فصل: تفسير الآيات رقم (26- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما عم الرسل جامعاً لهم في البينات، فكان السامع جديراً بأن يتوقع التعيين، وخص من بينهم من أولي العزم أبوين جامعين في الذرية والرسالة، لأن ذلك أنسب لمقصود السورة لتبيين فضل محمد صلى الله عليه وسلم الذي عم برسالته عموماً لم يكن لأحد غيره، فنوح عليه السلام أرسل لأهل الأرض لكونهم كانوا على لسان واحد، وعموم إبراهيم عليه السلام بأولاده عليهم السلام ونص بعدهما على عيسى عليه السلام بما له من عموم الرسالة إلى بني إسرائيل بالنسخ والتشريع، ثم من نزوله في هذه الأمة بالتقرير والتجديد فقالك ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من صفات الكمال والجمال والجلال ‏{‏نوحاً‏}‏ الأب الثاني، وجعلنا الأغلب على رسالته مظهر الجلال ‏{‏وإبراهيم‏}‏ أبا العرب والروم وبني إسرائيل الذي أكثر الأنبياء من نسله، وجعلنا الأغلب على رسالته مجلى الإكرام ‏{‏وجعلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏في ذريتهما النبوة‏}‏ المقتضية للوصلة بالملك الأعظم لتنفيذ الأوامر ‏{‏والكتاب‏}‏ الجامع للأحكام الضابط للشرائع بأن استنبأنا بعض ذريتهما وأنزلنا إليهم الكتب فلا يوجد نبي ولا كتاب إلا وهو مدلٍ إليهما بأمتن الأسباب وأعظم الأنساب‏.‏

ولما كان مظهر العظمة مقتضياً لإشقاء من أريد إشقاؤه مع عدم المبالاة به، كائناً من كان، سواء اتصل بالأولياء أو الأعداء لئلا يأمن أحد فيقع في الخسران أو ييأس أحد فيلزم الهوان قال‏:‏ ‏{‏فمنهم‏}‏ أي ذرية هذين الصنفين ‏{‏مهتد‏}‏ هو بعين الرضا منا- وهو من لزم طريق الأصفياء واستمسك بعهدهم ولم يزغ أصلاً وإن كان من أولاد الأعداء‏.‏

ولما كان من زاغ بعد تذكيره بالكتب والرسل، كان مستحقاً للمبالغة في الذم ولو أنه واحد فكيف إذا كان كثيراً، نبه بتغيير السياق على ذلك وعلى أن الأغلب الضلال فقال‏:‏ ‏{‏وكثير منهم‏}‏ أي الذرية الموصوفين ‏{‏فاسقون *‏}‏ هم بعين السخط وإن كانوا أولاد الأصفياء وهم من خالف الأولياء بمنابذة أو ابتداع أو زيغ عن سبيلهم بما لم ينهجوه من تفريظ وإفراط‏.‏

ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق صلى الله عليه وسلم، قال مشيراً إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي‏:‏ ‏{‏ثم قفينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه ‏{‏على آثارهم‏}‏ أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل، ولا يعود الضمير على ‏{‏الذرية‏}‏ لأنها باقية مع الرسل وبعدهم ‏{‏برسلنا‏}‏ أي فأرسلناهم واحداً في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه، فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه- فهو مقف له لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا صلى الله عليه وسلم أعرق الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه‏.‏

ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشريعته والمؤيد به هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم في تجديد دينه وتقرير شريعته، وكان الزهد والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبهة سابقاً على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال‏:‏ ‏{‏وقفينا‏}‏ أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس ‏{‏بعيسى ابن مريم‏}‏ وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم ‏{‏وآتيناه‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏الإنجيل *‏}‏ كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبيناً للقيامة مبشراً بالنبي العربي موضحاً لأمره مكثراً من ذكره ‏{‏وجعلنا‏}‏ لعزتنا ‏{‏في قلوب الذين اتبعوه‏}‏ أي بغاية جهدهم، فكانوا على مناهجه ‏{‏رأفة‏}‏ أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم ‏{‏ورحمة‏}‏ أي رقة وعطفاً من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في ‏{‏رؤف رحيم‏}‏ كما قاله بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال ‏{‏ورهبانية‏}‏ أي أموراً حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس‏.‏

ولم قدم المعمول لفعل غير مذكور ليدل عليه بما يفسره ليكون مذكوراً مرتين تأكيداً له إفهاماً لذم نفس الابتداع، أتبعه المفسر لعامله فقال‏:‏ ‏{‏ابتدعوها‏}‏ أي حملوا أنفسهم على عملها والتطويق بها من غير أن يكون لهم فيها سلف يعلمونه أو يكون بما صرح به كتابه وإن كانت مقاصده لا تأباها فاعتزلوا لأجلها الناس، وانقطعوا في الجبال على الاستئناس، وكانت لهم بذلك أخبار شائعة في النواحي والأمصار، وفي التقديم على العامل سر آخر وهو الصلاحية للعطف على ما قبلها لئلا يتوهم في لفظ الابتداع أن لا صنع لله فيها ‏{‏ما كتبناها‏}‏ أي فرضناها بعظمتنا ‏{‏عليهم‏}‏ في كتابهم ولا على لسان رسولهم ‏{‏إلا‏}‏ أي لكن ابتدعوها ‏{‏ابتغاء‏}‏ أي لأجل تكليفهم أنفسهم الوقوع بغاية الاجتهاد في تصفية القلوب وتهذيب النفوس وتزكية الأعمال على ‏{‏رضوان الله‏}‏ أي الرضا العظيم من الملك الأعظم، وساق المنقطع مساق المتصل إشارة إلى أنه مما يرضي الله، وأنه ما ترك فرضها عليهم إلا رحمة لهم لأجل صعوبتها، وأنه صيرها بعد إلزامهم بها كالمكتوبة، فيكون التقدير حينئذ‏:‏ إلا لأجل أن يبتغوا رضوانه على وجه الثبات والدوام، قال الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المصري في كتابه «فتوح مصر والمغرب»‏:‏ فلما أن أغرق الله عز وجل فرعون وجنوده كما حدثنا هانئ بن المتوكل عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن تبيع قال‏:‏ استأذن الذين كانوا آمنوا من السحرة لموسى عليه السلام في الرجوع إلى أهله وماله بمصر فأذن لهم ودعا لهم فترهبوا مع رؤوس الجبال، فكانوا أول من ترهب، وكان يقال لهم الشيعة، وبقيت طائفة منهم مع موسى عليه السلام حتى توفاه الله عز وجل، ثم انقطعت الرهبانية بعدهم حتى ابتدعها بعد ذلك أصحاب المسيح عليه السلام‏.‏

ولما تسبب عن صعوبتها أنهم أضاعوها بالتقصير عن شؤونها والسفول عن عليائها قال‏:‏ ‏{‏فما رعوها‏}‏ أي حفظوها كلهم بحفظ من هو مرتاع من خوف ضياعها ‏{‏حق رعايتها‏}‏ بصون العناية في رعاية الأعمال والأحوال والأقوال، فصون الأعمال توفيرها لتحقيرها من غير التفات إليها، ورعاية الأحوال عند الاجتهاد من أتاه والحال دعوى، ورعاية الوقت الوقوف مع حضور على بساط شهود الجلال- ذكره الرازي‏.‏ بل غلبت عليهم صفات البشر فقصر بعضهم عن عالي مداها، وانحطوا عن شامخ ذراها، هذا تنفير عظيم عن البدع، وحث شديد على لزوم ما سنه الله وشرع، وتحذير من التشديد، فإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه وهو الترحال إلى البدعة ولهذا أكثر في أهل الرهبانية المروق من الدين بالاتحاد والحلول وغير ذلك من البلايا ولو كان يظهر أن التشديد والتعمق خير لأن الشارع الذي أحاط علماً بما لم يحط به نهى عنه، وقد أفادت التجربة أنه قد يغر لأن هؤلاء ابتدعوا ما أرادوا الخير، فكان داعياً لكثير منهم إلى دار البوار، وفيه أيضاً حث عظيم على المداومة على ما اعتيد من الأعمال الصالحة خصوصاً، ما عمل النبي صلى الله عليه وسلم عملاً إلا دوام عليه، وكان ينهى عن التعمق في الدين، ويأمر بالرفق والقصد‏.‏

ولما كانت متابعة النفس في التقصير بالإفراط قد توصل إلى المروق من الدين فيوجب الكفر فيحط على الهلاك كله، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فآتينا‏}‏ أي بما لنا من صفات الكمال ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي استمروا على الإيمان الكامل، ولعل في التعبير بالماضي بعد إرادة التعميم للأدنى والأعلى إشارة إلى إن المتعمق بين إيمان وكفر لا تجرد معصيته كما أشار إليه ختم الآية فهو في غاية الذم للتعمق والمدح للاقتصاد ‏{‏منهم‏}‏ أي من هؤلاء المبتدعين لأنهم رعوها حق رعايتها ووصلوا إيمانهم بعيسى ومن قبله عليهم الصلاة والسلام بإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إليه الخروج عن النفس الذي هو روح الرهبانية بموافقتهم لما في كتابهم من البشائر به ‏{‏أجرهم‏}‏ أي اللائق بهم وهو الرضوان المضاعف‏.‏

ولما كانت متابعة الأهواء تكسب صفات ذميمة تصير ملكات راسخة للأنفس، أشار إلى ذلك بالعدول عن النهج الأول فقال‏:‏ ‏{‏وكثير منهم‏}‏ أي هؤلاء الذين ابتدعوا فضيعوا ‏{‏فاسقون *‏}‏ أي عريقون في وصف الخروج عن الحدود التي حدها الله تعالى، روى البغوي من طريق الثعلبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من آمن بي فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون» انتهى‏.‏ ومثل هذه الرهبانية في أنها لا تأباها قواعد الدين ما يفهمه بعض العلماء من الكتاب والسنة فيتذكره، فيكون أخذنا له من الأصول التي نبه عليها لا منه، كما أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يفعلون أشياء فإن قررهم النبي صلى الله عليه وسلم كانت شرعاً لنا وكنا آخذين لها من تفسيره صلى الله عليه وسلم لا منهم، فإن من ملكه الله رتبة الاجتهاد في شيء وأمكنه فيه من القواعد فأداه اجتهاده إلى أن هذا مندوب إليه مرغوب فيه مثلاً، كان ذلك بما يشهد له من قواعد الدين بمنزلة ما قاله الصحابة رضي الله عنهم فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين أن يقرره النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أو بقواعد شريعته، ومهما كان مقرراً بقواعد شرعه كان عليه أمره، ومهما لم يكن مقرراً بها كان مما ليس عليه أمره فهو رد على قائله، فهذا فرق بين البدع الحسنة والبدع القبيحة- والله الموفق، وذكر ابن برجان تنزيل هذا الحديث الذي فيه «لتتبعن سنن من كان قبلكم» فذكر أن أصحاب عيسى عليه السلام عملوا بعده بالإنجيل حتى قام فيهم ملك بدل كتابهم، وشايعه على ذلك روم ويونان، فضعف أهل الإيمان، فاستذلوهم حتى هربوا إلى البراري، وعملوا الصوامع وابتدعوا الرهبانية، وكذلك كان في هذه لتصديق الحديث الشريف فإنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه خلفاؤه بإحسان، فلما مضت الخلافة الراشدة تراكمت الفتن كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد البلاء على المتمسكين بصريح الإيمان، ورجم البيت العتيق بحجارة المنجنيق وهدم، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما واستبيحت مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، وقتل خيار من فيها فرأى المسلمون العزلة واجبة، فلزموا الزوايا والمساجد وابتنوا الروابط على سواحل البحر وأخذوا في الجهاد للعدو والنفوس، وعالجوا تصفية أخلاقهم ولزموا الفقر أخذاً من أحوال أهل الصفة، وتسموا بالصوفية وتكلموا على الورع والصدق والمنازل والأحوال والمقامات فهؤلاء وزان أولئك- والله الموفق‏.‏

ذكر ما في الإنجيل ما من الحكم التي توجب الزهد في الدنيا والإقبال على الله التي يصح تمسك أهل هذه الرهبانية بها‏:‏ قال متى وغيره وأغلب السياق لمتى‏:‏ إن أخطأ عليك أخوك فاذهب أعتبه وحدكما، فإن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك واحداً أو اثنين، لأن من فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة، وإن لم يسمع منهم فقل للبيعة، فإن لم يسمع من البيعة فيكون عندك كالوثني والعشار، الحق أقول لكم، وقال لوقا‏:‏ انظروا الآن إن أخطأ إليك أخوك فانهه، فإن تاب فاغفر له، فإن أخطأ إليك سبع دفعات في اليوم ورجع إليك سبع دفعات يقول لك‏:‏ أنا تائب، فاغفر له، وقال متى‏:‏ حينئذ جاء إليه بطرس وقال له‏:‏ إذا أخطأ إليّ أخي لم أغفر له سبع مرات، قال‏:‏ ليس أقول لك إلى سبع مرات، بل إلى سبعين مرة، ولهذا يشبه ملكوت السماوات ملكاً أراد أن يحاسب عبيده، فلما بدأ بمحاسبتهم قدم إليه عبد مديون عليه جملة وزنات، ولم يكن معه ما يوفي، فأمر سيده أن تباع امرأته وبنوه وكل ما له حتى يوفي، فخر ذلك العبد له ساجداً قائلاً‏:‏ يا رب، ترأف عليّ تأن، أوفك كل مالك، فتحنن عليه سيده وترك له كل ما عليه، فخرج ذلك العبد فوجد عبداً من أصدقائه عليه مائة دينار فأمسكه وخنقه وقال‏:‏ أعطني ما عليك، فخر ذلك العبد على رجليه وطلب إليه قائلاً‏:‏ ترأف عليّ فأنا أعطيك مالك، فأبى ومضى ورتكه في السجن حتى يوفي الدين، فرأى العبد أصحابه فحزنوا عليه جداً وأعلموا سيده بكل ما كان منه، حينئذ دعاه سيده وقال له‏:‏ أيها العبد الشرير‏!‏ كل ما كان عليك تركت بذلك لأنك سألتني، ما كان ينبغي لك أن ترحكم ذلك العبد صاحبك كرحمتي إياك، وغضب سيده ودفعه إلى المعذبين حتى يوفي جميع ما عليه، هكذا أبي السماوي يصنع بكم إن لم تغفروا لإخوانكم سيئاتهم من كل قلوبكم، فلما أكمل يسوع هذا الكلام انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم يهود عبر الأردن فتبعه جمع كثير فأبرأهم هناك، قال لوقا‏:‏ فلما أكمل أيام صعوده أقبل بوجهه إلى يروشليم، وأرسل مخبرين قدام وجهه فمضوا ودخلوا قرية السامرة، لكيما يعدوا له فلم يقبلوه فقال تلميذاه يعقوب ويوحنا‏:‏ يا رب تريد أن نقول فتنزل عليهم نار من السماء فتهلكهم كما فعل إليا، فالتفت فنهرهما قائلاً‏:‏ لستما تعرفان أي روح أنتما، إن ابن البشر لم يأت ليهلك نفوس الناس بل يحيي، ومضى إلى قرية أخرى، وقال متى‏:‏ حينئذ قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم ويباركهم فنهرهم التلاميذ فقال لهم يسوع‏:‏ جعوا الصبيان ولا تمنعوهم أن يأتوا إليّ لأن ملكوت السماوات لمثل هؤلاء، ووضع يده عليهم وبارك لهم، وقال مرقس‏:‏ الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، واحتضنهم ووضع يده عليهم وباركهم، وقال متى‏:‏ ومضى من هناك وجاء إليه واحد وقال‏:‏ يا معلم صالح- وقال مرقس‏:‏ أيها الملعم الصالح- ما أعمل من الصلاح لأرث الحياة الدائمة، قال له‏:‏ لماذا تقول‏:‏ صالح، ولا صالح إلا الله الواحد، إن كنت تريد أن تدخل الحياة احفظ الوصايا، قال له‏:‏ وما هي‏؟‏ قال يسوع‏:‏ لا تقتل ولا تسرق ولا تزن ولا تشهد الزور، وقال مرقس‏:‏ لا تجر، أكرم أباك وأمك- حب قريبك مثلك، قال له الشاب‏:‏ كل هذا قد حفظته من صغري، قال له يسوع‏:‏ إن كنت تريد أن تكون كاملاً فاذهب، وقال مرقس‏:‏ فنظر إليه يسوع وأحبه، وقال‏:‏ تريد أن تكون كاملاً، واحدة بقيت عليك‏:‏ امض وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين ليكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني، فلما سمع الشاب الكلام مضى حزيناً لأنه كان له مال كثير، فقال يسوع لتلامذته‏:‏ الحق أقول لكم‏!‏ إنه يعسر على الغني الدخول إلى ملكوت السماء، وأيضاً أقول لكم‏:‏ إنه أسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من غني يدخل ملكوت السماوات، فلما سمع التلاميذ بهتوا جداً وقالوا‏:‏ من يقدر أن يخلص، فنظر يسوع وقال لهم‏:‏ أما عند الناس فلا يستطاع هذا، وأما عند الله فكل يستطاع، حينئذ أجاب بطرس وقال له‏:‏ هو ذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا عسى أن يكون لنا، قال لهم يسوع‏:‏ الحق والحق أقول لكم‏!‏ أنتم الذين اتبعتموني في الجبل الآتي إذا جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم على اثني عشر كرسياً، تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، كل ما ترك بنين أو أخاً أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو بيتاً أو حقلاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث حياة الأبد، وقال لوقا‏:‏ ما من أحد ترك منزلاً أو والدين أو إخوة أو امرأة أو مالاً من أجل ملكوت الله إلا وينال العوض أضعافاً كثيرة في هذا الزمان وفي الدهر الآتي حياة الأبد، وقال متى وغيره‏:‏ كثيراً أولون يصيرون آخرين‏:‏ وأخرون يصيرون أولين، يشبه ملكوت السماوات إنساناً رب بيت خرج الغداة ليستأجر فعله لكرمه، فشارك الأكرة على دينار واحد في اليوم- إلى آخر ما مضى في الأعراف من البشارة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم في مثل الفعلة في الكرم الذي فضل آخرهم وهو العامل قليلاً على من عمل أكثر النهار وقد ساقه ابن برجان في آخر تفسير سورة الحديد عن الإنجيل بعبارة أخرى تفسيراً كثيراً من عبارة النسخة التي نقلت ذاك منها، فأحببت أن أذكر عبارة ابن برجان هنا تكميلاً للفائدة، قال‏:‏ وفي الكتاب الذي يذكر أنه الإنجيل‏:‏ وكثيراً يتقدم الآخرون الأولون ويكون الأولون ساقة الآخرين‏:‏ ولذلك يشبه ملكوت السماوات برجل ملي خرج في استئجار الأعوان لحفر كرم في أول النهار، وعامل كل واحد في نهاره على درهم ثم أدخلهم كرمه، فلما كان في الساعة الثالثة بصر لغيرهم في الرحاب لا شغل لهم فقال‏:‏ اذهبوا أنتم أيضاً إلى الكرم وسآمر لكم بحقوقكم، ففعلوا، ثم فعل مثل ذلك في الساعة السادسة والتاسعة، فلما كان في الساعة الإحدى عشرة وجد غيرهم وقوفاً فقال لهم‏:‏ لم وقفتم هنا طول نهاركم دون عمل‏؟‏ فقالوا له‏:‏ إنا لم يستأجرنا أحد، فقال لهم‏:‏ اذهبوا أنتم سآمر لكم بحقوقكم، فلما انقضى النهار قال لوكيله‏:‏ ادع الأعوان وأعطهم أجرتهم وابدأ بالآخرين حتى تنتهي إلى الأولين، فبدأ بالذين دخلوا في الساعة الإحدى عشرة وأعطى كل واحد منهم درهماً، قأقبل الأولون وهم الذين يرجون الزيادة، فأعطى كل واحدٍ منهم درهماً، فاستذكروا ذلك على صاحب الكرم وقالوا‏:‏ سويتنا بالذين لم يعملوا إلا ساعة من النهار في شخوصنا طول نهارنا وعذابنا بحرارته، فأجاب أحدهم وقال‏:‏ لست أظلمك يا صديق، أما عاملتني على درهم فخذ حقك وانطلق فإنه يوافقني أن أعطي الآخر كما أعطيتك، أفلا يحل لي ذلك‏؟‏ وإن كنت حسوداً فإني أنا رحيم، ومن أجل ذلك يتقدم الآخرون الأولين، ويكون الأولون ساقة الآخرين فالمدعوون كثير، والخيرون قليل، وذكر ابن برجان أن الساعة السادسة لعيسى عليه السلام وأصحابه في أول الأمر والتاسعة لمحمد صلى الله عليه وسلم والحادية عشرة لآخر الزمان- كأنه يعني ما بعد الدجال من أيام محمد صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم التي يكون فيها عيسى عليه السلام مجدداً، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيح شيئاً واحداً من العصر إلى غروب الشمس، ثم قال متى في بقية ما مضى من الإنجيل في النسخة التي نقلت منها عقب ما تقدم أنه في الأعراف‏:‏ فصعد يسوع إلى يروشليم وأخذ الاثني عشر، حينئذ جاءت إليه أم ابني زبدي- هما يعقوب ويوحنا- مع ابنيها وسجدت له، فقال لها‏:‏ ماذا تريدين‏؟‏ قالت‏:‏ أن يجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك في ملكوتك، أجاب يسوع‏:‏ أما جلوسهما عن يميني ويساري فليس لي بل للذي أعده لهم ربي، فلما سمع العشرة تقمقموا على الآخرين- وقال مرقس‏:‏ على يعقوب ويوحنا- فدعاهم يسوع وقال لهم‏:‏ أما علمتم أن رؤساء الأمم يسودونهم وعظماءهم مسلطون عليهم، ليس هكذا يكون فيكم، لكن من أراد أن يكون فيكم كبيراً فيكون لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فيكون لكم عبداً، وقال مرقس‏:‏ فيكون آخر للكل وخادماً للجميع، كذلك ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم، ويبذل نفسه فداء عن كثير، فلما خرج من أريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فسمعا أن يسوع مجتاز فصرخا قائلين‏:‏ ارحمنا يا رب يا ابن داود، فوقف يسوع ودعاهما وقال لهما‏:‏ ما تريدان أن أفعل لكما، قالا له‏:‏ يا رب، أن تفتح أعيننا، فتحنن يسوع ولمس أعينهما وللوقت أبصرت أعينهما وتبعاه، وعبارة مرقس عن ذلك‏:‏ وجاء إلى أريحا وخرج من هناك وتبعه تلاميذه وجمع كثير وإذا طيماس بن طماس الأعمى جالس يسأل عن الطريق- وقال لوقا‏:‏ يتوسل- فسمع الجمع المجتاز فسأل‏:‏ ما هذا، فأخبروه أن يسوع الناصري جاء، وقال مرقس‏:‏ فلما سمع بأن يسوع مقبل بدأ يصيح ويقول‏:‏ يا يسوع الناصري ابن داود ارحمني، فانتهروه ليسكت، فازداد صياحاً قائلاً‏:‏ يا رب يا ابن داود، ارحمني، فوقف يسوع وقال‏:‏ ادعوه، فدعي الأعمى وقالوا له‏:‏ ثق وقم فإنه يدعوك، وطرح ثوبه ونهض وجاء إلى يسوع فأجابه يسوع وقال له‏:‏ ما تريد أن أصنع بك‏؟‏ فقال له الأعمى‏:‏ يا معلم، وقال لوقا‏:‏ يا رب- أن أبصر، فقال له يسوع‏:‏ اذهب إيمان خلصك، وللوقت أبصر، وتبعه في الطريق- قال لوقا‏:‏ يمجد الله- وكان جميع الشعب الذين رأوه يسبحون الله‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ وكان بينما هو منطلق إلى يروشليم اجتاز بين السامرة والجليل، وفيما هو داخل إلى إحدى القرى استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد ورفعوا أصواتهم قائلين‏:‏ يا يسوع الملعم ارحمنا‏!‏ فنظر إليهم وقال لهم‏:‏ اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة، وفيما هم منطلقون طهروا، فلما رأى أحدهم أنه قد طهر رجع بصوت عظيم بمجد الله وخر على وجهه عند رجليه شاكراً له، وكان سامرياً، أجاب يسوع وقال‏:‏ أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة، ألم يجدوا ليرجعوا ويمجدوا الله ما خلا هذا الغريب، ثم قال له‏:‏ قم فامض، إيمانكم خلصك‏.‏

قال متى‏:‏ ولما قربوا من يروشليم وجاؤوا إلى بيت فاجي عند جبل الزيتون- وقال مرقس‏:‏ عند باب فاجي وبيت عنيا جانب طور الزيتون- قال متى‏:‏ حينئذ أرسل يسوع اثنين من تلاميذه‏:‏ وقال لهما‏:‏ اذهبا إلى القرية التي أمامكما فتجدان أتانه مربوطة وجحشاً معهما فحلاهما وائتياني بهما‏!‏ فإن قال لكما أحد شيئاً فقولا له‏:‏ إن الرب محتاج إليهما‏!‏ فهو يرسلهما للقوت، كان هذا ليتم ما قيل في النبي القائل قولوا لابنة صهيون هوذا ملكك يأتيك متواضعاً راكباً على أتانه وجحش ابن أتانة، فذهب التلميذان وصنعا كما أمرهما يسوع، فأتيا بالأتانة والجحش وتركوا ثيابهم عليهما، وجلس معهما، وجمع كثير فرشوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الشجر وفرشوها في الطريق، وعبارة مرقس عن ذلك‏:‏ تجد أن جحشاً مربوطاً لم يركبه أحد من الناس قط، فحلاه وائتيا به، فإن قال لكما أحد‏:‏ ما تفعلان بهذا‏؟‏ فقولا‏:‏ إن الرب محتاج إليه من ساعة يرسله، فذهبا ووجدا الجحش مربوطاً عند الباب خارجاً عن الطريق فحلاه فقال لهما قوم من القيام هناك‏:‏ ما تصنعان‏؟‏ فقالا لهم كما قال يسوع فتركوهما، وجاءا بالجحش إلى يسوع فألقوا عليهم ثيابهم وجلس عليهم وكثير بسطوا ثيابهم في الطريق وآخرون قطعوا أغصاناً من الحقل وفرشوها في الطريق‏.‏

قال متى‏:‏ والجمع الذي تقدمه والذي تبعوا صرخوا قائلين‏:‏ أوصنا يا ابن داود مبارك الآتي باسم الرب، قال مرقس‏:‏ ومباركة المملكة الآتية باسم الرب لأبينا داود أوصنا في العلاء، وقال لوقا‏:‏ وكان لما قرب من منحدر جبل الزيتون بدأ جمع الملأ والتلاميذ يفرحون ويسبحون الله ويمجدونه بجميع الأصوات من أجل القوات التي نظروا قائلين‏:‏ تبارك الملك الآتي باسم الرب والسلامة في السماء والمجد في العلا، وقوم من الفريسيين من بين الجمع قالوا له‏:‏ ما معلم انتهر تلاميذك، فقال لهم‏:‏ إن سكت التلاميذ نطقت الحجارة، فلما قرب نظر المدينة وبكى عليها وقال‏:‏ لو علمت في هذا اليوم ما لك فيه من السلامة، فأما الآن فإنه قد خفي عن عينيك، وسوف تأتي أيام تلقى أعداؤك معلمك ويحيطون بك ويضيقون عليك من كل موضع ويقتلونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً، وقال متى‏:‏ فلما دخل إلى يروشليم ارتجت المدينة كلها قائلين‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال الجمع‏:‏ هذا يسوع النبي الذي هو من ناصرة الجليل، فدخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارف وكراسي باعة الحمام وقال لهم‏:‏ مكتوب أن بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص‏.‏ وقال يوحنا‏:‏ فصعد يسوع إلي يروشليم فوجد في الهيكل باعة البقرة والكباش والحمام وصيارف جلوساً، فصنع محضرة من حبل وأخرج جميعهم من الهيكل فطرد البقر والخراف وبدد دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال متى‏:‏ وقدم إليه عميان وعرج في الهيكل فشفاهم، فرأى رؤساء الكهنة العجائب التي صنع والصبيان يصيحون في الهيكل ويقولون‏:‏ أوصنا يا ابن داود، مبارك الآتي باسم الرب، فتقمقموا وقالوا‏:‏ ما تسمع ما يقول هؤلاء، فقال لهم يسوع‏:‏ نعم، أما قرأتم قط أن من فم الأطفال والمرضعين أعددت سبحاً، وتركهم وخرج خارج المدينة وبات هناك في بيت هنيا وفي غد عبر إلى المدينة فجاع ونظر إلى شجرة تين على الطريق فجاء إليها فلم يجد فيها شيئاً إلا الورق، فقال لها‏:‏ لا يخرج منك ثمرة إلى الأبد، فيبست تلك الشجرة للوقت، فنظر التلاميذ وتعجبوا وقالوا‏:‏ كيف يبست التينة للوقت، أجاب يسوع وقال لهم‏:‏ الحق أقول لكم‏!‏ إن كان لكم إيمان ولا تشكون ليس مثل هذه الشجرة التين فقط تصنعون ولكن تقولون لهذا الجبل‏:‏ تعال واسقط في البحر، فيكون، وقال مرقس‏:‏ إن كان لكم إيمان بالله، لحق أقول لكم‏:‏ إن من قال لهذا الجبل‏:‏ انتقل واسقط في هذا البحر، ولا يشك في قلبه بل يصدق فيكون له الذي قال، من أجل هذا أقول لكم‏:‏ إن كل ما تسألونه في الصلاة بإيمان أنكم تنالونه فيكون لكم، وقال متى‏:‏ وكل ما تسألونه في الصلاة بإيمان تنالونه، وقال مرقس‏:‏ فقال له يوحنا، يا معلم‏!‏ رأينا واحداً يخرج الشياطين باسمك فمعناه لأنه لم يتبعنا، قال لهم يسوع‏:‏ لا تمنعوه ليس يصنع أحد قوة باسمي، ويقدر سريعاً أن يقول على الشر، كل من ليس هو عليكم فهو معكم ومن سقاكم كأس ماء باسم أبيكم المسيح الحق أقول لكم‏:‏ إن أجره لا يضيع‏.‏

وفيه مما لا يجوز إطلاقه في شرعنا إطلاق الأب على الله وإطلاق الرب على غيره بلا قيد، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك غير مرة- والله الهادي للصواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه أن الرسل دعاة للحق إلى سيدهم طوعاً أو كرهاً بالكتاب والحديد، وقرر أن السعادة كلها في اتباعهم، وأن البدع لا تأتي بخير وإن زين الشيطان أمرها وخيل أنه خير، وأن أصحاب الذي كان نسخ شريعة من قبله ابتدعوا بدعة حسنة فوكلوا إليها ففسق أكثرهم، فاقتضى ذلك إرسال من ينسخ كل شريعة تقدمته نسخاً لا زوال له لأنه لا نبي بعده ونهى عن البدع نهياً لم يتقدمه أحد إلى مثله، أنتج ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بذلك إقراراً صحيحاً بنبي مما تقدم أو بالنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي خافوا عقابه فاجعلوا بينكم وبين سخطه- لأنه الملك الأعظم- وقاية بحفظ الأدب معه ولا تأمنوا مكره، فكونوا على حذر من أن يسلبكم ما وهبكم، فاتبعوا الرسول تسلموا، وحافظوا على اتباعه لئلا تهلكوا ‏{‏وآمنوا برسوله‏}‏ أي الذي لا رسول له الآن غيره، إيماناً مضموماً إلى إيمانكم بالله فإنه لا يصح الإيمان به إلا مع الإيمان برسوله، وبأن تثبتوا على الإيمان به، وتضموا الإيمان به إلى الإيمان بمن تقدمه يا أهل الكتاب، لأن رسالته عامة، لقد نسخ جميع ما تقدمه من الأديان فإياكم أن يميلكم عنه ميل من حسد أو غيره، فبادروا إلى إجابته والزموا جميعاً حذره فلا تميلوا إلى بدعة أصلاً ‏{‏يؤتكم‏}‏ ثواباً على اتباعه ‏{‏كفلين‏}‏ أي نصيبين ضخمين ‏{‏من رحمته‏}‏ تحصيناً لكم من العذاب كما يحصن الكفل الراكب من الوقوع، وهو كساء يعقد على ظهر البعير فيلقى مقدمه على الكاهل ومؤخره على العجز، وهذا التحصين لأجل إيمانكم به صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن تقدمه مع خفة العمل ورفع الأصار وهو أعلى بالأجر من الذي عمل الخير في الجاهلية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عنه «أسلمت على ما أسلفت من خير» ودل على أن الكفلين برفع الدرجات وإفاضة خواص من الخيرات بقوله‏:‏ ‏{‏ويجعل لكم‏}‏ أي مع ذلك ‏{‏نوراً‏}‏ مجازياً في الأولى بالتوفيق للعمل من المعلوم والمعارف القلبية وحسياً في الآخرة بسبب العمل ‏{‏تمشون به‏}‏ أي مجازاً في الأولى بالتوفيق للعمل، وحقيقة في الآخرة بسبب العمل‏.‏

ولما كان الإنسان لا يخلو من نقصان، فلا يبلغ جميع ما يحق للرحمن، قال‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ أي ما فرط منكم من سهو وعمد وهزل وجد‏.‏ ولما قرر سبحانه وذلك، أتبعه التعريف بأن الغفران وما يتبعه صفة له شاملة لمن يريده فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال والعظمة والكبرياء ‏{‏غفور‏}‏ أي بليغ المحو للذنب عيناً وأثراً ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بليغ الإكرام لمن يغفر له ويوفقه للعمل بما يرضيه‏.‏

ولما كان أهل الكتاب قد تابعوا أهويتهم على بغض الأميين، وأشربت قلوبهم أن النبوة مختصة بهم لأنهم أولاد إبراهيم عليه السلام من ابنة عمه، والعرب- وإن كانوا أولاده- فإنهم من الأمة وما دروا أن كونهم من أولاده مرشح لنبوة بعضهم وكونهم من الأمة، مهيئ لعموم الرسالة لأجل عموم النسب، قال دالاً على أنهم صاروا كالبهائم لا يبصرون إلا المحسوسات معلقاً الجار ب ‏{‏آمنوا‏}‏ و‏{‏يؤتكم‏}‏ وما بعده‏:‏ ‏{‏لئلا يعلم‏}‏ أي ليعلم علماً عظيماً يثبت مضمون خبره وينتفي ضده- بما أفاده زيادة النافي ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ أي من الفريقين الذي اقتصروا على كتابهم وأنبيائهم ولم يؤمنوا بالنبي الخاتم وما أنزل ‏{‏ألا‏}‏ أي أنهم لا ‏{‏يقدرون‏}‏ أي في زمن من الأزمان ‏{‏على شيء‏}‏ أي وإن قل ‏{‏من فضل الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي خصكم بما خصكم به لا يمنع ولا بإعطائكم حيث نزع النبوة منهم ووضها في بني عمهم إسماعيل عليه السلام الذي كانوا لا يقيمون لهم وزناً فيقولون‏:‏ إنهم بنو الأمة، وإنهم أميون، وإنهم ليس عليهم منهم سبيل، وجعل النبوة التي خصكم بها عامة- كما أشار إليه ما في ابن الأمة من شمول بنسبته وانشعابه وحيث عملوا كثيراً وأعطوا قليلاً‏:‏ «اليهود من أول النهار على قيراط قيراط، والنصارى من الظهر على قيراط قيراط، وهذه الأمة من صلاة العصر على قيراطين قيراطين، فقال الفريقان‏:‏ ما لنا أكثر عملاً وأقل أجراً، قالك هل ظلمتكم من حقكم شيئاً، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ ذلك فضلي أوتيه من أشاء» وذكر ابن برجان معنى هذا الحديث- كما تقدم عنه قريباً- من الإنجيل وطبقه عليه وذكرته أنا في الأعراف، روى الإمام أحمد في مواضع من المسند والبخاري في سبعة مواضع في الصلاة والإجارة وذكر بني إسرائيل وفضائل القرآن والتوحيد، والترمذي في الأمثال- وقال‏:‏ حسن صحيح- من وجوه شتى جمعت بين ألفاظها عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مثلكم»- وفي هذه الرواية‏:‏ «مثل هذه الأمة»، وفي رواية‏:‏ «مثل أمتي» وفي رواية‏:‏ إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل، وفي رواية‏:‏ «مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استعمل عملاء»، وفي رواية‏:‏ «استأجر أجراء» فقال‏:‏ «من يعمل لي من صلاة الصبح» وفي رواية أخرى‏:‏ «من غدوة إلى نصف النهار على قيراط، ألا فعملت اليهود»- وفي رواية‏:‏ «قالت اليهود‏:‏ نحن- فعملوا، ثم قال‏:‏ من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط، ألا فعملته النصارى»، وفي رواية‏:‏ «قالت النصارى‏:‏ نحن، فعملوا، ثم قال‏:‏ من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس»

- وفي رواية‏:‏ إلى أن تغيب الشمس- «على قيراطين قيراطين، ألا فأنتم الذين عملتم»، وفي رواية‏:‏ «تعملون»، وفي رواية «وأنتم المسلمون تعملون من صلاة العصر إلى الليل»، وفي رواية «إلى مغارب»، وفي رواية‏:‏ «مغرب الشمس على قيراطين قيراطين قيراطين ألا لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى» وقالوا‏:‏ «نحن»- وفي رواية‏:‏ «ما لنا- أكثر عملاً وأقل عطاء»، وفي رواية «أجراً، قال الله تعالى هل»- وفي رواية‏:‏ «وهل- نقصتكم-» وفي رواية‏:‏ «هل ظلمتكم- من حقكم شيئاً-» وفي رواية‏:‏ «أجركم شيئاً، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فإنه»- وفي رواية‏:‏ «فإنما- هو فضل»، وفي رواية‏:‏ «فذلك فضلي أوتيه من أشاء»، وفي رواية‏:‏ «أعطيه من شئت» وفي رواية‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم على المنبر يقول‏:‏ «ألا إن بقاءكم»، وفي رواية‏:‏ «إنما بقاؤكم»، وفي رواية‏:‏ «إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم»- وفي رواية‏:‏ «فيما سلف من قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر والمغرب»- وفي رواية‏:‏ «إلى غروب الشمس»، وفي رواية‏:‏ «ألا إن مثل آجالكم في آجال الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى مغيربان»، وفي رواية‏:‏ «إلى مغرب»، وفي رواية‏:‏ «إلى مغارب الشمس، أعطي»- وفي رواية‏:‏ «أوتي- أهل التوراة التوراة، فعملوا بها حتى انتصف النهار فعجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، وأعطي»- وفي رواية‏:‏ «ثم أوتي- أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى»- وفي رواية‏:‏ «إلى- صلاة العصر»، وفي رواية «حتى صليت العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس»، وفي رواية‏:‏ «حتى غروب الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين»، وفي رواية‏:‏ «ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين»- وفي رواية‏:‏ «أهل التوراة والإنجيل- ربنا هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً»، وفي رواية‏:‏ «جزاء»، وفي رواية‏:‏ «أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطتينا قيراطاً قيراطاً، ونحن أكثر عملاً منهم، قال الله تبارك وتعالى‏:‏ هل» وفي رواية‏:‏ «فهل ظلمتكم من أجركم»- وفي رواية‏:‏ «من أجوركم- من شي‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، فقال‏:‏ فهو فضلي»، وفي رواية «فذلك فضلي، أوتيه من أشاء» وقد أخذ بعض العلماء من هذا الحديث ما قبل هذه الأمم وترك على ذلك أحوالهم فقال‏:‏ إنه دال على قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام، كان لهم الليل، فكان قوم نوح في أوله في ظلام صرف طويل لم يلح لهم شيء من تباشير الضياء ولا أمارات الصبح، ونوح عليه السلام يخبرهم به ويأمرهم بالتهيؤ له، فلذلك طال بلاؤه عليه السلام بهم، وما آمن معه إلا قليل، وأما قوم إبراهيم عليه السلام فكانوا كأنهم في أواخر الليل، قد لاحت لهم تباشير الصباح وأومضت لهم بوارق الفلاح، فلذلك آمن لوط عليه السلام وكذا سارة زوجته وأولاده منها ومن غيرها كلهم، واستمر الإسلام في أولاده والنبوة حتى جاء موسى عليه السلام، فكان وقته كما بين الصبح والظهر، فكان قومه تارة وتارة، تارة يحسبون أنهم في ضياء كيفما كانوا، فيروغون يميناً وشمالاً فيكونون كمن دخل غيراناً وكهوفاً وأسراباً ثم يخرجون منها فيرجعون إلى الضياء، فكانت غلطاتهم تارة كباراً وتارة صغاراً، وأما قوم عيسى عليه السلام فكانوا كمن هو في الظهيرة في شدة الضياء فالغلط منه لا يكون إلا عن عمى عظيم، فلذلك كان غلطهم أفظع الغلط وأفحشه- والله الموفق- ‏{‏وإن‏}‏ أي ولتعلموا أن ‏{‏الفضل‏}‏ أي الذي لا يحتاج إليه من هو عنده ‏{‏بيد الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يؤتيه من يشاء‏}‏ منهم أو من غيرهم نبوة كانت أو غيرها‏.‏

ولما كان ربما ظن ظان أنه لا يخص به إلا لأنه لا يسع جميع الناس دفع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال ‏{‏ذو الفضل العظيم *‏}‏ أي مالكه ملكاً لا ينفك عنه ولا ملك لأحد فيه معه ولا تصرف بوجه أصلاً، فلذلك يخص من يشاء بما يشاء، فلا يقدر أحد على اعتراض بوجه، فقد نزه له التنزيه الأعظم جميع ما في السماوات والأرض فهو العزيز الحكيم الذي لا عزيز غيره ولا حكيم سواه، فقد انطبق كما ترى آخرها على أولها، ورجع مفصلها على موصلها- والله الهادي للصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

لما ختمت الحديد بعث إثبات عجز الخلق بعظيم الفضل له سبحانه، وكان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم، وكان قد تقدم ابتداع بعض المتعبدين من الرهبانية بما لم يصرح لهم بالإذن فيه، فكان سبباً للتضييع، وكان الظهار على نوعين‏:‏ موقت ومطلق، وكان الموقت مما يدخل في الرهبانية لأنه من التبتل وتحريم ما أحل الله من الطيبات، وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم قد منع نفسه بالموقت منه من مرغوبها مما لم يأت عن الله، فظاهر من امرأته محافظة على كمال التعبد خوفاً من الجماع في نهار رمضان، وكان ذلك مما لم يأذن به بل نهى عنه كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط على سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» وكان بعض الصحابة- رضي الله عنهم أجمعين- قد ظاهر مطلقاً فشكت امرأته ما لحقها من الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهتفت باسم الله، وكان علمه سبحانه بخصوص شكاية هذه المرأة المسكينة وإزالة ضررها بحكم عام لها ولغيرها من عباده حتى صارت واقعتها رخصة عامة للمسلمين إلى يوم القيامة معلماً بأنه ذو الفضل العظيم، وأنه الظاهر الباطن، ذو الملك كله، وكان قد أمر بالإيمان به وبرسوله ووعد على ذلك بالنور، كان السامع لذلك جديراً بتوقع البيان الذي هو النور في هذه الرهبانية التي ابتدعت في هذه الأمة، وتخفيف الشديد الذي وقع عن بعضهم ليعلم أهل الكتاب ما لهذه الأمة من الكرامة على ربها وأنه يختص برحمته من يشاء فقال‏:‏ ‏{‏قد سمع الله‏}‏ أي أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات ‏{‏قول‏}‏ وعبر بالوصف دون الاسم تعريفاً برحمته الشاملة فقال‏:‏ ‏{‏التي تجادلك‏}‏ أي تبالغ في أن تقبلك إلى مرادها ‏{‏في زوجها‏}‏ أي في الأمر المخلص له من ظهاره رحمة لها ‏{‏وتشتكي‏}‏ أي تتعمد بتلك المجادلة الشكوى، منتهية ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علماً، ولصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله كانت هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم متوقعين أن الله يكشف ضرها ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الذي وسعت رحمته كل شيء لأنه له الأمر كله ‏{‏يسمع تحاوركما‏}‏ أي مراجعتكما التي يحور- أي يرجع فيها إلى كل منكما جواب كلامه من الآخر كأنها لثقل ما قدح في أمرها ونزل من ضرها ناشئة عن حيرة‏.‏

ولما كان ذلك في غاية ما يكون من خرق العادة بحيث إن الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت عند نزول الآية‏:‏ «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت ما أسمع كثيراً مما تقول» أكده تنبيهاً على شدة غرابته ولأنه ربما استبعده من اشتد جهله لعراقته في التقيد بالعادات فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ‏{‏سميع بصير *‏}‏ أي بالغ السمع لكل مسموع، والبصر لكل ما يبصر والعلم لكل ما يصح أن يعلم أزلاً وأبداً، وقد مضى نحو هذا التناسب في المائدة حين أتبع تعالى آية القسيسين والرهبان قوله تعالى ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ غير أن هذا خاص وذاك عام، فهذا فرد منه، فالمناسبة واحدة لأن الأخص في ضمن الأعم، والحاصل أنه سبحانه امتنَّ عليهم بما جعل في قلوبهم من الرهبانية وغيرها، وأخبر أنهم لم يوفوها حقها، وأنه آتى مؤمنيهم الأجر، وأمر المسلمين بالتقوى واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ليحصل لهم من فضله العظيم ضعف ما حصل لأهل الكتاب، ونهاهم عن التشديد على أنفسهم بالرهبانية، فصاروا مفضلين من وجهين‏:‏ كثرة الأجر وخفة العمل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء- والله أعلم، روى البزار من طريق خصيف عن عطاء من غيرهما أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني ظاهرت من امرأتي ورأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر، قال «كفِّر ولا تعد» وروى أبو داود عن عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال‏:‏ «ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال‏:‏ رأيت بياض ساقيها في القمر، قال‏:‏ فاعتزلها حتى تكفر عنك» قال المنذري‏:‏ وأخرجه أيضاً عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وأخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي- وقال‏:‏ حديث حسن غريب صحيح- وقال النسائي‏:‏ المرسل أولى بالصواب من المسند، وقال أبو بكر المعافري‏:‏ ليس في الظهار حديث صحيح يعول عليه، قال المنذري‏:‏ وفيما قاله نظر، فقد صححه الترمذي كما ترى، ورجال إسناده ثقات، وسماع بعضهم من بعض مشهور، وترجمة عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم احتج بها البخاري في غير موضع- انتهى‏.‏ وللترمذي- وقال حسن غريب- عن سلمة بن صخر رضي الله عنه في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال‏:‏ «كفّار واحدة»

«وروى أحمد والحاكم وأصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، قال ابن الملقن‏:‏ وصححه ابن حبان والحاكم- من طريق سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال‏:‏ كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئاً يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة تكشف لي منها شيء فما لبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت‏:‏ امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا‏:‏ لا والله‏:‏ فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال» أنت بذاك يا سلمة‏؟‏ قلت‏:‏ أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيّ بما أراك الله، وفي رواية‏:‏ فأمض فيَّ حكم الله فإني صابر لذلك، قال حرر رقبة‏.‏ قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها- وضربت صفحة رقبتي، قال‏:‏ فصم شهرين متتابعين، قلت‏:‏ وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام، قال‏:‏ فاطعم وسقاً من تمر بين ستين مسكيناً، قال‏:‏ والذي بعثك بالحق، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام، قال‏:‏ فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها «فرجعت إلى قومي فقلت‏:‏ وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وفي رواية‏:‏ والبركة وقد أمرني- أو أمر لي- بصدقتكم، وفي رواية‏:‏ فادفعوها إليّ، فدفعوها إليّ‏)‏‏.‏ وأعله عبد الحق بالانقطاع، وأن سليمان لم يدرك سلمة، حكى ذلك الترمذي عن البخاري، وقال الترمذي‏:‏ إن سلمة بن صخر يقال له سلمان أيضاً، ورواه الإمام أحمد أيضاً من طريق أخرى قال» حدثنا عبد الله بن إدريس- هو الأودي- عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال‏:‏ كنت أمرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت فتظاهرت من امرأتي في الشهر فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن وقعت عليها، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال «حرر رقبة، فقلت‏:‏ والذي بعثك بالحق، ما أملك غير رقبتي، قال‏:‏ صم شهرين متتابعين، قلت‏:‏ وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام‏؟‏ قال‏:‏ فأطعم ستين مسكيناً» وهذا سند حسن متصل إن شاء الله إن سلم من تدليس ابن إسحاق، وروى الحاكم والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن إسحاق، وروى الحاكم والبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وأبي سلمة بن عبد الرحمن

«أن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه جعل امرأته عليه كظهر أنه إن غشيها حتى يمضي رمضان، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اعتق رقبة» وقصة سلمة هذه أصل الظهار المؤقت، وقد دلت على أنه لا عود فيه لا كفارة عليه إلا بوطئها في مدة الظهار، «وروى أبو داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنها قال‏:‏» ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت رضي الله عنه فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكوا إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول‏:‏ اتقي الله فإنه ابن عمك، فما برحت حتى نزل القرآن ‏{‏قد سمع الله‏}‏ إلى الفرض، فقال‏:‏ يعتق رقبة، قالت‏:‏ لا يجد، قال‏:‏ يصوم شهرين متتابعين، قالت‏:‏ يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال فليطعم ستين مسكيناً، قالت‏:‏ ما عنده من شيء يتصدق به قالت‏:‏ فأتي ساعتئذ بعرق منّ تمر، قلت‏:‏ يا رسول الله، فإني أعينه بعرق آخر، قال‏:‏ قد أحسنت أذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكيناً، وارجعي إلى ابن عمك «قال‏:‏ والعرق ستون صاعاً، وفي رواية‏:‏ والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً،» وروى الدارقطني أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ «إن أوس بن الصامت رضي الله عنه ظاهر من امرأته خويلة بنت ثعلبة رضي الله عنها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ظاهر مني حين كبر سني ورق عظمي، فأنزل الله آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس اعتق رقبة، قال‏:‏ مالي بذلك يدان، قال‏:‏ فصم شهرين متتابعين، قال‏:‏ أما إني إذا أخطأني أن آكل في اليوم مرتين يكل بصري، قال فأطعم ستين مسكيناً»، قال‏:‏ ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً حتى جمع الله له، والله رحيم «قال‏:‏ وكانوا يرون أن عنده مثلها، وذلك لستين مسكيناً، وللدراقطني أيضاً والبيهقي» أن خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها رآها زوجها وهو أوس بن الصامت أخو عبادة رضي الله عنهما وهي تصلي فراودها فأبت فغضب، وكان به لمم وخفة فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ، فلما خلا سني ونثرت له بطني جعلني عليه كأمه «وللطبراني من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏» كانت خولة بنت ثعلبة تحت أوس بن الصامت وكان به لمم، فقال في بعض هجراته‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، قال‏:‏ ما أظنك إلا قد حرمت عليّ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أوس بن الصامت أبو ولديَّ وأحب الناس إليّ والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقاً، قال‏:‏ ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت‏:‏ يا رسول الله لا تقل كذلك والله ما ذكر طلاقاً، فرادّت النبي صلى الله عليه وسلم مراراً، ثم قالت‏:‏ اللهم إني أشكو إليك فاقتي ووحدتي وما يشق عليّ من فراقه «

الحديث، ومن طريق أبي العالية قال‏:‏ فجعل كلما قال لها «حرمت عليه» هتفت وقالت‏:‏ أشكو إلى الله، فلم ترم مكانها حتى نزلت الآية، وروى أبو داود عن هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس ابن الصامت وكان رجلاً به لمم فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من امرأته فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار، وأخرجه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها مثله‏.‏ وقال القشيري‏:‏ وفي الخبر أنها قالت‏:‏ يا سول الله إن أوساً تزوجني شابة غنية ذات أهل ومال كثير، فلما كبر عنده سني، وذهب مالي وتفرق أهلي، جعلني عليه كظهر أمه، وقد ندم وندمت، وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، يعني ففرج الله عنها، وقد حصل من هذا مسألة، وهو أن كثيراً من الأشياء ظاهر العلم يحكم فيه بشيء ثم الضرورة تغير ذلك الحكم لصاحبها، قال البغوي‏:‏ وكان هذا أول ظهار في الإسلام، وقال أبو حيان‏:‏ وكان عمر رضي الله عنه يكرم خولة رضي الله عنها إذا دخلت عليه ويقول‏:‏ سمع الله لها، فالمظاهرة في حديث سلمة رضي الله عنه ومن نحا نحوه رهبانية مبتدعة لم ترع حق رعايتها كرهبانية النصارى، ولم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداعها حق الاتباع، وأما في قصة خولة رضي الله عنها فهي مصيبة كأن ينبغي فيها التسليم وعدم الحزم كما في آية ‏{‏لكيلا تأسوا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏ الآية على أن امتناعها من زوجها حين راودها فيه إلمام بالرهبانية، وإزالة شكايتها مع أنها امرأة ضعيفة من عظيم الفضل، وزاده عظماً جعله حكماً عاماً لمن وقع فيه من جميع الأمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم، استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه، فقال ذاماً للظهار، وكاسياً له ثوب العار‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان الظهار منكراً لكونه كذباً، عبر بصيغة التفعل الدالة عليه فقال‏:‏ ‏{‏يظهرون‏}‏ أي يوجدون الظهار في أي رمضان كان وكأنه أدغم تاء التفعل والمفاعلة لأن حقيقته أنه يذهب ما أحل الله له من مجامعة زوجته‏.‏ ولما كان الظهار خاصاً بالعرب دون سائر الأمم، نبه على ذلك تهجيناً له عليهم وتقبيحاً لعادتهم فيه، تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس من هذا الكلام لأن الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية، ثم ما زاده الإسلام إلا استهجاناً فقال‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي أيها العرب المسلمون الذين يستقبحون الكذب ما لا يستقبحه غيرهم وكذا من دان دينهم ‏{‏من نسائهم‏}‏ أي يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم بأن يقول أحدهم لزوجته شيئاً من صرائحه مثل أنت عليّ كظهر أمي وكناياته كأنت أمي، وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره من حر أو عبد مسلم أو ذمي دخل بالزوجة أو لا قادراً على الجماع أو عاجزاً، صغير كانت الزوجة أو كبيرة، عاقلة كانت أم مجنونة، سليمة كانت أو رتقاء، مسلمة كانت أو ذميمة، ولو كانت رجعية‏.‏

ولما كان وجه الشبه التحريم، وكان للتحريم رتبتان‏:‏ عليا موصوفة بالتأبيد والاحترام، ودنيا خالية عن كل من الوصفين، وكان التقدير خبراً للمبتدأ‏:‏ مخطئون في ذلك لأنه كذب، لأن التشبيه إن أسقطت أداته لم يكن حمله على الحقيقة ليكون من الرتبة العليا ولو على أدنى أحوالها من أنه طلاق لا رجعة فيه، كما كانوا يعتقدونه، وإن أثبتت ليكون من الدنيا لم يكن صحيحاً لأنه ممنوع منه لأن التشريع إنما هو لله، والله لم يكن يشرع ذلك، وكان تعليل شقي التشبيه يفيد معنى الخبر بزيادة التعليل، حذف الخبر، واكتفى بالتعليل فقال معللاً له مهجناً للظهار الذي تعوده العرب من غير أن يشاركهم فيه أحد من الأمم‏:‏ ‏{‏ما هن‏}‏ أي نساؤهم ‏{‏أمهاتهم‏}‏ على تقدير إرادة أحدهم أعلى رتبتي التحريم، والحاصل أنهم لما كانوا يعتقدون أنه طلاق لا رجعة فيه جعلوا معتقدين أن المرأة أم لأن الحرمة المؤبدة من خصائص الأم فخوطبوا بذلك تقريعاً لهم لأنه أردع، وفي سورة الأحزاب ما يوضح هذا‏.‏

ولما كانوا قد مرنوا على هذا الحكم في الجاهلية، واستقر في أنفسهم استقراراً لا يزول إلا بغاية التأكيد، ساق الكلام كذلك في الشقين فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أمهاتهم‏}‏ أي حقيقة ‏{‏إلا اللاَّئي ولدنهم‏}‏ ونساؤهم لم تلدهم، فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هن ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح وكأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن أمهات لما لهن من حق الإكرام والاحترام والإعظام ما لم يكن لغيرهن لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أب النسب وكذلك المرضعات لما لهن من الإرضاع الذي هو وظيفة الأم بالأصالة، وأما الزوجة فمباينة لجميع ذلك‏.‏

ولما فرغ من تعليل الشق الأول على أتم وجه، أتبعه تعليل الآخر كذلك، فقال عاطفاً عليه مؤكداً لأنهم كانوا قد ألفوا قوله فأشربته قلوبهم‏:‏ ‏{‏وإنهم‏}‏ أي المظهرون ‏{‏ليقولون‏}‏ أي في هذا التظهر على كل حالة ‏{‏منكراً من القول‏}‏ ينكره الحقيقة والأحكام، قال ابن الملقن في عمدة المحتاج‏:‏ وهو حرام اتفاقاً كما ذكره الرافعي في الشهادات‏.‏ ‏{‏وزوراً‏}‏ أي قولاً مائلاً عن السداد، منحرفاً عن القصد، لأن الزوجة معدة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان، والأم في غاية البعد عن ذلك لأنها أهل لكل احترام، فلا هي أم حقيقة ولا شبيهة بها بأمر نصبه الشارع للاحترام كالإرضاع، وكونها فراشاً لعظيم كالنبي أو للأب أو للحرمة كاللعان، فقد علم أن ذلك الكلام ليس بصدق ولا جاء به مسوغ، فهو زور محض، وأخصر من هذا أن يقال‏:‏ ولما كان ظهارهم هذا يشتمل على فعل وقول، وكان الفعل هو التحريم الذي هو موضع وجه الشبه، وكانت العادة في وجه الشبه أن يقنع منه بأدنى ما ينطلق عليه الاسم، وكانوا قد خالفوا ذلك فجعلوه في أعلى طبقاته وهو الحرمة المؤبدة التي يلزم منها أن تكون المشابهة من كل وجه في الحرمة مع أن ذلك بغير مستند من الله تعالى الذي لا حكم لغيره، ألزمهم أن يكون الشبه من كل وجه مطلقاً ليكونوا جاعلين الزوجة إما حقيقة لا دعوى كما جعلوا الحرمتين كذلك من غير فرق بل أولى لأن الشبه إنما وقع بين الحيثيتين لا بين الحرمتين- ثم وقفهم على جهلهم فيه فقال ‏{‏ما هن‏}‏ إلى آخره، ولما وقفهم على جهلهم في الفعل وقفهم على جهلهم في القول‏:‏ فقال‏:‏ وأنهم إلى آخره، قال النووي في الروضة‏:‏ قال الأصحاب‏:‏ الظهار حرام، وله حكمان‏:‏ أحدهما تحريم الوطء إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر، والثاني وجوب الكفارة بالعود- انتهى، وهذا القول وإن أفاد التحريم فإنه يفيد لكونه ممنوعاً منه على وجه ضيق حرج المورد عسر المخرج ليكون عسره زاجراً عن الوقوع فيه، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع‏:‏ وظاهر الرجل امرأته وظاهر من امرأته إذا قال‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي أو كذاب محرم، وإنما استخصوا الظهر في الظهار لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركب الرجل في النكاح فكني به عن ذلك، فكأنه قال‏:‏ ركوبك عليّ للنكاح كركوب أمي، وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً، ولذلك أشكل معنى قوله تعالى ‏{‏ثم يعودون لما قالوا‏}‏ وقال ابن الأثير في النهاية‏:‏ ظاهر الرجل من امرأته ظهاراً وتظهر وتظاهر إذا قال لها‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي، وكان في الجاهلية طلاقاً، وقيل‏:‏ إنهم أرادوا أنت عليّ كبطن أمي أي كجماعها، فكنوا بالظهر عن البطن للمجاورة، وقيل إن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان حراماً عندهم، وكان أهل المدينة يقولون‏:‏ إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول، فلقصد الرجل المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعلها كظهر أمه، وإنما عدى الظهار ب ‏{‏من‏}‏ لأنهم كانوا إذا ظاهروا المرأة تجنبوها كما يتجنبون المطلقة ويحترزون منها، فكأن قوله‏:‏ ظاهر من امرأته، أي بعد واحترز منها كما قيل‏:‏ آلى من امرأته، لما ضمن معنى التباعد عدى ب ‏{‏من‏}‏- انتهى، قال‏:‏ وقال ابن الملقن في العمدة شرح المنهاج‏:‏ وكان طلاقاً في الجاهلية، ونقل عن صاحب الحاوي أنه عندهم لا رجعة فيه، قال‏:‏ فنقل الشارع حكمه إلى تحريم بعد العود ووجوب الكفارة- انتهى وقال أبو حيان‏:‏ قال أبو قلابة وغيره‏:‏ كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله حرمه، عطف عليه مرغباً في التوبة وداعياً إليها قوله مؤكداً لأجل ما يعتقدون من غلظه وأنه لا مثنوية فيه ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره ‏{‏لعفو‏}‏ من صفاته أن يترك عقاب من شاء ‏{‏غفور *‏}‏ من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره حتى أنه كما لا يعاقب عليه لا يعاتب، فهل من تائب طلباً للعفو عن زلله، والإصلاح لما كان من خلله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ولما هجن سبحانه الظهار، وأثبت تحريمه على أبلغ وجه وآكده، وكان ما مضت عليه العوائد لا بد أن يبقى منه بقايا، أتبع ذلك بيان حكم هذه الواقعة وما لعله يقع من نظائرها فقال‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون‏}‏ ولما كان في بيان الحكم، أسقط التقييد إعلاماً بعمومه الكفار كعمومه المسلم ليفيد تغليظ العقاب عليه لئلا يتوهم أنه يخص العرب الذين قصد تهجينه عليهم بأنهم انفرادوا به عن سائر الناس فقال‏:‏ ‏{‏من نسائهم‏}‏ بدون ‏{‏منكم‏}‏‏.‏

ولما كان مقتضى اللفظ المباعدة ممن قيل ذلك فيها، لكان إمساكها بعده ينبغي أن يكون في غاية البعد، قال مشيراً إلى ذلك بأداة البعد ‏{‏ثم يعودون‏}‏ أي بعد هذا القول ‏{‏لما قالوا‏}‏ بالفعل بأن يعاد هذا القول مرة أخرى أو بالقوة بأن يمسكوا المقول ذلك لها زمناً يمكن أن يعاد فيه هذا القول مرة ثانية من غير مفاقة بلفظ مما ناط الله الفرقة به من طلاق أو سراح أو نحوهما، فيكون المظاهر عائداً إلى هذا القول بالقوة لإمكان هذا القول في ذلك الزمن، وذلك لأن العادة قاضية بأن من قال قولاً ولم يبته وينجزه ويمضه بأن يعود إلى قوله مرة أخرى وهلم جراً، أو يكون التقدير لنقض ما قالوا‏:‏ فيحلوا ما حرموا على أنفسهم بعدم البت بالطلاق، فإن كان الظهار معلقاً لم يلزم حكمه إلا بالحنث، فإن طلق في الحال وإلا لزمته الكفارة، وحق العبارة التعبير باللام لدلالتها على الاتصال كما يقتضيه الحال بخلاف «إلى» فإنها تدل على مهلة وتراخ، هذا في الظهار المطلق، وأما الموقت بيوم أو شهر أو نحو ذلك فلا يكون عائداً فيه إلا بالوطء في الوقت المظاهر فيه، وأما مجرد إمساكها فليس بعود لأنه إنما أمسكها لما له فيها من الحل بعد وقت الظهار‏.‏

ولما كان المبتدأ الموصول مضمناً معنى الشرط، أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرر الوجوب بتكرر سببه فقال‏:‏ ‏{‏فتحرير‏}‏ أي فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير ‏{‏رقبة‏}‏ أي سليمة عن عيب يخل بالعمل كاملة الرق مقيدة أيضاً بمؤمنة لأنها قيدت بذلك في كفارة القتل، فيحمل هذا على ذاك، ولأن معاوية بن الحكم رضي الله عنه كانت له جارية فقال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عليّ رقبة أفأعتقها، فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله فأخبرته بما دل على توحيدها فقال‏:‏ من أنا‏؟‏ فقالت‏:‏ أنت رسول الله، قال‏:‏ أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مالك ومسلم، فعلل الإجزاء بالإيمان ولم يسأله عن سبب الوجوب، فدل على أنه لا فرق بين واجب وواجب، والموجب للكفارة الظهار والعود جميعاً كما أن الموجب في اليمين اليمين والحنث معاً‏.‏

ولما كان التحرير لا يستغرق زمن القبل بل يكون في بعضه، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ ولما كان المراد المس بعد المظهارة لا مطلقاً قال‏:‏ ‏{‏أن يتماسا‏}‏ أي يتجدد منهما مس وهو الجماع سواء كان ابتداء المباشرة منه أو منها بما أفادته صيغة التفاعل، وهو حرام قبل التكفير ولو كان على أدنى وجوه التماس وأخفاها بما أشار إليه الإدغام ولو كان بإيلاج الحشفة فقط مع الإنزال أو بدونه، وأما مقدمات الجماع فهي فيها كالحائض لا تحرم على الأظهر، فإن جامع عصى ولم تجب كفارة أخرى، لما روى الترمذي عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال‏:‏ «كفارة واحدة»‏.‏

ولما كان الوعظ هو الزجر عن الفعل الموعوظ لأجله، قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الزجر العظيم جد الذي هو عام لكم من غير شبهة ‏{‏توعظون به‏}‏ أي يكون بمشقة زاجراً لكم عن العود إلى مقاربة مثل ذلك فضلاً عن مقارفته لأن من حرم من أجلها الله تحريماً متأبداً على زعمه كان كأنه قد قتلها، ولكون ذلك بلفظ اخترعه وانتهك فيه حرمة أمه كان كأنه قد عصى معصية أوبق بها نفسه كلها إيباقاً أخرجه إلى أن يقتلها عضواً عضواً بإعتاق رقبة تماثل رقبته ورقبة من كان قتلها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله بما يردعكم بصير، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بالكمال، وقدم الجار إشارة إلى إرادة المبالغة للتنبيه على الاهتمام بإلزام الانتهاء‏.‏ عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي تجددون فعله ‏{‏خبير *‏}‏ أي عالم بظاهره وباطنه، فهو عالم بما يكفره، فافعلوا ما أمر الله به وقفوا عند حدوده، قال القشيري‏:‏ والظهار- وإن لم يكن له في الحقيقة أصل ولا بتصحيحه نطق ولا له شرع، بعد ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ولوح بشيء ما وقال‏:‏ إنه حكمه لا يخل الله من بيان ساق إليه شرعه فقضى فيه بما انتظم فيه الجواب ارتفاع شكواها‏.‏

ولما كانت الكفارة مرتبة، وكان المظاهر كأنه قد قتل نفسه بقتل المظاهر عنها كما مضى، فكان مفتقراً إلى ما يحيي نفسه فشرع له العتق الذي هو كالإحياء، شرع له عند العجز عنه ما يميت نفسه التي إماتتها له إحياؤها، وكان الشهران نصف المدة التي ينفخ فيها الروح، فكان صومها كنصف قتل النفس التي قتلها إحياء الروح وإنعاش العقل، فكان كأنه إماتتها فجعله سبحانه بدلاً عن القتل الذي هو كالإحياء فقال‏:‏ ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ أي الرقبة المأمور بها بأن كان فقيراً، فإن كان غنياً وماله غائب فهو واجد ‏{‏فصيام‏}‏ أي فعليه صيام ‏{‏شهرين‏}‏‏.‏ ولما كان المراد كسر النفس كما مضى، وكانت المتابعة أنكى ولذلك سمي رمضان شهر الصبر، قيد بقوله‏:‏ ‏{‏متتابعين‏}‏ أي على أكمل وجوه التتابع على حسب الإمكان بما أشار إليه الإظهار، فلو قطع التتابع بشيء ما ولو كان بنسيان النية وجب عليه الاستئناف والإغماء لا يقطع التتابع لأنه ليس في الوسع وكذا الإفطار بحيض أو نفاس أو جنون بخلاف الإفطار بسفر أو مرض أو خوف على حمل أو رضيع لأن الحيض معلوم فهو مستثنى شرعاً، وغيره مغيب للعقل- مزيل للتكليف، وأما المرض ونحوه ففيه تعمد الإفطار مع وجود العقل‏.‏

ولما كان الإمساك عن المسيس قد يكون أوسع من الشهرين، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ وحل المصدر إفادة لمن يكون بعد المظاهرة فقال‏:‏ ‏{‏أن يتماسا‏}‏ فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع‏.‏ ولما كان إطعام نفس قوت نصف يوم كإماتة نفسه بالصيام يوماً قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن لم يستطع‏}‏ أي يقدر على الصيام قدرة تامة- بما أشار إليه إظهار التاء لهرم أو مرض أو شبق مفرط يهيجه الصوم ‏{‏فإطعام‏}‏ أي فعليه إطعام ‏{‏ستين مسكيناً‏}‏ لكل مسكين ما يقوته نصف يوم، وهو مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم وذلك نحو نصف قدح بالمصري، وهو ملء حفنتين بكفي معتدل الخلق من غالب قوت البلد، وهو كما في الفطرة سواء، وحذف قيد المماسة لذكره في الأولين، ولعل الحكمة في تخصيص هذا به أن ذكره في أول الخصال لا بد منه، وإعادته في الثاني لطول مدته فالصبر عنه فيها مشقة، وهذا يمكن أن يفعل في لحظة لطيفة لا مشقة للصبر فيها عن المماسة، هذا إذا عاد، فإن وصل الظهار بالطلاق أو مات أحدهما في الحال قبل إمكان الطلاق فلا كفارة، قال البغوي‏:‏ لأن العود في القول هو المخالفة، وفسر ابن عباس رضي الله عنهما العود بالندم فقال‏:‏ يندمون ويرجعون إلى الألفة، وهذا يدل على ما قال الشافعي رضي الله عنه‏:‏ فإن ظاهر عن الرجعية انعقد ظهاره فإن راجعها لزمته الكفارة لأن الرجعة عود‏.‏

ولما ذكر الحكم، بين علته ترغيباً فيه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان ‏{‏لتؤمنوا‏}‏ أي وهذا الفعل العظيم الشاق ليتجدد إيمانكم ويتحقق وجوده ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوه بالانسلاخ من فعل الجاهلية ‏{‏ورسوله‏}‏ الذي تعظيمه من تعظيمه وقد بعث بملة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فلو ترك هذا الحكم الشديد على ما كان عليه في الجاهلية لكان مشككاً في البعث بتلك الملة السمحة‏.‏

ولما رغب في هذا الحكم، رهب من التهاون به فقال‏:‏ ‏{‏وتلك‏}‏ أي هذه الأفعال المزكية وكل ما سلف من أمثالها في هذا الكتاب الأعظم ‏{‏حدود الله‏}‏ أي أوامر الملك الأعظم ونواهيه وأحكامه التي يجب امتثالها والتقيد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعتدوها فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدى نقضه أو إبرامه‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فللمؤمنين بها جنات النعيم، عطف عليه قوله ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه ‏{‏عذاب أليم *‏}‏ بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما ذكر حدوده، ولوح بالعطف على غير معطوف عليه إلى بشارة حافظها، وصرح بتهديد متجاوزيها أتبع ذلك تفصيل عذابهم الذي منه بشارة المؤمنين بالنصر عليهم، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يغلبوا على كثرتهم وقوتهم وضعف حزبه وقلتهم‏:‏ ‏{‏إن الذين يحادّون الله‏}‏ أي يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها، وذلك صورته صورة العداوة، مجددين ذلك مستمرين عليه بأي محادة كانت ولو كانت خفية- بما أشار إليه الإدغام كمحادة أهل الاتحاد الذين يتبعون المتشابه فيجرونه على ظاهره فيخلون به المحكم لتخل الشريعة بأسرها، فإن كثيراً من السورة نزل في المنافقين واليهود والمهادنين كما يأتي في النجوى وغيرها ‏{‏ورسوله‏}‏ الذي عزه من عزه ‏{‏كبتوا‏}‏ أي صرعوا وكبوا لوجوههم وكسروا وأذلوا وأخزوا فلم يظفروا وردوا بغيظهم في كل أمر يرومونه من أي كانت كان بأيسر أمر وأسهله، وعبر بالماضي إشارة إلى تحقق وقوعه والفراغ من قضائه كما فرغ مما مضى، فلا قال لتكون الدعوى مقرونة بدليلها‏:‏ ‏{‏كما كبت الذين‏}‏ ولما كان المحادون لم يستغرقوا جميع الأزمان الماضية والأماكن، أدخل الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي المحادين كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصر على العصيان، ولم ينقد لدليل ولا برهان، قال القشيري‏:‏ ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة وأحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك، ووقع في هذا الذل‏.‏

ولما استوفى المقام حظه بياناً وترغيباً وترهيباً، عطف على أول السورة أو على ما يقدر من نحو‏:‏ فقد كان لكم فيما مضى من أول الإسلام إلى هذا الأوان مما يدل على كونه سبحانه بالنصر والمعونة مع نبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم معتبر، قوله‏:‏ ‏{‏وقد أنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم ‏{‏آيات بينات‏}‏ أي دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان بترك المحادة ويحصل الإذعان‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فللمؤمنين بها نعيم مقيم في مقام أمين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وللكافرين‏}‏ أي الراسخين في الكفر بها وتغيرها من أمر الله ‏{‏عذاب مهين *‏}‏ بما تكبروا واغتروا على أولياء الله وشرائعه، يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم‏.‏

ولما ذكر عذابهم، ذكر وقته على وجه مقرر لما مضى من شمول علمه وكمال قدرته فقال‏:‏ ‏{‏يوم يبعثهم الله‏}‏ أي يكون ذلك في وقت إعادة الملك الأعظم للكافرين المصرح بهم والمؤمنين المشار إليهم أحياء كما كانوا ‏{‏جميعاً‏}‏ في حال كونهم مجتمعين في البعث‏.‏ ولمان كان لا أوجع من التبكيت بحضرة بعض الناس فكيف إذا كان بحضرتهم كلهم فكيف إذا كان بمرأى من جميع الخلائق ومسمع، سبب عن ذلك وعقب قوله‏:‏ ‏{‏فينبئهم‏}‏ أي يخبرهم إخباراً عظيماً مستقصى ‏{‏بما عملوا‏}‏ إخزاء لهم وإقامة للحجة عليهم‏.‏

ولما كان ضبط ذلك أمراً عظيماً، استأنف قوله بياناً لهوانه عليه‏:‏ ‏{‏أحصاه الله‏}‏ أي أحاط به عدداً كمّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً بما له من صفات الجلال والجمال‏.‏ ولم ذكر إحصاءه له، فكان ربما ظن أنه مما يمكن في العادة إحصاؤه، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ونسوه‏}‏ أي كلهم مجتمعين لخروجه عن الحد في الكثرة فكيف بكل واحد على انفراده ونسوا ما فيه المعاصي تهاوناً بها، وذلك عين التهاون بالله والاجتراء عليه، قال القشيري‏:‏ إذا حوسب أحد في القيامة على عمل عمله تصور له ما فعله ثم يذكر حتى كأنه في تلك الحالة قام من بساط الزلة فيقع عليه من الخجل والندم ما ينسى في جنبه كل عقوبة، فسبيل المسلم أن لا يخالف أمر مولاه ولا يحوم حوله مخالفة أمره، فإن جرى المقدور ووقع في هجنة التقصير فليكن من زلته على بال، وليتضرع إلى الله بحسن الابتهال‏.‏

ولما كان التقدير بما أرشد إليه العطف على غير مذكور‏:‏ فالله بكل شيء من ذلك وغيره عليم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي بما له من القدرة الشاملة والعلم المحيط ‏{‏على كل شيء‏}‏ على الإطلاق من غير مثنوية أصلاً ‏{‏شهيد *‏}‏ أي حفيظ حاضر لا يغيب، ورقيب لا يفعل، حفظه له ورقبه وحضوره إياه مستعل عليه قاهر له بإحاطة قهره بكل شيء ليمكن حفظه له على أتم وجه يريده‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما نزه سبحانه نفسه عن تقول الملحدين، وأعلم أن العالم بأسره ينزهه عن ذلك بألسنة أحوالهم لشهادة العوالم على أنفسها بافتقارها لحكيم أوجدها، لا يمكن أن يشبه شيئاً منها بل يتنزه من أوصافها ويتقدس عن سماتها، فقال ‏{‏سبح لله ما في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 1‏]‏ ومضت أي تعرف بعظيم سلطانه وعليّ ملكه، ثم انصرف الخطاب إلى عباده في قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 7‏]‏ إلى ما بعد ذلك من الآي، وكان ذلك ضرب من الالتفات، والواقع هنا منه أشبه بقوله سبحانه في سورة البقرة ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فإنه بعد تفصيل حال المتقين وحال من جعل في طرف منهم وحال من يشبه بظاهره بالمتقين وهو معدود في شرار الكافرين، فلما تم هذا النمط عدل بعده إلى دعاء الخلق إلى عبادة الله وتوحيده ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ثم عدل بالكلام جملة وصرف الخطاب إلى تعريف نبيه عليه الصلاة والسلام بين أيدي الخلق ‏{‏وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فجاء ضرباً من الالتفات فكذا الواقع هنا بين سبحانه حال مشركي العرب وقبح عنادهم وقرعهم ووبخهم في عدة سور غالب آيها جارٍ على ذلك ومجدد له أولها سورة «ص» كما نبه عليه في سورة القمر، وإلى الغاية التي ذكرت فيها إلى أن وردت سورة القمر منبئة بقطع دابرهم، وانجر فيها الإعذار المنبه عليه وكذا في سورة الرحمن بعدها، ثم أعقب ذلك بالتعريف بحال النزل الأخراوي في سورة الواقعة مع زيادة تقريع وتوبيخ على مرتكبات استدعت تسبيحه تعالى وتقديسه عن شنيع افترائهم فأتبعت بسورة الحديد، ثم صرف فيها الخطاب إلى المؤمنين، واستمر ذلك إلى آخر السورة، جرت سورة المجادلة على هذا القصد مصروفاً خطابها إلى نازلة تشوف المؤمنين إلى تعرف حكمها، وهو الظهار المبين أمره فيها، فلم يعد في الكلام بعد كما كان قد صرف إليه في قوله ‏{‏آمنوا بالله ورسوله‏}‏ بأكثر من التعرض لبيان حكم يقع منهم، ثم أن السور الواردة بعد إلى آخر الكتاب استمر معظمها على هذا الغرض لانقضاء ما قصد من التعريف بأخبار القرون السالفة والأمم الماضية، وتقريع من عاند وتوبيخه، وذكر مثال الخلق واستقرارهم الأخراوي، وذكر تفاصيل التكاليف والجزاء عليها من الثواب والعقاب، وما به استقامة من استجاب وآمن وما يجب أن يلتزمه على درجات التكاليف وتأكيدها، فلما كمل ذلك صرف الكلام إلى ما يخص المؤمنين في أحكامهم وتعريفهم بما فيه من خلاصهم، فمعظم آي سورة بعد هذا شأنها، وإن اتجر غيرها فلا استدعاء موجب وهو الأقل كما بينا- انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الإخبار عن إحاطة علمه وشمول قدرته مع أنه بديهي التصور- يحتاج عند من جره الهوى إلى الشرك المقتضي للنقص إلى دليل معه فقد كان العرب ينكرون أن يسع الناس كلهم إله واحد، قال تعالى دالاًّ على ذلك بدليل شهودي ليفيد الإنسان بما يراه من المحسوسات، قاصراً الخطاب على أعلى الخلق إشارة إلى أنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال كلها ‏{‏يعلم ما في السماوات‏}‏ كلها‏.‏ ولما كان الخطاب لأعلى الخلق، وكان المقام لإحاطة العلم، وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة للسامعين إلى وعورة هذا المقام وأنه بحيث لا يكاد يتصوره ولا يفهمه حق فهمه إلا هو صلى الله عليه وسلم ومن ألحق به ممن صفا فهمه وسوى ذهنه وانخلع من الهوى والعوائق، جمع وأكد بإعادة الموصول، فإفراده صلى الله عليه وسلم بالخطاب بعد أن كان مع المظاهرين ثم المحادين إشارة إلى التعظيم وتأكيده تنبيه على صعوبة المقام بالتعميم ليرعى حق الرعي توفية بحق التعليم كما رعته الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قولها ‏(‏سبحان من وسع سمعه الأصوات‏)‏ يعني في سماعه مجادلة المرأة وهو في غاية الخفاء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ أي كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه، بدليل أن تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من يشاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك، القاصية والدانية، الحاضرة والغائبة، الماضية والآتية، فيكون كما أخبر‏.‏

ولما كان ذلك وإن كان معلوماً يتعذر إحاطة الإنسان بكل جزئي منه، دل عليه بما هو أقرب منه فقال‏:‏ ‏{‏ما تكون‏}‏ بالفوقانية في قراءة أبي جعفر لتأنيث النجوى إشارة إلى العلم بها ولو ضعفت إلى أعظم حد، وقرأ الباقون بالتحتانية للحائل، ولأن التأنيث غير حقيقي، وهي على كل حال من «كان» التامة، وعمم النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من نجوى‏}‏ أي تناجي متناجين، جعلوا نجوى مبالغة، والنجوى‏:‏ السر والمسارون، اسم ومصدر- قاله في القاموس، وقال عبد الحق في الواعي‏:‏ النجوى الكلام بين الاثنين كالسر والتشاور- انتهى‏.‏ وأصله من النجوى- للمرتفع من الأرض، والنجو‏:‏ الخلوص والقطع وكشط الجلد والحدث والكشف، لأن المسارر يرفع ما كان في ضميره إلى صاحبه ويخلصه بمساررته له ويقطعه من ضميره ويكشطه منه ويحدثه ويكشفه‏.‏

ولما كانت النجوى لا تكمل إلا بثالث يحفظ الأنس بإدامة الاجتماع لأن الاثنين ينفردان عند عروض حاجة لأحجهما ويكونان في التناجي والتشاور كالمتنازعين، والثالث وسط بينهما مع أنه سبحانه وتر يحب الوتر، والثلاثة أول أوتار العدد، كما كان حافظاً لها في أزل الأزل قال‏:‏ ‏{‏ثلاثة‏}‏ أي في حال من الأحوال ‏{‏إلا هو رابعهم‏}‏ أي مصيرهم أربعة، فهو اسم فاعل والمعنى بعلمه وقدرته كما يكون كل من المتناجين عالماً بنجوى البعض، فروح النجوى العلم بالسر‏.‏

ولما كان الثلاثة قد يريد أحدهم أن ينفرد بآخر منهم، فيصير الثالث وحده، فإذا كانوا أربعة دام الأنس بينهم ثم لا يكمل إلا بخامس يحفظ الاجتماع إذا عرضت لأحد الاثنين حاجة قال‏:‏ ‏{‏ولا خمسة‏}‏ أي من نجواهم ‏{‏إلا هو سادسهم‏}‏ كذلك، فالحاصل أنه ما يكون من وتر إلا كان هو سبحانه شافع وتريته، وأما وتريته هو سبحانه فقد كانت ولا شيء معها أصلاً، وستكون ولا حي معها، فلا وتر في الوجود على الحقيقة غيره‏.‏

ولما علم بالتكرير أن ما ذكر على سبيل المثال لا لمعنى يخصه من جهة بالعلم، عم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا أدنى‏}‏ فبدأ بالقليل لأنه قبل الكثير وهو أخفى منه ‏{‏من ذلك‏}‏ أي الذي ذكر وهو الواحد والاثنان والأربعة الذي بعيد عن رتبته وإن كان قد شرفه سبحانه بإطلاق معيته بعد أن لا نسبة له منها‏.‏

ولما كان العلم بالكثير أعسر من أجل انتشاره قال‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي يكون من نجوى ‏{‏أكثر‏}‏ أي من ذلك كالستة فما فوقها لا إلى نهاية- هذا التقدير على قراءة الجماعة بالجر بفتحة الراء ورفع يعقوب على محل من ‏{‏نجوى‏}‏ ‏{‏إلا هو معهم‏}‏ أي يعلم ما يجري منهم وبينهم، ويلزم من إحاطة علمه إحاطة قدرته كما تقدم في طه لتكمل شهادته‏.‏

ولما كان العموم في المكان يستلزم العموم في الزمان، وكان المكان أظهر في الحس قال‏:‏ ‏{‏أين ما‏}‏ أي في أيّ مكان ‏{‏كانوا‏}‏ فإنه لا مسافة بينه وبين شيء من الأشياء لأنه الذي خلق المسافة، وعلمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة ولا بسبب من الأسباب غير وجوده على ما هو عليه من صفات الكمال، قال الرازي‏:‏ ما فارق الأكوان الحق ولا قارنها، كيف يفارقها وهو موجدها وحافظها ومظهرها، وكيف يقارن الحدث القدم وهو به قوام الكل، وهو القيوم على الكل- انتهى‏.‏ والحاصل أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء من العالم وإن بلغ في دقته إلى ما لا ينقسم، وهو شاهد لذلك كله حفظاً وعلماً وإحاطة وحضوراً، وآية ذلك في خلقه أن جملة الجسم يحيا بالروح، فلا يبقى جزء منه إلا وهو محفوظ بالروح يحس بسببها وهو سبحانه لا يحجب علمه ولا شيئاً من صفاته حجاب، فقد صحت المعية وهو بحيث لا يحويه المكان ولا يحصره العد، يقبض المخلوق ويبسطه، لا يصعد المخلوق ولا صفته ولا فعله ولا معنى من معانيه إلى صفة من صفاته، إنما له من المكان المكانة، ومن العلم العلا، ومن الأسماء والصفات مقتضاها- أشار إلى لك ابن برجان وقال‏:‏ ومن تدبر ما قرأه وتفهم ما تعلمه أدرك من التحقيق ما نحن بسبيل تبيانه ما قدر له، ألا ترى إلى الجن أين مكانهم وإن كانوا موصوفين به ثم الملائكة أرفع قدراً ومكانة، بل إن الروح من جميع الجملة التي تحمله، به حييت وبه تدبيرها وبه قيامها بإن الله خالقه،

«قال عليه الصلاة والسلام في خطبته الكبرى وهي آخر خطبة خطبها أخرجها الحارث بن أبي أسامة‏:‏ رقي المنبر وقال‏:‏» أيها الناس ادنو وأوسعوا لمن خلقكم «- ثلاث مرات، فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض، التفتوا فلم يروا أحداً، فقال رجل منهم بعد الثالثة‏:‏ لمن نوسع يا رسول الله أللملائكة‏؟‏ فقال‏:‏» لا إنهم إذ كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا من خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم «وعلى ذلك فليسوا في مكان الأيمان هنا والشمائل بل في المكان من ذلك، فالله جل جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء- انتهى‏.‏

ولما كان الإنسان نساءً ولا سيما إن تمادى به الزمان، قال عاطفاً على ما تقديره، فيضبط عليهم حركاتهم وسكناتهم من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، ويحفظها على طول الزمان كما كان حافظاً لها قبل خلقها ثم أزل الأزل ‏{‏ثم ينبئهم‏}‏ أي يخبر أصحابها إخباراً عظيماً ‏{‏بما عملوا‏}‏ دقيقة وجليلة ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلى فيه أتم إظهار‏.‏ ولما أخبر تعالى بهذا الأمر العظيم، علله بما هو دليل على الشهادة فقال مؤكداً لما لهم من الإنكار قولاً أو فعلاً بالاشتراك الذي يلزم منه النقص ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله‏.‏ ولما كان المقام للإبلاغ في إحاطة العلم، قدم الجار كما مضت الإشارة إليه غير مرة قال‏:‏ ‏{‏بكل شيء‏}‏ مما ذكر وغيره ‏{‏عليم *‏}‏ أي بالغ العلم فهو على كل شيء قدير، فهو على كل شيء شهيد، لأن نسبة ذاته الأقدس إلى الأشياء كلها على حد سواء لا فرق أصلاً بين شيء وآخر، قال القشيري‏:‏ معية الحق سبحانه وإن كانت على العموم بالعلم والرؤية وعلى الخصوص بالفضل والنصرة، فلهذا الخطاب في قلوب أهل المعرفة أثر عظيم إلى أن ينتهي الأمر بهم إلى التأويل، فللوله والهيمان في خمار هذا عين رغد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الدليل أيضاً تتعذر الإحاطة به، قال دالاًّ عليه بأمر جزئي واقع بعلم المحدث عنه حقيقة، فإن عاند بعده سقط عنه الكلام إلا بحد الحسام‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي تعلم علماً هو كالرؤية، ودل على سفول رتبه المرئي بإبعاده عن أعلى الناس قدراً بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى الذين‏}‏ ولما كان العاقل من إذا زجر عن شيء انزجر حتى يتبين له أنه لا ضرر عليه في فعل ما زجر عنه، عبر بالبناء للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏نهوا‏}‏ أي من ناه ما لا ينبغي للمنهي مخالفته حتى يعلم أنه مأمون الغائلة ‏{‏عن النجوى‏}‏ أي الإسرار لإحلال أنفسهم بذلك في محل التهمة بما لا يرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما قال أبو العلاء المعري‏:‏

والخل كالماء يبدي لي ضمائره *** مع الصفاء ويخفيها من الكدر

ولما كان الناهي هو الله، فكان هذا للنهي أهلاً لأن يبعد منه غاية البعد، عبر بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم يعودون‏}‏ أي على سبيل الاستمرار لأنه إذا وقعت مرة بادروا إلى التوبة منها أو فلتة وقعت معفواً عنها ‏{‏لما نهوا عنه‏}‏ أي من غير أن يعدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عدة ‏{‏ويتناجون‏}‏ أي يقبل جميعهم على المناجاة إقبالاً واحداً، فيفعل كل منهم ما يفعله الآخر مرة بعد أخرى على سبيل الاستمرار، وقراءة حمزة ‏{‏وينتجون‏}‏ بصيغة الافتعال يدل على التعمد والمعاندة ‏{‏بالإثم‏}‏ أي بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل‏.‏ ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال‏:‏ ‏{‏والعدوان‏}‏ أي العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة الحدود‏.‏ ولما كان ذلك شراً في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال‏:‏ ‏{‏ومعصيت الرسول‏}‏ أي الذي جاء إليهم من الملك الأعلى، وهو كامل الرسلية، لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان، فلا نبي بعده، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام‏.‏

ولما أنهى تعظيم الذنب إلى غايته آذن بالغضب بأن لفت الكلام إلى الخطاب فقال‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوك‏}‏ أيها الرسول الأعظم الذي يأتيه الوحي ممن أرسله ولم يغب أصلاً عنه لأنه المحيط علماً وقدرة ‏{‏حيوك‏}‏ أي واجهوك بما يعدونه تحية من قولهم‏:‏ السام عليك ونحوه، وعم كل لفظ بقوله‏:‏ ‏{‏بما لم يحيك به الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه فمن تجاوز ما شرعه فقد عرض نفسه لسخطه، ومما دخل فيه قوله بعض الناس لبعض «صباح الخير» ونحوه معرضاً عن السلام‏.‏ ولما كان المشهور عنهم أنهم يخفون ذلك جهدهم ويعلنون بإملاء الله لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه، وإن اطلع عليه لم يقدر على أن ينتقم منهم، عبر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي عند الاستدراج بالإملاء مجددين قولهم مواظبين عليه ‏{‏في أنفسهم‏}‏ من غير أن يطلعوا عليه أحداً‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏يعذبنا الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء على زعم من باهانا ‏{‏بما نقول‏}‏ مجددين مع المواظبة إن كان يكرهه- كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما تضمن هذا علمه سبحانه وتعالى بهذه الجزئية من هؤلاء القوم ثبت بذلك علمه سبحانه بجميع ما في الكون، لأن نسبة الكل إليه على حد سواء، فإذا ثبت علمه بالبعض ثبت علمه بالكل فثبتت قدرته على الكل فكان على كل شيء شهيداً، قال مهدداً لهم مشيراً إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقول مثل هذا إلا إن كان قاطعاً بأنه لا يحصل له عذاب، أو يحصل له منه ما لا يبالي به ثم يرده بقوته‏:‏ ‏{‏حسبهم‏}‏ أي كفايتهم في الانتقام منهم وفي عذابهم ورشقهم بسهام لهيبها ومنكئ شررها وتصويب صواعقها ‏{‏جهنم‏}‏ أي الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والتكره والفظاظة‏.‏ فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية، فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ‏{‏يصلونها‏}‏ أي يقاسون عذابها دائماً إني أعددتها لهم‏.‏ ولما كان التقديرية فإنهم يصيرون إليها ولا بد، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فبئس المصير *‏}‏ أي مصيرهم، وسبب ذلك أن اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون يوهمونهم أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيظنون أنه بلغهم شيء من إخوانهم الذين خرجوا في السرايا غزاة في سبيل الله من قتل أو هزيمة فيحزنهم ذلك، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي في هذه الحالة فلم ينتهوا، وروى أحمد والبزار والطبراني بإسناد- قال الهيثمي في المجمع إنه جيد لأن حماداً سمع من عطاء بن السائب في حالة الصحة- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سام عليك‏.‏ ثم يقولون في أنفسهم‏:‏ لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت‏.‏ وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك‏:‏ «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا» وعليك «»‏.‏

ولما نهى عن النجوى وذم على فعلها وتوعد عليه فكان ذلك موضع أن يظن أن النهي عام لكل نجوى وإن كانت بالخير، استأنف قوله منادياً بالأداة التي لا يكون ما بعدها له وقع عظيم، معبراً بأول أسنان الإيمان باقتضاء الحال له‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ‏{‏إذا تناجيتم‏}‏ أي قلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سراً ‏{‏فلا تتناجوا‏}‏ أي توجدوا هذه الحقيقة ظاهرة كتناجي المنافقين ‏{‏بالإثم‏}‏ أي الذنب وكل فعل يكتب بسببه عقوبة‏.‏

ولما عم خص فقال‏:‏ ‏{‏والعدوان‏}‏ أي الذي هو العدو الشديد بما يؤذي وإن كان العادي يظن أنه لا يكتب عليه به إثم‏.‏ ولما كان السياق لإجلال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا تعرف حقيقة الإثم إلا منه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومعصيت الرسول‏}‏ أي الكامل في الرسلية فإن ذلك يشوش فكره فلا يدعه يبلغ رسالات ربه وهو منشرح الصدر طيب النفس‏.‏

ولما علم أن نهيهم إنما هو عن شر يفسد ذات البين هو ما لا يريدون إطلاع النبي صلى الله عليه، صرح بقوله حثاً على إصلاح ذات البين لأن خير الأمور ما عاد بإصلاحها، وشر الأمور ما عاد بإفسادها‏:‏ ‏{‏وتناجوا بالبر‏}‏ أي بالخير الواسع الذي فيه حسن التربية، ولما كان ذلك قد يعمل طبعاً، حث على القصد الصالح بقوله‏:‏ ‏{‏والتقوى‏}‏ وهي ما يكون في نفسه ظاهراً أنه يكون سترة تقي من عذاب الله بأن يكون مرضياً لله ولرسوله‏.‏

ولما كانت التقوى أم المحاسن، أكدها ونبه عليها بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي اقصدوا قصداً يتبعه العمل أن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية‏.‏ ولما كانت ذكرى الآخرة هي مجمع المخاوف ولا سيما فضائح الأسرار على رؤوس الأشهاد قال‏:‏ ‏{‏الذي إليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏تحشرون *‏}‏ أي تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره، وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير لا يخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية تنكشف فيه سرادقات العظمة، ويظهر ظهوراً تاماً نفوذ الكلمة، ويتجلى في مجالي العز سطوات القهر، وتنبث لوامع الكبر، فإذا فعلتم ذلك مستحضرين لذلك لم تقدموا على شيء تريدون إخفاءه من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك أقر لعينه وأطهر لكم‏.‏

ولما شدد سبحانه في أمر النجوى وكان لا يفعلها إلا أهل النفاق، فكان ربما ظن ظان أنه يحدث عنها ضرر لأهل الدين، قال ساراً للمخلصين وغاماً للمنافقين ومبيناً أن ضررها إنما يعود عليهم‏:‏ ‏{‏إنما النجوى‏}‏ أي المعهودة وهي المنهي عنها، وهي ما كره صاحبه أن يطلع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ ما خيله الشيطان من الأحكام المكروهة للإنسان ‏{‏من الشيطان‏}‏ أي مبتدئه من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالفة لأوليائه‏.‏

ولما بين أنها منه، بين الحامل له على تزيينها فقال‏:‏ ‏{‏ليحزن‏}‏ أي الشيطان ليوقع الحزن في قلوب ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي يتوهمهم أنهم بسبب شيء وقع ما يؤذيهم، والحزن‏:‏ هم غليظ وتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى، وقال في القاموس‏:‏ أو أحزنه‏:‏ جعله حزيناً، وحزنه‏:‏ جعل فيه حزناً‏.‏

فعلى هذا قراءة نافع من أحزن أشد في المعنى من قراءة الجماعة‏.‏

ولما كان ربما خيل هذا من من في قلبه مرض أن في يد الشيطان شيئاً من الأشياء، سلب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وليس‏}‏ أي الشيطان وما حمل عليه من التناجي، وأكد النفي بالجار فقال‏:‏ ‏{‏بضارّهم‏}‏ أي الذين آمنوا ‏{‏شيئاً‏}‏ من الضرر وإن قل وإن خفي- بما أفهمه الإدغام ‏{‏إلا بإذن الله‏}‏ أي تمكين الملك المحيط بكل شيء علماً وقدرة، روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» ولما كان التقدير‏:‏ فقد علم أنه لا يخشى أحد غير الله لأنه لا ينفذ إلا ما أراده، فإياه فليخش المربوبون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له، لا على أحد غيره ‏{‏فليتوكل المؤمنون‏}‏ أي الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها، ولا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسره ولا بجهره، فإنه إذا توكلوا عليه وفوضوا أمورهم إليه، لم يأذن في حزنهم، وإن لم يفعلوا أحزنهم، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأما أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة‏.‏