فصل: تفسير الآيات رقم (241- 247)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏241- 247‏]‏

‏{‏وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏241‏)‏ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏242‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏243‏)‏ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏244‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏245‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏246‏)‏ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏247‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى متاع المتوفى عنهن عقبه متاع المطلقات تأكيداً للحكم بالتكرير وتعميماً بعد تخصيص بعض أفراده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات‏}‏ أي أيّ المدخول بهن بأي طلاق كان ‏{‏متاع‏}‏ أي من جهة الزوج يجبر ما حصل لها من الكسر ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي من حالهما ‏{‏حقاً على المتقين *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ حيث كان الذي قبل الدخول حقاً على المحسنين كان المحسن يمتع بأيسر وصلة في القول دون الإفضاء والمتقي يحق عليه الإمتاع بمقدار ما وقع له من حرمة الإفضاء ولما وقع بينهم من الإرهاق والضجر فيكون في المتعة إزالة لبعض ذلك وإبقاء بسلام أو مودة- انتهى‏.‏ وفيه إشارة إلى أن الطلاق كالموت لانقطاع حبل الوصلة الذي هو كالحياة وأن المتاع كالإرث‏.‏

ولما بيّن سبحانه وتعالى هذه الأحكام هذا البيان الشافي كان كأن سائلاً قال‏:‏ هل يبين غيرها مثلها‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البيان ‏{‏يبين الله‏}‏ أي الذي له الحكمة البالغة لأنه المحيط بكل شيء ‏{‏لكم آياته‏}‏ أي المرئية بما يفصل لكم في آياته المسموعة ‏{‏لعلكم تعقلون *‏}‏ أي لتكونوا على حال يرجى لكم معها التفكر في الآيات المسموعات والآيات المرئيات كما يفعل العقلاء فيهديكم ذلك إلى سواء السبيل؛ وقد كرر مثل هذا القول كثيراً وفصلت به الآيات تفصيلاً وكان لعمري يكفي الفطن السالم من مرض القلب وآفة الهوى إيراده مرة واحدة في الوثوق بمضمونه والركون إلى مدلوله، وإنما كرر تنبيهاً على بلاغة الآيات المختومة به وخروجها عن طوق البشر وقدرة المخلوق، وذلك أنهم كلما سمعوا شيئاً من ذلك وهم أهل السبق في البلاغة والظفر على جميع أرباب الفصاحة والبراعة فرأوه فائتاً لقواهم وبعيداً من قدرهم خطر لهم السؤال عن مثل ذلك البيان ناسين لما تقدم من صادق الوعد وثابت القول بأن الكل على هذا المنوال البديع المثال البعيد المنال، لما اعتراهم من دهش العقول وانبهار الألباب والفهوم‏.‏

ولما انقضى ما لا بد منه مما سيق بعد الإعلام بفرض القتال المكروه للأنفس من تفصيل ما أحمل في ليل الصيام من المشارب والمناكح وما تبعها وكان الطلاق كما سلف كالموت وكانت المراجعة كالإحياء وختم ذلك بالصلاة حال الخوف الذي أغلب صورة الجهاد ثم بتبيين الآيات أعم من أن تكون في الجهاد أو غيره عقب ذلك بقوله دليلاً على آية كتب القتال المحثوث فيها على الإقدام على المكاره لجهل المخلوق بالغايات‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وقال الحرالي‏:‏ لما كان أمر الدين مقاماً بمعالمه الخمس التي إقامة ظاهرها تمام في الأمة وإنما تتم إقامتها بتقوى القلوب وإخلاص النيات كان القليل من المواعظ والقصص في شأنه كافياً، ولما كان حظيرة الدين إنما هو الجهاد الذي فيه بذل الأنفس وإنفاق الأموال كثرت فيه مواعظ القرآن وترددت وعرض لهذه الأمة بإعلام بما يقع فيه فذكر ما وقع من الأقاصيص في الأمم السالفة وخصوصاً أهل الكتابين بني إسرائيل ومن لحق بهم من أبناء العيص فكانت وقائعهم مثلاً لوقائع هذه الأمة فلذلك أحيل النبي صلى الله عليه وسلم على استنطاق أحوالهم بما يكشفه الله سبحانه وتعالى له من أمرهم عياناً وبما ينزله من خبرهم بياناً وكان من جامعة معنى ذلك ما تقدم من قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 211‏]‏ وكان من جملة الآيات التي يحق الإقبال بها على النبي صلى الله عليه وسلم لعلو معناها فأشرف المعاني ما قيل فيه ‏{‏ألم تر‏}‏ إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعموم المعاني ما قيل فيه ‏{‏ألم تروا‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 20‏]‏ إقبالاً على الأمة ليخاطب كل على قدر ما قدم لهم من تمهيد موهبة العقل لتترتب المكسبة من العلم على مقدار الموهبة من العقل فكان من القصص العلي العلم اللطيف الاعتبار ما تضمنته هذه الآيات من قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة حتى لا يفروا من الموت فرار من قبلهم، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا نزل الوباء بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» وذلك لتظهر مزيتهم على من قبلهم بما يكون من عزمهم كما أظهر الله تعالى مزيتهم على من قبلهم بما آتاهم من فضله ورحمته التي لم ينولها لمن قبلهم- انتهى‏.‏

ولما كانت مفارقة الأوطان مما لا يسمح به نبه بذكره على عظيم ما دهمهم فقال‏:‏ ‏{‏إلى الذين خرجوا‏}‏ أي ممن تقدمكم من الأمم ‏{‏من ديارهم‏}‏ التي ألفوها وطال ما تعبوا حتى توطنوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به على الموت ‏{‏وهم ألوف‏}‏ أي كثيرة جداً تزيد على العشرة بما أفهمه جمع التكثير‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إشعار بأن تخوفهم لم يكن من نقص عدد وإنما كان من جزع أنفس فأعلم سبحانه وتعالى أن الحذر لا ينجي من القدر وإنما ينجى منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء «إن الدعاء ليلقي القدر فيعتلجان إلى يوم القيامة» انتهى‏.‏ ‏{‏حذر الموت‏}‏ فراراً من طاعون وقع في مدينتهم أو فراراً من عدو دعاهم نبيهم إلى قتاله- على اختلاف الرواية- ظناً منهم أن الفرار ينجيهم‏.‏

ودل سبحانه وتعالى على أن موتهم كان كنفس واحدة بأن جعلهم كالمأمور الذي لم يمكنه التخلف عن الامتثال بقوله مسبباً عن خروجهم على هذا الوجه‏:‏ ‏{‏فقال لهم الله‏}‏ أي الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه طالب لأن له الكمال كله ‏{‏موتوا‏}‏ أي فماتوا أجمعون موت نفس واحدة لم ينفعهم حذرهم ولا صد القدر عنهم علمهم بالأمور وبصرهم إعلاماً بأن من هاب القتال حذر الموت لم يغنه حذره مع ما جناه من إغضاب ربه ومن أقدم عليه لم يضره إقدامه مع ما فاز به من مرضاة مولاه‏.‏

قال الحرالي‏:‏ في إشعاره إنباء بأن هذه الإماتة إماتة تكون بالقول حيث لم يقل‏:‏ فأماتهم الله، فتكون إماتة حاقة لا مرجع منها، ففيه إبداء لمعنى تدريج ذات الموت في أسنان متراقية من حد ضعف الأعضاء والقوى بالكسل إلى حد السنة إلى حد النوم إلى حد الغشي إلى حد الصعق إلى حد هذه الإماتة بالقول إلى حد الإماتة الآتية على جملة الحياة التي لا ترجع إلا بعد البعث وكذلك الإماتة التي يكون عنها تبدد الجسم مع بقائه على صورة أشلائه أشد إتياناً على الميت من التي لا تأتي على أعضائه «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين» فكما للحياة أسنان من حد ربو الأرض إلى حد حياة المؤمن إلى ما فوق ذلك من الحياة كذلك للموت أسنان بعدد أسنان الحياة مع كل سن حياة موت إلى أن ينتهي الأمر إلى الحي الذي لا يموت ‏{‏وإن إلى ربك المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏، فبذلك يعلم ذو الفهم أن ذلك توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏ثم أحياهم‏}‏ وفي كلمة ‏{‏ثم‏}‏ إمهال إلى ما شاء الله- انتهى‏.‏ وجعل سبحانه وتعالى ذلك تقريراً له صلى الله عليه وسلم بالرؤية إما لأنه كشف له عنهم في الحالتين وإما تنبيهاً على أنه في القطع بإخبار الله تعالى له على حالة هي كالرؤية لغيره تدريباً لأمته؛ ولعل في الآية حضاً على التفضل بالمراجعة من الطلاق كما تفضل الله على هؤلاء بالإحياء بعد أن أدبهم بالإماتة وختم ما قبلها بالإقامة في مقام الترجي للعقل فيه إشارة إلى أن الخارجين من ديارهم لهذا الغرض سفهاء فكأنه قيل‏:‏ لتعقلوا فلا تكونوا كهؤلاء الذين ظنوا أن فرارهم ينجيهم من الله بل تكونون عالمين بأنكم أينما كنتم ففي قبضته وطوع مشيئته وقدرته فيفيدكم ذلك الإقدام على ما كتب عليكم مما تكرهونه من القتال، أو يقال‏:‏ ولما كان المتوفى قد يطلق زوجه في مرض موته فراراً من إرثها وقد يخص بعض وارثيه مما يضار به غيره وقد يحتال على المطلقة ضراراً بما يمنع حقها ختم آية الوفاة عن الأزواج والمطلقات بترجية العقل بمعنى أنكم إذا عقلتم لم تمنعوا أحداً من فضل الله الذي آتاكم علماً منكم بأنه تعالى قادر على أن يمنع المراد إعطاؤه ويمنح المراد منعه بأسباب يقيمها ودواعي يخلقها أو يشفي فاعل ذلك من مرضه ثم يسلبه فضله فيفقره بعد غناه ويضعفه بعد قواه، فإنه لا ينفع من قدره حذر، ولا يدفع مراده كيد ولا حيل وإن كثر العدد وجل المدد، ‏{‏ألم تر‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام ‏{‏لذو فضل‏}‏ ‏{‏على الناس‏}‏ أي عامة فليذكر كل واحد ما له عليه من الفضل، وليرغبوا في العفو عمن يرون أن منعه عدل لأن ذلك أقرب إلى الشكر وأبعد عن الكفر، فطلاق الفار إخراج الزوجة عن دائرة عصمته حذراً من إماتة ماله بأخذ ما يخصها منه وخروج الزوج عن دائرة النكاح حذراً من موت مقيد بكونها في عصمته وخروج الألوف من دار الإقامة حذراً من موت مطلق، ومن المناسبات البديعة أنه لما كانت حقيقة حال العرب أنهم انتقلوا بعد أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام والتابعين له بإحسان من ضيق دار العلم والإيمان حذراً من هلاك الأبدان بتكاليف الأديان إلى قضاء الشهوات والعصيان فوقعوا في موت الجهل والكفران فلما نزل عليهم القرآن وكان أكثر هذه السورة في الرد على أهل الكتاب وكرر فيها هداية العرب من الكفر والجهل بكلمة الإطماع في غير موضع نحو

‏{‏ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 150‏]‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏لعلهم يرشدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ ‏{‏لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219، 220‏]‏ وغير ذلك إلى أن ختم هذه الآيات بترجي العقل وكان أهل الكتاب قد اشتد حسدهم لهم بجعل النبي الذي كانوا ينتظرونه منهم وكان الحاسد يتعلق في استبعاد الخير عن محسوده بأدنى شيء كانوا كأنهم قالوا‏:‏ أيحيي هؤلاء العرب على كثرتهم وانتشارهم في أقطار هذه الجزيرة من موت الكفر والجهل بالإيمان والعلم بعد أن تمادت بهم فيهما الأزمان وتوالت عليهم الليالي والأيام حتى عتوا فيهما وعسوا ومردوا عليهما وقسوا‏؟‏ فأجيبوا بنعم وما استبعدتموه غير بعيد، فقالوا‏:‏ فإن كان لله بهم عناية فلم تركهم يجهلون ويكفرون بعد ما شرع لهم أبوهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام دين أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏؟‏ فأجيبوا بأنه فعل بهم ذلك لذنب استحقوه لحكمة اقتضاها سابق علمه ثم ذكّرهم قدرته في مثل ذلك من العقوبة واللطف بما هم به عالمون فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد هم- كما يقال‏:‏ الكلام لك واسمعي يا جارة- ‏{‏ألم تر‏}‏ ويجوز أن يكون الخطاب لكل فاهم أي تعلم بقلبك أيها السامع علماً هو كالرؤية ببصرك لما تقدم من الأدلة التي هي أضوأ من الشمس على القدرة على البعث ويؤيد أنه لمح فيه الإبصار تعديته بإلى في قوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين خرجوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فقال لهم الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها عقوبة لهم بفرارهم من أمره ‏{‏موتوا ثم أحياهم‏}‏ بعد أن تطاول عليهم الأمد وتقادم بهم الزمن كما أفهمه العطف بحرف التراخي تفضلاً منه، فكما تفضل على أولئك بحياة أشباههم بعد عقوبتهم بالموت فهو يتفضل على هؤلاء بحياة أرواحهم من موت الكفر والجهل إظهاراً لشرف نبيهم صلى الله عليه وسلم، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها بما له من الجلال والعظمة والكمال ‏{‏لذو فضل‏}‏ أي عظيم ‏{‏على الناس‏}‏ أي كافة مطيعهم وعاصيهم‏.‏

قال الحرالي‏:‏ بما ينسبهم تارة إلى أحوال مهوية ثم ينجيهم منها إلى أحوال منجية بحيث لو أبقى هؤلاء على هذه الإماتة ومن لحق بسنتهم من بعدهم لهلكت آخرتهم كما هلكت دنياهم ولكن الله سبحانه وتعالى أحياهم لتجدد فضله عليهم- انتهى‏.‏ كما تفضل عليكم يا بني إسرائيل بأن أحياكم من موت العبودية وذلك الذل بعد أن كان ألزمكموه بذنوبكم دهوراً طويلة وكما تفضل عليكم أيها العرب بقص مثل هذه الأخبار عليكم لتعتبروا ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ كرر الإظهار ولم يضمر ليكون أنص على العموم لئلا يدعي مدع أن المراد بالناس الأول أهل زمان ما فيخص الثاني أكثرهم ‏{‏لا يشكرون *‏}‏ وذلك تعريض ببني إسرائيل في أنهم لم يشكروه سبحانه وتعالى في الوفاء بمعاهدته لهم في اتباع هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي هذا الأسلوب بعد هذه المناسبات إثبات لقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة وجرّ لمنكر ذلك إلى الحق من حيث لا يشعر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والشكر ظهور باطن الأمر على ظاهر الخلق بما هو باطن فمن حيث إن الأمر كله لله قسراً فالشكر أن يبدو الخلق كله بالله شكراً، لأن أصل الشكور الدابة التي يظهر عليها ما تأكله سمناً وصلاحاً، فمن أودع خلق أمر لم يبد على خلقه فهو كفور‏.‏ فلما أودعه سبحانه وتعالى في ذوات الأشياء من معرفته وعلمه وتكبيره كان من لم يبد ذلك على ظاهر خلقه كفوراً، ومن بدا ما استسر فيه من ذلك شكوراً، وليس من وصف الناس ذلك لترددهم بين أن يكون البادي عليهم عندهم تارة من الله سبحانه وتعالى وتارة من أنفسهم وممن دون الله ممن اتخذوه أولياء على حد كفر أو هوى أو بدعة أو خطيئة وعلى حد رين كسبهم على قلوبهم، ففي اعتبار هذه الآية تحذير لهذه الأمة من أن يحذروا الموت‏.‏ قال بعض التابعين رضي الله تعالى عنهم‏:‏ لقد رأينا أقواماً يعنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت إلى أحدهم أشهى من الحياة عندكم اليوم؛ وإنما ذلك لما تحققوا من موعود الآخرة حتى كأنهم يشاهدونه فهان عليهم الخروج من خراب الدنيا إلى عمارة آخرتهم- انتهى‏.‏ وما أحسن الرجوع إلى قصص الأقدمين والالتفات إلى قوله‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال وهو كره لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 216‏]‏ على هذا الوجه وهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم؛ قال أهل التفسير‏:‏ إن إحياءهم كان على يد حزقيل أحد أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام؛ وقال البغوي‏:‏ إنه ثالث خلفائهم، والذي رأيته في سفر الأنبياء المبعوثين منهم بعد موسى عليه الصلاة والسلام لتجديد أمر التوراة وإقامة ما درس من أحكامها وهم ستة عشر نبياً أولهم يوشع بن نون وآخرهم دانيال على جميعهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام أن حزقيل خامس عشرهم عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال في الإصحاح الحادي والعشرين من نبوته‏:‏ وكانت على يد الرب وأخرجني روح الرب إلى صحراء مملوءة عظام موتى وأمرني أجوز عليها وأدور حولها، فرأيتها كثيرة في الصحراء يابسة وقال لي‏:‏ يا ابن الإنسان‏!‏ هل تعيش هذه العظام‏؟‏ فقلت‏:‏ أنت تعلم يا رب الأرباب‏!‏ قال لي‏:‏ تنبأ على هذه العظام وقل لها‏:‏ أيتها العظام البالية‏!‏ اسمعوا كلام الله أن هكذا يقول رب الأرباب لهذه العظام‏:‏ إني أرد فيكم الروح فتحيون وتعلمون أني أنا الرب، آتي بالعصب والجلد واللحم أنبته، وأرد فيكم الأرواح فتحيون، فلما تنبأت بهذا صار صوت عظيم وزلزلة، واقتربت العظام كل عظم إلى مفصله، ورأيت قد صعد عليها العصب ونبت اللحم ورد عليها الجلد من فوق ذلك ولم يكن فيهم روح، وقال الرب‏:‏ يا ابن الإنسان‏!‏ هذه العظام كلها من بني إسرائيل ومن الأنبياء الذين كانوا يقتلون وقد بليت عظامهم وكل رجل بطل، تنبأ أيها الإنسان وقل للروح‏:‏ هكذا يقول رب الأرباب‏:‏ تعالوا أيها الأرواح، وأنفخ في هؤلاء القتلى فيعيشوا، فتنبأت كالذي أمرني الرب، فدخلت فيهم الروح وعاشوا وقاموا على أرجلهم جيش عظيم جداً، وقال لي الرب‏:‏ يا ابن الإنسان‏!‏ هذه العظام كلها من بني إسرائيل ومن الأنبياء الذين كانوا يقتلون وقد بليت عظامهم وكل رجل بطل، فمن أجل هذا تنبأ وقل‏:‏ هكذا يقول رب الأرباب‏:‏ هو ذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وتعلمون أني أنا الرب أنفخ فيكم روحي فتعيشون وأترككم تعملون؛ قد قلت هذا وأنا أفعله- انتهى‏.‏ ولما بيّن سبحانه وتعالى أن الموت لا يصون منه فرار أمر بالجهاد الذي هو المقصود الأعظم بهذه السياقات ولفت القول إلى من يحتاج إلى الأمر به وصدره بالواو فأفهم العطف على غير معطوف عليه مذكور أن التقدير‏:‏ فلا تفروا من أسباب الموت بل اثبتوا في مواطن البأساء ‏{‏وقاتلوا‏}‏ وعبر بفي الظرفية إشارة إلى وجوب كونهم في القتال وإن اشتدت الأحوال مظروفين للدين مراعين له لا بخرجون عنه بوجه ما فيصدقون في الإقدام على من لج في الكفران ويسارعون إلى الإحجام عمن بدا منه الإذعان ونحو ذلك من مراعاة شرائع الإيمان، وعبر بالسبيل إشارة إلى يسر الدين ووضوحه فلا عذر في الخروج عن شيء منه بحال فقال‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له كما كتبه عليكم وإن كنتم تكرهون القتال‏.‏

ولما أمرهم بعد ما حذرهم رغبهم ورهبهم بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا‏}‏ منبهاً لهم لأن يلقوا أسماعهم ويحضروا أفهامهم لما يلقى عليهم ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم المحيط ‏{‏سميع‏}‏ لما تقولون إذا أمرتم بما يكره من القتال ‏{‏عليم *‏}‏ بما تضمرون من الإعراض عنه والإقبال فهو يجازيكم على الخير قولاً وعملاً ونية، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعين ضعفاً إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وعلى السيئة بمثلها إن شاء

‏{‏ولا يظلم ربك أحداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ولما كانت النفقة التي هي من أعظم مقاصد السورة أوثق دعائم الجهاد وأقوى مصدق للإيمان ومحقق لمبايعة الملك الديان كرر الحث عليها على وجه أبلغ تشويقاً مما مضى فقال على هيئه الممتحن للصادق ممن أمره وحذره وأنذره‏:‏ ‏{‏من ذا الذي‏}‏ منكم يا من كتب عليهم القتال والخروج عن الأنفس والأموال ‏{‏يقرض الله‏}‏ الذي تفرد بالعظمة، وهو من الإقراض أي إيقاع القرض ولذا قال‏:‏ ‏{‏قرضاً‏}‏ وشبه سبحانه وتعالى العمل به لما يرجى عليه من الثواب فهو كالقرض الذي هو بذل المال للرجوع بمثله، وعبر به لدلالته على المحبة لأنه لا يقرضك إلا محب، ولأن أجره أكثر من أجر الصدقة ‏{‏حسناً‏}‏ أي جامعاً لطيب النفس وإخلاص النية وزكاء المال‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ القرض الجزّ من الشيء والقطع منه، كأنه يقطع له من ماله قطعة ليقطع له من ثوابه أقطاعاً مضاعفة، والقرض بين الناس قرضاً بقرض مثلاً بمثل فمن ازداد فقد أربى ومن زاد من غير عقد ولا عهد فقد وفى، فالقرض مساواة والربا ازدياد، ووصف سبحانه وتعالى القرض الذي حرض عليه بالحسن لتكون المعاملة بذلة على وجه الإحسان الذي هو روح الدين وهو أن يعامل الله به كأنه يراه- انتهى‏.‏

ولما كانت الأنفس مجبولة على الشحّ بما لديها إلا لفائدة رغبها بقوله مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فيضاعفه‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من المضاعفة مفاعلة من الضعف- بالكسر- وهي ثني الشيء بمثله مرة أو مرات، وأزال عنه ريب الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏له‏}‏ أي في الدنيا والآخرة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ هذه المضاعفة أول إنبائها أن الزائد ضعف ليس كسراً من واحد المقرض ليخرج ذلك عن معنى وفاء القضاء فإن المقترض تارة يوفي على الواحد كسراً من وزنه، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقترض قرضاً إلا وفى عليه زيادة، وقال‏:‏ خير الناس أحسنهم قضاء» فأنبأ تعالى أن اقتراضه ليس بهذه المثابة بل بما هو فوق ذلك لأنه يضعف القرض بمثله وأمثاله إلى ما يقال فيه الكثرة؛ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أضعافاً‏}‏ ما يفيد أن الحسنة بعشر، وفي قوله‏:‏ ‏{‏كثيرة‏}‏ ما يفيد البلاغ إلى فوق العشر وإلى المائة كأنه المفسر في قوله بعد هذا ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏، فأوصل تخصيص هذه الكثرة إلى المئين ثم فتح باب التضعيف إلى ما لا يناله علم العالمين في قوله‏:‏

‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏- انتهى‏.‏

ولما رغب سبحانه وتعالى في إقراضه أتبعه جملة حالية من ضمير يضاعف مرهبة مرغبة فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏يقبض‏}‏ أي له هذه الصفة وهي إيقاع القبض والإقتار بمن يشاء وإن جلت أمواله‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والقبض إكمال الأخذ، أصله القبض باليد كله، والقبض- بالمهملة- أخذ بأطراف الأصابع وهو جمع عن بسط فلذلك قوبل به ‏{‏ويبصط‏}‏ أي لمن يشاء وإن ضاقت حاله، والبسط توسعة المجتمع إلى حد غاية ‏{‏وإليه ترجعون *‏}‏ حساً بالبعث ومعنى في جميع أموركم، فهو يجازيكم في الدارين على حسب ما يعلم من نياتكم‏.‏

ولما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتمنون في مكة المشرفة الإذن في مقارعة الكفار ليردوهم عما هم عليه من الأذى والغي والعمى عجب من حال بني إسرائيل حيث سألوا الأمر بالقتال ثم لم ينصفوا إذ أمروا تحذيراً من مثل حالهم، وتصويراً لعجيب قدرته على نقض العزائم وتقليب القلوب، وإعلاماً بعظيم مقادير الأنبياء وتمكنهم في المعارف الإلهية، ودليلاً على ختام الآية التي قبلها فقال مقبلاً على أعلى الخلق إشارة إلى أن للنفوس من دقائق الوساوس ما لا يفهمه إلا البصراء‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ قال الحرالي‏:‏ أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب وهما طرفا انحراف في الأنفس، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏

«والمشركون قد بغوا علينا *** إذا أرادوا فتنة أبينا»

فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه فإنه إن طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء حين تولوا إلا قليلاً فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون، إياك أعني واسمعي يا جارة‏!‏ فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطاباً لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين- انتهى‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب لكل من ألقى السمع وهو شهيد‏.‏

ولما كان الإخلال من الشريف أقبح قال ‏{‏إلى الملإ‏}‏ أي الأشراف، قال الحرالي‏:‏ الذين يملؤون العيون بهجة والقلوب هيبة- انتهى‏.‏ ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال‏:‏ ‏{‏من بني إسراءيل‏}‏ ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال ‏{‏من بعد موسى‏}‏ أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتاباً عجباً ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا‏:‏ ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا- انتهى‏.‏ ‏{‏إذ قالوا‏}‏ ولما كان الإخلاف مع الأكابر لا سيما مع الأنبياء أفظع قال‏:‏ ‏{‏لنبي لهم‏}‏ ونكره لعدم مقتض لتعريفه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ لأن نبيهم المعهود الآمر لهم إنما هو موسى عليه الصلاة والسلام، ومن بعده إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم كالعلماء في هذه الأمة منفذون وعالمون بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى عليه الصلاة والسلام قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها صلى الله عليه وسلم وبعده انتهى‏.‏

ولما كان عندهم من الغلظة ما لا ينقادون به إلا لإنالة الملك وكان القتال لا يقوم إلا برأس جامع تكون الكلمة به واحدة قالوا‏:‏ ‏{‏ابعث لنا‏}‏ أي خاصة ‏{‏ملكاً‏}‏ أي يقيم لنا أمر الحرب ‏{‏نقاتل‏}‏ أي عن أمره ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعلى‏.‏ قال الحرالي في إعلامه أخذهم الأمر بمنة الأنفس حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها إليه فما كان بناء على تقوى تم، وما كان على دعوى نفس انهدّ ‏{‏قال‏}‏ أي ذلك النبي ‏{‏هل‏}‏ كلمة تنبئ عن تحقيق الاستفهام اكتفي بمعناها عن الهمزة- انتهى‏.‏ ‏{‏عسيتم‏}‏ أي قاربتم ولما كانت العناية بتأديب السائلين في هذا المهم أكثر قدم قوله‏:‏ ‏{‏إن كتب‏}‏ أي فرض- كذا قالوا، والأحسن عندي كما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة براءة أن يكون المعنى‏:‏ هل تخافون من أنفسكم، ولما كان القصد التنبيه على سؤال العافية والبعد عن التعرض للبلاء لخطر المقام بأن الأمر إذا وجب لم تبق فيه رخصة فمن قصر فيه هلك وسط بين عسى وصلتها قوله‏:‏ ‏{‏عليكم القتال‏}‏ فرضاً لازماً، وبناه للمفعول صيانة لاسم الفاعل عن مخالفة يتوقع تقصيرهم بها ‏{‏ألا تقاتلوا‏}‏ فيوقعكم ذلك في العصيان، قال الحرالي‏:‏ بكسر سين عسى وفتحها لغتان، عادة النحاة أن لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أوساط الصيغ وأوائلها، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة، فالكسر حيث كان مبنى عن باد عن ضعف وانكسار، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء- انتهى‏.‏ فكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن بعضهم يترك القتال عن ضعف عنه وبعضهم يتركه عن قوة ولذلك نفى الفعل ولم يقل‏:‏ أن تعجزوا‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فأنبأهم بما آل إليه أمرهم فلم يلتفوا عنه وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم، ففي إشعاره إنباء بما كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه- انتهى‏.‏

ولما كان مضمون هذا الاستفهام‏:‏ إني أخشى عليكم القعود عن القتال أعلمنا الله عن جوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي لموسى في المخالفة ولما أرشد العطف على غير مذكور أن التقدير‏:‏ ما يوجب لنا القعود وإنا لا نخاف ذلك على أنفسنا بل نحن جازمون بأنا نقاتل أشد القتال‏!‏ عطف عليهم قولهم‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وأي شيء ‏{‏لنا‏}‏ في ‏{‏ألا نقاتل‏}‏ ولما كانت النفس فيما لله أجد وإليه أنهض قالوا‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له إلهاباً وتهييجاً ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنا قد ‏{‏أخرجنا‏}‏ أعم من أن يكون مع لإخراج إبعاد أو لا، وبناه للمجهول لأن موجب الإحفاظ والإخراج نفس الإخراج لا نسبة إلى حد بعينه ‏{‏من ديارنا‏}‏ التي هي لأبداننا كأبداننا لأرواحنا‏.‏ ولما كان في ‏{‏أخرجنا‏}‏ معنى أبعدنا عطف عليه ‏{‏وأبنائنا‏}‏ فخلطوا بذلك ما لله بما لغيره وهو أغنى الشركاء لا يقبل إلا خالصاً‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فأنبأ سبحانه وتعالى أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج وإنما يقاتل في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا- انتهى‏.‏ ولما كان إخلاف الوعد مع قرب العهد أشنع قال‏:‏ ‏{‏فلما‏}‏ بالفاء المؤذنة بالتعقيب ‏{‏كتب عليهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏القتال‏}‏ أي الذي سألوه كما كتب عليكم بعد أن كنتم تمنونه إذ كنتم بمكة كما سيبين إن شاء الله تعالى في النساء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏، ‏{‏تولوا‏}‏ فبادروا الإدبار بعد شدة ذلك الإقبال ‏{‏إلا قليلاً منهم‏}‏ أي فقاتلوا والله عليم بهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل كمال ‏{‏عليم‏}‏ بالمتولين، هكذا كان الأصل ولكنه قال‏:‏ ‏{‏بالظالمين *‏}‏ معلماً بأنهم سألوا البلاء وكان من حقهم سؤال العافية، ثم لما أجيبوا إلى ما سألوا أعرضوا عنه فكفوا حيث ينبغي المضاء ومضوا حيث كان ينبغي الكف فعصوا الله الذي أوجبه عليهم، فجمعوا بين عار الإخلاف وفضيحة العصيان وخزي النكوص عن الأقران وقباحة الخذلان للإخوان‏.‏

ولما أرشد العطف على غير مذكور إلى أن التقدير‏:‏ فقال لهم نبيّهم‏:‏ ألم أقل لكم‏:‏ لا تسألوا البلاء ولا تدانوا أمر القضاء فإن أكثر قول النفس كذب وجل أمانيها زور وأما أمر الله فمتى برز يجب، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقال لهم‏}‏ أي خاصة لم يكن معهم أحد غيرهم يحال عليهم جوابهم الذي لا يليق وصرح بالمقصود لئلا يظن أن القائل الله وأنهم واجهوه بالاعتراض فقال‏:‏ ‏{‏نبيهم‏}‏ أي الذي تقدم أنهم سألوه ذلك مؤكداً معظماً محققاً بأداة التوقع لأن سؤالهم على لسان نبي يقتضي توقع الإجابة ‏{‏إن الله‏}‏ أي بجلاله وعزّ كماله ‏{‏قد‏}‏ ولما كان إلباس الشخص عزّ الملك مثل إعزاز الجماد بنفخ الروح كان التعبير عن ذلك بالبعث أليق فقال‏:‏ ‏{‏بعث لكم‏}‏ أي خاصة لأجل سؤالكم ‏{‏طالوت‏}‏ اسم ملك من بني إسرائيل من سبط لم يكن الملك فيهم ‏{‏ملكاً‏}‏ تنتهون في تدبير الحرب إلى أمره‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فكان أول ما ابتلوا به أن ملك عليهم من لم يكن من أهل بيت الملك عندهم فكان أول فتنتهم بما طلبوا ملكاً فأجيبوا فلم يرضوا بما بعث لهم- انتهى‏.‏ ولما أجابهم إلى ما سألوا كان من أول جلافتهم اعتراضهم على أمر الملك الديان الذي أورده لهم باسمه الأعظم الدال على جميع الكمال من الجلال والجمال ليكون أجدر لهم بقبول أمره والوقوف عند زجره وأورد اعتراضهم في جواب من كأنه قال‏:‏ ما فعلوا إذ أجابهم إلى ما سألوا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قالوآ‏}‏ أي هم لا غيرهم ‏{‏أنى‏}‏ أي من أين وكيف ‏{‏يكون له‏}‏ أي خاصة ‏{‏الملك علينا ونحن‏}‏ أي والحال أنا نحن ‏{‏أحق بالملك منه‏}‏ لأن فينا من هو من سبط الملوك دونه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فثنوا اعتراضهم بما هو أشد وهو الفخر بما ادعوه من استحقاق الملك على من ملكه الله عليهم فكان فيه حظ من فخر إبليس حيث قال حين أمر بالسجود لآدم‏:‏ ‏{‏أنا خير منه‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 76‏]‏ انتهى‏.‏ ‏{‏ولم‏}‏ أي والحال أنه لم ‏{‏يؤت سعة من المال‏}‏ أي فصار له مانعان‏:‏ أحدهما أنه ليس من بيت المملكة، والثاني أنه مملق والملك لا بد له من مال يعتضد به‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فكان في هذه الثالثة فتنة استصنام المال وأنه مما يقام به ملك وإنما الملك بايتاء الله فكان في هذه الفتنة الثالثة جهل وشرك، فتزايدت صنوف فتنتهم فيما انبعثوا إلى طلبه من أنفسهم- انتهى‏.‏

ولما كان الخلق كلهم متساوين في أصل الجسمية وإنما جاء تفضيل بعضهم على بعض من الله فكان هو المدار علق الأمر به في قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي النبي لا غيره مؤكداً لأجل إنكارهم معظماً عليهم الحق بإعادة الاسم الأعظم ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر فلا اعتراض عليه وهو أعلم بالمصالح ‏{‏اصطفاه‏}‏ قال الحرالي‏:‏ والاصطفاء أخذ الصفوة- انتهى‏.‏ ولما كان ذلك مضمناً معنى ملكه قال في تعديته ‏{‏عليكم‏}‏ ثم أتبع ذلك ما أودعه سبحانه مما اقتضى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وزاده‏}‏ أي عليكم ‏{‏بسطة في العلم‏}‏ الذي به تحصل المكنة في التدبير والنفاذ في كل أمر، وهو يدل على اشتراط العلم في الملك، وفي تقديمه أن الفضائل النفسانية أشرف من الجسمانية وغيرها، وأن الملك ليس بالإرث ‏{‏والجسم‏}‏ الذي به يتمكن من الظفر بمن بارزه من الشجعان وقصده من سائر الأقران‏.‏

ولما كان من إليه شيء كان له الخيار في إسناده إلى غيره قال‏:‏ والله‏}‏ أي اصطفاه والحال أن الملك الذي لا أمر لغيره ‏{‏يؤتي ملكه‏}‏ أي الذي هو له وليس لغيره فيه شيء ‏{‏من يشاء‏}‏ كما آتاكموه بعد أن كنتم مستعبدين عند آل فرعون ‏{‏والله‏}‏ الذي له الإحاطة الكاملة فلا يجوز الاعتراض عليه ‏{‏واسع‏}‏ أي في إحاطة قدرته وشمول عظمته وكثرة جنوده ورزقه ‏{‏عليم *‏}‏ أي بالغ العلم، فما اختاره فهو المختار وليس لأحد معه خيرة فهو يفعل بما له من السعة في القدرة والعلم ما قد لا تدركه العقول ولا تحتمل وصفه الألباب والفهوم ويؤتي من ليس له مال من خزائن رزقه ما يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏248- 252‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

ولما كان أغلبهم واقفاً مع المشاهدات غير ثابت القدم في الإيمان بالغيب قال‏:‏ ‏{‏وقال لهم نبيهم‏}‏ مثبتاً لأمر طالوت ‏{‏إن آية‏}‏ أي علامة ‏{‏ملكه‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وقل ما احتاج أحد في إيمانه إلى آية خارقة إلا كان إيمانه إن آمن غلبة يخرج عنه بأيسر فتنة، ومن كان إيمانه باستبصار ثبت عليه ولم يحتج إلى آية، فإن كانت الآية كانت له نعمة ولم تكن عليه فتنة ‏{‏وما منعنا أن نرسل بالآيات إلاّ أن كذب بها الأولون- وما نرسل بالآيات إلاّ تخويفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ فإن الآيات طليعة المؤاخذة والاقتناع بالاعتبار طليعة القبول والثبات- انتهى‏.‏ ‏{‏أن يأتيكم‏}‏ أي من غير آت به ترونه ‏{‏التابوت‏}‏ قال الحرالي‏:‏ ويعز قدره- انتهى‏.‏ وهو والله سبحانه وتعالى أعلم الصندوق الذي وضع فيه اللوحان اللذان كتب فيهما العشر الآيات التي نسبتها من التوراة نسبة فاتحة الكتاب من القرآن وهو يسمى تابوت الشهادة كما تقدم ذكره في وصف قبة الزمان فيما مضى أول قصة بني إسرائيل وكانوا إذا حاربوا حمله جماعة منهم موظفون لحمله ويتقدمون به أمام الجيش فيكون ذلك سبب نصرهم وكان العمالقة أصحاب جالوت لما ظهروا عليهم أخذوه في جملة ما أخذوا من نفائسهم وكأن عهدهم به كأن قد طال فذكّرهم بماثره ترغيباً فيه وحملاً على الانقياد لطالوت فقال‏:‏ ‏{‏فيه سكينة‏}‏ أي شيء يوجب السكون والثبات في مواطن الخوف‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ معناه ثبات في القلوب يكون له في عالم الملكوت صورة بحسب حال المثبت، ويقال‏:‏ كانت سكينة بني إسرائيل صورة هرّ من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد ملفق منه أعضاء تلك الصورة تخرج منه ريح هفّافة تكون علم النصر لهم- انتهى‏.‏ وزاده مدحاً بقوله‏:‏ ‏{‏من ربّكم‏}‏ أي الذي طال إحسانه إليكم وتربيته باللطف لكم‏.‏ وقال الحرالي وغيره‏:‏ إنه كان في التابوت صورة يأتي منها عند النصر ريح تسمع‏.‏ قال الحرالي‏:‏ كما كانت الصبا تهب لهذه الأمة بالنصر، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نصرت بالصبا» فكانت سكينتها كلية آفاقها وتابوتها كلية سمائها حتى لا تحتاج إلى محمل يحملها ولا عدة تعدها لأنها أمة أمية تولى الله لها إقامة علمها وأعمالها- انتهى‏.‏

ولما كان الكليم وأخوه عليهما الصلاة والسلام أعظم أنبيائه قال‏:‏ ‏{‏وبقية‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فضلة جملة ذهب جلها ‏{‏مما ترك‏}‏ من الترك وهو أن لا يعرض للأمر حساً أو معنى ‏{‏آل موسى وهارون‏}‏ أي وهي لوحا العهد‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي إشعار تثنية ذكر الآل ما يعلم باختصاص موسى عليه الصلاة والسلام بوصف دون هارون عليه السلام بما كان فيه من الشدة في أمر الله وباختصاص هارون عليه الصلاة والسلام بما كان فيه من اللين والاحتمال حيث لم يكن آل موسى وهارون، لأن الآل حقيقة من يبدو فيه وصف من هو آله‏.‏

وقال‏:‏ الآل أصل معناه السراب الذي تبدو فيه الأشياء البعيدة كأنه مرآة تجلو الأشياء فآل الرجل من إذا حضروا فكأنه لم يغب- انتهى‏.‏ ثم صرح بما أفهمه إسناد الإتيان إليه فقال‏:‏ ‏{‏تحمله‏}‏ من الحمل وهو ما استقل به الناقل ‏{‏الملائكة‏}‏ وما هذا بأغرب من قصة سفينة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه رضي الله تعالى عنهم فثقل عليهم متاعهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابسط كساءك، فبسطته فجعلوا فيه متاعهم فحملوه علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ احمل فإنما أنت سفينة‏!‏ قال‏:‏ فلو حملت من يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليّ» وأما مقاتلة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم في غزوة بدر فأمر شهير، كان الصحابي يكون قاصداً الكافر ليقاتله فإذا رأسه قد سقط من قبل أن يصل إليه، ولما كان هذا أمراً باهراً قال منبهاً على عظمته‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الشأن ‏{‏لآية‏}‏ أي باهرة ‏{‏لكم إن كنتم مؤمنين *‏}‏ فإن المواعظ لا تنفع غيرهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولما ضعف قبولهم عن النظر والاستبصار صار حالهم في صورة الضعف الذي يقال فيه‏:‏ إن كان كذا، فكان في إشعاره خللهم وفتنتهم إلا قليلاً- انتهى‏.‏ وفي هذه القصة توطئة لغزوة بدر وتدريب لمن كتب عليهم القتال وهو كره لهم وتأديب لهم وتهذيب وإشارة عظيمة واضحة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بما دل عليه من أمر استخلافه في الإمامة في الصلاة التي هي خلاصة هذا الدين كما أن ما في تابوت الشهادة كان خلاصة ذلك الدين، وتحذير لمن لعله يخالف فيها أو يقول إنه ليس من بني هاشم ولا عبد مناف الذين هم بيت الإمامة والرئاسة ونحو ذلك مما حمى الله المؤمنين منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يأبى الله ذلك والمؤمنون» وفي توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعلام بأن أول مقصود به الأقرب منه صلى الله عليه وسلم فالأقرب، وفيها تشجيع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم فيما يندبهم إليه الصديق رضي الله عنه من قتال أهل الردة وما بعده إلى غير ذلك من الإشارات التي تقصر عنها العبارات- والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأتاهم التابوت على الصفة المذكورة فأطاعوا نبيهم فيه فملكوه وانتدبوا معه فخرج بهم إلى العدو وفصل بالجنود من محل السكن، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلما فصل‏}‏ من الفصل وهو انقطاع بعض من كل، وأصله‏:‏ فصل نفسه أو جنده- أو نحو ذلك، ولكنه كثر حذف المفعول للعلم به فصار يستعمل استعمال اللازم ‏{‏طالوت‏}‏ أي الذي ملكوه ‏{‏بالجنود‏}‏ أي التي اختارها وخرجوا للقاء من سألوا لقاءه لكفره بالله مع ما قد أحرقهم به من أنواع القهر‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وهو جمع جند وهم أتباع يكونون نجدة للمستتبع ‏{‏قال‏}‏ أي ملكهم ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه وأنتم خارجون في مرضاته ‏{‏مبتليكم بنهر‏}‏ من الماء الذي جعله سبحانه وتعالى حياة لكل شيء، فضربه مثلاً للدنيا التي من ركن إليها ذل ومن صدف عنها عز‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فأظهر الله على لسانه ما أنبأ به نبيّهم في قوله ‏{‏وزاده بسطة في العلم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 247‏]‏- انتهى‏.‏ ‏{‏فمن شرب منه‏}‏ أي ملأ بطنه ‏{‏فليس مني‏}‏ أي كمن انغمس في الدنيا فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏ كمن عزف عنها بكليته ثم تلا هذه الدرجة العلية التي قد قدمت للعناية بها بما يليها من الاقتصاد فقال مستثنياً من ‏{‏فمن شرب‏}‏‏:‏ ‏{‏إلا من اغترف‏}‏ أي تكلف الغرف ‏{‏غرفة بيده‏}‏ ففي قراءة فتح الغين إعراب عن معنى إفرادها أخذة ما أخذت من قليل أو كثير، وفي الضم إعلام بملئها، والغرف بالفتح الأخذ بكلية اليد، والغرفة الفعلة الواحدة منه، وبالضم اسم ما حوته الغرفة، فكان في المغترفين من استوفى الغرفة ومنهم من لم يستوف- قاله الحرالي وقال‏:‏ فكان فيه إيذان بتصنيفهم ثلاثة أصناف‏:‏ من لم يطعمه البتة وأولئك الذين ثبتوا وظنوا أنهم ملاقو الله، ومن شرب منهم وأولئك الذين افتتنوا وانقطعوا عن الجهاد في سبيل الله ومن اغترف غرفة وهم الذين ثبتوا وتزلزلوا حتى ثبتهم الذين لم يطعموا‏.‏ ولما كان قصص بني إسرائيل مثالاً لهذه الأمة كان مبتلى هذه الأمة بالنهر ابتلاهم بنهر الدنيا الجاري خلالها، فكانت جيوشهم بحكم هذا الإيحاء الاعتباري إذا مروا بنهر أموال الناس وبلادهم وزروعهم وأقطارهم في سبيلهم إلى غزوهم، فمن أصاب من أموال الناس ما لم ينله الإذن من الله انقطع عن ذلك الجيش ولو حضره‏.‏ فما كان في بني إسرائيل عياناً يكون وقوعه في هذه الأمة استبصاراً سترة لها وفضيحة لأولئك، ومن لم يصب منها شيئاً بتاً كان أهل ثبت ذلك الجيش الثابت المثبت، قيل لعلي رضي الله تعالى عنه‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ ما بال فرسك لم يكب بك قط‏؟‏ قال‏:‏ ما وطئت به زرع مسلم قط‏.‏ ومن أصاب ما له فيه ضرورة من منزل ينزله أو غلبة عادة تقع منه ويوده أن لا يقع فهؤلاء يقبلون التثبيت من الذين تورعوا كل الورع، فملاك هذا الدين الزهد في القلب والورع في التناول باليد، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إنما تنصرون بضعفائكم» وفي إلاحة هذا التمثيل والاعتبار أن أعظم الجيوش جيش يكون فيه من أهل الورع بعدد الثابتين من أصحاب طالوت الذين بعددهم كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد المرسلين من كثرة عدد النبيين، قال‏:‏ وفي إفراد اليد إيذان بأنها غرفة اليد اليمنى لأنها اليد الخاصة للتعريف، ففي اعتباره أن الأخذ من الدنيا إنما يكون بيد لا بيدين لاشتمال اليدين على جانبي الخير والشر- انتهى‏.‏ فعرض لهم النهر كما أخبرهم به ‏{‏فشربوا منه‏}‏ مجاوزين حد الاقتصاد ‏{‏إلاّ قليلاً منهم‏}‏ فأطاعوا فأرواهم الله وقوى قلوبهم، ومن عصى في شربه غلبه العطش وضعف عن اللقاء فبقي على شاطئ النهر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفيما يذكر أنه قرئ بالرفع وهو إخراج لهم من الشاربين بالاتباع كأن الكلام مبني عليه حيث صار تابعاً وإعرابه مما أهمله النحاة فلم يحكموه وحكمه أن ما بني على إخراج اتبع وما لم يبن على إخراجه وكأنه إنما انثنى إليه بعد مضار الكلام الأول قطع ونصب- انتهى‏.‏ وكان المعنى في النصب أنه لما استقر الفعل للكل رجع الاستثناء إلى البعض، وفي الاتباع نوى الاستثناء من الأول فصار كالمفرغ وهذه القراءة عزاها الأهوازي في كتاب الشواذ إلى الأعمش وعزاها السمين في إعرابه إلى عبد الله وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما، وعقد سيبويه رحمه الله تعالى في نحو نصف كتابه لاتباع مثل هذا باباً ترجمه بقوله‏:‏ باب ما يكون فيه إلاّ وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل، ودل عليه بأبيات كثيرة منها‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

قال كأنه قال‏:‏ وكل أخ غر الفرقدين، وسوى بين هذا وبين آية ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ بالرفع ‏{‏وغير المغضوب عليهم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 7‏]‏، وجوز في ما قام القوم إلا زبد،- بالرفع البدل والصفة، قال الرضي تمسكاً بقوله‏:‏ وكل أخ- البيت، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم» وقال السمين‏:‏ والفرق بين الوصف بإلا والوصف بغيرها أن لا يوصف بها المعارف والنكرات والظاهر والمضمر، وقال بعضهم‏:‏ لا يوصف بها إلا النكرة والمعرفة بلام الجنس فإنه في قوة النكرة‏.‏

ولما ذكر فتنتهم بالنهر أتبعه فتنة اللقاء ببحر الجيش وما فيه من عظيم الخطر المزلزل للقلوب حثاً على سؤال العافية وتعريفاً بعظيم رتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم يوم عرض نفسه الشريفة على أهل الطائف ومسه منهم من عظيم الأذى ما مسه‏:‏ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ولكن هي أوسع لي‏!‏ فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاوزه‏}‏ أي النهر من غير شرب، من المجاوزة مفاعلة من الجواز وهو العبور من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى ‏{‏هو والذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان وجاوزوا ‏{‏معه‏}‏ وتراءت الفئتان ‏{‏قالوا‏}‏ أي معظمهم‏.‏

قال الحرالي‏:‏ رد الضمير مرداً عاماً إيذاناً بكثرة الذين اغترفوا وقلة الذين لم يطعموا كما آذن ضمير شربوا بكثرة الذين شربوا منه- انتهى‏.‏ ‏{‏لا طاقة‏}‏ مما منه الطوق وهو ما استقل به الفاعل ولم يعجزه ‏{‏لنا اليوم‏}‏ أي على ما نحن فيه من الحال ‏{‏بجالوت وجنوده‏}‏ لما هم فيه من القوة والكثرة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ففيه من نحو قولهم ‏{‏ولم يؤت سعة من المال‏}‏ اعتماداً على أن النصر بعدة مال أو قوة، وليس إلا بنصر الله، ثم قال‏:‏ فإذا نوظر هذا الإنباء منهم والطلب أي كما يأتي في ‏{‏ربنا أفرغ‏}‏ بما تولى الله من أمر هذه الأمة في جيشهم الممثول لهذا الجيش في سورة الأنفال من نحو قوله ‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏- الآيات، علم عظيم فضل الله على هذه الأمة واستشعر بما يكون لها في خاتمتها مما هو أعظم نبأ وأكمل عياناً فلله الحمد على ما أعظم من فضله ولطفه- انتهى‏.‏

ولما أخبر عنهم بهذا القول نبه على أنه لا ينبغي أن يصدر ممن يظن أن أجله مقدر لا يزيد بالجبن والإحجام ولا ينقص بالجرأة والإقدام وأنه يلقى الله فيجازيه على عمله وأن النصر من الله لا بالقوة والعدد فقال‏:‏ ‏{‏قال الذين يظنون‏}‏ أي يعلمون ولكنه عبر بالظن لما ذكر ‏{‏أنهم ملاقوا الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من الله والرجاء له الظن لأنه يوجب فرار العقل مما يظن أنه يكرهه سبحانه وتعالى إنقاذاً لنفسه من الهلاك بذلك كما أسرف هؤلاء في الشرب لظن الهلاك بعدمه ورجعوا لظن الهلاك باللقاء؛ ويجوز أن يكون الظن على بابه ويأول اللقاء بالحالة الحسنة ‏{‏كم من فئة قليلة‏}‏ كما كان في هذه الأمة في يوم بدر ‏{‏غلبت فئة كثيرة‏}‏ ثم نبه على أن سبب النصر الطاعة والذكر لله بقوله‏:‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ أي بتمكين الذي لا كفوء له، فلا ينبغي لمن علم ذلك أن يفتر عن ذكره ويرضى بقضائه‏.‏ ثم بين أن ملاك ذلك كله الصبر بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏مع الصابرين *‏}‏ ولا يخذل من كان معه‏.‏

ثم بين أنهم صدقوا قولهم قبل المباشرة بالفعل عندها فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلما قالوا لهم ذلك جمع الله كلمتهم فاعتمدوا عليه وبرزوا للقتال بين يديه‏:‏ ‏{‏ولما برزوا‏}‏ وهم على ما هم عليه من الضعف والقلة، والبروز هو الخروج عن كل شيء يوارى في براز من الأرض وهو الذي لا يكون فيه ما يتوارى فيه عن عين الناظر ‏{‏لجالوت‏}‏ اسم ملك من ملوك الكنعانيين كان بالشام في زمن بني إسرائيل ‏{‏وجنوده‏}‏ على ما هم عليه من القوة والكثرة والجرأة بالتعود بالنصر ‏{‏قالوا ربنا أفرغ‏}‏ من الإفراغ وهو السكب المفيض على كلية المسكوب عليه ‏{‏علينا صبراً‏}‏ حتى نبلغ من الضرب ما نحب في مثل هذا الموطن ‏{‏وثبت‏}‏ من التثبيت تفعيل من الثبات وهو التمكن في الموضع الذي شأنه الاستزلال ‏{‏أقدامنا‏}‏ جمع قدم وهو ما يقوم عليه الشيء ويعتمده، أي بتقوية قلوبنا حتى لا نفر وتكون ضرباتنا منكبة موجعة وأشاروا بقولهم ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين*‏}‏ موضع قولهم‏:‏ عليهم، إلى أنهم إنما يقاتلونهم لتضييعهم حقه سبحانه وتعالى لا لحظ من حظوظ النفس كما كان من معظمهم أول ما سألوا وإلى أنهم أقوياء فلا بد لهم من معونته عليهم سبحانه وتعالى، ثم رتب على ذلك النتيجة حثاً على الاقتداء بهم لنيل ما نالوا فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم‏:‏ ‏{‏فهزموهم‏}‏ مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات- قاله الحرالي، وقال‏:‏ ولم يكن فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في

‏{‏ولكن الله قتلهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ انتهى‏.‏ ‏{‏بإذن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله‏.‏ ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال‏:‏ ‏{‏وقتل داود‏}‏ وكان في جيش طالوت ‏{‏جالوت‏}‏ قال الحرالي‏:‏ مناظرة قوله ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ وكان فضل الله عليك عظيماً- انتهى‏.‏ وفي الزبور في المزمور الحادي والخمسين بعد المائة وهو آخره‏:‏ صغيراً كنت في إخوتي، حدثاً في بيت أبي، راعياً غنمه، يداي صنعتا الأرغن، وأصابعي عملت القيثار، من الآن اختارني الرب إلهي واستجاب لي وأرسل ملاكه وأخذني من غنم أبي ومسحني بدهن مسحته إخوتي حسان وأكرمني ولم يسر بهم الرب، خرجت ملتقياً الفلسطيني الجبار الغريب فدعا علي بأوثانه فرميته بثلاثة أحجار في جبهته بقوة الرب فصرعته واستللت سيفه وقطعت به رأسه ونزعت العار عن بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏وآتاه الله‏}‏ بجلاله وعظمته ‏{‏الملك‏}‏ قال الحرالي‏:‏ كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والحكمة‏}‏ تخليصاً للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود انتهى‏.‏ فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة ‏{‏وعلمه‏}‏ أي زيادة مما يحتاجان إليه ‏{‏مما يشاء‏}‏ من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك‏.‏

ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال- بانياً له على ما تقديره‏:‏ فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به-‏:‏ ‏{‏ولولا دفع الله‏}‏ المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته ‏{‏الناس‏}‏ وقرئ‏:‏ دفاع‏.‏

قال الحرالي‏:‏ فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ‏.‏

ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقاً وإيجاداً بيّن أنه لعباده كسباً ومباشرة فقال‏:‏ ‏{‏بعضهم ببعض‏}‏ فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس، وتارة ينصر ضعيفهم- كما فعل في قصة طالوت- على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائماً ‏{‏لفسدت الأرض‏}‏ بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد ‏{‏ولكن الله‏}‏ تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضاً وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو ‏{‏ذو فضل‏}‏ عظيم جداً ‏{‏على العالمين *‏}‏ أي كلهم أولاً بالإيجاد وثانياً بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة، ومما يشتد اتصاله بهذه القصة ما أسنده الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الكنى من تاريخ دمشق في ترجمة أبي عمرو بن العلاء عن الأصمعي قال‏:‏ أنشدنا أبو عمرو بن العلاء قال‏:‏ سمعت أعرابياً ينشد وقد كنت خرجت إلى ظاهر البصرة متفرجاً مما نالني من طلب الحجاج واستخفائي منه‏:‏

صبر النفس عند كل ملمّ *** إن في الصبر حيلة المحتال

لا تضيقن في الأمور فقد *** يكشف لأواؤها بغير احتيال

ربما تجزع النفوس من *** الأمر له فرجة كحل العقال

قد يصاب الجبان في آخر *** الصفّ وينجو مقارع الأبطال

فقلت ما وراءك يا أعربي‏؟‏ فقال‏:‏ مات الحجاج، فلم أدر بأيهما أفرح بموت الحجاج أو بقوله‏:‏ له فرجة‏!‏ لأني كنت أطلب شاهداً لاختياري القراءة في سورة البقرة ‏{‏إلا من اغترف غرفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏- انتهى‏.‏ ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى

‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جرياً على الآسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء، فكان خلاصة ذلك كأنه قيل‏:‏ ‏{‏ألم‏}‏ تنبيهاً للنفوس بما استأثر العليم سبحانه وتعالى بعلمه فلما ألقت الأسماع وأحضرت الأفهام قيل يا أيها الناس فلما عظم التشوف قال ‏{‏اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ثم عينه بعد وصفه بما بينه بقوله ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ كما سيجمع ذلك من غير فاصل أول سورة التوحيد آل عمران المنزلة في مجادلة أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، وتختم قصصهم بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 193‏]‏ يعني بالمنادي والله سبحانه وتعالى أعلم القائل ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏- إلى آخرها، ومما يجب التنبه له من قصتهم هذه ما فيها لأنها تدريب لمن كتب عليهم القتال وتأديب في ملاقاة الرجال من الإرشاد إلى أن أكثر حديث النفس وأمانيها الكذب لا سيما بالثبات في مزال الأقدام فتشجع الإنسان، فإذا تورّط أقبلت به على الهلع حتى لا يتمنوا لقاء العدو كما أدبهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وذلك أن بني إسرائيل مع كونهم لا يحصون كثرة سألوا نبيهم صلى الله عليه وسلم بعث ملك للجهاد، فلما بعث فخالف أغراضهم لم يفاجئوه إلا بالاعتراض، ثم لما استقر الحال بعد نصب الأدلة وإظهار الآيات ندبهم، فانتدب جيش لا يحصى كثرة، فشرط عليهم الشاب الفارغ بناء دار وبناء بامرأة، فلم يكن الموجود بالشرط إلا ثمانين ألفاً؛ ثم امتحنوا بالنهر فلم يثبت منهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر وهم دون الثلث من ثمن العشر من المتصفين بالشرط من الذين هم دون الدون من المنتدبين الذين هم دون الدون من السائلين في بعث الملك، فكان الخالصون معه، كما قال بعض الأولياء المتأخرين لآخر قصده بالزيارة‏:‏

ألم تعلم بأني صيرفيّ *** أحك الأصدقاء على محك

فمنهم بهرج لا خير فيه *** ومنهم من أجوزه بشك

وأنت الخالص الذهب المصفى *** بتزكيتي ومثلي من يزكي

وهذا سر قول الصادق عليه الصلاة والسلام «أمتي كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» وقوله صلى الله عليه وسلم «لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا» فالحاصل أنه على العاقل المعتقد جهله بالعواقب وشمول قدرة ربه أن لا يثق بنفسه في شيء من الأشياء، ولا يزال يصفها بالعجز وإن ادعت خلاف ذلك، ويتبرأ من حوله وقوته إلى حول مولاه وقوته ولا ينفك يسأله العفو والعافية‏.‏

ولما علت هذه الآيات عن أقصى ما يعرفه البصراء البلغاء من الغايات، وتجاوزت إلى حد تعجز العقول عن مناله، وتضاءل نوافذ الأفهام عن الإتيان بشيء من مثاله، نبه سبحانه وتعالى على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي الآيات المعجزات لمن شمخت أنوفهم، وتعالت في مراتب الكبر هممهم ونفوسهم؛ والإشارة إلى ما ذكر في هذه السورة ولا سيما هذه القصة من أخبار بني إسرائيل والعبارة عن ذلك في هذه الأساليب الباهرة والأفانين المعجزة القاهرة ‏{‏آيات الله‏}‏ أي الذي علت عظمته وتمت قدرته وقوته، ولما كانت الجلالة من حيث إنها اسم للذات جامعة لصفات الكمال والجمال ونعوت الجلال لفت القول إلى مظهر العظمة إشارة إلى إعجازهم عن هذا النظم بنعوت الكبر والتعالي فقال‏:‏ ‏{‏نتلوها‏}‏ أي ننزلها شيئاً في إثر شيء بما لنا من العظمة ‏{‏عليك‏}‏ تثبيتاً لدعائم الكتاب الذي هو الهدى، وتشييداً لقواعده ‏{‏بالحق‏}‏ قال الإمام سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد‏:‏ الحق الحكم المطابق للواقع، يطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ويقابله الباطل، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع‏.‏ وفي الصدق من جانب الحكم؛ فمعنى صدق الحكم مطابقته الواقع‏.‏ ومعنى حقيته مطابقة الواقع إياه- انتهى‏.‏ فمعنى الآية على هذا‏:‏ إنا عالمون بالواقع من هذه الآيات فأتينا بعبارة يطابقها ذلك الواقع لا يزيد عنها ولا ينقص، فتلك العبارة ثابتة ثبات الواقع لا يتمكن منصف عالم من إنكارها ولا إنكار شيء منها، كما لا يتمكن من إنكار الواقع المعلوم وقوعه، ويكون الخبر عنها صدقاً لأنه مطابق لذلك الواقع بغير زيادة ولا نقص؛ والحاصل أن الحق يعتبر من جانب المخبر، فإنه يأتى بعبارة يساويها الواقع فتكون حقاً، وأن الصدق يعتبر من جانب السامع، فإنه ينظر إلى الخبر، فإن وجده مطابقاً للواقع قال‏:‏ هذا صدق، وليس ببعيد أن يكون من الشواهد على ذلك هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدق به‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏ وقوله ‏{‏قال فالحق والحق أقول‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84‏]‏ ‏{‏بل جاء بالحق وصدق المرسلين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 37‏]‏ و‏{‏هو الحق مصدقاً لما بين يديه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏، وكذا ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 85‏]‏ أي أن هذا الفعل وهو خلقنا لها لسنا متعدين فيه، وهذ الواقع يطابق خلقها لا يزيد عليه بمعنى أنه كان علينا أن نزيد فيها شيئاً وليس لنا الاقتصار على ما وجد ولا ننقص عنه بمعنى أنه كان علينا أن نجعلها ناقصة عما هي عليه ولم يكن لنا إتمامها هكذا؛ أو بالحق الذي هو قدرتنا واختيارنا لا كما يدعيه الفلاسفة من الفعل بالذات من غير اختيار‏:‏ أو بسبب الحق أي إقامته وإثباته وإبطال الباطل ونفيه، وقوله

‏{‏وآتيناك بالحق وإنا لصادقون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 64‏]‏ أي أتيناك بالخبر بعذابهم وهو ثابت، لأن مضمونه إذا وقع فنسبتَه إلى الخبر علمت مطابقته له أي مطابقة الواقع إياه وإخبارنا عنه على ما هو به فنحن صادقون فيه، أي نسبنا وقوع العذاب إليهم نسبة تطابق الواقع فإذا وقع نظرت إلى إخبارنا فرأيته مطابقاً له فعلمت صدقنا فيه؛ والذي لا يدع في ذلك لبساً قوله سبحانه وتعالى حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏قد جعلها ربي حقاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ أتى بمطابقة الواقع لتأويلها، وأما صدقه صلى الله عليه وسلم فهو بنسبة الخبر إلى الواقع وهو أنه رأى ما أخبر به وذلك موجود من حين إخباره صلى الله عليه وسلم فإن خبره كان حين إخباره به مطابقاً للواقع، وأما صدق الرؤيا فباعتبار أنه كان لها واقع طابقه تأويلها؛ فإن قيل‏:‏ تأسيس المفاعلة أن تكون بين اثنين فصاعداً يفعل أحدهما بالآخر ما يفعل الآخر به، فهب أنّا اعتبرنا المطابقة من جانب واحد فذلك لا ينفي اعتبارها من الجانب الآخر فماذا يغني ما ادعيته، قيل إنها وإن كان لا بد فيها من مراعاة الجانبين لكنها تفهم أن الذي أسند إليه الفعل هو الطالب، بخلاف باب التفاعل فإنه لا دلالة لفعله على ذلك، وجملة الأمر أن الواقع أحق باسم الحق لأنه الثابت والخبر أحق باسم الصدق، والواقع طالب لخبر يطابقه ليعرف على ما هو عليه والخبر طالب لمطابقة الواقع له فيكتسب الشرف بتسميته صدقاً‏.‏ وأول ثابت في نفس الأمر هو الواقع فإنه قبل الخبر عنه بأنه وقع، فإذا كان مبدأ الطلب من الواقع سمي الخبر باسمه، إذا كان مبدأ الطلب من الخبر سمي باسمه الحقيق به، ولعلك إذا اعتبرت آيات الكتاب الناطق بالصواب وجدتها كلها على هذا الأسلوب- والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏ ولما ثبت أن التلاوة عليه صلى الله عليه وسلم حق قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإنك‏}‏ أي والحال أنك ‏{‏لمن المرسلين *‏}‏ بما دلت هذه الآيات عليه من علمك بها من غير معلم من البشر ثم بإعجازها الباقي على مدى الدهر‏.‏