فصل: الجزء السادس عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء السادس عشر

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم الظهور، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام، كما يكون بالإعطاء والإنعام، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً ‏{‏لله‏}‏ أي وحده‏.‏

ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك، قال دالاً على استحقاقه للمحامد‏:‏ ‏{‏فاطر‏}‏ أي مبتدئ ومبتدع ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفرداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار‏:‏ ‏{‏جاعل الملائكة رسلاً‏}‏ أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين ‏{‏أولي أجنحة‏}‏ أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين‏.‏ ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال‏:‏ ‏{‏وثلاث‏}‏ أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم‏.‏ ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال‏:‏ ‏{‏ورباع‏}‏ أي أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم‏.‏

ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك‏:‏ ‏{‏يزيد في الخلق‏}‏ أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها- وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال‏:‏ أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ولم يدع بشيء منها لبساً‏:‏ ‏{‏ما يشاء‏}‏ فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لجميع أوصاف الكمال ‏{‏على كل شيء قدير *‏}‏ فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه، وأنه الأهل للحمد والمستحق، إذ الكل خلقه وملكه، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 22‏]‏ تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى ‏{‏جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى‏}‏ الآية، وقوله ‏{‏ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً‏}‏ الآية، وقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ الآية ‏{‏والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل‏}‏ ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها‏}‏ ‏{‏هو الذي جعلكم خلائف في الأرض‏}‏ ‏{‏إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا‏}‏ فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام، وقوله سبحانه ‏{‏قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثال ذرة‏}‏ الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج من هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي- رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه- انتهى‏.‏

ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، فقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ أي مهما ‏{‏يفتح الله‏}‏ أي الذي لا يكافئه شيء‏.‏ ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال‏:‏ ‏{‏للناس‏}‏ ولما كان الإنعام مقصوداً بالذات محبوباً، وكانت رحمته سبحانه قد غلبت غضبه، صرح به فقال مبيناً للشرط في موضع الحال من ضميره أي يفتحه كائناً‏:‏ ‏{‏من رحمة‏}‏ أي من الأرزاق الحسية والمعنوية من اللطائف والمعارف التي لا تدخل تحت حصر دقت أو جلت فيرسلها ‏{‏فلا ممسك لها‏}‏ أي الرحمة بعد فتحه كما يعلمه كل أحد في نفسه أنه إذا حصل له خير لا يعدم من يود أنه لم يحصل، ولو قدر على إزالته لأزاله، ولا يقدر على تأثير ما فيه‏.‏

ولما كان حبس النعمة مكروهاً لم يصرح به، وترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذاناً بأن رحمته سبقت غضبه فقال‏:‏ ‏{‏وما يمسك‏}‏ أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه ‏{‏فلا مرسل له‏}‏ أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة‏.‏

ولما كان ربما ادعى فجوراً حال إمساك الرحمة أو النقمة أنه هو الممسك قال‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي بعد إمساكه، فمن كان في يده شيء فليمسك ما أتى به الله حال إيجاده بأن يعدمه‏.‏ ولما كان هذا ظاهراً في العزة في أمر الناس والحكمة في تدبيرهم عمم فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي هو فاعل ذلك والحال أنه وحده ‏{‏العزيز‏}‏ أي القادر على الإمساك والإرسال الغالب لكل شيء ولا غالب له ‏{‏الحكيم *‏}‏ الذي يفعل في كل من الإمساك والإرسال وغيرهما ما يقتضيه علمه به ويتقن ما أراد على قوانين الحكمة، فلا يستطاع نفض شيء منه‏.‏

ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده‏.‏ أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يقود إلى الشكر، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود، فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة ‏{‏اذكروا‏}‏ بالقلب واللسان ‏{‏نعمت الله‏}‏ أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه، ولما كانت نعمة عامة غامرة من كل جانب قال‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ أي في دفع ما دفع من المحن، وصنع ما صنع من المنن، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس- إسكانهم الحرم، وحفظهم من جميع الأمم، وتشريفهم بالبيت، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس‏.‏

ولما أمر بذكر نعمته، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته، فقال منبهاً لمن غفل، وموبخاً لمن جحد، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ ولما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده ب ‏{‏من‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏من خالق‏}‏ أي للنعم وغيرها، ولما كانت ‏{‏من‏}‏ للتأكيد، فكان ‏{‏خالق‏}‏ في موضع رفع، قرأ الجمهور قوله‏:‏ ‏{‏غير الله‏}‏ بالرفع، وجره حمزة والكسائي على اللفظ، وعبر بالجلالة إشارة إلى أنه المختص بصفات الكمال‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا، بل هو الخالق وحده، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول‏:‏ ‏{‏يرزقكم‏}‏ أي وحده‏.‏ ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال‏:‏ ‏{‏من السماء والأرض‏}‏ بالمطر والنبات وغيرهما‏.‏ ولما بين أنه الرزاق وحده انقطع أمل كل أحد من غيره حتى من نفسه فحصل الإخلاص فتعين أنه سبحانه الإله وحده فقال‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال‏:‏ ‏{‏فأنى‏}‏ أي فمن أيّ وجه وكيف ‏{‏تؤفكون *‏}‏ أي تصرفون وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما قررهم على ما تقدم وختم بالتوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الدين، نبه على أنه المقصود بالذات بذكر ما يعقبه في الأصل الثاني، وهو الرسالة من تصديق وتكذيب، فقال ناعياً على قريش سوء تلقيهم لآياته، وطعنهم في بيناته، مسلياً له صلى الله عليه وسلم، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فإن يصدقوك فهم جديرون بالتصديق لما قام على ذلك من الدلائل، وشهد به من المقاصد والوسائل‏:‏ ‏{‏وإن يكذبوك‏}‏ أي عناداً وقلة اكتراث بالعواقب فتأسّ بإخوانك ‏{‏فقد‏}‏ أي بسبب أنه قد ‏{‏كذبت رسل‏}‏ أي يا لهم من رسل‏!‏ وبني الفعل للمجهول لأن التسلية محطها، وقوع التكذيب لا تعيين المكذب، ونفى أن يرسل غيره بعد وجوده بقوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ وأفرد التكذيب بالذكر اهتاماً بالتسلية تنبيهاً على أن الأكثر يكذب، قال القشيري‏:‏ وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب مع العوام والأجانب من هذه الطريقة فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق أبداً منهم في مقاساة الأذية، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القراء المتقشفين‏.‏

ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح‏:‏ فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ أي وحده له الأمور كلها ‏{‏ترجع الأمور *‏}‏ أي حساً ومعنى، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل‏.‏

ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي الذين عندهم أهليه للتحرك إلى النظر‏.‏ ولما كانوا ينكرون البعث أكد قوله‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال وهو منزه عن كل شائبة نقص، فهو لا يجوز عليه في مجاري العادات للغنى المطلق أن يخلف الميعاد ‏{‏حق‏}‏ أي بكل ما وعد به من البعث وغيره وقد وعد أنه يردكم إليه في يوم تنقطع فيه الأسباب، ويعرض عن الأحساب والأنساب، ليحكم بينكم بالعدل، ثم سبب عن كونه حقاً قوله على وجه التأكيد لأجل الإنكار أيضاً‏:‏ ‏{‏فلا تغرنكم‏}‏ أي بأنواع الخدع من اللهو والزينة غروراً مستمر التجدد ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ فإنه لا يليق بذي همه عليه اتباع الدنيء، والرضى بالدون الزائل عن العالي الدائم ‏{‏ولا يغرنكم بالله‏}‏ أي الذي لا يخلف الميعاد وهو الكبير المتعالي ‏{‏الغرور *‏}‏ أي الذي لا يصدق في شيء وهو الشيطان العدو، ولذلك استأنف قوله مظهراً في موضع الإضمار للتنفير بمدلول الوصف قبل التذكير بالعداوة ووخامة العاقبة فيما يدعو إليه مؤكداً لأن أفعال المشايعين له بما يمنيهم به من نحو‏:‏ إن ربكم حليم، لا يتعاظمه ذنب، مع الإصرار على المعصية أفعال المتعقدين لمصادقته‏:‏ ‏{‏إن الشيطان‏}‏ أي المحترق بالغضب البعيد من الخير ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة فهو في غاية الفراغ لأذاكم، فاجتهدوا في الهرب منه ‏{‏عدو‏}‏ بتصويب مكايده كلها إليكم وبما سبق له مع أبيكم آدم عليه السلام بما وصل أذاه إليكم وأيضاً «من عادى أباك فقد عاداك»‏.‏

ولما كانت عداوته تحتاج إلى مجاهدة لأنه يأتي الإنسان من قبل الشهوات، عبر بصيغة الافتعال فقال‏:‏ ‏{‏فاتخذوا‏}‏ اي بغاية جهدكم ‏{‏عدواً‏}‏ والله لكم ولي فاتخذوه ولياً بأن تتحروا ما يغيظ الشيطان بأن تخالفوه في كل ما يريده ويأمر به، وتتعمدوا ما يرضاه الرحمن ونهجه لكم وأمركم به فتلتزموه، قال القشيري‏:‏ ولا يقوى على عداوته إلا بدوام الاستعانة بالرب فإنه لا يغفل عن عداوتك، فلا تغفل أنت عن مولاك لحظة‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنما يدعو حزبه‏}‏ أي الذين يوسوس لهم فيعرضهم لاتباعه والإعراض عن الله ‏{‏ليكونوا‏}‏ باتباعه كوناً راسخاً ‏{‏من أصحاب السعير *‏}‏ هذا غرضه لا غرض له سواه، ولكنه يجتهد في تعمية ذلك عنهم بأن يقرر في نفوسهم جانب الرجاء وينسيهم جانب الخوف، ويريهم أن التوبة في أيديهم ويسوف لهم بها بالفسحة في الأمل، والإبعاد في الأجل، للإفساد في العمل، والرحمن سبحانه إنما يدعو عباده ليكونوا من أهل النعيم ‏{‏والله يدعو إلى دار السلام‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 25‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما أنهى البيان في غرض الشيطان إلى منتهاه، نبه على ما حكم به هو سبحانه في أشياعه بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي غطو بالاتباع له بالهوى ما دلتهم عليه عقولهم وكشفه لهم غاية الكشف هذا البيان العزيز ‏{‏لهم عذاب شديد‏}‏ أي في الدنيا بفوات غالب ما يؤملون مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وانحجاب المعارف التي لا لذاذة في الحقيقة غيرها عنهم، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها‏.‏

ولما ذكر جزاء حزبه، اتبعه حزب الله الذين عادوا عدوهم فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ ولما كان من أعظم مصايد الشيطان ما يعرض للإنسان خطأ وجهلاً من العصيان، لما له من النقصان ليجره بذلك إلى العمد والعدوان، قال تعالى داعياً له إلى طاعته وإزالة لخجلته‏:‏ ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ أي ستر لذنوبهم بحيث لا عقاب ولا عتاب، وذلك معجل في هذه الدار، ولولا ذلك لافتضحوا وغداً، ولولا ذلك لهلكوا‏.‏ ولما محاها عيناً وأثراً، أثبت الإنعام فقال‏:‏ ‏{‏وأجر كبير *‏}‏ أي يجل عن الوصف بغير هذا الإجمال، فمنه عاجل بسهولة العبادة ودوام المعرفة وما يرونه في القلوب من وراء اليقين، وآجل بتحقيق المسؤول من عظيم المنة، ونيل ما فوق المأمول في الجنة‏.‏

ولما أبان هذا الكلام تفاوت الحزبين في المآل بالهلاك والفوز، وكان لا يقدم على الهلاك أحد في حس، وكان الكفار يدعون أنهم الفائزون قناعة بالنظر إلى ما هم فيه، ويدعون أنهم أبصر الناس وأحسنهم أعمالاً وكذا كل عاص ومبتدع، كان ذلك سبباً في إنكار تساويهما، فأنكره مبيناً السبب في ضلالهم بما فيه تسلية للمحسنين وندب إلى الشكر وحث على ملازمة الافتقار والذل وسؤال العافية من الزلل والزيغ فقال‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏ ولما كان الضار هو التزيين من غير نظر إلى فاعل معين بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏زين له سوء عمله‏}‏ أي قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بجمع مال ذاهب أو مذهوب عنه من غير خلة وبيع راحة الجنة المؤبدة بمتابعة شهوة منقية وإيثار مخلوق فإن على ربه الغني الباقي؛ ثم سبب عنه ما أنهى إليه من الغاية فقال‏:‏ ‏{‏فرآه‏}‏ أي السيئ بسبب التزيين، ‏{‏حسناً‏}‏ أي فركبه، بما أشار إليه إضافة العمل إليه، وطوى المشبه به وهو كمن أبصر الأمور على حقائقها فاتبع الحسن واجتنب السيئ، لأن المقام يهدي إليه، وتعجيلاً بكشف ما أشكل على السامع من السبب الحامل على رؤية القبيح، مُليحاً بقوله مؤكداً رداً على من ينسب إلى غير الله فعلاً من خير أو شر‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ أي السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه إن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يضل من يشاء‏}‏ فلا يرى شيئاً على ما هو به، فيقدم على الهلاك البين وهو يراه عين النجاة ‏{‏ويهدي من يشاء‏}‏ فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلإ حسناً‏.‏

ولما كان المحب من يرضى بفعل حبيبه، سبب عن ذلك النهي لأكمل خلقه عن الغم بسبب ضلالهم في قوله‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ والأحسن أن يقدر المشبه به هنا فيكون المعنى‏:‏ أفمن غير فعل القبيح فاعتقده حسناً لأن الله أضله بسبب أن الله هو المتصرف في القلوب كمن بصره الله بالحقائق‏؟‏

ولما كان الجواب‏:‏ لا، ليس هما سواء سبب عنه قولاً‏:‏ فلا ‏{‏تذهب‏}‏ أي بالموت أو ما يقرب منه ‏{‏نفسك عليهم‏}‏ أي بسبب ما هو فيه من العمى عن الجليات ‏{‏حسرات‏}‏ أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ إنهم يؤذون أولياءك فيشتد أذاهم، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة، قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بجميع أوصاف الكمال ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم ‏{‏بما يصنعون *‏}‏ أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه‏.‏

ولما أخبر تعالى أنه لا بد من إيجاد ما وعد به من البعث وغيره، وحذر كل التحذير من التهاون بأمره، وأنكر التسوية بين المصدق به والمكذب، وكان السبب في الضلال المميت للقلوب الهوى الذي يغشى سماء العقل ويعلوه بسحابه المظلم فيحول بينه وبين النفوذ، وكان السبب في السحاب المغطي لسماء الأرض المحيي لميت الحبوب الهوى، وكان الإتيان به في وقت دون آخر دالاً على القدرة بالاختيار، قال عاطفاً على جملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ المبني على النظر، وهو الإخراج من العدم مبيناً لقدرته على ما وعد به‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها ‏{‏الذي‏}‏ ولما كان المراد الإيجاد من العدم، عبر بالماضي مسنداً إليه لأنه الفاعل الحقيقي فقال‏:‏ ‏{‏أرسل الرياح‏}‏ أي أوجدها من العدم مضطربة فيها، أهلية الاضطراب والسير ليصرفها كيف شاء لا ثابتة كالأرض، وأسكنها ما بين الخافقين لصلاح مكان الأرض‏.‏

ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضاً، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة، وهكذا تفعل العرب فيما فيه غرابة تنبيهاً للسامع على ذلك وحثّاً له على تدبره وتصوره‏:‏ ‏{‏فتثير‏}‏ أي بتحريكه لها إذا أراد ‏{‏سحاباً‏}‏ أي أنه أجرى سبحانه سنته أن تظهر حكمته بالتدريج‏.‏

ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت، عبر بالمضارع‏.‏ ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏فسقناه‏}‏ أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى بلد ميت‏}‏‏.‏

ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال‏:‏ ‏{‏فأحيينا به الأرض‏}‏ ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير‏:‏ ‏{‏بعد موتها‏}‏ ولما أوصل الأمر إلى غايته، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل الإحياء لميت النبات ‏{‏النشور *‏}‏ حسّاً للأموات، ومعنى للقلوب والنبات، قال القشيري‏:‏ إذا أراد إحياء قلب يرسل أولاً رياح الرجاء، ويزعج بها كوامن الإرادة، ثم ينشئ فيه سحاب الاهتياج، ولوعة الانزعاج، ثم يأتي مطر الحق فينبت في القلب أزهار البسط وأنوار الروح، ويطيب لصاحبه العيش إلى أن تتم لطائف الإنس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا، وكانت منافسه الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال‏:‏ ‏{‏واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏ قال مستنتجاً من ذلك‏:‏ ‏{‏من كان‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏يريد العزة‏}‏ أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب ‏{‏فلله‏}‏ أي وحده ‏{‏العزة جميعاً‏}‏ أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره، فإنه لا شيء لغيره فيها ومن طلب الشيء من غير صاحب خاب؛ قال ابن الجوزي‏:‏ وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إن ربكم يقول كل يوم‏:‏ أنا العزيز فمن أرادة عزة الدارين فليطع العزيز»‏.‏

ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال‏:‏ ‏{‏إليه‏}‏ أي لا إلى غيره ‏{‏يصعد الكلم الطيب‏}‏ أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً علناً لأنه عين الحكمة، فيعز صاحبه ويثيبه‏.‏

ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق‏:‏ ‏{‏والعمل الصالح يرفعه‏}‏ هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع‏:‏ العلم إنما يتم العمل كما قيل‏:‏ العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل- انتهى، وقد قيل‏:‏

لا ترض من رجل حلاوة قوله *** حتى يصدق ما يقول فعال

فإذا وزنت مقاله بفعاله *** فتوازنا فإخاء ذاك جمال

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال‏:‏ ‏{‏والذين يمكرون‏}‏ أي يعملون على وجه الستر المكرات ‏{‏السيئات‏}‏ أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة ‏{‏لهم عذاب شديد‏}‏ كما أرادوا بغيرهم ذلك، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة‏.‏ ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً‏؟‏ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال‏:‏ ‏{‏ومكر أولئك‏}‏ أي البعداء من الفلاح ‏{‏هو‏}‏ أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداد من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر ‏{‏يبور *‏}‏ أي يكسد ويفسد ويهلك، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته، وذلك معنى العزة، والآية من الاحتباك‏:‏ حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيئ وحذف وضعه المكر السيئ ودل عليه برفعه للعمل الصالح‏.‏

ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه ما كانوا عليه من الوحدة في جنس الأصل، وأصله التراب المسلول منه الماء بعد تخميره فيه وإن اختلفت أصنافه فقال مبيناً لبعض آيات الأنفس عاطفاً على ما عطف عليه ‏{‏والله الذي أرسل الرياح‏}‏ الذي هو من آيات الآفاق، منبهاً على أنه قادر على التمييز بعد شديد المزج وأنه قدر كل شيء من الأرزاق والآجال والمصائب والأفراح، فلا ثمرة للمكر إلا ما يلحق الماكر من الحرج والعقوبة من الله والضرر‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال؛ ولما لم يدع حاجة إلى الحصر قال‏:‏ ‏{‏خلقكم من تراب‏}‏ أي مثلي وإن اختلفت أصنافه بتكوين أبيكم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد ذلك من الزمان والرتبة خلقكم ‏{‏من نطفة‏}‏ أي جعلها أصلاً ثانياً مثلياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ثم بعد إنهاء التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار ‏{‏ثم جعلكم أزواجاً‏}‏ بين ذكور وإناث، دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار وكذب أهل الطبائع، وعلى البعث بتمييز ما يصلح من التراب للذكورة والأنوثة‏.‏

ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته‏:‏ ‏{‏وما تحمل‏}‏ أي في البطن بالحبل ‏{‏من أنثى‏}‏ دالاً بالجار على كمال الاستغراق‏.‏ ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال‏:‏ ‏{‏ولا تضع‏}‏ أي حملاً ‏{‏إلا‏}‏ مصحوباً ‏{‏بعلمه‏}‏ في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه‏.‏

ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد‏:‏ ‏{‏وما يعمر من معمر‏}‏ أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً، قال قتادة‏:‏ ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه ‏{‏ولا بنقص من عمره‏}‏ أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل، والذي عاد إليه الضمير المعمر بالقوة فهو من بديع الاستخدام، ولو كان التعبير بأحد لما صح هذا المعنى، وقراءة يعقوب بخلاف عن رويس بفتح الياء وضم القاف بالبناء للفاعل تشير إلى أن قصر العمر أكثر‏.‏

ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال‏:‏ ‏{‏إلا في كتاب‏}‏ مكتوب فيه «عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله»‏.‏

ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكداً لسهولته‏:‏ ‏{‏إن ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة ‏{‏يسير *‏}‏

ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم‏:‏ التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر‏:‏ الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي لا شيء بعدها والحال أنه يفرق بين هذه الأشياء المحسوسة لمباعدة ما فقال‏:‏ ‏{‏وما يستوي البحران‏}‏ ولما كانت الألف واللام للعهد، بيّنه بقوله مشيراً إلى الحلو‏:‏ ‏{‏هذا عذب‏}‏ أي طيب حلو لذيذ ملائم للطبع ‏{‏فرات‏}‏ أي بالغ العذوبة ‏{‏سائغ شرابه‏}‏ أي هنيء مريء بحيث إذا شرب جاز في الحلق ولم يتوقف بل يسهل إدخاله فيه وابتلاعه لما له من اللذة والملاءمة للطبع ‏{‏وهذا ملح أجاج‏}‏ أي جمع إلى الملوحة المرارة، فلا يسوغ شرابه، بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار، والمراد أمه ميزهما سبحانه بعد جمعهما في ظاهر الأرض وباطنها، ولم يدع أحدهما يبغي على الآخر، بل إذا حفر عل جانب البحر الملح ظهر الماء عذباً فراتاً على مقدار صلاح الأرض وفسادها‏.‏

ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال‏:‏ ‏{‏ومن كل‏}‏ أي من الملح والعذب ‏{‏تأكلون‏}‏ من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك ‏{‏لحماً طرياً‏}‏ أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم‏.‏ ولما ذكر من متاعه ما هو غاية في اللين، أتبعه من ذلك ما هو غاية في الصلابة فقال‏:‏ ‏{‏وتستخرجون‏}‏ أي تطلبون أن تخرجوا من الملح دون العذب وتوجدون ذلك للإخراج، قال البغوي‏:‏ وقيل‏:‏ نسب اللؤلؤ إليهما لأنه قد يكون في البحر الملح عيون عذبة تمتزج به فيكون اللؤلؤ من ذلك‏.‏

‏{‏حلية تلبسونها‏}‏ أي نساؤكم من الجواهر‏:‏ الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار‏.‏

ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال‏:‏ ‏{‏وترى الفلك‏}‏ أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها‏.‏

ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال‏:‏ ‏{‏مواخر‏}‏ أي جواري مستدبرة الريح شاقة للماء خارقة للهواء بصدرها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة؛ قال البخاري في باب التجارة في البحر‏:‏ وقال مجاهد‏:‏ تمخر السفن الريح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام؛ وقال صاحب القاموس‏:‏ مخرت السفينة كمنع مخراً ومخوراً‏:‏ جرت أو استقبلت الريح في جريتها، والفلك المواخر التي يسمع صوت جريها أو تشق الماء بجآجئها أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة، وفي الحديث‏:‏ إذ أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، وفي لفظ‏:‏ استمخروا الريح، أي اجعلو ظهوركم إلى الريح فإنه إذا ولاها شقها بظهره فأخذت عن يمينه ويساره، وقد يكون استقبالها تمخراً غير أنه في الحديث استدبار- انتهى كلام القاموس‏.‏ ثم علق بالمخر معللاً قوله‏:‏ ‏{‏لتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا طلباً شديداً‏.‏ ولما تقدم الاسم الأعظم في الآية قبلها، أعاد الضمير عليه ليعلم شدة ارتباط هذه الآية بالتي قبلها فقال‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ أي الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك، وفي سورة الجاثية ما ينفع هنا ‏{‏ولعلكم تشكرون *‏}‏ أي ولتكون حالكم بهذه النعم الدالة على عظيم قدرة الله ولطفه حال من يرجى شكره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه اختلاف الذوات الدال على بديع صنعه، أتبعه تغييره المعاني آية على بليغ قدرته، فقال في موضع الحال من فاعل «خلقكم» إشارة إلى أن الله تعالى صور آدم حين خلق الأرض قبل أن يكون ليل أو نهار ثم نفخ فيه الروح آخر يوم الجمعة بعد أن خلق النور يوم الأربعاء، فلم يأت على الإنسان حين من الدهر وهو مقدار حركة الفلك إلا وهو شيء مذكور‏:‏ ‏{‏يولج‏}‏ أي يدخل على سبيل الجولان ‏{‏الّيل في النهار‏}‏ فيصير الظلام ضياء‏.‏

ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة‏:‏ نبه عليه بإعادة الفعل فقال‏:‏ ‏{‏ويولج النهار في الّيل‏}‏ فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار‏.‏

ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال‏:‏ ‏{‏وسخر الشمس والقمر‏}‏ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي منهم ‏{‏يجري‏}‏ ولما كان مقصود السورة تمام القدرة، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد، ولذلك ختم الآية بالملك الناظر إلى القسر والقهر لم يصلح لهذا الموضع حرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏لأجل‏}‏ أي لأجل أجل ‏{‏مسمى‏}‏ مضروب له لا يقدر أن يتعداه، فإذا جاء ذلك الأجل غرب، هكذا كل يوم إلى أن يأتي الأجل الأعظم، فيختل جميع هذا النظام بأمر الملك العلام، ويقيم الناس ليوم الزحام، وتكون الأمور العظام‏.‏

ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له صفة كمال؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ أي وحده ‏{‏الملك‏}‏ أي كله وهو مالك كل شيء ‏{‏والذين تدعون‏}‏ أي دعاء عبادة، ثم بيّن منزلتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه ‏{‏ما يملكون‏}‏ أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام؛ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من قطمير *‏}‏ وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها، كناية عن أدنى الأشياء، فكيف بما فوقه وليس لهم شيء من الملك، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الملك أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والملك ثانياً دليلاً على حذفه أولاً؛ ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن تدعوهم‏}‏ أي المعبودات من دونه دعاء عبادة او استغاثة ‏{‏لا يسمعوا‏}‏ أي بحس السمع في وقت من الأوقات ‏{‏دعاءكم‏}‏ لأنهم جماد ‏{‏ولو سمعوا‏}‏ في المستقبل ‏{‏ما استجابوا لكم‏}‏ لأنهم إذ ذاك يعلمون أن إجابتكم لا ترضي الله، وهم مما أبى أن يحمل الأمانة ويخون فيها بالعمل بغير ما يرضي الله سبحانه، أو يكون المعنى‏:‏ ولو فرض أنه يوجد لهم سمع، أو ولو كانوا سامعين- ليدخل فيه من عبد من الأحياء- ما لزم من السماع إجابة، لأنه لا ملازمة بين السمع والنطق، ولا بين السمع والنطق مع القدرة على ما يراد من السامع، فإن البهائم تسمع وتجيب، والمجيبون غيره يجيبون ولا قدرة لهم على أكثر ما يطلب منهم‏.‏

ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أي حين ينطقهم الله ‏{‏يكفرون بشرككم‏}‏ أي ينكرونه ويتبرؤون منه‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ قد أنبأكم بذلك الخبير، وكانوا لا يقرون بذلك ولا يفهمونه حق فهمه ولا يعملون به، صرف الخطاب عنهم إلى من له الفهم التام والطاعة الكاملة، فقال عاطفاً على هذا الذي هدى إلى تقديره السياق‏:‏ ‏{‏ولا ينبئك‏}‏ أي إنباء بليغاً عظيماً على هذا الوجه بشيء من الأشياء، ‏{‏مثل خبير *‏}‏ أي بالغ الخبر، فلا يمكن الطعن في شيء مما أخبر به، وأما غيره فلا يخبر خبراً إلا يوجه إليه نقص‏.‏

ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع، أنتج ذلك قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي كافة ‏{‏أنتم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الفقراء‏}‏ أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازغكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي له جميع الملك؛ قال القشيري‏:‏ والفقر على ضربين‏:‏ فقر خلقة، وفقر صفة، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثانية ليديمه ويبقيه، وأما فقر الصفة فهو التجرد، ففقر العوام التجرد من المال، وفقر الخواص التجرد من الإعلال، فحقيقة الفقر المحمود تجرد السر عن المعلولات‏.‏

ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال‏:‏ ‏{‏والله هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الغني‏}‏ أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً‏.‏ ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفعك من نوع ذم، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء‏:‏ حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء، وبعض منها إلى غاية تمامه، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً، ولم يكن قائمه حميداً، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ولا حمد إلا في كل، ولذلك قال الغزالي‏:‏ الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية‏.‏

وكان سبحانه قد أفاض نعمه على خلقه، وأسبغها ظاهرة وباطنة، وجعل لهم قدرة على تناولها‏.‏ لا يعوق عنه إلا قدرته ‏{‏وما كان عطاء ربك محظوراً‏}‏ وكان لا ينقص ما عنده، كان إعطاؤه حمداً ومنعه حمداً، لأنه لا يكون مانعاً لغرض بل لحكمة تدق عن الأفكار فقال‏:‏ ‏{‏الحميد *‏}‏ أي كل شيء بنعمته عنده والمستحق للحمد بذاته، فأنتج ذلك قطعاً تهديداً لمن عصاه وتحذيراً شديداً‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ أي جميعاً ‏{‏ويأت بخلق جديد *‏}‏ أي غيركم لأنه على كل شيء قدير ‏{‏وما ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان ‏{‏على الله‏}‏ المحيط بجميع صفات الكمال خاصة ‏{‏بعزيز *‏}‏ أي بممتنع ولا شاق، وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما أنهى سبحانه بيان الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة بالتهديد بالأخذ، وكان الأخذ على وجه التهديد عقاباً، وكان العقاب لا يكون حكمه إلا عند الذنب، قال دالاً على أنه لا ينفك أحد عما يستحق به العقاب‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي يذهبكم عقوبة لكم بأوزاركم وقدرة عليكم والحال أنه لا ‏{‏تزر‏}‏ أي تحمل يوم القيامة أو عند الإذهاب، ولما لم تكن نفس متأهلة للحمل تخلو من وزر تحمله، والمعصوم من عصم الله، قال‏:‏ ‏{‏وازرة‏}‏ دون نفس، أي لا تحمل حاملة من جهة الإثم ‏{‏وزر‏}‏ أي حمل وثقل ‏{‏أخرى‏}‏ لتعذب به، بل كان واحد منكم له مما كسبت يداه ما ثقوم به عليه الحجة في الأخذ مباشرة وتسبباً مع تفاوتكم في الوزر، ولا يحمل أحد إلا ما اقترفه هو، لا تؤخذ نفس بذنب أخرى الذي يخصها كما تفعل جبابرة الدنيا‏.‏

ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ، نفى ذلك الإيهام ودل القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تدع‏}‏ أي نفس ‏{‏مثقلة‏}‏ أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره، أحداً ‏{‏إلى حملها‏}‏ أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف العذاب بسبب خفته ‏{‏لا يحمل‏}‏ أي من حامل ما ‏{‏منه شيء‏}‏ أي لا طواعية ولا كرهاً‏.‏ بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً ‏{‏ولو كان‏}‏ ذلك الداعي أو المدعو للحمل ‏{‏ذا قربى‏}‏ لمن دعاه، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم‏.‏

ولما كان هذا أمراً- مع كونه جلياً- خالعاً للقلوب، فكان بحيث يشتد تعجب السامع ممن يسمعه ولا يخشى، فقال مزيلاً لهذا العجب على سبيل النتيجة‏:‏ ‏{‏إنما تنذر‏}‏ أي إنذاراً يفيد الرجوع عن الغيّ، فلاختصاصهم بالنفع كانوا كأنهم مختصون بالإنذار، وهو كما قال القشيري‏:‏ الإعلام بموضع المخافة‏.‏ ‏{‏الذين يخشون‏}‏ أي يوقعون هذا الفعل في الحال ويواظبون عليه في الاستقبال‏.‏ ولما كان أعقل الناس من خاف المحسن لان أقل عقابة قطع إحسانه قال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏‏.‏

ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره، وكان لا يحتاج- مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله- إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك‏.‏

ولما كانت الصلاة جامعة لخضوع الظاهر والباطن، فكانت أشرف العبادات، وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص، قال معبراً بالماضي لأن مواقيت الصلاة مضبوطة‏:‏ ‏{‏وأقاموا‏}‏ أي دليلاً على خشيتهم ‏{‏الصلاة‏}‏ في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن كان على غير ذلك تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم‏.‏ ‏{‏ومن تزكّى‏}‏ أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن‏.‏ ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال‏:‏ ‏{‏فإنما يتزكّى لنفسه‏}‏ فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها ‏{‏وإلى الله‏}‏ الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره ‏{‏المصير *‏}‏ كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في النور وإن استويا في الإنسانية، عطف عليه ما يصلح أمثلة للمتدسي والمتزكي وما يكون به التدسية والتزكية، دلالة على تمام قدرته الذي السياق له من أول السورة، وتقريراً لأن الخشية والقسوة بيده إبطالاً لقول من يسند الأمور إلى الطبائع قوله‏:‏ ‏{‏وما يستوي‏}‏ أي في حالة من الأحوال‏.‏ ولما كان المقام لوعظ المشركين، وكان المتدسي قبل المتزكي على ما قرر قبله، ناسب أن ينظم على هذا الترتيب قوله مثالاً للكافر والمؤمن والجاهل والعالم، وقدم مثال الجاهل لأن الأصل عن الإرسال الجهل‏:‏ ‏{‏الأعمى والبصير *‏}‏ أي لا الصنفان ولا أفرادهما ولا أفراد صنف منهما، وأغنى عن إعادة النافي ظهور المفاوتة بين أفراد كل صنف من الصنفين، فالمعنى أن الناس غير مستوين في العمى والبصر بل بعضهم أعمى وبعضهم بصير، لأن افتعل هنا لمعنى تفاعل، ولعله عبر به دلالة على النفي ولو وقع اجتهاد في أن لا يقع، أو دلالة على أن المنفي إنما هو التساوي من كل جهة، لا في أصل المعنى ولو كان ذلك مستنداً إلى الطبع لكانوا على منهاج واحد بل وأفراد كل متفاوتون فتجد بعض العمى يمشي بلا قائد في الأزقة المشكلة، وآخر لا يقدر على المشي في بيته إلا بقائد، وآخر يدرك من الكتاب إذا جسه كم مسطرته من سطر، وهل خطه حسن أو لا، وآخر يدرك الدرهم الزيف من غيره، ويميز ضرب كل بلد من غيره، وربما نازعه أحد مغالطة فلا يقبل التشكيك، وآخر في غاية البعد عن ذلك، وأما البصراء فالأمر فيهم واضح في المفاوتة في أبصارهم وبصائرهم، وكل ذلك دليل واضح على أن الفاعل قادر مختار يزيد في الخلق ما يشاء، وإلا لتساوت الأفراد فكانوا على منهاج واحد‏.‏

ولما كان هذا من أغرب الأمور وإن غفل عنه لكثرة إلفه، نبه على غرابته ومزيد ظهور القدرة فيه بتكرير النافي في أشباهه وعلى أن الصبر لا ينفذ إلا في الظلمة، تنبيهاً على أن المعاصي تظلم قلب المؤمن وإن كان بصيراً، وقدم الظلمة لأنها أشد إظهاراً لتفاوت البصر مع المناسبة للسياق على ما قرر، فقال في عطف الزوج على الزوج وعطف الفرد على الفرد جامعاً تنبيهاً على أن طرق الضلال يتعذر حصرها‏:‏ ‏{‏ولا الظلمات‏}‏ التي هي مثال للأباطيل؛ وأكد بتكرير النافي كالذي قبله لأن المفاوتة بين أفراد الظلمة وأفراد النور خفية، فقال منبهاً على أن طريق الحق واحدة تكذيباً لمن قال من الزنادقة‏:‏ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق‏:‏ ‏{‏ولا النور *‏}‏ الذي هو مثال للحق، فما أبدعهما على هذا التضاد إلا الله تعالى الفاعل المختار، وفاوت بين أفراد النور وأفراد الظلمة، فما يشبه نور الشمس نور القمر ولا شيء منهما نور غيرهما من النجوم ولا شيء من ذلك نور السراج- إلى غير ذلك من الأنوار، وإذا اعتبرت أفراد الظلمات وجدتها كذلك، فإن الظلمات إنما هي ظلال، وبعض الظلال أكثف من بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما كان الظلام ينشأ عن الظلال، وهو نسخ النور، قدمه فقال مقدماً مثال الخير لأن الرحمة سبقت الغضب‏:‏ ‏{‏ولا الظل‏}‏ أي ببرده الذي هو مرجع المؤمن في الآخرة ‏{‏ولا الحرور *‏}‏ أي بوهجها، وهي مرجع الكافر، قال البغوي‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هي الريح الحارة بالليل، وكذا قال في القاموس وزاد‏:‏ وقد يكون بالنهار وحر الشمس والحر الدائم والنار، فانتفى حكم الطبائع قطعاً‏.‏

ولما كان المظهر لذلك كله الحياة، قدمها فقال مثالاً آخر للمؤمنين، ولذلك أعاد الفعل وهو فوق التمثيل بالأعمى والبصير، لأن الأعمى يشارك البصير في بعض الإدراكات، وصار للمؤمن والكافر مثالان ليفيد الأول نفي استواء الجنس بالجنس مع القبول للحكم على الأفراد، والثاني بالعكس وهو للنفي في الأفراد مع القبول للجنس‏:‏ ‏{‏وما يستوي الأحياء‏}‏ أي لأنه منهم الناطق والأعجم، والذكي والغبي، والسهل والصعب، فلا يكاد يتساوى حيان في جميع الخلال ‏{‏ولا الأموات‏}‏ أي الذين هم مثال للكافرين في صعوبة الموت وسهولته والبلى وغيره مما يخفى ولا يقر به الكفار من الشقاوة والسعادة‏.‏

ولما كان ما ذكر على هذا الوجه- من وضوح الدلالة على الفعل بالاختيار وعلى ضلال من أشرك به شيئاً لأنه لا يشابهه شيء- بمكان ليس معه خفاء، ومن الإحكام بحيث لا يدانيه كلام يعجب السامع ممن يأباه، فقال مزيلاً عجبه مقرراً أن الخشية والقسوة إنما هما بيده، وأن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه، مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم، مؤكداً رداً على من يرى لغيره سبحانه فعلاً من خير أو شر‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏يسمع من يشاء‏}‏ أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح، وأموات المعاني والأشباح، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة أو الإعراض لأن نسبة الدعوة وإظهار المعجزة إليهم على حد سواء، فالآية تقرير آية ‏{‏إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب‏}‏‏.‏

ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق، فكان كأنه ميت، قال معبراً بالأسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وما أنت‏}‏ أي بنفسك من غير إقدار الله لك، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بمسمع‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏من في القبور *‏}‏ أي الحسية والمعنوية، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية دليل على البعث‏.‏

ولما كان هذا خاصة الإله، أشار إلى نفيه عنه مقتصراً على وصف النذارة، إشارة إلى أن أغلب الخلق موتى القلوب، فقال مؤكداً للرد على من يظن أن النذير يقدر على هداية أو غيرها إلا بإقداره ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أنت إلا نذير *‏}‏ أي تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار، ولست بوكيل يقهرهم على الإيمان‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، وكان الاقتصار على هذا الوصف ربما أوهم غير ذلك، أتبعه قوله بياناً لعظمته صلى الله عليه وسلم بالالتفات إلى مظهر العظمة لأن عظمة الرسول من عظمة المرسل فنذارته رحمة‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏أرسلناك‏}‏ أي إلى هذه الأمة إرسالاً مصحوباً ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيته من الدلائل علم مطابقة الواقع لما تأمر به، والتقدير بالمصدر يفهم أن الرسالة حق، وكلاًّ من المرسل والرسول محق ‏{‏بشيراً‏}‏ أي لمن أطاع ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي لمن عصى، والعطف بالواو للدلالة على العراقة في كل من الصفتين‏.‏

ولما كان مما يسهل القياد ويضعف الجماح التأسية، قال مؤكداً دفعاً لاستبعاد الإرسال إلى جميع الأمم‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏من أمة‏}‏ من الأمم الماضية ‏{‏إلا خلا فيها نذير *‏}‏ أرسلناه إليهم بشيراً ونذيراً إما بنفسه وإما بما أبقى في أعقابهم من شرائعه من أقواله وأفعاله ورسومه مع ما لهم من العقول الشاهدة بذلك، والنذارة دالة على البشارة، واقتصر عليها لأنها هي التي تقع بها التسلية لما فيها من المشقة، ولأن من الأنبياء الماضين عليهم السلام من تمحضت دعوته للنذارة لأنه لم ينتفع أحد ببشارته لعدم اتباع أحد منهم له‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف على إبائهم رحمة لهم وخوفاً من أن يكون ذلك لتقصير في حاله، وكان التقدير‏:‏ فإن يصدقوك فهو حظهم في الدنيا والآخرة، عطف عليه تأسية له وتسلية قوله‏:‏ ‏{‏وإن يكذبوك فقد‏}‏ أي فتسل لأنه قد ‏{‏كذب الذين‏}‏ ولما كان المكذبون بعض الناس، فلزم لذلك أن يكونوا في بعض الزمان، دل على ذلك بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي ما أتتهم به رسلهم عن الله‏.‏

ولما كان قبول الرسل لما جاءهم عن الله ونفى التقصير في الإبلاغ عنهم دالاً على علو شأنهم وسفول أمر المكذبين من الأمم، وكل ذلك دالاًّ على تمام قدرة الله تعالى في المفاوتة بين الخلق، قال دالاً على أمري العلو والسفول استئنافاً جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هل كان تكذيبهم عناداً او لنقص في البيان‏:‏ ‏{‏جاءتهم‏}‏ أي الأمم الخالية ‏{‏رسلهم بالبينات‏}‏ أي الآيات الواضحات في الدلالة على صحة الرسالة‏.‏ ولما كان التصديق بالكتاب لازماً لكل من بلغه أمره، وكانت نسبة التكذيب إلى جميع الأمم أمراً معجباً، كان الأمر حرياً بالتأكيد لئلا يظن أنهم ما كذبوا إلا لعدم الكتاب، فأكد بإعادة الجار فقال‏:‏ ‏{‏وبالزبر‏}‏ أي الأمور المكتوبة من الصحف ونحوها من السنن والأسرار ‏{‏وبالكتاب‏}‏ أي جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل ‏{‏المنير *‏}‏ أي الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كان طريقك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر‏.‏

ولما سلاه، هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم فقال، صارفاً القول إلى الإفراد دفعاً لكل لبس، مشيراً بأداة التراخي إلى أن طول الإمهال ينبغي أن يكون سبباً للإنابة لا للاغترار بظن الإهمال‏:‏ ‏{‏ثم أخذت‏}‏ أي بأنواع الأخذ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم ودعائهم لهم‏.‏ ولما كان أخذ من قص أخباره منهم عند العرب شهيراً، وكان على وجوه من النكال معجبة، سبب عنه السؤال بقوله‏:‏ ‏{‏فكيف كان نكير *‏}‏ أي إنكاري عليهم، أي أنه إنكار يجب السؤال عن كيفية لهوله وعظمه، كما قال القشيري‏:‏ ولئن أصروا على سنتهم في الغي فلن تجد لسنتنا تبديلاً في الانتقام والخزي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما كان من من أغرب الأشياء الدالة على تمام القدرة الدال على الوحدانية أن يكون شيء واحد سبباً لسعادة قوم وهداهم، وشقاوة قوم وضلالهم وعماهم وكان ذلك، امراً دقيقاً وخطباً جليلاً، لا يفهمه حق فهمه إلا أعلى الخلائق، ذكر المخاطب بهذا الذكر ما يشاهد من آيته، فقال على طريق الإستخبار لوصول المخاطب إلى رتبة أولي الفهم بما ساق من ذلك سبحانه على طريق الإخبار في قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرياح‏}‏ ولفت القول إلى الاسم الأعظم دلالة على عظمة ما في حيزه‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏أنزل من السماء‏}‏ أي التي لا يصعد إليها الماء ولا يستمسك عن الهبوط منها في غير أوقاته إلا بقدرة باهرة لا يعجزها شيء ‏{‏ماء‏}‏ أي لا شيء يشابهه في مماثلة بعضه لبعض، فلا قدرة لغيره سبحانه على تمييز شيء منه إلى ما يصلح لشيء دون آخر‏.‏

ولما كان أمراً فائتاً لقوى العقول، نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏فأخرجنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏به‏}‏ أي الماء من الأرض ‏{‏ثمرات‏}‏ أي متعددة الأنواع ‏{‏مختلفاً ألوانها‏}‏ أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر‏.‏

ولما ذكر تنوع ما عن الماء وقدمه لأنه الأصل في التلوين كما أنه الأصل في التكوين، أتبعه التلوين عن التراب الذي هو أيضاً شيء واحد، فقال ذاكراً ما هو أصلب الأرض وأبعدها عن قابلية التأثر وقطعه عن الأول لأن الماء لا تأثير له فيه‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي ومما خلقنا من ‏{‏الجبال جدد‏}‏ أي طرائق وعلامات وخطوط متقاطعة ‏{‏بيض وحمر‏}‏ ولعله عبر عنها بذلك دون طرق إشارة إلى أن من غرابتها أنها لا تخلق ولا تضمحل ألوانها على طول الأزمان كما هو العادة في غالب ما يتقادم عهده، والجد بالفتح، والجدة بالكسر، والجدد بالتحريك‏:‏ وجه الأرض، وجمعه جدد بالكسر، والجدة بالضم‏:‏ الطريقة والعلامة والخط في ظهر الحمار يخالف لونه وجمعه جدد كغدة وغدد وعدة وعدد ومدة ومدد والجدد محركة‏:‏ ما أشرف من الرمل وشبه السلعة بعنق البعير والأرض الغليظة المستوية، والجدجد بالفتح‏:‏ الأرض المستوية‏.‏

ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص‏:‏ ‏{‏مختلف ألوانها‏}‏ وهي من الأرض وهي واحدة‏.‏ ولما قدم ما كان مستغرباً في ألوان الأرض لأنه على غير لونها الأصلي أتبعه ما هو أقرب إلى الغبرة التي هي أصل لونها‏.‏

ولما كانت مادة ‏{‏غرب‏}‏ تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس، ويلزم منه السواد، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره، قال تعالى عاطفاً على بيض‏:‏ ‏{‏وغرابيب‏}‏ أي من الجدد أيضاً ‏{‏سود *‏}‏ فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة «وسود غرابيب سود» فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أشد سواد الغرابيب- رواه عنه البخاري، لأن السواد الخالص في الأرض، مستغرب، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره، فتصير في غاية السواد، وذلك في مدينة فوة ومسير وغيرهما مما داناهما من بلاد مصر‏.‏

ولما أكد هذا بما دل على خلوصه، قدم ذكر الاختلاف عليه، ولما ذكر تعالى ما الأغلب فيه الماء مما استحال إلى آخر بعيد من الماء، وأتبعه التراب الصرف، ختم بما الأغلب فيه التراب مما استحال إلى ما هو في غاية البعد من التراب فقال‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏ أي المتحركين بالفعل والاختيار ‏{‏والدواب‏}‏ ولما كانت الدابة في الأصل لما دب على الأرض، ثم غلب إطلاقه على ما يركب قال‏:‏ ‏{‏والأنعام‏}‏ ليعم الكل صريحاً ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ أي ألوان ذلك البعض الذي أفهمته «من» ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل الثمار والأراضي فمنه ما هو ذو لون واحد، ومنه ما هو ذو ألوان مع أن كل ما ذكر فهو من الأراضي متجانس الأعيان مختلف الأوصاف، ونسبته إليها وإلى السماء واحدة فأين حكم الطبائع‏.‏

ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل بالاختيار، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء، ما يشاء فيجعل الشيء الواحد لقوم نوراً ولقوم عمى، وكان ذلك مرغباً في خدمته مرهباً من سطوته سبحانه وتعالى وتقدس لكل ذي لب، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية، ولقوم أراد الله قسوتهم قسوة، التفت النفس إلى طلب قانون يعرف به من يخشى ومن لا يخشى، فقال على سبيل الاستنتاج من ذلك، دفعاً لظن من يحسب أنه يمكن أن يكون ولي جاهلاً‏:‏ ‏{‏إنما يخشى الله‏}‏ أي الذي له جميع الكمال، ولا كمال لغيره إلا منه، ودل على أن كل من سواه في قبضته وتحت قهره بقوله‏:‏ ‏{‏من عباده‏}‏ ثم ذكر محط الفائدة وهو من ينفع إنذاره فقال‏:‏ ‏{‏العلماء‏}‏ أي لا سواهم وإن كانوا عباداً وإن بلغت عبادتهم ما عسى أن تبلغ، لأنه لا يخشى أحد أحداً إلا مع معرفته، ولا يعرفه جاهل، فصار المعنى كأنه قيل‏:‏ إنما ينفع الإنذار أهل الخشية، وإنما يخشى العلماء، والعالم هو الفقيه العامل بعلمه، قال السهروردي في الباب الثالث من عوارفه‏:‏ فينتفي العلم عمن لا يخشى الله، كما إذا قال‏:‏ إنما يدخل الدار بغدادي، فينتفي دخول البغدادي الدار هذا معنى القراءة المشهورة‏.‏

ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم، كان هذا معنى القراءة الأخرى، فكان كأنه قيل‏:‏ إنما ينفع الإنذار من يجهل الله فالله يجله لعلمه، وسئل شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بمصر محمد بن علي القاياتي عن توجيه هذه القراءة فأطرق يسيراً ثم رفع رأسه فقال‏:‏

أهابك إجلالاً وما بك قدرة *** عليّ ولكن مليء عين حبيبها

ولما ثبت بهذا السياق أنه سبحانه فاعل هذه الأشياء المتضادة، علل ذلك ليفيد أن قدرته على كل ما يريد كقدرته عليه بقوله على سبيل التأكيد تنبيهاً على أنه سبحانه لا يعسر عليه شيء وأنه أهل لأن يخشى ولذلك أظهر الاسم الأعظم‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بالجلال والإكرام ‏{‏عزيز‏}‏ أي غالب على جميع أمره‏.‏ ولما كان هذا مرهباً من سطوته موجباً لخشيته لإفهامه أنه يمنع الذين لا يخشون من رحمته، رغبهم بقوله‏:‏ ‏{‏غفور *‏}‏ في أنه يمحو ذنوب من يريد منهم فيقبل بقلبه إليه وهو أيضاً من معاني العزة‏.‏

ولما تقرر هذا، تشوف السامع إلى معرفة العلماء فكان كأنه قيل‏:‏ هم الذين يحافظون على كتاب الله علماً وعملاً، فقيل‏:‏ فما لهم‏؟‏ فقال مؤكداً تكذيباً لمن يظن من الكفار وغيرهم من العصاة أنهم من الخاسرين بما ضيعوا من عاجل دنياهم‏:‏ ‏{‏إن الذين يتلون‏}‏ أي يجددون التلاوة كل وقت مستمرين على ذلك محافظين عليه كلما نزل من القرآن شيء وبعد كمال نزوله حتى يكون ذلك ديدنهم وشأنهم بفهم وبغير فهم ‏{‏كتاب الله‏}‏ أي الذي لا ينبغي لعاقل أن يقبل على غيره لما له من صفات الجمال والجلال، ولما ذكر السبب الذي لا سبب يعادله، ذكر أحسن ما يربط به، فقال دالاً على المداومة بالتعبير بالإقامة وعلى تحقيق الفعل بالتعبير بالماضي‏:‏ ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ أي وهي الناهية عن الفحشاء والمنكر فناجوا الله فيها بكلامه‏.‏ ولما ذكر الوصلة بينهم وبين الخالق، ذكر إحسانهم إلى الخلائق، فقال دالاً على إيقاع الفعل بالتعبير بالماضي، وعلى الدوام بالسر والعلن لافتاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده، لا بحول أحد غيره ولا غيره‏:‏ ‏{‏وأنفقوا مما رزقناهم‏}‏ أي بحولنا وقوتنا لا بشيء من أمرهم في جميع ما يرضينا، ودل على مواظبتهم على الإنفاق وإن أدى إلى نفاد المال بقوله‏:‏ ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ وعبر في الأول بالمضارع لأن إنزالها كان قبل التمام وتصريحاً بتكرار التلاوة تعبداً ودراسة لأن القرأن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أشد تفلتا من الإبل في عقلها» أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفي الثاني والثالث بالماضي حثاً على المبادرة إلى الفعل، وقد تحصل من هذا أنه جعل لفعل القلب الذي هو الخشية دليلاً باللسان وآخر بالأركان وثالثاً بالأموال‏.‏

ولما أحلهم بالمحل الأعلى معرفاً أنهم أهل العلم الذي يخشون الله، وكان العبد لا يجب له على سيده شيء، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الثاني التي هي أم النعم والنتيجة العظمى المقصودة بالذات‏:‏ ‏{‏يرجون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة ‏{‏تجارة‏}‏ أي بما عملوا ‏{‏لن تبور *‏}‏ أي تكسد وتهلك بل هي باقية، لأنها دفعت إلى من لا تضيع لديه الودائع وهي رائجة رابحة، لكونه تام القدرة شامل العلم له الغنى المطلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كان المراد بعدم هلاكها حفظها وبقاءها إلى يوم لقائه، علله بقوله، مقتصراً على الضمير لأن السياق للمؤمنين، ولذا لفته إلى ضمير الغيبة لأن إيمانهم بالغيب ‏{‏ليوفيهم‏}‏‏:‏ أي لنفاقها عنده سبحانه في الدنيا إن أراد أو في الآخرة أو فيهما ‏{‏اجورهم‏}‏ أي على تلك الأعمال ‏{‏ويزيدهم‏}‏ أي على ما جعله بمنه وبيمنه حقاً لهم عليها ‏{‏من فضله‏}‏ أي زيادة ليس لهم فيها تسبب أصلاً، بل سيء بعد ما منّ عليهم بما قابل أعمالهم به مما يعرفون أنه جزاءها مضاعفاً للواحد عشرة إلى ما فوق‏.‏ ولما كانت أعمالهم لا تنفك عن شائبة ما، وإن خلصت فلم يكن ثوابها لأنها منّ منه سبحانه مستحقاً، علل توفيتهم لها بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه لا يسع الناس إلا عفوه لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره وإن اجتهد، ولو واخذ أعبد العباد بما يقع من تقصيره أهلكه ‏{‏إنه غفور‏}‏ أي بمحو النقص عن العمل ‏{‏شكور *‏}‏ أي يقبله ويزيد عليه‏.‏

ولما كانت ترجمة الآية أن العلماء هم حملة الكتاب، وبدأ سبحانه بأدنى درجاتهم، وكان ذلك مما يرغب في الكتاب، أتبعه ترغيباً هو أعلى منه، فقال عاطفاً على قوله في تقرير الأصل الثاني الذي هو الرسالة ‏{‏إنا أرسلناك بالحق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 119‏]‏ وأكده دفعاً لتكذيب المكذبين به‏:‏ ‏{‏والذي أوحينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليك‏}‏ وبين قدره بمظهر العظمة وقال مبيناً للوحي‏:‏ ‏{‏من الكتاب‏}‏ أي الجامع لخيري الدارين‏.‏ ولما كان الكتاب لا يطرقه نوع من أنواع التغير لأنه صفة من لا يتغير قال‏:‏ ‏{‏هو الحق‏}‏ أي الكامل في الثبات ومطابقة الواقع له لا غيره من الكلام؛ وأكد حقيته بقوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏ أي من الكتب الماضية الآتي لها الرسل الداعون إلى الله المؤيدون بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة‏.‏

ولما دل سبحانه على أن العلم هو الحقيقة الثابتة، وما عداه فهو محو وباطل، ودل على أن التالين لكتابه الذي هو العلم هم العلماء، وغيرهم وإن كانوا موجودين فهم بالمعدومين أشبه، ودل على أن الكتب الماضية وإن كانت حقاً لكنها ليست في كمال القرآن، لأن الأمر ما دام لم يختم فالزيادة متوقعة فيه بخلاف ما إذا وقع الختم فإنه لا يكون بعده زيادة ترتقب، وكان ربما تراءى لأحد في بعض المتصفين بذلك غير ذلك، قال تعالى إعلاماً بأن العبرة بما عنده لا بما يظهر للعباد، وأكده تنبيهاً على أن هذا المعنى مما تعقد عليه الخناصر وإن تراءى لأكثر الناس خلافه، أظهر الاسم الأعظم لحاجة المخبرين هنا إليه لأنهم البر والفاجر‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال‏.‏ ولما كان الإنسان أعلم بمن يربيه ولا سيما إن كان مالكاً له قال‏:‏ ‏{‏بعباده لخبير‏}‏ أي عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم ‏{‏بصير *‏}‏ أي بظواهر أمورهم وبواطنها أي فهو يسكن الخشية والعلم القلوب على ما أوتوا من الكتاب في علمه وتلاوته وإن تراءى لهم خلاف ذلك، فأنت أحقهم بالكمال لأنك أخشاهم وأتقاهم، فلذلك آتيناك هذا الكتاب، فأخشاهم بعدك أحقهم بعلمه‏.‏

ولما كان معنى الوصفين‏:‏ فنحن نيسر لتلاوة كتابنا من يكون قابلاً للعلم الذي هو عمود الخشية بما تعلمه منه بخبرنا وبصرنا، وكان الذي ضم إلى التلاوة الفهم في الذروة العليا من العلم، قال عطفاً على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره مشيراً بأداة العبد إلى علو رتبة أهل هذا القسم، وهم هذه الأمة الأمية على اختلاف مراتب إرثهم مع تراخي إرثهم عمن قبلهم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء الحال لها في نزع شيء من قوم وإثباته لآخرين‏:‏ ‏{‏ثم أورثنا‏}‏ أي ملكنا بعظمتنا ملكاً تاماً وأعطينا عطاء لا رجوع فيه، وعبر في غير هذه الأمة ‏{‏ورثوا الكتاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ فانظر فوق ما بين العبارتين تعرف الفرق بين المقامين، ويجوز أن يكون التقدير بعد ما أوحينا إليك‏:‏ وأورثناكه ثم أورثناه، ولكنه أظهر دلالة على الوصف تنبيهاً على تناهي جمعه للكتب الماضية وإعلاماً بأن «من» في ‏{‏أوحينا إليك من‏}‏ للبيان فقال‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ أي القرآن باتفاق المفسرين، قال الأصفهاني- الجامع لكل كتاب أنزلنا، فهو أم لكل خير، وقال ابن عباس كما نقله ابن الجوزي‏:‏ إن الله أورث أمة محمد كل كتاب أنزله ‏{‏الذين اصطفينا‏}‏ أي فعلنا في اختيارهم فعل من يجتهد في ذلك ‏{‏من عبادنا‏}‏ أي أخلصناهم لنا وهم بنو إسماعيل ومن تبعهم، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم- نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ونقل عن ابن جرير أنه قال‏:‏ الإرث‏:‏ انتقال شيء من قوم إلى قوم، فثم هنا للترتيب، لأن إيتاء هذه الأمة متراخ عن إيتاء الأمم ونقله إليهم بعد إبطال تلك الأديان، ونسخ تلك الكتب إلا ما وافق القرآن فمعنى الإيراث أنه نزع تلك الكتب من الأمم السالفة وأعطاها لهذه الأمة على الوجه الذي رضيه لها وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزءاً ولو أنه الفاتحة فقط، فإن الصحابة رضوان الله تعالى أجمعين لم يكن كل واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون‏.‏

ولما كان اكثر الناس لا ينفك عن تقصير كثير لما جبل الإنسان عليه من النقصان، فكان من فيه ذلك يخرج نفسه من هذا القسم، قال معرفاً له بمقداره مؤنساً له بما فتح له من أنواره مستجلباً له إلى حضرة قدسه ومعدن أسراره مقسماً أهل هذا القسم وهم أهل الفهم إلى ثلاثة أقسام مقدماً الأدنى لأنهم الأكثر ولئلا يحصل اليأس، ويصدع القلوب خوف البأس‏:‏ ‏{‏فمنهم‏}‏ أي فتسبب عن إيراثنا لهم أن كان منهم كما هو مشاهد ‏{‏ظالم لنفسه‏}‏ أي بالتفريط والتهاون في توفية الحق لما يقتضيه حاله من العمل غير متوق للكبائر، وهذا القسم هم أكثر الوارث وهم المرجئون لأمر الله‏.‏

ولما كان ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة، نبه على ذلك بصيغة الافتعال فقال‏:‏ ‏{‏ومنهم مقتصد‏}‏ أي متوسط في العمل غير باذل لجميع الجهد إلا أنه مجتنب للكبائر فهو مكفر عنه الصغائر، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ‏{‏ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ أي العبادات وجميع أنواع القربات، موف للمقام الذي أقيم به حقه كلما ازداد قرباً ازداد عملاً، لا يكون سابقاً إلا وهو هكذا، وهم السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ويؤيد هذا قول الحسن‏:‏ السابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من رجحت سيئاته‏.‏ وختم بالسابقين لأنهم الخلاصة وليكونوا أقرب إلى الجنات كما قدم الصوامع في سورة الحج لتكون أقرب إلى الهدم وآخر المساجد لتقارب الذكر وقدم في التوبة السابقين عقيب أهل القربات من الإعراب وأخر المرجئين وعقبهم بأهل مسجد الضرار، وقدم سبحانه في الأحزاب المسلمين ورقى الخطاب درجة درجة إلى الذاكرين الله كثيراً، فهو سبحانه تارة يبدأ بالأدنى وتارة بالأعلى بحسب ما يقتضيه الحال كما هو مذكور في هذا الكتاب في محاله، وهذا على تقدير عود الضمير في ‏{‏منهم‏}‏ على ‏{‏الذين‏}‏ لا على ‏{‏العباد‏}‏ وهو مع تأيده بالمشاهدة وإن السياق لأن أهل العلم هو التالون لكتاب الله مؤيد بأحاديث لا تقصر- وإن كانت ضعيفة- عن الصلاحية لتقوية ذلك، فمنها ما رواه البغوي بسنده عن ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية على المنبر وقال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وبسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال‏:‏ «أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة»- ثم قرأ ‏{‏الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن‏}‏‏.‏ وروي بغير إسناد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلهم من هذه الأمة» وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر حديث عمر رضي الله عنه بغير سند‏:‏ وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال‏:‏ «كلهم في الجنة»

وروى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الحافظ ابن عساكر في الكنى من تأريخ دمشق في ترجمة أخي زياد أو أبي زياد‏.‏ وأما على عود الضمير على العباد فقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ السابق المؤمن المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها، وقال قتادة‏:‏ الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابقون المقربون‏.‏

ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات، ولا يؤخذ بالكسب والاجتهادات، أشار إلى عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ أي بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الكمال وتسهيله وتيسره لئلا يأمن أحد مكره تعالى، قال الرازي في اللوامع‏:‏ ثم من السابقين من يبلغ محل القربة فيستغرق في وحدانيته، وهو الفرد الذي اهتز في ذكره- انتهى‏.‏ ثم زاد عظمة هذا الأمر بياناً، فقال مؤكداً تكذيباً لظنون الجاهلين لأن السابق كلما علا مقامه في السبق قل حظه من الدنيا، فرأى الجاهلون أنه مضيع لنفسه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي السبق أو إيراث الكتاب ‏{‏هو‏}‏ مشيراً بأداة البعد مخصصاً بضمير الفصل ‏{‏الفضل الكبير *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 38‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ولما ذكر تعالى أحوالهم، بين جزاءهم ومآلهم، فقال مستأنفاً جواباً لمن سأل عن ذلك‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ أي هي مسببة عن سبب السبق الذي هو الفضل، ويصح كونها بدلاً من الفضل لأنه سببها، فكان كأنه هو الثواب ‏{‏عدن‏}‏ أي إقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها ‏{‏يدخلونها‏}‏ أي الثلاثة أصناف، ومن دخلها لم يخرج منها لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج على أن الضمير ل «الذين» ومن قال ل «عبادنا» خص الدخول بالمقتصد والسابق- هذا على قراءة الجماعة بفتح الياء وضم الخاء، وعلى قراءة أبي عمرو بالبناء للمفعول يكون الضمير للسابق فقط، لأنهم يكونون في وقت الحساب على كثبان المسك ومنابر النور فيستطيبون مكانهم، فإذا دعوا إلى الجنة أبطؤوا فيساقون إليها كما في آخر الزمر‏.‏

ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال‏:‏ ‏{‏يحلّون فيها‏}‏ أي يلبسون على سبيل التزين والتحلي ‏{‏من أساور‏}‏ ولما كان للإبهام ثم البيان مزيد روعة النفس، وكان مقصود السورة إثبات القدرة الكاملة لإثبات اتم الإبقاءين، شوق إلى الطاعة الموصلة إليه بأفضل ما نعرف من الحلية، فقال مبيناً لنوع الأساور‏:‏ ‏{‏من ذهب ولؤلؤاً‏}‏ ولما كانت لا تليق إلى على اللباس الفاخر، قال معرفاً أنهم حين الدخول يكونون لابسين‏:‏ ‏{‏ولباسهم فيها حرير *‏}‏‏.‏

ولما كان المقتصد والسابق يحزنون لكمالهم وشدة شفقتهم على الظالم إذا قوصص، جمع فقال معبراً بالماضي تحقيقاً له‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي عند دخولهم‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لله‏}‏ أي الذي لم تمام القدرة ‏{‏الذي أذهب‏}‏ أي بدخولنا هذا ‏{‏عنا الحزن‏}‏ أي هذا النوع بكماله، فلا نحزن على شيء كان فاتنا، ولا يكون لنا حزن أبداً لأنا صرنا في دار لا يفوت فيها شيء أصلاً ولا ينفى‏.‏

ولما كانوا عالمين بما اجترحوه من الزلات أو الهفوات أو الغفلات التي لولا الكرم لأدتهم إلى النار، عللوا ما صاروا إليه معها بقولهم، مؤكدين إعلاماً بما عندهم من السرور بالعفو عن ذنوبهم، وأن ما أكدوه حقيق بأن يتغالى في تأكيده لما رأوا من صحته وجنوا من حلو ثمرته‏:‏ ‏{‏إن ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا مع إساءتنا ‏{‏لغفور‏}‏ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين ‏{‏شكور *‏}‏ أي على ما وهبه للعبد من حسن طاعته ووفقه له من الأعمال الحسنة فجعله به سابقاً، ثم وصفوه بما هو شكر له فقالوا‏:‏ ‏{‏الذي أحلنا دار المقامة‏}‏ أي الإقامة ومكانها وزمانها التي لا يريد النازل بها على كثرة النازلين بها- ارتحالاً منها، ولا يراد به ذلك، ولا شيء فيها يزول فيؤسف عليه‏.‏

وكان المالك المطلق لا يجب عليه شيء ولا استحقاق لمملوكه عليه بوجه قال‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ أي بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منّاً منه سبحانه، لو لم يبعثنا عليها وييسرها لنا لما كانت‏.‏

ولما تذكروا ما شاهدوه في عرصات القيامة من تلك الكروب والأهوال، والأنكاد والأثقال، التي أشار إليها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تدع مثقلة إلى حملها‏}‏ الآية، استأنفوا قولهم في وصف دار القرار‏:‏ ‏{‏لا يمسنا‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏فيها نصيب‏}‏ أي نصب بدن ولا وجع ولا شيء ‏{‏ولا يمسنا فيها لغوب *‏}‏ أي كلال وتعب وإعياء وفتور نفس من شيء من الأشياء، قال أبو حيان‏:‏ هو لازم من تعب البدن‏.‏ فهي الجديرة لعمري بأن يقال فيها‏:‏

علينا لا تنزل الأحزان شاحتها *** لو مسها حجر مسته سراء

ولما بيّن ما هم فيه من النعمة، بيّن ما لأعدائهم من النقمة، زيادة في سرورهم بما قاسوه في الدنيا من تكبرهم عليهم وفجورهم فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات ‏{‏لهم نار جهنم‏}‏ أي بما تجهموا أولياء الله الدعاء إليهم‏.‏ ولما كانت عادة النار إهلاك من دخلها بسرعة، بيّن أن حالها على غير ذلك زيادة في نكالهم وسوء مآلهم فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏لا يقضى‏}‏ أي لا يحكم وينفذ ويثبت من حاكم ما ‏{‏عليهم‏}‏ أي بموت ‏{‏فيموتوا‏}‏ أي فيتسبب عن القضاء موتهم، وإذا راجعت ما مضى في سورة سبحان من قوله ‏{‏فلا يملكون كشف الضر عنكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56‏]‏ وما يأتي إن شاء الله تعالى في المرسلات من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يؤذن لهم فيعتذرون‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 36‏]‏ علمت سر وجوب النصب هنا لأنه لو رفع لكان المعنى أن موتهم ينبغي إن قضي عليهم أو لم يقض وذلك محال‏.‏

ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال‏:‏ ‏{‏ولا يخفف عنهم‏}‏ وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من عذابها‏}‏ أي جهنم‏.‏ ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا العذاب خاص بالذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم من الكفار قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الجزاء العظيم ‏{‏نجزي‏}‏ أي بما لنا من العظمة- على قراءة الجماعة بالنون ‏{‏كل كفور *‏}‏ أي به صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء عليهم السلام وإن لم نره لأن ثبوت المعجزة يستوي فيها المسع والبصر، وبنى أبو عمرو الفعل للمفعول إشارة إلى سهولته وتيسره ورفع ‏{‏كل‏}‏‏.‏

ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي فعل ذلك بهم والحال أنهم ‏{‏يصطرخون فيها‏}‏ أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح‏.‏ ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي يقولون‏:‏ أيها المحسن إلينا ‏{‏أخرجنا‏}‏ أي من النار ‏{‏نعمل صالحاً‏}‏ ثم أكدوه وفسروه وبينوه بقولهم على سبيل التحسر والاعتراف بالخطأ أو لأنهم كانوا يظنون عملهم صالحاً ‏{‏غير الذي كنا‏}‏ أي بغاية جهدنا ‏{‏نعمل‏}‏ فتركوا الترقق والعمل على حسبه في وقت نفعه واستعملوه عند فواته فلم ينفعهم، بل قيل في جوابهم تقريراً لهم وتوبيخاً وتقريعاً‏:‏ ‏{‏أو لم‏}‏ أي ألم تكونوا في دار العمل متمكنين من ذلك بالعقول والقوى‏؟‏ أو لم ‏{‏نعمركم‏}‏ أي نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ ‏{‏ما‏}‏ أي زماناً ‏{‏يتذكر فيه‏}‏ وما يشمل كل عمر يتمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه غير أن التوبيخ في الطويل أعظم، وأشار بمظهر العظمة إلى أنه لا مطمع بغيره سبحانه في مد العمر‏.‏

ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال‏:‏ ‏{‏من تذكر‏}‏ إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد، والزمان المشار إليه قيل‏:‏ إنه ستون سنة- قاله ابن عباس رضي الله عنهم، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من عمره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» وروى الترمذي وابن ماجه وأبو يعلى عن أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين‏.‏ وأقلهم من يجوز ذلك»‏.‏

ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى‏:‏ أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم‏:‏ ‏{‏وجاءكم النذير‏}‏ أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول‏.‏

ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال‏:‏ ‏{‏فذقوا‏}‏ أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ وكان الأصل‏:‏ لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال‏:‏ ‏{‏للظالمين‏}‏ أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها ‏{‏من نصير *‏}‏ أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم‏.‏

ولما كان سبحانه عالماً بما نفى وما أثبت، علل ذلك مقرراً سبب دوام عذابهم وأنه بقدر كفرانهم كما قال تعالى ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ بقوله مؤكداً إشارة إلى أنه لا يجب تمرين النفس عليه لما له من الصعوبة لوقوف النفس مع المحسوسات‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏عالم غيب‏}‏ ولما كانت جهة العلو أعرق في الغيب قال‏:‏ ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ فأنتج ذلك قوله مؤكداً لأنه من أعجب الغيب لأنه كثيراً ما يخفى على الإنسان ما في نفسه والله تعالى عالم به، أو هو تعليل لما قبله‏:‏ ‏{‏إنه عليم‏}‏ أي بالغ العلم ‏{‏بذات الصدور *‏}‏ أي قبل أن يعلمها أربابها حين تكون غيباً محضاً، فهو يعلم أنكم لو مدت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبداً، ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وأنه لا مطمع في صلاحكم، ولذلك يأمر الملك أن يكتب عند نفخ الروح في الولد أنه ما شقي أو سعيد قبل أن يكون له خاطر أصلاً، وربما كان في غاية ما يكون من الإقبال على الخير فعلاً ونية، ثم يختم له بشر، وربما كان على خلاف ذلك في غاية الفساد، لا يدع شركاً ولا غيره من المعاصي حتى يرتكبها وهو عند الله سعيد لما يعلم من نيته بعد ذلك حين يقبل بقلبه عليه فيختم له بخير فيكون من أهل الجنة، وأما الخواطر بعد وجودها في القلوب فقد يطلع عليها الملك والشيطان‏.‏