فصل: تفسير الآيات رقم (15- 18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما حكم على البعض، كان كأنه قيل‏:‏ فما حكم سائره‏؟‏ فكأن الحكم بذلك يلزم منه الحذر من الكل لكن للتصريح سر كبير في ركون النفس إليه، فقال حاصراً الجميع ضاماً إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة‏:‏ ‏{‏إنما‏}‏ وأسقط الجار لأن شيئاً من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال‏:‏ ‏{‏أموالكم‏}‏ أي عامة ‏{‏وأولادكم‏}‏ كذلك ‏{‏فتنة‏}‏ أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال‏:‏ «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له‏:‏ أكل عياله حسناته» «ويكفي فتنة المال قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏» وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر، عطف عليه مهوناً له بالإشارة إلى كونه فانياً وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي ذو الجلال ‏{‏عنده‏}‏ وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه ‏{‏أجر‏}‏ ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏عظيم *‏}‏ أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها، فلم يقدم على رضاه مالاً ولا ولداً، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وعنده عذاب أليم لمن خالف، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من السورة كلها‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى‏:‏ اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي، وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط‏.‏

ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره، خفف ويسر بقوله‏:‏ ‏{‏ما استطعتم‏}‏ أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة، وأعظمه الهجرة والجهاد، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ- والله أعلم‏.‏

ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال‏:‏ ‏{‏واسمعوا‏}‏ أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره ‏{‏وأطيعوا‏}‏ أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق‏.‏ ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال‏:‏ ‏{‏وأنفقوا‏}‏ أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي‏.‏

ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة النفس، رغب فيه بما ينصرف إليه بادئ بدء ويعم جميع ما تقدم فقال‏:‏ ‏{‏خيراً‏}‏ أي يكن ذلك أعظم خير واقع ‏{‏لأنفسكم‏}‏ فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته‏.‏ ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال‏:‏ ‏{‏ومن يوق‏}‏ بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان- وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال‏:‏ ‏{‏شح نفسه‏}‏ فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح‏:‏ خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها، وتارة بإنفاق المال، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح‏.‏ ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المفلحون *‏}‏ أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع‏.‏ ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم، رغب فيه تأكيداً لأمره لما فيه نم الصعوبة لا سيما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فإن المال فيه كان في غاية العزة ولا سيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولا سيما إن كان في حال ظهور العداوة، فقال بياناً للإفلاح متلطفاً في الاستدعاء بالتعبير بالقرض مشيراً إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك‏:‏ ‏{‏إن تقرضوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال‏:‏ ‏{‏قرضاً حسناً‏}‏ أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها، وأعظم الترغيب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏يضاعفه لكم‏}‏ أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشراً إلى ما لا يتناهى على حسب النيات، قال القشيري‏:‏ يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له‏:‏ آثر على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له‏:‏ آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك‏.‏

ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين «لن يشاده أحد إلا غلبه» قال‏:‏ ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور، وذلك هو السعادة كلها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فاللّه غفور رحيم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي لا يقاس عظمته بشيء ‏{‏شكور‏}‏ أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة ‏{‏حليم *‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه، فإن غضب الحليم لا يطاق، وهو راجع إلى الغفران‏.‏

ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال‏:‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره‏.‏ ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء‏:‏ ‏{‏والشهادة‏}‏ وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه‏.‏

ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال‏:‏ ‏{‏العزيز‏}‏ أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء‏.‏ ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال‏:‏ ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة‏.‏ وتارة يخالف فيسمى معصية، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك، وقد رجع- بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن- على افتتاحها حسن ختامها، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها- والله الموفق للصواب‏.‏

سورة الطلاق

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

لما ختمت التغابن بأنه تعالى شكور حليم عزيز حكيم مع تمام العلم وشمول القدرة، بعد التحذير من النساء بالعداوة، وكانت العداوة تجر إلى الفراق، افتتح هذه بزم لأنفس عند ثوران الحظوظ بزمام التقوى، وأعلى الخطاب جداً بتوجيهه إلى أعلى الخلق تنبيهاً على عظمة الأحكام الواردة في هذه السورة فإنها مبنية على الأسماء الأربعة لتتلقى بغاية الرغبة فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ مخصصاً له صلى الله عليه وسلم، ذاكراً الوصف الذي هو سبب التلقي لغرائب العلوم ورغائب الحكم والفهوم‏.‏

ولما علم من الإقبال عليه صلى الله عليه وسلم عظمة الحكمة، ومن التعبير في النداء بأداة التوسط التي لا تذكر في أمر مهم جداً أن الذي هو أقرب أهل الحضرة غير مقصود بها من كل وجه، وأن القصد التنبيه لجلالة هذه الأحكام، وبذل الجهد في تفهيمها والعمل بها، فلذا أقبل على الأمة حين انتبهوا وألقوا أسماعهم، فقال معبراً بأداة التحقق لأنه من أعظم مواضعها‏:‏ ‏{‏إذا طلقتم‏}‏ وعلم من ذلك عموم الحكم له صلى الله عليه وسلم لكن لما كان للإنسان مع نسائه حالان أحدهما المشاححة، كان غيره أولى بالخطاب فيه، وثانيهما الجود والمصالحة بالحلم والعفو، فكان هو صلى الله عليه وسلم أولى بذلك فجاءت له سورة التحريم ‏{‏النساء‏}‏ أي أردتم طلاق هذا النوع واحدة منه فأكثر ‏{‏فطلقوهن‏}‏ أي إن شئم مطلق طلاق ثلاثاً أو دونها، وكلما قل كان أحب بدليل ما يأتي من لواحق الكلام من الإشارة إلى الرجعة ‏{‏لعدتهن‏}‏ أي في وقت أو عند استقبال العدة أي استقبال طهر يحسب منها، وهو الطهر الذي لم يجامع فيه إن كانت مدخولاً بها، ذلك معنى قراءة ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم «في قبل عدتهن» فهذا طلاق السنة وغيره طلاق البدعة، فإن الطلاق في الحيض تطويل للعدة لأنه غير محسوب، ولا بد أن يكون الطهر لم يجامع فيه لأنها إذا جومعت ربما حملت فطالت العدة، وهذه اللام للوقت مثلها في «كتب هذا لخمس بقين من شهر كذا» واختير التعبير بها لأنها تفهم مع ذلك أن ما دخلت عليه كالعلة الحاملة على متعلقها، فصار كأنه قيل‏:‏ طلقوا لأجل العدة وإذا كان لأجلها علم أن المراد تخفيفها على المرأة بحسب الطاقة لأن مبنى الدين على اليسر، وذلك دال على أن العدة بالأسهار، وأن الطلاق في الحيض حرام لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ولا يدل على عدم الوقوع لأن النهي غير مستلزم للفساد، وقد بين ذلك كله «حديث ابن عمر رضي الله عنهما في طلاقه زوجته في الحيض الذي كان سبب النزول، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأمره أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس»

وعلم أن من عدتها بغير الأقراء التي يمكن طولها وقصرها وهي غير المدخول بها والتي لم تحض والآئسة والحامل لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وكذا للخالعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس رضي الله عنه في الخلع من غير استفصال عن حال امرأته لأنه إنما يكون في الغالب عن تشاجر وتساؤل من المرأة، ويقع الطلاق البدعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر رضي الله عنهما بالمراجعة منه، ويأثم به بعد العلم، ولو طلق في الحيض وراجع جاز له أن يطلق حال انقضاء الحيض قبل المجامعة، والأمر بالإمساك إلى كمال الطهر والحيض الذي بعده للندب حتى لا يكون في صورة من راجع للطلاق، ولا بدعة في جمع الثلاثة لأنه لا إشارة إليه في الآية ولا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي هو سببها، نعم قد يدعي ذلك في آية البقرة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ و«الطلاق أبغض الحلال إلى الله» كما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما فأبغضه إليه أنهاه «وما حلف به ولا استحلف إلا منافق» كما في الفردوس عن أنس رضي الله عنه‏.‏

ولما كان نظر الشارع إلى العدة شديداً لما فيها من الحكم بالتأني لاحتمال الندم وبالظن لبراءة الرحم احتياطاً للأنساب وبقطع المنازعات والمشاجرات المفضية إلى ذهاب الأموال والارواح، وقد أفهمه التعبير باللام، صرح به بصيغة الأمر فقال‏:‏ ‏{‏وأحصوا‏}‏ أي اضبطوا ضبطاً كأنه في إتقانه محسوس بعد الحصي ‏{‏العدة‏}‏ لتكملوها ثلاثة أقراء كما تقدم الأمر به ليعرف زمان النفقة والرجعة والسكنى وحل النكاح لأخت المطلقة مثلاً ونحو ذلك من الفوائد الجليلة‏.‏ ولما كان الطلاق على غير هذا الوجه حراماً للضرار ومخالفة الأمر وكذا التهاون في الضبط حتى يحتمل أن تنكح المرأة قبل الانقضاء، أمر بمجانبة ذلك كله بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا‏}‏ أي في ذلك ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الخلق والأمر لذاته في الزمن والإحصاء لأن في ذلك ما هو حقه ‏{‏ربكم‏}‏ أي لإحسانه في تربيتكم في حملكم على الحنيفية السمحة ودفع جميع الآصار عنكم‏.‏

ولما أمر بالتقوى وناط بعضها بصفة الإحسان فسره بقوله‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن‏}‏ أي أيها الرجال في حال العدة ‏{‏من بيوتهن‏}‏ أي المساكن التي وقع وهي سكنهن، وكأنه عبر بذلك إشارة إلى أن استحقاقها لإيفاء العدة به في العظمة كاستحقاق المالك، ولأنها كانت في حال العصمة كأنها مالكة له، فليس من المروءة إظهار الجفاء بمنعها منه، ولأنها إن روجعت كانت حاصلة في الحوزة ولم يفحش الزوج في المقاطعة، وإن لم يحصل ذلك فظهر أنها حامل لم تحصل شبهة في الحمل‏.‏

ولما كان ذلك ربما أفهم أنه لحقهن فقط نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يخرجن‏}‏ أي بأنفسهن إن أردن ذلك من غير مخرج من جهة الزوج أو غيره، فعلم من ذلك تحتم استكمال العدة في موضع السكنى وأن الإسكان على الزوج، وتخرج لضرورة بيع الغزل وجذاذ النخل ونحوه‏.‏ ولما كان منطوق ذلك أنه لا يجوز له إخراجها كارهة، ولا يجوز لها أن تخرج بنفسها فقط وهو كاره فأفهم ذلك أنهما لو اتفقا جاز لأن ذلك خارج عن المنهي، استثنى من كلا شقي المنهي عنه بقوله‏.‏ ‏{‏إلآ أن يأتين‏}‏ أي جنس المطلقات الصادق بواحدة وأكثر ‏{‏بفاحشة‏}‏ أي خصلة محرمة شديدة القباحة ‏{‏مبينة‏}‏ أي ظاهرة في نفسها ظهوراً بيناً عند كل من أريد بيانها له، وذلك كالبذاءة منها على الزوج أو أقاربه فإنه كالنشوز يسقط حقها من السكنى، فيجوز له إخراجها لقطع الشر، وهو معنى قراءة أبي رضي الله عنه‏:‏ إلا أن يفحشن عليكم، وكالزنا فتخرج بنفسها ويخرجها غيرها من الزوج وغيره لإقامة الحد عليها وغير ذلك من الفواحش كما أنه يطلقها للنشوز فإنه لا سكنى لها حينئذ‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ هذه أحكام هذا الفرع، عطف عليه تعظيماً لها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك‏}‏ أي الأحكام العالية جداً بما فيها من الجلالة وبانتسابها إلى الملك الأعلى من هذا الذي ذكر في هذه السورة وغيره ‏{‏حدود الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي هو نور السماوات والأرض‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فمن تحاماها فقد أنصف نفسه بأخذه النور المبين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتعد‏}‏ أي يقع منه في وقت من الأوقات أنه يتعمد أن يعدو ‏{‏حدود الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏فقد ظلم نفسه‏}‏ بأن مشاها في الظلام فصارت تضع الأشياء في غير مواضعها، فصار بمعرض الهلاك بالعقاب كما أن الماشي في الظلام معرض للوقوع في حفرة والدوس على شوكة أو حية أو عقرب أو سبع، أو لأن ينفرد بقاطع، أو أن يضل عن الطريق إلى مهالك لا يمكن النجاة منها، ومثال ذلك الحكيم إذا وصف دواء بقانون معلوم في وقت محدود ومكان مخصوص فخولف لم يضر المخالف ذلك الحكيم وإنما ضر نفسه‏.‏

ولما كان له الخلق جميعاً تحت أوامره سبحانه مع أنها كلها خير لا شر فيه بوجه إسرار وإغوار، لا تدرك ولا تحصى، وقد يظهر بعضها لسان الحدثان بيد القدرة، وكان متعديها ظالماً وكان من أقرب ظلمه وأبينه الإيقاع في مهاوي العشق، فسره سبحانه بقوله مبيناً عظمته بخطاب الإعلاء‏:‏ ‏{‏لا تدري‏}‏ أي يا أيها النبي الكريم ما يكون عن ذلك من الأمور التي يحدثها الله لتشير على المطلق بشيء مما يصلحه فغيرك من باب الأولى‏.‏

ولما نفى عنه العلم المغيب لاختصاصه سبحانه به وحذف المتعلق إعراقاً في التعميم، وكان كل أحد فيما يحدث له من الأمور ما بين رجاء وإشفاق، عبر عن ذلك بأداة صالحة لها فقال‏:‏ ‏{‏لعل الله‏}‏ أي الذي بيده القلوب ومقاليد جميع الأمور ‏{‏يحدث‏}‏ أي يوجد شيئاً حادثاً لم يكن إيجاداً ثابتاً لا يقدر الخلق على التسبب في زواله فيكون مستغرقاً لزمان العمر كما أشار إليه نزع الخافض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الحادث من الإشارة بالضرار بالإخراج أو تطويل العدة أو غير ذلك ‏{‏أمراً *‏}‏ أي من الأمور المهمة كالرغبة المفرطة في الزوجة فلا يتأتى ذلك إما بأن كان الضرار بالطلاق الثلاث أو بأن كانت من ذوي الأنفة فأثرت فيها الإساءة وفيمن ينتصر لها فمنعت نفسها منه‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تقدم قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله‏}‏ ‏[‏المنافقين‏:‏ 9‏]‏ وقوله في التغابن‏:‏ ‏{‏إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 14‏]‏ وقوله تعالى ‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 15‏]‏ والمؤمن قد يعرض له ما يضطره إلى فراق من نبه على فتنته وعظيم محنته، وردت هذه السورة منبهة على كيفية الحكم في هذا الافتراق، وموضحة أحكام الطلاق، وأن هذه العداوة وإن استحكمت ونار هذه الفتنة، إن اضطرمت لا توجب التبرؤ بالجملة وقطع المعروف ‏{‏لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ووصى سبحانه بالإحسان المجمل في قوله‏:‏ ‏{‏أو تسريح بإحسان‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ وبين تفصيل ذلك وما يتعلق به، فهذا الرفق المطلوب بإيقاع الطلاق في أول ما تستعده المطلقة في عدتها وتحسبه من مدتها تحذيراً من إيقاع الطلاق في الحيض الموجب تطويل العدة وتكثير المدة، وأكد هذا سبحانه بقوله ‏{‏واتقوا الله ربكم‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ثم نبه سبحانه على حقهن أيام العدة من الإبقاء في مستقرهن حين إيقاع الطلاق إلى انقضاء العدة فقال‏:‏ ‏{‏لا تخرجوهن من بيوتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ إلى ما استمرت عليه السورة من بيان الأحكام المتعلقة بالطلاق وتفصيل ذلك كله‏.‏ ولما كان الأولاد إذا ظهر منهم ما يوجب فراقهم وإبعادهم غير مفترقين إلى ما سوى الرفض والترك بخلاف المرأة، لم يحتج إلى ما احتيج إليه في حقهن فقد وضح وجه ورود سورة الطلاق في هذا الموضع- والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

ولما حد سبحانه ما يفعل في العدة، أتبعه ما يفعل عند انقضائها فسبب عما أمره بها فيها معبراً بأداة التحقق لأن الخطاب على تقدير الحياة، معلماً أن له الرجعة إلى آخر جزء من العدة لأنها إذا ثبتت في آخرها البعيد من الطلاق كان ما قبله أولى لأنه أقرب إلى الطلاق فقال‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن‏}‏ أي المطلقات ‏{‏أجلهن‏}‏ أي شارفن انقضاء العدة مشارفة عظيمة ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ أي بالمراجعة، وهذا يدل على أن الأولى من الطلاق ما دون البائن لا سيما الثلاث‏.‏ ولما كان الإنسان لما له من النقصان لا يقدر على كمال الإحسان قال منكراً‏:‏ ‏{‏بمعروف‏}‏ أي حسن عشرة لا بقصد المضارة بطلاق آخر لأجل إيجاب عدة أخرى ولا غير ذلك ‏{‏أو فارقوهن‏}‏ أي بعدم المراجعة لتتم العدة فتملك نفسها ‏{‏بمعروف‏}‏ بإيفاء الحق مع حسن الكلام وكل أمر عرفه الشرع- أي حسنه- فلا يقصد أذاها بتفريقها من ولدها مثلاً أو منه إن كانت محبة له مثلاً بقصد الأذى فقط من غير مصلحة وكذا ما أشبه ذلك من أنواع الضرر بالفعل أو القول، فقد تضمنت الآية بإفصاحها الحث على فعل الخيرات وبإبهامها اجتناب المنكرات‏.‏

ولما كان كل من المرافقة والمفارقة أمراً عظيماً، تبنى عليه أحكام فتحرم أضدادها، فيكون الخلاف فيها في غاية الخطر، وكان الإشهاد أليق بالمراد، وأقطع للنزاع، قال تعالى حاثاً على الكيس واليقظة والبعد عن أفعال المغفلين العجزة‏:‏ ‏{‏وأشهدوا‏}‏ أي على المراجعة أو المفارقة ‏{‏ذوي عدل‏}‏ أي مكلفين حرين ثقتين يقظين ‏{‏منكم‏}‏ أي مسلمين وهو أمر إرشاد مندوب إليه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه وجوبه في الرجعية والصحيح الأول، ومن فوائده أن لا يموت أحدهما فيدعي الآخر الزوجية ببقاء علقة العدة ليرث‏.‏

ولما كان أداء الشهادة يعسر على الشاهد لترك مهماته وعسر لقاء الحكم الذي يؤدي عنده، وربما بعد مكانه، وكان للعدل في الأداء عوائق أيضاً، وكان الشهود من المأمورين بالإشهاد، حث على الأداء على وجه العدل بقوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا‏}‏ أي أيها المأمورون حيث كنتم شهوداً ‏{‏الشهادة‏}‏ أي التي تحملتموها بأدائها على أكمل أحوالها كما يفعل من يريد إقامة شيء ليصير واقفاً بنفسه غير محتاج إلى ما يدعمه‏.‏ ولما كان ربما ميل أحد من المشهود عليهما الشاهد بشيء من المرغبات فأداها على وجهها لذلك الشيء لا لكونه الحق، قال مرغباً مرهباً ‏{‏لله‏}‏ أي مخلصين لوجه الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة وهو ذو الجلال والإكرام في أدائها على وجه الحق ظاهراً وباطناً، لا لأجل المشهود له ولا المشهود عليه، ولا شيء سوى وجه الله‏.‏

ولما كانت أحكامه سبحانه وتعالى لا سيما في الكتاب المعجز مقرونة بعللها وفيها عند التأمل رقائق ودقائق تخشع لها القلوب وتجب الأفئدة في داخل الصدور قال ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الذي ذكرت لكم أيتها الأمة من هذه الأمور البديعة النظام العالية المرام، وأولاها بذلك هنا الإشهاد وإقامة الشهادة‏.‏

ولما كانت أوامر الله تعالى وقصصه وأحكامه وجميع كلامه مختصاً من بين كلام الناس بأنه يرقق القلوب ويلين الشكائم لكونه روحاً لما فيه العدل الذي تهواه النفوس، وتعشقه الألباب، وتميل إليه الطبائع، وقامت به السماوات والأرض، ولما فيه أيضاً من ذكر من تعشقه الفطر القويمة من جميع أهل الخير من الأنبياء والملائكة والأولياء، مع تشريف الكل بذكر الله، سمي وعظاً، وبني للمجهول إشارة إلى أن الوعظ بنفسه نافع ولو لم يعرف قائله، وإلى أن الفاعل معروف أنه الله لكونه سمي وعظاً مع كونه أحكاماً فقال‏:‏ ‏{‏يوعظ به‏}‏ أي يلين ويرقق ‏{‏من كان‏}‏ أي كوناً راسخاً، من جميع الناس ‏{‏يؤمن بالله‏}‏ أي يوقع ويجدد منكم ومن غيركم على سبيل الاستمرار من صميم قلبه الإيمان بالملك الذي له الكمال كله‏.‏

ولما كان البعث محط الحكمة لأن الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يكون زرع بغير حصاد، كان خلو الإيمان عنه معدماً للإيمان فقال‏:‏ ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ فإنه المحط الأعظم للترقيق، أما من لم يكن متصفاً بذلك فكأنه لقساوة قلبه ما وعظ به لأنه لم ينتفع به أبداً‏.‏

ولما كانت العبادة لا تكون إلا بالإعانة، وكان التقدير‏:‏ فمن اتعظ بذلك كان اتعاظه شاهداً له بإيمانه بذلك، وكان متقياً، عطف عليه قوله اعتراضاً بين هذه الأحكام تأكيداً للترغيب في الإعانة المترتبة على التقوى‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله‏}‏ أي يخف الملك الأعظم فيجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية مما يرضيه، وهو اجتلاب ما أمر به واجتناب ما نهى عنه من الطلاق وغيره ظاهراً وباطناً، وذلك صلاح قوي العلم بالإيمان والعمل بفعل المأمور به وترك المنهي عنه لأنه تقدم أن التقوى إذا انفردت في القرآن عن مقارن عمت الأمر والنهي، وإذا قرنت بغيرها نحو إحسان أو رضوان خصت المناهي‏:‏ ‏{‏يجعل‏}‏ أي الله سبحانه بسبب التقوى ‏{‏له مخرجاً *‏}‏ بدفع المضار من كل ضيق أحاط به في نظير ما اجتنب من المناهي ‏{‏ويرزقه‏}‏ بحوله وقوته بجلب المسار في الدين والدنيا والآخرة في نظير ما اجتلب من فعل الأوامر‏.‏

ولما كان أحلى الهبات ما جاء من مكان لا يرجى قال‏:‏ ‏{‏من حيث لا يحتسب‏}‏ أي لا يقوى رجاؤه له، ولما أكد في هذا وأعظم الوعد لأنه وإن كان عاماً لكل متق فتعلقه بما تقدم أقوى والنظر فيما تقدم إلى حقوق العباد أكثر، والمضايقة فيها أشد، والدواعي إليها أبلغ، فالاتقاء فيه بعدم الطلاق في الحيض والإضرار بالمرأة بتطويل العدة أو الإخراج من المسكن وكتمان الشهادة والعسر في أدائها والإخلال بشيء منها والتأكيد والإبلاغ في الوعد لأجل ما جبل عليه الإنسان من القلق في أموره، عطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل‏}‏ أي يسند أموره كلها ويفوضها معتمداً فيها ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الذي بيده كل شيء ولا كفوء له فقد جمع الأركان الثلاثة التي لا يصلح التوكيل إلا بها، وهي العلم المحيط لئلا يدلس عليه، والقدرة التامة لئلا يعجز، والرحمة بالمتوكل والعناية به لئلا يحيف عليه، والتوكل يكون مع مباشرة الأسباب وهو من المقامات العظيمة وإلا كان اتكالاً، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة، لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتيب المسببات على الأسباب- قاله الملوي ‏{‏فهو‏}‏ أي الله في غيب غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله ‏{‏حسبه‏}‏ أي كافيه، وحذف المتعلق للتعميم، وحرف الاستعلاء للاشارة إلى أنه قد حمل أموره كلها عليه سبحانه لأنه القوي الذي لا يعصيه شيء، والكريم الذي يحسن حمل ذلك ورعيه، والعزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار، إلى غير ذلك من المعاني الكبار، فلا يبدو له في عالم الشهادة شيء يشقيه لا من الغيب ولا من غيب الغيب، وفي الحديث

«لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً»‏.‏

ولما كان ذلك أمراً لا يكاد يحيط به الوهم، علله بقوله مهولاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص ‏{‏بالغ أمره‏}‏ أي جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا، وسماه أمراً إشارة إلى أنه مما يستحق أن يؤمر به وإلى أنه في سرعة الكون إذا أريد لم يتخلف بوجه بل يكون كالمؤتمر الحقير للملك الجليل الكبير‏.‏

ولما كان ضرب المقادير من القادر موجباً لعدم الإخلال بشيء منها، علل ذلك بما اقتضى تحتم الوعد والتوكل فقال‏:‏ ‏{‏قد جعل الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقيد بجهة ولا حيثية ‏{‏لكل شيء قدراً *‏}‏ أي تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه ومكانه وجميع عوارضه وأحواله وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه، فمن توكل استفاد الأجر وخفف عنه الألم، وقذف في قلبه السكينة، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك، وزاد ألمه وطال غمه بشدة سعيه وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجحة، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ولا ينقص منها شيء، ويحكى أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ أولني مما أولاك الله فقال‏:‏ أتقرأ القرآن‏؟‏ قال‏:‏ لا، قال‏:‏ إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه، فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال‏:‏ يا هذا‏!‏ أهجرتنا، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ لست ممن يهجر‏؟‏ ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر، قال‏:‏ أي آية أغنتك‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى‏:‏

‏{‏ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويزرقه من حيث لا يحتسب‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2 و3‏]‏ انتهى‏.‏ ومن توكل على غيره سبحانه وتعالى ضاع لأنه لا يعلم المصالح وإن علمها لم يعلم أين هي، وإن علم لم يعلم متى يستعملها وإن علم لم يعلم كم المقدار المستعمل، وإن علم لم يعلم كيف يستعملها وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله وما لا يعلمه حق علمه غيره، والآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه، وهو موافق لما روى ابن حبان في صحيحه والحاكم واللفظ له- وقال‏:‏ صحيح الإسناد- عن ثوبان رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما وسط بين العدد هذه الجمل الواعظة دلالة على عظمتها حثاً على امتثالها والمبادرة إليها، وختم بالتقدير، أتبع ذلك بيان مقادير العدد على وجه أبان أن الكلام الماضي كان في الحوائض الرجعيات فقال‏:‏ ‏{‏واللائي يئسن‏}‏ أي من المطلقات ‏{‏من المحيض‏}‏ أي الحيض وزمانه لوصولها إلى سن يجاوز القدر الذي ترجو فيه النساء الحيض فصارت بحيث لا ترجوه، وذلك السن خمس وخمسون سنة أو ستون سنة، وقيل‏:‏ سبعون وهن القواعد، وأما من انقطع حيضها في زمن ترجو فيه الحيض فإنها تنتظر سن اليأس‏.‏

ولما كان هذا الحكم خاصاً بأزواج المسلمين لحرمة فرشهم وحفظ أنسابهم قال‏:‏ ‏{‏من نسائكم‏}‏ أي أيها المسلمون سواء كن مسلمات أو من أهل الكتاب، ولما كان الموجب للعدة إنما هو الدخول لا مجرد الطلاق قال‏:‏ ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ بأن أجلتم النظر في أمرهن، فأداكم إلى ريب في هل هن حاملات أم لا، وذلك بالدخول عليهن الذي هو سبب الريب بالحمل في الجملة ‏{‏فعدتهن ثلاثة أشهر‏}‏ كل شهر يقوم مقام حيضة لأن أغلب عوائد النساء أن يكون كل قرء في شهر‏.‏

ولما أتم قسمي ذوات الحيض إشارة وعبارة قال‏:‏ ‏{‏واللائي لم يحضن‏}‏ أي لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً وإن كن بالغات فعدتهن ثلاثة أشهر أيضاً، وهذا مشير إلى أن أولات الحيض بائنات كن أو لا عدتهن ثلاثة قروء كما تقدم في البقرة لأن هذه الأشهر عوض عنها، فأما أن يكون القرء- وهو الطهر- بين حيضتين، أو بين الطلاق والحيض، وهذا كله في المطلقة، وأما المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشراً كما في البقرة‏.‏

ولما فرغ من آئسات الحوامل أتبعه ذكر الحوامل فقال‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال‏}‏ أي من جميع الزوجات المسلمات والكفار المطلقات على كل حال والمتوفى عنهن إذا كان حملهن من الزوج مسلماً كان أو لا ‏{‏أجلهن‏}‏ أي لمنتهى العدة سواء كان لهن مع الحمل حيض أم لا ‏{‏أن يضعن‏}‏ ولما كان توحيد الحمل لا ينشأ عنه لبس، وكان الجمع ربما أوهم أنه لا تحل واحدة منهن حتى يضع جمعاً قال‏:‏ ‏{‏حملهن‏}‏ وهذا على عمومه مخصص لآية ‏{‏يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ لأن المحافظة على عمومه أولى من المحافظة على عموم ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏أزواجاً‏}‏ لأن عموم هذه بالذات لأن الموصول من صيغ العموم، وعموم ‏{‏أزواجاً‏}‏ بالعرض لأنه بدلي لا يصلح لتناول جميع الأزواج في حال واحد، والحكم معلل هنا بوصف الحملية بخلاف ذاك ولأن سبيعة بنت الحارث وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، ولأن هذه الآية متأخرة النزول عن آية البقرة، فتقديمها على تلك تخصيص، وتقديم تلك في العمل بعمومها رفع لما في الخاص من الحكم فهو نسخ والأول هو الراجح للوفاق عليه، فإن كان الحمل من زنا أو شبهة فلا حرمة له، والعدة بالحيض‏.‏

ولما كانت أمور النساء في المعاشرة والمفارقة من المعاسرة والمياسرة في غاية المشقة، فلا يحمل على العدل فيها والعفة إلا خوف الله، كرر تلميعاً بالحث على التقوى إشارة إلى ذلك وترغيباً في لزوم ما حده سبحانه، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن لم يحفظ هذه الحدود عسر الله عليه أموره‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله‏}‏ أي يوجد الخوف من الملك الأعظم إيجاداً مستمراً ليجعل بينه وبين سخطه وقاية من طاعاته اجتلاباً للمأمور واجتناباً للمنهي ‏{‏يجعل له‏}‏ أي يوجد إيجاداً مستمراً باستمرار التقوى «إن الله لا يمل حتى تملوا» ‏{‏من أمره‏}‏ أي كله في النكاح وغيره ‏{‏يسراً *‏}‏ أي سهولة وفرجاً وخيراً في الدارين بالدفع والنفع، وذلك أعظم من مطلق المخرج المتقدم في الآية الأولى‏.‏

ولما كان تكرير الحث على التقوى للسؤال عن سببه، استأنف قوله كالتعليل له‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر المذكور من جميع هذه الأحكام العالية المراتب ‏{‏أمر الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الكمال كله، ونبه على علو رتبة الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏أنزله إليكم‏}‏ ولما كان التقدير‏:‏ فمن أباه هوى في مهاوي المهلكات إلى أسفل سافلين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتق الله‏}‏ أي الذي لا أمر لأحد معه بالاجتلاب والاجتناب، ولما كان الإنسان محل العجز والنقصان، أنسه بأنه إذا وقع منه زلل فراجعه بالتقوى لطف به فيه جزاء على تقواه بالدفع والنفع فقال‏:‏ ‏{‏يكفر‏}‏ أي يغطي تغطية عظيمة ويستر ويغيب ويسقط ‏{‏عنه‏}‏ جميع ‏{‏سيئاته‏}‏ ليتخلى عن المبعدات فإن الحسنات يذهبن السيئات‏.‏ ولما كان الكريم لا يرضى لمن أقبل إليه بالعفو فقط قال‏:‏ ‏{‏ويعظم له أجراً *‏}‏ بأن يبدل سيئاته حسنات ويوفيه أجرها في الدارين مضاعفاً فيتحلى بالمقربات، وهذا أعظم من مطلق اليسر المتقدم‏.‏ ولما قدم التكفير وأتبعه الأجر الكبير، وكان قد تقدم إيجاب ترك المطلقة في منزل الطلاق وأذن في إخراجها عند الفاحشة المبينة، وكان ربما كان منزل الطلاق مستعاراً، وكان مما لا يليق بالزوج، وكان ربما نزل الكلام السابق عليه، استأنف البيان له بما لا يحتمل لبساً فقال آمراً بعد ذلك النهي على وجه مشير بسابقه ولاحقه إلى الحلم عنهن فيما يمكن الحلم فيه حفظاً للقلوب وإبعاداً للشقاق بعد الإيحاش بالطلاق لئلا يعظم الكسر والوحشة‏:‏ ‏{‏أسكنوهن‏}‏ أي هؤلاء المفارقات في العدة إن كن مطلقات حاملات كن أو لا مبتوتات كن أو رجعيات بخلاف ما كان من العدة عن وفاة بغير حمل أو كان عن شبهة أو فسخ‏.‏

ولما كان المراد مسكناً يليق بها وإن كان بعض مسكن الرجل، إدخل أداة التبعيض فقال‏:‏ ‏{‏من حيث سكنتم‏}‏ أي من أماكن سكناكم لتكون قريبة منكم ليسهل تفقدكم لها للحفظ وقضاء الحاجات‏.‏

ولما كان الإنسان ربما سكن في ماضي الزمان ما لا يقدر عليه الآن قال مبيناً للمسكن المأمور به مبقياً للمواددة بعدم التكليف بما يشق‏:‏ ‏{‏من وجدكم‏}‏ أي سعتكم وطاقتكم بإجارة أو ملك أو إعارة حتى تنقضي العدة بحمل كانت أو غيره‏.‏ ولما كان الإسكان قد يكون مع الشنآن قال‏:‏ ‏{‏ولا تضاروهن‏}‏ أي حال السكنى في المسكن ولا في غيره‏.‏ ولما كانت المضارة قد يكون لمقصد حسن بأن يكون تأديباً لأمر بمعروف ليتوصل بصورة شر قليل ظاهر إلى خير كثير قال‏:‏ ‏{‏لتضيقوا‏}‏ أي تضييقاً بالغاً لا شبهة في كونه كذلك مستعلياً ‏{‏عليهن‏}‏ حتى يلجئهن ذلك إلى الخروج‏.‏ ولما كانت النفقة واجبة للرجعية، وكانت عدتها تارة بالأقراء وتارة بالأشهر وتارة بالحمل، وكان ربما توهم أن ما بعد الثلاثة الأشهر من مدة الحمل للرجعية وجميع المدة لغيرها لا يجب الإنفاق فيه قال‏:‏ ‏{‏وإن كن‏}‏ أي المعتدات ‏{‏أولات حمل‏}‏ أي من الأزواج كيف ما كانت العدة من موت أو طلاق بائن أو رجعي ‏{‏فأنفقوا عليهن‏}‏ وإن مضت الأشهر ‏{‏حتى يضعن حملهن‏}‏ فإن العلة الاعتداد بالحمل، وهذه الشرطية تدل على اختصاص الحوامل من بين المعتدات البوائن بوجوب النفقة‏.‏

ولما غيى سبحانه وجوب الإنفاق بالوضع، وكانت قد تريد إرضاع ولدها، وكان اشتغالها بإرضاعه يفوت عليها كثيراً من مقاصدها ويكسرها، جبرها بأن قال حاثاً على مكافأة الأخوان على الإحسان مشيراً بأداة الشك إلى أنه لا يجيب عليها الإرضاع‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن‏}‏ وبين أن النسب للرجال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي بأجرة بعد انقطاع علقة النكاح ‏{‏فآتوهن أجورهن‏}‏ على ذلك الإرضاع‏.‏ ولما كان ما يتعلق بالنساء من مثل ذلك موضع المشاجرة لا سيما أمر الرضاع، وكان الخطر في أمره شديداً، وكان الله تعالى قد رحم هذه الأمة بأنه يحرك لكل متشاححين من يأمرهما بخير لا سيما في أمر الولد رحمة له قال مشيراً إلى ذلك‏:‏ ‏{‏وأتمروا‏}‏ أي ليأمر بعضكم بعضاً في الإرضاع والأجر فيه وغير ذلك وليقبل بعضكم أمر بعض، وزادهم رغبة في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بينكم‏}‏ أي إن هذا الخير لا يعدوكم، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بمعروف‏}‏ ونكره سبحانه تحقيقاً على الأمة بالرضى بالمستطاع، وهو يكون مع الخلق بالإنصاف، ومع النفس بالخلاف، ومع الحق بالاعتراف‏.‏

ولما كان ذلك موجباً للمياسرة، وكان قد يوجد في الناس من الغالب عليه الشر، قال مشيراً بالتعبير بأداة الشك إلى أن ذلك وإن وجد فهو قليل عاطفاً على ما تقديره فإن تياسرتم فهو حظكم وأنتم جديرون بسماع هذا الوعد بذلك‏:‏ ‏{‏وإن تعاسرتم‏}‏ أي طلب كل منكم ما يعسر على الآخر بأن طلبت المرأة الأجرة وطلب الزوج إرضاعها مجاناً فليس له أن يكرهها‏.‏

ولما كان سبحانه قد تكفل بأرزاق عباده وقدرها قبل إيجادهم‏.‏ قال مخبراً جبراً للأب بما يصلح عتاباً للأم‏:‏ ‏{‏فسترضع‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه، وصرف الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بأن الأب ترك الأولى فيما هو جدير به من المياسرة لكونه حقيقاً بأن يكون أوسع بطاناً وأعظم شأناً من أن يضيق عما ترضى به المرأة استناناً به صلى الله عليه وسلم في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطعية رحم فقال‏:‏ ‏{‏له‏}‏ أي الأب ‏{‏أخرى *‏}‏ أي مرضعة غير الأم ويغني الله عنها وليس له إكرهها إلا إذا لم يقبل ثدي غيرها، وهذا الحكم لا يختص بالمطلقة بل المنكوحة كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما كانت المعاسرة في الغالب في ترك السماح، وكان ترك السماح من خوف الإعدام، نبه سبحانه على أن ذلك ليس بعذر بتقسيم الناس إلى موسع عليه وغيره، ولأن الأليق بالموسع عليه أن يوسع ولا يسيء الظن بربه وقد جرب رفده، وأن المقتر عليه لا ينبغي أن يفعل فعل من يخاف أن يخلف وعده، فقال شارحاً للمياسرة‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعة‏}‏ أي مال واسع ولم يكلفه سبحانه جميع وسعه بل قال‏:‏ ‏{‏من سعته‏}‏ التي أوسعها الله عليه‏.‏ ولما كان الإعطاء من غير تقدير ملزوماً للسعة، كان التقدير كناية عن الضيق فقال‏:‏ ‏{‏ومن قدر‏}‏ أي ضيق وسكنت عليه حركته ورقدت عنه معيشته ‏{‏عليه رزقه‏}‏ بأن جعله الله الذي لا يقدر على التضييق والتوسيع غيره بقدر ضرورياته فقط من غير وسع لشيء غيرها لأمر من الأمور التي يظهر الله بها عجز العباد رحمة لهم ليهذب به نفوسهم، وبناه للمفعول تعليماً للأدب معه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فلينفق‏}‏ أي وجوباً على المرضع وغيرها من كل ما أوجبه الله عليه أو ندبه إليه، وبشر سبحانه وتعالى بأنه لا يخلي أحداً من شيء يقوم به ما دام حياً بقوله مشيراً بالتبعيض إلى أن ما أوجبه سبحانه لا يستغرق ما وهبه‏:‏ ‏{‏مما آتاه الله‏}‏ أي الملك الذي لا ينفذ ما عنده ولا حد لجوده، ولو من رأس المال ومتابع البيت ومن ثمن الضيعة إن لم يكن له من الغلة لأنه سبحانه قد ضمن الإخلاف، ومن ملك ما يكفيه للوقت ثم اهتم للزيادة للغد فذلك اهتمام غير مرحوم، وصاحبه غير معان، وفي هذا إرشاد إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في عدم التكلف واليسر في كل أمر على حسب الأوقات‏.‏

ولما كان تعالى له التكليف بما لا يطاق، أخبر بأنه رحم العباد بأنه لا يفعله، فقال معللاً أو مستأنفاً جواباً لمن يقول‏:‏ فما يفعل من لم يكن له موجود أصلاً، محبباً في دينه صلى الله عليه وسلم مما فيه من اليسر‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله‏}‏ أي الذي له الكمال بأوصاف الرحمة والإنعام علينا بالتخفيف ‏{‏نفساً‏}‏ أي نفس كانت ‏{‏إلا ما آتاها‏}‏ وربما أفهم، أن من كلف إنفاقاً وجد من فضل ما عنده ما يسده من الأثاث الفاضل عن سد جوعته وستر عورته‏.‏

ولما كان التذكير بالإعدام ربما أوجع، قال تعالى جابراً له وتطبيباً لقلبه نادباً إلى الإيمان بالغيب‏:‏ ‏{‏سيجعل الله‏}‏ أي الملك الذي له الكمال كله فلا خلف لوعده، ونزع الجار زيادة في الخبر فقال‏:‏ ‏{‏بعد عسر‏}‏ أي من الأمور التي تعسرت لا أنه يجعل ذلك بعد كل عسر ‏{‏يسراً *‏}‏ أي لا بد من ذلك ولا يوجد أحد يستمر التقتير عليه طول عمره في جميع أحواله، قال القشيري‏:‏ وانتظار اليسر من الله صفة المتوسطين في الأحوال الذين انحطوا عن درجة الرضى واستواء وجود السبب وفقده وارتقوا عن حد اليأس والقنوط ويعيشون في أفناء الرجاء ويتعللون بحسن المواعيد- انتهى‏.‏ ولقد صدق الله وعده فيمن كانوا موجودين حين نزول الآية، ففتح عليهم جميع جزيرة العرب ثم فارس والروم وانتثلوا كنوزها حتى صاروا أغنى الناس، وصدق الآية دائم غير أنه كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبين لأن إيمانهم أتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما كان الأمر قد بلغ النهاية في الأحكام والمواعظ والترغيب لمن أطاع، فلم يبق إلا التهديد لمن عصى بما شوهد من المثلات وبالغ العقوبات، فإن من الناس البليد الذي لا يتعظ بما يرى، وكان التقدير‏:‏ فكأي من ناس كانوا في غاية الضيق فأطاعوا أوامرنا فجعلناهم في غاية السعة بل جعلناهم ملوكاً، عطف عليه تزهيداً في الرفاهية بأنها تطغى في الأغلب، وتهديداً لأهل المعاصي قوله مفيداً لكثرة القرى الخارجة عن الحد‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية‏}‏ أي مدينة كبيرة جامعة، عبر عن أهلها بها مبالغة ‏{‏عتت‏}‏ أي استكبرت وجاوزت الحد في عصيانها وطغيانها فأعرضت عناداً ‏{‏عن أمر ربها‏}‏ أي الذي أحسن إليها ولا محسن إليها غيره بكثرة الرزق وطيب العيش واللطف في التربية والرحمة بعد الإيجاد والملك ‏{‏ورسله‏}‏ فلم يقبل منهم ما جاؤوها به عن الله، فإن طاعتهم من طاعة الله‏.‏

ولما كانت محاسبة مثل هؤلاء للإهلاك لأن الحساب هو ذكر الأعمال والمجازاة عليها بما يحق لكل منها، قال ملتفتاً إلى مقام التكلم في مظهر العظمة‏:‏ ‏{‏فحاسبناها‏}‏ أي فتسبب عن عدم شكرهم للإحسان أن أحصينا أعمالها‏.‏ ولما كان ذلك على وجه المناقشة على النقير والقطمير بالمجازاة على كل فعل بما يليق به قال‏:‏ ‏{‏حساباً شديداً‏}‏ بمعناه المطابقي من ذكر الأعمال كلها والمجازاة عليها، وهذا هو المناقشة وهي أن العامل إذا أثر أثراً بعمله هو كالنقش في الجامد أثر المجازي له فيه أثراً بحسب عمله على سبيل الاستقصاء، وأما الحساب اليسير فهو عرض الأعمال فقط من غير جزاء على قبيحها فهو دلالة تضمن، وإنما شدد على هذه القرية لأن إعراضها كان كذلك بما نبه عليه تسميته عتواً ‏{‏وعذبناها‏}‏ أي في الدنيا جزاء على ما أحصيناه من ذنوبها ‏{‏عذاباً نكراً *‏}‏ أي شديد النكارة لأن العقل يحير في أمره لأنه لم ير مثله ولا قريباً منه ليعتبره به، وأزال ذكر الكثرة شبهة أن يكون الإهلاك وقع اتفاقاً في وقت من الأوقات ‏{‏فذاقت‏}‏ بسبب ذلك بعد ما كان لها من الكثرة والقوة ‏{‏وبال‏}‏ أي وخامة وعقوبة وشدة وثقل وفساد ‏{‏أمرها‏}‏ أي في العتو وجميع ما كانت تأتمر فيه، مثله بالمرعى الوخيم الذي يمرض ويهلك‏.‏ ولما كان كل مقهور إنما يسلي نفسه بانتظار الفرج ورجاء العاقبة، أيأس من ذلك مذكراً للفعل إشارة إلى الشدة بقوله‏:‏ ‏{‏وكان عاقبة‏}‏ أي آخر ومنتهى وعقيب ‏{‏أمرها‏}‏ أي في جميع عملها الذي كانت فيه ‏{‏خسراً *‏}‏ أي نفس الخسر في الدارين، فكلما امتد الأمر وجدوه أمامهم فإن من زرع الشوك كما قال القشيري لا يجني الورد، ومن أضاع حق الله لا يطاع في حظ نفسه، ومن احترق بمخالفة أمر الله تعالى فليصبر على مقاساة عقوبة الله تعالى، ثم فسر الخسر أو استأنف الجواب لمن يقول‏:‏ هل لها غير هذا في هذه الدار، بقوله‏:‏ ‏{‏أعد الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لهم‏}‏ بعد الموت وبعد البعث ‏{‏عذاباً شديداً‏}‏‏.‏

ولما تمت الأحكام ودلائلها، وأحكمت الآيات وفواصلها، والتهديدات وغوائلها، كانت فذلكتها وثمرة سياقها وموعظتها ما تسبب عن ذلك من قوله تعالى تنبيهاً على ما يحيي الحياة الطيبة وينجي في الدارين‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‏.‏

ولما كان في تخليص المواعظ من الأحكام واستثمارها من فواصل هذا الكلام أمر عظيم هو من الرقة بمكان لا يبصره إلا ذوو الأفهام قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أولي الألباب *‏}‏ أي العقول الصافية النافذة من الظواهر إلى البواطن ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي خلصوا من دائرة الشرك وأوجدوا الإيمان حقيقة، ثم علل هذا الأمر بما أزال العذر فقال تنبيهاً على ما من علينا به من المراسلة فإن مراسلات فإن مراسلات الأكابر فخر فكيف بمراسلات الملوك فكيف بمراسلة ملك الملوك حثاً بذلك على شكره‏:‏ ‏{‏قد أنزل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏إليكم‏}‏ خاصة ‏{‏ذكراً *‏}‏ أي كاملاً مذكوراً فيه غاية الشرف لكل من يقبله بل تشرفت الأرض كلها بنزوله ورفع عنها العذاب وعمها النور والصواب لأن فيه تبيان كل شيء، فمن استضاء بنوره اهتدى، ومن لجأ إلى برد أفنائه وصل من داء الجهل إلى شفائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم صورة سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره لأنه خلقه لا قول له ولا فعل إلا به، فكان كأنه هو، أبدل منه قوله‏:‏ ‏{‏رسولاً‏}‏ على أن الأمر فيه غي عن تأويل، فإن الذكر بكسر الذال في اللغة كما في القاموس من الرجال القوي الشجاع الأبي، ثم بين كونه ذكراً بقوله‏:‏ ‏{‏يتلوا‏}‏ أي يتابع أن يقص ‏{‏عليكم آيات الله‏}‏ أي دلائل الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام الظاهر جداً حال كونها ‏{‏مبينات‏}‏ أي لا لبس فيها بوجه‏.‏

ولما تبين أن الذكر والرسول صارا شيئاً واحداً، وعلم ما في هذه المراسلة من الشرف، أتبع ذلك بيان شرف آخر ببيان ثمرة إنزاله فقال‏:‏ ‏{‏ليخرج الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالشهادتين ‏{‏وعملوا‏}‏ تصيدقاً لما قالوه بألسنتهم وتحقيقاً لأنه من قلوبهم ‏{‏الصالحات‏}‏ من الأعمال ‏{‏من الظلمات‏}‏ أي النفسانية والأخلاق الرذيلة المؤدية إلى ظلمة الجوارح بعملها الظلم وانتشارها في السبل الشيطانية ‏{‏إلى النور‏}‏ الروحاني العقيلي الخالص الذي لا دنس فيه بسلوك صراط الله الذي هو واحد لا شتات فيه وبين لا لبس فيه ‏{‏وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ كما بادروا إلى إخراج أنفسهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن فساد الأعمال الصالحة إلى سداد الأعمال الصالحة، وذلك بأن يصيرهم متخلقين بالقرآن ليكونوا مظهراً له في حركاتهم وسكناتهم وأقوالهم وأفعالهم فيكونوا ذكراً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن آمن بالله وعمل صالحاً شاهد بركات ذلك في نفسه عاجلاً، عطف عليه بياناً لسعادة الآجلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يؤمن بالله‏}‏ أي يجدد في كل وقت على الدوام الإيمان بالملك الأعلى بأن لا يزال في ترق في معارج معارفه ‏{‏ويعمل‏}‏ على التجديد المستمر ‏{‏صالحاً‏}‏ لله وفي الله فله دوام النعماء، وهو معنى إدخاله الجنة، ولما كان قد تقدم قريباً في آية التقوى أنه يكفر عنه سيئاته، قال شارحاً لقوله‏:‏ ‏{‏ويعظم له أجراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 5‏]‏‏:‏ ‏{‏يدخله‏}‏ أي عاجلاً مجازاً بما يتيح له من لذات العرفان ويفتح له من الأنس آجلاً حقيقة ‏{‏جنات‏}‏ أي بساتين هي في غاية ما يكون من جمع جميع الأشجار وحسن الدار، وبين دوام ريها بقوله‏:‏ ‏{‏تجري‏}‏ وبين انكشاف كثير من أرضها بقوله‏:‏ ‏{‏من تحتها‏}‏ أي تحت غرفها ‏{‏الأنهار‏}‏ أو هو كناية عن أن أرضها في غاية الري بحيث إن ساكنها يجري في أي موضع أراد نهراً، وإلى زيادة عظمتها أشارت قراءة نافع وابن عامر بنون العظمة‏.‏

ولما أفرد الشرط والجزاء إجراء على لفظ «من» إشارة إلى أنه لا يشترط في الإيمان ولا في جزائه مشاركة أحد، وأنه لا توقف للقبول على شيء غير الوصف المذكور، جمع الحال بشارة بأن الداخلين كثير، وأن الداخل إلى دار الكرامة لا يحصل له هوان بعد ذلك أصلاً فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ وأكد معنى الخلود ليفهم الدوام بلا انقضاء فقال‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏ ولما أعلم أن الخلود لكل الداخلين إلى الجنة رجع إلى الأسلوب الأول تنصيصاً على كل فرد إبلاغاً في عظمة هذا الجزاء بقوله نتيجة لذلك، منبهاً على أن هذه النتيجة من حقها أن يتوقع قولها من كل من سمع هذه البشرى‏:‏ ‏{‏قد أحسن الله‏}‏ أي الملك الأعلى ذو الجلال والإكرام ‏{‏له‏}‏ أي خاصة ‏{‏رزقاً *‏}‏ أي عظيماً عجيباً، قال القشيري‏:‏ الرزق الحسن ما كان على حد الكفاية لا نقصان فيه يتعطل عن أموره بسببه ولا زيادة تشغله عن الاستمتاع بما رزق لحرصه، كذلك أرزاق القلوب أحسنها أن يكون له من الأحوال ما يستقل بها عن غير نقصان ولا يتعذب بتعطشه ولا يكون زيادة فيكون على خطر من مغاليط لا يخرج منها إلا بتأييد من الله سماوي‏.‏

ولم تقدم أن فائدة الذكر النقل من خلق إلى خلق، وكان من المعلوم أن تحويل جبل من مكانه أيسر من تحويل شخص عن خلقه وشأنه، وتقدم أن أجر المجاهدة في ذلك الجنات الموصوفة، وكان ذلك يحتاج إلى قدرة تامة، دل على قدرته سبحانه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال التي القدرة الشاملة إحداها، ثم أخبر عنه بما يدل على ذلك لأن الصنعة تدل على الصانع وعلى ما له من الصفات فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق‏}‏ أي أوجد وحده من العدم بقدرته على وفق ما دبر بعلمه على هذا المنوال البديع القريب ‏{‏سبع سماوات‏}‏ أي وإنهم يشاهدون عظمة ذلك ويشهدون أنه لا يقدر عليه إلا تام العلم كامل القدرة، ثم زاد على ذلك ما أنتم أعرف به فقال‏:‏ ‏{‏ومن الأرض مثلهن‏}‏ أي سبعاً كما دل عليه حديث سعيد بن زيد وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين «من أخذ شبراً من الأرض بغير حقه طوقه من سبع أرضين» ولفظ ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين، وقد تقدم في سورة السجدة ما ينفع في ذلك، وظاهره يدل على أنها كما هي مثلها في العدد فهي مثلها في الكرية وإحاطة كل واحدة منها بالتي تحتها، وأن التي نحن عليها هي السابعة العليا كالسماء السابعة التي سقفها الكرسي لأن ذلك أدل على ما السياق له من تمام العلم وشمول القدرة في الاستدلال عليه بقوله‏:‏ ‏{‏يتنزل‏}‏ أي بالتدريج ‏{‏الأمر‏}‏ أي الذي يجود به الرحمن من التدبير من أمر الدين والتكوين من العرش والكرسي ‏{‏بينهن‏}‏ بالوحي من السماء السابعة العليا إلى الأرض السابعة السفلى وأنتم ترونهن بلا فروج فأنفذ بينهن حتى نفذ فيهن، وذلك- والله أعلم- هو ما يريد من عظيم تدبيره بإنزال الكتب وإرسال الرسل وإثبات شريعة ومحو أخرى وتوجيه الأسباب إلى المسببات من المطر والنبات والليل والنهار والفصول وخلق الحيوانات والمعادن وسائر النباتات، وترديد الملائكة بسائر المصنوعات، هذا ما دل عليه ظواهر الكتاب والسنة، وأولها بعضهم بأنها سبعة أقاليم، وهو مردود بعد القاعدة في أن التأويل بغير دليل لعب بما يأتي من صريح الحديث النبوي والكلام الضابط فيما يؤول وما لا يؤول أن النقليات أربعة أقسام‏:‏ قطعي السند والدلالة، ظنيهما، ظني السند قطعي الدلالة، عكسه‏:‏ قطعي السند ظني الدلالة، فالأول يجب اعتقاد ظاهره، ومن خالفه كفر، والبقية يجب اعتقاد ظواهرها ما لم تعارض، فإن عورضت بقطعي وجب العدول عن الظاهر إجماعاً، فمن اعتقده كفر، ثم للناس بعد ذلك مذهبان‏:‏ أما السلف فيفوضون المراد إلى الله تعالى، وأما الخلف فإن كان لذلك محمل واحد عينوه، وإن كان ثَم محامل سردوها ولم يعينوا شيئاً منها مع اعترافهم بأنهم ليسوا على قطع من أن المراد شيء مما ذكروه، وإنما هو شيء يليق بالمقام والعلم عند الله وبأن طريق السلف أقرب وأسلم وبأنه ما حملهم على التأويل إلا انتشار المبتدعين وإشهارهم بدعتهم بين الناس، قال الإمام علاء الدين القونوي رحمه الله تعالى في باب السير من شرحه الحاوي‏:‏ قال الإمام- يعني إمام الحرمين‏:‏ ولو بقي الناس على ما كانوا عليه من صفوة الإسلام لما أوجبنا التشاغل بعلم الكلام بل ربما نهينا عنه، وأما الآن وقد ثارت البدع فلا سبيل إلى تركها تلتطم أمواجها فلا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق وتحل به الشبه، فصار الاشتغال بأدلة المعقول وحل الشبه من فروض الكفايات، ومن استراب في أصل من أصول الاعتقاد فعليه السعي في إزاحته إلى أن يستقيم عقده- انتهى‏.‏

ثم إنك تجد العلماء يختلفون في بعض الأدلة فبعضهم يجريها على الظاهر وبعضهم يؤول، وذلك للاختلاف في المعارض هل هو قطعي الدلالة أم لا، وهذا الموضع منه، لإن ظواهر الكتاب والسنة تدل على أن الأرضين مثل السماوات في العدد في أن بينهما خلاء، وفي أن في كل واحدة مخلوقات لا يعلمها إلا الله، بل بعض الأخبار يكاد يقطع به في ذلك، ولكنه لم يخرج عن أن يكون ظنياً فأكثر العلماء ومحققوهم على أن المعارض- وهو ما قاله أهل علم الهيئة من الأدلة على كونها واحدة- ليس بقطعي، فأولوا كونها سبعة بالأقاليم السبعة، وقد رأيت في التعدد حقيقة حديثاً صريحاً لكن لا أدري حاله، ذكره ابن برجان في اسمه تعالى الملك من شرحه للأسماء الحسنى قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أتدرون ما تحت هذه الأرض، قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ماء، أتدرون ما تحت ذلك، قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال هواء، أتدرون ما تحت ذلك‏:‏ قالوا الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ أرض، أتدرون ما تحت ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم- حتى عد سبع أرضين»

ثم رأيته في الترمذي عن أبي رزين العقيلي ولفظه‏:‏ «هل تدرون ما الذي تحتكم، قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ إنها الأرض، ثم قال‏:‏ هل تدرون ما تحت ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ إن تحتها أرضاً أخرى بينهما خمسمائة سنة- حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة» ثم رأيت في الفردوس عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بين السماء إلى السماء مسيرة خمسمائة عام، وعرض كل سماء وثخانة كل سماء خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة وبين الكرسي والعرش مثل ذلك، وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام، والأرضون وعرضهن وثخانتهن مثل ذلك»‏.‏

ولما ذكر سبحانه الصنعة تنبيهاً على التفكر فيها والاعتبار بها، ذكر أن ثمرتها العلم بصفاته بعد العجز عن إحاطة العلم عقب ذاته تعالى فقال‏:‏ ‏{‏لتعلموا‏}‏ أي بهذا العالم الذي أوجده بتسوية كل واحد من القبيلين سبعاً كل واحدة بينها وبين الأخرى مسافة بعيدة مع الكثافة الزائدة وأنتم تعلمون أنه لا يفصل الجسم ولا سيما الكثيف عن آخر مثله إلا فاصل قاهر بقوة باهرة وقدرة ظاهرة وعلم شامل لما يحتاج إليه ذلك، فكيف إذا كان على هذا المنهاج البديع والوجه المنيع على مر الدهور والأحقاب وتعاقب الشهور والأعوام على حساب معلوم ونظام منظوم، لا يدركه إلا أعلى الناس حساباً وأعظمهم صواباً، مع المنافع التي تفضل عن سكانها، والمرافق التي تنزه الخالق بآثارها وأعيانها، وتوقظ الغافل وتنبه الجاهل وتدمغ المعاند ببرهانها، فإنه لا يسع أحداً المنازعة في خلقه لها، ومن خلقها قدر على تدبيرها على الوجه المذكور، ومن كان كذلك كان منزهاً عن الشريك قطعاً، ومن كان كذلك قدر على كل شيء فلذا قال‏:‏ ‏{‏أن الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة كلها ‏{‏على كل شيء‏}‏ أي من غير هذا العالم ممكن أن يدخل تحت المشيئة فإنه بمعنى مفعول من عالم آخر مثل هذا العالم، وأبدع منه وأبدع من ذلك الإبداع إلى ما لا نهاية له بالاستدلال بهذا العالم، فإن من قدر على إيجاد ذرة من العدم قدر على إيجاد ما هو دونها ومثلها وفوقها إلى ما لا نهاية له لأنه لا فرق في ذلك بين قليل ولا كثير جليل أو حقير ‏{‏ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ وإياك أن تلتفت إلى من قال‏:‏ إنه ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، فإنه مذهب فلسفي خبيث، والآية نص على إبطاله وإن نسبه بعض الملحدين إلى الغزالي فإني لا أشك أنه مدسوس عليه فإنه مذهب فلسفي خبيث بشهادة الغزالي كما بينت ذلك في كتابي «تهديم الأركان على من قال ليس في الإمكان أبدع مما كان» وكتابي «دلالة البرهان على أن في الإمكان أبدع مما كان» وكتابي «إطباق الأغلال في أعناق الضلال» ومع كونه مذهب الفلاسفة أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه فصوصه وغير ذلك من كتبه واستند فيه في بعضها إلى الغزالي إتقاناً لمكره- أعاذنا الله من شره، والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره ‏{‏قدير *‏}‏ أي بالغ القدرة‏.‏

ولما كانت إحاطة العلم دالة على تمام القدرة وإليهما يرجع جميع الأسماء والصفات قال‏:‏ ‏{‏قد أحاط‏}‏ لتمام قدرته ‏{‏بكل شيء‏}‏ مطلقاً، ولما أسند الإحاطة إليه سبحانه تعظيماً لها، بين جهتها بتمييز محول عن الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏علماً *‏}‏ فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العلم بمصالحه ومفاسده فعاملوه معاملة من يعلم إحاطة علمه فيعلم أنه رقيب عليه فإذا طلقتم فافعلوا ما أمركم به لتسلموا في الدين وتسعدوا في الآخرة والأولى، ودبروا في جميع أموركم مثل ما دبر به أمركم في تربيتكم ومسكنكم أرضه وسقفه فإنه جعل فيه جميع ما تحتاجونه وبسطه نواله على من يرضيه ومن يسخطه ونشر حلمه وفضله وأخر بأسه وعدله فقد عائق أخرها أولها وبين مجملها ومفصلها والله يعلم بذات الصدور‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما ختم سبحانه الطلاق بإحاطة علمه وتنزل أمره بين الخافقين في تدبيره، دل عليه أول هذه بإعلاء أمور الخلق بأمر وقع بين خير خلقه وبين نسائه اللاتي من خير النساء واجتهد كل في إخفاء ما تعلق به منه فأظهره سبحانه عتاباً لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في صورة عقابه لأنه أبلغ رفقاً به لأنه يكاد من شفقته أن يبخع نفسه الشريفة رحمة لأمته تارة لطلب رضاهم وأخرى رغبة في هداهم، لأنه صلى الله عليه وسلم بالغ في تهذيب أخلاقه مع ما طهره الله به من نزاهتها عن كل دنس حتى ضيق عليها بالامتناع عن بعض ما أبيح له حفظاً لخاطر الغير، فقال تعالى منادياً له بأداة البعد وهو أقرب أهل الحضرة مع أنها معدة لما يكون ذا خطب جليل ومعنى جسيم جليل، وفيها إيماء إلى تنبيه الغير وإسماعه إرادة لتأديبه وتزكيته وتهذيبه‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ مخاطبة بالوصف الذي يعلم بالعصمة ويلائمه أشد الملاءمة خلو البال وسرور القلب وانشراح الصدر لأنه للتلقي عن الله تعالى فيحث كل سامع على البعد عن كل ما يشوش عليه صلى الله عليه وسلم أدنى تشويش ‏{‏لم تحرم‏}‏ أي تفعل فعل المحرم بمنع نفسك الشريفة ‏{‏ما أحل الله‏}‏ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏لك‏}‏ بالوعد لبعض أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بالامتناع من شرب العسل الذي كان عند حفصة أو زينب رضي الله عنهما والامتناع من ملامسة سريتك مارية رضي الله تعالى عنها فتضيق على نفسك لإحسان العشرة مع نسائك رضي الله عنهن أجمعين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب عسلاً عند حفصة بنت عمر أو زينت بنت جحش رضي الله عنهما على اختلاف الروايتين في ذلك في الصحيح، وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة دخل على نسائه رضي الله عنهن امرأة امرأة، وكانت قد أهديت لحفصة بنت عمر رضي الله عنهما عكة من العسل، فكانت إذا دخل عليها فسلم حبسته وسقته منها، وأن عائشة رضي الله عنها أنكرت احتباسه عندها فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها خصرة‏:‏ إذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حفصة فادخلي عليها فانظري ماذا يصنع فأخبرتها الخبر فوصت صواحباتها فنفرنه من شربه بإخباره بأنه يوجد منه ريح كريهة لأن نحلة جرست العرفط، فقال‏:‏ لن أعود له،» وروى الطبري وابن مردوية «أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية رضي الله عنها أم ولده إبراهيم عليه السلام في بيت حفصة رضي الله عنها فتوجعت من ذلك حفصة رضي الله عنها فقال هي علي حرام ولا تذكري ذلك لأحد وأبشرك على ذلك بشارة، وهي أن أبا بكر يلي هذا الأمر من بعدي وأباك يليه من بعد أبي بكر رضي الله عنهما، لا تخبري بذلك أحداً، فأخبرت عائشة رضي الله عنها»

ويروى أن حفصة رضي الله عنها قالت في يومها من النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن بي إلى أبي حاجة نفقة له عنده فأذن لي أن أزوره وآتي بها، فأذن لها فلما خرجت أرسل إلى جاريته مارية القبطية رضي الله عنها فوقع عليها فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقاً فجلست عنده فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يقطر عرقاً وحفصة تبكي فقال لها‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقالت‏:‏ إنما أذنت لي من أجل هذا وقعت عليها في يومي وعلى فراشي، أما رأيت لي حرمة وحقاً ما كنت تصنع هذا بامرأة منهن، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ أليس هي جاريتي قد أحلها الله لي اسكتي فهي علي حرام ألتمس بذاك رضاك فلا تخبري بهذا أحداً، فلما خرج أخبرت عائشة رضي الله عنها فحلفته على ترك مارية رضي الله عنهن» ثم علل ذلك سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏تبتغي‏}‏ أي تريد إرادة عظيمة من مكارم أخلاقك وحسن صحبتك ‏{‏مرضات أزواجك‏}‏ أي الأحوال والمواضع والأمور التي يرضين بها ومن أولى بأن تبتغين رضاك وكذا جميع الخلق لتفرغ لما يوحى إليك من ربك لكن ذلك للزوجات آكد‏.‏

ولما كان أعلى ما يقع به المنع من الأشياء من جهة العباد الإيمان، وكان تعالى قد جعل من رحمته لعباده لإيمانهم كفارة قال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي تفعل ذلك لرضاهن والحال أن الله الملك الأعلى ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي محاء ستور لما يشق على خلص عباده مكرم لهم، ثم علل أو بين بقوله‏:‏ ‏{‏قد فرض الله‏}‏ أي قدر ذو الجلال والإكرام الذي لا شريك له ولا أمر لأحد معه، وعبر بالفرض حثاً على قبول الرخصة إشارة إلى أن ذلك لا يقدح في الورع ولا يخل بحرمة اسم الله لأن أهل الهمم العوالي لا يحبون النقلة من عزيمة إلى رخصة بل من رخصة إلى عزيمة، أو عزيمة إلى مثلها‏.‏

ولما كان التخفيف على هذه الأمة إنما هو كرماً منه وتعظيماً لهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ أي أيتها الأمة التي أنت رأسها، وعبر بمصدر حلل المزيد مثل كرمه وتكرمه إظهاراً لمزيد الغاية فقال‏:‏ ‏{‏تحلة‏}‏ أي تحللة ‏{‏أيمانكم‏}‏ أي شيئاً يحللكم مما أوثقتم به أنفسكم منها تارة بالاستثناء وتارة بالكفارة تحليلاً عظيماً بحيث يعيد الحال إلى ما كان عليه قبل اليمين، وقد بين ذلك في سورة المائدة فحلل يمينك واخرج من تضييقك على نفسك واشرح من صدرك لتتلقى ما يأتيك من أنباء الله تعالى وأنت متفرغ له بطيب النفس وقرة العين، وهذا يدل على أن قوله «أنت علي حرام» كاليمين إذا لم يقصد به طلاقاً للزوجة ولا إعتاقاً للأمة، وإذا كان الله قد فرض ذلك لكافة الأمة تيسيراً عليهم فرأسهم أولى بأن يجعل له ذلك، قال مقاتل‏:‏ فأعتق صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة رقبة، وقد قيل‏:‏ إن تحريمه صلى الله عليه وسلم هنا كان بيمين حلفها وحينئذ لا يكون فيه حجة لمن رأى أن «أنت على حرام» يمين ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن المختص بأوصاف الكمال ‏{‏مولاكم‏}‏ أي يفعل معكم فعل القريب الصديق ‏{‏العليم‏}‏ أي البالغ العلم بمصالحكم وغيرها إلى ما لا نهاية له ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي الذي يضع كل ما يصدر عنه لكم في أتقن محاله بحيث لا ينسخه هو ولا يقدر غيره أن يغيره ولا شيئاً منه، وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير‏:‏ لاخفاء بشدة اتصال هذه السورة بسورة الطلاق لاتحاد مرماهما وتقارب معناهما، وقد ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه حين اعتزل في المشربة حتى سأله عمر رضي الله عنه والقصة معروفة وتخييره صل الله عليه وسلم إياهن أثر ذلك وبعد اعتزالهن شهراً كاملاً وعتب الله عليهن في قوله‏:‏

‏{‏وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ فهذه السورة وسورة الطلاق أقرب شيء وأشبه بسورة الأنفال وبراءة لتقارب المعاني والتحام المقاصد- انتهى‏.‏

ولما كانت العدة فيمن رأى حبيبه قد ضاق صدره أن يسعى أولاً في شرح صدره وطيب نفسه ثم يزيده بسطاً بأن يقول للحاضرين‏:‏ إن حبيبنا هذا الكريم علينا اتفق له كذا، وقد كرهت هذا وضمنت زواله، وكان تعالى قد طيب نفسه صلى الله عليه وسلم بأول السورة، ثم أتبعه الأمر الآخر، فكان التقدير‏:‏ اذكروا هذا الذي ذكرته من حسن عشرة نبيكم صلى الله عليه وسلم لنسائه رضي الله تعالى عنهن وكريم صحبته وشريف أخلاقه وجميل أفضاله وجليل حلمه واذكروا ما خفف الله به عنكم في الأيمان التي لا مثنوية فيها واذكروا فيها اسمه المقدس، عطف عليه قوله تعالى تشريفاً لنبيه صلى الله عليه وسلم بالمعاتبة عليه وبإظهار ما هو حامل له من ثقل هذا السر على أجمل وجه تخفيفاً عنه وترويحاً له‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكروا كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم وطاهر شمائله في عشرتهن حين ‏{‏أسر النبي‏}‏ أي الذي شأنه أن يرفعه الله دائماً بأن يتلقى من فياض علمه ما يخبر به الناس فإنه ما ينطق عن الهوى وأبهم الزوجة ولم يعينها سبحانه تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ولها رضي الله عنهن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى بعض أزواجه‏}‏ وهي حفصة رضي الله عنها، كنى عنها صيانة لهن لأن حرمتهن رضي الله عنهن من حرمته صلى الله عليه وسلم ‏{‏حديثاً‏}‏ ليس هو من شأن الرسالة ولو كان من شأنها لهم به وأعلنه ولم يخص به ولا أسره وذلك هو تحريم مارية رضي الله عنها ووعده بأن يترك العسل وبشارته بولاية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يبين الحديث ويفصله إكراماً له صلى الله عليه وسلم وحفظاً لسره لأن العادة جارية بأن الإنسان لا يحب تفصيل سره وإن كنا اطلعنا عليه بعد ذلك لنتأسى به فيما فيه من الأحكام، فإن أحواله صلى الله عليه وسلم كلها أحكام لنا إلا ما اختص به وأشار إلى قرب زمن إفشائه من زمن التحديث بالفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نبأت‏}‏ أي أخبرت إخباراً عظيماً جليلاً لشرفه في نفسه ولأنه من عند الله وبالغت في ذلك وأخبرت ‏{‏به‏}‏ كله من جميع وجوهه، وجعل ذلك في سياق حكاية لأنه أستر لحرمه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل‏:‏ فنبأت به ولا قال‏:‏ أساءت بالإنباء به، ونحو ذلك مما يفهم أنه مقصود بالذات ‏{‏وأظهره الله‏}‏ أي أطلعه الملك الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏عليه‏}‏ أي الحديث بأنه قد أفشى مناصحة له في إعلامه بما يقع في غيبته ليحذره إن كان شراً ويثيب عليه إن كان خيراً ‏{‏عرف‏}‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم التي أسر إليها ‏{‏بعضه‏}‏ وهو أمر الخلافة عتاباً لها عليه لأنه كان أوصاها أن لا تظهره، والكف عن بعض العتب أبعث على حياء المعتوب وأعون على توبته وعدم عدده إلى فعل مثله ‏{‏وأعرض عن بعض‏}‏ وهو أمر السرية والعسل تكرما منه أن يستقصي في العتاب وحياء وحسن عشرة، قال الحسن‏:‏ ما استقصى كريم قط، وقال سفيان الثوري‏:‏ ما زال التغافل من فعل الكبراء وإنما عاتب على أمر الخلافة خوفاً من أن ينتشر في الناس ويذيع، فربما أثار حسداً من بعض المنافقين وأورث الحسود للصديق والفاروق كيداً أو جر إلى مفسدة لا نعلمها، وخفف الكسائي‏:‏ عرف أي أقر به والمعرفة سبب التعريف والتعريف عن المعرفة فإطلاق أحدهما على الآخر شائع وعلاقته ذلك وأشار إلى مبادرته بتعريفها ذلك لئلا ينتشر ما يكرهه منه بقوله‏:‏ ‏{‏فلما نبأها‏}‏ بما فعلت من إفشاء ما عرفها منه على وجه لم يغادر من ذلك الذي عرفها ‏{‏به‏}‏ شيئاً منه ولا من عوارضه ليزداد بصيرة، روي أنها قالت‏:‏ قلت لعائشة رضي الله عنها سراً وأنا أعلم أنها لا تظهره، قاله الملوي وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏ أي ظناً منها أن عائشة رضي الله عنها أفشت عليها ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ أي مطلق إخبار، واستأنف قوله‏:‏ ‏{‏قال نبأني‏}‏ وحذف المتعلق اختصاراً للفظ وتكثيراً للمعنى بالتعميم إشارة إلى أنه أخبره بجميع ما دار بينها وبين عائشة رضي الله عنهما مما عرفها به ومن غيره على أتم ما كان ‏{‏العليم‏}‏ أي المحيط بالعلم ‏{‏الخبير *‏}‏ أي المطلع على الضمائر والظواهر فهو أهل لأن يحذر فلا يتكلم سراً ولا جهراً إلا بما يرضيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

ولما عرف من هذا أن المعاتب المنبئة ومن نباته، وكان قد يكون عدداً أشار إلى أنه واحد فالمعاتب اثنتان، وكانتا قد اتسعت قلوبهما لما يأتي من قبل الله من الرغائب بهذا العتاب على هذا الأمر الخفي جداً والكرم عليهما فيه بعدم الاستقصاء فمالت قلوبهما إلى المعالي وغاصت على جليل المعارف فصاغت من جواهر ذلك دقيق المعاني، لفت إليهما الخطاب بلطيف العباد لشريف المتاب، فقال تشريفاً آخر له صلى الله عليه وسلم بالإقبال على نسائه رضي الله تعالى عنهن بالعتاب لأجله قياماً عنه بما ربما أزعجه لو باشره حفظاً لخاطره الشريف مما قد يغره ‏{‏إن تتوبا‏}‏ أي يا عائشة ويا حفصة مما صنعته حفصة بالإفشاء وعائشة بالاحتيال على المنع من شرب العسل والتحليف على مارية ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك الذي أحاط علمه فجلت قدرته ولطف بهما لأجله صلى الله عليه وسلم غاية اللطف في قوله‏:‏ ‏{‏فقد صغت‏}‏ أي مالت وغاضت بما صاغت ‏{‏قلوبكما‏}‏ وفي جمع القلوب جمع كثرة تأكيد لما فهمته من ميل القلب بكثرة المعارف بما أفادهما إظهار هذا السر والعتاب عليه من الحياء، فصارتا جديرتين بالمبادرة إلى التوبة متأهلتين لذلك غاية التأهل‏.‏

ولما أورد ما صارتا حقيقيتين به بأداة الشك إقامة للسامع بين الخوف والرجاء من ذلك وهو أعلم مما يكون أكمل ذلك بذكر شق الخوف، فقال معلماً بأن الملك وأوليائه أنصار له ‏{‏وإن تظاهرا‏}‏ بالتشديد للإدغام في قراءة الجماعة لأن النظر هنا إن وقع كان على وجه الخفاء في أعمال الحيلة في أمر مارية رضي الله عنها والعسل وما يأتي من مثل ذلك ما يبعث عليه الغيرة ‏{‏عليه‏}‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم المنبأ من قبل الله بما يرفع قدره ويعلي ذكره، وقراءة الكوفيين بالتخفيف بإسقاط إحدى التاءين إشارة إلى سهولة أمر هذه المظاهرة وقلة أذاها له صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان المعنى كأنه لا يبالي بمظاهرة كما عبر عنه بعلته، فقال مؤكداً إعلاماً بأن حال المتظاهرين عليه حال المنكر لمضمون الكلام‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ‏{‏هو‏}‏ أي بنفسه الأقدس وحضرة غيب غيبه التي لا يقوم لما لها من العظمة شيء ‏{‏مولاه‏}‏ أي ناصره والمتولي من أمره ما يتولاه القريب الصديق القادر وكل من له وعي يعلم كفايته سبحانه في ذلك فهو يعمل أبلغ ما يعمله مولى مع من هو متول لأمره وفي معاونته لنبيه صلى الله عليه وسلم إظهار لشرفه ومراعاة لحفظ خاطره وشرح لصدره‏.‏

ولما كانت النفوس لمبنى هذه الدار على حكمة الأسباب مؤكلة بها ناظرة أتم نظر إليها، وكان نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام وكثرة تردده إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن ويعلمهن قد صار عندهن بذلك من الأسباب الظاهرة المألوفة، وكان هو أعظم أنصار النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏وجبريل‏}‏ لأنه من أعظم الأسباب التي يقيمها الله سبحانه‏.‏

ولما كان الحامل على مظاهرته صلى الله عليه وسلم على كل ما يريده الإيمان فكل ما كان الإنسان فيه أمكن كان له أشد مظاهرة وأعون قال‏:‏ ‏{‏وصالح المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في رتبة الإيمان والصلاح من الإنس والجن وأبواهما رضي الله عنهما أعظم مراد بهذا، وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو أمرتني لأضربن عنقها، والصالح وإن كان لفظه مفرداً فمعناه الجمع المستغرق لأنه للجنس، ودل على ذلك مع دلالة السياق إضافته للجمع ولعله عبر بالإفراد مع أن هذا المراد للإشارة إلى قلة المتصف بهذا جداً لقلة الراسخين في الإيمان وقلة الراسخين في الصلاح من الراسخين في الإيمان فهو قليل من قليل وقد جوز بعضهم أن يكون جمعاً وأنه حذفت واؤه في الرسم على خلاف القياس وهي محذوفة في الوصل لالتقاء الساكنين، فظن لذلك مفرداً ودخل في ذلك جبريل عليه السلام أيضاً‏.‏

ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أعطى الملائكة من القوى والتصرف في الظواهر‏.‏ والبواطن ما يجل عن الوصف، قال تعظيماً للمقام بعد تعظيمه بما ذكر من رئيس الكروبيين عليهم الصلاة والسلام ‏{‏والملائكة‏}‏ أي كلهم ومنهم جبريل عليهم الصلاة والسلام فهو مذكور خصوصاً وعموماً ثلاث مرات إظهاراً لشدة محبته وموالاته للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما كان المراد التعميم في الزمان والمكان بعد التعميم في الصالحين من الملائكة والإنس والجان، قال من غير جار معظماً لنصرة الملائكة لما لهم من العظمة في القلوب لما تقرر لمن باشر منهم العذاب تارة بالرجفة وأخرى بالصعقة وتارة بالخسف وأخرى بغير ذلك، فكيف إذا تصور الآدمي المقيد بالمحسوسات اجتماعهم على ما لهم من الأشكال المهولة ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي تقدم ذكره وهو مظاهرة الله ومن ذكر معه ‏{‏ظهير *‏}‏ أخبر عن الجمع باسم الجنس إشارة إلى أنهم على كلمة واحدة في المظاهرة، فخوف بهذا كله لأجل المتاب لطفاً به صلى الله عليه وسلم وإظهاراً لعظمته وفي قصة صاحب ياسين قال ‏{‏وما أنزلنا على قومه‏}‏ الآية، تحقيراً لقومه وإهانة لهم، ويجوز أن يكون «ظهير» خبر جبريل عليه الصلاة والسلام، وخبر ما بعده محذوف لدلالته عليه أي كذلك‏.‏

ولما حذر بما تقدم، زاد في التحذير ما يقطع القلوب لأن أشد ما على المرأة أن تطلق ثم إذا طلقت أن تستبدل بها ثم أن يكون البدل خيراً منها فقال مبيناً لأدنى أنواع المظاهرة سائقاً الأمر مساق الرجاء إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف تجويز احتمال الضرر فكيف إذا كان الأمر حتماً لأن من المعلوم أن «عسى» من الله على طريق الكبراء لا سيما الملوك في اكتفائهم بالإشارات والرموز فمن هنا كانت واجبة لأنه ملك الملوك وهو ذو الكبرياء في الحقيقة لا غيره ‏{‏عسى ربه‏}‏ أي المسحن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها وما لم تعرفوه جدير وحقيق، ووسط بينها وبين خبرها اهتماماً وتخويفاً قوله‏:‏ ‏{‏إن طلقكن‏}‏ أي بنفسه من غير اعتراض عليه جمع أو بعضكن بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته من طلقها ‏{‏أن يبدّله‏}‏ منكن بمجرد طلاقه لكن من غير أن تحوجه إلى التفتيش تبديلاً مبالغاً فيه بما أشارت إليه قراءة نافع وأبي جفعر وأبي عمرو بالتشديد، فهي أبلغ من قراءة الباقين بالتخفيف الدال على مطلق الإبدال الصالح للمبالغ فيه وغيره، ومن التشريف أيضاً إضافة الطلاق إليه والإبدال إلى الله مع التعبير بصفة الإحسان وتخصيص الإضافة‏!‏ بضميره‏.‏

ولما كان الأوجع لقب الحرة حرة مثلها لا سرية قال‏:‏ ‏{‏أزواجاً‏}‏ ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف قال‏:‏ ‏{‏خيراً‏}‏ ودل على أنها للتفضيل بقوله‏:‏ ‏{‏منكن‏}‏ وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة فلا يقتضي وجود من هو خير منهن مطلقاً وإن قيل بوجوده في خديجة رضي الله عنها لما جرب من تحاملها على نفسها في حقه صلى الله عليه وسلم وبلوغها في حبه والأدب معه ظاهراً وباطناً النهاية القصوى ومريم عليها السلام التي أحصنت فرجها حتى كانت من القانتين، وذلك في الآخرة، والكلام خارج مخرج الشرط بالطلاق وقد علم سبحانه أنه لا يقع لكنه سبحانه علم أنه لو وقع أبدله صلى الله عليه وسلم من هو بالصفات المذكورة المقتضية للإخلاص في طاعته كما أشار إليه «قانتات» ولا شك أن من لازم طاعته وقيد الاتصال به في الدارين كان خيراً من غيره، وتعليق تطلق الكل لا يدل على أنه لم يطلق حفصة رضي الله عنها فقد روي أنه طلقها ولم يزدها ذلك إلا فضلاً من الله تعالى لأن الله تعالى أمره بأن يراجعها لأنها صوامة قوامه- والله الموفق‏.‏ ولما وعد بما ذكر، وكان أول منظور إليه الظاهر، فصل ذلك الوعد وفسر الخيرية بادئاً بقوله‏:‏ ‏{‏مسلمات‏}‏ أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على وجه الخضوع‏.‏

ولما كان المشاهد من الإسلام إنما هو الظاهر قال‏:‏ ‏{‏مؤمنات‏}‏ أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن‏.‏

ولما كان ذلك قد يكون فيه نوع شوب قال‏:‏ ‏{‏قانتات‏}‏ أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة له من الذل والانكسار والمبادرة إلى امتثال أمره صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره‏.‏

ولما كان الإنسان مجبولاً على النقصان، وكان الإخلاص يدل صاحبه على تقصيره فكان ربما فتره ذلك، قال تسهيلاً لخدمته وتقريباً لدوام طاعته معلماً الأدب لمحتاجه ‏{‏تائبات‏}‏ أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك‏.‏ ولما كان هذا مصححاً للعبادة مسهلاً لدوامها قال‏:‏ ‏{‏عابدات‏}‏ أي مديمات للعبادة بسبب إدامة تجديد التوبة‏.‏ ولما كان دوام العبادة مسهلاً للخروج عن الدنيا قال‏:‏ ‏{‏سائحات‏}‏ أي متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة بما أدناه الصيام ماضيات في ذلك غاية المضاء ليتم الانقياد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لأن من كان هكذا لم يكن له مراد، فكان تابعاً لربه في أمره دائماً ويصير لطيف الذات حلو الشمائل، قال الملوي‏:‏ والمرأة إذا كانت كثيرة الصيام قليلة الأكل يقل عرقها ويصغر كرشها وتلطف رائحتها وتخف حركتها لما يراد منها- انتهى‏.‏ وسوق هذه الأوصاف هذا السياق في عتاب من هو متصف بها معرف أن المراد منها التمام لا سيما وهي لا يوجد وصف منها على سبيل الرسوخ إلا كان مستلزماً لسائرها، فلذلك لم يحتج في تعدادها إلى العطف بالواو‏.‏ والتجريد عنه أقعد في الدلالة على إرادة اجتماعها كلها‏.‏

ولما أكمل الصفات الدينية النافعة في أمر العشرة ولم يبق إلا الصفات الكونية وكان التنويع إلى عارفة بالعشرة وباقية على أصل الفطرة، ألذ وأشهى إلى النفس، قال مقسماً للنساء المتصفات بالصفات الست عاطفاً ثاني الوصفين بالواو للتضاد ‏{‏ثيبات‏}‏ قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها ‏{‏وأبكاراً‏}‏‏.‏