فصل: الجزء السابع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء السابع عشر

سورة غافر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏ مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏حم*‏}‏ أي هذه حكمة محمد صلى الله عليه وسلم التي خصه بها الرحمن الرحيم الحميد المجيد مما له من صفة الكمال‏.‏

لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب‏}‏ أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة، والتدريب للألباب السائرة في جو المعاني والطائرة ‏{‏من الله‏}‏ أي الجامع لجميع صفات الكمال‏.‏ ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال‏:‏ ‏{‏العزيز العليم *‏}‏‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل‏}‏ ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره، فقال الله تعالى ‏{‏أليس الله بكاف عبده‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏أليس الله بعزيز ذي انتقام‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 37‏]‏ ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال ‏{‏قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال ‏{‏قل لله الشفاعة جميعاً‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة‏}‏ ‏{‏أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر‏}‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ ‏{‏له مقاليد السماوات والأرض‏}‏ ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى ‏{‏أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ ثم قال تعالى ‏{‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه‏}‏ ثم اتبع تعالى- ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏حمتنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏}‏ فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، مع قهره للكل في الدارين معاً، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره، ثم قال تعالى ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ تأنيساً لمن استجاب بحمده، وأناب بلطفه، وجرياً على حكم الرحمة وتغليبها، ثم قال ‏{‏شديد العقاب ذي الطول‏}‏ ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء، واكتنف قوله ‏{‏شديد العقاب‏}‏ بقوله ‏{‏غافر الذنب وقابل التوب‏}‏ وقوله ‏{‏ذي الطول‏}‏ وأشار سبحانه بقوله- ‏{‏فلا يغررك تقلبهم في البلاد‏}‏- إلى قوله قبل ‏{‏وأورثنا الأرض‏}‏ وكأنه في تقدير‏:‏ إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم، وجدالهم في الآيات كجدالهم، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب، وسبق لهم في أم الكتاب- انتهى‏.‏

ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن، وكان الغفران- وهو محو الذنب عيناً وأثراً- مترتباً على العلم به، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله‏:‏ ‏{‏غافر الذنب‏}‏ أي بتوبة وغير توبة إن شاء، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة‏.‏ قال السمين‏:‏ نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة، ولم يستثن الكوفيون شيئاً‏.‏

ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك، وكان المشركون يقولون‏:‏ قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال‏:‏ ‏{‏وقابل التوب‏}‏ وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة‏.‏ ولما كان الاقتصار على الترغيب بما أطمع عذر المتمادي من سطوته، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏ فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ‏:‏ ‏{‏شديد العقاب *‏}‏ على أن تنكيره وإبهامه- كما قال الزمخشري- للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها‏.‏

ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ، أتبعه التشويق إلى الفضل، فقال معرياً عن الواو لأن التمام لا يقتضي المبالغة، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه‏:‏ ‏{‏ذي الطول‏}‏ أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ ولما أنتج هذا كله تفرده، أنتج قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏إليه‏}‏ أي وحده ‏{‏المصير *‏}‏ أي في المعنى في الدنيا، وفي الحس والمعنى في الآخرة، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده‏.‏

ولما تبين ما للقرآن من البيان الجامع بحسب نزوله جواباً لما يعرض لهم من الشبه، فدل بإزاحته كل علة عى ما وصف سبحانه به نفسه المقدس من العزة والعلم بياناً لا خفاء في شيء منه، أنتج قول ذماً لمن يريد إبطاله وإخفاءه‏:‏ ‏{‏ما يجادل‏}‏ أي يخاصم ويماري ويريد أن يفتل الأمور إلى مراده ‏{‏في آيات‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعظيماً للآيات فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدالة كالشمس على أنه إليه المصير، بأن يغش نفسه بالشك في ذلك لشبه يميل معها، أو غيره بالتشكيك له، أو في شيء غير ذلك مما أخبر به تعالى ‏{‏إلا الذين كفروا‏}‏ أي غطوا مرائي عقولهم وأنوار بصائرهم لبساً على أنفسهم وتلبيساً على غيرهم‏.‏

ولما ثبت أن الحشر لا بد منه، وأن الله تعالى قادر كل قدرة لأنه لا شريك له وهو محيط بجميع أوصاف الكمال، تسبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلا يغررك تقلبهم‏}‏ أي تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم ‏{‏في البلاد *‏}‏ فإنه لا يكون التفعل بالقلب إلا عن قهر وغلبة، فتظن لإمهالنا إياهم أنهم على حق، أو أن أحداً يحميهم علينا، فلا بد من صيرورتهم عن قريب إلينا صاغرين داخرين، وتأخيرهم إنما هو ليبلغ الكتاب أجله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما نهى عن الاغترار بما لا قوة لاحد على صرفه من نفسه إلا بتأييد من الله، علله بما يحقق معنى النهي من أن التقلب وما يثمره لا يصح أن يكون معتمداً ليزهد فيه كل من سمع هاتين الآيتين، فقال مشيراً بتأنيث الفعل إلى ضعفهم عن المقاومة، وتلاشيهم عند المصادمة، وإن كانوا في غاية القوة بالنسبة إلى أبناء جنسهم‏:‏ ‏{‏كذبت‏}‏ ولما كان تكذيبهم عظيماً وكان زمانه قديماً وما قبله من الزمان قليلاً بالنسبة إلى ما بعده وطال البلاء بهم، جعل مستغرقاً بجميع الزمان، فقال من غير خافض‏:‏ ‏{‏قبلهم‏}‏ ولما كان الناس على زمن نوح عليه السلام حزباً واحداً مجتمعين على أمر واحد ولسان جامع، وحدهم فقال‏:‏ ‏{‏قوم نوح‏}‏ أي وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء‏.‏ ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان، وكان للاجمال من الروع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل قال‏:‏ ‏{‏والأحزاب‏}‏ أي الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً، ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏‏.‏

ولما كان التذكيب وحده كافياً في الأذى، دل على أنهم زادوا عليه بالمبالغة في المناصبة بالمعاندة، وقدم قصد الإهلاك لأنه أول ما يريده العدو فإن عجز عنه نزل إلى ما دونه فقال‏:‏ ‏{‏وهمَّت كل أمة‏}‏ أي من الأحزاب المذكورين ‏{‏برسولهم‏}‏ أي الذي أرسلناه إليهم‏.‏ ولما كان الأخذ يعبر عنه عن الغلبة والقهر والاستصغار مع الغضب قال‏:‏ ‏{‏ليأخذوه‏}‏ ولما كان سوق الكلام هكذا دالاً على أنهم عجزوا عن الأخذ، ذكر أنهم بذلوا جهدهم في المغالبة بغيره، فقال حاذفاً للمفعول تعميماً‏:‏ ‏{‏وجادلوا بالباطل‏}‏ أي الأمر الذي لا حقيقة له، وليس له من ذاته إلا الزوال، كما تفعل قريش ومن انضوى إليهم من العرب، ثم بين علة مجادلتهم فقال‏:‏ ‏{‏ليدحضوا‏}‏ أي ليزلقوا فيزيلوا ‏{‏به الحق‏}‏ أي الثابت ثباتاً لا حيلة في إزالته‏.‏

ولما كان من المعلوم لكل ذي لب أن فاعل ذلك مغلوب، وأن فعله مسبب لغضب المرسل عليه، قال صارفاً القول إلى المتكلم دفعاً للالباس، وإشارة إلى شدة الغضب وجرده عن مظهر العظمة استصغاراً لهم‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ أي أهلكتهم وهم صاغرون غضباً عليهم وإهانة لهم‏.‏ ولما كان أخذه عظيماً، دل على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عن حاله لزيادة عظمتها في قوة بطشها وسرعة إهلاكها وخرقها للعوائد فقال‏:‏ ‏{‏فكيف كان عقاب *‏}‏ ومن نظر ديارهم وتقرى آثارهم وقف على بعض ما أشرنا إليه ونبهنا عليه، وحذف ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد وإن كان المعذب جميع العباد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فحقت عليهم كلمة الله لأخذهم على هذا الجدال إنهم أصحاب النار التي جادلوا فيها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ، فلم يقدروا على التفصي من حقوقها ‏{‏حقت‏}‏ بالأخذ والنكال ‏{‏كلمت‏}‏ وصرف الكلام إلى صفة الإحسان تلطفاً به صلى الله عليه وسلم وبشارة له بالرفق بقومه فقال‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بجميع أنواع الإحسان فهو لا يدع أعداءك‏.‏

ولما كان السياق للمجادلة بالباطل وهي فتل الخصم من اعتقاده الحق، وذلك تغطية للدليل الحق وتلبيس، كان الحال أحق بالتعبير بالكفر الذي معناه التغطية فلذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏على الذين كفروا‏}‏ أي أوقعوا الكفر وقتاً ما كلهم سواء هؤلاء العرب وغيرهم، لأن علة الإهلاك واحدة، وهي التكذيب الدال على أن من تلبس به مخلوق للنار، ثم أبدل من «الكلمة» فقال‏:‏ ‏{‏أنهم أصحاب النار *‏}‏ أي من كفر في حين من الأحيان فهو مستحق للنار في الأخرى كما أنه مستحق للأخذ في الدنيا لا يبالي الله به بالة، فمن تداركته الرحمة بالتوبة، ومن أوبقته اللعنة بالإصرار هلك‏.‏

ولما بين عداوة الكفار للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم رضي الله عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما يجادل في آيات الله‏}‏ ما بعده، وكان ذلك أمراً غائظاً محزناً موجعاً، وختم ذلك ببيان حقوق كلمة العذاب عليهم تسلية لمن عادوهم فيه سبحانه، زاد في تسليتهم شرحاً لصدورهم وتثبيتاً لقلوبهم ببيان ولاية الملائكة المقربين لهم مع كونهم أخص الخلق بحضرته سبحانه وأقربهم من محل أنسه وموطن قدسه وبيان حقوق رحمته للذين آمنوا بدعاء أهل حضرته لهم فقال، أو يقال‏:‏ إنه لما بين حقوق كلمة العذاب، كان كأنه قيل‏:‏ فكيف النجاة‏؟‏ قيل‏:‏ بايقاع الإيمان بالتوبة عن الكفران ليكون موقعه أهلاً للشفاعة فيه من أهل الحضرة العلية، فيغفر له إن تاب ما قدم من الكفر، فقال مظهراً لشرف الإيمان وفضله‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش‏}‏ وهم المقربون وهم أربعة كما يذكر إن شاء الله تعالى في الحاقه، فإذا كانت القيامة كانوا ثمانية، وهل هم أشخاص أو صفوف فيه كلام يذكر إن شاء الله تعالى ‏{‏ومن حوله‏}‏ وهم جميع الملائكة وغيرهم ممن ربما أراد الله كونه محيطاً به كما تقدم في التي قبلها ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش‏}‏ أي طائفين به، فأفادت هذه العبارة النص على الجميع مع تصوير العظمة‏.‏

ولما كان ربما وقع في وهم أنه سبحانه محتاج إلى حملهم لعرشه أو إلى عرشه أو إلى شيء، نبه بالتسبيح على أنه غنيّ عن كل شيء وأن المراد بالعرش والحملة ونحو ذلك إظهار عظته لنا في مثل محسوسة لطفاً منه بنا تنزلاً إلى ما تسعه عقولنا وتحمله أفهامنا، فقال مخبراً عن المبتدأ وما عطف عليه‏:‏ ‏{‏يسبحون‏}‏ أي ينزهون أي يوقعون تنزيهه سبحانه عن كل شائبة نقص ملتبسين ‏{‏بحمد‏}‏ وصرف القول إلى ضميرهم إعلاماً بأن الكل عبيده من العلويين والسفليين القريب والبعيد، وكائنون تحت تصرفه وقهره، وإحسانه وجبره، فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي باحاطة المحسن إليهم بأوصاف الكمال‏.‏

ولما كان تعالى باطناً لا يحيط أحد به علماً، أشار إلى أنهم مع أنهم أهل الحضرة هم من وراء حجاب الكبر وأردية العظمة، لا فرق بينهم في ذلك وبين ما هو في الأرض السفلى بقوله‏:‏ ‏{‏ويؤمنون به‏}‏ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب‏.‏ ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف، فهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة، وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء السادسة وهكذا، وكانوا قد علموا من تعظيم الله تعالى للنوع الإنساني ما لم يعلمه غيرهم لأمره سبحانه لهم بتعظيمه بما اختص به سبحانه من السجود، وكان من أقرب ما يقترب به إلى الملك التقرب إلى أهل وده، نبه سبحانه على ذلك كله بقوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون‏}‏ أي يطلبون محو الذنوب أعياناً وآثاراً‏.‏

ولما كان الاشتراك في الإيمان أشد من الاتحاد في النسب، قال دالاً على أن الاتصاف بذلك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه على إمحاض الشفقة‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ أي أوقعوا هذه الحقيقة لما بينهم من أخوة الإيمان ومجانسته وإن اختلف جنسهم في حقيقة التركيب وإن وقع منهم بعد ذلك خلل يحق عليهم الكلمة لولا العفو ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ ‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ «لن يدخل أحد الجنة بعمله»‏.‏ ولما ذكر استغفارهم بين عبارتهم عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره‏.‏ ولما كان المراد بيان اتساع رحمته سبحانه وعلمه، وكان ذلك أمراً لا يحتمله العقول، عدل إلى أسلوب التمييز تنبيهاً على ذلك مع ما فيه من هز السامع وتشويقه بالإبهام إلى الإعلام فقال‏:‏ ‏{‏وسعت كل شيء‏}‏ ثم بين جهة التوسع بقوله تميزاً محولاً عن الفاعل‏:‏ ‏{‏رحمة‏}‏ أي رحمتك أي بإيجاده من العدم فما فوق ذلك ‏{‏وعلماً‏}‏ أي وأحاط بهم علمك، فمن أكرمته فعن علم بما جلبته عليه مما يقتضي إهانة أو إكراماً‏.‏

ولما كان له سبحانه أن يفعل ما يشاء من تعذيب الطائع وتنعيم العاصي وغير ذلك، قالوا منبهين على ذلك‏:‏ ‏{‏فاغفر للذين تابوا‏}‏ أي رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوا أعيانها وآثارها، فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها ‏{‏واتبعوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم على ما لها من العوج أن لزموا ‏{‏سبيلك‏}‏ المستقيم الذي لا لبس فيه‏.‏ ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب، وكان سبحانه له أن يعذب من لا ذنب له، وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا‏:‏ ‏{‏وقهم عذاب الجحيم *‏}‏ أي اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم، فإنك وعدت من كان كذلك بذلك، ولا يبدل القول لديك، وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 13‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما كانت النجاة من العذاب لا تستلزم الثواب، قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا بتوفيق أحبابنا الذين لذذونا بالمشاركة في عبادك بالجنان واللسان والأركان ‏{‏وأدخلهم جنات عدن‏}‏ أي إقامة لا عناد فيها‏.‏ ولما كانوا عالمين بأن سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء ولا يقبح منه شيء، نبهوا على ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏التي وعدتهم‏}‏ مع الزيادة في التملق واللطافة في الحث وإدخالهم لأجل استعمالك إياهم الصالحات‏.‏

ولما كان الإنسان لا يطيب له نعيم دون أن يشاركه فيه أحبابه الذين كانوا يشاركونه في العبادة قالوا مقدمين أحق الناس بالإجلال‏:‏ ‏{‏ومن صلح من آبائهم‏}‏ ثم أتبعوهم ألصقهم بالبال فقالوا‏:‏ ‏{‏وأزواجهم وذرياتهم‏}‏‏.‏ ولما كان فاعل هذا منا ربما نسب إلى ذل أو سفه، وربما عجز عن الغفران لشخص لكثرة المعارضين، عللوا بقولهم مؤكدين لأجل نسبة الكفار العز إلى غيره، ومن ذلك تسميتهم العزى‏:‏ ‏{‏إنك أنت‏}‏ أي وحدك ‏{‏العزيز‏}‏ فأنت تغفر لمن شئت غير منسوب إلى وهن ‏{‏الحكيم *‏}‏ فكل فعل لك في أتم مواضعه فلذلك لا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه‏.‏

ولما كان الإنسان قد يغفر له ويكرم، وفيه من الأخلاق ما ربما حمله على بعض الأفعال الناقصة دعوا لهم بالكمال فقالوا‏:‏ ‏{‏وقهم السيئات‏}‏ أي بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها بتطهير القلوب بنزع كل ما يكره منها أو بأن يغفرها لهم ولا يجازيهم عليها، وعظموا هذه الطهارة ترغيباً في حمل النفس في هذه الدار على لزومها بقمع النفوس وإماتة الحظوظ بقولهم‏:‏ ‏{‏ومن تق السيئات‏}‏ أي جزاءها كلها ‏{‏يومئذ‏}‏ أي يوم إذ تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات أو إذ تزلف الجنة للمتقين وتبرز الجحيم للغاوين‏:‏ ‏{‏فقد رحمته‏}‏ أي الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها أن يسمى معها رحمة، فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا‏:‏ ‏{‏وذلك‏}‏ أي الأمر العظيم جداً ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الفوز العظيم *‏}‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر إدخال الجنات أولاً دليلاً على حذف النجاة من النار ثانياً، ووقاية السيئات ثانياً دليلاً على التوفيق للصالحات أولاً، وسر ذلك التشويق إلى المحبوب- وهو الجنان- بعمل المحبوب- وهو الصالح- والتنفير من النيران باجتناب الممقوت من الأعمال، وهو السيء فذكر المسبب أولاً وحذف السبب لأنه لا سبب في الحقيقة إلا الرحمة، وذكر السبب ثانياً في إدخال النار وحذف المسبب‏.‏

ولما أتم الذين آمنوا، فتشوفت النفس إلى معرفة ما لأضدادهم، قال مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم هذه المناداة بانكار يومها‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي أوقعوا الكفر ولو لحظة ‏{‏ينادون‏}‏ أي يوم القيامة بنداء يناديهم به من أراد الله من جنوده أو في الدار أرفع نعماً- أنهم آثر عند الله من فقراء المؤمنين، أكد قوله‏:‏ ‏{‏لمقت الله‏}‏ أي الملك الأعظم إياكم بخذلانكم ‏{‏أكبر من مقتكم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أنفسكم‏}‏ مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ جاز على سبيل الإشارة إلى تنزه الحضرة المقدسة عما لزم فعلهم من المقت، فإن من دعا إلى أحد فأعرض عنه إلى غيره كان إعراضه مقتاً للمعرض عنه، وهذا المقت منهم الموجب لمقت الله لهم موصل لهم إلى عذاب يمقتون به أنفسهم، والمقت أشد البغض؛ ثم ذكر ظرف مقتهم العائد وباله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ أي حين، وأشار إلى أن الإيمان لظهور دلائله ينبغي أن يقبل من أي داع كان، فبنى الفعل لما لم يسم فاعله فقال‏:‏ ‏{‏تُدعون إلى الإيمان‏}‏ أي بالله وما جاء من عنده ‏{‏فتكفرون *‏}‏ أي فتوقعون الكفر الذي هو تغطية الآيات موضع إظهارها والإذعان بها، وهذا أعظم العقاب عند أولي الألباب، لأن من علم أن مولاه عليه غضبان علم أنه لا ينفعه بكاء ولا يغني عنه شفاعة ولا حيلة في خلاصه بوجه‏.‏

ولما كان من أعظم ذنوبهم إنكار البعث، وكانوا قد استقروا العوائد، وسبروا ما جرت به الأقدار في الدهور والمدائد، من أن كل ثان لا بد له من ثالث، وكان الإحياء لا يطلق عرفاً إلا من كان عن موت، حكى سبحانه جوابهم بقوله الذي محطه الإقرار بالبعث والترفق بالاعتراف بالذنب حيث لا ينفع لفوات شرطه وهو الغيب‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا ‏{‏أمتَّنا اثنتين‏}‏ قيل‏:‏ واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر، والصحيح أن تفسيرها آية البقرة ‏{‏كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 28‏]‏ وأما الصعق فليس بموت، وما في القبر فليس بحياة حتى يكون عنه موت، وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصى على التسبيح والحجر على التسليم، والضب على الشهادتين، والفرس حين قال لها فارسها ثبي إطلال على قولها وثباً وسورة البقرة ‏{‏وأحييتنا اثنين‏}‏ واحدة في البطن، وأخرى بالبعث بعد الموت، أو واحدة بالبعث وأخرى بالإقامة من الصعق، أو الإقامة في القبر، فشاهدنا قدرتك على البعث ‏{‏فاعترفنا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنّا اعترفنا بعد تكرر الإحياء ‏{‏بذنوبنا‏}‏ الحاصلة بسبب إنكار البعث لأن من لم يخش العاقبة بالغ في متابعة الهوى، فذلك توبة لنا ‏{‏فهل إلى خروج‏}‏ أي من النار ولو على أدنى أنواع الخروج بالرجوع إلى الدنيا فنعمل صالحاً ‏{‏من سبيل‏}‏ فنسلكه فنخرج ثم تكون لنا موتة ثالثة وإحياءة ثالثة إلى الجنة التي جعلتها جزاء من أقر بالبعث‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ لا سبيل إلى ذلك، علله بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم ‏{‏بأنه‏}‏ أي كان بسبب أنه ‏{‏إذا دُعي الله‏}‏ أي وجدت ولو مرة واحدة دعوة الملك الأعظم من أي داع كان ‏{‏وحده‏}‏ أي محكوماً له بالوحدة أو منفرداً من غير شريك ‏{‏كفرتم‏}‏ أي هذا طبعكم دائماً رجعتم إلى الدنيا أولاً ‏{‏وإن يشرَك به‏}‏ أي يوقع الإشراك به ويجدد ولو بعدد الأنفاس من أي مشرك كان ‏{‏تؤمنوا‏}‏ أي بالشركاء وتجددوا ذلك غير متحاشين ومن تجديد الكفر وهذا مفهم لأن حب الله للإنسان أكبر من حبه له الدال عليه توفيقه له في أنه إذا ذكر الله وحده آمن، وإن ذكر معه غيره على طريقة تؤل إلى الشركة كفر بذلك الغير وجعل الأمر لله وحده ‏{‏فالحكم‏}‏ أي فتسبب عن القطع بأن لا رجعة، وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونفوذ ذلك أن كل حكم ‏{‏لله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال خاص به لا دخل للعوائد في أحكامه بل مهما شاء فعل إجراء على العوائد او خرقاً لها ‏{‏العلي‏}‏ أي وحده عن أن يكون له شريك، فكذب قول أبي سفيان يوم أحد «اعل هبل» وقول ابن عربي أحد أتباع فرعون أكذب وأقبح وأبطل حيث قال‏:‏ العلي علا عن من وما ثم إلا هو، فعليه الخزي واللعنة وعلى من قال بقوله وعلى من توقف في لعنه‏.‏

ولما كانت النفوس لا تنقاد غاية الانقياد للحاكم إلا مع العظمة الزائدة والقدم في المجد، قال معبراً بما يجمع العظمة والقدم‏:‏ ‏{‏الكبير *‏}‏ الذي لا يليق الكبر إلا له، وكبر كل متكبر وكبر كل كبير متضائل تحت دائرة كبره وكبره، وعذابه مناسب لكبريائه فما أسفه من شقي بالكبراء فإنهم يلجئون أنفسهم إلى أن يقولوا ما لا يجديهم ‏{‏ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا‏}‏‏:‏ ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك بقوله ذاكراً من آيات الآفاق العلوية ما يرد الموفق عن غيه‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي يريكم‏}‏ أي بالبصر والبصيرة ‏{‏آياته‏}‏ أي علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال تكميلاً لنفوسكم، فينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بإعادة ما تحطم فيها من الحبوب فتفتتت بعد موتها بصيرورة ذلك الحب تراباً لا تميز له عن ترابها فيتذكر به البعث لمن انمحق فصار تراباً وضل في تراب الأرض حتى لا تميز له عنه من طبعه الإنابة، وهو الرجوع عما هو عليه من الجهل إلى الدليل بما ركز في فطرته من العلم، وذلك هو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وينزل لكم‏}‏ أي خاصاً بنفعكم أو ضركم ‏{‏من السماء‏}‏ أي جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله ‏{‏رزقاً‏}‏ لإقامة أبدانكم من الثمار والأقوات بانزال الماء فهو سبحانه يدلكم عليه ويتحبب إليكم لتنفعوا أنفسكم وأنتم تتبغضون إليه وتتعامون عنه لتضروها ‏{‏وما يتذكر‏}‏ ذلك تذكراً تاماً- بما أشار إليه الإظهار- فيقيس عليه بعث من أكلته الهوام، وانمحق باقيه في الأرض ‏{‏إلا من ينيب *‏}‏ أي له أهلية التجديد في كل وقت للرجوع إلى الدليل بأن يكون حنيفاً ميالاً للطافته مع الدليل حيثما مال‏.‏ ما هو بحلف جامد ما الفه، ولا يحول عنه أصلاً، لا يصغي إلي قال ولا قيل، ولو قام على خطابه كل دليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما كان كل من الناس يدعي أنه لا يعدل عن الدليل، وكان كل أحد مأموراً بالنظر في الدليل مأموراً بالإنابة لما دل عليه من التوجه إلى الله وحده، كان ذلك سبباً في معرفة الكل التوحيد الموجب لاعتقاده القدرة التامة الموجب لاعتقاد البعث، فكان سبباً لإخلاصهم، فقال تعالى مسبباً عنه‏:‏ ‏{‏فادعوا‏}‏ وصرح بالاسم الأعظم تدريباً للمخلصين على كيفية الإخلاص فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي المتوحد بصفات الكمال دعاء خضوع وتعبد بعد الإنابة بعد النظر في الدليل ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ أي الأفعال التي يقع الجزاء عليها، فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً اجتهد في تصفية أعماله، فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص‏.‏

ولما كانت مخالفة الجنس شديدة لما تدعو إليه من المخاصمة الموجبة للمشاققة الموجبة لاستطابة الموت قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو كره‏}‏ أي الدعاء منكم ‏{‏الكافرون *‏}‏ أي الساترون لأنوار عقولهم، والإخلاص أن يفعل العباد لربهم مثل ما فعل لهم فلا يفعلوا فعلاً من أمر أو نهي إلا لوجهه خاصة من غير غرض لأنفسهم بجلب شيء من نفع أو ضر، وذلك لأنه سبحانه فعل لهم كل إحسان من الخلق والرزق ولأنفسهم خاصة لا لغرض يعود عليه- سبحانه وما أعز شأنه- بنفع ولا ضر، فلا يكون شكرهم له إلا بما تقدم، لكنه لما علم سبحانه بأن أباح لهم العمل لأجل الرجاء في ثوابه والخوف من عقابه، ولم يجعل ذلك قادحاً في الإخلاص، قال الاستاذ أبو القاسم القشيري‏:‏ ولولا إذنه في ذلك لما كان في العالم مخلص‏.‏

ولما كان الإخلاص لا يتأتى إلا ممن رفعه إشراق الروح عن كدورات الأجسام، وطارت به أنوارها عن حضيض ظلمات الجهل إلى عرش العرفان، فصار إذ كان الملك الديان سمعه الذي يسمع به، بمعنى أنه لا يفعل بشيء من هذه الجوارح إلا ما أمره به سبحانه يتصرف في الأكوان بإذن الفتاح العليم تكسب القلوب من ضياء أنواره ويحيى ميت الهمم بصافي أسراره، نبه سبحانه على ذلك حثاً عليه وتشويقاً إليه بقوله ممثلاً بما يفهمه العباد مخبراً عن مبتدأ محذوف تقديره‏:‏ هو ‏{‏رفيع الدرجات‏}‏ أي فلا يصل إلى حضرته الشماء إلا من علا في معارج العبادات ومدارج الكمالات‏.‏

ولما كنا لا نعرف ملكاً إلا بغلبته على سرير الملك، وكانت درج كل ملك ما يتوصل بها إلى عرشه، أشار سبحانه بجميع القلة إلى السماوات التي هي دون عرشه سبحانه، ثم أشار إلى أن الدرج إليه لا تحصى بوجه، لأنا لو أنفقنا عمر الدنيا في اصطناع درج للتوصل إلى السماء الدنيا ما وصلنا، فكيف بما فوقها فكيف وعلوه سبحانه، ليس هو بمسافة بل علو عظمة ونفوذ كلمة تنقطع دونها الآمال وتفنى الأيام والليال، والكاشف لذلك أتم كشف تعبيره في ‏{‏سأل‏}‏ بصيغة منتهى الجموع ‏{‏المعارج‏}‏- ثم قال ممثلاً لنا بما نعرف‏:‏ ‏{‏ذو العرش‏}‏ أي الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو، فهو محيط لجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان، وعال بجلاله وعظمه عن كل ما يخطر في الأذهان‏.‏

ولما كان الملوك يلقون أوامرهم من مراتب عظمائهم إلى من أخلصوا في ودادهم قال‏:‏ ‏{‏يلقي الروح‏}‏ أي الذي تحيى به الأرواح حياة الأشباح بالأرواح ‏{‏من أمره‏}‏ أي من كلامه، ولا شك أن الذي يلقي ليس الكلام النفسي وإنما هو ما يدل عليه، وهو الذي يقبل النزول والتلاوة والكتابة ونحو ذلك‏.‏ ولما كان أمره عالياً على كل أمر، أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على من يشاء‏}‏ ولما كان ما رأوه من الملوك لا يتمكنون من رفع كل من أرادوا من رقيقهم، نبه على عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏من عباده‏}‏ وأشار بذلك مع الإشارة إلى أنه مطلق الأمر لا يسوغ لأحد الاعتراض عليه، ولو اعترض كان اعتراضه أقل من أن يلتفت إليه أو يعول بحال عليه إلى توهية قولهم ‏{‏أو أنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 8‏]‏ بأنه عليه السلام المخلص في عباده لم يمل إلى شيء من أوثانهم ساعة ما ولا صرف لحظة عن الإله الحق طرفة عين، فلذلك اختصه من بينهم بهذا الروح الذي لا روح في الوجود سواه، فمن أقبل عليه وأخلص في تلاوته والعمل بما يدعو إليه والبعد عما ينهى عنه صار ذا روح موات يحيي الأموات ويزري بالنيرات‏.‏ قال الرازي‏:‏ قال ابن عطاء‏:‏ حياة القلب على حسب ما ألقي إليه من الروح، فمنهم من ألقي إليه روح الرسالة، ومنهم من ألقي إليه روح النبوة، ومنهم من ألقي إليه روح الصديقية والكشف والمشاهدة، ومنهم من ألقي إليه روح العلم والمعرفة، ومنهم من ألقي إليه روح العبادة والخدمة، ومنهم من ألقي إليه روح الحياة فقط، ليس له علم بالله ولا مقام مع الله، فهو ميت في الباطن، وله الحياة البهيمية التي يهتدي بها إلى المعاش دون المعاد- انتهى‏.‏ وبالجملة فكل من هذه الأرواح منطق لمن ألقي عليه مطلق للسانه ببديع بيانه وإن اختلف نطقهم في بيانهم، وتصرفهم في عظيم شأنهم‏.‏

ولما بين سر اختصاصه بالإرسال لهذا النبي الكريم، أتبع ذلك بما يزيده بياناً من ثمرة الإرسال فقال‏:‏ ‏{‏لينذر‏}‏ أي الذي اختصه سبحانه بروحه، وعبر بما يقتضيه تصنيف الناس الذي هو مقصود السورة من الاجتماع، وأزال وهم من قد يستحيل لقاء سبحانه لرفعه درجاته وسفول درجات غيره ‏{‏يوم التلاق *‏}‏ أي الذي لا يستحق أن يوصف بالتلاقي على الحقيقة غيره لكونه يلتقي فيه الأولون والآخرون وأهل السماوات والأرض ولا حيلة لأحد منهم في فراق غريمه بغير فصل على وجه العدل، وإلى هذا المعنى أشارت قراءة ابن كثير باثبات الياء في الحالين وهو واضح جداً في إفراد حزبي الأسعدين والأخسرين فإنه تلاق لا آخر له، وأشارت قراءة الجمهور بالحذف في الحالين إلى تلاقي هذين الجزئين‏:‏ أحدهما بالآخر فإنه- والله أعلم- قل ما يكون حتى يفترقا بالأمر بكل إلى داره‏:‏ الأسعدين بغير حساب، والأخسرين لا يقام لهم وزن، وأشار الإثبات في الموقف دون الوصل إلى الأمر الوسط وهي لمن بقي لقاءهم يمتد إلى حين القصاص لبعضهم من بعض‏.‏

ولما أفهم ذلك عدم الحجاب من بيوت أو جبال، أو أشجار أو تلال، أو غير ذلك من سائر ذوات الظلال، نبه عليه في قوله معيداً ذكر اليوم لأنه أهول له‏:‏ ‏{‏يوم هم‏}‏ أي بظواهرهم وبواطنهم ‏{‏بارزون‏}‏ أي برزوا لا ساتر فيه أصلاً‏.‏

ولما كان من المعلوم عندهم إنما لا ساتر له معلوم، أجرهم على ما يعهدون، وعبر بعبارة تعم ذلك فقال مستأنفاً في جواب من ظن أنه قد يخفي عليه شيء عن الساتر معظماً الأمر بإظهار الاسم الأعظم‏:‏ ‏{‏لا يخفى على الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏منهم شيء‏}‏ أي من ذواتهم ولا معانيهم سواء ظهروا أو استتروا في هذا اليوم وفي غيره‏.‏

ولما كان من العادة المستمرة أن الملك العظيم إذا أرسل جيشه إلى من طال تمردهم عليه وعنادهم له فظفروا بهم وأحضروهم إليه أن يناديهم مناديه وهم وقوف بين يديه قد أخرستهم هيبته وأذلتهم عظمته بلسان قاله أو لسان حاله بما يبكهم به ويوبخهم ويؤسفهم على ما مضى من عصيانهم ويندمهم قال‏:‏ ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ أي يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فيجيبون بلسان الحال أو المقال كما قال بعض من قال‏:‏

سكت الدهر طويلاً عنهم *** قد أبكاهم دماً حين نطق

‏{‏لله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال، ثم دل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏الواحد‏}‏ أي الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسمة ولا غيرها ‏{‏القهار *‏}‏ أي الذي يقهر من يشاء متكرراً وصفه بذلك دائماً أبداً لما ثبت من غناه المطلق بوحدانيته الحقيقة‏.‏

ولما أخبر عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب، أخبرهم بما يزيد رعبهم، ويبعث رغبهم ورهبهم، وهو نتيجة تفدره بالملك قال‏:‏ ‏{‏اليوم تجزى‏}‏ أي تقضى وتكافأ، بناه للمفعول لأن المرغب المرهب نفس الجزاء ولبيان سهولته عليه سبحانه ‏{‏كل نفس‏}‏ لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت من إهمال أحد منهم‏.‏

ولما كان السياق للملك والقهر يقتضي الجزاء واعتماد الكسب الذي هو محط التكليف بالأمر والنهي ويقتضي النظر في الأسباب، لأن ذلك شأن الملك، قال معبراً بالباء والكسب‏:‏ ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كسبت‏}‏ أي عملت، وهي تظن أنه يفيدها سواء بسواء بالكيل الذي كالت يكال لها‏.‏

ولما كانت السببية مفهمة للعدل، فإن الزيادة تكون بغير سبب، قال معللاً نافياً مثل ما كانوا يتعاطونه من ظلم بعضهم لبعض في الدنيا‏:‏ ‏{‏لا ظلم‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏اليوم‏}‏ ولما كان استيفاء الخلائق بالمجازاة أمراً لا يمكن في العادة ضبطه، ولا يتأنى حفظه وربطه، فكيف إذا قصدت المساواة في مثاقيل الدر فما دونها‏:‏

بميزان قسط لا يخيس شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل

ضافت النفوس من خوف الطول، فخفف عنها بقوله معلماً أن أموره على غير ما يعهدونه، ولذلك أكد وعظم باظهار الاسم الأعظم‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي التام القدرة الشامل العلم ‏{‏سريع الحساب *‏}‏ أي بليغ السرعة فيه، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير، ولا يشغله شأن عن شأن لأنه لا يحتاج إلى تكلف عد، ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب، ولا شيء، فكان في ذلك ترجية للفريقين وتخويف، لأن الظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، والمؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما تم هذا على هذا الوجه المهول، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر، ومنها يوم التلاق لما تقدم، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأمن ممن ألقينا هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة‏:‏ ‏{‏وأنذرهم‏}‏ أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن ‏{‏يوم الآزفة‏}‏ أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس، وهي القيامة، كرر ذكرها الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها‏.‏

ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال‏:‏ ‏{‏إذ القلوب‏}‏ أي من كل من حضره‏.‏ ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن، عبر ب «لدى» فقال‏:‏ ‏{‏لدى الحناجر‏}‏ أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا‏.‏

ولما كان الحديث- وإن كان في الظاهر عن القلوب- إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال‏:‏ ‏{‏كاظمين‏}‏ أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم‏.‏ ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ما للظالمين‏}‏ أي العريقين في الظلم منهم ‏{‏من حميم‏}‏ أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم، قال ابن برجان‏:‏ والحميم‏:‏ الماء الحار الناهي في الحرارة، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً ‏{‏ولا شفيع يطاع *‏}‏ أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك، فيبرأ منهم‏.‏

ولما كانت الشفاعة إنما تقع وتنفع بشرط براءة المشفوع له من الذنب إما بالاعتراف بما نسب إليه والإقلاع عنه، وإما بالاعتذار عنه، وكان ذلك إنما يجري عند المخلوقين على الظاهر، ولذلك كانوا ربما وقع لهم الغلط فيمن لو علموا باطنه لما قبلوا الشفاعة فيه، علل تعالى ما تقدم بعلمه أن المشفوع له ليس بأهل لقبول الشفاعة فيه لإحاطة علمه فقال‏:‏ ‏{‏يعلم خائنة‏}‏ ولما كان السياق هنا للابلاغ في أن علمه تعالى محيط بكل كلي وجزئي، فكان من المعلوم أن الحال يقتضي جمع الكثرة، وأنه ما عدل عنه إلى جمع القلة إلا للاشارة إلى أن علمه تعالى بالكثير كعلمه بالقليل الكل، عليه هين، فالكثير عنده في ذلك قليل فلذا قال‏:‏ ‏{‏الأعين‏}‏ أي خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهي الإشارة بالعين، قال أبو حيان‏:‏ من كسر وغمز ونظر يفهم منه ما يراد- انتهى‏.‏

وذلك يفعل بفعل ما يخالف الظاهر، ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر، أتبعه أخفى ما في الباطن فقال‏:‏ ‏{‏وما تخفي الصدور *‏}‏ أي عن المشفوع عنده وغير ذلك‏.‏

ولما كان العفو عن الظالم الذي لا يرجع عن ظلمه نقصاً، لكونه لا حكمة فيه، عبر بالاسم الأعظم في جملة حالية فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن المتصف بجميع صفات الكمال ‏{‏يقضي بالحق‏}‏ أي الثابت الذي لا يصح أصلاً نفيه، فلو قضى فيمن يعلم أنه ليس بأهل للشفاعة فيه بقبول الشفاعة لنفى الحق وأثبت الباطل فخالف ذلك الكمال ‏{‏والذين يدعون‏}‏ أي الظالمون- على قراءة الجماعة، وأيها الظالمون- على قراءة نافع وابن عامر بخلاف عن ابن ذكوان بالخطاب للمواجهة بالإزراء‏.‏ ولما كانت المراتب دون عظمته سبحانه لا تنحصر ولا يحتوي عليها كلها شيء، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي سواه، ومن المعلوم أنهم خلقه فهم دون رتبته لأنهم في قهره ‏{‏لا يقضون بشيء‏}‏ من الأشياء أصلاً، فضلاً عن أن يقضوا بما يعارض حكمه، فلا مانع له من القضاء بالحق، فلا مقتضى لقبول الشفاعة فيمن يعلم عراقته في الظلم أنه لا ينفك عنه‏.‏

ولما أخبر أنه لا فعل لشركائهم، وأن الأمر له وحده، علل ذلك بقوله مرهباً من الخيانة وغيرها من الشر، مرغباً في كل خير، مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكاراً ذلك‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ عبر به لأن السياق لتحقير شركائهم وبيان أنها في غاية النقصان ‏{‏هو‏}‏ أي وحده‏.‏ ولما ذكر ما هو غيب، وصفه بأظهر ظاهر فقال‏:‏ ‏{‏السميع‏}‏ أي لكل ما يمكن أن يسمع ‏{‏البصير *‏}‏ أي بالبصر والعلم لكل ما يمكن أن يبصر ويعلم، فلا إدراك لشركائهم أصلاً ولا لشيء غيره بالحقيقة، ومن لا إدراك له ولا قضاء له، فثبت أن الأمر له وحده، فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كل أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيشفع، فيشفعه الله تعالى فيفصل سبحانه بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره‏:‏ جنته أو ناره، روى الشيخان‏:‏ البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهش منها نهشة، فقال‏:‏

«أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذاك، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحملون، فيقول الناس‏:‏ ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم‏؟‏ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم، فيقول بعض الناس لبعض‏:‏ أبوكم آدم فذكر سؤالهم أكابر الأنبياء، وكل واحد منهم يحيل على الذي بعده إلى أن يقول عيسى عليه السلام‏:‏ اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتونه‏:‏ أنا لها، فينطلق فيسجد تحت العرش»- وهو مروي عن غير أبي هريرة عن أنس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن لم أر فيه التصريح بالشفاعة العامة بعد رفع رأسه صلى الله عليه وسلم من السجود إلا فيما رواه البخاري في الزكاة من صحيحه في باب «من سأل الناس تكثراً» عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم»، وكذا فيما رواه أيو يعلى في مسنده فقال‏:‏ حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال‏:‏ «إن الله تبارك وتعالى لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فذكر النفخ فيه للموت ثم للبعث ثم ذكر الحشر»- وهو حديث طويل جداً إلى أن قال‏:‏ «ثم يقفون موقفاً واحداً مقدار سبعين عاماً لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى تنقطع الدموع، ثم تدمعون دماً وتعرقون إلى أن يبلغ ذلك منكم أن يلجمكم أو يبلغ الأذقان، فتضجون وتقولون‏:‏ من يشفع لنا إلى ربنا يقضى بيننا، فتقولون‏:‏ من أحق بذلك من أبيكم آدم، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلمه قبلاً، فتأتون آدم فتطلبون ذلك إليه فيأبى فيقول‏:‏ ما أنا بصاحب ذلك، ثم يستقربون الأنبياء نبياً نبياً كلما جاؤوا نبياً أبى عليهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ حتى تأتوني، فأنطلق حتى آتي الفحص فأخر ساجداً فقال أبو هريرة‏:‏ يا رسول الله‏!‏ ما الفحص‏؟‏ قال‏:‏ قدام العرش- حتى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني فيقول لي‏:‏ يا محمد‏!‏ فأقول‏:‏ نعم يا رب‏!‏ فيقول‏:‏ ما شأنك- وهو أعلم فأقول‏:‏ يا رب وعدتني فشفعني في خلقك فاقض بينهم، قال‏:‏ قد شفعتك أنا آتيكم فأقضي بينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف سمعنا حساً من السماء شديداً فنزل أهل السماء الدنيا مثل من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم‏:‏ أفيكم ربنا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، وهو آت ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من الملائكة، ومثل الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم وقلنا لهم‏:‏ أفيكم ربنا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، وهو آت، ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى ينزل الجبار تبارك وتعالى في ظلل من الغمام، والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهو اليوم على أربعة- إلى أن قال‏:‏ فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يهتف بصوته فيقول‏:‏ يا معشر الجن والإنس‏!‏ إني قد أنصت لكم من يوم خلقتكم إلى يوم يومكم هذا أسمع قولكم، وأبصر أعمالكم، فانصتوا لي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم، ثم يقول الله عز وجل ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60-63‏]‏- أو بها تكذبون- شك أبو عاصم، ‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏ فتسمى النار وتجثو الأمم وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيقضي بين خلقه»

- فذكره وهو طويل جداً، ثم ذكر الصراط وبعض الشفاعات الخاصة في أهل الجنة، فذكر دخولهم الجنة ثم أنهم يشفعون في بعض أهل النار إلى أن قال‏:‏ «ثم يأذن الله في الشفاعة، فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع»

إلى أن قال‏:‏ «ثم يقول الله عز وجل‏:‏ بقيت أنا وأنا أرحم الراحمين‏.‏ فيدخل الله يده في جهنم فيخرج منها لا يحصيه غيره» وروى ابن حبان في صحيحه- قال المنذري‏:‏ ولا أعلم في إسناده مطعناً- عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يقول إبراهيم عليه السلام يوم القيامة‏.‏ يا رباه، فيقول الرب جل وعلا‏:‏ يا لبيكاه، فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب حرقت بني- فيقول الله‏:‏ أخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة أو شعيرة من الإيمان» وروى الحاكم وقال‏:‏ صحيح على شرط مسلم وأحمد بن منيع‏:‏ «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول‏:‏ يا أبة‏!‏ أي ابن كنت لك‏؟‏ فيقول‏:‏ خير ابن، فيقول‏:‏ هل أنت مطيعي اليوم، فيقول‏:‏ نعم، فيقول خذ بازرتي، فيأخذ بازرته، ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض بعض الخلق، فيقول‏:‏ يا عبدي‏!‏ ادخل من أي أبواب الجنة شئت، فيقول‏:‏ أي ربي، وأبي معي فإنك وعدتني أن لن تخزيني، فيعرض عنه ويقضي بين الخلق ويعرضهم ثم ينظر إليه فيقول‏:‏ يا ابن آدم ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول‏:‏ أي ربي وأبي معي فإنك قد وعدتني أن لن تخزيني قال‏:‏ فيمسخ الله أباه ضبعاً أمذر أو أمجر»- شك أبو جعفر أحد رواة ابن منيع- «فيأخذ بأنفه فيقول‏:‏ أبوك هو، فيقول‏:‏ ما هو بأبي، فيهوي في النار» وهو في البخاري في أحاديث الأنبياء وتفسير الشعراء بلفظ‏:‏ «يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آذر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام‏:‏ ألم أقل لك‏:‏ لا تعصني، فيقول له أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم‏:‏ يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى عن أبي الأبعد، فيقول الله تعالى‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال لإبراهيم عليه السلام‏:‏ انظر ما تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ- وهو ذكر الضبعان- متلطخ فيؤخذ بقوامه فيلقى في النار»، وروى أبو يعلى الموصلي والحاكم وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة فتقطعه النار يريد أن يدخله الجنة، قال‏:‏ فينادى أن الجنة لا يدخلها مشرك، ألا إن الله قد حرم الجنة على كل مشرك قال‏:‏ فيقول‏:‏ أي رب‏!‏ أبي، فيحول في صورة قبيحة وريح منتنة فيتركه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه السلام»، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يقول‏:‏

«إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيدة وعداً علينا إنا كنا فاعلين، ألا وإن أول الخلائق يكسى إبراهيم عليه السلام ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول‏:‏ يا رب‏!‏ أصحابي، فيقول‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ‏{‏وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏» ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، ومن نحو ما قال عيسى عليه السلام قول إبراهيم عيله السلام كما حكاه الله عنه ‏{‏فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏}‏ وروى مسلم في الإيمان من صحيحه والنسائي في التفسير عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام» ‏{‏رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فأنه مني‏}‏ الآية- وقال عيسى عليه السلام ‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ فرفع يديه وقال‏:‏ اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي- وبكى «، فقال الله عز وجل‏:‏ يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فاسأله ما يبكيك‏؟‏ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله‏:‏ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله‏:‏ يا جبريل اذهب إلى محمد فقل‏:‏ إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك»، وللشيخين في الحوض والفتن ومسلم في فضل النبي صلى الله عليه وسلم عن سهل بن سعد وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم»- زاد أبو سعيد رضي الله عنه‏:‏ فأقول‏:‏ «إنهم مني- فيقال‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول‏:‏ سحقاً سحقاً لمن غير بعدي» ولمسلم وابن ماجه- وهذا لفظه- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- فذكر خطبته في الحج ثم قال‏:‏ «ألا وإني فرطكم على الحوض وأكاثر بكم الأمم، ولا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذ أناساً ومستنقذ مني أناس فأقول‏:‏ يا رب‏:‏ أصحابي أصحابي، فيقول‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولفظ مسلم‏:‏ «أنا فرطكم على الحوض ولأنازعن أقواماً ثم لأغلبن عليهم فأقول‏:‏ يا رب‏!‏ أصحابي فيقال‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» ولمسلم عن عائشة رضي الله عنهما قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بين ظهراني أصحابه‏:‏

«إني على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم، فوالله ليقطعن دوني رجال فلأقولن‏:‏ أي رب‏!‏ مني ومن أمتي، فيقول‏:‏ إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم» وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا‏:‏ يا نبي الله‏!‏ تعرفنا‏؟‏ قال‏:‏ نعم، لكم سيما ليست لغيركم تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، ولتصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول يا رب هؤلاء أصحابي، فيجيبني ملك فيقول‏:‏ وهل تدري ما أحدثوا بعدك‏؟‏ وفي رواية‏:‏ بينما أنا قائم على الحوض إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج من بيني وبينهم رجل، فقال‏:‏ هلم؛ فقلت‏:‏ إلى أين‏؟‏ فقال‏:‏ إلى النار والله، فقلت‏:‏ ما شأنهم، فقال‏:‏ إنهم ارتدوا على أدبارهم فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم‏.‏ أي ضوالها- أي الناجي قليل، وفي رواية لمسلم في الوضوء‏:‏ ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال‏:‏ إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول‏:‏ سحقاً سحقاً» قال المنذري‏:‏ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به من الظالمين الأولين من تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى‏:‏ ‏{‏أو لم يسيروا‏}‏ ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم، نبه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام‏.‏

ولما كان السير سبباً للنظر قال‏:‏ ‏{‏فينظروا‏}‏ أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم‏.‏ ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة، نبه عليها بقوله‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ أي أنها أهل لأن يسأل عنها، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله‏:‏ ‏{‏كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏الذين كانوا‏}‏ أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها‏.‏ ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه، نبه على ذلك بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي قبل زمانهم ‏{‏كانوا‏}‏ ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم، فأكدر أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي المتقدمون، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة‏.‏

ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة، وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول‏:‏ ما كان أمرهم‏؟‏‏:‏ ‏{‏أشد منهم‏}‏ أي هؤلاء- قرأه ابن عامر ‏{‏منكم‏}‏ بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد ‏{‏قوة‏}‏ أي ذواتاً ومعاني ‏{‏و‏}‏ أشد ‏{‏آثاراً في الأرض‏}‏ لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن‏.‏

ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله، فكان ذلك سبب هلاكهم قال‏:‏ ‏{‏فأخذهم الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم، قال مبيناً ما أخذوا به‏:‏ ‏{‏بذنوبهم‏}‏ أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع ‏{‏وما كان لهم‏}‏ أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم ‏{‏من الله‏}‏ أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله، وأكد النفي بزيادة الجار فقال‏:‏ ‏{‏من واق *‏}‏ أي يقيهم مراده سبحانه فيهم، لا من شركائهم ولا من غيرهم، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء، ويجوز أن تكون «من» الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية‏.‏

ولما ذكر سبحانه أخذهم ذكر سببه بما حاصله أن الاستهانة بالرسول استهانة بمن أرسله في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأخذ العظيم ولما كان مقصود السورة تصنيف الناس في الآخرة صنفين، فكانوا إحدى عمدتي الكلام، أتى بضميرهم فقال‏:‏ ‏{‏بأنهم‏}‏ أي الذين كانوا من قبل ‏{‏كانت تأتيهم‏}‏ أي شيئاً فشيئاً في الزمان الماضي على وجه قضاه سبحانه فأنفذه ‏{‏رسلهم‏}‏ أي الذين هم منهم ‏{‏بالبينات‏}‏ أي الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها‏.‏

ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب، عبر بالماضي فقال‏:‏ ‏{‏فكفروا‏}‏ أي سببوا عن إتيان الرسل عليهم الصلاة والسلام الكفر موضع ما كان إتيانهم سبباً له من الإيمان‏.‏

ولما سبب لهم كفرهم الهلاك قال‏:‏ ‏{‏فأخذهم‏}‏ أي أخذ غضب ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم‏.‏ ولما كان قوله ‏{‏فكفروا‏}‏ معلماً بسبب أخذهم لم يقل‏:‏ بكفرهم، كما قال سابقاً‏:‏ بذنوبهم، لإرشاد السباق إليه‏.‏ ولما كان اجتراؤهم على العظائم فعل منكر للقدرة، قال مؤكداً لعملهم عمل من لا يخافه‏:‏ ‏{‏إنه قوي‏}‏ لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ‏{‏شديد العقاب *‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك عجباً لأن البينات تمنع من الكفر، فكان تقدير لمن ينكر الإرسال على هذه الصفة‏:‏ فلقد أرسلناهم كذلك، وكان موسى عليه السلام من أجل المرسلين آيات، عطف على ذلك تسلية ونذارة لمن أدبر، وإشارة لمن استبصر قوله‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ ولفت القول إلى مظهر العظمة كما في الآيات التي أظهرها بحضرة هذا الملك المتعاظم من الهول والعظم الذي تصاغرت به نفسه وتحاقرت عنده همته وانطمس حسه، فقال‏:‏ ‏{‏أرسلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏موسى بآياتنا‏}‏ أي الدالة على جلالنا ‏{‏وسلطان‏}‏ أي أمر قاهر عظيم جداً، لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ‏{‏مبين *‏}‏ أي بين في نفسه مناد لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر جداً، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول ألى أذاه مع ما له من القوة والسلطان ‏{‏إلى فرعون‏}‏ أي ملك مصر‏.‏ ولما كان الأكابر أول من يتوجه إليه الأمر لأن بانقيادهم ينقاد غيرهم قال‏:‏ ‏{‏وهامان‏}‏ أي وزيره‏.‏ ولما كان من أعجب العجب أن يكذب الرسول من جاء لنصرته واستنقاذه من شدته قال‏:‏ ‏{‏وقارون‏}‏ أي قريب موسى عليه السلام ‏{‏فقالوا‏}‏ أي هؤلاء ومن تبعهم، أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في التيه، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به، لأنه لم يتب منه ‏{‏ساحر‏}‏ لعجزهم عن مقاهرته، ولم يقل، «سحار» لئلا يتوهم أحد أنه يمدحه بالبراعة في علم السحر فتتحرك الهمم للإقبال عليه للاستفادة منه وهو خبر مبتدأ محذوف، ثم وصفوه بقولهم‏:‏ ‏{‏كذاب *‏}‏ لخوفهم من تصديق الناس له، فبعث أخصّ عباده به إلى أخسّ عباده عنده ليقيم الحجة عليه، وأمهله عندما قابل بالتكذيب وحلم عنه حتى أعذر إليه غاية الإعذار‏.‏

ولما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مباردتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم‏}‏ أي موسى عليه السلام ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ‏{‏من عندنا‏}‏ على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه ‏{‏قالوا‏}‏ أي فرعون وأتباعه ‏{‏اقتلوا‏}‏ أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ‏{‏أبناء الذين آمنوا‏}‏ أي به فكانوا ‏{‏معه‏}‏ أي خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه ‏{‏واستحيوا نساءهم‏}‏ أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن‏.‏

ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحان خرق العادة بإبطاله فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما كيدهم- هكذا كان الأصل ولكنه قال‏:‏ ‏{‏كيد الكافرين‏}‏ تعميماً وتعليقاً بالوصف ‏{‏إلا في ضلال‏}‏ أي مجانبة للسدد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحدم منهم حفرة مكر إلا أركبه الله فيها‏.‏

ولما أخبر تعالى بفعله بمن تابع موسى عليه السلام، أخبر عن فعله معه بما علم به أنه عاجز فقال‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ أي أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله وملاّه ما رأى منه خوفاً وذعراً، دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً عنه، موهماً أن آله هم الذين يردونه عنه، وأنه لولا ذلك قتله‏:‏ ‏{‏ذروني‏}‏ أي اتركوني على أيّ حالة كانت ‏{‏أقتل موسى‏}‏ وزاد في إيهام الأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بالفضيحة بقوله‏:‏ ‏{‏وليدع ربه‏}‏ أي الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً إعلاماً بأنه الأمر صعب جداً لأنه كان منهم من يوهي أمره بأنه لا يؤثر ما هو فيه شيئاً أصلاً تقرباً إلى فرعون، وإظهاراً للثبات على متابعته ‏{‏إني أخاف‏}‏ أي إن تركته ‏{‏أن يبدل دينكم‏}‏ أي الذي أنتم عليه من نسبة الفعل إلى الطبيعة بما يدعو إليه من عبادة إلهه‏.‏

ولما ألهبهم بهذا الكلام إلى ممالأتهم له على موسى عليه السلام، زاد في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وأن يظهر‏}‏ أي بسببه- على قراءة الجماعة بفتح حرف المضارعة ‏{‏في الأرض‏}‏ أي كلها ‏{‏الفساد *‏}‏ وقرأ المدنيان والبصريان وحفص بالضم إسناداً إلى ضمير موسى عليه السلام وبنصب الفساد أي بفساد المعائش فإنه إذا غلب علينا قوي على من سوانا، فسفك الدماء وسبى الذرية، وانتهب الأموال، ففسدت الدنيا مع فساد الدين، فسمى اللعين الصلاح- لمخالفته لطريقته الفاسدة- فساداً كما هو شأن كل مفسد مع المصلحين، وقرأ الكوفيون ويعقوب «أو أن» بمعنى أنه يخاف وقوع أحد الأمرين‏:‏ التبديل أو ظهور ما هو عليه مما سماه فساداً، وإن لم يحصل التبديل عاجلاً فإنه يحصل به الوهن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ‏(‏27‏)‏ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ‏(‏28‏)‏ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما أعلم بمقالة العدو، أتبعه الإعلام بقول الولي فقال‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ إبطالاً لهذا القول وإزالة لآثاره مؤكداً لما استقر في النفوس من قدرة فرعون‏:‏ ‏{‏إني عذت‏}‏ أي اعتصمت عند ابتداء الرسالة ‏{‏بربي‏}‏ ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله‏:‏ ‏{‏وربكم‏}‏ أي المحسن إلينا أجمعين، فأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا ‏{‏من كل متكبر‏}‏ أي عاتٍ طاغ متعظم على الحق هذا وغيره ‏{‏لا يؤمن‏}‏ أي لا يتجدد له تصديق ‏{‏بيوم الحساب *‏}‏ من ربه له وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم به على نفسه، ومعنى العوذ أنه لا وصول لأحد منهم إلى قتلي بسبب عوذي، هذا أمر قد فرغ منه مرسلي لخلاصكم، القادر على كل شيء‏.‏

ولما انقضى كلام الرأسين، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم، واجتهد في جمع مفترق علنهم وسرهم، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك‏:‏ ‏{‏وقال رجل‏}‏ أي كامل في رجوليته ‏{‏مؤمن‏}‏ أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام‏.‏ ولما كان للإنسان، إذا عم الطغيان، أن يسكن بين أهل العدوان، إذا نصح بحسب الإمكان، أفاد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من آل فرعون‏}‏ أي وجوههم ورؤسائهم ‏{‏يكتم إيمانه‏}‏ أي يخفيه إخفاء شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان‏.‏

ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل، فقال منكراً له غاية الإنكار‏:‏ ‏{‏أتقتلون رجلاً‏}‏ أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي لأجل أن ‏{‏يقول‏}‏ ولو على سبيل التكرير‏:‏ ‏{‏ربي‏}‏ أي المربي لي والمحسن إليّ ‏{‏الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنه قد ‏{‏جاءكم بالبينات‏}‏ أي الآيات الظاهرات من غير لبس ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى اعترافكم له بها‏.‏

ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أنه إن‏.‏

ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة‏:‏ قتلهم خير الناس إذ ذاك، وإتيانهم بالعذاب، واطلاعهم على إيمانه، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن، حذف النون فقال‏:‏ ‏{‏يك كاذباً فعليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏كذبه‏}‏ يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر، ولم يقل‏:‏ أو صادقاً، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه، فيكون قد أخل ببعض الأدب، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه‏:‏ ‏{‏وإن يك‏}‏ حذف نونه لمثل ما مضى ‏{‏صادقاً يصبكم‏}‏ أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً‏.‏

ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض، قال ملزماً الحجة بالبعض، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه‏:‏ ‏{‏بعض الذي‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏يعدكم‏}‏ دون «يوعدكم» إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه، ولقد قام أعظم من هذا المقام- كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما- أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية، ودموعه تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه- رضي الله عنه‏.‏

ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ‏{‏لا يهدي‏}‏ أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ‏{‏من هو مسرف‏}‏ أي بإظهار الفساد متجاوز للحد، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً، ولذا قال ‏{‏يصبكم بعض الذي يعدكم‏}‏ فعلق الأمر بالمبالغة فقال‏:‏ ‏{‏كذاب *‏}‏ لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب، ويهدي من هو مقتصد صادق، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه، ولم يهتد لوجه يخلصه، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم، لاتصافكم بالوصفين‏.‏

ولما خيلهم بهذا الكلام الذي يمكنه توجيهه، شرع في وعظهم إظهاراً للنصيحة لهم والتحسر عليهم فقال مذكراً لهم بنعمة الله عليهم محذراً لهم من سلبها مستعطفاً بذكر أنه منهم‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال‏:‏ ‏{‏لكم الملك‏}‏ ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله‏:‏ ‏{‏ظاهرين‏}‏ أي غالبين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء، وأهل الرخاء يتوقعون البلاء، ونبه على الإله الواحد القهار الذي له ملك السماوات فملك الأرض من باب الأولى، بقوله معبراً بأداة الظرف الدالة على الاحتياج ترهيباً لهم‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أرض مصر التي هي لحسنها وجمعها المنافع كالأرض كلها، قد غلبتم الناس عليها‏.‏

ولما علم من هذا أنهم لا يملكون جميع الكون، تسبب عنه أن المالك للكل هو الإله الحق والملك المطلق الذي لا مانع لما يريد، فلا ينبغي لأحد من عبيده أن يتعرض إلى ما لا قبل له به من سخطه، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فمن ينصرنا‏}‏ أي أنا وأنتم، أدرج نفسه فيهم عن ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة‏:‏ ‏{‏من بأس الله‏}‏ أي الذي له الملك كله، ونبه بأداة الشك على أن عذابه لهم أمر ممكن، والعاقل من يجوز الجائز ويسعى في التدرع منه فقال‏:‏ ‏{‏إن جاءنا‏}‏ أي غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله، ويجوز أن يكون صادقاً، بل يجب اعتقاد ذلك لما أظهره من الدلائل، وفي قوله هذا تسجيل عليهم بأنهم يعرفون أن الله ملك الملوك ورب الأرباب، وكذا قول موسى عليه السلام ‏{‏لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الاسراء‏:‏ 102‏]‏ وأن ادعاء فرعون الإلهية إنما هو محض عناد‏.‏

ولما سمع فرعون ما لا طعن له فيه، فكان بحيث يخاف من بقية قومه إن أفحش في أمر هذا المؤمن، فتشوف السامع لجوابه، أخبر تعالى أنه رد رداً دون رد بقوله‏:‏ ‏{‏قال فرعون‏}‏ أي لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن دالاً بالحيدة عن حاق جوابه على الانقطاع بالعجز عن نقض شيء من كلامه‏:‏ ‏{‏ما أريكم‏}‏ أي من الآراء ‏{‏إلا ما أرى‏}‏ أي إنه الصواب على قدر مبلغ علمي، أي إن ما أظهرته لكم هو الذي أبطنه‏.‏ ولما كان في كلام المؤمن تعريض في أمر الهداية، وكان الإنسان ربما يتوافق قلبه ولسانه، ويكون تطابقهما على ضلال، قال‏:‏ ‏{‏وما أهديكم‏}‏ أي بما أشرت به من قتل موسى عليه السلام وغيره ‏{‏إلا سبيل الرشاد *‏}‏ أي الذي أرى أنه صواب، لا أبطن شيئاً وأظهر غيره، وربما يكون في هذا تنبيه لهم على ما يلوح من كلام المؤمن لأنه ارتاب في أمره، وفي هذا أنه في غاية الرعب من أمر موسى عليه السلام لاستشارته لقومه في أمره واحتمال هذه المراجعات التي يلوح منها أنه يكاد ينفطر غيظاً منه ولكنه يتجلد‏.‏

ولما ظهر لهذا المؤمن رضي الله عنه أن فرعون ذل لكلامه، ولم يستطع مصارحته، ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول فأخبرنا تعالى عنه بقوله مكتفياً في وصفه بالفعل الماضي لأنه في مقام الوعظ الذي ينبغي أن يكون من أدنى متصف بالإيمان بعد أن ذكر عراقته في الوصف لأجل أنه كان في مقام المجاهدة والمدافعة عن الرسول عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام الذي لا يقدم عليه إلا راسخ القدم في الدين‏:‏ ‏{‏وقال الذي آمن‏}‏ أي بعد قول فرعون هذا الكلام الذي هو أبرد من الثلج الذي دل على جهله وعجزه وذله ‏{‏يا قوم‏}‏ وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم من اتهامه فقال‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ أي من المكابرة في أمر موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ولما كان أقل ما يخشى يكفي العاقل، وكانت قدرة الله سبحانه عليهم كلهم على حد سواء لا تفاوت فيها فكان هلاكهم كلهم كهلاك نفس واحدة، أفرد فقال‏:‏ ‏{‏مثل يوم الأحزاب *‏}‏ مع أن إفراده أروع وأقوى في التخويف وأفظع للاشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على إهلاكهم في أقل زمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ‏(‏31‏)‏ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ ‏(‏32‏)‏ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما أجمل فصل وبين أو بدل بعد أن هول، فقال بادئاً بمن كان عذابهم مثل عذابهم، ودأبهم شبيهاً بدأبهم‏:‏ ‏{‏مثل دأب‏}‏ أي عادة ‏{‏قوم نوح‏}‏ أي فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المحاولة والمقاومة لما يريدونه ‏{‏وعاد وثمود‏}‏ مع ما بلغكم من جبروتكم‏.‏ ولما كان هؤلاء أقوى الأمم، اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ وأشار بالجار إلى التخصيص بالعذاب لئلا يقال‏:‏ هذه عادة الدهر، فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ أي بالقرب من زمانهم لا جميع من جاء بعدهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ أهلكهم الله وما ظلمهم، عبر عنه تعميماً مقروناً بما تضمنه من الخبر بدليله فقال‏:‏ ‏{‏وما الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال‏.‏ ولما كان في مقام الوعظ لهم ومراده ردهم عن غيهم بكل حال، علق الأمر بالإرادة لأنها متى ارتفعت انتفى الظلم، ونكر تعميماً فقال‏:‏ ‏{‏يريد ظلماً‏}‏ أي يتجدد منه أن يعلق إرادته وقتاً ما بنوع ظلم ‏{‏للعباد *‏}‏ لأن أحد لا يتوجه أبداً إلى أنه يظلم عبيده الذين هم تحت قهره، وطوع مشيئته وأمره، ومتى لم يعرفوا حقه وأرادوا البغي على من يعرف حقه عاقبهم ولا بد، وإلا كان كفه ظلماً للمبغي عليهم‏.‏

ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر، لأنه لا يسوغ أصلاً أن ملكاً يدع عبيده يبغي بعضهم على بعض من غير إنصاف بينهم ونحن نرى أكثر الخلق يموت مقهوراً من ظالمه، ومكسوراً من حاكمه، فعلم قطعاً أن الموت الذي لم يقدر ولا يقدر أحد أصلاً أن يسلم منه إنما هو سوق إلى دار العرض وساحة الجزاء للقرض- كما جرت به عادة الملوك إذا وكلوا بمن يأمرون باحضاره إليهم لعرضه عليهم ليظهر التجلي في صفات الجبروت والعدل، ومظاهر الكرم الفضل قال‏:‏ ‏{‏ويا قوم‏}‏ ولما كانوا منكرين للبعث أكد فقال‏:‏ ‏{‏إني أخاف‏}‏ وعبر بأداة الاستعلاء زيادة في التخويف فقال‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ ولما كان قد سماه فيما مضى بالتلاقي والآزفة لما ذكر، عرف هنا أن الخلق فيه وجلون خائفون وأنهم لكثرة الجمع ينادُون وينادَون للرفعة أو الضعة وغير ذلك من الأمور المتنوعة التي مجموعها يدل على ظهور الجبروت وذل الخلق لما يظهر لهم من الكبرياء والعظموت فقال‏:‏ ‏{‏يوم التناد *‏}‏ أي أهواله وما يقع فيه، فينادي الجبار سبحانه بقوله ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدو الشيطان‏}‏ وينادونه «بلى يا ربنا» وتنادي الملائكة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب «يا فلان ابن فلان أقبل لفصل النزاع» وينادي ذلك العبد «ألا سمعاً وطاعة» وينادي الفائز «ألا نعم أجر العاملين» وينادي الخائب «ألا بئس منقلب الظالمين» وينادي أصحاب الأعراف وأهل الجنة أهل النار وأهل النار أهل الجنة وينادي الكل حين يذبح الموت، ويدعى كل أناس بإمامهم، وتتنادى الملائكة وقد أحاطوا بالثقلين صفوفاً مترتبة ترتب السماوات التي كانوا بها بالتسبيح والتقديس، وترتفع الأصوات بالضجيج، بعضهم بالسرور وبعضهم بالويل والثبور، وتنادي ألسن النيران‏:‏ أي الجبارون أين المتكبرون، وتنادي الجنة، أين المشمرون في مرضاة الله والصابرون، فيا له يوماً يذل فيه العصاة العتاة ويعز المنكسرة قلوبهم من أجل الله وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما في آخرين بتشديد الدال من التناد على أنه مصدر تنادّ من ند البعير- إذا هرب ونفر، وهو كقوله يوم

‏{‏يفر المرء من أخيه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 34‏]‏ وتقدم في حذف ياء التلاق وإثباتها ما يمكن الفطن تنزيله هنا‏.‏ ولما كانت عادة المتنادين الإقبال، وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال مبدلاً أو مبيناً‏:‏ ‏{‏يوم تولون مدبرين‏}‏ أي حين تخرج ألسنة النيران فتخطف أهل الكفران، وتزفر زفرات يخر أهل الموقف من خشيتها، فترى كل أمة جاثية ويفرون فلا يقصدون مكاناً إلا وجدوا به الملائكة صافين كما قال تعالى ‏{‏والملك على أرجائها‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 17‏]‏ وينادي المنادي ‏{‏يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏‏.‏

ولما كان المدبر إنما يقصد في إدباره معقلاً يمنعه ويستره أو فئة تحميه وتنصره، قال مبيناً حالهم‏:‏ ‏{‏ما لكم من الله‏}‏ أي الملك الجبار الذي لا ند له، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من عاصم‏}‏ أي مانع يمنعكم مما يراد فما لكم من عاصم أصلاً، فإنه سبحانه يجير ولا يجار عليه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لضلالكم في الدنيا فإن حالكم في ذلك اليوم مكتسب من احوالكم في هذا اليوم، عطف عليه قوله معمماً‏:‏ ‏{‏ومن يضلل اللهُ‏}‏ أي الملك المحيط بكل شيء الباطن في اردية الجلال الظاهر في مظاهر القهر والجمال، إضلالاً جبله عليه فهو في غاية البيان- بما أشار إليه الفلك ‏{‏فما له من هاد *‏}‏ أي إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه، وأما الضلال العارض فيزيله الله لمن يشاء من عباده، وهذا لا يعرف إلا بالخاتمة كما قاله الإمام أبو الحسن الأشعري‏:‏ فمن مات على شيء فهو مجبول عليه‏.‏

ولما كان حاصل ما مضى من حالهم في أمر موسى عليه السلام أنه جاءهم بالبينات فشكوا فيها، وختم بتحذيرهم من عذاب الدنيا والآخرة، عطف عليه شك آبائهم في مثل ذلك، فقال مبيناً أنهم مستحقون لما حذر منه العذاب ليشكروا نعمة الله في إمهاله إياهم ويحذروا نقمته إن تمادوا وأكد لأجل إنكارهم أن يكونوا أتو ببينة، وافتتح بحرف التوقع لأن حالهم اقتضت توقع ذلك ودعت إليه‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم‏}‏ أي جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد، ومن أنهم على طبائعهم لا سيما إن كانوا لم يفارقوا مساكنهم‏:‏ ‏{‏يوسف‏}‏ أي نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم‏.‏

ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل زمن موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ أي الآيات الظاهرات ولا سيما في أمر يوم التناد ‏{‏فما زلتم‏}‏ بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ‏{‏في شك‏}‏ أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ‏{‏مما جاءكم به‏}‏ من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا هلك‏}‏ وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة ‏{‏قلتم‏}‏ أي من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يبعث الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال‏.‏

ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي يوسف عليه السلام ‏{‏رسولا‏}‏ وهذا ليس إقراراً منهم برسالته، بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته التكذيب برسالة من بعده، والحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله‏؟‏ أجيب بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن ‏{‏يضل‏}‏ وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده ‏{‏الله‏}‏ أي بما له من صفات القهر ‏{‏من هو مسرف‏}‏ أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر‏.‏

ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال‏:‏ ‏{‏مرتاب *‏}‏ أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه، وهذه الآية دليل على أن القبط طول الدهر على ما نشاهده من أنه لا ثقة بدخولهم في الدين الحق، ولا ثبات لهم في الأعمال الصالحة‏.‏