذا الأحوال والرسول- والله الهادي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما كان بعض الدال على الكلام- كما مر- أصرح من بعض، فكان الإنسان قد يضمر أن يفعل ما يؤذي إذا تمكن، وقد يؤذي بفعل يفعله، ويدعي أنه قصد شيئاً آخر مما لا يؤدي، قال تعالى حاملاً لهم على التفطن والتنبه في الأقوال وغيرها والمقاصد الحسنة ظاهراً وباطناً، على طريق الاستئناف في جواب من ربما انتهى بظاهره، وهو عازم على أن يفعل الأذى عند التمكن‏:‏ ‏{‏إن تبدوا‏}‏ أي بألسنتكم أو غيرها ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من ذلك وغيره ‏{‏أو تخفوه‏}‏ أي في صدروكم‏.‏

ولما كان فعل من يخفي أمراً عن الناس فعل من يظن أنه يخفى على ربه، قال مؤكداً تنبيهاً لفاعل ذلك على هذا اللازم لفعله ترهيباً له‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏كان‏}‏ أزلاً وأبداً به، هكذا كان الأصل ولكنه أتى بما يعمه وغيره فقال‏:‏ ‏{‏بكل شيء‏}‏ أي من ذلك وغيره ‏{‏عليماً *‏}‏ فهم يعلم ما أسررتم وما أعلنتم وإن بالغتم في كتمه، فيجازي عليه من ثواب أو عقاب‏.‏

ولما كان المقصود كما تقدم تغليظ الحجاب على ذوات الخدور، وكان قد ذكر في هذه السورة خصائص وتغيير أحكام للنبي صلى الله عليه وسلم ولأزواجه رضي الله عنهن ولغيرهم، كان ربما ظن أن الحجاب تغير أو شيء منه بالنسبة إلى الدخول أو غيره، فاستثنى من عمّه النهي السابق عن الدخول على وجه يعم جميع النساء على نحو ما تقدم في سورة النور فقال‏:‏ ‏{‏لا جناح‏}‏ أي إثم ‏{‏عليهن في آبائهن‏}‏ دخولاً وخلوة من غير حجاب، والعم والخال وأبو الزوج بمصير الزوجين كالشيء الواحد بمنزلة الوالد ‏{‏ولا أبنائهن‏}‏ أي من البطن أو الرضاعة، وابن الزوج بمنزلة الولد، وترك ذكرهم يفهم أن الورع الحجاب عنهم ‏{‏ولا إخوانهن‏}‏ لأن عارهن عارهم ‏{‏ولا أبناء إخوانهن‏}‏ فإنهن بمنزلة آبائهم ‏{‏ولا أبناء أخواتهن‏}‏ فإنهن بمنزلة أمهاتهم ‏{‏ولا نسائهن‏}‏ أي المسلمات القربى منهن والبعدى بمنزلة واحدة، وأما الكافرات فهن بمنزلة الأجانب من الرجال ‏{‏ولا ما ملكت أيمانهن‏}‏ لأنهم لما لهن عليهم من السلطان تبعد منهم الريبة هيبة لهن مع مشقة الاحتجاب عنهم‏.‏

ولما كانت الريبة ليست مقطوعاً بنفيها، وكانت من جهة النساء أكثر، لأنه لا يكاد رجل يتعرض إلا لمن ظن بها الإجابة لما يرى من مخايلها أو مخايل أشكالها، أقبل عليهن بالخطاب لأنه أوقع في النفس، فقال آمراً عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فأظهرن على من شئتن من هؤلاء‏:‏ ‏{‏واتقين الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه، فلا تقربن شيئاً مما يكرهه، وطوى ما عطف عليه الأمر بالتقوى بعد أن ساق نفي الجناح في أسلوب الغيبة، وأبرز الأمر بها وجعله في أسلوب الخطاب إيذاناً بأن الورع ترك الظهور على أحد غير من يملك التمتع، فإن دعت حاجة كان مع الظهور حجاب كثيف من الاحتشام والأدب التام‏.‏

ولما كان الخوف لا يعظم إلا ممن كان حاضراً مطلقاً، قال معللاً مؤكداً تنبيهاً على أن فعل من يتهاون في شيء من أوامره فعل من لا يتقي، ومن لا يتقي كمن يظن أنه سبحانه غير مطلع عليه‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي العظيم الشأن ‏{‏كان‏}‏ أزلاً وأبداً ‏{‏على كل شيء‏}‏ من أفعالكن وغيرها، ولمزيد الاحتياط والورع في ذلك عبر بقوله‏:‏ ‏{‏شهيداً *‏}‏ أي لا يغيب عنه شيء وإن دق، فهو مطلع عليكن حال الخلوة ممن ذكر، كما هو مطلع على غير ذلك فليحذره كل أحد في حال الخلوة كما يحذره في حال الجلوة، فيا لها من عظمة باهرة، سطوة ظاهرة قاهرة، يحق لكل أحد أن يبكي منها الدماء فضلاً عن الدموع، وأن تمنعه مريح القرار ولذيذ الهجوع، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «أستأذن عليّ أفلح أخو أبي القعيس رضي الله عنه بعد ما أنزل الحجاب، فقلت‏:‏ لا آذن له حتى استأذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم فإن أخاه أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما يمنعك‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فقال‏:‏ ائذني له فإنه عمك تربت يمينك، قال عروة‏:‏ فلذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ حرموا من الرضاعة ما تحرموا من النسب»‏.‏

ولما كانت هذه الآيات وما قبلها وما بعدها في إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم وبيان مناقبه، علل الأوامر فيها والنواهي وغيرها بقوله، مؤكداً لاقتضاء الحال ذلك أما ممن آذاه بالجلوس في غير حينه فواضح، وأما غيره فكان من حقهم أن لا يفارقوا المجلس حتى يعلموا من لا يعرف الأدب، فكان تهاونهم في ذلك فعل من لا يريد إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم فهو تأديب وترهيب‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي وعملكم محيط بأن له مجامع الكبر والعظمة والعز ‏{‏وملائكته‏}‏ أي وهم أهل النزاهة والقرب والعصمة‏.‏

ولما كان سبحانه قد قدم قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي يصلي عليكم وملائكته‏}‏ فأفرد كلاً بخبر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلى المخاطبين حظاً فإنه رأس المؤمنين، أفرده هنا بهذه الصلاة التي جمع فيها الملائكة الكرام معه سبحانه وجعل الخبر عنهم خبراً واحداً ليكون أتم، فإن قولك‏:‏ فلان وفلان ينصران فلاناً، أضخم من قولك‏:‏ فلان ينصره وفلان، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يصلون على النبي‏}‏ أي يظهرون شرفه وما له من الوصلة بالملك الأعظم بما يوحيه الله إليه من عجائب الخلق والأمر من عالم الغيب والشهادة، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما كما رواه البخاري‏:‏ «يبركون»‏.‏

ولما كانت ثمرة المراد بهذا الإعلام التأسي، علم بآخر الكلام أن المعنى‏:‏ ويسلمون عليه لأن ذلك من تمام الوصلة التي يدور عليها معنى الصلاة فأنتج ذلك قطعاً تفسير المراد بيصلون‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ‏{‏صلوا عليه‏}‏ بعدم الغفلة عن المبادرة إلى إظهار شرفه في حين من الأحيان تصديقاً لدعواكم، ولأن الكبير إذا فعل شيئاً بادر كل محب له معتقد لعظمته إلى فعله ‏{‏وسلموا‏}‏‏.‏

ولما كان المراد بكل من الصلاة والسلام إظهار الشرف، وكان السلام أظهر معنى في ذلك، وكان تحيته عن اللقاء واجباً في التشهد بلا خلاف، ودالاً على الإذعان لجميع أوامره الذي لا يحصل الإيمان إلا به، وهو من المسلم نفسه، وأما الصلاة فأنها يطلبها المصلي من الله، أكدهما به فقال‏:‏ ‏{‏تسليماً *‏}‏ أي فأظهورا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه من حسن متابعته وكثرة الثناء الحسن عليه والانقياد لأمره في كل ما يأمر به، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم على نحو ما علمكم في التشهد وغيره مما ورد في الأحاديث عن أبي سعيد الخدري وكعب بن عجرة وغيرهما رضي الله عنهم بيان التقاء الصلاة والسلام في إظهار الشرف فإن الصلاة- كما قال في القاموس- الدعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله عز وجل وعبادة فيها ركوع وسجود- انتهى‏.‏ والسلام هو التحية والتحية- كما قال البيضاوي في تفسير سورة النساء- في الأصل مصدر حياك الله على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للحكم والدعاء بذلك، ثم قيل لكل دعاء، فغلب في السلام، وفي القاموس‏:‏ التحية‏:‏ السلام والبقاء والملك، وحياك الله‏:‏ أبقاك أو ملكلك، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في جامعه‏:‏ السلام اسم من أسماء الله، والسلام ههنا بمعنى السلامة، كما يقال الرضاع والرضاعة، واللذاذ واللذاذة، قالوا‏:‏ ومعنى قول القائل لصاحبه‏:‏ سلام عليك أي قد سلمت مني لا أنالك بيد ولا لسان، وقيل‏:‏ معناه السلامة من الله عليكم، وقيل‏:‏ هو الرحمة، وقيل‏:‏ الأمان، والسلامة هي النجاة من الآفات- انتهى‏.‏ فقد ظهر أن معنى الكل كما ترى ينظر إلى إظهار الشرف نظر الملزوم إلى اللازم، ولذلك فسر البيضاوي يصلون بقوله‏:‏ يعنتون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه، وسلموا بقوله‏:‏ قولوا السلام عليك، أو انقادوا لأوامره، فلما تآخيا في هذا المعنى، وكان هو المراد أكد بلفظ السلام تحصيلاً لتمام المقصود بدلالته على الانقياد فهو مؤكد لصلوا بمعناه ولسلموا بلفظه، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه كما هو مذهب إمامنا الشافعي رضي الله عنه، ومثل بآية النساء

‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43، المائدة‏:‏ 6‏]‏ وغير ذلك، وقد بينت في سورة الرعد أن مادة «صلوا» بجميع تراكيبها تدور على الوصلة وهي لازمة لكل ما ذكر من تفسيرها، هذا ولك أن تجعله من الاحتباك فتقول‏:‏ حذف التأكيد أولاً لفعل الصلاة لما دل عليه من التأكيد بمصدر السلام، ويرجح إظهار مصدر السلام بما تقدم ذكره، وحذف متعلق السلام لدلالة متعلق الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وليصلح أن يكون عليه وأن يكون له، فيصلح أن يجعل التسليم بمعنى الإذعان- والله هو الموفق للصواب‏.‏