فصل: تفسير الآيات رقم (7- 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما ظهرت الأدلة وبهرت الحجج، بين ما على من غطاها بالإصرار، وما لمن تاب ورجع التذكار، فقال مستأنفاً لما هو نتيجة ما مضى، معرفاً لهم نعمته عليهم بأنه ما تعبد لشيء يخصه من نفع أو ضر، وإنما هو لمصالحهم خاصة بادئاً بما هو من درء المفاسد‏:‏ ‏{‏إن تكفروا‏}‏ أي تستروا الأدلة فتصروا على الانصراف عنه بالإشراك ‏{‏فإن الله‏}‏ لأنه جامع لصفات الكمال ‏{‏غني عنكم‏}‏ أي فلا يضره كفركم ولا تنفعه طاعتكم، وأما أنتم فلا غنى لكم عنه بوجه، ولا بد أن يحكم بينكم فلم تضروا إلا أنفسكم ‏{‏ولا يرضى‏}‏ لكم- هكذا كان الأصل بدليل ما سبقه ولحقه، وإنما أظهر ليعم وليذكرهم بما يجدونه في أنفسهم من أن أحداً منهم لا يرضى لعبده أن يؤدي خرجه إلى غيره بغير إذنه فقال‏:‏ ‏{‏لعباده‏}‏ أي الذين تفرد بإيجادهم وتربيتهم ‏{‏الكفر‏}‏ بالإقبال على سواه وأنتم لا ترضون ذلك لعبيدكم مع أن ملككم لهم في غاية الضعف، ومعنى عدم الرضى أنه لا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه أو يثيب فاعله ويمدحه، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهى عنه ويذم عليه ويعاقب مرتكبه ‏{‏وإن تشكروا‏}‏ أي بالعبادة والإخلاص فيها ‏{‏يرضه‏}‏ أي الشكر الدال عليه فعله ‏{‏لكم‏}‏ أي الرضى اللائق بجنابه سبحانه بأن يقركم عليه أو يأمركم به ويثيبكم على فعله، والقسمان بإرادته، واختلاف القراء في هائه دال على مراتب الشكر- والله أعلم، فالوصل للواصلين إلى النهاية على اختلاف مراتبهم في الوصول والاختلاس للمتوسطين والإسكان لمن في الدرجة الأولى منه‏.‏

ولما كان في سياق الحكم والقهر، وكانت عادة القهارين أن يكلفوا بعض الناس ببعض ويأخذوهم بجوائرهم لينتظم لهم العلو على الكل لعدم إحاطة علمهم بكل مخالف لأمرهم، بين أنه سبحانه على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة‏}‏ أي وازرة كانت ‏{‏وزر أخرى‏}‏ بل وزر كل نفس عليها لا يتعداها يحفظ عليها مدة كونها في دار العمل، والإثم الذي يكتب على الإنسان بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وزر غيره، وإنما هو وزر نفسه، فوزر الفاعل على الفعل، ووزر الساكت على الترك لما لزمه من الأمر والنهي ‏{‏ثم إلى ربكم‏}‏ أي وحده لا إلى أحد ممن أشركتموه به ‏{‏مرجعكم‏}‏ أي بالبعث بعد الموت إلى دار الجزاء‏.‏ ولما كان الجزاء تابعاً للعلم، قال معبراً عنه به‏:‏ ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي فيتسبب عن البعث أنه يخبركم إخباراً عظيماً ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ أي بما كان في طبعكم العمل به سواء عملتموه بالفعل أم لا ثم يجازيكم عليه إن شاء‏.‏

ولما كان المراد- كما أشار إليه بكان- الإخبار بجميع الأعمال الكائنة بالفعل أو القوة، حسن التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إنه عليم‏}‏ أي بالغ العلم ‏{‏بذات الصدور *‏}‏ أي بصاحبتها من الخواطر والعزوم، وذلك بما دلت عليه الصحبة- كل ما لم يبرز إلى الخارج، فهو بما برز أعلم‏.‏

ولما ذكر سبحانه أنه المختص بالملك وحده، وأتبعه بما يرضيه وما يسخطه، أقام الدليل على ذلك الاختصاص مع أنه أوضح من الشمس بدليل وجداني لكل أحد على وجه ذمهم فيه بالتناقض الذي هم أعظم البأس ذماً له ونفرة منه وذماً به فقال‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ وهي- والله أعلم- حالية من واو ‏{‏تصرفون‏}‏ وكان الأصل‏:‏ مسكم، ولكنه عمم ودل بلفت القول عن الخطاب على الوصف الموجب للنسيان فقال‏:‏ ‏{‏مس الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الآنس بنفسه مؤمنه وكافره ‏{‏ضر‏}‏ أي ضر كان من جهة يتوقعها- بما أشار إليه الظرف بمطابقة المقصود السورة مع تهديد آخر التي قبلها ‏{‏دعا ربه‏}‏ أي الحسن إليه الذي تقدم تنبيهكم من غفلتكم عليه بقوله «ذلكم الله ربكم» ذاكراً صفة إحسانه ‏{‏منيباً‏}‏ أي راجعاً رجوعاً عظيماً ‏{‏إليه‏}‏ بباطنه مخلصاً في ذلك عالماً أنه لا يكفيه أمره غيره ضرورة يجدها في نفسه لأن الضر أزال عنه الأموية والحظوظ، معرضاً عما كان يزعم من الشركاء معرفاً لسان حاله أنه لا شريك له سبحانه كما هو الحق فتطابق في حال الضراء الحق والاعتقاد‏.‏

ولما كان الإنسان لما جبل عليه من الجزع واليأس إذا كان في ضر استبعد كل البعد أن يكشف عنه، لتقيده بالجزئيات وقصوره على التعلق بالأسباب، أشار إلى ذلك مع الإشارة إلى الوعد بتحقيق الفرج فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد استبعاده جداً‏.‏ ولما كان الرخاء محققاً، وهو أكثر من الشدة، عبر بأداة التحقق، فقال منبهاً بالتعبير ب «خول» على أن غطاءه ابتداء فضل منه لا يستحق أحد عليه شيئاً لأن التخويل لا يكون جزاء بل ابتداء‏:‏ ‏{‏إذا خوله‏}‏ أي أعطاه عطاء متمكناً ابتداء، وجعله حسن القيام عليه قادراً على إجادة تعهده ‏{‏نعمة منه‏}‏ ومكنه فيها ‏{‏نسي‏}‏ أي مع دعائه أن يشكر على الإحسان، فكانت مدة تخويله ظرف نسيانه، فعلم أن صلاحه بالضراء ‏{‏ما‏}‏ أي الأمر الذي ‏{‏كان يدعوا‏}‏ ربه على وجه الإخلاص ‏{‏إليه‏}‏ إلى كشفه من ذلك الضر الذي كان، وأعلم بتقارب وقتي النسيان والإنابة بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل حال التخويل ‏{‏وجعل‏}‏ زيادة على الكفران بنسيان الإحسان ‏{‏لله‏}‏ أي الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والعقل والسمع ‏{‏أنداداً‏}‏ أي لكونه يتأهلهم، فينزلهم بذلك منزلة من يكون قادراً على المعارضة والمعاندة، فقد علم من التعبير بالنسيان أنه عالم بربه، ولذلك دعاه في كشف ضره وأنه جعل علمه عند الإحسان إليه جهلاً، فكان كمن لا يعلم من سائر الحيوانات العجم‏.‏

ولما كان ذلك في غاية الضلال، لكونه- مع أنه خطأ- موجباً لقطع الإحسان وعدم الإجابة في كشف الضر مرة أخرى وكانوا يدعون أنهم أعقل الناس، وكان هذا الضلال في غاية الظهور، وكان العاقل لا يفعل شيئاً إلا لعلة، عظمهم تهكماً بهم عن أن يكونوا ضلوا هذا الضلال الظاهر من غير قصد إليه، فقال مشيراً إلى ذلك كله‏:‏ ‏{‏ليضل‏}‏ أي بنفسه عند فتح الياء، ويضل غيره عند من ضمها ‏{‏عن سبليه‏}‏ أي الطريق الموصل إلى رضوانه، الموجب للفوز بإحسانه‏.‏

ولما كان من المعلوم المحقق المقطوع به المركوز في الفطر الأولى المستمر فيما بعدها أن الملك لا يدع من يعصيه بغير عقاب، وكان قد ثبت بقضية الإجماع وقت الاضطرار أنه لا يلتفت إلى أحد سوى الله وكان من التفت- بعد أن أنجاه الله من ضرره وأسبغ عليه من نعمه- كافراً من غير شك عند ذي عقل، وكان من كان بهذه المثابة في هذه الدار هم أهل النعم الكبار، والتمتع الصافي عن الأكدار، كان من المعلوم أنه لا بد من عقوبته في دار القرار، فقال تعالى مبيناً لأن هذا التمتع إنما هو سبب هذا الكفران استدراجاً مع الإعراض المؤذن بالغضب ‏{‏قل‏}‏ أي يا أحب خلقنا إلينا المستحق للإقبال عليه بالخطاب، لهذا الذي قد حكم بكفره مهدداً له بما يقوته بلذيذ عيشه في الدنيا من الفيض من الجناب الأقدس ويؤول إليه أمره من العذاب الأكبر‏:‏ ‏{‏تمتع‏}‏ أي في هذه الدنيا التي هي وكل ما فيها- مع كونه زائلاً- يفيض إلى الله، فهو من جملة المقت إلا لمن صرفه في طاعة الله‏.‏

ولما ذكر تمتيعه بالخسيس، ذكر سببه الخسيس تعظيماً لأجور المؤمنين لانصرافهم عن الكفر مع علمهم بأنه من أسباب التمنيع وبياناً لذوي الهمم العوال من غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏بكفرك‏}‏ ثم أشار إلى قلة زمن الدنيا وما فيها في جنب الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏قليلاً‏}‏ ثم علل ذلك بما إذا غمس في عذابه أنعم أهل الدنيا غمسة واحدة قال‏:‏ ما رأيت نعيماً قط، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم بالنار، ودفعاً لما استقر في نفوسهم أن تنعيمهم في الدنيا إنما هو لقربهم من الله ومحبته لهم، وأن ذلك يتصل بنعيم الآخرة على تقدير كونها‏:‏ ‏{‏إنك‏}‏ وهذا الأمر هنا يراد به الزجر، تقديره‏:‏ إن تمتعت هكذا كنت ‏{‏من أصحاب النار *‏}‏ أي الذين لم يخلفوا إلا لها ‏{‏ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏‏.‏

ولما أرشدت «أم» قطعاً في قراءة من شدد إدغاماً لإحدى الميمين في الأخرى أن التقدير شرحاً لأحوال المؤمنين بعد أحوال المشركين‏:‏ أهذا- الذي يدعو الله مرة، وغيره ممن يجعله له نداً أخرى- أسد طريقة وأقوم قيلاً‏:‏ ‏{‏أمّن هو‏}‏ والتقدير في قراءة نافع وابن كثير وحمزة بالتخفيف‏:‏ أمن هو بهذه الصفة خير أم ذلك الكافر الناسي لمن أحسن إليه، ويرجح التقدير بالاستفهام دون النداء إنكار التسوية بين العالم الذي حداه علمه على القنوت والذي لا يعلم حقيقة أو مجازاً لعدم الانتفاع بعلمه ‏{‏قانت‏}‏ أي مخلص في عبادته الله تعالى دائماً ‏{‏آناء الّيل‏}‏ أي جميع ساعاته‏.‏

ولما كان المقام للإخلاص، وكان الإخلاص أقرب مقرب إلى الله لأنه التجرد عن جميع الأغيار، وكان السجود أليق الأشياء بهذا الحال، ولذلك كان أقرب مقرب للعبد من ربه، لأنه خاص بالله تعالى، قال‏:‏ ‏{‏ساجداً‏}‏ أي وراكعاً ودل على تمكنه من الوصفين بالعطف فقال‏:‏ ‏{‏وقائماً‏}‏ أي وقاعداً، وعبر بالاسم تنبيهاً على دوام إخلاصه في حال سجوده وقيامه، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر السجود دليلاً على الركوع والقيام دليلاً على القعود، والسر في ذكر ما ذكر وترك ما ترك أن السجود يدل على العبادة، وقرن القيام به دال على أنه قيام منه فهو عبادة، وذلك مع الإيذان بأنهما أعظم الأركان، فهو ندب إلى تطويلهما على الركنين الآخرين لأن القعود إنما هو للرفق بالاستراحة والركوع إنما أريد به إخلاص الأركان للعبادة، لأنه لا يمكن عادة أن يكون لغيرها، وأما السجود فيطرقه احتمال السقوط والقيام والقعود مما جرت به العوائد، فلما ضم إليهما الركوع تمحضاً للخضوع بين يدي الملك العليم العزيز الرحيم‏.‏

ولما كان الإنسان محل الفتور والغفلة والنسيان، وكان ذلك في محل الغفران، وكان لا يمكن صلاحه إلا بالخوف من الملك الديان، قال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن كأنه يقول‏:‏ ما له يتعب نفسه هذا التعب ويكدها هذا الكد‏:‏ ‏{‏يحذر الآخرة‏}‏ أي عذاب الله فيها، فهو دائم التجدد لذلك كلما غفل عنه‏.‏ ولما ذكر الخوف، أتبعه قرينه الذي لا يصح بدونه فقال‏:‏ ‏{‏ويرجوا رحمة ربه‏}‏ أي الذي لم يزل ينقلب في إنعامه‏.‏

ولما كان الحامل على الخوف والرجاء والعمل إنما هو العلم النافع، وكان العلم الذي لا ينفع كالجهل أو الجهل خير، كان جواب ما تقدم من الاستفهام‏:‏ لا يستويان، لأن المخلص عالم والمشرك جاهل‏.‏ فأمره بالجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لا يستويان، لأن الحامل على الإخلاص العلم وعلى الإشراك الجهل وقلة العقل، ثم أنكر على من يشك في ذلك فقل له‏:‏ ‏{‏هل يستوي‏}‏ أي في الرتبة ‏{‏الذين يعلمون‏}‏ أي فيعملون على مقتضى العلم، فأداهم علمهم إلى التوحيد والإخلاص في الدين ‏{‏والذين لا يعلمون‏}‏ فليست أعمالهم على مقتضى العلم إما لجهل وإما لإعراض عن مقتضى العلم فصاروا لا علم لهم لأنه لا انتفاع لهم به لأنهم لو تأملوا أدنى تأمل مع تجريد الأنفس من الهوى لرجعوا إليه من أنه لا يرضى أحد أصلاً لعبده أن يخالف أمره، وإلى أنه لا يطلق العلم إلا على العامل أرشد قول ابن هشام في السيرة

‏{‏ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏ أن يقول الناس‏:‏ علماء، وليسوا بأهل علم، لم يحملوهم على هدى ولا حق‏.‏

ولما كان مدار السداد التذكر‏.‏ وكان مدار التذكر الذي به الصلاح والفساد هو القلب لأنه مركز العقل الذي هو آلة العلم، وكان القلب الذي لا يحمل على الصلاح عدماً، بل العدم خير منه، قال‏:‏ ‏{‏إنما يتذكر‏}‏ أي تذكراً عظيماً بما أفهمه إظهار التاء فيعلم أن المحسن لا يرضى بالإحسان إلى من يأكل خيره ويعبد غيره ‏{‏أولوا الألباب *‏}‏ أي العقول الصافية والقلوب النيرة وهم الموصوفون آخر آل عمران بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ إلى آخرها، وما أحسن التعبير هنا باللب الذي هو خلاصة الشيء لأن السياق للإخلاص، قال الرازي في اللوامع‏:‏ قال الإمام محمد بن علي الترمذي‏:‏ خلق الله تعالى الأشياء مسخرة للآدمي، وخلق الآدمي للخدمة، ووضع فيه أنواره ليخرج الخدمة لله تعالى من باطنه بالحاجة، فالآدمي مندوب إلى العلم بالله تعالى وبأوامره حسب ما خلق له، والخدمة والقنوت بقلبك بين يديه ماثلاً منتصباً محقاً مبادراً مسارعاً سائقاً مركبك في جميع أمورك بالحب له، وعلم الخدمة علم البساطين‏:‏ بساط القدرة وبساط العبودة فإذا طالعت بساط القدرة بعقل وافر وهو أن تعرف نفسك وتركيبك من روحاني وجسماني، وطالعت بساط العبودة بكياسة تامة أدركت تدبيره في العبودة وباطن أمره ونهيه وعلل التحريم والتحليل، وبسط الله بساط الربوبية من باب القدرة، وبسط بساط العبودة من باب العظمة، ثم كان آخر خلقه سبحانه هذا الإنسان الذي بسط له هذين البساطين، وجمع فيه العالمين، وزاد على ما فيهما من قبول الأمر اختياراً وطوعاً، وكل شيء أعطاك إنما أعطاك لتبرزه إلى جوارحك، وتستعمله فيما خلق له، فلو لم يعطك منك لم يطلب منك، فلا تطلب الزكاة ممن لا مال له، ولا الصلاة قياماً ممن لا رجل له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 13‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما ثبت أن القانت خير، وكان المخالف له كثيراً، وكان أعظم حامل له على القنوت التقوى، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل، وكان الإنسان- لما له من النقصان- أحوج شيء إلى التثبيت، وكان التثبيت من المجانس، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف، وتوالي الزلزال والمتالف، إلا إذ كان عن الملك، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق، فقال‏:‏ ‏{‏يا عباد‏}‏ دون أن يقول‏:‏ يا عباد الله، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير‏.‏ قال الله، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها‏.‏

ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين «اجلس على البساط وإياك والانبساط» ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً، وخوفاً وانكساراً، مما أقله قطع الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى‏.‏

ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا‏:‏ فما لنا إن فعلنا‏؟‏ قال مجيباً معللاً‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ أي لكم، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال‏:‏ ‏{‏في هذه‏}‏ باسم الإشارة زيادة في التعيين ‏{‏الدنيا‏}‏ أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه ‏{‏حسنة‏}‏ أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب، ويجوز أن يكون معنى ‏{‏أحسنوا‏}‏ أوقعوا الإحسان، ومعلوم أنه في هذه الدنيا، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا، فالأول حسن‏.‏

ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان، ويحمله على العصيان، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه ذلك المانع، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل‏:‏

وإذا نبا بك منزل فتحول *** فقال‏:‏ ‏{‏وأرض الله‏}‏ أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة ‏{‏واسعة‏}‏ ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة‏.‏

ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال‏:‏ ‏{‏إنما يوفى‏}‏ أي التوفية العظمية ‏{‏الصابرون‏}‏ أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها ‏{‏أجرهم بغير حساب *‏}‏ أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره، وتتعاظم آثاره، بحسب الهمم في علوها وسفولها، وسموها ونزولها، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال- لم يكن عليه حساب، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، ادع الله لي، قال‏:‏ «إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك»، قالت‏:‏ بل أصبر ولا حساب علي‏.‏

ولما كانت الأعين ناظرة إلى الأمر هل يفعل ما يأمر به ومقيده بالرئيس لتأتسي به، وكان أعظم الصابرين من جاهد نفسه حتى خلص أعمالها من الشوائب وحماها من الحظوظ والعوائق، وصانها من الفتور والشواغل، أمره بما يرغبهم في المجاهدة، ويكشف لهم عن حلاوة الصبر، بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ولما كان الرئيس لقربه من الملك بحيث يظن أنه يسامحه في كثير مما يكلف به غيره أكد قوله‏:‏ ‏{‏إني أمرت‏}‏ وبني الفعل لما لم يسم فاعله تعظيماً للأمر بأنه قطع ومضى بحيث لم يبق فيه مشوبة، وأقام مقام الفاعل دليلاً على أنه العمدة للحث على لزومه قوله‏:‏ ‏{‏أن أعبد الله‏}‏ أي الذي الخلق كلهم سواء بالنسبة إلى قبضته وعلوه وعظمته لأنه غني عن كل شيء ‏{‏مخلصاً له الدين *‏}‏ أي العبادة التي يرجى منه الجزاء عليها‏.‏

ولما كان الرئيس إذا سابق إلى شيء شوق النفوس إليه، وأوجب عليها العكوف عليه قال‏:‏ ‏{‏وأمرت‏}‏ أي، وقع الأمر لي وانبرم بأوامر عظيمة وراء ما أمرتم به لا تطيقونها ‏{‏لأن‏}‏ أي لأجل أن ‏{‏أكون‏}‏ في وقتي وفي شرعي ‏{‏أول‏}‏ أي أعظم ‏{‏المسلمين *‏}‏ أي المنقادين في الرتبة الحائزين قصب السبق بكل اعتبار لأوامر الإله الذي لا فوز إلا بامتثال أوامره أو أسبق الكائنين منهم في زماني، فجهة هذا الفعل غير جهة الأول، فلذلك عطف عليه لأنه لإحراز قصب السبق، والأول لمطلق الإخلاص في العبادة‏.‏

ولما كان ما أمر به مفهماً لأن يكون مع ترغيب ومع ترهيب، وكان ربما ظن أن الرئيس لا يرهب الملك لأمور ترجى منه أو تخشى، وكان تكرير الأمر بإبلاغ المأمورين أوقع في قلوبهم وأشد إقبالاً بنفوسهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لأمتك، وأكد- لما في الأوهام أن الرئيس لا يخاف- قوله ‏{‏إني أخاف‏}‏ أي مع تأمينه لي بغفران ما تقدم وما تأخر إخلاصاً في إجلاله وإعظامه وفعلاً لما على العبد لمولاه الذي له جميع الكبرياء والعظمة، ولما كان وصف الإحسان ربما جراً على العصيان، يبن أنه لا يكون ذلك إلا لعدم العرفان فقال‏:‏ ‏{‏إن عصيت ربي‏}‏ أي المحسن إليّ المربي لي بكل جميل فتركت الإخلاص له ‏{‏عذاب يوم عظيم *‏}‏ وإذا كان اليوم عظيماً، فكيف يكون عذابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما بين ما أمر به، وأعلم أنه يخاف من مخالفة الأمر له بذلك فأفهم أنه ممتثل لما أمر به، أمره سبحانه بأن يصرح بذلك لأن التصريح من المزية ما لا يخفى فقال‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال وحده ‏{‏أعبد‏}‏ تخصيصاً له بذلك، لا أنحو أصلاً بالعبادة نحو غيره أبداً ‏{‏مخلصاً له‏}‏ وحده ‏{‏ديني *‏}‏ أي امتثالاً لما أمرت به فلا أشينه بشائبة أصلاً لا طلباً لجنّة ولا خوفاً من نار فإنه قد غفر لي ما تقدم وما تأخر، فصارت عبادتي لآجل وجهه وكونه مستحقاً للعبادة خاصة شوقاً إليه وحباً له وحياء منه وأما الرغبة فيما عنده سبحانه والخوف من سطواته التي جماعها قطع الإحسان الذي هو عند الأغبياء أدنى ما يخاف فإنما خوفي لأجل إعطاء المقام حقه من ذل العبودية وعز الربوبية‏.‏

ولما علم من هذا غاية الامتثال بغاية الرغبة والرهبة وهم يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم أقواهم قلباً وأصفاهم لباً، وأجرأهم نفساً وأصدقهم وأشجعهم عشيرة وحزباً، كان خوف غيره من باب الأولى، فسبب عنهد تهديدهم أعظم تهديد بقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوا‏}‏ أي أنتم أيها الداعون له في وقت الضراء المعرضون عنه في وقت الرخاء ‏{‏ما شئتم‏}‏ أي من جماد أو غيره‏.‏ ونبّه على سفول رتبة كل شيء بالنسبة إليه سبحانه تسفيهاً لمن يلتفت إلى سواه بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ فإن عبادة ما دونه تؤدي إلى قطع إحسانه، ولا إحسان إلا إحسانه، فإذا انقطع حصل كل سوء، وفي ذلك جميع الخسارة‏.‏

ولما كانوا يدعون الذكاء، ويفعلون ما لا يفعله عاقل، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على غباوتهم بما يصيرون إليه من شقاوتهم فقال‏:‏ ‏{‏قل إن الخاسرين‏}‏ أي الذين خسارتهم هي الخسارة لكونها النهاية في العطب ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ أي بدخولهم النار التي هي معدن الهلاك لعبادتهم غير الله من كل ما يوجب الطغيان‏.‏ ولما كان أعز ما على الإنسان بعد نفسه أهله الذين عزه بهم قال‏:‏ ‏{‏وأهليهم‏}‏ أي لأنهم إن كانوا مثلهم فحالهم في الخسارة كحالهم، ولا يمكن أحداً منهم أن يواسي صاحبه بوجه فإنه لكل منهم شأن يغنيه، وإن كانوا ناجين فلا اجتماع بينهم‏.‏

ولما كانت العاقبة هي المقصودة بالذات، قال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأن ذلك اليوم هو الفيصل لا يمكن لما فات فيه تدارك أصلاً ولما كان في ذلك غاية الهول‏.‏ كرر التعريف بغباوتهم تنبيهاً على رسخوهم في ذلك الوصف على طريق النتيجة لما أفهمه ما قبله فقال منادياً لأنه أهول مبالغاً بالاستئناف وحرف التنبيه وضمير الفصل وتعريف الخبر ووصفه‏:‏ ‏{‏ألا ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة جداً ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الخسران‏}‏ أتى بصيغة الفعلان المفهم مطلقاً للمبالغة فكيف إذا بنيت على الضم الذي هو أثقل الحركات، وزاد في تقريعهم بالغباوة بقوله‏:‏ ‏{‏المبين *‏}‏‏.‏

ولما علم بهذا أنه البين في نفسه المنادي بما فيه من القباحة بأنه لا خسران غيره، فصله بقوله على طريق التهكم بهم‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ فإن عادة اللام عند مصاحبة المجرور ولا سيما الضمير إفهام المحبوب للضمير لا سيما مع ذكر الظلل وأشار إلى قربها منهم بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من فوقهم ظلل‏}‏ ولما أوهمهم ذلك الراحة، أزال ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من النار‏}‏ وذلك أنكأ مما لو أفهمهم الشر من أول الأمر‏.‏ ولما كان في القرار- كائناً ما كان على أي حال كان نوع من الراحة بالسكون، بين أنهم معلقون في غمرات الاضطراب، يصعدهم اللهيب تارة، ويهبطهم انعكاسه عليهم برجوعه إليهم أخرى، فلا قرار لهم أصلاً كما يكون الحب في الماء على النار، يغلي به صاعداً وسافلاً، لا يقر في أسفل القدر أصلاً لقوله‏:‏ ‏{‏ومن تحتهم‏}‏‏.‏

ولما كان كون الظلة المأخوذة من الظل من تحت في غاية الغرابة، أعادها ولم يكتف بالأولى، ولم يعد ذكر النار لفهمها في التحت من باب الأولى فقال‏:‏ ‏{‏ظلل‏}‏ ومما يدل على ما فهمته من عدم القرار ما رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ «من رأى منكم الليلة رؤيا، فسألنا يوماً قلنا‏:‏ لا، قال‏:‏ لكني رأيت رجلين أتياني فأخذا بيدي وأخرجاني إلى الأرض المقدسة»- فذكره بطوله حتى قال‏:‏ «فانطلقنا إلى نقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، توقد تحته نار، فإذا فيه رجال ونساء عراة فيأتيهم اللهيب من تحتهم فإذا اقترب ارتفعوا حتى كادوا يخرجون فإذا خمدت رجعوا» فذكره وهو طويل عظيم، ثم فسرهم بالزناة‏.‏

لما كان هذا أمراً مهولاً، وهو لا يرهبونه ولا يرجعون عن غيّهم به، ذكر فائدته مع الزيادة في تعظيمه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الشأن ‏{‏يخوف الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي صفاته الجبروت والكبر ‏{‏به عباده‏}‏ أي الذين لهم أقلية الإقبال عليه ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم فيعيذهم منه‏.‏ ولما أهلهم للإضافة إليه وخوفهم سطواته، أقبل عليهم عند تهيئتهم للاستماع منبهاً على أنه تخويف استعطاف فقال‏:‏ ‏{‏يا عباد فاتقون *‏}‏ أي سببوا عن ذلك أن تجعلوا بينكم وبين ما يسخطني وقاية مما يرضيني لأرضى عنكم‏.‏

ولما ذكر ما لمن عبد الطاغوت، عطف عليه أضدادهم ليقترن الوعد بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب فقال‏:‏ ‏{‏والذين اجتنبوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم ذلك لما لها في الانسياق إليه من الهوى مع تزيين الشيطان «حفت النار بالشهوات» ولما كان للإجمال ثم البيان موقع عظيم، قال‏:‏ ‏{‏الطاغوت‏}‏ وهو كل ما عبد من دون الله، فلغوت من الطغيان وهو صيغة مبالغة، وفيه مبالغة أخرى بجعل الذات عين المعنى، ودل على عكس من تبعها بتعكيس حروفها، ولما ذكر اجتنابها مطلقاً ترغيباً فيه، بين خلاصة ما يجتنب لأجله مع التنفير منها بتأنيثها الذي أبصره المنيبون بتقوية الله لهم عليها حتى كانوا ذكراناً وهم إناثاً عكس ما تقدم للكفار في البقرة، فقال مبدلاً منها بدل اشتمال‏:‏ ‏{‏أن يعبدوها‏}‏‏.‏

ولما ذكر اجتناب الشرك، أتبعه التزام التوحيد فقال‏:‏ ‏{‏وأنابوا‏}‏ أي رجعوا رجوعاً عظيماً أزالوا فيه النوبة وجعلوها إقبالة واحدة لا صرف فيها ‏{‏إلى الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال فلا معدل عنه ‏{‏لهم البشرى‏}‏ في الدنيا على ألسنة الرسل وعند الموت تتلقاهم الملائكة فقد ربحوا ربحاً لا خسارة معه لأنهم انتفعوا بكلام الله فأخلصوا دينهم له فبشرهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال مسبباً عن عملهم، صارفاً القول إلى التكلم بالإفراد تشريفاً للمبشرين الموصوفين‏:‏ ‏{‏فبشر عباد *‏}‏ أي الذين أهلوا أنفسهم بقصر هممهم عليّ للإضافة إليّ ‏{‏الذين يستمعون‏}‏ أي بجميع قلوبهم ‏{‏القول‏}‏ أي هذا الجنس من كل قائل ليسوا جفاة عساة إذا أقبلوا على شيء أعرضوا عن غيره بغير دليل ‏{‏فيتبعون‏}‏ أي بكل عزائمهم بعد انتقاده‏:‏ ‏{‏أحسنه‏}‏ بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى هوى، ويدخل في هذه الآية دخولاً بيناً حث أهل الكتاب على اتباع هذا القرآن العظيم، فإن كتب الله كلها حسنة، وهذا القرآن أحسنها كلاماً، ومعاني ونظاماً، لا يشك في هذا أحد له أدنى ذوق‏.‏

ولما بين عملهم، أنتج ذلك مدحهم فقال مظهراً زيادة المحبة لهم والاهتمام بشأنهم بالتأكيد‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الهمة والرتبة خاصة ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان في هؤلاء المجتبين العالو الرتبة جداً وغيره، أبرز المفعول فقال محولاً الأسلوب إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم هدايتهم، ‏{‏هداهم الله‏}‏ بما له من صفات الكمال فبين سبحانه أن لا وصول إليه إلا به، وهذا بخلاف آية الأنعام حيث ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال ‏{‏أولئك الذين هدى الله‏}‏ فحذف المفعول لتصير هدايتهم مكررة بوجوب تسليط العامل على الموصول الذي أعاد عليه الضمير في هذه الآية، وكرر الإشارة زيادة في تعظيمهم فقال‏:‏ ‏{‏وأولئك هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏أولوا الألباب *‏}‏ أي العقول الصافية عن شوب كدر‏.‏

ولما خص سبحانه البشارة بالمحسنين، علم أن غيرهم قد حكم بشقاوته، وكان صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من عظيم الرحمة ومزيد الشفقة جديراً بالأسف على من أعرض، سبب عن أسفه عليهم قوله‏:‏ ‏{‏أفمن حق‏}‏ وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم ‏{‏عليه كلمة العذاب‏}‏ بإبائه وتوليه، فكان لذلك منغمساً في النار التي أبرمنا القضاء بأنها جزاء الفجار لا يمكن إنقاذه منها، أفأنت تنقذه من إعراضه الذي غمسه في النار‏؟‏ ثم دل على هذا الذي قدرته بقوله مؤكداً بإعادة حرف الاستفهام لأجل طول الكلام ولتهويل الأمر وتفخيمه للنهي عن تعليق الهم بهم لما عنده صلى الله عليه وسلم من جبلة العطف والرقة على عباد الله‏:‏ ‏{‏أفأنت تنقذ‏}‏ أي تخلص وتمنع وتنجي، ووضع موضع ضميره قوله شهادة عليه بما هو مستحقه ولا يمكن غير الله فكه منه ‏{‏من في النار *‏}‏ متمكناً فيها شديد الانغماس في طبقاتها، والرسوخ بحيث إنها قد أحاطت به من كل جانب، وكان الأصل‏:‏ أنت تنقذ من حق عليه العذاب، فقدم المفعول وجعله عمدة الكلام ليقرع السمع ويترقب الخبر عنه، ثم حذف خبره ليكون أهول فتذهب النفس فيه كل مذهب، ثم أنكر أن يكون أعلى الخلق ينقذه، فغيره من باب الأولى، فصار الكلام بذلك من الرونق والبهجة والهول والإرهاب ما لا يقدر البشر على مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة وعدم تدبير، بين ما لأضدادهم، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى‏:‏ ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم‏}‏ أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه ‏{‏لهم غرف‏}‏ أي علالي من الجنة يسكنونها في نظير ظلل الكفار‏.‏ ولما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل «من فوقهم» كما قال في أهل النار وقال‏:‏ ‏{‏من فوقها غرف‏}‏ أي شديدة العلو‏.‏ ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء، لأن الغرفة أصلها العالي، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما يعقل‏:‏ ‏{‏مبنية‏}‏‏.‏ ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها‏}‏ أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل، لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك ‏{‏الأنهار‏}‏‏.‏

ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه، بين أنه أمر لا بد منه بقوله، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر الدال على الفعل الناصب له، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة‏:‏ ‏{‏لا يخلف الله‏}‏ أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده‏.‏ ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه فهو أبلغ من رعيه نفسه، عبر بالمفعال فقال‏:‏ ‏{‏الميعاد *‏}‏ لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف‏.‏

ولما أخبر سبحانه بقدرته على البعث، دل عليها بما يتكرر مشاهدته من مثلها، وخص المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخطاب حثاً على تأمل هذا الدليل تنبيهاً على عظمته فقال مقدراً‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي مما يدلك على قدرته سبحانه على إعادة ما اضمحل وتمزق، وأرفت وتفرق‏:‏ ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له كل صفة كمال ‏{‏أنزل من السماء‏}‏ أي التي لا يستمسك الماء فيها إلا بقدرة باهرة تقهره على ذلك ‏{‏ماء‏}‏ كما تشاهدونه في كل عام ‏{‏فسلكه‏}‏ أي في خلال التراب حال كونه ‏{‏ينابيع‏}‏ أي عيوناً فائرة ‏{‏في الأرض‏}‏ فقهره على الصعود بعد أن غيبه في أعماقها بالفيض والصوب بعد أن كان قسره على الانضباط في العلو ثم أكرهه على النزول على مقدار معلوم وكيفية مدبرة وأمر مقسوم، قال الشعبي والضحاك‏:‏ كل ماء في الأرض من السماء ينزل إلى الصخرة ثم يقسم منها العيون والركايا‏.‏

ولما كان إخراج النبات متراخياً عن نزول المطر، عبر بثم، وفيها أيضاً تنبيه على تعظيم الأمر فيما تلاها بأنه محل الشاهد فقال‏:‏ ‏{‏ثم يخرج‏}‏ أي والله ‏{‏به‏}‏ أي الماء ‏{‏زرعاً‏}‏ ولما كان اختلاف المسبب مع اتحاد السبب أعجب في الصنعة وأدل على بديع القدرة، قال‏:‏ ‏{‏مختلفاً ألوانه‏}‏ أي في الأصناف والكيفيات والطبائع والطعوم وغير ذلك مع اتحاد الماء الذي جمعه من أعماق الأرض بعد أن تفتت فيها وصار تراباً‏.‏

ولما كان الإيقاف بعد قوة الإشراف دالاً على القهر ونفوذ الأمر، قال إشارة إلى أن الخروج عن الحد غير محمود في شيء من الأشياء فإنه يعود عليه النقص ‏{‏ثم يهيج‏}‏ وزاد في تعظيم هذا المعنى للحث على تدبره بإسناده إلى خير الخلق صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏فتراه‏}‏ أي فيتسبب عن هيجه وهو شدة ثورانه في نموه بعد التمام بتوقيع الانصرام أنك تراه ‏{‏مصفراً‏}‏ آخذاً في الجفاف بعد تلك الزهرة والبهجة والنضرة‏.‏ ولما كان السياق لإظهار القدرة التامة، عبر بالجعل مسنداً إليه سبحانه بخلاف آية الحديد التي عبر فيها بالكون لأن السياق ثَم لأن الدنيا عدم فقال‏:‏ ‏{‏ثم يجعله حطاماً‏}‏ أي مكسراً مفتتاً بالياً‏.‏

ولما تم هذا المنوال البديع الدال بلا شك لكل من رآه على أن فاعله قادر على الإعادة لما يريد بعد الإبادة، كما قدر على الإيجاد من العدم والإفادة لكل ما لم يكن، قال على سبيل التأكيد للتنبيه على أن إنكارهم غاية في الحمق والجمود‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي التدبير على هذا الوجه ‏{‏لذكرى‏}‏ أي تذكيراً عظيماً واضحاً على البعث وما يكون بعده، فإن النبات كالإنسان سواء، يكون ماء، ثم ينعقد بشراً، ثم يخرج طفلاً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً، ثم شيخاً ثم هرماً، ثم تراباً مفتتاً في الأرض، ثم يجمعه فيخرجه كما أخرج الماء النبات‏:‏ ‏{‏لأولي الألباب *‏}‏ أي العقول الصافية جداً كما نبه عليه بخصوص الخطاب في أول هذا الباب للمنزل عليه هذا الكتاب، وأما غيره وغير من تبعه بإحسان فهم كبهائم الحيوان‏.‏

ولما كان الذي قرر به أمراً فيما يظنه السامع ظاهراً كما كان جديراً بأن ينكر بعض الواقفين مع الظواهر تخصيص الألباء به، سبب عن ذلك الإنكار في قوله‏:‏ ‏{‏أفمن شرح الله‏}‏ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ‏{‏صدره للإسلام‏}‏ أي للانقياد للدليل، فكان قلبه ليناً فانقاد للإيمان فاهتدى لباطن هذا الدليل ‏{‏فهو‏}‏ أي فيتسبب عن إسلام ظاهره وباطنه للداعي أن كان ‏{‏على نور‏}‏ أي بيان عظيم بكتاب، به يأخذ، وبه يعطي، وإليه في كل أمر ينتهي قد استعلى عليه فهو كأنه راكبه، يصرفه حيث يشاء، وزاد في بيان عظيم هدايته بلفت القول إلى مظهر الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏من ربه‏}‏ أي المحسن إليه إحسانه في انقياده، فبشرى له فهو على صراط مستقيم، كمن جعل صدره ضيقاً حرجاً فكان قلبه قاسياً، فكان في الظلام خابطاً، فويل له- هكذا كان الأصل ولكن قيل‏:‏ ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم‏}‏ أي لضيق صدورهم، وزاد في بيان ما بلاهم به من عظيم القسوة بلفت القول إلى الاسم الدال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى فقال‏:‏ ‏{‏من ذكر الله‏}‏ فإن من تبتدئ قسوته مما تطمئن به القلوب وتلين له الجلود، من مدح الجامع لصفات الكمال فهو أقسى من الجلمود‏.‏

ولما كان من رسم بهذا الخزي أخسر الناس صفقة أنتج وصفه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الأباعد الأباغض ‏{‏في ضلال مبين *‏}‏ أي واضح في نفسه موضح أمره لكل أحد، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً الشرح والنور دليلاً على حذف ضده ثانياً، وثانياً الويل للقاسي والضلال دليلاً على حذف ضده أولاً- روى البيهقي في الشعب والبغوي من طريق الثعلبي والحكيم الترمذي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية، قال‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كيف انشراح صدورهم‏؟‏ قال‏:‏ إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا‏:‏ يا رسول الله‏؟‏ فما علاقة ذلك‏؟‏ قال‏:‏ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري‏:‏ والنور الذي من قبله سبحانه نور اللوائح بنجوم العلم، ثم نور اللوامع ببيان الفهم، ثم نور المحاضرة بزوائد اليقين، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات، ثم نور المشاهدة بظهور الذات، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد، فعند ذلك لا وجد ولا قصد، ولا قرب ولا بعد، كلا بل هو الله الواحد القهار، وذلك كما قيل‏:‏ المؤمن بقوة عقله يوجب استقلاله بعلمه إلى أن يبدو ومنه كمال تمكنه من وقادة بصيرته، ثم إذا بدا له لائحة من سلطان المعارف تصير تلك الأنوار مقمرة، فإذا بدت أنوار التوحيد استهلكت تلك الجملة، فلما استبان الصبح أدرج ضوءه بأنواره أنوار تلك الكواكب‏.‏

ولما كان من المستبعد جداً أن يقسو قلب من ذكر الله، بينه الله وصوره في أعظم الذكر فإنه كان للذين آمنوا هدى وشفاء، وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وفي أبصارهم عمى، فقال مفخماً للمنزل بجعل الاسم الأعظم مبتدأ وبناء الكلام عليه‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال ‏{‏نزّل‏}‏ أي بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة ‏{‏أحسن الحديث‏}‏ وأعظم الذكر، ولولا أنه هو الذي نزله لما كان الأحسن، ولقدر- ولو يوماً واحداً- على الإتيان بشيء من مثله، وأبدل من «أحسن» قوله‏:‏ ‏{‏كتاباً‏}‏ أي جامعاً لكل خير ‏{‏متشابهاً‏}‏ أي في البلاغة المعجزة والموعظة الحسنة، لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى، مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أو لا، والاختلاف في المختلف في الزمان أكثر، ولم يقل‏:‏ مشتبهاً، لئلا يظن أنه كله غير واضح الدلالة لا يمدح به‏.‏

ولما كان مفصلاً إلى سور وآيات وجمل، وصفه بالجمع في قوله‏:‏ ‏{‏مثاني‏}‏ جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير أي تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام والحكم، مختلفة البيان في وجوه من الحكم، متفاوتة الطرق في وضوح الدلالات، من غير اختلاف أصلاً في أصل المعنى، ولا يمل من تكراره، وترداد قراءته وتأمله واعتباره، مع أن جميع ما فيه أزواج من الشيء وضده‏:‏ المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، والرحمة العامة والرحمة الخاصة، والجنة والنار، والنعيم والشقاء والضلال والهدى، والسراء والضراء، والبشارة والنذارة، فلا ترتب على شيء من ذلك جزاء صريحاً إلا ثني بإفهام ما لضده تلويحاً، فكان مذكوراً مرتين، ومرغباً فيه أو مرهباً منه كرتين، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ متشابهة مثانيه، فيكون نصبه على التمييز، وفائدة التكرير أن النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عوداً على بدء لم يرسخ عندها ولم يعمل عمله، ومن ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر قوله ثلاث مرات فأكثر‏.‏

ولما كان التكرار يمل، ذكر أن من خصائص هذا الكتاب أنه يطرب مع التكرار، ويزداد حلاوة ولو ثنى آناء الليل وأطراف النهار، فقال‏:‏ ‏{‏تقشعر‏}‏ أي تهتز وتتجمع وتتقبض تقبضاً شديداً، من القشع وهو الأديم اليابس، وزيد حرفاً لزيادة المعنى، واختير حرف التكرير إشارة إلى المبالغة فيه، وكونه حرف التطوير أشد للمناسبة ‏{‏منه جلود‏}‏ أي ظواهر أجسام ‏{‏الذين يخشون‏}‏ أي يخافون خوفاً شديداً ويلتذون لذة توجب إجلالاً وهيبة، فيكون ذلك سبب ذلك، وزاد في مدحهم بأنهم يخافون المحسن، فهم عند ذكر أوصاف الجلال أشد خوفاً، فلذلك لفت القول إلى وصف الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي المربي لهم والمحسن إليهم لاهتزاز قلوبهم، روى الطبراني عن العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت خطاياه»، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر برجل من أهل العراق ساقط، قال‏:‏ فما بال هذا‏؟‏ قال‏:‏ إنه إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط، قال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ إنا لنخشى الله وما نسقط وإن الشيطان ليدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ثم تلين‏}‏ أي تمتد وتنعم، وقدم ما صرح فيه بالاقشعرار الذي يلزمه اليبس، وأخر القلوب إبعاداً لها عما قد يفهم يبساً فيوهم قسوة فقال‏:‏ ‏{‏جلودهم‏}‏ لتراجعهم بعد برهة إلى الرجاء وإن اشتدت صلابتها ‏{‏وقلوبهم‏}‏ وذكره لتجدد لين القلوب مع الجلود دال على تقدير اقشعرارها معها من شدة الخشية فإن الخشية لا تكون إلا في القلب، وكان سر حذف التصريح بذلك تنزيههاً عن ذكر ما قد يفهم القسوة‏.‏

ولما كان القلب شديد الاضطراب والتقلب، دل على حفظه له بنافذ أمره وباهر عظمته بالتعدية ب «إلى» ليكون المعنى‏:‏ ساكنة مطمئنة ‏{‏إلى ذكر الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام، فإن الأصل في ذكره الرجاء لأن رحمته سبقت غضبه، وأظهر موضع الإضمار لأحسن الحديث لئلا يوهم أن الضمير للرب، فيكون شبهة لأهل الاتحاد أو غيرهم من أرباب البدع، ولم يقل‏:‏ إلى الحديث أو الكتاب- مثلاً، بل عدل إلى ما عرف أنه ذكره سبحانه ليكون أفخم لشأنه، وزاده فخامة بصرف القول عن الوصف المقتضي للإحسان إلى الاسم الجامع للجلال والإكرام‏.‏

ولما كان ما ذكر من الآثار عجباً، دل على عظمته بقوله على طريق الاستنتاج‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الغريب من الحديث المنزل والقبض والبسط ‏{‏هدى الله‏}‏ أي الذي لا يتمنع عليه شيء ‏{‏يهدي به من يشاء‏}‏ ومن هداه الله فما له من مضل، ويضل به من يشاء فلا تتأثر جلودهم لقساوة قلوبهم، فيكون هدى لناس ضلالاً لآخرين ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء إضلالاً راسخاً في قلبه بما أشعر به الفك ليخرج الضلال العارض ‏{‏فما له من هاد *‏}‏ لأنه لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، لأنه الواحد في ملكه، فلا شريك له، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً إطلاق أمره في الهداية دليلاً على حذف مثله في الضلال، وثانياً انسداد باب الهداية على من أضله دليلاً على وحذف مثله فيمن هداه وهي دامغة للقدرية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 28‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما أتم الإنكار على من سوى، بين من شرح صدره ومن ضيق، وما تبعه وختم بأن الأول مهتد، والثاني ضال، شرع في بيان ما لكل منهما نشراً مشوشاً في أسلوب الإنكار أيضاً، فقال مشيراً إلى أن الضلال سبب العذاب، والهدى سبب النعيم، وحذف هنا المنعم الذي سبب له النعيم لين قلبه كما حذف القاسي القلب في آية الشرح الذي سببت له قسوته العذاب، لتتقابل الآيتان، وتتعادل العبارتان‏:‏ ‏{‏أفمن‏}‏ وأفرد على لفظ ‏{‏من‏}‏ لئلا يظن أن الوجوه الأكابر فقال‏:‏ ‏{‏يتقي‏}‏ ودل على أن يده التي جرت العادة بأنه يتقي بها المخاوف مغلولة بقوله‏:‏ ‏{‏بوجهه‏}‏ الذي كان يقيه المخاوف ويحميه منها بجعله وهو أشرف أعضائه وقاية يقي به غيره من بدنه ‏{‏سوء العذاب‏}‏ أي شدته ومكروهه لأنه تابع نفسه على هواها حتى قسا قلبه وفسد لبه ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأنه يرمي به في النار منكوساً وهو مكبل، لا شيء له من أعضائه مطلق يرد به عن وجهه في عنقه صخرة من الكبريت مثل الجبل العظيم، ويسحب في النار على وجهه، كمن أمن العذاب فهو يتلقى النعيم بقلبه وقالبه‏.‏

ولما كان مطلق التوبيخ والتقريع متكئاً، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وقيل‏}‏ له- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم به وجمع تنبيهاً على أن كثرتهم لم تغن عنهم شيئاً فقال‏:‏ ‏{‏للظالمين‏}‏ أي الذين تركوا طريق الهدى واتبعوا الهوى فضلوا وأضلوا‏:‏ ‏{‏ذوقوا ما‏}‏ أي جزاء ما ‏{‏كنتم تكسبون *‏}‏ أي تعدونه فائدة وثمرة لأعمالكم وتصرفاتكم، وقيل لأهل النعيم‏:‏ طيبوا نفساً وقروا عيناً جزاء بما كنتم تعلمون، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الاستفهام أولاً دليلاً على حذف متعلقه ثانياً، وما يقال للظالم ثانياً دليلاً على ما يقال للعدل أولاً‏.‏

ولما ذكر ما أعد لهم من الآخرة، وكانوا في مدة كفرهم كالحيوانات العجم لا ينظرون إلا الجزئيات الحاضرة، خوفهم بما يعملونه في الدنيا، فقال على طريق الاستئناف في جواب من يقول‏:‏ فهل يعذبون في الدنيا‏:‏ ‏{‏كذب الذين‏}‏ وأشار إلى قرب زمان المعذبين من زمانهم بإدخال الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي مثل سبأ وقوم تبع وأنظارهم‏:‏ ‏{‏فأتاهم العذاب‏}‏ وكان أمرهم علينا يسيراً، وأشار إلى أنه لم يغنهم حذرهم بقوله‏:‏ ‏{‏من حيث‏}‏ أي من جهة ‏{‏لا يشعرون *‏}‏ أنه يأتي منها عذاب، جعل إتيانه من مأمنهم ليكون ذلك أوجع للمعذب، وأدل على القدرة بأنه سواء عنده تعالى الإتيان بالعذاب من جهة يتوقع منها ومن جهة لا يتوقع أن يأتي منها شر ما، فضلاً عما أخذوا به، بل لا يتوقع إلا الخير‏.‏

لما بين سفههم وشدة حمقهم باستعجالهم بالعذاب استهزاء، سبب عنه تبكيت من لم يتعظ بحالهم فقال‏:‏ ‏{‏فأذاقهم الله‏}‏ أي الذي لا راد لأمره ‏{‏الخزي‏}‏ أي الذل الناشئ عن الفضيحة والعذاب الكبير بما رادوه من إخزاء الرسل بتكذبيهم ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ أي العاجلة الدنية‏.‏

ولما كان انتظار الفرج مما يسلي، قال معلماً أن عذابهم دائم على سبيل الترقي إلى ما هو أشد، وأكده إنكارهم إياه‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة‏}‏ أي الذي انتقلوا إليه بالموت ويصيرون إليه البعث‏:‏ ‏{‏أكبر‏}‏ من العذاب الذي أهلكهم في الدنيا، وأشدهم إخزاء، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الخزي أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والأكبر ثانياً دليلاً على الكبير أولاً، وسره تغليظ الأمر عليهم بالجمع بين الخزي والعذاب بما فعلوا برسله عليهم الصلاة والسلام بخلاف ما يأتي في فصلت‏.‏ فإن سيافه للطعن في الوحدانية، وهي لكثرة أدلتها وبعدها عن الشكوك وعظيم المتصف بها وعدم تأثيره بشيء يكفي في نكال الكافر به مطلق العذاب‏.‏

ولما كان من علم أن فعله يورث نكالاً كف عنه ولا يكفون ولا يتعظون قال‏:‏ ‏{‏لو كانوا يعلمون *‏}‏ أي لو كان لهم علم ما لعلموا أنه أكبر فاتعظوا وآمنوا، ولكنه لا علم لهم أصلاً، بل هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، لأن الجزئيات لا تنفعهم كما تنفع سائر الحيوانات، فإن الشاة ترى الذئب فتنفر منه إدراكاً لأن بينها وبينه عداوة بما خلق الله في طبعه من أكل أمثالها، وهؤلاء يرون ما حل بأمثالهم من العذاب لتكذيبهم الرسل فلا يفرون منه إلى التصديق‏.‏

ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر‏:‏ ‏{‏ولقد ضربنا‏}‏ على ما لنا من العظمة‏.‏ ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال ‏{‏أمن هو قانت‏}‏ إلى أن ختم بقوله ‏{‏أفمن يتقي بوجهه‏}‏ وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر، فقدم قوله‏:‏ ‏{‏للناس‏}‏ أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة‏.‏

ولما كان المتعنت كثيراً، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف، وجعلها ما يعبر به عن القرب، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خلع القلوب وملأها، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان، فقال‏:‏ ‏{‏في هذا القرآن‏}‏ أي الجامع لكل علم‏.‏ ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد، وكان في سياق التعجيب من توقفهم قال ‏{‏من كل مثل‏}‏ أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة، ثم بين علة الضرب بقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون *‏}‏ أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً- بما أرشد إليه الإظهار، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان‏.‏

ولما كان ذلك غاية في الشرف، دل على زيادة شرفه بحال مؤكدة دالة على شدة عنادهم، تسمى موطئه لأن الحال في الحقيقة ما بعدها بقوله‏:‏ ‏{‏قرآناً‏}‏ أي حال كون ذلك المضروب جامعاً لكن ما يحتاج إليه، ويجوز أن يكون النصب على المدح ‏{‏عربياً‏}‏ جارياً على قوانين لسانهم في جمعه باتساعه ووضوحه واحتمال اللفظ الواحد منه لمعان كثيرة، فكيف إذا انضم إلى غيره فصار كلاماً‏.‏ ولما كان الشيء قد يكون مستقيماً بالفعل وهو معوج بالقوة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏غير ذي عوج‏}‏ أي ليس بمنسوب إلى شيء من العوج ولا من شأنه العوج، فلا يصح أن يكون معوجاً أصلاً في شيء من نظمه ولا معناه باختلاف ولا غيره كما في آية الكهف سواء، وفي الإتيان بعوج الذي هو مختص بالمعاني بيان أن الوصف له حقيقة، فهو أبلغ من غير معوج، لأنه يحتمل إرادة أهله على المجاز‏.‏

ولما كان التذكر بالتذكير لكونه أبلغ للوعظ حاملاً، ولا بد للعاقل على الخوف المسبب للنجاة قال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتقون *‏}‏ أي ليكون حالهم بعد التذكير الناشئ عن التذكير حال من يرجى له أن يجعل بينه وبين غضب الله وقاية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 33‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما أقام سبحانه الدليل المنير على التفاوت العظيم، بين من هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يدعو الله مخلصاً له الدين وبين من يدعو لله أنداداً، وختم بضرب الأمثال، وكان الأمثال أبين فيما يراد من الأحوال، قال منبهاً على عظمتها بلفت القول عن مظهر العظمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال‏:‏ ‏{‏ضرب الله‏}‏ أي الملك الأعظم المتفرد بصفات الكمال ‏{‏مثلاً‏}‏ لهذين الرجلين مع أنه لا يشك ذو عقل أن المشرك لا يداني المخلص فضلاً عن أن يقول‏:‏ إن المشرك أعظم كما يقوله المشركون‏.‏ ولما كان الذكر أقوى من الأنثى، وأعرف بمواقع النفع والضر، وكان كونه بالغاً أعظم لقوته وأشد لشكيمته، فيكون أنفى للعار عن نفسه وأدفع للظلم عن جانبه وأذب عن حماه، قال مبيناً للمثل مشيراً إلى تبكيت الكفار ورضاهم لأنفسهم بما لا يرضاه لنفسه أدنى الأرقاء ‏{‏رجلاً فيه‏}‏ أي خاصة‏.‏ ولما كانت معبوداتهم- لكونها من جملة المخلوقات- كثيرة الأشباه والنظائر، عبر عنها بجمع الكثرة فقال‏:‏ ‏{‏شركاء‏}‏ في الظاهر من الأصنام وفي الباطن من الحظوظ والشهوات، ووصف الشركاء بقوله‏:‏ ‏{‏متشاكسون‏}‏ أي مختلفون عسرون يتجاذبون مع سوء الأخلاق وضيقها وقباحة الشركة، فليس أحد منهم يرضى بالإنصاف، فهو لا يقدر أن يرضيهم أصلاً ‏{‏ورجلاً سلماً‏}‏ أي من نزاع ‏{‏لرجل‏}‏ فليس فيه لغيره شركة ولا علاقة أصلاً، فهو أجدر بأن يقدر على رضاه مع راحته من تجاذب الشركاء- هذا على قراءة المكي والبصري، وعلى قراءة الباقين بحذف الألف وفتح اللام وهو وصف بالمصدر على المبالغة‏.‏

ولما انكشف الحال فيها جداً قال‏:‏ ‏{‏هل يستويان‏}‏ أي الرجلان يكون أحدهما مساوياً للآخر بوجه من الوجوه ولو بغاية الجهد والعناية‏.‏ ولما كان الاستواء مبهماً قال‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏ أي من جهة المثل، أي هل يستوي مثلهما أي يجمعهما مثل واحد حتى أن يكونا هما متساويين فهو تمييز محول في الأصل عن الفاعل، والجواب في هذا الاستفهام الإنكاري قطعاً‏:‏ لا سواء، بل مثل الرجل السالم في غاية الحسن فكذا ممثوله وهو القانت المخلص، ومثل الرجل الذي وقع فيه التشاكس في غاية القبح فكذا ممثوله وهو الداعي للأنداد‏.‏

ولما علم بهذا المثل المضروب للرجلين سفول المشترك وهو الداعي للأنداد، وعلو السالم وهو القانت، ظهر بذلك بلا ريب حقارة المتشاركين وجلالة المتفرد وهو الله، فأنتج قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لله‏}‏ الذي لا مكافئ له، يعلم ذلك كل أحد لما له من الظهور لما عليه من الدلائل، فلا يصح أن يكون له شريك ‏{‏بل أكثرهم‏}‏ أي الناس ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ لأنهم يعملون لما لا يليق بهذا العلم فيشركون به إما جلياً وإما خفياً، ويجوز أن يقال‏:‏ له الكمال كله، فليس الملتفتون إلى غيره أدنى التفات علماء، بل لا علم لهم أصلاً، وهم المشركون شركاً جلياً، وأما أصحاب الشرك الخفي فهم، وإن كان لهم علم- فليس بكامل‏.‏

ولما كان السالم مثلاً له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه، والآخر للمخالفين، وكان سبحانه قد أثبت جهلهم، وكان الجاهل ذا حمية وإباء لما يدعى إليه من الحق وعصبيته‏:‏

والجاهلون لأهل العلم اعداء *** فكان لذلك التفكير في أمرهم وما يؤدي إليه من التقاعد من الأتباع والتصويب بالأذى ولا سيما وهم أكثر من أهل العلم مؤدياً إلى الأسف وشديد القلق فكان موضع أن يقال‏:‏ فما يعمل‏؟‏ وكان لا ينبغي في الحقيقة أن يقلق إلا من ظن دوام النكد، قال تعالى مسلياً ومعزياً وموسياً في سياق التأكيد، تنبيهاً على أن من قلق كان حاله مقتضياً لإنكار انقطاع التأكيد‏:‏ ‏{‏إنك‏}‏ فخصه صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه، فكل موضع كان للأتباع وخص فيه صلى الله عليه وسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ‏.‏

ولما لم يكن لممكن من نفسه إلا العدم قال‏:‏ ‏{‏ميت‏}‏ أي الآن لأن هذه صفة لازمة بخلاف «مايت» يعني‏:‏ فكن كالميت بين يدي الغاسل فإنك مستريح قريباً عما تقاسي من أنكادهم، وراجع إلى ربك ليجازيك على طاعتك له ‏{‏وإنهم‏}‏ أي العباد كلهم أتباعك وغيرهم ‏{‏ميتون‏}‏ فمنقطع ما هم فيه من اللدد والعيش والرغد‏.‏

ولما كان الشفاء الكامل إنما يكون بأخذ الثار، وإذلال الظالم، قال مشيراً بأداة التراخي إلى مدة البرزخ مؤكداً لأجل إنكارهم البعث فضلاً عن القصاص صادعاً لهم بالخطاب بعد الغيبة‏:‏ ‏{‏ثم إنكم‏}‏ أي أيها العباد كلكم، فإن كل أحد مسؤول عن نفسه وعن غيره هل راعى حق الله فيه، أو أنت وهم من باب تغليب المخاطب وإن كان واحداً لعظمته على الغائبين، وزاد في إثبات المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ فساقه مساق ما خلاف فيه، وبين أن ذلك الحال مخالف لهذا الحال لانقطاع الأسباب بقوله، صارفاً القول إلى وصف التربية الذي يحق له الفضل على الطائع والعدل في العاصي ‏{‏عند ربكم‏}‏ أي المربي لكم بالخلق والرزق فلا يجوز في الحكمة أن يدعكم يبغي بعضكم على بعض كما هو مشاهد من غير حساب كما أن أقلكم عقلاً لا يرضى بذلك في عبيده الذين ملكه الله إياهم ملكاً ضعيفاً، أو ولاه عليهم ولاية مزلزلة، فكيف بمن فوقه فكيف بالحكماء ‏{‏تختصمون *‏}‏ أي تبالغون في الخصومة ليأخذ بيد المظلوم وينتقم له من الظالم، ويجازي كلاًّ بما عمل، أما في الشر فسوءاً بسوء، لا يظلم مثقال ذرة ولا ما دونه، وأما في الخير فالحسنة بعشرة أمثالها- إلى ما فوق ذلك مما لا يعلمه غيره، فلا ينبغي أبداً لمظلوم أن يتوهم دوام نكده وعدم الأخذ بيده فيقتصر في العمل ويجنح إلى شيء من الخوف والوجل، بل عليه أن يفرح بما يجزل ثوابه، ويسر بما ييسر حسابه، ويشتغل بما يخلص به نفسه في يوم التلاق الذي الناس فيه فريقان، ولا يشتغل بما لا يكون من تصفية دار الكدر عن الأكدار، وقرارة الدنس عن الأقذاء والأقذار، فإن الدوام فيها محال على حال من الأحوال، قال القشيري‏:‏ نعاه صلى الله عليه وسلم ونعى المسلمين إليهم ففرغوا بأنفسهم عن مأتمهم، ولا تعزية في العادة بعد ثلاث، ومن لم يتفرغ عن مأتم نفسه وأنواع غمومه وهمومه، فليس له من هذا الحديث شمة، وإذا فرغ قلب عن حديث نفسه وعن الكون بجملته، فحينئذ يجد الخير من ربه وليس هذا الحديث إلا بعد فنائهم عنهم، وأنشد بعضهم يعني في لسان الحال بما قدمنا‏:‏

كتبت إليكم بعد موتي بليلة *** ولم أدر أني بعد موتي أكتب

انتهى‏.‏ ومن المعلوم أنهم إذا أماتوا نفوسهم حييت أرواحهم فانفسحت صدورهم وانتعشت قوى قلوبهم فاتسعت علومهم واستنارت فهومهم وتجلت لهم حقائق الأمور فحدثوا عن مشاهدة ‏{‏الناس نيام‏}‏ فإذا ماتوا انتبهوا‏.‏

ولما أخبر سبحانه بأنهم جعلوا لله أنداداً، وأعلم بأنهم كذبة في ذلك كافرون ساترون للحق، وأنه لا يهدي من هو كاذب كفار، وأخبر أنه لا بد من خصام الداعي لهم بين يديه سبحانه، لآنه لا يجوز في الحكمة تركهم هملاً كما هو مقرر في العقول وموجود في الفطر الأولى، ومعلوم بالمشاهدة من أحوالهم فينعم على المظلوم، وينتقم من الظالم، وكان الكاذب في أقل الأشياء ظالماً، وأظلم منه الكاذب على الأكابر، وأظلم الظالمين الكاذب على الله، قال تعالى مسبباً عما مضى‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ أي منهم- هكذ كان الأصل ولكنه قال‏:‏ ‏{‏ممن كذب‏}‏ تعميماً وتعليقاً بالوصف، فكفر بستر الصدق الثابت وإظهار ما لا حقيقة له‏.‏

ولما كان الكذب عظيم القباحة في نفسه فكيف إذا كان كما مضى على الأكابر فكيف إذا كانوا ملوكاً، فكيف إذا كان على ملك الملوك، لفت القول إلى مظهر الاسم الأعظم تنبيهاً على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره، فمن نازعه واحدة منهما قصمه، فزعم فب كذبه أن له سبحانه أنداداً، وشركاء وأولاداً‏.‏

ولما كان وقوع الحساب يوم القيامة حقاً لكونه واقعاً لا محالة وقوعاً يطابق الخبر عنه، لما علم من أنه لا يليق في الحكمة غيره لما علم من أن أقل الخلق لا يرضى أن يترك عبيده سدى، فكيف بالخالق‏؟‏ فكان الخبر به صدقاً لوقوع العلم القطعي بأنه يطابق ذلك الواقع قال‏:‏ ‏{‏وكذب‏}‏ أي أوقع التكذيب لكل من أخبره ‏{‏بالصدق‏}‏ أي الإخبار بأن الله واحد وأنه يبعث الخلائق للجزاء المطابق كل منهما للواقع لما دل على ذلك من الدلائل المشاهدة ‏{‏إذ جاءه‏}‏ أي من غير توقف ولا نظر في دليل، كما هو دأب المعاندين، أولئك هم الكافرون لهم ما يضرهم من عذاب جهنم، ذلك جزاء المسيئين‏.‏

ولما كان قد تقرر كالشمس أنه لا يسوغ في عقل العاقل ترك الخلق سدى، فكان يوم الدين معلوماً قطعاً، وكان معنى هذا الاستفهام الإنكاري نفي مدخوله فترجمته‏:‏ ليس أحد أكذب منهم، وكان عرف اللغة في تسليط هذا النفي على صيغة أفعل إثبات مدلول أفعل ليكون المعنى أنهم أكذب الخلق، فكان التقدير‏:‏ أليس هذا الكاذب المكذب عاقلاً يخشى أن يحاسبه الله الذي خلقه‏؟‏ أليس الله المتصف بجميع صفات الكمال يحاسب عباده كما يحاسب كل من الخلائق من تحت يده‏؟‏ أليس يحبس الظالم منهم في دار انتقامه كما يفعل أدنى الحكام‏؟‏ أليس دار انتقامه جهنم التي تلقى داخلها بعبوسة وتجهم‏؟‏ نسق به قوله‏:‏ ‏{‏أليس في جهنم‏}‏ أي النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله ‏{‏مثوى‏}‏ أي منزل مهيأ للإقامة فيه على وجه اللزوم لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال تعميماً وتعليلاً بالوصف مبيناً أن الكذب كفر أي ستر للصدق وغظهار لما لا حقيقة له، والتكذيب بالصدق كذلك ‏{‏للكافرين *‏}‏ أي الذين ستروا كذبهم فألبسوه ملابس الصدق وستروا الصدق الذي كذبوا به، ذلك جزاء المسيئين لأنهم ليسوا بمتقين، فأقام سبحانه هذه المقدمة دليلاً على تلك المقدمات كلها‏.‏

ولما ذكر سبحانه الظالمين بالكذب ذكر أضدادهم الذين يخاصمونهم عند ربهم وهم المحسنون بالصدق فقال‏:‏ ‏{‏والذي‏}‏ أي الفريق الذي ‏{‏جاء بالصدق‏}‏ أي الخبر المطابق للواقع، فصدق على الله، وتعريفه يدل على كماله، فيشير إلى أن الإتيان به ديدنه لا يتعمد كذباً ‏{‏وصدق به‏}‏ أي بكل صدق سمعه وقام عليه الدليل، وليس هو بجموده عدو ما لم يعلم، فهو يكذب بكل ما لم يسمع، فمن أعدل منه لكونه صدق على الله وصدق بالصدق إذ جاءه واستمر عليه، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة الموصوف بهذا الوصف من الصدق، وهذا الفريق هو الرسل وأتباعهم، ولذلك حصر التقوى فيهم، فقال مشيراً بالجمع إلى عظمتهم وإن كانوا قليلاً‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الترتبة ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المتقون *‏}‏ الذين جانبوا الظلم، فليس لجهنم عليهم سبيل، ولا لهم فيها منزل ولا مقيل، بل الجنة منزلهم، أليس في الجنة منزل للمتقين‏؟‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أولاً المثوى في جهنم دليلاً على حذف ضده ثانياً، والاتقاء ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم من الكفر وسوء الجزاء‏.‏ وأسرّ ما للمسلم من قصر التقوى عليه، وذكر أحب جزائه إليه، والإشارة إلى عراقته في الإحسان وفي الآيات احتباك آخر وهو أنه ذكر الكذب والتكذيب أولاً دليلاً على الصدق والتصديق ثانياً، والاتقاء وجزاءه وما يتبعه ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر في شق المسيء أنكأ ما يكون من الكذب والتكذيب في أقبح مواضعه، ولا سيما عند العرب، وأسر ما يكون في شق المحسن من استقامة الطبع وحسن الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما مدحهم على تقواهم، قال في جواب من سأل عن ثوابهم، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم‏:‏ ‏{‏لهم ما يشآءون‏}‏ أي يتجدد لهم إرادته متى أرادوه ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون‏.‏ ولما كان أعظم الجزاء، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الثواب الكبير ‏{‏جزاء المحسنين *‏}‏ أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى، فأحبه الله سبحانه كما أحبهم، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏.‏

ولما كان العاقل من قدم في كل أمر الأهم فالأهم فميز بين خير الخيرين فأتبعه، وشر الشرين فاجتنبه، كان المحسن من جعل أكبر ذنوبه نصب عينيه وعمل على هدمه، فلذلك علل الإحسان بقوله‏:‏ ‏{‏ليكفر‏}‏ أي يستر ستراً عظيماً كأنه قال‏:‏ المحسنين الذين أحسنوا لهذا الغرض، ويجوز أن يكون التعليل للجزاء، وعبر بالاسم الأعظم لفتاً عن صفة الإحسان إشارة إلى عظيم الاجتهاد في العمل والإيذان بأنه لا يقدر على الغفران لمن يريد إلا مطلق التصرف فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي نصب المحسن جلاله وجماله بين عينيه، فاستغرق في صفاته ابتغاء مرضاته، فعبده كأنه يراه، وحقق باعترافهم بالخطأ وقصدهم التكفير لما أهمهم فعلهم له بقوله‏:‏ ‏{‏عنهم أسوأ‏}‏ العمل ‏{‏الذي عملوا‏}‏ وتابوا عنه بالندم والإقلاع والعزم على عدم العود وقد علم أنه إذا محي الأكبر انمحى الأصغر لأن الحسنات يذهبن السيئات، فلله در أهل البصائر والإخلاص في الإعلان والسرائر ولما أخبر بالتطهير من اوضار السيئ، أتبعه الإخبار بالتنوير بأنوار الحسن فقال‏:‏ ‏{‏ويجزيهم أجرهم‏}‏ أي الذي تفضل عليهم بالوعد به‏.‏

ولما كان تعالى يزيد العمل الصالح ويربيه، زاد الجار في الجزاء إعلاماً بأنه يجعل الأعمال الصالحة كلها مثل أعلاها فقال‏:‏ ‏{‏بأحسن‏}‏ ولما كان مقصود هذه السورة أخص من مقصود سورة النحل، وكانت «الذي» و«من» أقل إبهاماً من «ما» قال‏:‏ ‏{‏الذي‏}‏ أي العمل الذي، وهو كالأول من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه كخاتم فضة، وأشار إلى مداومتهم على الخير بالتعبير بالكون والمضارع فقال‏:‏ ‏{‏كانوا يعملون *‏}‏ مجددين له وقتاً بعد وقت لأنه في طبائعهم فهم عريقون في تعاطيه، فمن كان في هذه الدار محسناً في وقت ما يعبد الله كأنه يراه فهو في الآخرة كل حين يراه، قال القشيري، ثم يجب أن يكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وأحسن الثواب الرؤية، فيجب أن يكون على الدوام‏.‏ وهذا استدلال قوي‏.‏

ولما فهم من قوله‏:‏ «وكذب بالصدق إذ جاءه» أن المشركين يكذبونه، وكان من طبع الآدمي الاهتمام بمثل ذلك ولا سيما إذا كان المكذب كثيراً وقوياً، وتقرر أنه سبحانه الحكم العدل بين المتخاصمين وغيرهم في الدنيا والآخرة، ولزم كل سامع الإقرار بالآخرة، وبشر المحسنين وحذر المسيئين، وكان من المعلوم أنهم يحذرونه آلهتهم كما يحذرهم إلهه، حسن كل الحسن قوله مقراً للكفاية غاية الإقرار، ومنكراً لنفيها كل الإنكار‏:‏ ‏{‏أليس الله‏}‏ أي الجامع لصفات العظمة كلها المنعوت بنعوت الكمال من الجلال والجمال، وأكد المراد بزيادة الجار لما عندهم من الجزم بأنهم غالبون فقال‏:‏ ‏{‏بكاف‏}‏ وحقق المناط بالإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏عبده‏}‏ أي الخالص له الذي لم يشرك به أصلاً كما تقدم في المثل ممن كذبه وقصد مساءته فينصره عليهم حتى يظهر دينه ويعلي أمره ويغنيه عن أن يحتاج إلى غيره أو يجنح إلى سواه، باعتقاد أن في يده شيئاً يستقل به، وهاذ لا ينافي السعي في الأسباب مع اعتقاد أنها بيد الله، فإن شاء ربط بها المسببات، وإن شاء أعقمها، بل السعي أكمل، لأن ترتيب الأسباب بوضع الحكيم، فالسعي في طرحها ينافي وضع الحكمة، وقرأ حمزة والكسائي وأبو جعفر‏:‏ عباده- بالجمع بمعنى الرسول وأتباعه‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ بلى، إنه ليكفي من يشاء، والأصنام الممثلون بالشركاء المتشاكسين لا يكفون من تولاهم، بني على ذلك حالاً عجيباً من أحوالهم، فقال معجباً منهم ومتهكماً بهم‏:‏ ‏{‏ويخوفونك‏}‏ أي عباد الأصنام يعلمون أن الله يكفي من أراد وأن الأصنام لا كفاية عندها بوجه والحال أنهم يخوفونك‏.‏ ولما كان الخوف ممن له اختيار، فإن كان عاقلاً كان أقوى لمخالفته، وكان من المعلوم بديهة أنه لا اختيار لهم فضلاً عن العقل، قال تهكماً بهم بالتعبير بما يعبر به عن الذكور العقلاء لكونهم ينزلونهم بالعبادة وغيرها منزلة العقلاء مع اعترافهم بأنهم لا عقل لهم، فصاروا بذلك ضحكة وشهرة بين الناس‏:‏ ‏{‏بالذين‏}‏ وبين حقارتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ وهم معبوداتهم ضلالاً عن المحجة فيقولون‏:‏ إنا نخشى عليك أن يخبلك آلهتنا كما قالت عاد لهود عليه السلام ‏{‏أن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏ وسيأتي التعبير عنهم بالتانيث زيادة في توبيخهم‏.‏

ولما كان من الحق الواضح كالشمس أن ما قالوه لا يقوله عاقل، وكان التقدير‏:‏ فقد أظلهم الله إهانة لهم وهداك إكراماً لك، بين أنه سبحانه قسرهم على ذلك ليكون إضلاله لهم آية كما أن هداه لمن هداه آية، فقال مخففاً عنه صلى الله عليه وسلم في إذهاب نفسه عليهم حسرات دامغاً للقدرية‏:‏ ‏{‏ومن يضلل الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فلا يرد أمره ‏{‏فما له‏}‏ لأجل أنه هو الذي أضله ‏{‏من هاد‏}‏ أي فخفض من حزنك عليهم ‏{‏ومن يهد الله‏}‏ أي الذي لا يعجزه شيء أبداً ‏{‏فما له من مضل‏}‏ فهو سبحانه يهدي من شاء منهم إن أراد‏.‏

ولما لم تبق شبهة ولا شيء من شك أن الهادي المضل إنما هو الله وحده وأنه جعل شيئاً واحداً سبباً لضلال قوم ليكون ضلالهم في الظاهر علة للنقمة، وهدى لآخرين فيكون هداهم سبباً للنعمة، بلغ النهاية في الحسن قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله‏}‏ أي الذي بيده كل شيء ‏{‏بعزيز‏}‏ أي غالب لما يريد في إضلاله قوماً يدعون أنهم النهاية في كمال العقول لما هدى به غيرهم ‏{‏ذي انتقام *‏}‏ أي له هذا الوصف، فمن أراد النقمة منه سلط عليه ما يريد مما يحزنه ويذله كما أنه إذا أراد يعميه عن أنور النور ويضله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما علم بهذه البراهين أنه سبحانه المتصرف في المعاني بتصرفه في القلوب بالهداية والإضلال، وكان التقدير‏:‏ فلئن قررتم بهذا الاستفهام الإنكاري ليقولن‏:‏ بلى‏!‏ عطف عليه بيان أن الخالق للذات كما أنه المالك للمعاني والصفات، فقال مفسداً لدينهم باعترافهم بأصلين‏:‏ القدرة التامة له والعجز الكامل لمعبوداتهم‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ أي فقلت لمن شئت منهم فرادى أو مجتمعين‏:‏ ‏{‏من خلق السماوات‏}‏ أي على ما لها من الاتساع والعظمة والارتفاع ‏{‏والأرض‏}‏ على ما لها من العجائب وفيها من الانتفاع ‏{‏ليقولن‏}‏ بعد تخويفهم لك بشركائهم الذين هم من جملة خلق من أرسلك بما أنت فيه‏:‏ الذي خلقها ‏{‏الله‏}‏ أي وحده الذي لا سمي له وإلباس بوجه في أمره، ولا يصدهم عن ذلك الحياء من التناقض ولا الخوف من التهافت بالتعارض‏.‏

ولما كان هذا مخيراً لأن بين ولا بد أنهم لا يقبلون ولا يعرضون كان كأنه قيل‏:‏ فماذا أصنع‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ مسبباً عن اعترافهم له سبحانه بجميع الأمر قوله مقرراً بالفرع بعد إقرارهم بالأصل ومقرعاً بتخويفهم ممن ليس له أمر بعقد ولا حل‏:‏ ‏{‏أفرءيتم‏}‏‏.‏

ولما كان السائل النصوح ينبغي له أنه ينبه الخصم على محل النكتة لينتبه من غفلته فيرجع عن غلطته عبر بأداة ما لا يعقل عن معبوداتهم بعد التعبير عنها سابقاً بأداة الذكور العقلاء بياناً لغلطهم، فقال معبراً عن مفعول ‏{‏رأيت‏}‏ الأول والثاني جملة الاستفهام، ‏{‏ما تدعون‏}‏ أي دعاء عبادة، وقرر بعدهم عن التخويف بهم بادعاء إلهيتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي هو ذو الجلال والإكرام فلا شيء إلا وهو من دونه وتحت قهره، ولما كانت العافية أكثر من البلوى، أشار إليها بأداة الشك ونبه على مزيد عظمته سبحانه بإعادة الاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏إن أرادني الله‏}‏ أي الذي لا راد لأمره ولما كان درأ المفاسد مقدماً قال‏:‏ ‏{‏بضر‏}‏ أي إن أطعتكم في الجنوح إليها خوفاً منها، وبالغ في تنبيههم نصحاً لهم ليرجعوا عن ظاهر غيهم بما ذكر من دناءتها وسفولها بالتأنيث بعد سفولها بعدم العقل مع دناءتها وبعد التهكم بهم بالتعبير عنها بأداة الذكور العقلاء فقال‏:‏ ‏{‏هل هن‏}‏ أي هذه الأوثان التي تعبدونها ‏{‏كاشفات‏}‏ أي عني مع اعترافكم بأنه لا خلق لها وأنها مخلوقة لله تعالى ‏{‏ضره‏}‏ أي الذي أصابني به نوعاً من الكشف، لأرجوها في وقت شدتي ‏{‏أو أرادني برحمة‏}‏ لطاعتي إياه في توحيده، وخلع ما سواه من عبيده ‏{‏هل هن ممسكات‏}‏ أي عني ‏{‏رحمته‏}‏ أي لأجل عصياني لهن نوع إمساك، لأطيعكم في الخوف منهن- هذه قراءة أبي عمرو بالتنوين وإعمال اسم الفاعل بنصب ما بعده، وهو الأصل في اسم الفاعل، والباقون بالإضافة، ولا فائدة غير التخفيف، وقد يتخيل منها أن الأوثان مختصة بهذا المعنى معروفة‏.‏

ولما كان من المعلوم أنهم يسكتون عند هذا السؤال لما يعلمون من لزوم التناقض أن أجابوا بالباطل، ومن بطلان دينهم أن أجابوا بالحق، وكان الجواب قطعاً عن هذا‏:‏ لا سوء نطقوا أو اسكتوا، تحرر أنه لا متصرف بوجه إلا الله، فكانت النتيجة قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ إذا ألقمتهم الحجر‏:‏ ‏{‏حسبي‏}‏ أي كافي ‏{‏الله‏}‏ الذي أفردته بالعبادة لأنه له الأمر كله مما يخوفونني به ومن غيره ‏{‏عليه‏}‏ وحده لأن له الكمال كله ‏{‏يتوكل المتوكلون *‏}‏ أي الذين يريدون أن يعلو أمرهم كل أمر، وأمره بالقول إعلاماً بأن حالهم عند هذا السؤال التناقض الظاهر جداً‏.‏

ولما كانوا مع هذه الحجج القاطعة، والأدلة القامعة والبراهين الساطعة، التي لا دافع لها بوجه، كالبهائم لا يبصرون إلا الجزئيات حال وقوعها، قال مهدداً مع الاستعطاف‏:‏ ‏{‏قل يا قوم‏}‏ أي يا أقاربي الذين أرتجيهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولونه ‏{‏اعملوا‏}‏ أي افعلوا افعالاً مبنية على العلم ‏{‏على مكانتكم‏}‏ أي حالتكم التي ترتبتم فيها وجمدتم عليها لأنه جبلة لكم من الكون والمكنة لتبصروا حقائق الأمور، فتنتقلوا عن أحوالكم السافلة إلى المنازل العالية، فكأنه يشير إلى أنهم كالحيوانات العجم، لا اختيار لهم ويعرّض بالعمل الذي مبناه العلم والمكانة التي محطها الجمود بأن أفعالهم ليس فيها ما ينبني على العلم، وإنما هي جزاف لا اعتبار لها ولا وزن لها‏.‏ ثم أجاب من عساه أن يقول له منهم‏:‏ فماذا تعمل أنت‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إني عامل‏}‏ على كفاية الله لي، ليس لي نظر إلى سواه، ولا أخشى غيره، وليس لي مكانة ألتزم الجمود عليها، بل أنا واقف على ما يرد من عند الله، إن نقلني انتقلت وإن أمرني بغير ذلك امتثلت وأنا مرتقب كل وقت للزيادة، ثم سبب عن قول من لعله يقول منهم‏:‏ وماذا عساه يكون قوله‏؟‏ إيذاناً بأنه على ثقة من أمره، لأن المخبر له به الله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون *‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏من يأتيه‏}‏ أي منا ومنكم ‏{‏عذاب يخزيه‏}‏ بأن يزيل عنه كل شيء يمكنه أن يستعذبه ‏{‏ويحل عليه‏}‏ أي يجب في وقته، من حل عليه الحق يحل بالكسر أي وجب، والدين‏:‏ صار حالاً بحضور أجله ‏{‏عذاب مقيم *‏}‏ لإقامته على حالته وجموده على ضلالته، ومن يؤتيه الله انتصاراً يعليه وينقله إلى نعيم عظيم، لانتقاله بارتقائه في مدارج الكمال، بأوامر ذي الجلال والجمال، ولقد علموا ذلك في قصة المستهزئين ثم في وقعة بدر فإن من أهلكه الله منهم جعل إهلاكه أول عذابه ونقله به إلى عذاب البرزخ ثم عذاب النار، فلا انفكاك له من العذاب، ولا رجاء لحسن المآب‏.‏

ولما تجلت عرائس هذه المعاني آخذة بالألباب، ولمعت سيوف تلك المباني من المثاني قاطعة الرقاب، وختمها بما ختم من صادع الإرهاب، أنتجت ولا بد قوله معللاً لإتيان ما توعدهم به مؤكداً لما لهم من الإنكار لمضمون هذا الإخبار‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا‏}‏ أي بما لنا من باهر العظمة ونافذ الكلمة‏.‏

ولما كان توسط الملك خفياً‏.‏ لم يعده فأسقط حرف الغاية إفهاماً لأنه في الحقيقة بلا واسطة بعد أن أثبت وساطته أول السورة فقال مقروناً بالأمر بالعبادة إشارة إلى بداية الحال، فلما حصل التمكن فصار الكتاب خلقاً له صلى الله عليه وسلم وصار ظهوره فيه هادياً لغيره، نبه على ذلك بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليك‏}‏ أي خاصة لا على غيرك من أهل هذا الزمان، لأنك عندنا الخالص لنا دون أهل القريتين ودون أهل الأرض كلهم، لم يكن لشيء دوننا فيك حظ ‏{‏الكتاب‏}‏ الجامع لكل خير لكونه في غاية الكمال بما دل عليه «ال» ‏{‏للناس‏}‏ عامة لأن رسالتك عامة ‏{‏بالحق‏}‏ مصاحباً له، لا يقدر الخلق على أن يزيحوا معنى من معانيه عن قصده، ولا لفظاً من ألفاظه عن سبيله وحده، بل هو معجز في معانيه- حاضرة كانت أو غائبه- ونظومه، وألفاظه وأسماء سوره وآياته وجميع رسومه، فلا بد من إتيان ما فيه من وعد ووعيد‏.‏

ولما تسبب عن علم ذلك وجوب المبادرة إلى الإذعان له لفوز الدارين، حسن جداً قوله تعالى تسلية له صلى الله عليه وسلم لعظيم ما له من الشفقة عليهم وتهديداً لهم‏:‏ ‏{‏فمن اهتدى‏}‏ أي طاوع الهادي ‏{‏فلنفسه‏}‏ أي فاهتداؤه خاص نفعه بها ليس له فيه إلا أجر التسبب ‏{‏ومن ضل‏}‏ أي وقع منه ضلال بمخالفته لداعي الفطرة ثم داعي الرسالة عن علم وتعمد، أو إهمال للنظر وتهاون‏.‏ ولما كان ربما وقع في وهم أنه يحلق الداعي بعد البيان ومن إثم الضال، وكان السياق لتهديد الضالين‏.‏ زاد في التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏فإنما يضل عليها‏}‏ أي ليس عليك شيء من ضلاله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏.‏

ولما هدى السياق إلى أن التقدير‏:‏ فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أنت‏}‏ أي في هذا الحال، ولمزيد العناية بنفي القهر أداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهم بوكيل *‏}‏ لتحفظهم عن الضلال، فإن الرسالة إليهم لإقامة الحجة لا لقدرة الرسول على هدايتهم ولا لعجز المرسل عن ذلك‏.‏