فصل: سورة النبأ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏عمَّ‏}‏ أي عن أي شيء- خفف لفظاً وكناية بالإدغام، وحذف ألفه لكثرة الدور والإشارة إلى أن هذا السؤال مما ينبغي أن يحذف، فإن لم يكن فيخفى ويستحى من ذكره ويخفف ‏{‏يتساءلون *‏}‏ أي أهل مكة لكل من يسأل عن شيء من القرآن سؤال شك وتوقف وتلدد فيما بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضي الله عنهم، ولشدة العجب سمي جدالهم وإنكارهم وعنادهم- إذا تليت عليهم آياته وجليت بيناته- مطلق سؤال‏.‏

ولما فخم ما يتساءلون عنه معجباً منهم فيه، بينه بقوله إعلاماً بأن ذلك الإيهام ما كان إلا للإعظام‏:‏ ‏{‏عن النبأ‏}‏ أي من رسالة الرسول وإتيانه بالكتاب المبين، وإخباره عن يوم الفصل، والشاهد بكل شيء من ذلك الله بإعجاز هذا الحديث، وبوعده الجازم الحثيث‏.‏ ولما كان في مقام التفخيم له، وصفه تأكيداً بقوله‏:‏ ‏{‏العظيم *‏}‏ مع أن النبأ لا يقال إلا لخبر عظيم شأنه، ففي ذلك كله تنبيه على أنه من حقه أن يذعن له كل سامع ويهتم بأمره، لا أن يشك فيه ويجعله موضعاً للنزاع؛ وعظم توبيخهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذي هم‏}‏ أي بضمائرهم مع ادعائهم أنها أقوم الضمائر ‏{‏فيه مختلفون *‏}‏ أي شديد اختلافهم وثباتهم فبعضهم صدق وبعضهم كذب، والمكذبون بعضهم شك وبعضهم جزم وقال بعضهم‏:‏ شاعر، وبعضهم‏:‏ ساحر- إلى غير ذلك من الأباطيل، وذلك الأمر هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أهمه البعث بعد الموت اشتد التباسه عليهم وكثرت مراجعتهم فيه ومساءلتهم عنه مع عظمه وعظم ظهوره، والعظيم لا ينبغي الاختلاف فيه بوجه، فإن ذا المروءة لا ينبغي له أن يدخل في أمر إلا وهو على بصيرة فكيف به إذا كان عظيماً فكيف به إذا تناهى عظمه فكيف به إذا كان أهم ما يهمه فإنه يتعين عليه أن يبحث عنه غاية البحث ويطلب فيه الأدلة ويفحص عن البراهين ويستوضح الحجج حتى يصير من أمره بعد علم اليقين إلى عين اليقين من حين يبلغ مبلغ الرجال إلى أن يموت فكيف إذا كان بحيث تتلى عليهم الأدلة وتجلى لديه قواطع الحجج وتجلب إليه البينات وهو يكابر فيه ويماري، ويعاند ويداري‏.‏

قال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ سورة النبأ أما مطلقها فمرتب على تساؤل واستفهام وقع منهم وكأنه وارد هنا في معرض العدول والالتفات، وأما قوله‏:‏ ‏{‏كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 4- 5‏]‏ فمناسب للوعيد المتكرر في قوله‏:‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 19‏]‏ وكأن قد قيل‏:‏ سيعلمون عاقبة تكذيبهم، ثم أورد تعالى من جميل صنعه وما إذا اعتبره المعتبر علم أنه لم يخلق شيء منه عبثاً بل يعتبر به ويستوضح وجه الحكمة فيه، فعلم أنه لا بد من وقت ينكشف فيه الغطاء ويجازي الخلائق على نسبة من أحوالهم في الاعتبار والتدبر والخضوع لمن نصب مجموع تلك الدلائل، ويستشعر من تكرار الفصول وتجدد الحالات وإحياء الأرض بعد موتها، جرى ذلك في البعث واطراد الحكم، وإليه الإشارة بقوله‏:‏

‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ وقال تعالى منبهاً على ما ذكرناه ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 6‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وجنات ألفافاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 16‏]‏ فهذه المصنوعات المقصود بها الاعتبار كما قدم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل كان ميقاتاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏]‏ أي موعداً لجزائكم لو اعتبرتم بما ذكر لكم لعلمتم منه وقوعه وكونه ليقع جزاؤكم على ما سلف منكم «فويل يومئذ للمكذبين» ويشهد لهذا القصد مما بعد من الآيات قوله تعالى لما ذكر ما أعد للطاغين‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا لا يرجون حساباً وكذبوا بآياتنا كذاباً وكل شيء أحصيناه كتاباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 27- 29‏]‏ ثم قال بعد‏:‏ ‏{‏إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 31- 32‏]‏ وقوله بعد‏:‏ ‏{‏ذلك اليوم الحق‏}‏ وأما الحياة الدنيا فلعب ولهو وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وقوله بعد‏:‏ ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ انتهى‏.‏ ولما كان الأمر من العظمة في هذا الحد قال مؤكداً لأن ما اختلفوا فيه وسألوا عنه ليس موضعاً للاختلاف والتساؤل بأداة الردع، فقال تهديداً لهم وتوكيداً لوعيدهم‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس ما سألوا عنه واختلفوا فيه بموضع اختلاف أصلاً، ولا يصح أن يطرقه ريب بوجه من الوجوه فلينزجروا عن ذلك وليرتدعوا قبل حلول ما لا قبل لهم به‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فهل ينطقع ما هم فيه‏؟‏ أجاب بقوله مهدداً حاذفاً متعلق العلم للتهويل لأجل ذهاب النفس كل مذهب‏:‏ ‏{‏سيعلمون *‏}‏ أي يصلون إلى حد يكون حالهم فيه في ترك العناد حال العالم بكل ما ينفعهم ويضرهم، وهذا عن قريب بوعد لا خلف فيه، ويكون لهم حينئذ عين اليقين الذي لا يستطاع دفاعه بعد علم اليقين الذي دافعوه، وعظم رتبة هذا الردع والتهديد والزجر والوعيد بقوله‏:‏ ‏{‏ثم كلا‏}‏ أي أن أمره في ظهوره رادع عن الاختلاف في أمره ‏{‏سيعلمون *‏}‏ أي بعد الموت بعد علمهم قبله ما يكون من أمره بوعد صادق لا شك فيه، ويصير حالهم إذا ذاك حال العالم في كفهم عن العناد، وهم بين ذلول وذليل وحقير وجليل، فأما من اخترناه منه للإيمان فيكون ذلولاً، ومن أردنا شقاءه بالكفران فتراه ناكساً ذليلاً، ويشترك الكل بالذوق في حق اليقين، وقد كان هذا كما قال الجليل بعد زمن قليل، عندما أوقعتهم أيام الله وأرغمت منهم الأنوف وأذلت الجباه، وقراءة ابن عامر على ما قيل عنه بتاء الخطاب في الوعيد وأدل على الاستعطاف للمتاب‏.‏

ولما حقق لهم أمره تحقيق من هو على غاية الوثوق بما يقول، دل على ذلك بما لا يحتمل شكاً ولا وقفة أصلاً، فقال مقرراً لهم ومنكراً عليهم التساؤل بما ندب إليه من التأمل وقرر به من النظر في باهر آياته وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم دلالة تامة عظمية على كمال القدرة مع تمام الحكمة الموجب للقطع بكل ما نبهت عليه الرسل من الشرائع والبعث والجزاء بادئاً بما هم له أشد ملابسة وهو الظرف‏:‏ ‏{‏ألم نجعل‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏الأرض مهاداً *‏}‏ أي فراشاً لكم موطئاً مذللاً يمكن الاستقرار عليه لتتصرفوا فيها كما شئتم ‏{‏والجبال‏}‏ أي تعرفون شدتها وعظمتها وعجزكم عن أقل شيء من أمورها ‏{‏أوتاداً *‏}‏ تثبتها كما أن البيت لا يثبت إلا بأوتاده، قال الأفوه الأودي‏:‏

والبيت لا يبتنى إلا له عمد *** ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

وذلك لئلا تميد بكم فإنها معلقة على فضاء العلم ممسكة بيد القدرة، فلولا الجبال لعظم ثقلها لأنها بمنزلة السفينة العالية الفارغة على متن البحر فهي في غاية الحركة لا سيما إذا عظمت الريح فإنها حينئذ لا يستقر عليها قائم ولا يثبت قاعد ولا نائم، فالجبال بمنزلة الأمتعة الثقيلة التي تنزلها في الماء فتحفظ عن كثرة التقلب فكيف يصح بوجه أن يتوقف في إخبار من هذه قدرته لا سيما إذا كان ذلك المخبر به مما ركز سبحانه أمره في الفطر الأولى وقرر صحته في العقول التقرير الأوضح الأجلى‏.‏

ولما ذكر بما في الظرف الذي هو فرشهم من الدلالة على تمام القدرة، أتبعه التذكير بما في المظروف وهو أنفسهم لتجتمع آيات الأنفس والآفاق فيتبين لهم أنه الحق فقال‏:‏ ‏{‏وخلقناكم‏}‏ أي بما دل على ذلك من مظاهر العظمة ‏{‏أزواجاً *‏}‏ طوالاً وقصاراً وحساناً ودماماً وذكراناً وإناثاً لجميع أصنافكم على تباعد أقطارهم وتنائي ديارهم لتدوم أنواعكم إلى الوقت الذي يكون فيه انقطاعكم‏.‏

ولما ذكر ما هو سبب لبقاء النوع، ذكر ما هو سبب لحفظه من إسراع الفساد فقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏نومكم‏}‏ الذي ركبنا البدن على قبوله ‏{‏سباتاً *‏}‏ أي قطعاً عن الإحساس والحركة التي أتعبتكم في نهاركم مع الامتداد والاسترسال إراحة للقوى الحيوانية والحواس الجثمانية وإزاحة لكلالها مع أنه قاطع لكمال الحياة، فهو مذكر بالموتة الكبرى والاستيقاظ مذكر بالعبث، قال الزجاج‏:‏ السبات أن ينقطع عن الحركة والروح فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 16‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما ذكر النوم، اتبعه وقته الأليق به مذكراً بنعمة الظرف الزماني بعد التذكير بالظرف المكاني، فقال دالاً بمظهر العظمة على عظمه‏:‏ ‏{‏وجعلنا الّيل‏}‏ أي بعد ذهاب الضياء حتى كأنه لم يكن ‏{‏لباساً *‏}‏ أي غطاء وغشاء ساتراً بظلمته ما أتى عليه عن العيون كما يستره اللباس لتسكنوا فيه عن المعاش ‏{‏وجعلنا النهار‏}‏ أي الذي آيته الشمس ‏{‏معاشاً *‏}‏ أي وقتاً للتقلب الذي هو من أسباب التحصيل الذي هو من أسباب المعاش، وهو العيش ووقته وموضعه، مظهراً لما ستره الليل، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر اللباس أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً والمعاش ثايناً دليلاً على حذف ضده أولاً‏.‏

ولما ذكر المهاد وما فيه، أتبعه السقف الذي بدورانه يكون الوقت الزمان وما يحويه من القناديل الزاهرة والمنافع الظاهرة لإحياء المهاد ومن فيه من العباد فقال‏:‏ ‏{‏وبنينا‏}‏ أي بناء عظيماً ‏{‏فوقكم‏}‏ أي عاماً لجميع جهة الفوق، وهي عبارة تدل على الإحاطة ‏{‏سبعاً‏}‏ أي من السماوات ‏{‏شداداً *‏}‏ أي هي في غاية القوة والإحكام، لا صدع فيها ولا فتق، لا يؤثر فيها كر العصور ولا مر الدهور، حتى يأتي أمر الله بإظهار عظائم المقدور‏.‏

ولما ذكر السقف‏:‏ ذكر بعض ما فيه من أمهات المنافع فقال دالا بمظهر العظمة على عظمها‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي مما لا يقدر عليه غيرنا ‏{‏سراجاً‏}‏ أي نجماً منيراً جداً ‏{‏وهاجاً *‏}‏ أي هو مع تلألئه وشدة ضيائه حار مضطرم الاتقاد وهو الشمس، من قولهم‏:‏ وهج الجوهر‏:‏ تلألأ، والجمر‏:‏ اتقد‏.‏

ولما ذكر ما يمحق الرطوبة بحرارته، أتبعه ما يطفئ الحرارة برطوبته وبرودته فينشأ عنه المأكل والمشرب، التي بها تمام الحياة ويكون تولدها من الظرف بالمهاد والسقف، وجعل ذلك أشبه شيء بما يتولد بين الزوجين من الأولاد، فالسماء كالزوج والأرض كالمرأة، والماء كالمني، والنبات من النجم والشجر كالأولاد فقال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا‏}‏ أي مما يعجز غيرنا ‏{‏من المعصرات‏}‏ أي السحائب التي أثقلت بالماء فشارفت أن يعصرها الرياح فتمطر كما حصد الزرع- إذا حان له أن يحصد، قال الفراء‏:‏ المعصر، السحابة التي تتحلى بالمطر ولا تمطر كالمرأة المعصرة وهي التي دنا حيضها ولم تحض، وقال الرازي‏:‏ السحائب التي دنت أن تمطر كالمعصرة التي دنت من الحيض ‏{‏ماء ثجاجاً *‏}‏ أي منصباً بكثرة يتبع بعضه بعضاً، يقال‏:‏ ثجه وثج بنفسه‏.‏

ولما ذكر بدايته، أتبعها نهايته فقال‏:‏ ‏{‏لنخرج‏}‏ أي بعظمتنا التي ربطنا بها المسببات بالأسباب ‏{‏به‏}‏ أي الماء تسبيباً ‏{‏حباً‏}‏ أي نجماً ذا حب هو مقصوده لأنه يقتاته العباد، صرح به لأنه المقصود وبدأ به لأنه القوت الذي به البقاء كالحنطة والشعير وغيرهما ‏{‏ونباتاً *‏}‏ يتفكهون ويتنزهون فيه وتعتلفه البهائم‏.‏ ولما كان من المشاهد الذي لا يسوغ إنكاره أن في الأرض من البساتين ما يفوت الحصر، عبر بجمع القلة تحقيراً له بالنسبة إلى باهر العظمة ونافذ الكلمة فقال‏:‏ ‏{‏وجنات‏}‏ أي بساتين تجمع أنواع الأشجار والنبات المقتات وغيره ‏{‏ألفافاً *‏}‏ أي ملتفة الأشجار مجتمعة بعضها إلى بعض من شدة الري، جمع لف كجذع، قال البغوي‏:‏ وقيل‏:‏ هو جمع الجمع، يقال‏:‏ جنة لفاء، وجمعها لف- بضم اللام، وجمع الجمع ألفاف‏.‏ وتضمن هذا الذي ذكره المياه النابعة الجارية والواقفة، فاكتفى بذكره عن ذكرها، قال مقاتل‏:‏ وكل من هذا الذي ذكر أعجب من البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

ولما ذكر ما دل على غاية القدرة ونهاية الحكمة فدل قطعاً على الوحدانية لأنه لو كان التعدد لم تكن الحكمة ولم تتم القدرة، فأثمر المحبة لمن اتصف بذلك، فأنتج للطائع الشوق إلى لقائه والترامي إلى مطالعة كمال نعمائه، وللعاصي ما هو حقيق به من الخوف من لقائه ليرده ذلك عن إعراضه وإبائه، أتبع ما أعلم أنه ما ذكره إلا للدلالة على النبأ العظيم في لقاء العزيز الرحيم، فقال منتجاً عما مضى من الوعيد وما دل على تمام القدرة مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل‏}‏ أي الذي هو النبأ العظيم، وتقدم الإنذار به في المرسلات وما خلق الخلق إلا لجمعهم فيه وإظهار صفات الكمال ليفصل فيه بين كل ملبس فصلاً لا شبهة فيه ويؤخذ للمظلوم من الظالم ‏{‏كان‏}‏ أي في علم الله وحكمته كوناً لا بد منه جعل فيه كالجبلة في ذوي الأرواح ‏{‏ميقاتاً *‏}‏ أي حداً يوقت به الدنيا وتنتهي عنده مع ما فيها من الخلائق‏.‏

ولما ذكره، ذكر ما فيه تعظيماً له وحثاً على الطاعة فقال مبدلاً منه أو مبيناً له‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ ولما كان الهائل المفزع النفخ، لا كونه من معين، بنى للمفعول قوله ‏{‏ينفخ‏}‏ أي من نافخ أذن الله له ‏{‏في الصور‏}‏ وهو قرن من نور على ما قيل سعته أعظم ما بين السماء والأرض وهي نفخة البعث وهي الثانية من النفخات الأرض كما مر في آخر الزمر، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فتأتون‏}‏ أي بعد القيام من القبور إلى الموقف أحياء كما كنتم أول مرة لا تفقدون من أعضائكم وجلودكم وأشعاركم وأظفاركم وألوانكم الأصلية شيئاً يجمعكم من الأرض بعد أن تمزقتم فيها، واختلط تراب من بلي منكم بترابها وتراب بعضكم ببعض، وتمييز ذلك وجمعه وتركيبه كما كان وإعادة الروح فيه يسير عليه سبحانه وتعالى كما فعل ذلك كله من نطفة بعد أن فعله في آدم عليه السلام من تراب لا أصل له في الحياة، حال كونكم ‏{‏أفواجاً *‏}‏ أي أمماً وزمراً وجماعات مشاة مسرعين كل أمة بإمامها، روى الثعلبي وابن مردويه عن البراء رضي الله عنهم- وقال شيخنا ابن حجر في ترجمة محمد بن زهير في لسان الميزان‏:‏ إنه ظاهر الوضع- أن معاذاً رضي الله عنه سأل عن هذه الأفواج فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن أمتي تحشر على عشرة أصناف‏:‏ على صور القردة، وعلى صور الخنازير، وبعض منكسون يسحبون على وجوههم، وبعض عمي وبعض صم بكم، وبعض يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعض منقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعض مصلوبون على جذوع من نار، وبعض أشد نتناً من الجيف، وبعض ملبسون جباباً سابغة من قطرن لازقة بجلودهم، فسرهم بالقتات وآكلي السحت وأكلة الربا والجائرين في الحكم والمعجبين بأعمالهم والعلماء الذين يخالف قولهم فعلهم والمؤذين للجيران والساعين بالناس للسلطان، والتابعين للشهوات المانعين حق الله تعالى والمتكبرين خيلاء»‏.‏

ولما ذكر الآية في أنفسهم ذكر بعض آيات الآفاق، وبدأ بالعلوي لأنه أشرف فقال بانياً للمفعول لأن المفزع مطلق التفتيح، ولأن ذلك أدل على قدرة الفاعل وهوان الأمور عليه‏:‏ ‏{‏وفتحت السماء‏}‏ أي شقق هذا الجنس تشقيقاً كبيراً، وقرأ الكوفيون بالتخفيف لأن التكثير يدل عليه ما سبب عن الفتح من قوله‏:‏ ‏{‏فكانت‏}‏ أي كلها كينونة كأنها جبلة لها ‏{‏أبواباً‏}‏ أي كثيرة جداً لكثرة الشقوق الكبيرة بحيث صارت كأنها لا حقيقة لها إلا الأبواب‏.‏

ولما ذكر السقف، ذكر أقرب الأرض إليه وأشدها، فقال على طريقة كلام القادرين أيضاً‏:‏ ‏{‏وسيرت‏}‏ أي حملت بأيسر أمر على السير ‏{‏الجبال‏}‏ على ما تعلمون من صلابتها وصعوبتها في الهواء كأنها الهباء المنثور، وعلى ذلك دل قوله‏:‏ ‏{‏فكانت‏}‏ أي كينونة راسخة ‏{‏سراباً *‏}‏ أي لا نرى فيها إلا خيالاً يتراءى وهي سائرة تمر مر السحاب ثم تخفى لتناثر أجزائها كالهباء- يا لها من عظمة تجب لها القلوب وتتعاظم الكروب‏.‏

ولما بين أن يوم الفصل هو النبأ العظيم بعد أن دل عليه وذكر ما فيه من المسير، ذكر ما إليه من الدارين المصير، فقال بعد التذكير بما في الجبال من العذاب بحزونتها وما فيها من السباع والحشرات والأشجار الشائكة والقواطع المتشابكة وغير ذلك من عجائب التقدير مؤكداً لتكذيبهم‏:‏ ‏{‏إن جهنم‏}‏ أي النار التي تلقى أصحابها متجهمة لهم بغاية ما يكرهون ‏{‏كانت‏}‏ أي جبلة وخلقاً ‏{‏مرصاداً *‏}‏ أي موضع رصد لأعداء الله ترصدهم فيها خزنة النار، فإذا رأوهم كردسوهم فيها، ولأولياء الله ترصدهم فيها خزنة الجنة لإنجائهم من النار عند ورودها أو هي راصدة بليغة الرصد للكفار حتى صارت مجسدة من الرصد لتجمع أصحابها فلا يفوت منهم واحد كالمطعان لكثير الطعن، والمكثار للمبالغ في الإكثار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن على جسر جهنم سبعة مجالس يسأل عند أولها عن شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثاني فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الثالث فيسأل عن الزكاة فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابع فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تاماً جاز إلى الخامس فيسأل عن الحج، فإن جاء به تاماً جاز إلى السادس فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامة جاز إلى السابع فينسأل عن المظالم، فإن خرج منها وإلا قيل‏:‏ انظروا فإن كان له تطوع تكمل به أعماله‏.‏ فإذا فرغ انطلق به إلى الجنة‏.‏

ولما كان درء المفاسد أولى من جلب المصالح، قدم ذكر المخوف فقال‏:‏ ‏{‏للطاغين‏}‏ أي المجاوزين لحدود الله ‏{‏مآباً *‏}‏ أي مرجعاً ومأوى بعد أن كان الله ذرأهم لها فكأنهم كانوا فيها ثم هيأهم للخروج منها والبعد عنها بفطرهم الأولى، ثم بما أنزل الله من الكتب وأرسل من الرسل فكأنه بذلك أخرجهم منها، ثم رجعوا إليها بما أحدثوا من التكذيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 28‏]‏

‏{‏لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما ذكر مصيرهم إليها ذكر إقامتهم فيها فقال حالاً من ضمير «الطاغين»‏:‏ ‏{‏لابثين فيها‏}‏ ولما كان جمع القلة يستعار للكثرة فكان الحقب يطلق على الزمان من غير حد، ويطلق على زمان محدود، فقيل على ثمانين سنة، وعلى سبعين ألف سنة، فكان السياق من تصدير السورة بالنبأ وبوصفه مع التعبير بالنبأ العظيم وما بعد ذلك يفهم أن المراد الدوام إن أريد ما لا حد له وأن المراد إن أريد المحدود جمع الكثرة، وأكثر ما فسر به الحقب، وأنه للمبالغة لا التحديد، كان جمع القلة هنا غير مشكل، فمن حمله على ما دون ذلك فكفاه زاجراً لم يضره التعبير به، ومن اجترأ عليه واستهان به كان فتنة له كما كان حصر عدد الخزنة للنار بتسعة عشر فلم يضر إلا نفسه، فلذلك عبر عن ظرف اللبث بقوله‏:‏ ‏{‏أحقاباً *‏}‏ أي دهوراً عظيمة متتابعة لا انقضاء لها على أن التبعير به- ولو حمل على الأقل وجعل منقضياً- لا ينافي ما صرح فيه بالخلود لأنه أثبت شيئاً ولم ينف ما فوقه، وعن الحسن أنه قال‏:‏ لا يكاد يذكر الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها من غير انقضاء‏.‏

ولما كان المسكن لا يصلح إلا بالاعتدال والماء الذي هو حياة كل شيء، قال ذاكراً حال هذا اللبث‏:‏ ‏{‏لا يذوقون‏}‏ أي ساعة ما فكيف بما فوق الذوق ‏{‏فيها‏}‏ أي النار خاصة، وكأنه أشار بتقديمه إلى أنهم يذوقون في دار أخرى الزمهرير ‏{‏برداً‏}‏ أي روحاً وراحة لنفعهم من الحر أو مطلق البرد ‏{‏ولا شراباً *‏}‏ من ماء أو غيره يغنيهم من العطش على حال من الأحوال ‏{‏إلا‏}‏ حال كون ذلك الشراب ‏{‏حميماً‏}‏ أي ماء حاراً يشوي الوجوه قد انتهى حره ‏{‏و‏}‏ حال كون ذلك الشراب مع حرارته، أو البر د ‏{‏غساقاً *‏}‏ أي عصارة أهل النار من القيح والصديد البارد المنتن، فالاستثناء على هذا موزع الحميم من الشراب والغساق من البرد، فالحميم شرابهم في دولة السعير، والغساق في دولة الزمهرير‏.‏

ولما حكم عليهم بهذا العذاب الذي لا يطاق، ذكر حكمته فقال إنه جزاهم بذلك ‏{‏جزاء وفاقاً *‏}‏ أي ذا وفاق لأعمالهم لأنهم كانوا يأخذون أموال الناس فيحرقون صدورهم عليها ويبردون بها الشراب ويصفونه ويبخرونه، فهم يحرقون الآن بعصارة غيرهم المنتنة، وكأنهم بعد الأحقاب- إن جعلت منقضية- يبدلون عذاباً غير الحميم والغساق، ثم علل عذابهم بقوله، مؤكداً تنبيهاً على أن الحساب من الوضوح بحالة يصدق به كل أحد، فلا يكاد يصدق أن أحداً يكذب به فلا يجوزه فقال‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي بما هو لهم كالجبلة التي لا تقبل غير ذلك فهم يفسدون القوى العلمية بأنهم ‏{‏لا يرجون‏}‏ أي في حال من الأحوال ولو رأوا كل آية ‏{‏حساباً *‏}‏ فهم لا يعملون بغير الشهوات، فوافق هذا خلودهم في النار، وعبر عن تكذيبهم بنفي الرجاء لأنه أبلغ، وذلك لأن الإنسان يطمع في الخير بأدنى احتمال‏.‏

ولما دل انتفاء رجائهم على تكذيبهم المفسد للقوة العلمية، صرح به على وجه أعم فقال‏:‏ ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة الدالة أنها من عندنا ‏{‏كذاباً *‏}‏ أي تكذيباً هو في غاية المبالغة بحيث لو سمعوا أكذب الكذب ما كذبوا به كما كذبوا بها، فكان تجريعهم لما لا يصح أن يشربه أحد- وإن جرع منه شيئاً مات في الحال من غير موت- لهم جزاء على تكذيبهم بالحوارق التي يجرعون بها الصادقين أنواع الحرق، وقرئ بالتخفيف للدلالة على أنهم كذبوا في تكذيبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 35‏]‏

‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكل شيء جعلنا له وزاناً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكل شيء‏}‏ أي مطلقاً من أعمالهم وغيرها أو كل ما يقع عليه الحساب ‏{‏أحصيناه‏}‏ ولما كان الإحصاء موافقاً للكتابة في الضبط، أكد فعله بها فقال‏:‏ ‏{‏كتاباً *‏}‏ فلا جائز أن نترك شيئاً من الأشياء بغير جزاء، ويمكن تنزيل الآية على الاحتباك وهو أحسن‏:‏ دل فعل الإحصاء على حذف مصدره، وإثبات مصدر «كتب» عليه أي أحصيناه إحصاء وكتبناه كتاباً، وذلك الإحصاء والكتب لعدم الظلم‏.‏

ولما ذكر عذابه ووجه موافقته لجزائهم، سبب عن تكذيبهم ما يقال لهم بلسان الحال أو المقال إهانة وزيادة في الجزاء على طريق الالتفات المؤذن بشدة الخزي والغضب عليهم وكمال القدرة له سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ويجوز أن يكون سبباً عن مقدر بعد «كتاباً» نحو‏:‏ ليجازيهم على كل شيء منه، قائلاً لهم على لسان الملائكة أو لسان الحال‏:‏ ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي من هذا العذاب في هذا الحال بسبب تكذيبكم بالحساب، وأكد ذوقهم في الاستقبال فقال‏:‏ ‏{‏فلن نزيدكم‏}‏ أي شيئاً من الأشياء في وقت من الأوقات ‏{‏إلا عذاباً *‏}‏ فإن داركم ليس بها إلا الجحيم كما أن الجنة ليس بها إلا النعيم، فأفهم هذا أن حصول شيء لهم غير العذاب محال‏.‏

ولما ذكر جزاء الكافرين وأشعر آخره بكونه إخزاء، ذكر جزاء المؤمنين المخالفين لهم فقال مستأنفاً مؤكداً لتكذيب الكافرين به‏:‏ ‏{‏إن للمتقين‏}‏ أي الراسخين في الخوف المقتضي لاتخاذ الوقاية مما يخاف فوقوا أنفسهم من سخط الله بما يرضيه من الأعمال والأقوال والأحوال ‏{‏مفازاً‏}‏ أي فوزاً وموضع فوز وزمان فوز بالراحة الدائمة من جميع ما مضى ذكره للطاغين الذين هم أضدادهم، وقد كشفوا أنفسهم للعذاب كل الكشف، ثم فسره أو أبدل منه على حذف مضاف أي فوز‏:‏ ‏{‏حدائق‏}‏ أي بساتين فيها أنواع الأشجار ذوات الثمار والرياحين لتجمع مع لذة المطعم لذة البصر والشم، قد أحدقت بها الجدران وحوطت بها، قال ابن جرير‏:‏ فإن لم تكن بحيطان محدقة بها لم يقل لها حديقة‏.‏ وخص أشجار العنب لطيبها وحسنها وشرفها وما فيها من لذة الذوق وعبر عن أشجارها بثمرتها إعلاماً بأنها لا توجد إلا موقرة حملاً وأن ثمرتها هي جل منفعتها فقال‏:‏ ‏{‏وأعناباً *‏}‏‏.‏

ولما ذكر المساكن النزهة المؤنقة المعجبة، ذكر ما يتمتع به وهو جامع لألذاذ الحواس‏:‏ البصر واللمس والذوق فقال‏:‏ ‏{‏وكواعب‏}‏ أي نساء كعبت ثديهن ‏{‏أتراباً *‏}‏ أي على سن واحد من مس جلد واحد التراب قبل الأخرى، بل لو كن مولودات لكانت ولادتهن في آن واحد‏.‏

ولما ذكر النساء ذكر الملائم لعشرتهن فقال‏:‏ ‏{‏وكاساً‏}‏ أي من الخبر التي لا مثل لها في لذة الذوق ظاهراً وباطناً وكمال السرور وإنعاش القوى‏.‏

ولما كانت العادة جارية بأن الشراب الجيد يكون قليلاً، دل على كثرته دليلاً على جودته بقوله‏:‏ ‏{‏دهاقاً *‏}‏ أي ممتلئة‏.‏

ولما كانت مجالس الخمر في الدنيا ممتلئة بما ينغصها من اللغو والكذب إلا عند من لا مروءة له فلا ينغصه القبيح، قال نافياً عنها ما يكدر لذة السمع‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها‏}‏ أي الجنة في وقت ما ‏{‏لغواً‏}‏ أي لغطاً يستحق أن يلغى لأنه ليس له معنىً أعم من أن يكون مهملاً ليس له معنى أصلاً، أو مستعملاً ليس له معنىً موجود في الخارج وإن قل، أو له معنى ولكنه لا يترتب به كبير فائدة‏.‏ ولما انتفى الكذب بهذه الطريقة، وكان التكذيب أذى للمكذب، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا كذباً *‏}‏ فإن هذه الصيغة تقال على التكذيب ومطلق الكذب، فصار المعنى‏:‏ ولا أذىً بمعارضة في القول، مع موافقة قراءة الكسائي بالتخفيف فإن معناها كذباً أو مكاذبة، وشدد في قراءة الجماعة لرشاقة اللفظ وموازنة «أعناباً وأتراباً» مع الإصابة لحلق المعنى من غير أدنى جور عن القصد ولا تكلف بوجه ما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما كان العطاء إذا كان على المعاوضة كان أطيب لنفس الآخذ قال‏:‏ ‏{‏جزاء‏}‏ وبين أنه ما جعله جزاء لهم إلا إكراماً للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه سبحانه لا يجب عليه لأحد شيء لأن أحداً لا يمكنه أن يوفي شكر نعمة من نعمه فإن عمله من نعمه فقال‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإكرام أمتك بانواع الإكرام، وفي ‏{‏عطاء‏}‏ إشارة إلى ذلك وهو بذل من غير جزاء ‏{‏حساباً *‏}‏ أي على قدر الكفاية وإن فعل الإنسان منهم ما فعل وحسب جميع أنواع الحساب، ومن قولهم‏:‏ أعطاه فأحسبه- إذا تابع عليه العطاء وأكثره حتى جاوز العد وقال‏:‏ حسبي، لا يمكن أن يحتاج مع هذا العطاء وإن زاد في الإنفاق، واختير التعبير به دون «كافياً» مثلاً لأنه أوقع في النفس، فإنه يقال‏:‏ إذا كان هذا الحساب فما الظن بالثواب‏.‏

ولما ذكر سبحانه سعة فضله، وصف نفسه الأقدس بما يدل على عظمته زيادة في شرف المخاطب صلى الله عليه وسلم لأن عظمة العبد على حسب عظمة السيد، فقال مبدلاً على قراءة الجماعة وقاطعاً بالرفع على المدح عند الحجازيين وأبي عمرو‏:‏ ‏{‏رب السماوات والأرض‏}‏ أي مبدعهما ومدبرهما ومالكهما ‏{‏وما بينهما‏}‏ ملكاً وملكاً‏.‏ ولما شمل ذلك العرش وما دونه، علله بقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ أي الذي له الإنعام العام الذي أدناه الإيجاد، وليس ذلك لأحد غيره، فإن الكل داخل في ملكه وملكه، ولذلك قال دالاً على الجبروت بعد صفة الرحمة‏:‏ ‏{‏لا يملكون‏}‏ أي أهل السماوات والأرض ومن بين ذلك أصلاً دائماً في وقت من الأوقات في الدنيا ولا في الآخرة لا في يوم بعينه‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ أي العام النعمة خاصة ‏{‏خطاباً *‏}‏ أي أن يخاطبوه أو يخاطبوا غيره بكلمة فما فوقها في أمرهم في غاية الاهتمام به بما أفاده التعبير بالخطاب، فكيف بما دونه وإذا لم يملكوا ذلك منه فمن والكمل في ملكه وملكه‏؟‏ وعدم ملكهم لأن يخاطبهم مفهوم موافقة، والحاصل أنهم لا يقدرون على خطاب ما من ذوات أنفسهم كما هو شأن المالك‏.‏ وأما غيره فقد يملكون أن يكرهوه على خطابهم وأن يخاطبوه بغير إذن من ذلك الغير ولا رضى وبغير تملك منه لهم لأنه لا ملك له، وإذا كان هذا في الخطاب فما ظنك بمن يدعي الوصال بالاتحاد- عليهم اللعنة ولهم سوء المآب، ما أجرأهم على الاتحاد‏!‏ وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري‏:‏ كيف يكون للمكون المخلوق والفقير المسكين مكنة تملك منه خطاباً أو تتنفس نفساً كلا بل هو الله الواحد الجبار‏.‏

ولما كان هذا ربما أفهم سد باب الشفاعة عنده سبحانه، وكان الكلام إنما ينشأ من الروح، وكان الملائكة أقرب شيء إلى الروحية، أكد هذا المعنى مزيلاً ما قد يوهمه في الشفاعة سواء قلنا‏:‏ إن الروح هنا جنس أم لا، فقال ذاكراً ظرف «لا يتكلمون» ‏{‏يوم يقوم الروح‏}‏ أي هذا الجنس أو خلق من خلق الله عظيم الشأن جداً، قيل‏:‏ هو الملك الموكل بالأرواح أو جبرائيل عليه السلام، أو القرآن المشار إليه بمثل قوله تعالى

‏{‏تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏ قاله ابن زيد ‏{‏والملائكة‏}‏ أي كلهم، ونبه بالاصطفاف على شدة الأمر فقال‏:‏ ‏{‏صفاً *‏}‏ للقاء ما في ذلك اليوم من شدائد الأهوال ولحفظ الثقلين وهم في وسط دائرة صفهم من الموج والاضطراب لعظيم ما هم فيه، ثم زاد الأمر عظماً بذكر العامل في لا يوم فقال‏:‏ ‏{‏لا يتكلمون‏}‏ أي من تقدم كلهم بأجمعهم فيه بكلمة واحدة مطلق كلام خطاباً كان أي في أمر عظيم أو لا، لا له سبحانه ولا لغيره أصلاً ولا أحد منهم، ويجوز أن يكون هذا حالاً لهؤلاء الخواص فيكون الضمير لهم فغيرهم بطريق الأولى ‏{‏إلا من أذن له‏}‏ أي في الكلام إذناً خاصاً ‏{‏الرحمن‏}‏ أي الملك الذي لا تكون نعمه على أحد من خلقه إلا منه ‏{‏وقال صواباً *‏}‏ فإن لم يحصل الأمر إن لم يقع الكلام من أحد منهم أصلاً، وهذا كالدليل على آية الخطاب بأنه إذا كان الروح والقريب منه بهذه المثابة في حال كل من حضره كان أحوج ما يكون إلى الكلام فما الظن بغيرهم‏؟‏ وهم في غيره كذلك بطريق الأولى وغيرهم فيه وفي غيره من باب الأولى، وأما في الدنيا فإنه وإن كان لا يتكلم أحد إلا بإذنه لكنه قد يتكلم بالخطأ‏.‏

ولما عظم ذلك اليوم بالسكوت خوفاً من ذي الجبروت ‏{‏وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ أشار إليه بما يستحقه زيادة في عظمته فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلو منزلته ‏{‏اليوم الحق‏}‏ أي في اليومية لكونه ثابتاً في نفسه فلا بد من كونه ولا زوال له ثوبتاً لا مرية فيه لعاقل وثابتاً كل ما أثبته وباطلاً كل ما نفاه‏.‏ ولما قرر من عظمته ما يعجز غيره عن أن يقرر مثله، وكان قد خلق القوى والقدر والفعل بالاختيار‏.‏ فكان من حق كل عاقل تدرع ما ينجى منه، سبب عن ذلك تنبيهاً على الخلاص منه وحثاً عليه قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء‏}‏ أي الاتخاذ من المكلفين الذين أذن لهم ‏{‏اتخذ‏}‏ أي بغاية جهده ‏{‏إلى ربه‏}‏ أي خالقه نفسه المحسن إليه أو رب ذلك اليوم باستعمال قواه التي أعطاه الله إياها في الأعمال الصالحة ‏{‏مآباً *‏}‏ أي مرجعاً هو المرجع مما يحصل له فيه الثواب بالإيمان والطاعة، فإن الله جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله‏.‏

ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏أنذرناكم‏}‏ أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها ‏{‏عذاباً‏}‏ ولما كان لا بد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال‏:‏ ‏{‏قريباً‏}‏‏.‏

ولما حذر منه، عين وقته مشدداً لتهويله فقال‏:‏ ‏{‏يوم ينظر المرء‏}‏ أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لامرية فيه ‏{‏ما‏}‏ أي الذي ‏{‏قدمت يداه‏}‏ أي كسبه في الدنيا من خير وشر، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلتين به أو مشاركتين فيه خيراً كان أو شراً‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فيقول المؤمن‏:‏ يا ليتني قمت قبل هذا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر‏}‏ أي العريق في الكفر عندما يرى من تلك الأهوال متمنياً محالاً‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت‏}‏ أي كوناً لا بد منه ولا يزول ‏{‏تراباً *‏}‏ أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أعذب، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر عن السجود لآدم عليه السلام المخلوق من التراب، وعظم نفسه بالحمد والافتخار بكونه مخلوقاً من نار، يقول ذلك عندما يرى ما أعد الله لآدم عليه السلام ولخواص بنيه من الكرامة من النعيم المقيم، ولهذا المتكبر على خالقه من العذاب الدائم الذي لا يزول، وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أن الله تعالى يقتص يوم البعث للبهائم بعضها من بعض ثم يقول لها‏:‏ كوني تراباً، فتكون فيتمنى الكافر مثل ذلك‏.‏ فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لا بد من كونه، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من كونه من أعظم الجهل، فرجع آخرها على أولها، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال، فإن المشرف بالنزع على الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن لدنيا ليس له بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال- والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه يوم يقوم الروح ويتمنى الكافر العدم، أقسم أول هذه بنزع الأرواح على الوجه الذي ذكره بأيدي الملائكة عليهم السلام على ما يتأثر عنه من البعث وساقه على وجه التأكيد بالقسم لأنهم به مكذبون فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والنازعات‏}‏ أي من الملائكة- كما قال علي وابن عباس رضي الله عنهم- للأرواح ولأنفسها من مراكزها في السماوات امتثالاً للأوامر الإليهة ‏{‏غرقاً *‏}‏ أي إغراقاً بقوة شديدة تغلغلاً إلى أقصى المراد من كل شيء من البدن حتى الشعر والظفر والعظم كما يغرق النازع في القوس فيبلغ أقصى المدّ، وكان ذلك لنفوس الكفار والعصاة كما ينزع السفود وهو الحديدة المتشعبة المتعاكسة الشعب من الصوف المبلول، وعم ابن جرير كما هي عادته في كل ما يحتمله اللفظ فقال‏:‏ والصواب أن يقال‏:‏ إن الله تعالى لم يخصص، فكل نازعة داخلة في قسمه- يعني الاعتبار بما آتاها الله من القدرة على ذلك النزع الدالة على تمام الحكمة والاقتدار على ما يريده سبحانه‏.‏

ولما ذكر الشد مبتدئاً به لأنه أهول، أتبعه الرفق فقال‏:‏ ‏{‏والناشطات‏}‏ أي المخرجات برفق للأرواح أو لأجنحتها من محالها ‏{‏نشطاً *‏}‏ أي رفقاً فلا تدع وإن كان رفيقاً بين الروح والجسد تعلقاً كما ينشط الشيء من العقال أي يحل من عروة كانت عقدت على هيئة الأنشوطة، قال الفراء إنه سمع العرب يقولون‏:‏ نشطت العقال- إذا حللته، وأنشطت- إذا عقدت بأنشوطة- انتهى، والنشط أيضاً‏:‏ الجذب والنزع، يقال‏:‏ نشطت الدلو نشطاً- إذا نزعتها‏.‏ وقال الخليل‏:‏ النشط والإنشاط مدك الشيء إلى نفسك حتى ينحل، وكان هذا الأرواح أهل الطاعة، وكذلك نزع النبات والإنساء والإنماء لكل ما يراد نزعه أو نشطه، فالذي قدر بعض عبيده على هذا الذي فيه تمييز الأرواح من غيرها على ما لها من اللطافة وشدة الممازجة قادر على تمييز جسد كل ذي روح من جسد غيره بعد أن صار كل تراباً واختلط بتراب الآخر‏.‏

ولما ذكر نوعي السل بالشدة والرفق، ذكر فعلها في إقبالها إليه ورجوعها عنه فقال‏:‏ ‏{‏والسابحات‏}‏ أي من الملائكة أيضاً في الجو بعد التهيؤ للطيران إلى ما أمرهم الله به من أوامره من الروح أو غيرها ‏{‏سبحاً *‏}‏ هو في غاية السرعة لأنه لا عائق لها بل قد أقدرها الله على النفوذ في كل شيء كما أقدر السابح في الماء والهواء، ولذلك نسق عليه بالفاء قوله‏:‏ ‏{‏فالسابقات‏}‏ أي بعد السبح في الطيران إلى ما أمروا به من غمس الأرواح في النعيم أو الجحيم أو غير ذلك مما أمروا به في أسرع من اللمح مع القدرة والغلبة لجميع ما يقع محاولته ‏{‏سبقاً *‏}‏‏.‏

ولما بان بذلك حسن امثتالها للأوامر، بان به عظيم نظرها في العواقب فدل على ذلك بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فالمدبرات‏}‏ أي الناظرات في أدبار الأمور وعواقبها لإتقان ما أمروا به في الأرواح وغيرها ‏{‏أمراً *‏}‏ أي عظيماً، ويصح أن يكون للشمس والقمر والكواكب والرياح والخيل السابحة في الأرض والجو لمنفعة العباد وتدبير أمورهم، وبعضها سابق لبعض، وبه قال بعض المفسرين، والجواب محذوف إشارة إلى أنه من ظهور العلم به- بدلالة ما قبله وما بعده عليه- في حد لا مزيد عليه، فهو بحيث لا يحتاج إلى ذكره فحذفه كإثباته بالبرهان فتقديره‏:‏ لتذهبن بالدنيا التي أنتم بها مغترون لنزعنا لها من حالها وتقطيع أوصالها، فإن كل ما تقدم من أعمال ملائكتنا هو من مقدمات ذلك تكذيباً لقول الكفار ‏{‏ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ المشار إليه بتساؤلهم عنها لأنه على وجه الاستهزاء والتكذيب ولتقومن الساعة‏؟‏ أو أنكم لمبعوثون بعد الموت وانتهاء هذه الدار‏؟‏ ثم لمجازون بما عملتم بأسباب موجودة مهيأة بين أظهركم دبرناها وأوجدناها حين أوجبنا هذه الحياة الدنيا وإن كنتم لا ترونها كما أن هذه الأمور التي أخبرناكم بها في نزع الأرواح والنبات والمنافع موجودة بين أظهركم والميت أقرب ما يكون منكم وهي تعمل أعمالها‏.‏ والمحتضر أشد ما يكون صوتاً وأعظمه حركة إذا هو قد خفت وهمد بعد ذلك الأمر وسكت وامتدت أعضاؤه ومات، وذهب عنكم قهراً وفات الذي فات كأنه قط ما كان، ولا تغلب في زمن من الأزمان، بتلك الأسباب التي تعمل أعمالها وتمد حبالها وترسي أثقالها، وتلقي أهوالها وأوجالها، وأنتم لا ترونها، فيالله العجب أن لا يردكم ذلك على كثرته عن أن تستبعدوا على قدرته تمييز تراب جسد من تراب جسد آخر‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما أوضحت سورة النبأ حال الكافر في قوله ‏{‏يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ عند نظره ما قدمت يداه، ومعانيته من العذاب عظيم ما يراه، وبعد ذكر تفصيل أحوال وأهوال، أتبع ذلك ما قد كان حاله عليه في دنياه من استبعاد عودته في أخراه، وذكر قرب ذلك عليه سبحانه كما قال في الموضع الآخر ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏ وذلك بالنظر إلينا ولما عهدناه، وإلا فليس عنده سبحانه شيء أهون من شيء ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والنازعات غرقاً‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 1‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يقولون أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاماً نخرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 10- 11‏]‏ إذ يستبعدون ذلك ويستدفعونه ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏]‏ أي صحية ‏{‏فإذا هم بالساهرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 14‏]‏ أي الأرض قياماً ينظرون ما قدمت أيديهم ويتمنون أن لو كانوا تراباً ولا ينفعهم ذلك، ثم ذكر تعالى من قصة فرعون وطغيانه ما يناسب الحال في قصد الاتعاظ والاعتبار، ولهذا أتبع القصة بقوله سبحانه

‏{‏إن في ذلك لعبرة لمن يخشي‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 26‏]‏ انتهى‏.‏

ولما أقسم على القيام بتلك الأفعال العظام التي ما أقدر أهلها عليها إلا الملك العلام‏.‏ ذكر ما يكون فيه من الأعلام تهويلاً لأمر الساعة لأن النفوس المحسوسات نزاعة، فالغائبات عندها منسية مضاعة فقال ناصباً الظرف بذلك المحذوف لأنه لشدة وضوحه كالملفوظ به‏:‏ ‏{‏يوم ترجف‏}‏ أي تضطرب اضطراباً كبيراً مزعجاً ‏{‏الراجفة *‏}‏ أي الصيحة، وهي النفخة الأولى التي هي بحيث يبلغ- من شدة إرجافها للقلوب وجميع الأشياء الساكنة من الأرض والجبال إلى نزع النفوس من جميع أهل الأرض- مبلغاً تستحق به أن توصف بالعراقة في الرجف، قال البغوي‏:‏ وأصل الرجفة الصوت والحركة‏.‏

ولما ذكر الصيحة الأولى، أتبعها الثانية حالاً منها دلالة على قربها قرباً معنوياً لتحقق الوقوع، ولأن ذلك كله في حكم يوم واحد، فصح مجيء الحال وإن بعد زمنه من زمن صاحبه فقال‏:‏ ‏{‏تتبعها الرادفة *‏}‏ أي الصيحة التابعة لها التي يقوم بها جميع الأموات وتجتمع الرفات، وتضطرب من هولها الأرض والسماوات، وتدك الجبال ويعظم الزلزال، ويكون عنها التسيير بعد المصير إلى الكثيب المهيل، ونحو ذلك من الأمر الشديد الطويل، قال حمزة الكرماني‏:‏ روى السدي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة فينبتون منه كما ينبت الزرع من الماء، حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيها الروح ثم يلقى عليهم نومة فبينما هم في قبورهم نفخ في الصور ثانية فجلسوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم‏.‏

ولما ذكر البعث، ذكر حال المكذب به لأن السياق له، فقال مبتدئاً بنكرة موصوفة‏:‏ ‏{‏قلوب يومئذ‏}‏ أي إذ قام الخلائق بالصيحة التابعة للأولى ‏{‏واجفة *‏}‏ أي شديدة الاضطراب أجوافها خوفاً تكاد تخرج منها من شدة الوجيف، ولما وصفها بالاضطراب، وكان قد يخفى سببه لكونه قد يكون عند السرور العظيم كما قد يكون عند الوجل الشديد، أخبر عنه بما يحقق معناه فقال‏:‏ ‏{‏أبصارها‏}‏ أي أبصار أصحابها فهو من الاستخدام ‏{‏خاشعة *‏}‏ أي ذليلة ظاهر عليها الذل واضطراب القلوب من سوء الحال ولذلك أضافها إليها‏.‏

ولما وصفها بالاضطراب والذل، علله ليعرف منه أن من يقول ضد قولهم يكون له ضد وصفهم من الثبات والسكون والعز الظاهر فقال‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ أي في الدنيا قولاً يجددونه كل وقت من غير خوف ولا استحياء استهزاءً وإنكاراً‏.‏ ‏{‏أإنا لمردودون‏}‏ أي بعد الموت ممن يتصف بردنا كائناً من كان ‏{‏في الحافرة *‏}‏ أي في الحياة التي كنا فيها قبل الموت هي حالتنا الأولى، من قولهم‏:‏ رجع فلان في حافرته، أي طريقته التي جاء بها فحفرها أي أثر فيها بمشيه كما تؤثر الأقدام، والحوافر في الطرق، أطلق على المفعولة فاعلة مبالغة وذلك حقيقته، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم رجع إليه‏:‏ رجع إلى حافرته، وقيل‏:‏ الحافرة الأرض التي هي محل الحوافر‏.‏

ولما وصف قلوبهم بهذا الإنكار الذي ينبغي لصاحبه أن يذوب منه خجلاً إذا فرط منه مرة واحدة، وأشار إلى شدة وقاحتهم بتكريره، أتبعه التصريح بتكريرهم له على وجه مشير إلى العلة الحاملة لهم على قوله وهو قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا‏}‏ أي كوناً صار جبلة لنا ‏{‏عظاماً نخرة *‏}‏ أي هي في غاية الانتخار حتى تفتتت، فكان الانتخار وهو البلى والتفتت والتمزق كأنه طبع لها طبعت عليه، وهي أصلب البدن فكيف بما عداها من الجسم، وعلى قراءة «ناخرة» المعنى أنها خلا ما فيها فصار الهواء ينخر فيها أي يصوّت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 19‏]‏

‏{‏قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما كان العامل في «إذا» مقدراً بنحو أن يقال‏:‏ نرد إذ ذاك إلى حالتنا الأولى ونقوم كما كنا‏؟‏ دل على هذا المحذوف قوله تعالى عنهم‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي مرة من المرات‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي الردة إلى الحالة الأولى العجيبة جداً البعيدة من العقل في زعمهم ‏{‏إذاً‏}‏ أي إذ نرد إلى حياتنا الأولى لا شيء لنا كما ولدنا لا شيء لنا، ونفقد كل ما سعينا في تحصيله وجمعه وتأثيله ‏{‏كرة‏}‏ أي رجعة وإعادة وعطفة ‏{‏خاسرة *‏}‏ أي هي لشدة خسارتنا فيها بما فقدنا مما حصلناه من الحال والمآل وصالح الخلال، عريقة في الخسارة حتى كأنها هي الخاسرة، ولعله عبر بالماضي لأنهم ما سمحوا بهذا القول إلا مرة من الدهر، وأما أغلب قولهم فكان أنهم يكونون على تقدير البعث أسعد من المؤمنين على قياس ما هم عليه في الدنيا ونحو هذا من الكذب على الله‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ نعم والله لتردن يا هؤلاء، إنما هذا الذي تقولونه كله استبعاد منكم كما أنكم مقرون بسهولته لو عقلتم، أما من جهة القدرة فلأن الابتداء أصعب من الإعادة وأنتم مقرون بالابتداء ولأن الاستبعاد إن كان من جهة وقوع الظن بأن من صار تراباً يصير عوده محالاً من جهة تعذر تمييز ترابه من تراب غيره، فتمييز النازع والناشط من الملائكة للروح من الجسد أصعب من ذلك بكثير، وكذا غير هذا مما تدبره الملائكة من الأمور، فكيف يصعب على ربهم سبحانه شيء يسهل مثله عليهم، وأما من جهة العوائد فإن أحداً لا يدع رعية له بغير حساب أصلاً، وأما من جهة الوعد فقد تقدم به، وليس من شيم الكرام فضلاً عن الملوك إخلاف الوعد ولا إقرار الظلم فلا تكذبوا بها ولا تستصعبوها، قال مسبباً عن هذا المقدر مهدداً لأصحاب الشبهة المقلدين‏:‏ ‏{‏فإنما هي‏}‏ أي القيامة ‏{‏زجرة *‏}‏ أي صيحة بانتهار تتضمن الأمر بالقيام والسوق إلى المحشر والمنع من التخلف ‏{‏واحدة *‏}‏ عبر بالزجر وهو أشد من النهي لأنه يكون للعرض لأنها صيحة لا يتخلف عنها القيام أصلاً، فكان كأن لسان الحال قال عن تلك الصيحة‏:‏ أيها الأجساد البالية‏!‏ انتهي عن الرقاد، وقومي إلى الميعاد، بما حكمنا به من المعاد، فقد انتهى زمان الحصاد، وآن أوان الاجتناء لما قدم من الزاد، فيا ويل من ليس له زاد‏!‏ ‏{‏فإذا هم‏}‏ أي فتسبب عن هذه النفخة- وهي الثانية- أنهم فاجؤوا بغاية السرعة كونهم أحياء قائمين ‏{‏بالساهرة *‏}‏ أي على ظهر الأرض البيضاء المستوية الواسعة التي يجددها الله للجزاء فتكون سعتها كأنها قد ابتلعتهم على كثرتهم التي تفوت العد، وتزيد على الحد، سميت بذلك لأن الشراب يجري فيها من الساهرة وهي العين الجارية، أو لأن سالكها يسهر خوفاً كما أن النوم يكون آمنة، أو لأن هذه الأرض بالخصوص لا نوم فيها مع طول الوقوف وتقلب الصروف الموجبة للحتوف‏.‏

ولما كانت قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع القبط أشبه شيء بالقيامة لما حصل فيها من التقلبات والتغيرات وإيجاد المعدومات من الجراد والقمل والضفادع على تلك الهيئات الخارجة عن العادات في أسرع وقت‏.‏ وقهر الجبابرة والمن على الضعفاء حتى كان آخر ذلك أن حشر بني إسرائيل فنشطهم من القبط نشطاً رقيقاً كلهم وجميع ما لهم مع دوابهم إلى ربهم وحشر جميع القبط وراءهم فنزعهم نزعاً كلهم بحشر فرعون لهم بأصوات المنادين عنه في أسرع وقت وأيسر أمر إلى هلاكهم كما يحشر الأموات بعد إحيائهم بالصيحة إلى الساهرة، ثم كانت العاقبة في الطائفتين بما للمدبرات أمراً أن نجا بنو إسرائيل بالبحر كما ينجو يوم البعث المؤمنون بالصراط، وهلك فرعون وآله به كما يتساقط الكافرون بالصراط، وذلك أنه رأى فرعون وجنوده البحر قد انفلق لبني إسرائيل فلم يعتبروا بذلك ثم دخلوا فيه وراءهم، ولم يجوزوا أن الذي حسره عن مكانه قادر على أن يعيده كما ابتدأه فيغرقهم واستمروا في عماهم حتى رده الله فأغرقهم به كما أن من يكذب بالقيامة رأى بدء الله له ولغيره وإفناءه بعد إبدائه ثم إنه لم يجز أن يعيده كما بدأه أول مرة، وصل بذلك قوله تعالى جواباً لمن يقول‏:‏ هل لذلك من دليل‏؟‏ مخاطباً لأشرف الخلق إشارة إلى أنه لا يعتبر هذا حق اعتباره إلا أنت، مستفهماً عن الإتيان للتنبيه والحث على جمع النفس على التأمل والتدبر والاعتبار مقرراً ومسلياً له صلى الله عليه وسلم ومهدداً للمكذبين أن يكون حالهم- وهم أضعف أهل الأرض لأنه لا ملك لهم- حكال فرعون في هذا، وقد كان أقوى أهل الأرض بما كان له من الملك وكثرة الجنود وقوتهم وسحرهم ومرودهم في خداعهم ومكرهم ورأى من الآيات ما لم يره أحد قبله، فلما أصر على التكذيب ولم يرجع ولا أفاده التأديب أغرقه الله وآله فلم يبق منهم أحداً وقد كانوا لا يحصون عدداً بحيث إنه قيل‏:‏ إن طليعته كانت على عدد بني إسرائيل ستمائة ألف‏:‏ ‏{‏هل أتاك‏}‏ أي يا أعلم الخلق ‏{‏حديث موسى *‏}‏ أي ما كان من أمره الذي جددناه له حين أردناه فيكون كافياً لك في التسلية ولقومك في الحث على التصديق والتنبيه على الاعتبار والتهديد على التكذيب والإصرار ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏ناداه ربه‏}‏ أى المحسن إليه بإيجاده وتقريبه وتدبيره أمر إرساله وتقديره ‏{‏بالواد المقدس‏}‏ أي المطهر غاية التطهر بتشريف الله له بإنزال النبوة المفيضة للبركات، ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏طوى *‏}‏ وهو الذي طوى فيه الشر عن بني إسرائيل ومن أراد الله من خلقه ونشر بركات النبوة على جميع أهل الأرض المسلم بإسلامه، وغيره برفع عذاب الاستئصال عنه، فإن العلماء قالوا‏:‏ إن عذاب القبر- أي عذاب الاستئصال- ارتفع حين أنزلت التوراة‏.‏

وهو واد بالطور بين أيلة ومصر‏.‏

ولما ذكر المناداة فسر ثمرتها بقوله مستأنفاً منبهاً لأصحاب الشهوة المعجبين المتكبرين، وقد أرشد السياق إلى أن التقدير، ناداه قائلاً‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فرعون‏}‏ أي ملك مصر الذي كان استعبد بني إسرائيل ثم خوّف من واحد منهم فصار يذبح أبناءهم خوفاً منه وهو أنت فربيناك في بيته لهلاكه حتى يعلم أنه لا مفر من قدرنا، فكنت أعز بني إسرائيل، وكان سبب هلاكه معه في بيته بمرأىً منه ومسمع وهو لا يشعر بذلك ثم قتلت منهم نفساً وخرجت من بلدهم خائفاً تترقب‏.‏

ولما أمره بالذهاب إليه، علله بما يستلزم إهلاكه على يده عليه الصلاة والسلام إشارة له بالبشارة بأنه لا سبيل له عليه، ولذلك أكده لأن مثل ذلك أمر يقتضي طبع البشر التوقف فيه فقال‏:‏ ‏{‏إنه طغى *‏}‏ أي الحد وتجاوز الحد فاستحق المقابلة بالجد، ثم سبب عن الذهاب إليه قوله ‏{‏فقل‏}‏ أي له تفصيلاً لبعض ما تقدم في «طه» من لين القول ولطف الاستدعاء في الخطاب‏:‏ ‏{‏هل لك‏}‏ أي ميل وحاجة ‏{‏إلى أن تزكّى *‏}‏ أي تتحلى بالفضائل، وتتطهر من الرذائل، ولو بأدنى أنواع التزكي‏:‏ الطهارة الظاهرة والباطنة الموجبة للنماء والكثرة، وإفهام الأدنى بما يشير إليه إسقاط تاء التفعل المقتضي للتخفيف، وذلك بالإذعان المقتضي للإيمان وإرسال بني إسرائيل، وقرأ الحجازيان ويعقوب بالتشديد أي تزكية بليغة لأن من دخل في التزكي على يد كامل لا سيما بني من أولي العزم أوشك أن يبلغ الغاية في الزكاء‏.‏

ولما أشار له الطهارة عن الشرك، أتبعها الأعمال فقال‏:‏ ‏{‏وأهديك‏}‏ أي أبين لك بعد التزكية بالإيمان الذي هو الأساس‏:‏ كيف المسير ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي الموجد لك والمحسن إليك والمربي لك بتعريفك ما يرضيه من الأعمال وما يغضبه من الخصال بعد أن بلغك في الدنيا غاية الآمال ‏{‏فتخشى *‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أنك تصير تعمل أعمال من يخاف من عذابه خوفاً عظيماً، فتؤدي الواجبات وتترك المحرمات وسائر المنهيات، فتصير إلى أعلى رتب التزكية فتجمع ملك الآخرة إلى ملك الدنيا، فإن الخشية هي الحاملة على كل خير، والآمن هو الحامل على الشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 28‏]‏

‏{‏فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فذهب إليه كما أمره الله تعالى، فقال له ذلك فطلب الدليل على صحة الرسالة واستبعد أن يختص عنه بهذه المنزلة العلية وقد رباه وليداً ‏{‏فأراه‏}‏ أي فتسبب عن طلبه له أنه دل على صدقه بأنه أراه ‏{‏الآية‏}‏ أي العلامة الدالة على ذلك ‏{‏الكبرى *‏}‏ وهي قلب العصا حية أو جميع معجزاته ‏{‏فكذب‏}‏ أي فتسبب عن رؤية ذلك أنه أوقع التكذيب بشيء إنما يقتضي عند رؤيته التصديق ‏{‏وعصى *‏}‏ أي أوقع العصيان، وهو الإباء الكبير والتكبر عن امتثال ما دعي إليه مجموعاً إلى التكذيب بعد إقامة الدليل على الصدق وتحقق الأمر‏.‏

ولما كان التمادي على التكذيب ممن رأى وعرف الحق ولا سيما إذا كان كبيراً مستبعداً جداً، أشار إليه بأداة التراخي مع دلالتها على حقيقة التراخي أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏ثم أدبر‏}‏ أي فرعون بعد المهلة والأناة إدباراً عظيماً بالتمادي على أعظم مما كان فيه من الطغيان بعد خطوب جليلة ومشاهد طويلة‏.‏ حال كونه ‏{‏يسعى *‏}‏ أي يعمل بغاية جهده عمل من هو مسرع غاية الإسراع في إبطال الأمر الرباني بقلة عقله وفساد رأيه وأبى أن يقبل الحق ‏{‏فحشر‏}‏ أي فتسبب عن إدباره ساعياً وتعقبه أنه جمع السحرة طوعاً وكرهاً وزاد عليهم أيضاً جنوده ‏{‏فنادى *‏}‏ أي في المجامع ‏{‏فقال‏}‏ أي مناديه الذي لا يشك أنه عنه، فكان قوله كقوله‏:‏ ‏{‏أنا‏}‏ وقال حمزة الكرماني‏:‏ قال له موسى عليه السلام‏:‏ إن ربي أرسلني إليك، لئن آمنت بربك تكون أربعمائة سنة في السرور والنعيم، ثم تموت فتدخل الجنة، فقال‏:‏ حتى أستشير هامان، فاستشاره فقال‏:‏ أتصير عبداً بعد ما كنت رباً تعبد، فعند ذلك بعث الشرط وجمع السحرة والجنود، فلما اجتمعوا قام عدو الله على سريره فقال‏:‏ أنا ‏{‏ربكم الأعلى *‏}‏ فكان هذا نداؤه يعني كلكم أرباب بعضكم فوق بعض وأنا أعلاكم، ولا رب فوقي أصلاً، وذلك لأن الإله عنده الطبيعة، وهي مقسمة في الموجودات، فهم كلهم أرباب، ومن كان أعلى كان أقعد في المراد، وهو كان أعلى منهم فقبحه الله ولعنه ولعن من تمذهب بمذهبه كابن عربي وابن الفارض وأتباعهما حيث أنكروا المختار الملك القهار، ورسوله المصطفى المختار، وتبعوا في وحدة الوجود بعض الفلاسفة ثم الحلاج بعد فرعون هذا الذي لم يصرح الله بذم أحد ما صرح بذمه، ولم يصرح بشقاء أحد ما صرح بشقائه، كهذه الآية فإنها مصرحة بوقوع نكاله في الآخرة كما وقع في الدنيا، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم المقبوحين‏}‏

‏[‏القصص‏:‏ 40- 42‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات البينات والدلائل الواضحات التي لا تحصى وهي كثيرة، وأعظمها القياس البديهي الإنتاج ‏{‏وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏وإن المسرفين هم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 43‏]‏ ويروى أن إبليس لما سمع منه قوله هذا قال‏:‏ إني تجبرت على آدم فلقيت ما لقيت، وهذا يقول هذا‏؟‏ وهذا دعاه إليه الكبر الناشئ من فتنة السراء التي الصبر فيها أعظم من الصبر في الضراء، قال الإمام الغزالي في كتاب الصبر من الإحياء‏:‏ فالصبر على الطاعة شديد لأن النفس بطبعها تنفر عن العبودية وتشتهي الربوبية، ولذلك قال بعض العارفين‏:‏ ما من نفس إلا وهي مضمرة ما أظهره فرعون من قوله ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ ولكن فرعون وجد له مجالاً وقبولاً فأظهره إذ استحف فأطاعوه وما من أحد إلا وهو يدعي ذلك مع عبده وخادمه وأتباعه وكل من هو تحت قهره وطاعته وإن كان ممتنعاً من إظهاره، فإن امتعاضه وغيظه عند تقصيرهم في خدمته لا يصدر إلا عن إضمار الكبر ومنازعة الربوبية في رداء الكبرياء- انتهى‏.‏ ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وسلم ما لام خادمه في شيء قط- والله تعالى هو الموفق للصواب‏.‏

ولما أخبر سبحانه عنه بهذه الكلمة الشنعاء القادحة في الملك، وكان الملوك لا يحتملون ذلك بوجه، سبب عنها وعقب قوله‏:‏ ‏{‏فأخذه الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له ولا أمر لأحد معه أخذ قهر وذل منكلاً به مخذلاً له‏:‏ ‏{‏نكال الآخرة‏}‏ فهو مصدر من المعنى، أي أخذ تنكيل فيها يكون مثلاً يتقيد به ويتعظ كل من سمعه عن مثل حال فرعون، وقدمها اهتماماً بشأنها وإشارة إلى أن عظمة عذابها أعظم ولا يذوقه الإنسان إلا بكشف غطاء الدنيا بالموت، وتنبيهاً على أن المنع من مثل هذه الدعوى للصدق بها أمكن، وليس ذلك للفاصلة لأنه لو قيل‏:‏ «الأخرى» لوافقت ‏{‏والأولى *‏}‏ أي ونكال الدنيا الذي هو قبل الآخرة فإن من سمع قصة غرقه ومجموع ما اتفق له كان له ذلك نكالاً مانعاً من عمل مثله أو أقل منه، قال الضحاك‏:‏ أما في الدنيا فأغرقه الله تعالى وألقاه بنجوة من الأرض، أما في العقبى فيدخله الله تعالى النار ويجعله ظاهراً على تل منها مغلولاً مقيداً ينادي عليه هذا الذي ادعى الربوبية دون الله انتهى‏.‏ وأنا لا أشك أن الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وأتباعهم يكونون في النار تحتهم وتحت آله يشربون عصارتهم، فإنهم ادعوا أنه ناج وصدقوه فيما ادعاه وادعوا لأنفسهم وغيرهم مثل ما ادعاه تكذيباً للقرآن وإغراقاً في العدوان، وزادوا عليه بابتذال الاسم الأعظم الذي حماه الله من أن يدعيه أحد قبل إرسال النبي صلى الله عليه وسلم فادعوا أنه يطلق عليهم وعلى كل أحد بل كل شيء، وأمارة هذه الطائفة الخبيثة التي لا تتخلف أن تقول لأحدهم‏:‏ العن فرعون الذي أجمع على لعنه جميع الطوائف‏.‏

وهو مثل عندهم في الشرارة والخبث فلا يلعنه، وإن لعنه فبعد توقف‏.‏

ولما لخص سبحانه وتعالى ما مضى من قصصه في هذه الكلمات اليسيرة أحسن تلخيص وأقربه مع عدم المخالفة لشيء مما مضى لأن المفصل موضع الاختصار أما باعتبار النزول فإنه نزل أولاً فكان تقريب القصص للناس بالاقتصار على ما لا بد منه أولى ليستأنسوا به، وأما من جهة الترتيب فلتذكيرهم بما مضى ليجتمع في المخيّلة في أقرب وقت ويتذكر به ذلك المبسوط، وختمه بأخذه هذا الأخذ الغريب أرشد إلى ما في القصة من العبرة، مشيراً إلى استحضار ما مضى كله، فقال مؤكداً مقرراً للمكذب ومنبهاً للمصدق‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي فعله والذي فعل به ‏{‏لعبرة‏}‏ أي أمراً عظيماً يتعمد الاعتبار به من معنى إلى معنى حتى يقع به الوصول إلى كثير من المعارف ‏{‏لمن يخشى *‏}‏ أي من شأنه الخوف العظيم من الله لأن الخشية- كما تقدم- هي أساس الخير، فأول العبور أن ينقل السامع حال غيره إليه فيتذكر بإنجاء بني إسرائيل على ضعفهم منهم على قوتهم ثم بقوة ما حصل لهم من القهر من ذلك حتى أوجب اتباعهم بالجنود ثم بفرق البحر ثم بإيرادهم إياه ثم بإغراقهم فيه كلمح البصر لم يخرج منهم مخبر قدرة الله تعالى على إيراد الكفار النار وقهر كل جبار وبجعل العصا حية وإخراج القمل والضفادع من الأرض وتحويل الماء دماً قدرته سبحانه وتعالى على ذلك السامع بالعذاب وغيره وعلى خصوص البعث- إلى غير ذلك من العبر وواضح الأثر‏.‏

ولما ختم قصة فرعون- لعنه الله- بالعبرة، وكان أعظم عبرتها القدرة التامة لا سيما على البعث كما هي مشيرة إليه بأولها وآخرها، والعقوبة على التكذيب به لأن التكذيب به يجمع مجامع الشر والتصديق به يجمع مجامع الخير، وكانوا يستبعدونه لاستبعاد القدرة عليه، وصل به ما هو كالنتيجة منه، فقال مقرراً مخاطباً لأصحاب الشبهة الشاكين موقفاً لهم على القدرة منكراً عليهم استبعادهم وذلك ملتفتاً بعد تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم لما تقدم من دقة فهمه وجلالة علمه صلى الله عليه وسلم إلى عموم الخطاب لوضوح هذا البرهان لكل إنسان استعطافاً بهم في توبيخ‏:‏ ‏{‏أأنتم‏}‏ أي أيها الأحياء مع كونكم خلقاً ضعيفاً ‏{‏أشد خلقاً‏}‏ أي أصعب وأثقل من جهة التقدير والإيجاد ‏{‏أم السماء‏}‏ على ما فيها من السعة والكبر والعلو والمنافع‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً‏:‏ السماء- لما يرى من أعظمها لأن العالم الإنساني مختصر العالم الآفاقي، ويزيد الآفاقي طول البقاء مع عدم التأثر، وصل به قوله دليلاً على قدرته على البعث لقدرته على ما هو أشد منه لأن الذي قدر على ابتداء الأكبر هو على إعادة الأصغر أقدر، مبيناً لكيفية خلقه لها‏:‏ ‏{‏بناها *‏}‏ أي جعلها سقفاً للأرض على ما لها من العظمة، ثم بين البناء بقوله‏:‏ ‏{‏رفع سمكها‏}‏ أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض أو سمنها الذاهب في العلو رفيعاً، قال في القاموس‏:‏ السمك السقف، أو من أعلى البيت إلى أسفله، أو القامة من كل شيء، وقال أبو حيان‏:‏ السمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها‏:‏ ‏{‏فسواها *‏}‏ أي عدلها عقب ذلك بأن جعلها مستوية لا شيء فيها أعلى من شيء ولا أخفض ولا فطور فيها، وأصلحها بما تم به كمالها من الكواكب وغيرها، وجعل مقدار تخن كل سماء وما بين كل سماءين وتخن كل أرض وما بين كل أرضين على السواء لا يزيد شيء من ذلك على الآخر أصلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 37‏]‏

‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان كل من ذلك يدل على القدرة على البعث لأنه إيجاد ما هو أشد من خلق الآدمي من عدم، أتبعه ما يتصور به البعث في كل يوم وليلة مرتين فقال‏:‏ ‏{‏وأغطش‏}‏ أي أظلم إظلاماً لا يهتدي معه إلى ما كان في حال الضياء ‏{‏ليلها‏}‏ أي بغياب شمسها فأخفى ضياءها بامتداد ظل الأرض على كل ما كانت الشمس ظهرت عليه‏.‏ وأضافه إليها لأنه يحدث بحركتها، وبدأ به لأنه كان أولاً، والعدم قبل الوجود ‏{‏وأخرج ضحاها *‏}‏ بطلوع شمسها فأضاء نهارها، فالآية من الاحتباك‏:‏ دل ب «أغطش» على «أضاء» وبإخراج الضحى على إخفاء الضياء، ولعله عبر بالضحى عن النهار لأنه أزهر ما فيه وأقوى نوراً‏.‏

ولما بدأ بدلالة العالم العلوي لأنه أدل لما فيه من العجائب والمنافع مع كونه أشرف، فذكر أنه أتقن السماء التي هي كالذكر، ثنى بأنه سوى ما هي لها كالأنثى فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ ولما كان المراد استغراق الزمان باستمرار الدحو، حذف الخافض فقال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي المذكور كله ‏{‏دحاها‏}‏ أي بسطها ومدها للسكنى وبقية المنافع بعد أن كان خلقها وأوجدها قبل إيجاد السماء غير مسواة بالفعل ولا مدحوة‏.‏

ولما ذكر الدحو، أتبعه ما استلزمه من المنافع لتوقف السكنى المقصودة بالدحو عليه فقال كالمبين له من غير عاطف‏:‏ ‏{‏أخرج منها‏}‏ أي الأرض ‏{‏ماءها‏}‏ بتفجير العيون، وإضافته إليها دليل على أنه فيها ‏{‏ومرعاها *‏}‏ الذي يخرج بالماء، والمراد ما يرعى منها ومكانه وزمانه‏.‏

ولما ذكر الأرض ومنافعها، ذكر المراسي التي تم بها نفعها فقال‏:‏ ‏{‏والجبال‏}‏ أي خاصة ‏{‏أرساها *‏}‏ أي أثبتها وأقرها ومع كونها ثابتة لا تتحول فإنه سبحانه جعلها مراسي للأرض تكون سبباً لثباتها كما أن المراسي سبب لثبات السفينة‏.‏ ولما كانت الإعادة واضحة من تناول الحيوان المأكل والمشرب وغيرهما من المتاع فإنه كلما نقص منه شيء تناول ما قدر له ليعود ذلك أو بعضه، قال منبهاً على أنه كل يوم في إعادة بانياً حالاً مما تقدم تقديره‏:‏ حال كونها ‏{‏متاعاً‏}‏ مقدراً ‏{‏لكم‏}‏ تتمتعون بما فيها من المنافع ‏{‏ولأنعامكم *‏}‏ أي مواشكيم بالرعي وغيره‏.‏

ولما ذكر ما دل على البعث، أتبعه ما يكون عن البعث مسبباً عنه دلالة على أن الوجود ما خلق إلا لأجل البعث لأنه محط الحكمة‏:‏ ‏{‏فإذا جاءت‏}‏ أي بعد الموت ‏{‏الطامة الكبرى *‏}‏ أي الداهية الدهياء التي تطم- أي تعلو- على سائر الدواهي وتغطيها فتكون أكبر داهية توجد، وهي البعث بالنفخة الثانية- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والعامل في «إذا» محذوف تقديره‏:‏ فصل الناس إلى شقي وسعيد‏.‏

ولما كان الشيء لا يعرف قدره إذا كان غائباً إلا بما يكون فيه، قال مبدلاً منه‏:‏ ‏{‏يوم يتذكر‏}‏ أي تذكراً عظيماً ظاهراً- بما أشار إليه الإظهار ‏{‏الإنسان‏}‏ أي الخلق الآنس بنفسه الغافل عما خلق له ‏{‏ما سعى *‏}‏ أي عمل كله من خير وشر لأنه يراه في صحيفة أعماله، والإخبار عن تذكره منبهاً على ما في ذلك اليوم من الخطر لأن أحداً لا يعمل جهده في تذكره إلا لمحوج إلى ذلك وهو الحساب وتدوينه في صحيفة أعماله‏.‏

ولما أشار إلى الحساب ذكر ما بعده فقال‏:‏ ‏{‏وبرزت‏}‏ أي أظهرت إظهاراً عظيماً، وبناه للمفعول لأن الهائل مطلق تبريزها لا كونه من معين، مع الدلالة على الخفة والسهولة لكونه على طريقة كلام القادرين ‏{‏الجحيم‏}‏ أي النار التي اشتد وقدها وحرها ‏{‏لمن يرى *‏}‏ أي كائناً من كان لأنه لا حائل بين أحد وبين رؤيتها، لكن الناجي لا يصرف بصره إليها فلا يراها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يسمعون حسيسها‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 102‏]‏‏.‏

ولما كان جواب «إذا» كما مضى محذوفاً، وكان تقديره أن قسم الناس قسمين‏:‏ قسم للجحيم وقسم للنعيم، قال تعالى مسبباً عنه مفصلاً‏:‏ ‏{‏فأما من طغى *‏}‏ أي تجاوز الحد في العدوان فلم يخش مقام ربه، قال في القاموس‏:‏ طغى‏:‏ جاوز القدر وارتفع وطغى‏:‏ غلا في الكفر وأسرف في المعاصي والظلم، والماء‏:‏ ارتفع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما كان الذي بعد حدود الله هو الدنيا، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏وآثر‏}‏ أي أكرم وقدم واختار ‏{‏الحياة الدنيا *‏}‏ بأن جعل أثر العاجلة الدنية لحضورها عنده أعظم من أثر الآخرة العليا لغيابها، فكان كالبهائم لا إدراك له لغير الجزئيات الحاضرة، فانهمك في جميع أعمالها وأعرض عن الاستعداد للآخرة بالعبادة وتهذيب النفس فلم ينه نفسه عن الهوى‏.‏

ولما كان الإنسان مؤاخذاً بما اكتسب، سبب عن أعماله هذه قوله مؤكداً لتكذيبهم ذلك‏:‏ ‏{‏فإن الجحيم‏}‏ أي النار الشديدة التوقد العظيمة الجموع على من يدخلها ‏{‏هي‏}‏ أي لا غيرها ‏{‏المأوى *‏}‏ أي المسكن له- هذا مذهب البصريين أن الضمير محذوف، وعند الكوفيين أن «أل» نائب عن الضمير- قاله أبو حيان‏.‏

ولما ذكر الطاغي، أتبعه المتقي فقال‏:‏ ‏{‏وأما من خاف‏}‏ ولما كان ذلك الخوف مما يتعلق بالشيء لأجل ذلك الشيء أعظم من ذكر الخوف من ذلك الشيء نفسه فقال‏:‏ ‏{‏مقام ربه‏}‏ أي قيامه بين يدي المحسن إليه عند تذكر إحسانه فلم يطغ فكيف عند تذكر جلاله وانتقامه، أو المكان الذي يقوم فيه بين يديه والزمان، وإذا خاف ذلك المقام فما ظنك بالخوف من صاحبه، وهذا لا يفعله إلا من تحقق المعاد‏.‏

ولما ذكر الخوف ذكر ما يتأثر عنه ولم يجعله مسبباً عنه ليفهم أن كلاًّ منهما فاصل على حياله وإن انفصل عن الآخر فقال‏:‏ ‏{‏ونهى النفس‏}‏ أي التي لها المنافسة ‏{‏عن الهوى‏}‏ أي كل ما تهواه فإنه لا يجر إلى خير لأن النار حفت بالشهوات، والشرع كله مبني على ما يخالف الطبع وما تهوى الأنفس، وذلك هو المحارم التي حفت بها النار فإنها بالشهوات، قال الرازي‏:‏ والهوى هو الشهوة المذمومة المخالفة لأوامر الشرع‏.‏ قال الجنيد‏:‏ إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها، أي فأفاد ذلك أنه لم يؤثر الحياة الدنيا، فالآية من الاحتباك‏:‏ أتى بطغى دليلاً على ضده ثانياً، وبالنهي عن الهوى ثانياً دلالة على إيثار الدنيا أولاً‏.‏ ولما كان مقام ترغيب، ربط الجزاء بالعمل كما صنع في الترهيب فقال وأكد لأجل تكذيب الكفار‏:‏ ‏{‏فإن الجنة‏}‏ أي البستان الجامع لكل ما يشتهي ‏{‏هي‏}‏ أي خاصة ‏{‏المأوى *‏}‏ أي له، لا يأوي إلى غيرها، وهذا حال المراقبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما قسمهم هذا التقسيم المفهم أن هذا شيء لا بد منه، استأنف ذكر استهزائهم تعجيباً منهم فقال‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏ أي قريش على سبيل التجديد والاستمرار سؤال استهزاء وإنكار واستبعاد‏:‏ ‏{‏عن الساعة‏}‏ أي البعث الآخر لكثرة ما تتوعدهم بها عن أمرنا‏.‏ ولما كان السؤال عنها مبهماً بينه بقوله‏:‏ ‏{‏أيان مرساها *‏}‏ أي في أي وقت إرساؤها أي وقوعها أو ثباتها واستقرارها‏.‏

ولما كان إيراد هذا هكذا مفهماً للإنكار عليهم في هذا السؤال، وكان من المعلوم أنه يقول‏:‏ إنهم ليسألونني وربما تحركت نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم إلى إجابتهم لحرصه على إسلامهم شفقة عليهم، فطمه عن ذلك وصرح بالإنكار بقوله‏:‏ ‏{‏فيم‏}‏ أي في أي شيء ‏{‏أنت من ذكراها *‏}‏ أي ذكرها العظيم لتعرفها وتبين وقتها لهم حرصاً على إسلامهم، وذلك لا يفيد علمها، ثم عرفها بما لا يمكن المزيد عليه مما أفادته الجملة التي قبل من أنه لا يمكن علمها لغيره سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي المحسن إليك وحده ‏{‏منتهاها *‏}‏ أي منتهى علمها وجميع أمرها‏.‏

ولما كان غاية أمرهم أنهم يقولون‏:‏ إنه متقول من عند نفسه، قلب عليهم الأمر فقال‏:‏ ‏{‏إنما أنت‏}‏ أي يا أشرف المرسلين ‏{‏منذر‏}‏ أي مخوف على سبيل الحتم الذي لا بد منه مع علمك بما تخوف به العلم الذي لا مرية فيه ‏{‏من يخشاها *‏}‏ أي فيه أهلية أن يخافها خوفاً عظيماً فيعمل لها لعلمه بإتيانها لا محالة وعلمه بموته لا محالة وعلمه بأن كل ما تحقق وقوعه فهو قريب، وذلك لا يناسب تعيين وقتها فإن من فيه أهلية الخشية لا يزيده إبهامها إلا خشية، وغيره لا يزيده ذلك إلا اجتراء وإجراماً، فما أرسلناك إلا للإنذار بها لا للإعلام بوقتها، فإن النافع الأول دون الثاني، ولست في شيء مما يصفونك به كذباً منهم لأنا ما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ولا أنت مبعوث لتحرير وقت الساعة وعلم عينه، وإنما قصره على من يخشى لأن غيره لا ينتفع بإنذاره، فكان كأنه لم يحصل له الإنذار، ولهذا المعنى أضاف إشارة إلى أنه عريق في إنذار من يخشى، وأما غيره فهو منذر له في الجملة أي يحصل له صورة الإنذار لأنه منذره بمعنى أنه لا يحصل له معنى الإنذار‏.‏

ولما أثبت أنه منذر، وكان أخوف الإنذار الإسراع، قال مستأنفاً محقراً لهم الدنيا مزهداً لهم فيها‏:‏ ‏{‏كأنهم‏}‏ أي هؤلاء المنكرين لصحة الإنذار بها ‏{‏يوم يرونها‏}‏ أي يعلمون قيامها علماً هو كالرؤية ويرون ما يحدث فيها بعد سماع الصيحة وقيامهم من القبور من علمهم بما مر من زمانهم وما يأتي منه ‏{‏لم يلبثوا‏}‏ أي في الدنيا وفي القبور ‏{‏إلا عشية‏}‏ أي من الزوال إلى غروب الشمس‏.‏

ولما كانوا على غير ثقة من شيء مما يقولونه قال‏:‏ ‏{‏أو ضحاها *‏}‏ أي ضحى عشية من العشايا وهو البكرة إلى الزوال، والعشية ما بعد ذلك، أضيف إليها الضحى لأنه من النهار، ولإضافة تحصل بأدنى ملابسة، وهي هنا كونهما من نهار واحد، فالمراد ساعة من نهار أوله أو آخره، لم يستكملوا نهاراً تاماً ولم يجمعوا بين طرفيه، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» وهذا تعبير لنا بما نحسه تقريباً لعقولنا وإن كانت القاعدة أنه لا نسبة لما يتناهى إلى ما لا يتناهى على أن الكفار أيضاً يستقصرون مدة لبثهم، فكأنهم أصناف‏:‏ بعضهم يقول‏:‏ إن لبثتم إلا عشراً، وبعضهم يقول‏:‏ إن لبثتم إلا يوماً، وبعضهم يتحير فيقول‏:‏ اسأل العادين، أو أن تلك أقوالهم، والحق من ذلك هو ما أخبر الله به غير مضاف إلى أقوالهم من أن ما مضى لهم في جنب ما يأتي كأنه ساعة من نهار بالنسبة إلى النهار الكامل كما قال تعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام ‏{‏ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 45‏]‏ على أن منهم من يقول ذلك أيضاً كما قال تعالى في سورة المؤمنين حين قال تعالى ‏{‏كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 112- 113‏]‏ وذلك بالنسبة إلى ما كشف لهم عن أنهم يستقبلونه مما لا آخر له أو أنهم لما نزعتهم نفحة إسرافيل عليه الصلاة والسلام بيد القدرة من قبورهم غرقاً نزعاً شديداً فقاموا ورأوا تلك الأهوال وعلموا ما يستقبلونه من الأوجال استقصروا مدة لبثهم قبل ذلك لأن من استلذ شيئاً استقصر مدته وهم استلذوا ذلك وإن كان من أمرّ المرّ في جنب لهم عن أنهم لاقوه، فقد رجع آخرها بالقيامة على أولها، والتف مفصلها بنزع الأنفس اللوامة على موصلها، واتصلت بأول ما بعدها من جهة الخشية والتذكر فيا طيب متصلها، فسبحان من جعله متعانق المقاطع والمطالع، وأنزله رياضاً محكمة المذاهب والمراجع، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏‏}‏

لما قصره سبحانه على إنذاره من يخشى، وكان قد جاءه صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أم مكتوم الأعمى رضي الله تعالى عنه، وكان من السابقين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين مجيئه مشتغلاً بدعاء ناس من صناديد قريش إلى الله تعالى، وقد وجد منهم نوع لين، فشرع عبد الله رضي الله عنه يسأله وهو لا يعلم ما هو فيه من الشغل، يسأله أن يقرئه ويعلمه مما عمله الله فكره أن يقطع كلامه مع أولئك خوفاً من أن يفوته منهم ما يرجوه من إسلامهم المستتبع لإسلام ناس كثير من أتباعهم، فكان يعرض عنه ويقبل عليهم، وتظهر الكراهة في وجهه، لاطفه سبحانه وتعالى بالعتاب عن التشاغل عن أهل ذلك بالتصدي لمن شأنه أن لا يخشى لافتتانه بزينة الحياة الدنيا وإقباله بكليته على ما يفنى، فقال مبيناً لشرف الفقر وعلو مرتبته وفضل أهل الدين وإن هانوا، وخسة أهل الدنيا وإن زانوا، معظماً له صلى الله عليه وسلم بسياق الغيبة كما قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة‏:‏ وعلى من ههنا- يشير إلى ناحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها حياء منه صلى الله عليه وسلم وإجلالاً له‏:‏ ‏{‏عبس‏}‏ أي فعل الذي هو أعظم خلقنا ونجله عن أن نواجهه بمثل هذا العتاب بوجهه فعل الكاره للشيء من تقطيب الوجه بما له من الطبع البشري حين يحال بينه وبين مراده، وآذن بمدحه صلى الله عليه وسلم بأن ذلك خلاف ما طبعه عليه سبحانه من رحمة المساكين ومحبتهم والسرور بقربهم وصحبتهم بقوله ‏{‏وتولى *‏}‏ أي كلف نفسه الإعراض عنه رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله لأجل ‏{‏أن جاءه الأعمى *‏}‏ الذي ينبغي أن يبالغ في العطف عليه وفي إكرامه جبراً لكسره واعترافاً بحقه في مجيئه، وذكره بالوصف للإشعار بعذره في الإقدام على قطع الكلام والبعث على الرأفة به والرحمة له، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآه بعد ذلك قال‏:‏ «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي» واستخلفه على المدينة الشريفة عند غزوه مرتين، قال أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ ورأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء رضي الله عنه‏.‏

ولما عرف بسياق الغيبة ما أريد من الإجلال، وكان طول الإعراض موجباً للانقباض، أقبل عليه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏وما يدريك‏}‏ أي وأي شيء يجعلك دارياً بحاله وإن اجتهدت في ذلك فإن ذوات الصدور لا يعلمها إلا الله تعالى ‏{‏لعله‏}‏ أي الأعمى ‏{‏يزكى‏}‏ أي يكون بحيث يرجى تطهره ونمو أحواله الصالحة بما يسمع منك ولو على أدنى الوجوه بما يشير إليه إدغام تاء الافتعال، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏أو يذكر‏}‏ أي أو يقع منه التذكر لشيء يكون سبباً لزكائه وتذكره ولو كان ذلك منه على أدنى الوجوه المخرجة من الكفر فإن الخير لا يحقر شيء منه، وسبب عن تزكيه وتذكره قوله‏:‏ ‏{‏فتنفعه‏}‏ أي عقب تذكره وسببه ‏{‏الذكرى *‏}‏ وفي ذلك إيماء إلى أن الإعراض كان لتزكية غيره وتذكره، وقراءة النصب على أنه جواب «لعل»‏.‏

ولما ذكر العبوس والتولي عنه فأفهما ضدهما لمن كان مقبلاً عليهم، بين ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أما من استغنى *‏}‏ أي طلب الغنى وهو المال والثروة فوجده وإن لم يخش ولم يجئ إليك ‏{‏فأنت له‏}‏ أي دون الأعمى ‏{‏تصدى *‏}‏ أي تتعرض بالإقبال عليه والاجتهاد في وعظه رجاء إسلامه وإسلام أتباعه بإسلامه وهم عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية ابنا خلف، وأشار حذف تاء التفعل في قراءة الجماعة وإدغامها في قراءة نافع وابن كثير إلى أن ذلك كان على وجه خفيف كما هي عادة العقلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 16‏]‏

‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال سبحانه ‏{‏إن في ذلك لعبرة لمن يخشى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 26‏]‏ وقال بعد ‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ افتتحت هذه السورة الأخرى بمثال يكشف عن المقصود من حال أهل التذكر والخشية وجميل الاعتناء الرباني بهم وأنهم وإن كانوا في دنياهم ذوي خمول لا يؤبه لهم فهم عنده سبحانه في عداد من اختاره لعبادته وأهله لطاعته وإجابة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعلى منزلته لديه «رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» ومنهم ابن أم مكتوم الأعمى مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي بسببه نزلت السورة ووردت بطريق العتب وصاة لنبيه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على أن يعمل نفسه الكريمة على مصابرة أمثال ابن أم مكتوم وأن لا يحتقر وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولكن التحذير من هذا وإن لم يكن وقع يشعر بعظيم الاعتناء بمن حذر، ومنه قوله سبحانه ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ و‏{‏لا تدع مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 88‏]‏ و‏{‏لا تمش في الأرض مرحاً‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 18‏]‏ وهو كثير، وبسط هذا الضرب لا يلائم مقصودنا في هذا التعليق، لما دخل عليه صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم سائلاً ومسترشداً وهو صلى الله عليه وسلم يكلم رجلاً من أشراف قريش وقد طمع في إسلامه ورجاء إنقاذه من النار وإنقاذ ذويه وأتباعه، فتمادى على طلبه هذا الرجل لما كان يرجوه ووكل ابن أم مكتوم إلى إيمانه فأغفل- فورية مجاوبته وشق عليه إلحاحه خوفاً من تفلت الآخرة ومضيه على عقبه وهلاكه عتب سبحانه وتعالى عليه فقال‏:‏ ‏{‏عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1- 4‏]‏ وهي منه سبحانه واجبة، وقد تقدم في السورة قبل قول موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏هل لك إلى أن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏ فلم يقدر له بذلك ولا انتفع ببعد صيته في دنياه ولا أغنى عنه ما نال منها وبارت مواد تدبيره وعميت عليه الأنباء إلى أن قال ‏{‏ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وإني لأظنه كاذباً وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏ فأنى يزكى‏؟‏ ولو سبقت له سعادة لأبصر من حاله عين اللهو وللعب حين مقالته الشنعاء ‏{‏أم أنا خير من هذا الذي هو مهين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ولما سبقت لابن أم مكتوم الحسنى لم يضره عدم الصيت الدنياوي ولا أخل به عماه بل عظّم ربه شأنه لما نزل في حقه ‏{‏وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 2- 4‏]‏ فيا له صيتاً ما أجله بخلاف من قدم ذكره ممن طرد فلم يتزك ولم ينتفع بالذكرى حين قصد بها

‏{‏إنما أنت منذر من يخشاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 45‏]‏ كابن أم مكتوم، ومن نمط ما نزل في ابن أم مكتوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك مع الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ فتبارك ربنا ما أعظم لطفه بعبيده- اللهم لا تؤيسنا من رحمتك ولا تقنطنا من لطفك ولا تقطع بنا عنك بمنك وإحسانك- انتهى‏.‏

ولما كان فعله ذلك فعل من يخشى أن يكون عليه في بقائهم على كفرهم ملامة، بين له أنه سالم من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي فعلت ذلك والحال أنه ما ‏{‏عليك‏}‏ أي من بأس في ‏{‏ألا يزكّى *‏}‏ أصلاً ورأساً ولو بأدنى تزك- بما أشار إليه الإدغام- إن عليك إلا البلاغ، ويجوز أن يكون استفهاماً أي وأي شيء يكون عليك في عدم تزكيه وفيه إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في تزكية التابع الذي عرف منه القبول‏.‏

ولما ذكر المستغني، ذكر مقابله فقال‏:‏ ‏{‏وأما من جاءك‏}‏ حال كونه ‏{‏يسعى *‏}‏ أي مسرعاً رغبة فيما عندك من الخير المذكر بالله وهو فقير ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏يخشى‏}‏ أي يوجد الخوف من الله تعالى ومن الكفار في أذاهم على الإتيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معاثر الطريق لعماه ‏{‏فأنت عنه‏}‏ أي خاصة في ذلك المجلس لكونه في الحاصل ‏{‏تلهّى *‏}‏ أي تتشاغل لأجل أولئك الأشراف الذين تريد إسلامهم لعلو بهم الدين تشاغلاً حفيفاً بما أشار إليه حذف التاء، من لهى عنه كرضى- إذا سلى وغفل وترك، وفي التعبير بذلك إشارة إلى أن الاشتغال بأولئك لا فائدة فيه على ما تفهمه تصاريف المادة وإلى أن من يقصد الانسان ويتخطى رقاب الناس إليه له عليك حق عظيم، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الغنى أولاً يدل على الفقر ثانياً، وذكر المجيء والخسية ثانياً يدل على ضدهما أولاً، وسر ذلك التحذير مما يدعو إليه الطبع البشري من الميل إلى الأغنياء، ومن الاستهانة بحق الآتي إعظاماً لمطلق إتيانه‏.‏

ولما كان العتاب الذي هو من شأن الأحباب ملوحاً بالنهي عن الإعراض عمن وقع العتاب عليه، وكل من كان حاله كحاله والتشاغل عن راغب، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا تفعل ذلك أصلاً فإن الأمر في القضاء والقدر ليس على ما يظن العباد ولا هو جار على الأسباب التي تعرفونها بل هو من وراء علومهم على حكم تدق عن أفكارهم وفهومهم‏:‏ ثم علل ذلك فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك، ‏{‏إنها‏}‏ أي القرآن، ولعله أنث الضمير باعتبار ما تلي عليهم في ذلك المجلس من الآيات أو السور ‏{‏تذكرة‏}‏ أي تذكرهم تذكيراً عظيماً بما إن تأملوه شاهدوه في أنفسهم وفي الآفاق، ليس فيه شيء إلا وهم يعرفونه لو أقبلوا بكليتهم عليه، فما على المذكر بها غير البلاغ، فمن أقبل عليه فأهلاً وسهلاً، ومن أعرض فبعداً له وسحقاً‏.‏

ولما كان سبحانه قد خلق للإنسان عقلاً واختياراً، ويسر أمر القرآن في الحفظ والفهم لمن أقبل عليه، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء‏}‏ أي ذكره بعد مشيئة الله تعالى كما تقدم تقييده في القرآن غير مرة ‏{‏ذكره *‏}‏ أي حفظ القرآن كله وتذكر ما فيه من الوعظ من غير تكرير ولا معالجة تحوج إلى الإعراض عن بعض المقبلين الراغبين، وللإشارة إلى حفظه كله ذكر الضمير‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ حال كون القرآن مثبتاً أو حال كون الذاكر له مثبتاً، قال واصفاً لتذكرة مبيناً لشرفها بتشريف ظرفها وظرف ظرفها ‏{‏في صحف‏}‏ أي أشياء يكتب فيها من الورق وغيره ‏{‏مكرمة *‏}‏ أي مكررة التكريم ومعظمة في السماء والأرض في كل أمة وكل ملة ‏{‏مرفوعة‏}‏ أي عليه المقدار بإعلاء كل أحد لا سيما من له الأمر كله ‏{‏مطهرة *‏}‏ أي منزهة عن أيدي أهل السفول وعن قولهم إنها شعر أو سحر ونحو ذلك، وعلق أيضاً بمثبت بالفتح أو الكسر على اختلاف المعنيين- قوله مبيناً شرف ذلك الظرف لذلك الظرف إشارة إلى نهاية الشرف للمظروف‏:‏ ‏{‏بأيدي سفرة *‏}‏ أي كتبة يظهرون الكتابة بما فيها من الأخبار الغريبة والأحكام العلية في كل حال، فإن كان ما تعلق به الجار بالفتح فهو حقيقة في أنهم ملائكة يكتبونه من اللوح المحفوظ، أو يكون جمع سافر إما بمعنى الكتاب أو المسافر أي القطع للمسافة أو السفير الذي هو المصلح لأنهم سفراء بين الله وأنبيائه، وبهم يصلح أمر الدين والدنيا، وإن كان بالكسر فهو مجاز لأن من أقبل على كتابة الذكر يكون مهذباً في الحال أو في المآل في الغالب، وتركيب سفر للكشف ‏{‏كرام‏}‏ أي ينطوون على معالي الأخلاق مع أنهم أعزاء على الله ‏{‏بررة *‏}‏ أي أتقياء في أعلى مراتب التقوى والكرم وأعزها وأوسعها‏.‏