فصل: تفسير الآيات رقم (35- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 39‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ‏(‏35‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ‏(‏36‏)‏ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ ‏(‏38‏)‏ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما ظهر ظهوراً لا يحتمل شكاً بما أتى به موسى عليه السلام من البينات أن شكهم في رسالة الماضي وجزمهم في الحكم بنفي رسالة الآتي أعظم ضلال وأنه من الجدال الذي لا معنى له إلا فتل المحق عما هو عليه من الحق إلى ما عليه المجادل من الضلال، وصل بذلك قوله على سبيل الاستنتاج ذماً لهم بعبارة تعم غيرهم‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ أي جدال من ‏{‏يجادلون‏}‏ أي يقاتلون ويخاصمون خصاماً شديداً ‏{‏في آيات الله‏}‏ أي المحيطة بأوصاف الكمال لا سيما الآيات الدالة على يوم التناد، فإنها أظهر الآيات على وجوده سبحانه وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل‏.‏

ولما كان الجدال بالتي هي أحسن مشروعاً، وهو بما أمر به قال‏:‏ ‏{‏بغير سلطان‏}‏ أي تسليط ودليل ‏{‏أتاهم‏}‏ أي من عند من له الأمر كله ‏{‏كبر‏}‏ أي عظم هو، أي الجدال المقدر مضافاً قبل ‏{‏الذين‏}‏ وبين ما أبهم من هذا العظم بتمييز محول عن الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏مقتاً عند الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏وعند الذين آمنوا‏}‏ أي الذين هم خاصته‏.‏

ولما كان فاعل هذا لا يكون إلا مظلم القلب، فكان التقدير‏:‏ أولئك طبع الله على قلوبهم، وصل به استنئافاً قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الطبع العظيم ‏{‏يطبع‏}‏ أي يختم ختماً فيه العطب ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏على كل قلب‏}‏ ولما كان فعل كل ذي روح إنما هو بقلبه، نسب الفعل إليه في قراءة أبي عمرو وابن عامر في إحدى الروايتين عنه بالتنوين فوصفه بقوله‏:‏ ‏{‏متكبر‏}‏ أي متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ‏{‏جبار *‏}‏ أي ظاهر الكبر قويّه قهار وقراءة الباقين بالإضافة مثلها سراء في أن السور داخل القلب ليعم جميع أفراده غير أن الوصف بالكبر والجبروت للشخص لا للقلب، وهي أبين من القراءة الشاذة بتقديم القلب على كل لأن تقديم كل نص في استغراق أفراد القلوب ممن اتصف بهذا الوصف، ومن المقطوع به أن آحاد القلوب موزعة على آحاد الأشخاص لأنه لا يكون لشخص أكثر من قلب بخلاف ما إذا قدم القلب فإنه قد يدعي أن الشخص الواحد، وأن السور لأجل جمعه لأنواع الكبر والجبروت فيكون المعنى‏:‏ على قلب شخص جامع لكل فرد من أفراد التكبر والتجبر- والله الموفق‏.‏

ولما ذكر الطبع المذكور، دل عليه بما ذكر من قول فرعون وفعله عطفاً على ما مضى من قوله وقول المؤمن، فإنه قصد ما لا مطمع في نيله تيهاً وحماقة تكبراً وتجبراً لكثافة قلبه وفساد لبه، فصار به ضحكة لكل من سمعه هذا إن كان ظن أنه يصل إلى ما أراد وإن كان قصد بذلك التلبيس على قومه للمدافعة عن اتباع موسى عليه السلام إلى وقت ما فقد نادى عليهم بالجهل، والإغراق في قلة الحزم والشهامة والعقل، فقال تعال‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ أي بعد قول المؤمن هذا، معرضاً عن جوابه لأنه لم يجد فيه مطعناً‏:‏ ‏{‏يا هامان‏}‏ وهو وزيره ‏{‏ابنِ‏}‏ وعرفه بشدة اهتمامه به بالإضافة إليه في قوله‏:‏ ‏{‏لي صرحاً‏}‏ أي بناء ظاهراً يعلوه لكل أحد‏.‏

قال البغوي‏:‏ لا يخفى على الناظر وإن بعد‏.‏ وأصله من التصريح وهو الإظهار، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق، فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي فقال‏:‏ ‏{‏لعلي أبلغ الأسباب *‏}‏ أي التي لا أسباب غيرها لعظمها‏.‏

ولما كان بلوغها أمراً عجيباً، أورده على نمط مشوق عليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنها، ليتشوف السامع إلى بيانها، بقوله‏:‏ ‏{‏أسباب السماوات‏}‏ أي الأمور الموصلة إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه‏.‏

ولما ذكر هذا السبب، ذكر المسبب عنه فقال‏:‏ ‏{‏فاطًّلع‏}‏ أي فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ‏{‏إلى إله موسى‏}‏ فيكون كما ترى عطفاً على ‏{‏أبلغ‏}‏، ونصبه حفص عن عاصم على الجواب تنبيهاً على أن ما أبرزه الخبيث في عداد الممكن إنما هو تمني محال غير ممكن في العادة‏.‏

ولما كان من جملة إرادته بذلك مع إيقاف قومه إلى وقت ما عن المتابعة أن يخيلهم بأن يقول‏:‏ طلعت فبحثت عما قال موسى فلم أقف له على صحة، قدم لهم قوله مبيناً لحاله إذ ذاك لما ظن من ميل قلوبهم إلى تصديق موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وإني لأظنه‏}‏ أي موسى ‏{‏كاذباً‏}‏ فترك الكلام على احتمال أن يريد في الرسالة أو في الإلهية‏.‏ ولما كان هذا أمراً عجيباً، وهو كون أحد يظن أنه يخيل للعقول أنه يصعد إلى السماء، وأن الإله الذي هو غني عن كل شيء وقد كان ولا شيء معه يكون في السماء، أو في محل من المحال، فإن كل حال في شيء يحتاج إلى محله، وكل محتاج عاجز ولا يصلح العاجز للإلهية لو لم يجئ عن الله لما كان أهلاً لأن يصدق، فكان التقدير‏:‏ عمله فرعون لأنا زيناه له، عطف عليه زيادة في التعجيب‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك التزيين العظيم الشأن اللاعب بالألباب‏.‏ ولما كان الضار هو التزيين لا المزين الخاص، بناه للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏زين‏}‏ أي زين المزين النافذ الأمر، وهو لله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه، والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي خلق الله تعالى ‏{‏لفرعون سوء عمله‏}‏ في جميع أمره، فاقبل عليه راغباً فيه مع بعده من عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك، وأطاعه فيه وقومه ‏{‏وصُد‏}‏ بنفسه ومنع غيره على قراءة الفتح، ومنعه الله- على قراءة الكوفيين ويعقوب بالضم ‏{‏عن السبيل‏}‏ أي التي لا سبيل في الحقيقة غيرها، وهو الموصلة إلى الله تعالى‏.‏

ولما كان هذا السياق بحيث يظن منه الظان أن لفرعون نوع تصرف، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما كيد‏}‏ واعاد الاسم ولم يضمره لئلا يخص بخيثية من الحيثيات فقال‏:‏ ‏{‏فرعون‏}‏ أي في إبطال أمر موسى عليه السلام ‏{‏إلا في تباب *‏}‏ أي خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه، وما تعطاه إلا لأنه محمول عليه ومقهور فيه، كما كشف عنه الحال، فدل ذلك قطعاً على أنه لو كان له أدنى تصرف يستقل به لما أنتج فعله الخسار‏.‏

ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات‏:‏ الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه‏:‏ ‏{‏وقال الذي آمن‏}‏ أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم ‏{‏اتبعون‏}‏ أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ‏{‏أهدكم سبيل‏}‏ أي طريق ‏{‏الرشاد *‏}‏ أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح‏.‏

ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ‏{‏يا قوم‏}‏ كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه‏.‏ ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال‏:‏ ‏{‏إنما هذه الحياة‏}‏ وحقرها بقوله‏:‏ ‏{‏الدنيا‏}‏ إشارة إلى دناءتها وبقوله‏:‏ ‏{‏متاع‏}‏ إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال‏.‏

ولما افتتح بذم الدنيا، ثنى بمدح الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏وإن الآخرة‏}‏ لكونها المقصودة بالذات ‏{‏هي دار القرار *‏}‏ التي لا تحول منها أصلاً دائم كل شيء من ثوابها وعقابها، فهي للتلذذ والانتفاع والترفه والاتساع لمن توسل إلى ذلك بحسن الاتباع أو للشقاوة والهلاك، لمن اجترأ على المحارم واستخف الانتهاك قال الأصفهاني‏:‏ قال بعض العارفين‏:‏ لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن‏.‏

وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب، فكان الترغيب في نعيم الجنان، والترهيب من عذاب النيران، من أعظم وجوه الترغيب والترهيب، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً، والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏40‏)‏ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ‏(‏41‏)‏ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ‏(‏42‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏43‏)‏ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال، وترك السيء من الخلال، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف، وينشط لما يزلف، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا ‏{‏من عمل سيئة‏}‏ أي ما يسوء من أي صنف كان‏:‏ الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين ‏{‏فلا يجزى‏}‏ أي من الملك الذي لا ملك سواه ‏{‏إلا مثلها‏}‏ عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً، والآية على عمومها، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره، ومن قال‏:‏ إنها في شيء معين، لزمه أن تكون مجملة، لأن ذاك المعين غير مذكور، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول‏.‏

ولما بين العدل في العقاب، بين الفضل في الثواب، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال‏:‏ ‏{‏ومن عمل صالحاً‏}‏ أي ولو قل‏.‏ ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏ ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي عمل والحال أنه ‏{‏مؤمن‏}‏ ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الهمة والمقدار ‏{‏يدخلون الجنة‏}‏ أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين ‏{‏يرزقون فيها‏}‏ أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول ‏{‏بغير حساب *‏}‏ لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل، وفضل الله لا حد له، ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني‏:‏ فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب، فأنهدمت قواعد المعتزلة‏.‏

ولما بلغ النهاية في نصحهم، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان‏:‏ هالك وناج، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة‏.‏ والتذكير بأنهم قومه واعضاده، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه‏:‏ ‏{‏ويا قوم ما‏}‏ أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح ‏{‏لي‏}‏ في أني ‏{‏أدعوكم إلى النجاة‏}‏ والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم ‏{‏و‏}‏ مالكم من ذلك في كونكم ‏{‏تدعونني إلى النار *‏}‏ والهلاك بالكفران، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليس من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة‏.‏

ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏تدعونني‏}‏ أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم ‏{‏لأكفر‏}‏ أي لأجل أن أكفر ‏{‏بالله‏}‏ أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر ‏{‏وأشرك‏}‏ أي أوقع الشرك ‏{‏به‏}‏ أي أجعل له شريكاً‏.‏ ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال‏:‏ ‏{‏ما ليس لي به علم‏}‏ أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة، فلم يكن له وجود لأن الملك لازم الإلهية وهو أشهر الأشياء، فما ادعى له أشهر الأشياء، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه، كان عدماً محضاً‏.‏

ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله، ولا نفع ولا ضر إلا بيده، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها‏:‏ ‏{‏وأنا ادعوكم‏}‏ أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده ‏{‏إلى العزيز‏}‏ أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء‏.‏ ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله‏:‏ ‏{‏الغفار *‏}‏ أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه، من صفات الكمال أحد، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً‏.‏

ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في أصول الدين، كان ما دعوه إليه باطلاً، وكان ما دعاهم إليه هو الحق، فلذلك أنتج قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ وهي وإن كانت بمعنى‏:‏ لا ظن ولا اضطراب أصلاً- كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة، أي فلأجل ذلك لا شك في ‏{‏أنما‏}‏ أي الذي ‏{‏تدعونني إليه‏}‏ من هذه الأنداد ‏{‏ليس له دعوة‏}‏ بوجه من الوجوه، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة ‏{‏في الدنيا‏}‏ التي هي محل الأسباب، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين ‏{‏ولا في الآخرة‏}‏ لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون ‏{‏وإن‏}‏ أي ولا اضطراب في أن ‏{‏مردنا‏}‏ أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته، فيجازي كل أحد بما يستحقه ‏{‏وأنَّ‏}‏ أي ولا شك في أن ‏{‏المسرفين‏}‏ أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم ‏{‏أصحاب النار *‏}‏ أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها‏.‏

ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد، تسبب عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فستذكرون‏}‏ أي قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب ‏{‏ما أقول لكم‏}‏ حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه‏.‏ ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على «ستذكرون» غير مراعى فيها معنى السين‏:‏ ‏{‏وأفوض‏}‏ أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ‏{‏أمري‏}‏ فيما تمكرونه بي ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم‏:‏ إن شاء، قال صاحب المنازل‏:‏ التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب، والتفويض قبل وقوعه وبعده، وهو عين الاستسلام، والتوكل شعبة منه، وهو على ثلاث درجات‏:‏ الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة، فلا يأمن من مكر، ولا ييأس من معونة، ولا يعول على نية، والثانية معاينة الاضطرار فلا ترى عملاً منجياً ولا ذنباً مهلكاً ولا سبباً حاملاً، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع‏.‏

ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره ‏{‏إن الله‏}‏ وكرر الاسم الأعظم بياناً لمراده بأنه ‏{‏بصير‏}‏ أي بالغ البصر ‏{‏بالعباد *‏}‏ ظاهراً وباطناً، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏45‏)‏ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ‏(‏46‏)‏ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ ‏(‏47‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ‏(‏48‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ ‏(‏49‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما تسبب عن نصحه هذا لهم والتجائه إلى ملك الملوك حفظه منهم على عظم الخطر، قال تعالى مخبراً أنه صدق ظنه ‏{‏فوقاه الله‏}‏ أي جعل له وقاية تجنه منهم بما له سبحانه من الجلال والعظمة والكمال جزاء على تفويضه ‏{‏سيئات‏}‏ أي شدائد ‏{‏ما مكروا‏}‏ ديناً ودنيا، فنجاه مع موسى عليه السلام تصديقاً لوعده سبحانه بقوله ‏{‏أنتما ومن اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏ ولما كان المكر السيء لا يحيق إلا بأهله قال‏:‏ ‏{‏وحاق‏}‏ أي نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق ‏{‏بآل فرعون‏}‏ أي كلهم فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم، فالإحاطة بفرعون من باب الأولى وإن لم نقل‏:‏ أن الآل مشترك بين الشخص والأتباع، لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه فهو مفهوم موافقة ‏{‏سوء العذاب *‏}‏ أي العقوبة المانعة من كل مستعذب، ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ أي حال كونهم ‏{‏يُعرضون عليها‏}‏ أي في البرزخ ‏{‏غدواً وعشياً‏}‏ أي غادين ورائحين في وقت استرواحهم بالأكل واستلذاذهم به- هذا دأبهم طول أيام البرزخ، وكان عليهم في هذا العرض زيادة نكد فوق ما ورد عاماً مما روى مالك والشيخان وغيرهم عن أن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال‏:‏ هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» ولعل زيادة النكد أنهم هم المعروضون، فيذهب بهم في الأغلال يساقون لينظروا ما أعد الله لهم، وعامة الناس يقتصر في ذلك على أن يكشف لهم- وهو في محالّهم- عن مقاعدهم، ففي ذلك زيادة إهانة لهم، وهو مثل‏:‏ عرض الأمير فلاناً على السيف إذا أراد قتله، هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة ‏{‏ويوم تقوم الساعة‏}‏ يقال لهم‏:‏ ‏{‏ادخلوا آل‏}‏ أي يا آل ‏{‏فرعون‏}‏ هو نفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به، وجعله نافع وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص فعل أمر من الإدخال، فالتقدير‏:‏ نقول لبعض جنودنا‏:‏ أدخلوا آله لأجل ضلالهم به اليوم ‏{‏أشد العذاب‏}‏ وإذا كان هذا لآله لأجله كان له أعظم منه من باب الأولى، وهذه الآية نص في عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب‏.‏

ولما كان هذا من خبر موسى عليه السلام وفرعون أمراً غريباً جداً، قل من يعرفه على ما هو عليه، لأنه من خفي العلم، أشار سبحانه إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر لهم هذا الذي أنبأناك به مما كان في الزمن الأقدم، ولا وصول له إليك إلا من جهتنا، لأنهم يعلمون قطعاً أنك ما جالست عالماً قط، واذكر لهم ما يكون في الزمن الآتي حين ‏{‏يتحاجون‏}‏ أي هؤلاء الذين نعذبهم ‏{‏في النار‏}‏ أي يتخاصمون فيما أتباعهم ورؤساؤهم بما لا يغنيهم‏:‏ ‏{‏فيقول الضعفاء‏}‏ أي الأتباع ‏{‏للذين استكبروا‏}‏ أي طلبوا أن يكونوا كبراء‏.‏

ولما كانوا لشدة ما هم فيه يتبرأ كل منهم من صاحبه‏.‏ أكدوا قولهم‏:‏ ‏{‏إنا كنا لكم‏}‏ أي دون غيركم ‏{‏تبعاً‏}‏ أي أتباعاً، فتكبرتم على الناس بنا، وهو عند البصريين يكون واحداً كجمل ويكون جمعاً كخدم جمع خادم، ولعله عبر به إشارة إلى أنهم كانوا في عظيم الطواعية لهم على قلب رجل واحد ولما كان الكبير يحمي تابعه، سببوا عن ذلك سؤالهم فقالوا‏:‏ ‏{‏فهل أنتم‏}‏ أي أيها الكبراء ‏{‏مغنون‏}‏ أي كافون ومجزون وحاملون ‏{‏عنا نصيباً من النار *‏}‏‏.‏

ولما أتى بكلام الضعفاء مضارعاً على الأصل، وإشارة مع تصوير الحال لأنه أقطع إلى طول خصامهم لأنه أشد في إيلامهم، فتشوف السامع إلى جوابهم، استأنف الخبر عنه بصيغة الماضي تأكيداً لتحقيق وقوعه رداً قد يتوهمه الضعيف من أن المستكبر له قوة المدافعة وإباء الأنفة فقال‏:‏ ‏{‏قال الذين استكبروا‏}‏ أي من شدة ما هم فيه‏.‏ ولما كان الأتباع قد ظنوا أن المتبوعين يغنون عنهم، أكدوا إخبارهم لهم بما ينافي ذلك فقالوا‏:‏ ‏{‏إنّا كل‏}‏ أي كلنا كائنون ‏{‏فيها‏}‏ أي النار، كل يناله من العذاب بقدر ما يستحقه سواء إن جادلتمونا أو تركتم جدالنا ولا يظلم بك أحداً، فلة قدرنا على شيء لأغنينا عن أنفسنا، ولو سألنا أن نزاد أو ننقص لما أجبنا‏.‏ فإن هذه دار العدل فاتركونا وما نحن فيه‏.‏

ولما كان حكم الله تعالى مانعاً مما كان يفعل في الدنيا من فك المجرم وإيثاق غيره به، وكان سؤالهم في الإغناء سؤال من يجوز أن يكون حكمه على ما عليه الأحكام من حكام أهل الدنيا، عللوا جوابهم مؤكدين فقالوا‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بأوصاف الكمال ‏{‏قد حكم بين العباد *‏}‏ أي بالعدل، فأدخل أهل الجنة دارهم، وأهل النار نارهم، فلا يغني أحد عن أحد شيئاً‏.‏

ولما دل على أنه لا يغني أحد عن أحد شيئاً، أخبر انهم لما رأوا بعدهم من الله وأنهم ليسوا بأهل لدعائه سبحانه، علقوا آمالهم بتوسط الملائكة، فأخبر عن ذلك منهم بقوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين في النار‏}‏ أي جميعاً الأتباع والمتبوعون ‏{‏لخزنة‏}‏ ووضع موضع الضمير قوله‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ للدلالة على أن سؤالهم لأهل الطبقة التي من شأنها وشأن خزنتها تجهم داخليها ليدل على أنهم لسوء ما هم فيه لا يعقلون، فهم لا يضعون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار ‏{‏يخفف عنه يوماً‏}‏ أي مقداره ‏{‏من العذاب *‏}‏ أي بعضه‏.‏

ولما سألوهم، استأنفوا جوابهم إشارة إلى ما حصل من تشوف السامع إليه، معرفين لهم بسياقه بالسبب، الجاعل لهم في محل الاطراح والسفول عن التأهل لأن يسمع لهم كلام، فقال تعالى مخبراً عنهم‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي الخزنة‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ ألم تكن لكم عقول تهديكم إلى الاعتقاد الحق، عطف عليه قوله إلزامناً لهم الحجة وتوبيخاً وتنديماً بتفويت أوقات الدعاء المجاب‏:‏ ‏{‏أولم‏}‏ ولما كان المقام خطراً، والمرام وعراً عسراً، فكانوا محتاجين إلى الإيجاز، قالوا مشيرين بذكر فعل الكون مع اقتضاء الحال للإيجاز إلى عراقة الرسل عليهم السلام في النصح المنجي من المخاوف بالمعجزات والرفق والتلّطف وطول الأناة والحلم والصبر مع شرف النسب وطهارة الشيم وحسن الأخلاق وبداعة الهيئات والمناظر ولطافة العشرة وجلالة المناصب‏:‏ ‏{‏تك‏}‏ بإسقاط النون مع التصوير للحال بالمضارع ‏{‏تأتيكم‏}‏ على سبيل التجدد شئياً في أثر شيء ‏{‏رسلكم‏}‏ أي الذين هم منكم فأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم، لأن الجنس إلى الجنس أمثل، والإنسان من مثله أقبل ‏{‏بالبينات‏}‏ أي التي لا شيء أوضح منها ‏{‏قالوا‏}‏ أي الكفار‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي أتونا كذلك، ثم استأنفوا جوابهم لما حصل من التشوف إليه بما حاصله عدم إجابتهم فسببوا عن إخبارهم بعدم إجابتهم للرسل عدم إجابة دعائهم فقال تعالى مخبراً عنهم‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي الخزنة‏:‏ ‏{‏فادعوا‏}‏ أي أنتم الآن الله أو أهل الله من رسل البشر أو الملائكة أو غيرهم، أو لا تدعوا فإنه لا يسمع لكم‏.‏

ولما كان أمرهم بالدعاء موجباً لأن يظنوا نفعه، أتبعوه بما أيأسهم لأن ذلك أنكأ وأوجع وأشد عليهم وأفظع بقولهم‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ دعاؤكم- هكذا كان الأصل، ولكنه أتى بالوصف تعليقاً للحكم به فقال‏:‏ ‏{‏دعاءُ الكافرين‏}‏ أي الساترين لمرائي عقولهم عن أنوار العقل المؤيد بصحيح النقل ‏{‏إلا في ضلال *‏}‏ أي ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة، والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 55‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏55‏)‏‏}‏

ولما كان حاصل ما مضى من هذا القص الذي هو أحلى من الشراب، وأغلى من الجوهر المنظم في أعناق الكواعب الأتراب، لأنه سبحانه نصر الرسل على أممهم حين هموا بأخذهم، فلم يصلوا إليهم ثم أهلكهم الله هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فعذبهم أشد العذاب، وكذلك نصر موسى عليه السلام والمؤمن الذي دافع عنه، وكان نصر اهل الله قاطبة خفياً، لأنهم يُبتلون ثم يكون لهم العاقبة، فكان أكثر الجامدين وهم أكثر الناس يظن أنه لا نصره لهم، قال الله تعالى لافتاً القول إلى مظهر العظمة، لأن النصرة عنها تكون على سبيل الاستنتاج مما مضى مؤكداً تنبيهاً للأغبياء على ما يخفى عليهم‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لننصر رسلنا‏}‏ أي على من ناوأهم ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي اتسموا بهذا الوصف وإن كانوا في أدنى رتبة‏.‏

ولما كانت الحياة تروق وتحلو بالنصرة وتتكدر بضدها، ذكرها لذلك ولئلا يتوهم لو سقطت أن نصرتهم تكون رتبتها دنية فقال‏:‏ ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ بالزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة، وإن غلبوا في بعض الأحيان فإن العاقبة تكون لهم، ولو بأن يقيض سبحانه لأعدائهم من يقتض ولو بعد حين، وأقل ذلك أن لا يتمكن أعداؤهم من كل ما يرون منهم ‏{‏ويوم يقوم الأشهاد *‏}‏ أي في الدار الآخرة من الملائكة والنبيين وسائر المقربين، جمع شهيد كشريف وأشراف، إشارة إلى أن شهادتهم بليغة في بابها، لما لهم من الحضور التام، وإلى ذلك يشير تذكير الفعل والتعبير بجمع القلة، ولكن الجياد قليل مع أنهم بالنسبة إلى أهل الموقف كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وإنما عبر بذلك إشارة إلى أهل الحكم بصفات الجبروت للقسط، فيرفع أولياءه بكل اعتبار، ويهين أعداءهم كل إهانة‏.‏

ولما وصف اليوم الآخر بما لا يفهمه كثير من الناس، أتبعه ما أوضحه على وجه بين نصره لهم غاية البيان، فقال مبدلاً مما قبله‏:‏ ‏{‏يوم لا ينفع الظالمين‏}‏ الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير مواضعها ‏{‏معذرتهم‏}‏ أي اعتذارهم وزمانه ومكانه- بما أشار إليه كون المصدر ميمياً ولو جل- بما أشار إليه قراءة التذكير للفعل فعلم بذلك أنهم لا يجدون دفاعاً بغير الاعتذار وأنه غير نافعهم لأنهم لا يعتذرون إلا بالكذب ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ أو بالقدر ‏{‏ربنا غلبت علينا شقوتنا‏}‏ ‏[‏المؤمون‏:‏ 106‏]‏ ‏{‏ولهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏اللعنة‏}‏ أي البعد عن كل خير، مع الإهانة بكل ضير ‏{‏ولهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏سوء الدار *‏}‏ وهي النار الحاوية لكل سوء- هذا مع ما يتقدمها من المواقف الصعبة، وإذا كان هذا لهم فما ظنك بما هو عليهم، وقد علم من هذا أن لأعدائهم- وهم الرسل وأتباعهم- الكرامة والرحمة ولهم قبول الاعتذار وحسن الدار، فظهرت بذلك أعلام النصرة، وصح ما أخبر به من تمام القدرة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلقد نصرنا موسى رسولنا مع إبراق فرعون وإرعاده، عطف عليه قوله دالاً على الكرامة والرحمة، مؤكداً لإزالة ما استقر في النفوس من أن ملوك الدنيا لا يغلبهم الضعفاء‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ أي بما لنا من العزة ‏{‏موسى الهدى‏}‏ أي في الدين اللازم منه أن يكون له العاقبة وإن تناهت ضخامة من يعانده، لأنه ضال عن الهدى، والضال هالك وإن طال المدى، وذلك بما آتيناه من النبوة والكتاب‏.‏

ولما كانت النبوة خاصة والكتاب عاماً قال‏:‏ ‏{‏وأورثنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ بعد ما كانوا فيه من الذل ‏{‏الكتاب *‏}‏ أي الذي أنزلنا عليه وآتيناه الهدى به- وهو التوراة- إيتاء هو كالإرث لا ينازعهم فيه أحد، ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم، حال كونه ‏{‏هدى‏}‏ أي بياناً عاماً لكل من تبعه ‏{‏وذكرى‏}‏ أي عظة عظيمة ‏{‏لأولي الألباب *‏}‏ أي القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية، فذكر إيتاء موسى الثمرة وذكر إيراثهم السبب إشارة إلى أنهم من جنى ثمرته فاهتدي، ومنهم من ضل، وذلك تحذير للاتباع، وتشريف للأنبياء بما نالوه من مراتب الارتفاع‏.‏

ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم‏:‏ ولقد آتيناك الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم، فإنهم لا يعشرون فرعون فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر ولم ينفعه شيء منه، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثم علل ذلك بقوله صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظمها إنفاذ الأمر وصدق الوعد‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏حق‏}‏ أي في إظهار دينك وإعزاز أمرك، فقد رأيت ما اتفق لموسى عليه السلام مع أجبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة، قال القشيري‏:‏ الصبر في انتظار الموعود من الحق على حسب الإيمان والتصديق، فمن كان تصديقه ويقينه أتم وأقوى كان صبره أكمل وأوفى‏.‏

ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بانجاز المرام، وكان من الأمر المحتوم أن لزوم القربات يعلى الدرجات فيوصل إلى قوة التصرفات، أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب الأحوال لتحصيل الكلام، موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبك‏}‏ أي وهو كل عمل كامل لأن ذلك غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فتستن بك أمتك، وسماه ذنباً من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين»‏.‏

ولما أمره بالاستغفار عند الترقية في درجات الكمال، المطلع على بحور العظمة ومفاوز الجلال، أمره بالتنزيه عن شائبة نقص والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والأحسان لأنه من أعظم مواقعها فقال‏:‏ ‏{‏وسبح‏}‏ أي نزه ربك عن شائبة نقص كلما علمت بالصعود في مدارج الكمال نقص المخلوق في الذات والأعمال ملتبساً ‏{‏بحمد ربك‏}‏ أي إثبات الإحاطة باوصاف الكمال للمحسن إليك المربي لك، ولا تشتغل عنه بشيء فإن الأعمال من أسباب الظفر‏.‏ ولما كان المقام لإثبات قيام الساعة، وكان العشي أدل عليها، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏بالعشي والإبكار *‏}‏ فإن تقلبهما دائماً دل على كمال مقلبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، ومن مدلول الآية الحث على صلاتي الصبح والعصر، وهما الوسطى لأنهما تشهدهما ملائكة الليل وملائكة النهار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ بل على الصلوات الخمس- نقله البغوي‏.‏ وذلك لأن العشى من زوال الشمس، والأبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 61‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

ولما كان الأمر بشغل هذين الوقتين أمراً بشغل غيرهما من باب الأولى، لأن أول النهار وقت الاشتغال بالأعمال والاهتمام بالابتداء والتمام، وآخره وقت التهيؤ للراحة والمقيل بالأكل والشرب وما يتبعهما، وكان ذلك موجباً للاشتغال عن أعداء الدين رأساً، وكان ذلك أمراً على النفوس شاقاً علله بما يقتضي المداومة على الأعمال والإعراض عنهم لأن خذلانهم أمر قد فرغ منه فقال معللاً للمداومة على الطاعة‏:‏ ‏{‏إن الذين يجادلون‏}‏ أي يناصبون بالعداوة لنقل أهل هذا الدين عنه إلى ما هم عليه من الباطل، ولفت القول إلى الجلالة الدالة على نهاية العظمة تهويناً لشأنهم فقال‏:‏ ‏{‏في آيات الله‏}‏ أي الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا ‏{‏بغير سلطان‏}‏ أي أمر مسلط ودليل مسلك ‏{‏أتاهم إن‏}‏ أي ما ‏{‏في صدورهم‏}‏ بصدودهم عن سواء السبيل، وآذن ذكر الصدور دون القلوب لعظم الكبر جداً بأنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها ‏{‏إلا كبر‏}‏ أي عن اتباع الحق مع إشراق ضيائه واعتلاء لألائه إرادة إطفائه أو إخفائه، والكبر إرادة التقدم والتعظم والرئاسة، وأن يكون مريد ذلك فوق كل أحد ‏{‏ما هم ببالغيه‏}‏ أي ببالغي مقتضاه من إبطال الدين تكبراً عن أن يكونوا تحت أوامره، لا يبلغون ذلك بوجه من الوجوه، ولا بد أن يظهر الدين بنصر الرسول ومن تبعه من المؤمنين على أهل الكتاب والمشركين وغيرهم من أنواع الكافرين، ثم يبعثون فيكون أعداؤهم أسفل سافلين صغرة داخرين‏.‏

ولما ظهر من أول هذا الكلام وآخره تصريحاً وتلويحاً بما أفاده أسلوب كلام القادرين المصوغ لأعم من يمكن أن يخطر في البال أنه تعالى وصف نفسه في مطلع السورة بأنه غالب لكل شيء ولا يغلبه شيء وأن الذي بهم إنما هو إرادة أن يكونوا عالين غالبين، عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستعذ‏}‏ أي اطلب العوذ ‏{‏بالله‏}‏ المحيط بكل شيء من شر كبرهم كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك كما أنجز له، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي على ما له من البطون ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع‏}‏ لكل ما يمكن أن يسمع‏.‏ ولما كان السياق للعياذ من شياطين الإنس الذين لهم المكر الظاهر والباطن، ختم بقوله‏:‏ ‏{‏البصير *‏}‏ الصالح للبصر والبصيرة فيعم المحسوس والمعلوم، وختم آيتي الأعراف وفصلت المسبوقتين لنزغ الشيطان الذي هو وساوس وخطرات باطنة بالعليم‏.‏

ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة المكررة من أول السورة إلى هنا إلى البعث وصيرورة العباد إلى الله بالحشر ليقع فيه الحكم الفصل، وتتحقق نصرة الأنبياء وأتباعهم يوم يقوم الأشهاد، دل على قدرته عليه بما هو كالتعليل لما نفى في آية المجادلة من بلوغهم لما قصدوا من الكبر، فقال مؤكداً تنزيلاً للمقر العالم منزلة الجاهل المعاند لمخالفة فعله لاعتقاده‏:‏ ‏{‏لخلق السماوات‏}‏ أي خلق الله لها على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ‏{‏والأرض‏}‏ على ما ترون من عجائبها وكثرة متاعها ‏{‏أكبر‏}‏ عند كل من يعقل من الخلق في الخلق ‏{‏من خلق الناس‏}‏ أي خلق الله لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما، فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه على عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ وهم الذين ينكرون البعث وغيره مما يمكن أن تتعلق به القدرة وصح به السمع ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي لا علم لهم أصلاً، بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم واتباعهم أهواءهم، فهم لا يستدلون بذلك على القدرة على البعث كما أن البهائم ترى الظاهر فلا تدرك به الباطن، بل هم أنزل رتبة من البهائم، لأن هذا النحو من العلم في غاية الظهور فهو كالمحسوس، فمن توقف فيه كان جماداً‏.‏

ولما ثبت بهذا القياس الذي لا خفاء به لا دافع له ولا مطعن فيه أن القادر على خلق الكبير ابتداء قادر على تسوية الصغير إعادة، وثبت به أيضاً أن خلق الناس ليس مستنداً إلى طبائع السماوات والأرض وإلا لتساووا في العلم والجهل، والقدر والهيئة والشكل، لأن اقتضاء الطبائع لذلك على حد سواء لا تفاوت فيه، وهي لا اختيار لها، وكان من الناس من يقول‏:‏ إن هذا الإيجاد إنما هو للطبائع، ومن هؤلاء فرعون الذي مضى في هذه السورة كثير من كشف عواره وإظهار عاره، دل على إبطاله بأن ذلك قول يلزمه التساوي فيما نشأ عن ذي الطبع لأن لا اختيار له ونحن نشاهد الأشياء مختلفة، فدل ذلك قطعاً على أنها غير مستندة إلى طبيعة بل إلى فاعل مختار، فكان التقدير بما أرشد إليه سياق الآية قطعاً مع ختمها بنفي العلم وعطف ما بعدها على غير مذكور‏:‏ وأقلهم يعلمون، فثبت أن خالقهم الذي فاوت بينهم قادر مختار لا شريك له، فإنه ما يستوي العالم والجاهل‏:‏ ‏{‏وما يستوي‏}‏ أي بوجه من الوجوه من حيث البصر ‏{‏الأعمى والبصير *‏}‏ وذلك موجب للعلم بأن استناد المتخالفين ليس إلى الطبيعة، بل إلى فاعل مختار‏.‏

ولما ذكر الظلام والنور الحسيين، أتبعه المعنويين نشراً مشوشاً ليكشف قسما الظلام قسمي النور إشارة إلى أن المهتدي عزيز الوجود، كالذهب الإبريز بين النقود، فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ثبتت أو لا ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ كذلك فكانوا محسنين ‏{‏ولا المسيء‏}‏ أي الثابت الإساءة الذي كفر وعمل الصالحات، ووقع التغاير في العطف لأن المراد- والله أعلم- نفس التساوي بين أفراد الأعمى وأفراد البصير والمحسن والمسيء، ولكنه لما كان في المخاطبين الغبي والذكي، عطف البصير بغير «لا» ليكون ظاهر ذلك نفي المساواة بين نوعي الأعمى والبصير، لأن نفي المساواة بين أفراد الأنواع دقيق، واقتصر على الواو في عطف ‏{‏الذين آمنو‏}‏ لأنه لا ينتظم أن يراد جعل الأعمى والبصير فريقاً والمؤمن الموصوف فريقاً، وينتفي التساوي بينهما لأنه لا لبس في أن المؤمنين الموصوفين كالبصير، وليس فيهم من يتوهم مساواته للأعمى، فكان من الجلي معرفة أن المراد نفي مساواة الأعمى للبصير ونفي مساواة المؤمن الموصوف للمسيء، وزيدت «لا» في المسيء وعبر فيه بالإفراد إشارة للفطن إلى أن المراد نفي التساوي بين أفراد كل نوع لأن ذلك أدل على القدرة، وأنها بالاختيار، وهذا بخلاف الظلمات في سورة فاطر لأنه لو تركت «لا» هناك لتوهم متوهم أن المنفي المساواة بين الأعمى والبصير وبين الظلمات، فيوجد حينئذ الطعن بأن الظلمات مساوية لهما باعتبار أن الظلمة منها كثيف جداً لا يمكن نفوذ البصر فيه، ومنها خفيف جداً يكون تسميته ظلاماً بالنسبة إلى النور الساطع، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر عمل الصالحات أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، والمسيء ثانياً دليلاً على المحسنين أولاً، وسره أنه ذكر الصلاح ترغيباً والإساءة ترهيباً‏.‏

ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه في علمه إلا عدم تذكره لحسه حتى في نفسه قال تعالى‏:‏ ‏{‏قليلاً ما يتذكرون‏}‏ أي المجادلون أو أيها المجادلون أو الناس لأن المتذكر غاية التذكر- بما دل عليه الإظهار- منكم قليل- على قراءة الكوفيين بالخطاب لأنه أقوى في التبكيت، وأدل على الغضب‏.‏

ولما ثبت بهذا كله تمام القدرة وانتفى ما توهمه من لا بصر له من الطبائع ثبت قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏إن الساعة‏}‏ أي القيامة التي يجادله فيها المجادلون ‏{‏لآتية‏}‏ وعزتي‏!‏ للحكم بالعدل في المقارنة بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي أحد بين محسن عبيده ومسيئهم، فكيف يظن ذلك بأحكم الحاكمين الذي نشاهده يميت المسيء وهو في غاية النعمة والمعصية، والمحسن وهو في غاية البلاء والطاعة، والمظلوم قبل أن ينتصف من الظالم، ولهذا الأمر الظاهر قال‏:‏ ‏{‏لا ريب فيها‏}‏ أي لا شك في إتيانها بوجه من الوجوه، لأفضي فيها بالعدل فأدخل فيها ناساً دار رحمتي، وآخرين نقمتي‏.‏

ولما وصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً، نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي بما فيهم من النوس وهو الاضطراب، وراعى معنى الأكثر فجمع لأن الجمع أدل على المراد وأقعد في التبكيت‏:‏ ‏{‏لا يؤمنون *‏}‏ أي لا يجعلون المخبر لهم بإتيانها آمناً من التكذيب مع وضوح علمها لديهم، وما ذاك إلا لعناد بعضهم وقصور نظر الباقين على الحس‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فعل ذلك ربكم ليقضي بين عباده بالعدل فيدخل المحسن الجنة نصرة له، والمسيء النار خذلاناً وإهانة له، لما برز به وعده من أنه ينصر رسله وأتباعهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقال لعباده كلهم‏:‏ آمنوا لأسلمكم من غوائل تلك الدار، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقال ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة‏:‏ ‏{‏ادعوني‏}‏ أي استجيبوا لي بأن تعبدوني وحدي فتسألوني ما وعدتكم به من النصرة على وجه العبادة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «الدعاء هو العبادة» فقد حصر الدعاء في العبادة سواء كانت بدعاء أو صلاة أو غيرهما، فمن كان عابداً خاضعاً لله تعالى بسؤال أو غيره كانت عبادته دعاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ وحدوني اغفر لكم‏.‏ وعن الثوري أنه قيل له‏:‏ ادع، فقال‏:‏ إن ترك الذنوب هو الدعاء‏:‏ ‏{‏أستجب‏}‏ أي أوجد الإجابة إيجاداً عظيماً كأنه ممن يطلب ذلك بغاية الرغبة فيه ‏{‏لكم‏}‏ في الدنيا أي بإيجاد ما دعوتم به، أو كشف مثله من الضر، أو إدخاره في الآخرة، ليظهر الفرق بين من له الدعوة ومن ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تتكلوا على ما سبق به الوعد فتتركوا الدعاء فتتركوا العبادة التي الدعاء مخها، فكل ميسر لما خلق له، قال القشيري، وقيل‏:‏ الدعاء مفتاح الإجابة، وأسنانه لقمة الحلال- انتهى- والآية بمعنى آية البقرة ‏{‏أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 186‏]‏‏.‏

ولما كان السبب في ترك الدعاء في العادة الكبر، فكان كأنه قيل‏:‏ ولا تتركوا دعائي تكونوا مستكبرين، علله ترهيباً في طيه ترغيب بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين يستكبرون‏}‏ أي يوجدون الكبر، ودل على أن المراد بالدعاء العبادة بقوله‏:‏ ‏{‏عن عبادتي‏}‏ أي عن الاستجابة لي فيما دعوت من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي في جميع ما ينوبهم في الشدة والرخاء ‏{‏سيدخلون‏}‏ بوعد لا خلف فيه ‏{‏جهنم‏}‏ فتلقاهم جزاء على كبرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة ‏{‏داخرين *‏}‏ أي صاغرين حقيرين ذليلين، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الدعاء أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، والعبادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً‏.‏ ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب، في دار ثواب وعقاب، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏الذي جعل لكم‏}‏ لا غيره ‏{‏الّيل‏}‏ أي مظلماً ‏{‏لتسكنوا فيه‏}‏ راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ‏{‏والنهار مبصراً‏}‏ لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى، فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل‏:‏ للراحة لمن أرادها، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها‏.‏

ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي ذا الجلال والإكرام ‏{‏لذو الفضل‏}‏ أي عظيم جداً باختياره ‏{‏على الناس‏}‏ أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع‏.‏ ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله، وكان الاسم قد يراد بعض مدلومه، وكان المراد هنا التعميم، أظهر للإفهام إرادة ذلك، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب ‏{‏لا يشكرون *‏}‏ فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس، وهو كل من برز من الوجود، وبهم ثانياً الجن والإنس- والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 65‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

ولما ثبت بآية الخافقين وآية الملوين ثبوتاً لا شك فيه أصلاً شمول القدرة بالاختيار، قال معظماً بأداة البعد وميم الجمع‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي أيها المخاطبون‏!‏- الواحد القهار العظيم الشأن الذي علم بما ذكر من أفعاله أنه لا يشاركه أحد ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه أحد ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي المربى لكم والمحسن إليكم بقدرته واختياره المتفرد بربوبيتكم لا رب لكم سواه‏.‏ ولما كان في سياق الامتنان بالنعم للدلالة على الساعة التي ينكرونها ويجادلون في أمرها، قدم الخلق على التهليل فقال‏:‏ ‏{‏خالق كل شيء‏}‏ أي بما ثبت من تمام قدرته بإبداع الخافقين ثائبين والملوين متعاقبين دائبين، ولا مانع له من إعادة الثقلين لأنه ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ بل كان ذلك واجباً في الحكمة، لأن المنعم عليهم انقسموا إلى شاكر وكافر، فوجب في الحكمة إقامة الساعة للفصل بينهم، وجاء ذلك على ترتيب مطلع السورة، فإن العزيز ناظر إلى كمال القدرة على الإيجاد والإعدام، والعليم هو المتوحد بكمال الذات، فإن إحاطة العلم تستلزم كل كمال، والقدرة قد لا تستلزم العلم كما للحيوانات العجم، وهذا بخلاف ما مضى في آية الأنعام، فإن السياق هناك لإنكار الشرك وإثبات الوحدانية بما دل عليها من عموم الخلق طبق ما مضى أيضاً في مطلعها‏.‏

ولما أنتجت هذه الأخبار- التي كل منها مقرر لما قبله بكونه كالعلة له- الوحدانية المطلقة اللازم منها كل كمال، سبب عنها قوله منكراً مبكتاً‏:‏ ‏{‏فأنى‏}‏ أي فكيف ومن أي وجه ‏{‏تؤفكون *‏}‏ أي تقلبون عن وجوه الأدلة إلى أقفائها فتعبدون الأوثان وتجادلون في الساعة التي يلزم من الطعن فيها الطعن في الحكمة التي الطعن فيها طعن في الإلهية التي الطعن فيها طعن في وجود هذا الوجود ومكابرة فيه، وذلك مؤدٍ إلى سقوط المتكلم به بكل اعتبار لمكابرته في المشاهد المحسوس، وفي المعقول المركوز في جميع النفوس‏.‏

ولما كشف هذا السياق عن أن هذا الصرف أمر لا يقدم عليه عاقل، كان كأنه قيل‏:‏ هل وقع لأحد غير هؤلاء مثل هذا‏؟‏ فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الصرف الغريب البعيد عن مناهيج العقلاء ‏{‏يؤفك‏}‏ أي يصرف صرف سيئاً- بناه للمفعول إشارة إلى تمام قدرته عليه بكل سبب كان، ولأنه المتعجب منه ‏{‏الذين كانوا‏}‏ مطبوعين على أنهم ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي ذي الجلال والجمال ‏{‏يجحدون *‏}‏ أي ينكرون عناداً ومكابرة، فدل هذا على أن كل من تكبر عن حق فأنكره مع علمه به عوقب بمسخ القلب وعكس الفهم، فصار له الصرف عن وجوه الدلائل إلى أقفائها ديدناً بحيث يموت كافراً إن لم يتداركه الله برحمة منه‏.‏

ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ‏{‏الذي جعل‏}‏ أي وحده ‏{‏لكم الأرض‏}‏ أي مع كونها فراشاً ممهداً ‏{‏قراراً‏}‏ مع كونها في غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته ‏{‏والسماء‏}‏ على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار ‏{‏بناء‏}‏ مظلة كالقبة من غير عماد حامل، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً‏.‏

ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال‏:‏ ‏{‏وصوركم‏}‏ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع ‏{‏فأحسن صوركم‏}‏ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك‏.‏

ولما ذكر المسكن والساكن، ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال‏:‏ ‏{‏ورزقكم من الطيبات‏}‏ الشهية الملائمة للطبائع النافعة على وجه لا احتياج معه بوجه، فلا دليل أدل على تمام العلم وشمول القدرة ووجود الاختيار من هذا التدبير في حفظ المسكن والسقف وتدبير ما به البقاء على وجه يكفي الساكن من جميع الوجوه على مر السنين وتعاقب الأزمان، وبث من الساكن- مع أنه قطعة يسيرة جداً من أديم الأرض- أنسالاً شعبهم شعباً فرعها إلى فروع لا تسعها الأرض، فدبر بحكمته وسعة علمه وقدرته تدبيراً وسع لهم به الأرض، وعمهم به الرزق، كما روى الإمام أحمد في كتاب الزهد عن الحسن أنه قال‏:‏ لما خلق الله آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام‏:‏ إن الأرض لا تسعهم، قال‏:‏ فإني جاعل موتاً، قالوا‏:‏ إذا لا يهنأهم العيش، قال‏:‏ فإني جاعل أملاً‏.‏

ولما دل هذا قطعاً على التفرد، قال على وجه الإنتاج‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الرفيع الدرجات ‏{‏الله‏}‏ أي المالك لجميع الملك، ودلهم على ما مضى بتربيتهم وما فيها من بديع الصنائع فقال‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي لا غيره، ولما أفاد هذا الدليل تربية لا مثل لها، دالة على إحاطة العلم وتمام القدرة على وجه لا حاجة معه مع حسنه وثباته تسبب عنه ولا بد قوله‏:‏ ‏{‏فتبارك‏}‏ أي ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ‏{‏الله‏}‏ أي المختص بالكمال، ورقى الخطاب وعظم إيضاحاً للدلالة فقال‏:‏ ‏{‏رب العالمين *‏}‏ كلهم أنتم وغيركم، ثم دل على ما أفاده الدليل معللاً بقوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الحي‏}‏ وكل ما عداه لا حياة له، لأنه ليس له من ذاته إلا العدم، فأنتج ذلك قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ فتسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فادعوه‏}‏ أي وحده بالقول والفعل على وجه العبادة، وذلك معنى ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ أي من كل شرك جلي أو خفي‏.‏

ولما أمر بقصر الهمم عليه، علله بقوله‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وأظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن له من الصفات العلي ما لا ينحصر‏:‏ ‏{‏لله‏}‏ أي المسمى بهذا الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى لذاته‏.‏ ولما كان هذا الوجود على ما هو عليه من النظام، وبديع الارتسام، دالاً دلالة قطعية على الحمد، قال واصفاً بما هو كالعلة للعلم بمضمون الخبر‏:‏ ‏{‏رب العالمين *‏}‏ أي الذي رباهم هذه التربية فإنه لا يكون إلا كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ من قال ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ فليقل على أثرها ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 70‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

ولما أمر سبحانه بما دل على استحقاقه إياه، أنتج قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين يجادلونك في التوحيد والبعث مقابلاً لإنكارهم بالتأكيد‏:‏ ‏{‏إني نهيت‏}‏ أي ممن لا ناهي غيره، نهياً عاماً ببراهين العقل، ونهياً خاصاً بأدلة النقل ‏{‏أن أعبد‏}‏ ولما أهلوهم لأعلى المقامات، عبر عنهم إرخاء للعنان بقوله‏:‏ ‏{‏الذين تدعون‏}‏ أي يؤهلونهم لأن تدعوهم، ودل على سفولهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعث بشرع أحد بقوله‏:‏ ‏{‏لما جاءني البينات‏}‏ أي الحجج الواضحة جداً من أدلة العقل والنقل ظاهرة، ولفت القول إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنه كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه فقال‏:‏ ‏{‏من ربي‏}‏ أي المربي لي تربية خاصة هي أعلى من تربية كل مخلوق سواي، فلذلك أنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد‏.‏

ولما أخبر بما يتخلى عنه، أتبعه الأمر بما يتحلى به فقال‏:‏ ‏{‏وأُمرت أن أسلم‏}‏ أي بأن أجدد إسلام كليتي في كل وقت على سبيل الدوام ‏{‏لرب العالمين *‏}‏ لأن كل ما سواه مربوب فالإقبال عليه خسار، وإذا نهى هو صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي ربه لأنه رب كل شيء، كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة‏.‏

ولما قامت الأدلة وسطعت الحجج على أنه سبحانه رب العالمين الذين من جملتهم المخاطبون، ولا حكم للطبيعة ولا غيرها، أتبع ذلك آية أخرى في أنفسهم هي أظهر مما مضى، فوصل به على طريق العلة لمشاركتهم له صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي في التي قبلها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ لا غيره ‏{‏الذي‏}‏ ولما كان الوصف بالتربية ماضياً، عبر عنه به فقال‏:‏ ‏{‏خلقكم من تراب‏}‏ أي أصلكم وأكلكم التي تربى به أجسادكم ‏{‏ثم من نطفة‏}‏ من مني يمنى ‏{‏ثم من علقة‏}‏ مباعداً حالها لحال النطفة كما كان النطفة مباعداً لحال التراب، ‏{‏ثم‏}‏ بعد أن جرت شؤون أخرى ‏{‏يخرجكم‏}‏ أي يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء ‏{‏طفلاً‏}‏ لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً، ثم يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال ‏{‏لتبلغوا أشدكم ثم‏}‏ يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول ‏{‏لتكونوا شيوخاً‏}‏ ضعفاء غرباء، قد مات أقرانكم، ووهت أركانكم، فصرتم تخشون كل أحد‏.‏

ولما كان هذا مفهماً لأنه حال الكل، بين أنه ما أريد به إلا البعض لأن المخاطب الجنس، وهو يتناول البعض كما يتناول الكل فقال‏:‏ ‏{‏ومنكم من يتوفى‏}‏ بقبض روحه وجميع معانيه‏.‏ ولما كان الموت ليس مستغرقاً للزمن الذي بين السنين وإنما هو في لحظة يسيرة مما بينهما، أدخل الجار على الظرف فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ لتتفاوت أعماركم وأحوالكم وأعمالكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولتبلغوا‏}‏ أي كل واحد منكم ‏{‏أجلاً مسمى‏}‏ أي له سماه الملك الذي وكل به في بطن أمه عن إذننا وبأمرنا الذي قدرناه في الأزل، فلا يتعداه مرة، ولا بمقدار ذرة فيتجدد للملائكة إيمان في كل زمان‏.‏

ولما كانت هذه الأمور مقطوعاً بها عند من يعلمها، وغير مترجاة عند من يجهلها، فإنه لا وصول للآدمي بحيلة ولا فكر إلى شيء منها، فعبر فيها اللام، وكان التوصل بالتفكر فيها والتدبر إلى معرفة أن الإله واحد في موضع الرجاء للعاقل قال‏:‏ ‏{‏ولعلكم تعقلون *‏}‏ أي فتعلموا بالمفاوتة بين الناس فيها ببراهين المشاهدة بالتقليب في أطوار الخلقة وأدوار الأسنان، وإرجاع أواخر الأحكام على أوائلها أن فاعل ذلك قادر مختار حكيم قهار، لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء‏.‏

ولما نظم سبحانه هذا الدليل في صنع الآدمي من التراب، وختمه بأن دلالته على البعث- بإجراء سنته في إرجاع أواخر الأمور على أوائلها وغير ذلك- لا يحتاج إلى غير العقل، أنتج عنه قوله‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ لا غيره ‏{‏الذي يحيي ويميت‏}‏ كما تشاهدونه في أنفسكم وكما مضى لكم الإشارة إليه بخلق السماوات والأرض، فإن من خلقهما خلق ما بينهما من الآجال المضروبة باختلاف الليل والنهار والشهور والأعوام لبلوغ الأفلاك مواضعها، ثم رجوعها عوداً على بدء مثل تطوير الإنسان بعد الترابية من النطفة إلى العلقة إلى ما فوقها، ثم رجوعه في مدارك هبوطه إلى أن تصير تراباً كما كان، فليست النهاية بأبعد من البداية‏.‏

ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة نافذة، سبب عن ذلك قوله معبراً بالقضاء‏:‏ ‏{‏فإذا قضى أمراً‏}‏ أي أراد أيّ أمر كان من القيامة أو غيرها ‏{‏فإنما يقول له كن‏}‏ ولما كانت ‏{‏إذا‏}‏ شرطية أجابها في قراءة ابن عامر بقوله‏:‏ ‏{‏فيكون *‏}‏ وعطفها في قراءة غيره على ‏{‏كن‏}‏ بالنظر إلى معناه، أو يكون خبراً لمبتدأ أي فهو يكون، وعبر بالمضارع تصويراً للحال وإعلاماً بالتجدد عند كل قضاء، وقد مضى في سورة البقرة إشباع الكلام في توجيه قراءة ابن عامر بما تبين به أنها أشد من قراءة غيره‏.‏

ولما علم من هذا أنه لا كلفة عليه في شيء من الأشياء بهذه الأمور المشاهدة في أنفسهم وفي الآفاق، أنتج التعجب من حالهم لمن له الفهم الثاقب والبصيرة الوقادة، وجعل ذلك آياته الباهرة وقدرته القاهرة الظاهرة، فلذلك قال لافتاً الخطاب إلى أعلى الخلق لأن ذم الجدال بالباطل من أجل مقصود هذه السورة‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً، وبين بعدهم بأداة النهاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى الذين يجادلون‏}‏ أي بالباطل، ونبه على ما في هذه الآيات من عظمته التي لا نهاية لها بإعادة الاسم الجامع فقال‏:‏ ‏{‏في آيات الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏أنَّى‏}‏ أي وكيف ومن أي وجه ‏{‏يُصرفون *‏}‏ عن الآيات الحقة الواضحة التي سبقت بالفطرة الأولى إلى جذور قلوبهم، فلا حجة يوردون ولا عذاب عن أنفسهم يردون، لأنه سبحانه استاقهم- كما قال ابن برجان- بسلاسل قهره المصوغة من خالص عزماتهم وعزائهم إرادتهم من حقيقة ذواتهم إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة- فصل ما جادلوا فيه واصفاً لهم بما يزيد في التعجيب من شدة جهلهم وتعاظم عماهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا‏}‏ وحذف المفعول إشارة إلى عموم التكذيب‏:‏ ‏{‏بالكتاب‏}‏ أي بسببه في جميع ما له من الشؤون التي تفوت الحصر والعظمة في كل أمر كان أشير بأداة الكمال إلى أنه لكماله كأنه لا كتاب غيره لأن من سمعه فكأنما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لإعجازه، فمن كذب بحرف منه فقد كذب بكل كتاب الله‏.‏

ولما كان التذكيب به تكذيباً بجميع الرسالات الإلهية، أكد عظمته بذلك وبالإضافة إلى مظهر العظمة، تحذيراً للمكذبين من سطواته، وتذكيراً لهم بأن العمل مع الرسول عمل مع من أرسله، فلذا لفت الكلام على الاسم الجامع لصفتي الجلال والإكرام فقال تعال‏:‏ ‏{‏وبما أرسلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏به رسلنا‏}‏ من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره، وهو بحيث لا يحاط بكنه جلاله وعظمه حاله، ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون *‏}‏ أي بوعيد صادق لا خلف فيه، ما يحل بهم من سطوتنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 77‏]‏

‏{‏إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 8‏]‏ الآية، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين تكون ‏{‏الأغلال‏}‏ جمع غل، قال في ديوان الأدب، هو الذي يعذب به الإنسان‏.‏ وقال القزاز‏:‏ الغل من الحديد معروف، ويكون من القد، وقال في النهاية‏:‏ هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه، ويقال لها جامعة أيضاً- انتهى‏.‏ وأصله الإدخال، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به، وذلك معنى قول الصغاني في مجمع البحرين‏:‏ في رقبته غل من حديد، وقد غلت يده إلى عنقه ‏{‏في أعناقهم‏}‏ أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً ‏{‏والسلاسل‏}‏ أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول، والسلسلة من‏:‏ تسلسل الشيء‏:‏ اضطرب، قال الراغب‏:‏ كأنه تصور منه تسلسل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا، حال كونهم ‏{‏يسحبون *‏}‏ أي بها، والسحب‏:‏ الجر بعنف ‏{‏في الحميم *‏}‏ أي الماء الحار الحاضر الذي يكسب الوجوه سواداً، والأعراض عاراً، والأرواح عذاباً والأجسام ناراً، والقلوب هماً واللحوم ذوباناً واعتصاراً، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات‏.‏

ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس، ويضعف القوى، ويخفف القلوب، أخبر بما هو فوق ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ثم في النار‏}‏ أي عذابها خاصة ‏{‏يسجرون *‏}‏ أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب- أي يملأ- وتهيج ناره، وكما يسجر- أي يصب- الماء في الحلق، فيملؤونها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها، ويثبت عمودها، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي، التي هي في الظاهر نيران، وفي الحقيقة جنان‏.‏

ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكئ هذا القول مطلقاً لا لكونه من قائل معين‏:‏ ‏{‏ثم قيل لهم‏}‏ أي بعد أن طال عذابهم، وبلغ منهم كل مبلغ، ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم‏:‏ ‏{‏أين‏}‏ والتعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في أحكم مواضعه في قوله‏:‏ ‏{‏ما كنتم‏}‏ أي دائماً ‏{‏تشركون *‏}‏ أي بدعائكم لهم في مهماتكم دعاء عبادة مع تجديده في كل وقت؛ ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي المحيط بجميع العز وكل العظمة، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق‏:‏ ‏{‏ضلوا عنا‏}‏ فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا‏.‏

ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا‏:‏ ‏{‏بل لم نكن ندعو‏}‏ أي لم يكن ذلك في طباعنا‏.‏ ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها، لا النفي المقيد بالاستغراق، فإنه لا ينفي ما دونه، أثبتوا الجار فقالوا‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل هذه الإعادة ‏{‏شيئاً‏}‏ لنكون قد أشركنا به، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا ‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 24‏]‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً‏.‏

ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم، كان كأنه قيل‏:‏ هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب ‏{‏يضل الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة، عن القصد النافع من حجة وغيرها ‏{‏الكافرين *‏}‏ أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً‏.‏

ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الجزاء العظيم المراتب، الصعب المراكب الضخم المواكب ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي دائماً ‏{‏تفرحون‏}‏ أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب‏.‏ ولما كانت الأرض سجناً، فهي في الحقيقة دار الأحزان، حسن قوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له، وزاد ذلك حسناً قوله‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة، وهي الثبات دائماً للمفروح به، وذلك لا يكون إلا في الجنة ‏{‏وبما‏}‏ أي وبسبب ما ‏{‏كنتم تمرحون *‏}‏ أي تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح‏.‏

ولما كان السياق لذم الجدال، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر، وكان الفرح غير ملازم للكبر، لم يسبب دخول النار عنه، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال‏:‏ ‏{‏ادخلوا‏}‏ أي أيها المكذبون‏.‏

ولما كان في النار أنواع من العذاب، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال‏:‏ ‏{‏أبواب جهنم‏}‏ أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبوسة وتجهم ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً‏.‏

ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال‏:‏ فهي مثواكم، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فبئس مثوى‏}‏ دون أن يقال‏:‏ مدخل ‏{‏المتكبرين *‏}‏ أي موضع إقامتهم المحكوم بلزومهم إياه لكونهم تعاطوا ما ليس لهم، ولا ينبغي أن يكون إلا الله يقول الله تعالى‏:‏ «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعنيهما قصمته» ولم يؤكد جملة ‏{‏بئس‏}‏ هنا لأن مقاولتهم هذه بنيت على تجدد علمهم في الآخرة بأحوال النار، وأحوال ما سببها، والتأكيد يكون للمنكر ومن في عداده، وحال كل منهما مناف للعلم، وزاد ذلك حسناً أن أصل الكلام مع الأعلم للسر الذي تقدم- صلى الله عليه وسلم فبعد جداً من التأكيد‏.‏ ولما كان هذا في الجزاء أعظم الشماتة بهم، فكان فيهم أعظم التسلية لمن جادلوه وتكبروا عليه، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ أي ارتقاباً لهذه النصرة، ثم علل بقوله مؤكداً لأجل تكذيبهم بالوعد‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏حق‏}‏ أي في نصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه، وفيه أعظم تأسية لك ولذلك سبب عنه مع صرف القول إلى ما يأتي الاعتراض إشارة إلى أنه لا يسأل عما يفعل، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما نرينك‏}‏ وأكده ب «ما» والنون ومظهر العظمة لأنكارهم لنصرته عليهم ولبعثهم ‏{‏بعض الذي نعدهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة مما يسرك فيهم من عذاب أو متاب قبل وفاتك، فذاك إلينا وهو علينا هين‏.‏

ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏أو نتوفينَّك‏}‏ أي قبل أن ترى ذلك فيهم وأجاب هذا المعطوف بقوله‏:‏ ‏{‏فإلينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏يرجعون *‏}‏ أي معي في الدنيا فتريهم بعد وفاتك من نصر أصحابك عليهم بما تسرك به في برزخك فإنه لا بقاء لجولة باطلهم، وحساً في القيامة فنريك فيهم فوق ما تؤمل من النصرة المتضمنة لتصديقك وتكذيبهم، وإكرامك وإهانتهم، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، والرؤية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً‏.‏

سورة فصلت

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

مكية- آياتها أربع وخمسون وتسمى حم السجدة مقصودها الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره المحيط بكل شيء قدره وعلماً من علمه لعباده فشرعه، لهم، فجاءتهم به عنه رسله، وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله والاستقامة على طاعته المقترن بهما- كما تقدم في الزمر في قوله ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏آية‏:‏ 9‏]‏ فتكون عاقبته الكشف الكلي حين يكون سبحانه سمع العالم الذي يسمع به، ‏"‏بصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها‏"‏- إلى آخر الحديث القدسي الذي معناه أنه يوفقه سبحانه فلا يفعل إلا ما يرضيه، وعلى ذلك دل اسمها ‏{‏فصلت‏}‏ بالإشارة إلى ما في الآية المذكورة فيها هذه الكلمة من الكتاب المفصل لقوم يعلمون‏.‏

والسجدة بالإشارة إلى ما في آيتها من الطاعة له بالسجود الذي هو أقرب مقرب من الملك الديان، والتسبيح الذي هو المدخل الأول للإيمان ‏{‏بسم الله‏}‏ الذي لم يرض لإحاطته بأوصاف الكمال من جلال الكتاب إلا ما اقترن بجمال العمل ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ففصل الكتاب تفصيلاً وبينه غاية البيان ‏{‏الرحيم‏}‏ الذي خص العلماء العاملين بسماع الدعوة ونفوذ الكلمة ‏{‏حم*‏}‏ أي حكمة محمد التي أعجزت الخلائق‏.‏

ولما ختمت غافر الكفرة جادلوا في آيات الله بالباطل، وفرحوا بما عندهم من علم ظاهر الحياة الدنيا، وأنهم عند البأس انسلخوا عنه وتبرؤوا منه ورجعوا إلى ما جاءت به الرسل فلم يقبل منهم، فعلم أن كل علم لم ينفع عند الشدة والبأس فليس بعلم، بل الجهل خير منه، وكان ذلك شاقاً على النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من أن يكون آخر أمر أمته الهلاك، مع الإصرار على الكفر إلى مجيء البأس، وأن يكون أغلب أحواله صلى الله عليه وسلم النذارة، افتتح سبحانه هذه السورة بأن هذا القرآن رحمة لمن كان له علم وله قوة توجب له القيام فيما ينفعه، وكرر الوصف بالرحمة في صفة العموم وصفة الخصوص إشارة إلى أن أكثر الأمة مرحوم، وأعلم أن الكتاب فصل تفصيلاً وبين تبييناً لا يضره جدال مجال، وكيد مماحك مماحل، وأنه مغن بعجز الخلق عنه عن اقتراح الآيات فقال مخبراً عن مبتدأ‏:‏ ‏{‏تنزيل‏}‏ أي بحسب التدريج عظيم ‏{‏من الرحمن‏}‏ أي الذي له الرحمة العامة للكافر والمؤمن بإنزال الكتب وإرسال الرسل ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي الذي يخص رحمته بالمؤمنين بإلزامهم ما يرضيه عنهم‏.‏

ولما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلاً من تنزيل‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ أي جامع قاطع غالب‏.‏

ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال‏:‏ ‏{‏فصلت‏}‏ أي تفصيل الجوهر ‏{‏آياته‏}‏ أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه ‏{‏قرآناً‏}‏ أي جامعاً مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة ‏"‏ قرا ‏"‏ من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد، ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏عربياً‏}‏ لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً، قال الحرالي‏:‏ وهو قرأن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عم كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص فيقبل العدول عن سنن‏.‏

ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً للأعتاب، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب، قال معلقاً بـ ‏"‏ فصلت أو تنزيل ‏"‏ أو ‏"‏ الرحمن الرحيم ‏"‏‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه ‏{‏يعملون*‏}‏ أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم لما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له، وفيه حث لهم- وهم أولو العزائم الكبار- على العلم بع ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً، وقد خالفت كلامهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هم من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإيتان بشيء من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعضار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة بمن ينيب‏.‏

ولما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال، بالتوسط الموصل إلى الكمال، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه، قال واصفاً لـ ‏"‏ قرآناً ‏"‏ ‏{‏بشيراً‏}‏ أي لمن اتبع ‏{‏ونذيراً‏}‏ أي لمن امتنع فانقطع‏.‏

روى أبو نعيم في الحلية في تلاجمة إمامنا الشافعي رضي الله عنه وأرضاه أنه روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجه أنه قال في خطبة له‏:‏ وأعجب ما في الإنسان قلبه، وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها إن سنح له الرجاء ادلهمه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكل تقصير به مضر وكل إفراط به مفسد‏.‏

ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال‏:‏ ‏{‏فأعرض أكثرهم‏}‏ أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره ‏{‏فهم‏}‏ لذلك ‏{‏لا يسمعون*‏}‏ أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه‏.‏

ولما أخبر عن إعراضهم، أخبر عن مباعدتهم فيه فقال‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي عند إعراضهم ممثلين لمباعدتهم في عدم قبولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنَّة‏}‏ أي أغشية محيطة بها، ولما كان السياق في الكهف للعظمة كان الأنسب له أداة الاستعلاء فقال ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ وعبروا هنا بالظرف إبعاداً لأن يسمعوا ‏{‏مما‏}‏ أي مبتدئة تلك الأغشية وناشئة من الأمر الذي ‏{‏تدعونا‏}‏ أيها المخبر بأنه نبي ‏{‏إليه‏}‏ فلا سبيل له إلى الوصول إليها لنفيه أصلاً‏.‏

ولما كان القلب أفهم لما يرد إليه من جهة السمع قالوا‏:‏ ‏{‏وفي آذاننا‏}‏ التي هي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب ‏{‏وقر‏}‏ أي ثقل قد أصمها عن سماعه ‏{‏ومن بيننا وبينك‏}‏ أي مبتدئ من الحد الذي فصلك منا والحد الذي فصلنا منك في منتصف المسافة قي ذلك ‏{‏حجاب‏}‏ ساتر كثيف، فنحن لا نراك لنفهم عنك بالإشارة، فانسدت طرق الفهم لما نقول ‏{‏فاعمل‏}‏ أي بما تدين به‏.‏

ولما كان تكرار الوعظ موضعاً للرجاء في رجوع الموعوظ قطعوا ذلك الرجاء بالتأكيد بأداته، وزادوه بالنون الثالثة والتعبير بالاسمية فقالوا‏:‏ ‏{‏إننا عاملون*‏}‏ أي بما ندين به فلا مواصلة بيينا بوجه ليستحي أحد منا من الآخر في عمله أو يرجع إليه، ولو قال ‏{‏وبيينا‏}‏ من غير ‏{‏من‏}‏ لأفهم أن البينين بأسرهما حجاب، فكان كل من الفريقين ملاصقاً لبينه، وهو نصف الفراغ الحاصل بينه وبين خصمه، فيكون حينئذ كل فريق محبوساً بحجابة لا يقدر على عمل فينا في ما بعده أو يكون بينهما اتصال أقله بالإعلام بطرق من أراد من المتباينين الحجاب، فأفادت ‏"‏ من ‏"‏ التبعيض مع إفادة الابتداء، فإنهم لا يثبتون الحجاب في غير أمور الدين‏.‏

ولما أخبروا باعراضهم وعللوا بعدم فهمهم بما يدعو إليه، أمره سبحانه بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادي عليهم بالعجز‏:‏ ‏{‏إنما أنا بشر مثلكم‏}‏ لا غير بشر مما لا يرى، والبشر يرى بعضه بعضاً ويسمعه ويبصره فقولكم أنه لا وصول لكم إلى رؤيتي ولا إدراك شيء مما أقول مما لا وجه له أصلاً‏.‏

ولما كان ادعاؤهم لعدم المواصلة بينهم قد تضمن شيئين‏:‏ أحدهما فيه، والآخر فيما يدعو إليه، ونقض الأول، قال في الثاني‏:‏ ‏{‏يوحى إليّ‏}‏ أي بطريق يخفى عليكم ‏{‏إنما إلهكم‏}‏ أي الذي يستحق العبادة ‏{‏إله واحد‏}‏ لا غير واحد، وهذا مما دلت عليه الطرق النقلية، وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورات النفسانية، أي لست مغايراً للبشر ممن يخفى عليكم شخصه كالملك، ولا يعجم عليهم مراده بصوته كسائر الحيوانات، ومع كوني بشراً فلست بمغاير لكم في الصنف بكوني أعجمياً، بل أنا مثلكم سواء في كوني عربياً، ومع ذلك كله فأصل ما أوحي إلي ليس معبراً عنه بجمل طوال تمل أو تنسى، أو يشكل فهمها، وإنما هو حرف واحد وهو التوحيد، فلا عذر لكم أصلاً في عدم فهمه ولا سماعه ولا رؤية قائله‏.‏

ولما قطع حجتهم وأزال علتهم، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فاستقيموا‏}‏ أي اطلبوا واقصدوا وأوجدوا القوام متوجهين وإن كان في غاية البعد عنكم ‏{‏إليه‏}‏ غير معرجين أصلاً على نوع شرك بشفيع ولا غيره‏.‏

ولما كان أعظم المراد من الوحي العلم والعمل، وكان رأس العلم التوحيد فعرفه وأمر بالاستقامة فيه، أتبعه رأس العمل وهو ما أنبأ عن الاعتراف بالعجز مع الاجتهاد فقال‏:‏ ‏{‏واستغفروه‏}‏ أي اطلبوا منه غفران ذنوبكم، وهو محوها عيناً وأثراً حتى لا تعاقبوا عليها ولا تعاتبوا بالندم عليها، والإقلاع عنها حالاً ومآلاً‏.‏

واما أمر بالخير، رغب فيه ووهب من ضده، فكان التقدير للترغيب‏:‏ فالفلاح والفوز لمن فعل ذلك، فعطف عليه ما السياق له فقال‏:‏ ‏{‏وويل‏}‏ أي وسواة وهلاك ‏{‏للمشركين*‏}‏‏.‏

ولما كانت العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادة في أمرين‏:‏ التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وكان أفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بوحدانيته، فكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وربه الإخلال بذلك، وكان أخس الأعمال التي بين العبد وبين الخلق منع ما أوجه الله في الزكاة، وكان معنى الشرك الحكم بأن ما لا شيء له أصلاً وما لا يمكن أن يكون له ملك تام على شيء أصلاً قد شارك من له الكل خلقاً وتصرفاً فيما هو عليه من الملك التام الذي لا شوب فيه، وكانت الزكاة إشراك من له ملك غير تام لمثله في جزء يسير من ماله‏.‏

قال ذاماً لمن أبى أن يشارك الخلائق وأشرك بالخالق‏:‏ ‏{‏الذين لا يؤتون‏}‏ أي أمثالهم من أولاد آدم ‏{‏الزكاة‏}‏ من المال الذي لا صنع لهم في خلقه، فهو مخلف عن أبيهم آدم، فالقياس يقتضي اشتراكهم كلهم فيه على حد سواء، ولكنا رحمناهم بتخصيص كل واحد منهم بما ملكت يمينه منه بطريقة، فقد حكموا في أمر ربهم بما لا يرضونه لأنفسهم، فإنهم أبوا أن يشركوا ببذل الزكاة بعض أخوانهم في بعض مالهم الذي ملكهم له ضعيف، وأشركوا ما لا يملك شيئاً أصلاً بما لا نفع مع المالك المطلق‏.‏

ولما كان مما تضمنه إشراكهم وإنكارهم البعث أنهم أداهم شحهم إلى استغراقهم في الدنيا والأقبال بكلياتهم على لذاتها، فأنكروا الآخرة، فصار محط حالهم أنهم أثبتوا لمن لا فعل أصلاً فعلاً لا يمكنه تعاطيه بوجه، ونفوا عن الفاعل المختار الذي هم لأفعاله الهائلة في كل وقت يشاهدون، وإليه في منافعهم ومضارهم يقصدون، ما أثبت لنفسه من فعله، فقال مؤكداً تنبيهاً على أن إنكارهم هذا مما لا يكاد يصدق‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة‏}‏ أي الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها ‏{‏هم‏}‏ أي بخاصة من بين أهل الملل ‏{‏كافرون*‏}‏ فاختصموا بإنكار شيء لم يوافقهم عليه أحد في حق من يشاهدون في كل وقت من أفعاله أكثر من ذلك، وأثبتوا لمن لم يشاهددوا له فعلاً قط ما لا يمكنه فعله أصلاً، وهم يدعون العقول الصحيحة والآراء المتينة ورضوا لأنفسهم بالدناءة في منع الزكاة وحكموا بأعظم منها على الله وهم يدعون مكارم الأخلاق ومعالي الهمم، فأقبح بهذه عقولاً وأسفل بها همماً فقد تضمنت الآية أن الويل لمن اتصف بصفات ثلاثة‏:‏ الشرك الذي هو ضد التعليم لأمر الله، والامتناع من الزكاة الذي هو ضد الشفقة على خلق الله وإنكار القيامة المؤدي إلى الاستغراق فيما أبغض الله في طلب الدنيا ولذاتها وهو من الاستهانة بأمر الله، قال الأصبهاني‏:‏ وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام‏:‏ أمس واليوم والغد، فمعرفة كيف ينبغي وقوع الأحوال في الاليوم الحاضر هو بالإحسان إلى أهل العلم بقدر الطاقة، ومعرفة الأحوال في اليوم المستقبل بالإقرار بالبعث والقيامة، فإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال‏.‏

ولما ذكر ما للجاهلين وعيداً وتحذيراً، ذكر ما لأضدادهم وعداً وتبشيراً، فقال مجيباً لمن تشوف لذلك مؤكداً لإنكار من ينكره‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي بما آتاهم الله من العلم النافع ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ من الزكاة وغيرها ليكون عملهم شرعياً نافعاً، ولما كان افتتاح السورة بالرحمن الرحيم مشعراً بأن الأسباب الظاهرية انمحت عند السبب الحقيقي الذي هو رحمته، أعرى الخبر عن الفاء، فقال إيذاناً بعظم الجزاء لأن سببه رحمة الرحيم، ولو كان بالفاء لآذنت أنه على مقدار العمل الذي هو سببه‏:‏ ‏{‏لهم أجر‏}‏ أي عظيم ‏{‏غير ممنون*‏}‏ أي مقطوع- جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله به من أقوالهم في الآخرة والدنيا، والممنون‏:‏ المقطوع من مننت الحبل أي قطعته بقطع مننه ومنه قولهم‏:‏ قد منه السفر أي قطعه وأذهب منته‏.‏

ولما ذكر سبحانه سفههم في كفرهم بالآخرة، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها وعلى كل ما يريد بخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له، فقال منكراً عليهم ومقرراً بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لمن أنكر الآخرة منكراً عليه بقولك‏:‏ ‏{‏أئنكم‏}‏ وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر ‏{‏لتكفرون‏}‏ أي توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة ‏{‏بالذي خلق الأرض‏}‏ أي على سعتها وعظمتها من العدم ‏{‏في يومين‏}‏ فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها، وهذا اليومان الأحد والاثنين- نقل هذا عن ابن عباس رضي الله عنه ما وعبدالله بن سلام رضي الله عنه- قال ابن الجوزي‏:‏ والأكثرين، وحديث مسلم الذي تقدم في سورة البقرة ‏{‏خلق الله التربة يوم السبت‏}‏ يخالف هذا، فإن البداءة فيه بيوم السبت وهو مصرح بأن خلق الأرض وما فيها في ستة أيام كما هو ظاهر هذه الآية، ويجاب بأن المراد بالخلق فيه إخراج أقواتها بالفعل، والمراد هنا تهيئتها لقبول ذلك، ويشكل أيضاً بأن الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك، وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل، فالظاهر أن المراد باليوم ما قاله الحرالي‏:‏ مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر أو مقدار يومين تعرفونها من أيام الدنيا‏.‏

ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره، عطف على ‏{‏تكفرون‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وتجعلون‏}‏ أي مع هذا الكفر ‏{‏له أنداداً‏}‏ مما خلقه، فتثبتون له أفعالاً وأقوالاً مع أنكم لم تروا شيئاً من ذلك، فأنكرتم ما تعملون مثله وأكبر منه، وأثبتّم ما لم تعملوه أصلاً، هذا هو الضلال المبين‏.‏

ولما بكتهم على قبيح معتقدهم، عظم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإله العظيم ‏{‏رب العالمين*‏}‏ أي موجدهم ومربيهم، وذلك يدل قطعاً على جميع ما له من صفات الكمال‏.‏

ولما ذكر ما هم به مقرون من إبداعها، أتبعه ما جعل فيها من الغرائب، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ أبدع الأرض على ما ذكر‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بأجنبي ‏{‏فيها رواسي‏}‏ هي أشدها وهي الجبال، ونبه على أنها مخالفة للرواسي في كونها تحت ما يراد إرساؤه فقال‏:‏ ‏{‏من فوقها‏}‏ فمنعتها من الميد، فعل ذلك لكونه أدل على القدرة، فإنها لو كانت من تحت لظن أنها، أساطين حاملة، ولتظهر منافع الجبال بها أنفسها وبما فيها، ويشاهد أنها أثقال مفتقرة إلى حامل‏.‏

ولما هيأها لما يراد منها، ذكر ما أودعها فقال‏:‏ ‏{‏وبارك فيها‏}‏ أي جعلها قابلة ميسرة للسير إليه والإقبال عليه، ودالة على جميع صفاته الحسنى وأسمائه العلى وغير ذلك من المعارف والقدر والقوى ‏{‏وقدر فيها أقواتها‏}‏ أي جعلها مع البركة على مقدار لا تتعداه، منهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه، وقدره فأمضاه، ومن ذلك أنه خص بعض البلاد بشيء لا يوجد في غيرها لتنظيم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض، فكان جميع ما تقدم من إيداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها، دفعة واحدة لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلاً، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه، وفي الأرض أضعاف كفايته، ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها فقال‏:‏ ‏{‏في أربعة أيام‏}‏ وهذا العدد عن ضم اليومين الماضيين إلى يومي الأقوات وهما الثلاثاء والأربعاء، أو يكون المعنى في تتمته أربعة أيام، ولا يحمل على الظاهر ليكون ستة لأنه سيأتي للسماوات يومان فكانت تكون ثمانية، فتعارض آية ‏{‏ألم السجدة‏}‏ ‏{‏لله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام‏}‏ وفصل مقدار ما خلقها فيه ومقدار ما خص الأقوات والمنافع لأحاطة العلم بأنه يخص كل أمر من الأمرين يومان، ونص على الأولين ليكون ذلك أدل على القدرة فيحسن موقع النعي عليهم بما فصل به الآيتين من اتخاذ الأنداد، وإنما كان أدل على القدرة، لأنه إيجاد ذوات محسوسة من العدم قائمة بأنفسها بخلاف البركة، وتقدير الأقوات فإنه أملا لا يقوم بنفسه، فلم يفرد يوميه بالذكر، بل جعلهما تابعين كما أن ما قدر فيهما تابع، ولم يفعل ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه، لأن هذا أدل على الاختيار وأدخل في الابتلاء والاختيار، ليضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم، وجعل مدة خلقها ضعف مدة السماء مع كونها أصغر من السماء دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين، فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها، والاعتناء بشأنهم وشأنها، وزادت أيضاً بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم- كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور، وليعلم أيضاً بخلق السماء التي هي أكبر جرماً وأتقن جسماً وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح، بل لحكم تعجز عن حملها العقول، ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت تنبيهاً على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليماً للتأني وتدريباً على السكينة والبعد من العجلة‏.‏

ولما كان لفظ ‏{‏سواء‏}‏ الذي هو بمعنى العدل الذي لا يزيد عن النصف ولا ينقص يطلب اثنين، تقول‏:‏ سواء زيد وعمرو ‏{‏إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏ قال تعالى مزيلاً لما أوهمه قوله‏:‏ ‏{‏أربعة أيام‏}‏ من أنها للأقوات والبركة ليكون مع يومين من الأرض ستة، ناصباً على المصدر‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ أي التوزيع إلى يومين ويومين على السواء ‏{‏للسائلين*‏}‏ أي لمن سأل أو كان بحيث يسأل ويشتد بحثه بسؤال أو نظر عن التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين غيرها، لا بد في كل يوم منها من زيادة عن الذي قبله أو نقص، ومجموع الأربعة كأربعة من أيام الدنيا لا تزيد عليها ولا تنقص، وقراءة يعقوب بجر ‏"‏ سواء ‏"‏ معينة لأن تكون نعتاً لـ ‏"‏ أربعة ‏"‏ وقراءة أبي جعفر بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وعن خلقها وتتميمها في أربعة أيام كانت فصولها أربعة، قال ابن برجان‏:‏ ألا ترى الأمر إلى السماء أولاً في إنزال الماء فيخلقه فيما هنالك ثم ينزله إلى الأرض والنبات والحيوان عن الماء الذي ينزل من السماء إلى الأرض بمنزلة النسل بين الذكر والأنثى وبمنزلة تسخير السماء والأرض وما بينهما لما وجدنا له فافهم- أمر قويم وحكمة شائعة آية قضاؤه بركات الأرض في أربعة أيام بواسطة ما قدر في السماء من أمر وهي الأربعة الفصول من السنة‏.‏

الشتاء الربيع الصيف والخريف، فهذه الأيام معلومة بالمشاهدة، فيهن يتم زرع الأرض وبركات الدنيا وجميع ما يخرجه منها من فؤائد وعجائب، قال‏:‏ وقوله ‏"‏ السائلين ‏"‏ تعجيب وإغراب وتعظيم للمراد المعنى بالخطاب، وقد يكون معنى السواء زائداً إلى ما تقدم أن بهذه الأربعة الأيام استوت السنة مطالعها ومغاربها وقربها وبعدها وارتفاعها ونزولها في شمالي بروجها وجنوبيها باحكام ذلك كله وتوابعه- انتهى‏.‏

ولما كانت السماوات أعظم من الأرض في ذاتها بنور أبنيتها واتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي، ولفظ الاستواء وحب الغاية الدال على عظيم العناية فقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى‏}‏ أي قصد قصداً هو القصد منتهياً قصده ‏{‏إلى السماء وهي‏}‏ أي والحال أنها ‏{‏دخان‏}‏ بعد ما فتقها من الأرض، قالوا‏:‏ كان ذلك الدخان بخار الماء فهو مستعار من المرتفع من النار، وهو تشبيه صوري، فالسماء متقدمة في الدخانية على الأرض، تقدم الذكر على الأنثى ثم خلقت ذات الرض وبعد تصوير السماء أولاً إيجاداً وتتميماً لتسوية السماء بعد أن كانت دخاناً، ويومان لتتميم المنافع فتداخلت الأعداد لتداخل الأفعال، ‏{‏فقال لها‏}‏ أي عقب مقارنتين لما قدرته فيكما وأردته منكما من إخراج المنافع من المياه والنبات والمعادن وغيرها، ووضع المصدر موضع الحال مبالغة فقال‏:‏ ‏{‏طوعاً أو كرهاً‏}‏ أي طائعين أو كارهتين في إخراج ما أودعتكما من الأمانة في أوقاتها وعلى ما ينبغي من مقاديرها وهيآتها طوع تسخير لا تكليف ‏{‏قالتا أتينا‏}‏ أي نحن وما فينا ما بيننا‏.‏

ولما جعلهما موضع المخاطبة للتي هي للعقلاء والتكلم، قال جامعاً لهما باعتبار أفرادهما وما فيهما جمع من يعقل‏:‏ ‏{‏طائعين*‏}‏ أي في كل ما رسمته فينا لا نحمل من ذلك شيئاً بل نبذله على ما أمرت به لا نغير ولا نبدل، وذلك هو بذلهما للأمانة، وعدم حملها، وجمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان، بل قد يكون القول لهما متعاقباً ‏{‏فقضاهن‏}‏ أي خلقهن وصنعهن حال كونهن معدودات ‏{‏سبع سماوات‏}‏

صنعاً نافذاً هو كالقضاء لا تخلف فيه ‏{‏في يومين‏}‏ أي الخميس والجمعة إذا حسب مقدار ما يخصهن من التكوين في الستة الأيام التي كان فيها جحميع الخافقين، وما بينهما كان بمقدار ما خص واحداً من الأرض ومن أقواتها لا يزيد على مدة منهما ولا ينقص، فيكون الذي خصهما ثلث المجموع، قال ابن جرير‏:‏ وإنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق السماوات والأرض‏.‏

يعني فرغ من ذلك وأتمه ‏{‏وأوحى‏}‏ أي ألقى بطريق خفي وحكم مبتوت قوي ‏{‏في كل سماء أمرها‏}‏ أي الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل، وزمام مبرم لا ينحل‏.‏

ولما عم، خص ما للتي تلينا إشارة إلى تشريفنا، فقال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تنبيهاً على ما في هذه الآية من العظم‏:‏ ‏{‏وزينّا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏السماء الدنيا‏}‏ أي القربى إليكم لأجلكم ‏{‏بمصابيح‏}‏ من زواهر النجوم، وشفوفها عنها لا ينافي أن تكون في غيرها مما هو أعلى منها، ودل السياق على أن المراد‏:‏ زينة ‏{‏و‏}‏ حفظناها بها ‏{‏حفظاً‏}‏ من الشياطين، فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف فعل الحفظ بدلالة المصدر، ومصدر الزينة بما دل عليه من فعلها‏.‏

ولما كان هذا أمراً باهراً، نبه على عظمته بقوله صارفاً الخطاب إلى صفتي العز والعلم إعلاماً بأنهما أساس العظمة ومدارها‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر الرفيع والشأن البديع ‏{‏تقدير العزيز‏}‏ الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ‏{‏العليم*‏}‏ المحيط علماً بكل شيء وكما قدر سبحانه ذلك بعزته وعلمه قضى أنه لا يفيد العز الدائم إلا ما شرعه من العلم، وفي ختمه بالوصفين بشارة للأمة التي خوطبت بهما أنه يوتيها من عزه وعلمه لا سيما بالهبة وما شاكلها من الطبائع وغيرها ما لم يؤت أمه من الأمم قبلها، وسر خلقه سبحانه العالم في مدة ولم يكن قي لمحة وجعلها ستة لا أقل ولا أكثر أنه لو خلقه في لمحة لكان ذلك شبهة لمن يقول‏:‏ إنه فاعل بالذات لا بالاختيار، فاقتضى الحال عدداً، ثم اقتضى الحال أن يكون ستة لأنها أول عدد يدل على الكمال لأنها عدد تام كسورها لا تزيد عنها ولا تنقص، فآذن ذلك بأن للفاعل نعوت الكمال وأوصاف التمام والتعال، ولم يخلقه فيما دون ذلك من العدد لأنه ناقص، وخلق الأرض في يومين مكررين باعتبار الذات والمنافع إيذاناً بما يقع فيها من المعصية بالشرك الذي هو تثنية وإفك، ولم يكرر في السماء لأن آياتها أدل على التوحيد ولم يحصل من أهلها ما يدل على الوعيد، وليكون إيجادها في أقل من مدة الأرض- مع أنها أكبر جرماً وأعجب صنعاً وأتقن جسماً- أدل على الفعل بالاختيار بعجائب الحكم وغرائب الأسرار الكبار‏.‏