فصل: تفسير الآيات رقم (17- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 27‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما كان الوصف بهذه الأوصاف العالية للكتبة الذين أيديهم ظرف للصحف التي هي ظرف للتذكرة للتنبيه على علو المكتوب وجلالة مقداره وعظمة آثاره وظهور ذلك لمن تدبره وتأمله حق تأمله وأنعم نظره، عقبه بقوله ناعياً على من لم يقبل بكليته عليه داعياً بأعظم شدائد الدنيا التي هي القتل في صيغة الخبر لأنه أبلغ‏:‏ ‏{‏قتل الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الآنس بنفسه الناسي لربه المتكبر على غيره المعجب بشمائله التي أبدعها له خالقه، حصل قتله بلعنه وطرده وفرغ منه بأيسر سعي وأسهله من كل من يصح ذلك منه لأنه أسرع شيء إلى الفساد لأنه مبني على النقائص إلا من عصم الله ‏{‏ما أكفره *‏}‏ أي ما أشد تغطيته للحق وجحده له وعناده فيه لإنكاره البعث وإشراكه بربه وغير ذلك من أمره، فهو دعاء عليه بأشنع دعاء وتعجيب من إفراطه في ستر محاسن القرآن التي لا تخفى على أحد ودلائله على القيامة وكل شيء لا يسع أحداً التغبير في وجه شيء منها، وهذا الدعاء على وجازته يدل على سخط عظيم وذم بليغ وهو وإن كان في مخصوص فالعبرة بعمومه في كل من كفر نعمة الله، روي أنها نزلت في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاء مالاً وجهزه إلى الشام فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى، وأفحش في غير هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم أبعث عليه كلباً من كلابك» فلما انتهى إلى مكان من الطريق فيه الأسد ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً فجعلوه في وسط الرفقة والمتاع والرحال فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه وقال‏:‏ ما قال محمد شيئاً إلا كان، ومع ذلك فما نفعه ما عرف من ذلك، فسبحان من بيده القلوب يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وكل ذلك من هدايته وإضلاله شاهد بأن له الحمد‏.‏

ولما كان اكثر انصباب التعجيب منه ناظراً إلى تكذيبه بالساعة لأجل ظهور أدلتها في القرآن جداً ولأنه توالت في هذه السور إقامة الأدلة عليها مما لا مزيد عليه، شرع في إقامة الديل عليها بآية الأنفس من ابتداء الخلق في أسلوب مبين لخسته وحقارته وأن من ألبسه أثواب الشرف بعد تلك الخسة والحقارة جدير منه بالشكر لا بالكفر، فقال منبهاً له بالسؤال‏:‏ ‏{‏من أي شيء‏}‏ والاستفهام للتقرير مع التحقير ‏{‏خلقه *‏}‏ ثم أجاب إشارة إلى أن الجواب واضح لا يحتاج فيه إلى وقفة أصلاً فقال مبيناً حقارته‏:‏ ‏{‏من نطفة‏}‏ أي ماء يسير جداً لا من غيره ‏{‏خلقه‏}‏ أي أوجده مقدراً على ما هو عليه من التخطيط ‏{‏فقدره‏}‏ أي هيأه لما يصلح من الأعضاء الظاهرة والباطنة والأشكال والأطوار إلى أن صلح لذلك ثم جعله في ظلمات ثلاث‏:‏ ظلمة البطن ثم الرحم ثم المشيمة، أو هي على ما قال أهل التشريح ثلاثة أغشية‏:‏ أحدها المشيمة تتصل بسرة الجنين تمده بالغذاء، والثاني يقبل بوله، والثالث يقبل البخارات التي تصعد منه بمنزلة العرق والوسخ في أبدان الكاملين، وأعطاه قدرة لما أراده منه ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد انتهاء المدة ‏{‏السبيل‏}‏ أي الأكمل في العموم والاتساع والوضوح لا غيره، وهو مخرجه من بطن أمه وطريقه إلى الجنة أو النار ‏{‏يسره *‏}‏ أي سهل له أمره في خروجه بأن فتح فم الرحم وألهمه أن ينتكس، وذلل له سبيل الخير والشر، وجعل له عقلاً يقوده إلى ما يسر له منهما، وفيه إيماء إلى أن الدنيا دار الممر، والمقصد غيرها وهو الأخرى التي تدل عليها الدنيا، ولذلك عقبه بقوله عاداً الموت من النعم لأنه لو دام الإنسان حياً مع ما يصل إليه من الضغف والخوف لكان في غاية البشاعة والشماتة لأعدائه والمساءة لأوليائه على أن الموت سبب الحياة الأبدية‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد أمور قدرها سبحانه من أجل وتقلبات ‏{‏أماته‏}‏ وأشار إلى إيجاب المبادرة إلى التجهيز بالفاء المعقبة في قوله ‏{‏فأقبره *‏}‏ أي جعل له قبراً فغيبه فيه وأمر بدفنه تكرمة له وصيانة عن السباع، والإقبار جعلك للميت قبراً وإعطاؤك القتيل لأهله ليدفنوه، والمعنى الامتنان بأنه جعل للأنسان موضعاً يصلح لدفنه وجعله بعد الموت بحيث يتمكن من دفنه، ولو شاء لجعله يتفتت مع النتن ونحوه مما يمنع من قربانه، أو جعله بحيث يتهاون به فلا يدفن كبقية الحيوانات، فقد عرف بهذا أن أول الإنسان نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بين ذلك يحمل العذرة، فما شرفه بالعلم إلا الذي أبدعه وصوره، وذلك موجب لأن يشكره لا أن يكفره‏.‏

ولما كانت مدة البرزخ طويلة، وكان البعث أمراً محققاً غير معلوم الوقت بالعين بغيره تعالى، عبر عن المعاني الثلاثة بأداتي التراخي والتحقق فقال‏:‏ ‏{‏ثم إذا شاء‏}‏ أي إنشاره ‏{‏أنشره‏}‏ أي بعثه من قبره كما كان في دنياه بزيادة أنه على تركيب قوي لا يتهيأ فيه فراق الروح الجسد‏.‏

ولما كان إخباره بأنه مع الذي يسر له السبيل قد يفهم أنه لا يعمل إلا بما يرضيه، نفى ذلك على سبيل الردع فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليرتدع هذا الإنسان الذي عرف أن هذه حالاته أولاً وآخراً واثناءً ومخرجاً تارة من مخرج البول وأخرى من مخرج الحيض ومقبراً، ولينزجر وليعرف، نفسه بالذلة والخسة والحاجة والعجز، وليعرف ربه سبحانه بالعزة والعظمة والكبرياء والفناء والقدرة على تشريف الحقير وتحقير الشريف، وبأنه سبحانه لا يلزمه شيء فلا يلزم من تعريف هذا الإنسان السبيل وتمييزه له لأنه لا يفعل إلا ما لا يعاتب عليه، فإنه لا يكون من الإنسان وغيره إلا ما يريده، وتارة يريد هداه، وتارة يريد ضلاله، فقد يأمر بما لا يريده ويريد ما لا يأمر به ولا يرضاه، ولذلك قال مستأنفاً نفي ما أفهمه بتيسيره للسبيل من أن الإنسان يفعل جميع ما أمره به الله الذي يسر له السبيل‏:‏ ‏{‏لما يقض‏}‏ أي يفعل الإنسان فعلاً نافذاً ماضياً ‏{‏ما أمره *‏}‏ أي به الله كله من غير تقصير ما من حين تكليفه إلى حين إقباره بل من حين وجد آدم عليه الصلاة والسلام إلى حين نزول هذه الآية وإلى آخر الدهر، لأن الإنسان مبني على النقصان والإله منزه التنزه الأكمل، وما قدروا الله حق قدره، وأيضاً الإنسان الذي هو النوع لم يعمل بأسره بحيث لم يشذ منه فرد جميع ما أمره، بل أغلب الجنس عصاه وكذب بالساعة التي هي حكمة الوجود، وإن صدق بها بعضهم كان تصديقه بها تكذيباً لأنه يعتقد أشياء منها على خلاف ما هي عليه‏.‏

ولما ردعه بعد تفصيل ما له في نفسه من الآيات، وأشار إلى ما له من النقائص، شرع يقيم الدليل على تقصيره بأنه لا يقدر على شكر نعمة المنعم فيما له من المطعم الذي به قوامه فكيف بغيرها في أسلوب دال على الإنشار بآيات الآفاق منبه على سائر النعم في مدة بقائه المستلزم لدوام احتياجه إلى ربه فقال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان‏}‏ أي يوقع النظر التام على كل شيء يقدر على النظر به من بصره وبصيرته ومدّ له المدى فقال‏:‏ ‏{‏إلى طعامه *‏}‏ يعني مطعومه وما يتصل به ملتفتاً إليه بكليته بالاعتبار بما فيه من العبر التي منها أنا لو لم نيسره له هلك‏.‏

ولما كان المقصود النظر إلى صنائع الله تعالى فيه‏.‏ وكانت أفعال الإنسان وأقواله في تكذيبه بالعبث أفعال من ينكر ذلك الصنع، قال سبحانه مفصلاً لما يشترك في علمه الخاص والعام من صنائعه في الطعام، مؤكداً تنبيهاً على أن التكذيب بالعبث يستلزم التكذيب بإبداع النبات وإعادته، وذلك في أسلوب مبين أن الإنسان محتاج إلى جميع ما في الوجود، ولو نقص منه شيء اختل أمره، وبدأ أولاً بالسماوي لأنه أشرف، وبالماء الذي هو حياة كل شيء، تنبيهاً له على ابتداء خلقه‏:‏ ‏{‏أنّا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏صببنا الماء‏}‏ أي الذي جعلنا منه كل شيء حي ‏{‏صباً *‏}‏ وثنى بالأرض التي هي كالأنثى بالنسبة إلى السماء فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد مهلة من إنزال الماء، وفاوتنا بينها في البلاد والنبات ‏{‏شققنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏الأرض‏}‏ بالنبات الذي هو في غاية الضعف عن شق أصعب الأشياء فكيف بالأرض اليابسة المتكزرة جداً عند مخالطة الماء، وحقق المعنى فقال‏:‏ ‏{‏شقاً *‏}‏ ثم سبب عن الشق ما هو كالتفسير له مبيناً الاحتياج إلى النبات بقوله‏:‏ ‏{‏فأنبتنا‏}‏ أي أطلعنا على وجه الاتصال الموجب للتغذي والنمو ‏{‏فيها‏}‏ بسبب الشق ‏{‏حباً *‏}‏ أي لاقتيات الإنسان وغيره من الحيوان كالحنطة والشعير والرز وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كان الحب قوتاً فبدأ به لأنه الأصل في القوام، عطف عليه ما هو فاكهة وقوت فقال‏:‏ ‏{‏وعنباً‏}‏ هو فاكهة في حال عنبيته وقوت باتخاذه زبيباً ودبساً وخلاً‏.‏ ولما كان لذلك في بيان عجائب الصنع ليدل على القدرة على كل شيء فيدل على القدرة على البعث فذكر ما إن أخذ من منبته قبل بلوغه فسد، وإن ترك اشتد وصلح للادخار، واتبعه ما إن ترك على أصله فسد، وإن أخذ وعولج- صلح للادخار، أتبعه ما لا يصلح للادخار بوجه فقال‏:‏ ‏{‏وقضباً *‏}‏ وهو الرطب من البقل وغيره، وهو يزيد على الماضيين بأنه فيه ما هو دواء نافع وسم ناقع، وبأنه يقطع مرة بعد أخرى فيخلف، سمي بمصدر قضبه- إذا قطعه بحصد أو قلع‏.‏

ولما ذكر ما لا يصلح أن يؤكل إلاّ رطباً من غير تأخير، أتبعه ما لا يفسد بحال لا على أمه ولا بعد القطاف ويصلح بعد القطاف فيؤكل أو يعصر، فيكون له دهن للاستصباح والإدهان والائتدام، وفيه تقوية للعظام والأعصاب ولا يفسده الماء بوجه كما أن العنب يعصر فيكون منه دبس وخل وغيرهما، ومتى خالطه الماء فسد، فقال‏:‏ ‏{‏وزيتوناً‏}‏ يكون فيه مع ما مضى حرافة وغضاضة فيها إصلاح المزاج‏.‏ ولما ذكر ما لا يفسد وشجره يصبر على البرد، أتبعه ما هو كالعنب يؤكل على أمه ويقطع فيدخر، فهو جامع بين التحلي والتحمض بالخل والتفكه والتقوي والتداوي للسم الناقع والسحر الصارع من عجوة المدينة الشريفة وغير ذلك من ثمرة وشجرة، ولا يصبر شجره على البرد فقال‏:‏ ‏{‏ونخلاً *‏}‏ وكل من هذه الأشجار مخالف للآخر في الشكل والحمل وغير ذلك مع الموافقة في الأرض والسقي‏.‏

ولما ذكر هذه الأشياء من الأقوات والفواكه لكثرة منافعها، وكانت البساتين تجمعها وغيرها مع ما لها من بهجة العين وسرور النفس وبسط الخاطر وشرح القلب قال‏:‏ ‏{‏وحدائق‏}‏ جمع حديقة وهي الروضة ذات النخل والشجر، أو كل ما أحاط به البناء وهي تجمع ذلك كله ‏{‏غلباً *‏}‏ جمع غلباء- بفتح الغين والمد، وهي الحديقة ذات أشجار كثيرة عظام غلاظ طوال ملتفة الأغصان متكاثرة، مستعار من وصف الرقاب، يقال‏:‏ غلب فلان- كفرح أي غلظ عنقه، والغلباء أيضاً من القبائل العزيزة الممتنعة، ومن الهضاب المشرفة‏.‏

ولما ذكر ما يتفكه ويدخر جمع فقال‏:‏ ‏{‏وفاكهة‏}‏ أي ثمرة رطبة يتفكه بها كالخوخ والعنب والتين والتفاح والكمثرى والبرقوق مما يمكن أن يصلح فيدخر ومما لا يمكن‏.‏ ولما ذكر فاكهة الناس، ذكر فاكهة بقية الحيوان فقال‏:‏ ‏{‏وأبّاً *‏}‏ أي ومرعىً ونباتاً وعشباً وكلأ ما دام رطباً يقصد، من أب الشيء- إذا أمه‏.‏

ولما جمع ما يقتات وما يتفكه، فدل دلالة واضحة على تمام القدرة، ذكر بالنعمة فيه قارعاً بأسلوب الخطاب لتعميم الأفراد بعد سياق العتاب للتصريح بأن الكل عاجزون عن الوفاء بالشكر فكيف إذا انضم إليه الكفر فقال‏:‏ ‏{‏متاعاً‏}‏ وهو منصوب على الحال‏.‏ ولما ذكر ما يأكله الناس وما يعلف للدواب، وكان السياق هنا لطعام الإنسان، قال مقدماً ضميرهم‏:‏ ‏{‏لكم ولأنعامكم *‏}‏ بخلاف ما في السجدة وقد مضى، والأنعام بها يكون تمام الصلاح للإنسان بما له فيها من النعم بالركوب والأكل والشرب والكسوة والجمال وسائر المنافع، وذكر هذا ذكراً ظاهراً مشيراً إلى المعادن لأن منها ما لا يتم ما مضى إلا به، وهي آلات الزرع والحصد والطبخ والعجن وغير ذلك، والملائكة المدبرة لما صرفها الله فيه من ذلك، فدل ذلك على أن الوجود كله خلق لأجل منافع الإنسان ليشكر لا ليكفر، ودلت القدرة على ذلك قطعاً على القدرة على البعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

ولما ذكر عجائب الصنع في الطعام، وكان ذلك يقطف فيعود لا سيما المرعى فإنه يأتي عليه الخريف فينشف ثم يتحطم من الرياح ويتفرق في الأرض ثم يصير تراباً ثم يبعث الله المطر فيجمعه من الأرض بعد أن صار تراباً ثم ينبته كما كان، وكان ذلك مثل إحياء الموتى سواء، فتحقق لذلك ما تقدم من أمر الإنشار بعد الإقبار، وكان ذلك أيضاً مذكراً بأمر أبينا آدم عليه الصلاة والسلام لما أمره الله بالأكل من الجنة إلا من الشجرة التي نهاه عنها، فلما أكل منها أخرجه من الجنة فسجنه في دار ليست بجنة ولا نار ولا غيرهما بل هي من ممتزج الدارين وكالبرزخ بينهما، فيها ما يذكر بهذه وما يذكر بتلك، وفيها أمثلة الموجدات كلها، قال مسبباً عما ثبت به الإحياء للبعث إلى المحشر معبراً بأداة التحقق لأن الساعة ممن لا بد منه ولا محيد عنه لأنها سر الكون فإن فيها حساب الذين استخلفوا في هذا الوجود وأفيضت عليهم النعم التي أودعها فيه، وأشار إلى أنهم عاجزون عن القيام بشكرها، وكثير منهم- بل أكثرهم- زاد على ذلك بكفرها، فأوجب ذلك- ولا بد- حسابهم على ما فعلوا فيما استخلفوا فيه واسترعوه كما هي عادة كل مسترع ومستخلف‏:‏ ‏{‏فإذا جاءت‏}‏ أي كانت ووجدت لأن كل ما هو كائن كأنه لاقيك وجاء إليك ‏{‏الصآخة *‏}‏ أي الصرخة العظيمة التي يبالغ في إسماع الأسماع بها حتى تكاد تصمها لشدتها، وكأنها تطعن فيها لقوة وقعتها وعظيم وجبتها، وتضطر الآذان إلى أن تصيخ إليها أي تسمع، وهي من أسماء القيامة، وأصل الصخ‏:‏ الضرب بشيء صلب على مصمت‏.‏

ولما كان وصفها بما يقع فيها أهيب، قال مبدلاً من «إذا» ما يدل على جوابها من نحو‏:‏ اشتغل كل بنفسه ولم يكن عنده فراغ ما لغيره‏:‏ ‏{‏يوم يفر المرء‏}‏ أي الذي هو أعظم الخلق مروءة‏:‏ ولما كان السياق للفرار، قدم أدناهم رتبة في الحب والذب فأدناهم على سبيل الترقي، وأخر الأوجب في ذلك فالأوجب بخلاف ما في «سأل» كما مضى فقال‏:‏ ‏{‏من أخيه‏}‏ لأنه يألفه صغيراً وقد يركن إليه كبيراً مع طول الصحابة وشدة القرب في القرابة فيكون عنده في غاية العزة‏.‏

ولما كانت الأم مشاركة له في الإلف، ويلزم من حمايتها أكثر مما يلزم الأخ وهو لها آلف وإليها أحنّ وعليها أرق وأعطف قال ‏{‏وأمه‏}‏ ولما كان الأب أعظم منها في الإلف لأنه أقرب في النوع وللولد عليه من العاطفة لما له من مزيد النفع أكثر ممن قبله قال‏:‏ ‏{‏وأبيه *‏}‏ ولما كانت الزوجة التي هي أهل لأن تصحب ألصق بالفؤاد وأعرق في الوداد، وكان الإنسان أذب عنها عند الاشتداد، قال‏:‏ ‏{‏وصاحبته‏}‏ ولعله أفردها إشارة إلى أنها عنده في الدرجة العليا من المودة بحيث لا يألف غيرها‏.‏

ولما كان للوالد إلى الولد من المحبة والعاطفة والإباحة- بالسر والمشاورة في الأمر ما ليس لغيره، ولذلك يضيع عليه رزقه وعمره قال‏:‏ ‏{‏وبنيه *‏}‏ وإن اجتمع فيها الصغير الذي هو عليه أشفق والكبير الذي هو في قلبه أجل وفي عينه أنبل ومن بينهما من الذكر والأنثى‏.‏

ولما ذكر فراره الذي منعه قراره، علله فقال‏:‏ ‏{‏لكل امرئ‏}‏ أي وإن كان أعظم الناس مروءة ‏{‏منهم يومئذ‏}‏ أي إذ تكون هذه الدواهي العظام والشدائد والآلام ‏{‏شأن‏}‏ أي أمر بليغ عظيم ‏{‏يغنيه *‏}‏ أي يكفيه- في الاهتمام بحيث لا يدع له حصة يمكنه صرفها إلى غيره ويوجب له لزوم المغنى، وهو المنزل- الذي يرضيه مع أنه يعلم أنه يتبعونه ويخاف أن يطالبوه لما هم فيه من الكرب بما لعله قصر فيه من حقوقهم‏.‏

ولما ذكر اليوم، قسم أهله إلى القسمين المقصودين بالتذكرة أول السورة، فقال دالاًّ على البواطن بأشرف الظواهر‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ أي إذ كان ما تقدم من الفرار وغيره ‏{‏مسفرة *‏}‏ أي بيض مضيئة بالإشراق والاستنارة، من أسفر الصبح- إذا أشرق واستنار ‏{‏ضاحكة‏}‏ لما علمت من سعادتها ‏{‏مستبشرة *‏}‏ أي طالبة للبشر وهو تغير البشرة من السرور وموجدة لذلك، وهي بيضاء نيره بما يرى من تبشير الملائكة، وذلك بما كانت فيه في الدنيا من عبوس الوجوه وتغيرها وشحوبها من خشية الله تعالى وما يظهر من جلاله في الساعة كابن أم مكتوم رضي الله عنه الذي كان يحمله خوف الساعة على حمل الراية في أشد الحروب كيوم القادسية والثبات بها حتى يكون كالعمود، لا يزول عن مركزه أصلاً ليرضي المعبود‏.‏

ولما ذكر أهل السعادة الذين هم المقبلون على الخير المصابون في أنفسهم بما يكفر سيئاتهم ويعلي درجاتهم، ذكر أضدادهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ووجوه‏}‏ وأكد بإعادة الظرف لإزالة الشبهة فقال‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ وجد ما ذكر ‏{‏عليها‏}‏ أي ملاصقة لها مع الغلبة والعلو ‏{‏غبرة *‏}‏ أي اربداد وكأنه بحيث يصير كأنه قد علاها غبار وهي عابسة حذرة وجلة منذعرة، وذلك مما يلحقها من المشقات وكثرة الزحام مع رعب الفؤاد، وتذكر ما هي صائرة إليه من الأنكاد الشداد ‏{‏ترهقها‏}‏ أي تغشاها وتقهرها وتعلوها ‏{‏قترة *‏}‏ أي كدورة وسواد وظلمة ضد الإسفار فهي باكية عابسة مما كانت فيه في الدنيا من الفرح واللعب والضحك والأمن من العذاب، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الإسفار والبشر أولاً يدل على الخوف والذعر ثانياً، وذكر الغبرة ثانياً يدل عل البياص والنور أولاً، وسر ذلك أنه ذكر دليل الراحة ودليل التعب لظهورهما ترغيباً وترهيباً‏.‏

ولما كان هذا الأمر هائلاً، وكان الفاجر، لما علا قلبه من الرين وله من القساوة، قليل الخوف من الأجل عديم الفكر فيما يأتي به غد لما غلب عليه من الشهوتين‏:‏ السبيعة والبهيمية بخلاف المتقي في كل ذلك، استأنف الإخبار زيادة في التهويل فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة لا غيرهم ‏{‏الكفرة‏}‏ أي الذين ستروا دلائل إلإيمان ‏{‏الفجرة *‏}‏ أي الذين خرجوا عن دائرة الشرع خروجاً فاحشاً حتى كانوا عريقين في ذلك الكفر والفجور، وهم في الأغلب المترفون الذين يحملهم غناهم على التكبر والأشر والبطر، فلجمعهم بين الكفر والفجور جمع لهم بين الغبرة والقترة، كما يكون للزنوج من البقاعة إذا علا وجوههم غبار ووسخ، فقد عاد آخرها على أولها فيمن يستحق الإعراض عنه ومن يستحق الإقبال عليه- والله الهادي‏.‏

سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

لما ختمت سورة عبس بوعيد الكفرة الفجرة بيوم الصاخة لجحودهم بما لهذا القرآن من التذكرة، ابتدئت هذه بإتمام ذلك، فصور ذلك اليوم بما يكون فيه من الأمور الهائلة من عالم الملك والملكوت حتى كأنه رأى عين كما رواه الإمام أحمد والترمذي والطبراني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم برجال ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أحب أن ينظر إلى يوم القيامة رأي العين فليقرأ ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏» ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏ فقال بادئاً بعالم الملك والشهادة لأنه أقرب تصوراً لما يغلب على الإنسان من الوقوف مع المحسوسات، معلماً بأنه سيخرب تزهيداً في كل ما يجر إليه وحثاً على عدم المبالاة والابتعاد من التعلق بشيء من أسبابه‏:‏ ‏{‏إذا الشمس‏}‏ أي التي هي أعظم آيات السماء الظاهرة وأوضحها للحس‏.‏

ولما كان المهول مطلق تكويرها الدال على عظمة مكورها، بني للمفعول على طريقة كلام القادرين قوله‏:‏ ‏{‏كورت *‏}‏ أي لفت بأيسر أمر من غير كلفة ما أصلاً، فأدخلت في العرش- كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فذهب ما كان ينبسط من نورها، من كورت العمامة- إذا لففتها فكان بعضها على بعض وانطمس بعضها ببعض، والثوب- إذا جمعته فرفعته، فالتكوير كناية عن رفعها أو إلقائها في جهنم زيادة في عذاب أهلها ولا سيما عبدتها، أو ألقيت عن فلكها، من طعنه فكوره أي ألقاه مجتمعاً، والتركيب للإدارة والجمع والرفع للشمس، فعل دل عليه «كورت» لأن «إذا» تطلب الفعل لما فيها من معنى الشرط، ولما كان التأثير في الأعظم دالاًّ على التأثير فيما دونه بطريق الأولى، أتبع ذلك قوله معمماً بعد التخصيص‏:‏ ‏{‏وإذا النجوم‏}‏ أي كلها صغارها وكبارها ‏{‏انكدرت‏}‏ أي انقضّت فتهاوت وتساقطت وتناثرت حتى كان ذلك كأنه بأنفسها من غير فعل فاعل في غاية الإسراع، أو أظلمت، من كدرت الماء فانكدر، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة- في البحر ثم يبعث عليها ريحاً دبوراً فتضرمها فتصير ناراً، وقال الكلبي وعطاء‏:‏ تمطر السماء يومئذ نجوماً، لا يبقى نجم إلاّ وقع‏.‏

ولما بدأ بأعلام السماء لأنها أشهر وأعم تخويفاً وإرهاباً، وذكر منها اثنين هما أشهر ما فيها وأعمها نفعاً، أتبعها أعلام الأرض فقال مكرراً للظرف لمزيد الاعتناء بالتهويل‏:‏ ‏{‏وإذا الجبال‏}‏ أي التي هي في العالم السفلي كالنجوم في العالم العلوي، وهي أصلب ما في الأرض، ودل على عظمة القدرة بالبناء للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏سيرت *‏}‏ أي وقع تسييرها بوجه الأرض فصارت كأنها السحاب في السير والهباء في النثر لتستوي الأرض فتكون قاعاً صفصفاً لا عوج فيها، لأن ذلك اليوم لا يقبل العوج في شيء من الأشياء بوجه‏.‏

ولما ذكر أعلام الجماد، أتبعه أعلام الحيوان النافع الذي هو أعز أموال العرب وأغلبها على وجه دل على عظم الهول فقال‏:‏ ‏{‏وإذا العشار‏}‏ أي النوق التي أتى على حملها عشرة أشهر، جمع عشراء مثل نفساء، وهي أحب أموال العرب إليهم وأنفسها عندهم لأنها تجمع اللحم والظهر واللبن والوبر، «روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في أصحابه بعشار من النوق حفّل، فأعرض عنها وغض بصره فقيل له‏:‏ يا رسول الله‏!‏ هذا أنفس أموالنا، لم لا تنظر إليها‏؟‏ فقال‏:‏ قد نهاني الله عن ذلك، ثم تلا ‏{‏ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 131‏]‏ الآية» ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام السنة ‏{‏عطلت *‏}‏ أي تركت مهملة كأنه لا صاحب لها مع أنها أنفس أموالهم، فكانت إذا بلغت ذلك أحسنت إليها وأعزتها واشتد إقبالها عليها‏:‏ وقالت‏:‏ جاء خيرها من ولد ولبن، لأن الأمر، لاشتغال كل أحد بنفسه، أهول من أن يلتفت أحد إلى شيء وإن عز‏.‏

ولما ذكر المقرعات الدالات على إرادة أمر عظيم، قرب ذلك الأمر بإفهام أنه الحشر، ودل على عمومه بذكر ما يظن إهماله فقال‏:‏ ‏{‏وإذا الوحوش‏}‏ أي دواب البر التي لا تأنس بأحد التي يظن أنه لا عبرة بها ولا التفات إليها فما ظنك بغيرها ‏{‏حشرت‏}‏ أي بعثت وجمعت من كل أوب قهراً لإرادة العرض على الملك الأعظم والفصل فيما بينها في أنفسها حتى يقتص للجماء من القرناء وبينها وبين غيرها أيضاً حتى يسأل العصفور قاتله، لم قتله‏؟‏ قال قتادة‏:‏ يحشر كل شيء للقصاص حتى الذباب- انتهى‏.‏ ولا يستوحش الوحش من الناس ولا الناس من الوحوش من شدة الأهوال، وذلك أهول وأفزع وأخوف وأفظع، قال القشيري‏:‏ ولا يبعد أن يكون ذلك بإيصال منافع إليها جوازاً لا وجوباً كما قاله أهل البدع- انتهى‏.‏ وكل شيء في الدنيا يحضر في تلك الدار، فإذا وقع الفصل جعل الخبيث في جهنم زيادة في عذاب أهلها، والطيب في الجنة زيادة في نعيم أهلها‏.‏

ولما أفهم هذا الحشر، ذكر ما يدل على ما ينال أهل الموقف من الشدائد من شدة الحر فقال‏:‏ ‏{‏وإذا البحار‏}‏ أي على كثرتها ‏{‏سجرت *‏}‏ أي فجر بعضها إلى بعض حتى صارت بحراً واحداً وملئت حتى كان ما فيها أكثر منها وأحمئت حتى كان كالتنور التهاباً وتسعراً فكانت شراباً لأهل النار وعذاباً عليهم، ولا يكون هذا إلا وقد حصل من الحر ما يذيب الأكباد‏.‏

ولما ذكر من الآيات العلوية من عالم الملك اثنين ومن السفلية أربعة، فأفهم جميع الخلق أن الأمر في غاية الخطر فتشوفت النفوس إلى ما يفعل، قال ذاكراً لما أراد من عالم الغيب والملكوت، وهو أمور ستة على عدد ما مضى من عالم الملك والشهادة ترغيباً في الأعمال الصالحة والقرناء الصالحين لئلا يزوج بما يسوءه وابتدأ بما يناسب تكوير الشمس‏:‏ ‏{‏وإذا النفوس‏}‏ أي من كل ذي نفس من الناس وغيرهم ‏{‏زوجت *‏}‏ أي قرنت بأبدانها وجمع كل من الخلق إلى ما كانت نفسه تألفه وتنزع إليه، فكانوا أصنافاً كما قال تعالى

‏{‏احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22، 23‏]‏ والتفاف الأزواج كالتفاف الشمس حتى يذهب نورها‏.‏

ولما صرح الأمر فكانت القلوب أحر من الجمر، ذكر ما هو المقصود الأعظم وهو السؤال على وجه يفهم العموم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا الموءودة‏}‏ أي ما دفن من الأولاد حياً بعد الولادة أو حصل تسبب في قتله قبل الولادة بدواء ونحوه، سميت موءودة لما يوضع عليها من التراب فيثقلها فيقتلها «وأداً» مقلوب «آداً» إذا أثقل، وإلقاؤها في البئر المحفور لها قريب من انكدار النجوم وتساقطها‏.‏ ولما كان هذا أهون القتل عندهم وكانوا يظنون أنه مما لا عبرة به، بين أنه معتنىً به وأنه لا بد من بعثها وجعلها بحيث تعقل وتجيب وإن كان نفخ الروح فيها في زمن يسير فقال‏:‏ ‏{‏سئلت *‏}‏ أي وقع سؤالها عما يليق أن تسأل عنه، ثم قيل على طريق الاستئناف تخويفاً للوالدين‏:‏ ‏{‏بأي‏}‏ أي بسبب أيّ ‏{‏ذنب‏}‏ يا أيها الجاهلون ‏{‏قتلت *‏}‏ أي استحقت به عندكم القتل وهي لم تباشر سوءاً لكونها لم تصل إلى حد التكليف، فما ظنك بمن هو فوقها وبمن هو جان، وسؤالها هو على وجه التبكيت لقاتلها، فإن العرب كانت تدفن البنات أحياء مخافة الإملاق أو لحوق العار بهن، ويقولون‏:‏ نردها إلى الله هو أولى بها، فلا يرضون البنات لأنفسهم ويرضونها لخالقهم، وكان فيهم من يتكرم عن ذلك ومن يفدي الموءودات ويربيهن، وليس في الآية دليل على تعذيب أطفال الكفرة ولا عدمه، فإن الكافر الذي يستحق الخلود قد يكون مستأمناً فلا يحل قتله، والأطفال ما عملوا ما يستحقون به القتل، ويؤخذ من سؤال المؤدة تحريم الظلم لكل أحد وكف اليد واللسان عن كل إنسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 19‏]‏

‏{‏وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما دل هذا على عموم السؤال، ذكر ما ينشأ عنه مما يدل على النعيم أو النكال فقال‏:‏ ‏{‏وإذا الصحف‏}‏ أي الأوراق التي كتبت فيها أعمال العباد ‏{‏نشرت *‏}‏ أي فرقت مفتحة تفتيحاً عظيماً على أربابها بأيسر أمر فتأتي السعيد في يمينه من تلقاء وجهه على وجه يكون فيه بشارة له، وتأتي الشقي من وراء ظهره وفي شماله بعد أن كانت طويت عند موته، ونشرها مثل تسيير الجبال وتطايرها، فمن اعتقد أن صحيفته ثابتة فترديه أو تنجيه لم يضع فيها إلا حسناً من قول أو عمل أو اعتقاد‏.‏

ولما ذكر ما يطلق وينشر، أتبعه ما يطوى ويحصر، ليبدو ما فوقه من العجائب وينظر، فقال‏:‏ ‏{‏وإذا السماء‏}‏ أي هذا الجنس كله، أفرده لأنه يعلم بالقدرة على بعضه القدرة على الباقي ‏{‏كشطت *‏}‏ أي قلعت بقوة عظيمة وسرعة زائدة وأزيلت عن مكانها التي هي ساترة له محيطة به، أو عن الهواء المحيط بسطحها الذي هو كالروح لها كما يكشط الإهاب عما هو ساتر له ومحيط به مع شدة الالتزاق به لأن ذلك يوم الكشف والإظهار ‏{‏فكشفنا عنك غطاءك‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏ وكشطها هو مثل انكشاف الناس عن العشار وتفرقهم عنها، فمن اعتقد زوالها أعرض عن ربط همته بشيء منها وناط أموره كلها بربها‏.‏

ولما زالت الموانع ظهرت عجائب الصنائع التي هي غايات المطالب، ونهايات الرغائب والرهائب، فقال‏:‏ ‏{‏وإذا الجحيم‏}‏ أي النار الشديدة التأجج والتي بعضها فوق بعض والعظيمة في مهواة عميقة ‏{‏سعرت *‏}‏ أي أوقدت إيقاداً شديداً بأيسر أمر وقربت من الكافرين بغاية السرعة، فكان الأمر في غاية العسر، وذلك قريب من نتيجة ما يحصل من الهول من حشر الوحوش‏.‏

ولما ذكر دار الأعداء البعداء ترهيباً، أتبعه دار المقربين السعداء ترغيباً، فقال‏:‏ ‏{‏وإذا الجنة‏}‏ أي البستان ذو الأشجار الملتفة والرياض المعجبة ‏{‏أزلفت *‏}‏ أي قربت من المؤمنين ونعمت ببرد العيش وطيب المستقر، ودرجت درجاتها وهيئت، وملئت حياضها ومصانعها، وزينت صحافها ونظفت أرضها وطهرت عن كل ما يشين، وحسنت رياضها بكل ما يزين، من قول أهل اللغة، الزلف- محركة‏:‏ القربة والدرجة والحياض الممتلئة والزلفة‏:‏ المصنعة الممتلئة والصحفة والأرض المنكوسة، والزلف- بالكسر‏.‏ الروضة، ومعنى هذا ضد سجر البحار، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر التسعير أولاً دال على ضده في الجنة ثانياً، وذكر التقريب ثانياً دال على مثله أولاً‏.‏

ولما كانت هذه الأشياء لهولها موجبة لاجتماع الهم وصرف الفكر عما يشغله من زينة أو لهو أو لعب أو سهو، فكان موجباً للعلم بما يرجى نعيماً أو يوجب جحيماً، وكان ذلك موجباً لتشوف السامع إلى ما يكون، قال تعالى كاشفاً تلك النعمة بالعامل في «إذا» وما عطف عليها‏:‏ ‏{‏علمت نفس‏}‏ أي كل واحدة من النفوس، فالتنكير فيه مثله في «ثمرة خير من جرادة» ودلالة هذا السياق المهول على ذلك يوجب اليقين فيه ‏{‏ما‏}‏ أي كل شيء ‏{‏أحضرت *‏}‏ أي عملت وأوجدت، فكان أهلاً للحضور، وكان عمله لها سبباً لإحضار القدير إياه لها في ذلك اليوم محفوظاً لم يغب عنه منها ذرة من خيره وشره، فلأجل ذلك كان لكل امرئ شأن يعنيه، فإنه لا بد أن يكون في أعماله ما لا يرضيه وما يستصغره عن حضرة العلي الكبير، فمن اعتقد ذلك رغب في أن لا يحضر إلا ما يسره، ورهب في إحضار ما يسوءه فيضره، وجميع هذه الأشياء الاثني عشر المعدودة المذكورة في حيز «إذا» في الآخرة بعد النفخة الثانية على ما تقدم في الحاقة أنه الظاهر، وأنه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، لأن التهويل بعد القيام أنسب، وأدخل في الحكمة وأغرب‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال سبحانه ‏{‏فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 33- 34‏]‏ الآيات إلى آخر السورة، كان مظنة لاستفهام السائل عن الوقوع متى يكون‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا الشمس كورت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1‏]‏ ووقوع تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار كل ذلك متقدم على فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه- إلى ما ذكر إلى آخر السورة لاتصال ما ذكر في مطلع سورة التكوير بقيام الساعة، فيصح أن يكون أمارة للأول وعلماً عليه- انتهى‏.‏

ولما كان السياق للترهيب، وكان الأليق بآخر عبس أن يكون للكفرة، وكان أعظم ما يحضره الكفرة من أعمالهم بعد الشرك التكذيب بالحق، وأعظمه التكذيب بالقرآن، وذلك التكذيب هو الذي جمع الخزي كله للمكذب به في قوله ‏{‏قتل الإنسان ما أكفره‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ الذي السياق كله له، وإنما استحق المكذب به ذلك لأن التكذيب به يوقع في كل حرج مع أنه لا شيء أظهر منه في أنه كلام الله لما له من الرونق والجمع للحكم والأحكام والمعارف التي لا يقدر على جمعها على ذلك الوجه وترتيبها ذلك الترتيب إلا الله، ثم وراء ذلك كله أنه معجز، سبب عن هذا التهديد قوله مقسماً بما دل على عظيم قدر المقسم عليه بترك الإقسام بأشياء هي من الإجلال والإعظام في أسنى مقام‏:‏ ‏{‏فلا أقسم‏}‏ أي لأجل حقية القرآن لأن الأمر فيه غنىً عن قسم لشدة ظهوره وانتشار نوره، ولذلك أشار إلى عيوب تلحق هذه الأشياء التي ذكرها والقرآن منزه عن كل شائبة نقص، لأنه كلام الملك الأعلى فقال‏:‏ ‏{‏بالخنس *‏}‏ أي الكواكب التي يتأخر طلوعها عن طولع الشمس فتغيب في النهار لغلبة ضياء الشمس لها، وهي النجوم ذوات الأنواء التي كانوا يعظمونها بنسبة الأمطار والرحمة- التي ينزلها الله- إليها، قالوا‏:‏ وهي القمر فعطارد فالزهرة فالشمس فالمريخ فالمشتري فزحل وقد نظمها بعضهم متدلياً فقال‏:‏

زحل اشترى مريخه من شمسه *** فتزهرت لعطارد أقمار

ثم أبدل منها أعظمها فقال‏:‏ ‏{‏الجوار الكنس *‏}‏ أي السيارة التي تختفي وتغيب بالنهار تحت ضوء الشمس، من كنس الوحش- إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، وقال الرازي‏:‏ يكنس ويستتر العلوي منها بالسفلي عند القرانات كما تستتر الظباء في الكناس، وقال قتادة‏:‏ تسير بالليل وتخنس بالنهار فتخفى ولا ترى، وروي ذلك أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه، قال البغوي‏:‏ وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء والكنوس أن تأوي إلى مكانسها‏.‏ وقال القشيري‏:‏ إن ذلك غروبها، وإنما نفى الإقسام بها لأنها وإن كانت عظيمة في أنفسها بما ناط بها سبحانه من المصالح وأنتم تعظمونها وتغلون فيها لأن فيها نقائص الغيبوبة وانبهار النور، والقرآن المقسم لأجله منزه عن ذلك، بل هو الغالب على كل ما سواه من الكلام غلبة هي أعظم من غلبة ضياء الشمس لنور ما سواها من الكواكب، فلذلك لا يليق أن يقسم بها لأجله‏.‏

ولما ذكر غيابها ففهم منه محله وهو النهار، ذكر محل ظهورها فأفهم الظهور فقال‏:‏ ‏{‏والّيل‏}‏ أي الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها ‏{‏إذا عسعس *‏}‏ أي أقبل ظلامه، واعتكر سواده وقتامه، فظهرت الكواكب زهراً منثوراً في بيداء تلك الغياهب، فإن فيه نقصاناً بالظلام وغير ذلك من الأحكام، وقيل‏:‏ معناه أدبر، وقيل‏:‏ أظلم، وقيل‏:‏ انتصف، وقيل‏:‏ انقضى، وسعسع بمعناه فهو ما لا يستحيل بالانعكاس، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر خنوس الكواكب وكنوسها أولاً يفهم ظهورها ثانياً، وذكر الليل ثانياً يفهم حذف النهار أولاً‏.‏

ولما كان ربما ظن ظان أن ما نقص بالظلام عن صلاحية الإقسام يتأهل ذلك بزواله، قال نافياً لذلك‏:‏ ‏{‏والصبح‏}‏ أي الذي هو أعدل أوقات النهار ‏{‏إذا تنفس *‏}‏ أي أضاء وأقبل روحه ونسيمه، وأنسه ونعيمه، واتسع نوره، وانفرج به عن الليل ديجوره، وذلك بعد إقبال الليل ثم إدباره أي لا أقسم به لأنه وإن كان ذا نور ونعمة وحبور وبهجة وسرور فإن ذلك يتضاءل عن نور القرآن، وما فيه من النعيم والرضوان، «وأين الثريا من يد المتناول» على أن تنفسه بالبرد واللطافة تنسخه الشمس بالحر والكثافة، وتنفس القرآن بنفحات القدس ونعيم المواعظ والأنس لا ينسخه شيء‏.‏

ولما بين أن هذه الأشياء- التي لولاها لما طاب لهم عيش ولا تهنؤوا بحياة، وهي من الفضل بحيث لا يعلمه إلا خالقها- تصغر عن أن يقسم بها على شيء من فضائل القرآن لما له من عظيم الشأن الذي لا يطيق التعبير عنه البيان، ويتضاءل دونه اللسان، قال مجيباً لذلك إخباراً عما هو محقق في نفسه الأمر أعظم من تحقق هذه الأشياء المقسم بها، هادٍ إلى مصالح الدارين أكثر من هدايتها، مبيناً للسفيرين به الملكي والبشري عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام مؤكداً لما يستحقه السياق كما يستحقه مع ما لهم من الإنكار تنبيهاً على ضعف عقولهم وعظيم سفههم بعد أن أقسم بثلاثة أقسام، فإن نفي الإقسام بها بما ذكر من نقائصها- كالإقسام- بها مع بيان أن المقسم عليه أعظم منها بما لا يقايس‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي هذا الذكر الذي تقدم في عبس بعض ما يستحق من الأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة ‏{‏لقول رسول‏}‏ وهو جبريل عليه الصلاة والسلام نحن أرسلناه به إلى خير خلقنا وجعلناه بريداً بيننا وبينه لاقتضاء الحكمة ذلك، وهي أن يكون خلاصة الخلق ذا جهتين‏:‏ واحدة ملكية يتلقى بها من الملائكة عليهم السلام لكون غيره من البشر لا يطيق ذلك، وأخرى بشرية يتلقى بها من المبعوث إليهم، ومن المعلوم أن الرسول إنما وظيفته تبليغ ما أرسل به فهو سفير محض، والذي أوحاه وإن كان قوله لكونه نطق به وبلغه من غير مشاركة شيطان ولا غيره هو قول الله من غير شك لكونه معبراً عن الصفة القديمة النفسية، ولو كان قول الرسول مستقلاً به لما كان لوصفه بالرسالة مدخل فما كانت البلاغة تقتضي ذكره بالوصف‏.‏

ولما بين بوصف الرسالة أنه ليس بقوله إلا لكونه مرسلاً به ومبلغاً له، وأنه في الحقيقة قول من أرسله، وصفه بما أفهمه الوصف مما يوجب حفظه من غير تحريف ما ولا تغيير أصلاً بوجه من الوجوه، وذلك ببيان منزلته عند الله ووجاهته وبيان قدره ونفوذ كلمته فقال‏:‏ ‏{‏كريم *‏}‏ أي انتفت عنه وجوه المذام كلها وثبتت له وجوه المحامد كلها، فهو جواد شريف النفس ظاهر عليه معالي الأخلاق بريء من أن يلم شيء من اللوم بساحته، فلذلك هو يفيض الخيرات بإذن ربه على من أمر به العالمين، فيؤدي ما أرسل به كما هو لقيامه بالرسالة قيام الكرام فلم يغير فيها شيئاً أصلاً ولا فرط حتى يمكن غيره أن يحرف أو يغير، والكرم اجتماع كمالات الشيء اللائقة به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 29‏]‏

‏{‏ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما اقتضى هذا القوة، صرح به تأكيداً فقال‏:‏ ‏{‏ذي قوة‏}‏ أي على ضبط ما أرسل به بنفسه وعلى المدافعة للغير عن أن يدخل فيه شيئاً من نقص، وأكد القوة بقوله‏:‏ ‏{‏عند ذي العرش‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عندية في الحقيقة إلا له ‏{‏مكين *‏}‏ أي بالغ المكنة عنده عظيم المنزلة جداً بليغ فيها فهو بحيث لا يتأتى منه تفريط ما في إبلاغ شيء مما أرسل به لأنه لا يغيره الأحوال ولا يعمل فيه تضاد الشهوات، لأنه لا شهوة له إلاّ ما يأمر به مرسله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان المتمكن في نفسه قد لا يكون له أعوان، قال‏:‏ ‏{‏مطاع ثم‏}‏ أي في الملأ الأعلى فهم عليهم السلام أطوع شيء له، قال الحسن‏:‏ فرض الله على أهل السماوات طاعة جبريل عليه الصلاة والسلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما كان ذلك يقتضي الأمانة، صرح بها فقال‏:‏ ‏{‏أمين *‏}‏ أي بليغ الأمانة فهو مصدق القول مقبول الأمر موثوق به في أمر الرسالة وإفاضة العلوم على القلوب روحاني مطهر جوهراً وفعلاً وحالاً، ومن كان بهذه الصفات العظيمة كان بحيث لا يأتي إلاّ في أمر مهم جداً لأن الملوك لا يرسلون خواصهم إلا في مثل ذلك، ولذلك ائتمنه الله تعالى على رسالته‏.‏

ولما وصفه السفير الملكي وهو جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات الخمس التي أزالت عن القرآن كل لبس، وكان وصفه بها إنما هو لأجل إثبات شرف الرسول البشري الذي هو بين الحق وعامة الخلق، وهو النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما يقوله كلام الله حقاً، وكانوا يصفونه بما هو في غاية النزاهة عنه وهم يعلمون ذلك، أبطله مبكتاً لهم بالكذب وموبخاً بالبلادة بقوله زيادة في شرفه حيث كان هو المدافع عنه‏:‏ ‏{‏وما صاحبكم‏}‏ أي الذي طالت صحبته لكم وأنتم تعلمون أنه في غاية الكمال حتى أنه ليس له وصف عندكم إلا الأمين، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بمجنون *‏}‏ أي كما تبتهونه به من غير استحياء من الكذب الظاهر مع ظهور التناقض فعل ألأم اللئام، بل جاء بالحق وصدق المرسلين، فما القرآن الذي يتلوه عليكم قول مجنون ولا قول متوسط في العقل بل قول أعقل العقلاء وأكمل الكملاء، وهذا النفي المؤكد ثابت له دائماً على سبيل الاستغراق لكل زمان- هذا ما دل عليه الكلام لا ما قال الزمخشري أنه يدل على أفضلية جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بقية الملائكة، فإنه ما سيق لذلك ولا هو والله مما يرضي جبريل عليه السلام، قال الأصبهاني هنا‏:‏ هذا يدل على فضله وأما أنه يدل على أنه أفضل من جميع الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم فلا يمكنه، وقال في قوله تعالى في البقرة‏:‏

‏{‏وملائكته ورسله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏‏:‏ ولم يلزم من تقديم الملائكة في الذكر تفضيلهم على الرسل، وأما تقديم جبريل على ميكائيل فليس ببعيد أن يكون للشرف كما أن تخصيصهما بالذكر لفضلهما، وقال في النجم‏:‏ ثم دنا جبريل من ربه عز وجل، وهذا قول مجاهد يدل عليه ما روي في الحديث‏:‏ «إن أقرب الملائكة إلى الله عز وجل جبريل عليه السلام»- انتهى‏.‏ ولو صح هذا الحديث لكان فيه كفاية لكن لم أجده أصلاً، وقال الأصبهاني في عم في قوله‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو أعظم الملائكة خلقاً وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين- انتهى‏.‏ فهذا كما ترى صريح في تفضيل الروح، وقال السهيلي في غزوة بدر في كتابه الروض‏:‏ ونزل جبريل عليه السلام بألف من الملائكة فكان في خمسمائة في الميمنة، وميكائيل عليه السلام في خمسمائة في الميسرة، ووراءهم مدد من الملائكة لم يقاتلوا وهم الآلاف المذكورون في سورة آل عمران، وكان إسرافيل عليه السلام وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة عليهم الصلاة والسلام- انتهى‏.‏ وهذا يدل على شرف إسرافيل عليه السلام لأن موقفه موقف رئيس القوم وفعله فعله- والله أعلم‏.‏

ولما كان المجنون لا يثبت ما يسمعه ولا ما يبصره حق الإثبات، فكان التقدير بعد هذا النفي‏:‏ فلقد سمع من رسولنا إليه ما أرسل به حق السمع، ما التبس عليه فيه حق بباطل، عطف عليه الإخبار برفعه شأنه في رؤية ما لم يره غيره وأمانته وجوده فقال‏:‏ ‏{‏ولقد رآه‏}‏ أي المرسل إليه وهو جبريل عليه الصلاة والسلام على صورته الحقيقية ليلة المعراج وبعرفات، جامعاً إلى حس السمع حس البصر ‏{‏بالأفق المبين *‏}‏ أي الأعلى الذي هو عند سدرة المنتهى، حيث لا يكون لبس أصلاً، ولا يكون لشيطان على ذلك المكان سبيل فعرفه حق المعرفة، وقال البيضاوي‏:‏ بمطلع الشمس الأعلى- يعني وهو مشرق الأنوار، والأفق‏:‏ الناحية التي تفوق وتعلو‏.‏

ولما انتفى ما يظن من لبس السمع وزيغ البصر، لم يبق إلا ما يتعلق بالتأدية فنفى ما يتوهم من ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي سمعه ورآه والحال أنه ما ‏{‏هو على الغيب‏}‏ أي الأمر الغائب عنكم في النقل عنه ولا في غيره من باب الأولى ‏{‏بضنين *‏}‏ أي بمتهم، من الظنة وهي التهمة، كما يتهم الكاهن لأنه يخطئ في بعض ما يقول، فهو حقيق بأن يوثق بكل شيء يقوله في كل أحواله، هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب بالظاء، والمعنى في قراءة الباقين بالضاد‏:‏ ببخيل كما يبخل الكاهن رغبة في الحلوان، بل هو حريص على أن يكون كل من أمته عالماً بكل ما أمره الله تعالى بتبليغه‏.‏

ولما أثبت له الأمانة والجود بعد أن نفى عنه ما بهتوه به، وكان الجنون أظهر من قول المجنون لأن بعض المجانين ربما تكلم الكلام المنتظم في بعض الأوقات فنفاه لذلك، وكان قول الكاهن أظهر من الكهانة، نفى القول فقال‏:‏ ‏{‏وما هو‏}‏ أي القرآن الذي من جملة معجزاته الإخبار بالمغيبات، وأعرق في النفي بالتأكيد بالباء فقال‏:‏ ‏{‏بقول شيطان‏}‏‏.‏ ولما كان الشيطان لا ينفك عن الطرد لأن اشتقاقه من شطن وشاط، وذلك يقتضي البعد والاحتراق، وصفه بما هو لازم له فقال‏:‏ ‏{‏رجيم *‏}‏ أي مرجوم باللعن وغيره من الشهب لأجل استراق السمع مطرود عن ذلك، لأن القائل له ليس بكاهن كما تعلمون، وبقي مما قالوه السحر وهو لا يحتاج إلى نفيه لأنه ليس بقول، بل هو فعل صرف أو قول مقترن به، والأضغاث وهي لذلك واضحة العوار فلم يعدها، فمن علم هذه الأوصاف للقرآن والرسولين الآتيين به الملكي والبشري أحبه وأحبهما، وبالغ في التعظيم والإجلال، وأقبل على تلاوته في كل أوقاته، وبالغ في السعي في كل ما يأمر به والهرب مما ينهى عنه، ليحصل له الاستقامة رغبة في مرافقة من أتى به ورؤية من أتى من عنده‏.‏

ولما لم يدع وجهاً يلبس به على من لا يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، سبب عنه قوله موبخاً منكراً‏:‏ ‏{‏فأين تذهبون *‏}‏ أي بقلوبكم عن هذا الحق المبين يا أهل مكة المدعين لغاية الفطنة وقد علمتم هذا الحفظ العظيم في الرسولين الملكي والبشري فمن أين يأتي ما تدعون من التخليط في هذا الكتاب العظيم الذي دل على حفظه ببرهان عجزكم عن معارضة شيء منه‏؟‏ وهو استضلال لهم واستجهال على أبلغ وجه في كل ما كانوا ينسبونه إليه بحيث صار ضلالهم معروفاً لا لبس فيه‏.‏

ولما كان الحال قد صار في الوضوح إلى أنه إذا نبه صاحبه بمثل هذا القول نظر أدنى نظر، فقال من غير وقفة‏:‏ لا أين، قال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هو‏}‏ أي القرآن الذي أتاكم به ‏{‏إلا ذكر للعالمين *‏}‏ أي شرف للخلق كلهم من الجن والإنس والملائكة وموعظة بليغة عظيمة لهم‏.‏ ولما تشرف الوجود كله بإظهاره فيه نوع تشرف، أطلق هذه العبارة‏.‏ ولما كان الذي ثم شرفه المهتدي، فكان الوعظ والشرف إنما هو له في الحقيقة قال‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم‏}‏ أي أيها المخاطبون ‏{‏أن يستقيم *‏}‏ أي يطلب القوم ويوجده‏.‏

ولما كان ذلك ربما تعنت به المتعنت في خلق الأفعال، قال نافياً لاستقلالهم ومثبتاً للكسب‏:‏ ‏{‏وما تشاءون‏}‏ أي أيها الخلائق الاستقامة ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا حكم لأحد سواه مشيئتكم، وإن لم يشأها لم تقدروا على مشيئة، فادعوه مخلصين له الدين يشأ لكم ما يرضيه فيوفقكم إليه، وعن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ الكتب التي أنزلها الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها‏:‏ من جعل إلى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر- انتهى‏.‏

ومن تأمل هذه الآية أدنى تأمل علم أن كلام المعتزلة بعدها في القدر دليل على أن الإنسان إذا كان له هوىً لا يرده شيء أصلاً ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏

ولما وصف نفسه سبحانه بأنه لا يخرج شيء عن أمره، أتبع ذلك الوصف بما هو كالعلة لذلك فقال‏:‏ ‏{‏رب العالمين *‏}‏ أي الموجد لهم والمالك والمحسن إليهم والمربي لهم وهو أعلم بهم منهم، فلأجل ذلك لا يقدرون إلا على ما قدرهم عليه، ويجب على كل منهم طاعته والإقبال بالكلية عليه سبحانه وتعالى وشكره استمطاراً للزيادة، فلهذه الربوبية صح تصرفه في الشمس وما تبعها مما ذكر أول السورة لإقامة الساعة لأجل حساب الخلائق، والإنصاف بينهم بقطع كل العلائق، كما يفعل كل رب مع من يربيه فكيف بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين‏!‏ فقد التقى طرفاها على أشرف الوجوه وأجلاها، وانتظم أول الانفطار بما له من بديع الأسرار، فالتكوير كالانشقاق والتفطير، والانكدار مثل التساقط والانتشار، والله سبحانه هو أعلم بالصواب‏.‏

سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما ختمت التكوير بأنه سبحانه لا يخرج عن مشيئته وأنه موجد الخلق ومدبرهم، وكان من الناس من يعتقد أن هذا العالم هكذا بهذا الوصف لا آخر له «أرحام تدفع وأرض تبلع ومن مات فات وصار إلى الرفات ولا عود بعد الفوات» افتتح الله سبحانه هذه بما يكون مقدمة لمقصود التي قبلها من أنه لا بد من نقضه لهذا العالم وإخرابه ليحاسب الناس فيجزي كلاًّ منهم من المحسن والمسيء بما عمل فقال‏:‏ ‏{‏إذا السماء‏}‏ أي على شدة إحكامها واتساقها وانتظامها ‏{‏انفطرت *‏}‏ أي انشقت شقوقاً أفهم سياق التهويل أنه صار لبابها أطراف كثيرة فزال ما كان لها من الكرية الجامعة للهواء الذي الناس فيه كالسمك في الماء، فكما أن الماء إذا انكشف عن الحيوانات البحرية هلكت، كذلك يكون الهواء مع الحيوانات البرية، فلا تكون حياة إلا ببعث جديد ونقل عن هذه الأسباب، ليكون الحساب بالثواب والعقاب‏.‏

ولما كان يلزم من انفطارها وهيها وعدم إمساكها لما أثبت بها ليكون ذلك أشد تخويفاً لمن تحتها بأنهم يترقبون كل وقت سقوطها أو سقوط طائفة منها فوقهم فيكونون بحيث لا يقر لهم قرار، قال‏:‏ ‏{‏وإذا الكواكب‏}‏ أي النجوم الصغار والكبار كلها الغراء الزاهرة المتوقدة توقد النار المرصعة ترصيع المسامير في الأشياء المتماسكة التي دبر الله في دار الأسباب بها الفصول الأربعة والليل والنهار، وغير ذلك من المقاصد الكبار، وكانت محفوظة بانتظام السماء ‏{‏انتثرت *‏}‏ أي تساقطت متفرقة كما يتساقط الدر من السلك إذا انقطع تساقطاً كأنه لسرعته لا يحتاج إلى فعل فاعل لقوة تداعيه إلى التساقط‏.‏

ولما كان إخباره بما دل على وهي السماء مشعراً بوهي الأرض لأنها أتقن منها وأشرف إذ هي للأرض بمنزلة الذكر للأنثى، وكان الانفعال ربما أوهم أن ذلك يكون بغير فاعل، صرح بوهي الأرض معبراً بالبناء للمفعول دلالة على أن الكل بفعله، وأن ذلك عليه يسير، فقال مخبراً بانفطار الأراضي أيضاً ليجمع بين التخويف بالمطل والترويع بالمقل‏:‏ ‏{‏وإذا البحار‏}‏ المتفرقة في الأرض وهي ضابطة لها أتم ضبط لنفع العباد على كثرتها ‏{‏فجرت *‏}‏ أي تفجيراً كثيراً بزوال ما بينها من البرازخ الحائلة، وقال الربيع‏:‏ بفيضها وخروج مائها عن حدوده فاختلط بعضها ببعض من ملحها وعذبها فصارت بحراً واحداً، فصارت الأرض كلها ماء ولا سماء ولا أرض فأين المفر‏.‏

ولما كان ذلك مقتضياً لغمر القبور فأوهم أن أهلها لا يقومون كما كان العرب يعتقدون أن من مات فات، قال دافعاً لذلك على نمط كلام القادرين إشارة إلى سهولة ذلك عليه‏:‏ ‏{‏وإذا القبور‏}‏ أي مع ذلك كله ‏{‏بعثرت‏}‏ أي نبش ترابها على أسهل وجه عن أهلها فقاموا أحياء كما كانوا، فرأوا ما أفظعهم وهالهم وروّعهم‏.‏

ولما كانت هذه الشروط كلها التي جعلت أشراطاً على الساعة موجبة لعلوم دقيقة، وتكشف كل واحدة منها عن أمور عجيبة، وكانت كلها دالة على الانتقال من هذه الدار إلى دار أخرى لخراب هذه الدار، ناسب أن يجيب «إذ» بقوله‏:‏ ‏{‏علمت نفس‏}‏ أي جميع النفوس بالإنباء بالحساب وبما يجعل لها سبحانه بقوة التركيب من ملكة للاستحضار كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكشفنا عنك غطاءك‏}‏ والدال على إرادة العموم التعبير بالتنكير في سياق التخويف والتحذير مع العلم بأن النفوس كلها في علم مثل هذا وجهله على حد سواء، فمهما ثبت للبعث ثبت للكل، ولعله نكر إشارة إلى أنه ينبغي لمن وهبه الله عقلاً أن يجوّز أنه هو المراد فيخاف‏:‏ ‏{‏ما قدمت‏}‏ أي من عمل ‏{‏وأخرت *‏}‏ أي جميع ما عملت من خير أو شر أو غيرهما، أو ما قدمت قبل الموت وما أخرت من سنة تبقى بعده‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ هذه السورة كأنها من تمام سورة التكوير لاتحاد القصد فاتصالها بها واضح وقد مضى نظير هذا- انتهى‏.‏

ولما كان ذلك خالعاً للقلوب، وكان الإنسان إذا اعتقد البعث قد يقول تهاوناً ببعض المعاصي‏:‏ المرجع إلى كريم ولا يفعل بي إلا خيراً، أنتج قوله منادياً بأداة البعد لأن أكثر الخلق مع ذلك معرض، منكراً سبحانه وتعالى على من يقول هذا اغتراراً بخدع الشيطان إنكاراً يهد الأركان‏:‏ ‏{‏يا أيها الإنسان‏}‏ أي البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه ‏{‏ما غرك‏}‏ أي أدخلك في الغرة، وهي أن ترى فعلك القبيح حسناً أو ترى أنه يعفى عنك لا محالة، وذلك بمعنى قراءة سعيد بن جبير والأعمش‏:‏ أغرك- بهمزة الإنكار، وتزيد المشهورة معنى التعجب ‏{‏بربك‏}‏ أي المحسن إليك الذي أنساك إحسانه ما خلقت له من خلاص نفسك بعمل ما شرعه لك‏.‏

ولما كان التعبير بالرب مع دلالته على الإحسان يدل على الانتقام عند الإمعان في الإجرام لأن ذلك شأن المربي، فكان ذلك مانعاً من الاغترار لمن تأمل، أتبعه ما هو كذلك أيضاً ظاهره لطف وباطنه جبروت وقهر، فقال للمبالغة في المنع عن الاغترار، ‏{‏الكريم *‏}‏ أي الذي له الكمال كله المقتضي لئلا يهمل الظالم بل يمهله، ولا يسوي بين المحسن والمسيء والموالي والمعادي والمطيع والعاصي، المقتضي لأن يبالغ في التقرب إليه بالطاعة شكراً له، وأن لا يعرض أحد عنه لأن بيده كل شيء ولا شيء بيد غيره، فيجب أن يخشى شدة بطشه لأنه كذلك يكون المتصف بالكرم لا يكون إلا عزيزاً، فإنه يكون شديد الحلم عظيم السطوة عند انتهاك حرمته بعد ذلك الحلم فإنه يجد أعواناً كثيرة على مراده، ولا يجد المعاقب عذراً في تقصيره بخلاف اللئيم فإنه لا يجد أعواناً فلا يشتد أخذه، فصار الإنكار بواسطة هذين الوصفين أشد وأغلظ من هذه الجهة، ومن جهة أنه كان ينبغي أن يستحيي من المحسن الذي لا تكدير في إحسانه بوجه، فلا يعصى له أمر ولا يفرط له في حق، ومع ذلك ففي ذكر هذين الوصفين تلقين الحجة، قال أبو بكر الوراق‏:‏ لو سألني لقلت‏:‏ غرني كرم الكريم وحلمه، وقال علي رضي الله عنه‏:‏ من كرم الرجل سوء أدب غلمانه، وقال الإمام الغزالي في شرحه للأسماء‏:‏ هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجا، ولا يبالي لمن أعطى ولا كم أعطى، وإذا رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفى عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به وإليه التجأ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء‏.‏

ولما ذكر هذين الوصفين الدالين على الكمالين، بالجلال، دل عليهما تقريراً لهما بإفاضة الجود في التربية بوصف الجمال بالإكرام لئلا يعتقد الإنسان بما له من الطغيان أنه حر مالك لنفسه يفعل ما يشاء فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلقك‏}‏ أي أوجدك من العدم مهيئاً لتقدير الأعضاء ‏{‏فسوّاك‏}‏ عقب تلك الأطوار بتصوير الأعضاء والمنافع بالفعل ‏{‏فعدلك *‏}‏ أي جعل كل شيء من ذلك سليماً مودعاً فيه قوة المنافع التي خلقه الله لها، وعدل المزاج حتى قبل الصورة، والتعديل جعل البنية متناسبة الخلقة، وكذا العدل في قراءة الكوفيين بالتخفيف أي فأمالك عن تشويه الخلقة وتقبيح الصورة، وجعلك معتدلاً في صورتك، وكل هذا يقتضي غاية الشكر والخوف منه إن عصى، لأنه كما قدر على التسوية يقدر على التشويه وغيره من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 16‏]‏

‏{‏فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما أضاء بهذا إضاءة الشمس أنه عظيم القدرة على كل ما يريد، أنتج قوله معلقاً ب «ركب»‏:‏ ‏{‏في أيّ صورة‏}‏ من الصور التي تعرفها والتي لا تعرفها من الدواب والطيور وغير ذلك من الحيوان، ولما كان المراد تقرير المعنى غاية التقرير، أثبت النافي في سياق الإثبات لينتفي ضد ما أثبته الكلام فيصير ثبات المعنى على غاية من القوة التي لا مزيد عليها، فقال‏:‏ ‏{‏ما شاء ركبك *‏}‏ أي ألف تركيب أعضائك وجمع الروح إلى البدن، روى الطبراني في معاجمه الثلاثة برجال ثقات عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أراد الله جل اسمه أن يخلق النسمة فجامع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عرق وعصب منها، فلما كان اليوم السابع أحضر الله له كل عرق بينه وبين آدم، ثم قرأ ‏{‏في أي صورة ما شاء ركبك‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 8‏]‏» فتحرر بهذا الإنسان رقيق رقاً لازماً، ومن خلع ربقة ذلك الرق اللازم وكل إلى نفسه فهلك‏.‏

ولما أوضح سبحانه غاية الإيضاح الدليل على قدرته على الإعادة بالابتداء، وبين تعالى أنه ما أوجب للإنسان، الخسار بنسيان هذا الدليل الدال على تلك الدار إلا الاغترار، وكان الاغترار يطلق على أدنى المعنى، بين أنه ارتقى به الذروة فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ما أوقعكم أيها الناس في الإعراض عمن يجب الإقبال عليه ويقبح غاية القباحة الإعراض بوجه عنه مطلق الغرور ‏{‏بل‏}‏ أعظمه وهو أنكم ‏{‏تكذبون‏}‏ أي على سبيل التجديد بتحدد إقامة الأدلة القاطعة وقيام البراهين الساطعة ‏{‏بالدين *‏}‏ أي الجزاء الذي وظفه الله في يوم البعث، فارجعوا عن الغرور مطلقاً خاصاً وعاماً، وارتدعوا غاية الارتداع ‏{‏وإنّ‏}‏ أي والحال أن ‏{‏عليكم‏}‏ أي ممن أقمناهم من جندنا من الملائكة ‏{‏لحافظين *‏}‏ لهم على أعمالكم غاية العلو فهم بحيث لا يخفى عليهم منها جليل ولا حقير‏.‏

ولما أثبت لهم الحفظ، نزههم عن الزيادة والنقص فقال‏:‏ ‏{‏كراماً‏}‏ أي فهم في غاية ما يكونون من طهارة الأخلاق والعفة والأمانة‏.‏

ولما ثبت الحفظ والأمانة بغاية الإبانة، وكان الحافظ ربما ينسى قال‏:‏ ‏{‏كاتبين *‏}‏ أي هم راسخون في وصف الكتابة يكتبونها في الصحف كما يكتب الشهود بينكم العهود ليقع الجزاء على غاية التحرير‏.‏

ولما أفهم الاستعلاء والتعبير بالوصف إحاطة الاطلاع على ما يبرز من الأعمال، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏يعلمون‏}‏ أي على التجدد والاستمرار ‏{‏ما تفعلون *‏}‏ أي تجددون فعله من خير وشر بالعزم الثابت والداعية الصادقة سواء كان مبنياً على علم أو لا، فكيف يكون مع هذا تكذيب بالجزاء على النقير والقطمير هل يكون إحصاء مثاقيل الذر من أعمالكم عبثاً وهل علمتم بملك يكون له رعية يتركهم هملاً فلا يحاسبهم على ما في أيديهم وما عملوه، ولأجل تكذيبهم بالدين أكد المعنى المستلزم له وهو أمر الحفظة غاية التأكيد، والتعبير بالمستقبل يدل على أنهم يعلمون كل ما انقدح في القلب وخطر في الخاطر قبل أن يفعل، وأما ما لم يجر في النفس له ذكر فلا يعلمونه كما بينه حديث‏:‏

«ومن هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة»‏.‏

ولما كانت نتيجة حفظ الأعمال الجزاء عليها، أنتج ذلك بيان ما كانت الكتابة لأجله تفريقاً بين المحسن والمسيء الذي لا يصح في حكمة حكيم ولا كرم كريم غيره بقوله على سبيل التأكيد، لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إن الأبرار‏}‏ أي العاملين بما هو واسع لهم مما يرضي الله جلت قدرته ‏{‏لفي نعيم *‏}‏ أي محيط بهم لا ينفك عنهم ولا ينفكون عنه أصلاً في الدنيا في نعيم الشهود، وفي الآخرة في نعيم الرؤية والوجود في هذه الدار معنىً وفي الآخرة حساً، فكل نعيم في الجنة لهم من المنح الآجلة فرقائقه في هذه الدنيا لهم عاجلة ‏{‏وإنّ الفجار‏}‏ أي الذي شأنهم الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من رضا الله إلى سخطه ‏{‏لفي جحيم *‏}‏ أي نار تتوقد غاية التوقد يصلون بها جحيم العقوبة الفظيعة كما كانوا في الدنيا في جحيم البعد والقطيعة‏.‏

ولما كان السياق للترهيب، وصف عذاب الفجار فقال‏:‏ ‏{‏يصلونها‏}‏ أي يغمسون فيها كالشاة المصلية فيباشرون حرها ‏{‏يوم الدين *‏}‏ أي الجزاء على الأعمال المضبوطة على مثاقيل الذر‏.‏ ولما كان العذاب على ما نعهده لا بد أن ينقضي، بين أن عذابه على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنهم ما ‏{‏هم عنها‏}‏ أي الجحيم ‏{‏بغائبين *‏}‏ أي بثابت لهم غيبة ما عنها في وقت ما، بل هم فيها خالدون جزاء لأعمالهم وفاقاً وعدلاً طباقاً حتى الآن في دار الدنيا وإن كانوا لا يحسون بها إلا بعد الموت لأن الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما علم أن الوعيد الأعظم يوم الدين، هول أمره بالسؤال عنه إعلاماً بأنه أهل لأن يصرف العمر إلى الاعتناء بأمره والسؤال عن حقيقة حاله سؤال إيمان وإذعان لا سؤال كفران وطغيان، ليكون أقعد في الوعيد به فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي أعلمك وإن اجتهدت في طلب الدراية به ‏{‏ما يوم الدين *‏}‏ أي أيّ شيء هو في طوله وأهواله وفظاعته وزلزاله‏.‏ ولما كانت أهواله زائدة على الحد، كرر ذلك السؤال لذلك الحال فقال معبراً بأداة التراخي زيادة في التهويل‏:‏ ‏{‏ثم ما أدراك‏}‏ أي كذلك ‏{‏ما يوم الدين *‏}‏‏.‏

ولما بين أنه من العظمة بحيث لا تدركه دراية دار وإن عظم وإن اجتهد، لخص أمره في شرح ما يحتمله العقول منه على سبيل الإجمال دافعاً ما قد يقوله بعض من لا عقل له‏:‏ إن كان انضممت والتجأت إلى بعض الأكابر وقصدت بعض الأماثل فأخلص قهراً أو بشفاعة ونحوها، فقال مبدلاً من «يوم الدين» في قراءة ابن كثير والبصريين بالرفع‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ وهو ظرف، قال الكسائي‏:‏ العرب تؤثر الرفع إذا أضافوا الليل واليوم إلى مستقبل، وإذا أضافوا إلى فعل ماض آثروا النصب ‏{‏لا تملك‏}‏ أي بوجه من الوجوه في وقت ما ‏{‏نفس‏}‏ أيّ نفس كانت من غير استثناء، ونصبه الباقون على الظرف، ويجوز أن تكون الفتحة للبناء لإضافته إلى غير متمكن ‏{‏لنفس شيئاً‏}‏ أي قل أو جل، وهذا وإن كان اليوم ثابتاً لكنه في هذه الدار بطن سبحانه في الأسباب، فتقرر في النفوس أن الموجودين يضرون وينفعون لأنهم يتكلمون ويبطشون، وأما هناك فالمقرر في النفوس خلاف ذلك من أنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه إذناً ظاهراً، ولا يكون لأحد فعل ما إلا بإذنه كذلك، فالأمر كله له دائماً، لكن اسمه الظاهر هناك ظاهر واسمه الباطن هذا مقرر لموجبات الغرور‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا أمر لأحد من الخلق أصلاً، لا ظاهراً ولا باطناً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والأمر‏}‏ أي كله ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ كان البعث للجزاء ‏{‏لله *‏}‏ أي مختص به لا يشاركه فيه مشارك ظاهراً كما أنه لا يشاركه فيه باطناً، ويحصل هناك الكشف الكلي فلا يدعي أحد لأحد أمراً من الأمور بغير إذن ظاهر خاص، وتصير المعارف بذلك ضرورية، فلذلك كان الانفطار والزلازل الكبار، والإحصاء لجميع الأعمال الصغار والكبار، وقد رجع أخرها كما ترى إلى أولها، والتف مفصلها بموصلها- والله الهادي للصواب‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

ولما ختم الانفطار بانقطاع الأسباب وانحسام الأنساب يوم الحساب، وأبلغ في التهديد بيوم الدين وأنه لا أمر لأحد معه، وذكر الأشقياء والسعداء، وكان أعظم ما يدور بين العباد المقادير، وكانت المعصية بالبخس فيها من أخس المعاصي وأدناها، حذر من الخيانة فيها وذكر ما أعد لأهلها وجمع إليهم كل من اتصف بوصفهم فحلمه وصفه على نوع من المعاصي، كل ذلك تنبيهاً للأشقياء الغافلين على ما هم فيه من السموم الممرضة المهلكة، ونبه على الشفاء لمن أراده فقال‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏ أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة ‏{‏للمطففين‏}‏ أي الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيئ وهو حب الدنيا الموقع في جمع الأموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه‏:‏ التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل، من الطف، وهو ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق، ومنه ما في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ كنت فارساً فسبقت الناس حتى طفت لي الفرس مسجد بني زريق- يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي المسجد، ويقال‏:‏ طف الرجل الحائط- إذا علاه، أو من القرب، من قولهم‏:‏ أخذت من متاعي ما خف وطف، أي قرب مني، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته، والطفاف من الإناء وغيره‏:‏ ما قارب أن يملأه، ولا يتم ملأه، وفي الحديث‏:‏ «كلكم بنو آدم طف الصاع»، أو من الطفف وهو التقتير، يقال‏:‏ طفف عليه تطفيفا- إذا قتر عليه، أو من الطفيف وهو من الأشياء الخسيس الدون والقليل، فكأن التضعيف للإزالة على المعنى الأول كما مضى، وللمقاربة الكثيرة على المعنى الثاني أي أنه يقار ملء المكيال مقاربة كبيرة مكراً وخداعاً حتى يظن صاحب الحق أنه وفى ولا يوفي، يقال‏:‏ أطف فلان لفلان- إذا أراد ختله، وإذا نهى عن هذا فقد نهى عما نقص أكثر بمفهوم الموافقة، وعلى المعنى الثالث بمعنى التقتير والمشاححة في الكيل، وعلى المعنى الرابع بمعنى التنقيص والتقليل فيه، وكأنه اختير هذا اللفظ لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء اليسير جداً، هذا أصله في اللغة وقد فسره الله سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏الذين إذا اكتالوا‏}‏ أي عالجوا الكيل أو الوزن فاتزنوا- بما دل عليه ما يأتي، وعبر بأداة الاستعلاء ليكون المعنى‏:‏ مستعلين أو متحاملين ‏{‏على الناس‏}‏ أي خاصة بمشاهدتهم كائنين من كانوا لا يخافون شيئاً ولا يراعون أحداً، بل صارت الخيانة والوقاحة لهم ديدناً، وهذا الفعل يتعدى بمن وعلى، يقال‏:‏ اكتال من الرجل وعليه، ويجوز أن يكون اختيار التعبير بعلى هنا مع ما تقدم للإشارة إلى أنهم إذا كان لهم نوع علو بأن كان المكتال منه ضعيفاً خانوه فيكون أمرهم دائراً على الرذالة وسفول الهمة التي لا أسفل منها ‏{‏يستوفون *‏}‏ أي يوجدون لأنفسهم الوفاء وهو تمام الكيل بغاية الرغبة والمبالغة في الملء، فكأنه ذكر «اكتالوا» ولم يذكر «اتزنوا» لأنه لا يتأتى في الوزن من المعالجة ما يتأتى في الكيل، ولأنهم يتمكنون في الاكتيال من المبالغة في استيفاء المؤدي إلى الزيادة ما لا يتمكنون من مثله في الاتزان، وهذا بخلاف الإخسار فإن التمكن بسببه حاصل في الموضعين فلذلك ذكرهما فيه‏.‏

ولما أفهم تقديم الجار الاختصاص فأفهم أنهم إذا فعلوا من أنفسهم لا يكون كذلك، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏وإذا كالوهم‏}‏ أي كالوا الناس أي حقهم أي ما لهم من الحق ‏{‏أو وزنوهم‏}‏ أي وزنوا ما عليهم له من الحق، يقال‏:‏ اكتال من الرجل وعليه وكال له الطعام وكاله الطعام، ووزنت الرجل الشيء ووزنت له الشيء، ولعله سبحانه اختار «على» في الأول والمعدى إلى اثنين في الثاني لأنه أدل على حضور صاحب الحق، فهو في غيبته أولى، فهو أدل على المرون على الوقاحة، فهما كلمتان لا أربع لأنه ليس بعد الواو ألف جمع، قال البغوي‏:‏ وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين يقف على كالوا ووزنوا ويبتدئ هم، قال أبو عبيدة‏:‏ والاختيار الأولى، قال البغوي‏:‏ يعني أن كل واحدة كلمة لأنهم كتبوهما بغير ألف باتفاق المصاحف، وقال الزمخشري‏:‏ ولا يصح أن يكون ضميراً للمطففين لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد، وذلك أن المعنى‏:‏ إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا، وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك‏:‏ إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر، والتعلق في إبطاله بخط المصحف وأن الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابته فيه ركيك لأن خط المصحف لم يراع في كثير منه حد المصطلح عليه في علم الخط- انتهى‏.‏ ولا شك أن في خط المصحف تقوية لهذا الوجه المعنوي وتأكيداً ‏{‏يخسرون *‏}‏ أي يوجدون الخسارة بالنقص فيما يكيلون لغيرهم، والحاصل أنهم يأخذون وافياً أو زائداً ويعطون ناقصاً‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال سبحانه وتعالى في سورة الانفطار ‏{‏وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏ الآية وكان مقتضى ذلك الإشعار بوقوع الجزاء على جزئيات الأعمال وأنه لا يفوت عمل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفا بنا حاسبين‏}‏

‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ أتبع الآية المتقدمة بجزاء عمل يتوهم فيه قرب المرتكب وهو من أكبر الجرائم، وذلك التطفيف في المكيال والميزان والانحراف عن إقامة القسط في ذلك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ ثم أردف تهديدهم وتشديد وعيدهم فقال‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 4- 5‏]‏ ثم التحمت الآي مناسبة لما افتتحت به السورة إلى ختامها- انتهى‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى أنهم أدمنوا على هذه الرذائل حتى صارت لهم خلقاً مرنوا عليه وأنسوا به وسكنوا إليه، وكان ذلك لا يكون إلا ممن أمن العقاب وأنكر الحساب، أنتج ذلك الإنكار عليهم على أبلغ الوجوه لإفهامه أن حالهم أهل لأن يتعجب منه ويستفهم عنه وأن المستفهم عن حصوله عندهم الظن، وأما اليقين فلا يتخيل فيهم لبعد أحوالهم الجافية وأفهامه الجامدة عنه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا يظن أولئك‏}‏ أي الأخساء البعداء الأرجاس الأراذل يتجدد لهم وقتاً من الأوقات ظن أن لم يتيقنوا بما مضى من البراهين التي أفادت أعلى رتب اليقين، فإنهم لو ظنوا ذلك ظناً نهاهم إن كان لهم نظر لأنفسهم عن أمثال هذه القبائح، ومن لم تفده تلك الدلائل القاطعة ظناً يحتاط به لنفسه فلا حس له أصلاً ‏{‏أنهم‏}‏ وعبر باسم المفعول فقال‏:‏ ‏{‏مبعوثون *‏}‏ إشارة إلى القهر على أهون وجه بالبعث الذي قد ألفوا مثله من القهر باليقظة بعد القهر بالنوم ‏{‏ليوم‏}‏ أي لأجله وفيه، وزاد التهويل بقوله‏:‏ ‏{‏عظيم *‏}‏ أي لعظمة ما يكون فيه من الجمع والحساب الذي يكون عنه الثواب والعقاب مما لا يعلمه على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 12‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما عظم ذلك اليوم تحذيراً منه، وزاده تعظيماً بأن أتبعه على سبيل القطع قوله ناصباً بتقدير «أعني» إعلاماً بأن الجحد فيه بأعين جميع الخلائق فهو فضيحة لا يشبهها فضيحة‏:‏ ‏{‏يوم يقوم‏}‏ أي على الأرجل ‏{‏الناس‏}‏ أي كل من فيه قابلية الحركة، وذلك يوم القيامة خمسين ألف سنة لا ينظر إليهم سبحانه- رواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمرو رفعه ورجاله ثقات ‏{‏لرب العالمين *‏}‏ أي لأجل حكم موجد الخلائق ومربيهم كلهم فلا ينسى أحداً من رزقه ولا يهمله من حكمه ولا يرضى بظلم أحد ممن يربيه فهو يفيض لكل من كل بحكم التربية، كل ذلك من استفهام الإنكار وكله الظن، ووصف اليوم بما وصف وغير ذلك للإبلاغ في المنع عن التطفيف وتعظيم إثمه، وروى الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه رفعه‏:‏ «ما نقض قوم العهد إلا سلط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» ومن طريق عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً نحوه، وللطبراني من طريق الضحاك عن مجاهد وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً نحوه‏.‏

ولما أنهى سبحانه ما أراد من تعظيم ذلك اليوم والتعجيب ممن لم يفده براهينه أن يجوزه والإنكار عليه، وكان مع ما فيه من التقريع مفهماً للتقرير، نفى بأداة الردع للمبالغة في النفي مضمون ما وقع الاستفهام عنه فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يظن أولئك ذلك بوجه من الوجوه لكثافة طباعهم ووقوفهم مع المحسوس دأب البهائم بل لا يجوزونه، ولو جوزوه لما وقعوا في ظلم أحد من يسألون عنه في ذلك اليوم المهول، وما أوجب لهم الوقوع في الجرائم إلا الإعراض عنه، وقال الحسن رحمه الله تعالى‏:‏ هي بمعنى حقاً متصلة بما بعدها- انتهى‏.‏ وهي مع ذلك مفهمة للردع الذي ليس بعده ردع عن اعتقاد مثل ذلك والموافقة لشيء مما يوجب الخزي فيه‏.‏

ولما أخبر عن إنكارهم، استأنف إثبات ما أنكروه على أبلغ وجه وأفظعه مهولاً لما يقع لهم من الشرور وفوات السرور، مؤكداً لأجل إنكارهم فقال‏:‏ ‏{‏إن كتاب‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏الفجار‏}‏ أي صحيفة حساب هؤلاء الذين حملهم على كفرهم مروقهم وكذا كل من وافقهم في صفاتهم فكان في غاية المروق مما حق ملابسته وملازمته، وأبلغ في التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏لفي سجين *‏}‏ هو علم منقول في صيغة المبالغة عن وصف من السجن وهو الحبس لأنه سبب الحبس في جهنم أي إنه ليس فيه أهلية الصعود إلى محل الأقداس إشارة إلى أن كتابهم إذا كان في سجن عظيم أي ضيق شديد كانوا هم في أعظم، قال ابن جرير‏:‏ وهي الأرض السابعة- انتهى وهو يفهم مع هذه الحقيقة أنهم في غاية الخسارة لأنه يقال لكل من انحط‏:‏ صار تراباً ولصق بالأرض- ونحو ذلك، ثم زاد في هوله بالإخبار بأنه أهل لأن يسأل عنه ويضرب إلى العالم به- إن كان يمكن- آباط الإبل فقال‏:‏ ‏{‏وما أدراك‏}‏ أي جعلك دارياً وإن اجتهدت في ذلك ‏{‏ما سجين *‏}‏ أي أنه بحيث لا تحتمل وصفه العقول، وهو مع ذلك في أسفل سافلين ويشهده المبعدون من الشياطين وسائر الظالمين، يصعد بالميت منهم إلى السماء فتغلق أبوابها دونه فيرد تهوي به الريح تشمت به الشياطين‏.‏

وكل ما قال فيه‏:‏ «وما أدراك» فقد أدراه به بخلاف «وما يدريك»‏.‏

ولما أتم ما أراد من وصفه، أعرض عن بيانه إشارة إلى أنه من العظمة بحيث إنه يكل عنه الوصف، واستأنف أمر الكتاب المسجون فيه فقال محذراً منه مهولاً لأمره‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ أي عظيم لحفظه النقير والقطمير ‏{‏مرقوم *‏}‏ أي مسطور بين الكتابة كما تبين الرقمة البيضاء في جلد الثور الأسود، ويعلم كل من رآه أنه غاية في الشر، وهو كالرقم في الثوب والنقش في الحجر لا يبلى ولا يحمى‏.‏

ولما أعلم هذا بما للكتاب من الشر، استأنف الإخبار بما أنتجه مما لأصحابه فقال‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏ أي أعظم الهلاك ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ يقوم الناس لما تقدم‏:‏ ولما كان الأصل‏:‏ لهم، أبدله بوصف ظاهر تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال‏:‏ ‏{‏للمكذبين *‏}‏ أي الراسخين في التكذيب بكل ما ينبغي التصديق به‏.‏

ولما أخبر عن ويلهم، وصفهم بما يبين ما كذبوا به ويبلغ في ذمهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يكذبون‏}‏ أي يوقعون التكذيب لكل من ينبغي تصديقه، مستهينين ‏{‏بيوم‏}‏ أي بسب الإخبار بيوم ‏{‏الذين *‏}‏ أي الجزاء الذي هو سر الوجود ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏يكذب‏}‏ أي يوقع التكذيب ‏{‏به إلا كل معتد‏}‏ أي متجاوز للحد في العناد أو الجمود والتقليد لأن محطة نسبة من ثبت بالبراهين القاطعة أنه على كل شيء قدير إلى العجز عن إعادة ما ابتدأه ‏{‏أثيم *‏}‏ أي مبالغ في الانهماك في الشهوات الموجبة للآثام، وهي الذنوب، فاسود قلبه فعمي بنظر الشهوات التي حفت بها النار عما عداها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما أثبت له الإبلاغ في الإثم، دل عليه بقوله بأداة التحقق‏:‏ ‏{‏إذا تتلى‏}‏ أي من أي تال كان، مستعلية بما لها من البراهين ‏{‏عليه آياتنا‏}‏ أي العلامات الدالة على ما أريد بيانها له مع ما لها من العظمة بالنسبة إلينا ‏{‏قال‏}‏ أي من غير توقف ولا تأمل بل بحظ نفس أوقعه في شهوة المغالبة التي سببها الكبر‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين *‏}‏ أي من الأباطيل وليست كلام الله، فكان لفرط جهله بحيث لا ينتفع بشواهد النقل كما أنه لم ينظر في دلائل العقل‏.‏

ولما كان هذا قد صار كالأنعام في عدم النظر بل هو أضل سبيلاً لأنه قادر على النظر دونها، قال رادعاً له ومكذباً ومبيناً لما أدى به إلى هذا القول وهو لا يعتقده‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليرتدع ارتداعاً عظيماً ولينزجر انزجاراً شديداً، فليس الأمر كما قال في المتلو ولا هو معتقد له اعتقاداً جازماً لأنه لم يقله عن بصيرة ‏{‏بل ران‏}‏ أي غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء والصدأ للمرآة، وجمع اعتباراً بمعنى «كل» لئلا يتعنت متعنت، فقال معبراً بجمع الكثرة إشارة إلى كثرتهم‏:‏ ‏{‏على قلوبهم‏}‏ أي كل من قال هذا القول ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم الفاسدة ‏{‏يكسبون *‏}‏ أي يجددون كسبه مستمرين عليه من الأعمال الردية، فإن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً، فيتراكم الذنب على القلب فيسود، فلذلك كانوا يقولون مثل هذا الاعتقاد، بل هو شيء يسدون به المجلس ويقيمون لأنفسهم عند العامة المعاذير ويفترون به عزائم التالين بما يحرقون من قلوبهم- أحرق الله قلوبهم وبيوتهم بالنار- فإنهم لا ينقطعون في عصر من الأعصار ولا يخشون من عار ولا شنار، روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله سبحانه وتعالى» وقال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء‏:‏ قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته عن اتباع الشهوات، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآه الصقيلة، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار ريناً كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً، فإذا تراكم الرين صار طبعاً كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل التصقيل بعده، وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب كما لا يكفي في ظهور الصورة في المرآة قطع الأنفاس والبخارات المسودة لوجهها في المستقبل ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحي ظلمة المعصية بنور الطاعة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«وأتبع السيئة الحسنة تمحها»‏.‏

ولما كان ادعاؤهم إنما هو قول قالوه بأفواههم لا يتجاوزها عظيماً جداً، أعاد ردعهم عنه وتكذيبهم فيه فقال‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس الأمر كما قالوا من الأساطير لا في الواقع ولا عندهم فليرتدعوا عنه أعظم ارتداع‏.‏ ولما كان قول الإنسان لما لا يعتقده ولا هو في الواقع كما في غاية العجب لا يكاد يصدق، علله مبيناً أن الحامل لهم عليه إنما هو الحجاب الذي ختم به سبحانه على قلوبهم، فقال مؤكداً لمن ينكر ذلك من المغرورين‏:‏ ‏{‏إنهم عن ربهم‏}‏ أي عن ذكر المحسن إليهم وخشيته ورجائه ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ قالوا هذا القول الفارغ‏.‏ ولما كان المانع إنما هو الحجاب، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏لمحجوبون *‏}‏ فلذلك استولت عليهم الشياطين والأهوية، فصاروا يقولون ما لو عقلت البهائم لاستحيت من أن تقوله، والأحسن أن تكون الآية بياناً وتعليلاً لويلهم الذي سبق الإخبار به، ويكون التقدير‏:‏ يوم إذ كان يوم الدين، ويكون المراد الحجاب عن الرؤية، ويكون في ذلك بشارة للمؤمنين بها‏.‏ وقال البغوي‏:‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ عن رؤيته، وقال‏:‏ إن الإمامين الشافعي وشيخه مالكاً استدلا بهذه الآية على الرؤية، وأسند الحافظ أبو نعيم في الحلية في ترجمة الشافعي أنه قال‏:‏ في هذه الآية دلالة على أن أولياءه يرونه على صفته، وقال ابن الفضل‏:‏ كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته، وقال الحسن‏:‏ لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا‏.‏ وقال القشيري‏:‏ ودليل الخطاب يوجب أن يكون المؤمنون يرونه كما يعرفونه اليوم انتهى‏.‏ وفيه تمثيل لإهانتهم بإهانة من يمنع الدخول على الملك‏.‏

ولما بين ما لهم من العذاب بالحجاب الذي هو عذاب القلب الذي لا عذاب أشد منه، لأنه يتفرع عنه جميع العذاب، شرع يبين بعض ما تفرع عنه من عذاب القالب مؤكداً لأجل إنكارهم معبراً بأداة التراخي إعلاماً بعلو رتبته في أنواع العذاب فقال‏:‏ ‏{‏ثم إنهم‏}‏ أي بعد ما شاء الله من إمهالهم ‏{‏لصلوا الجحيم *‏}‏ أي لدخلو النار العظمى ويقيمون فيها مقاسون لحرها ويغمسون فيها كما تغمس الشاة المصلية أي المشوية‏.‏

ولما بين ما لهم من الفعل الذي هو للقلب والقالب، أتبعه القول بالتوبيخ والتبكيت الذي هو عذاب النفس، وبناه للمفعول لأن المنكئ سماعه لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه يتمكن من قوله لهم كل من يصح منه القول من خزنة النار ومن أهل الجنة وغيرهم لأنه لا منعة عندهم‏:‏ ‏{‏ثم يقال‏}‏ أي لهم بعد مدة تبكيتاً وتقريعاً وتنديماً وتبشيعاً‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي العذاب الذي هو حالّ بكم ‏{‏الذي كنتم‏}‏ أي بما لكم من الجبلات الخبيثة ‏{‏به‏}‏ أي خاصة لأن تكذيبكم بغيره بالنسبة إليه لما له من القباحة ولكم من الرسوخ فيه والملازمة له ‏(‏‏؟‏‏)‏ ‏{‏تكذبون *‏}‏ أي توقعون التكذيب به وتجددونه مستمرين عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما كان هذا ربما أفهم أنهم يرون جميع عذابهم إذ ذاك، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس هو المجموع بل هو فرد من الجنس فلهذا عمل عليه الجنس وهو نزلهم والأمر أطم وأعظم من أن يحيط به الوصف‏.‏ ولما ذكر ما للمكذبين من العذاب الذي جره إليهم إقبالهم على الدنيا بادئاً به لأن المقام من أول السورة للوعيد وصوادع التهديد، أتبعه ما للمصدقين الذين أقبل بهم إلى السعادة ترك الحظوظ وإعراضهم عن عاجل شهوات الدنيا، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إن كتاب الأبرار‏}‏ أي صحيفة حسنات الذين هم في غاية الاتساع في شرح صدورهم، واتساع عقولهم وكثرة أعمالهم وزكائها وغير ذلك من محاسن أمورهم ‏{‏لفي علييّن *‏}‏ أي أماكن منسوبة إلى العلو، وقع النسب أولاً إلى فعليّ ثم جمع وإن كان لا واحد له من لفظه كعشرين وأخواته، قال الكسائي‏:‏ إذا جمعت العرب ما لا يذهبون فيه إلى أن له بناء من واحد واثنين فإنهم يجمعون بالواو والنون في المذكر والمؤنث- انتهى، فهي درجات متصاعدة تصعد إلى الله ولا تحجب عنه كما يحجب ما للأشقياء بعضها فوق بعض إلى ما لا نهاية له بحسب رتب الأعمال، وكل من كان كتابه من الأبرار في مكان لحق به كما أن من كان كتابه من الفجار في سجين لحق به، قال الرازي في اللوامع‏:‏ من ترقى علمه عن الحواس والأوهام وفعله عن مقتضى الشهوة والغضب فهو حقيق بأن يكون عليّاً، ومن كان علمه وإدراكه مقصوراً على الحواس والخيال والأوهام وفعله على مقتضى الشهوات البهيمية فهو حقيق بأن يكون في سجين‏.‏

ولما كان هذا أمراً عظيماً، زاد في تعظيمه بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وأي شيء ‏{‏أدراك‏}‏ أي جعلك دارياً وإن بالغت في الفحص ‏{‏ما علّيون *‏}‏ فإن وصفه لا تسعه العقول ويلزمه لعلوه فضاء مطلق واتساع مبين‏.‏ ولما عظم المكان فعلمت عظمة الكتاب، ابتدأ الإخبار عنه على سبيل القطع زيادة في عظمته فقال‏:‏ ‏{‏كتاب‏}‏ أي عظيم ‏{‏مرقوم *‏}‏ أي فيه أن فلاناً أمن من النار فيا له من رقم ما أحسنه وما أبهاه وما أجمله‏.‏

ولما عظمه في نفسه وفي مكانه، عظمه في حضّاره فقال‏:‏ ‏{‏يشهده المقربون *‏}‏ أي يحضره حضوراً تاماً دائماً لا غيبة فيه الجماعة الذين يعرف كل أحد أنه ليس لهم عند كل من يعتبر تقريبه إلا التقريب من ابتدائه إلى انتهائه هم شهود هذا المسطور وهم الملائكة يشيعونه من سماء إلى سماء ويحفون به سروراً وتعظيماً لصاحبه ويشهده من في السماوات من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء والصالحين، فالآية مع الأولى من الاحتباك‏:‏ ذكر سجين أولاً دال على الاتساع ثانياً، وذكر عليين والمقربين ثانياً دال على أسفل سافلين والمبعدين أولاً‏.‏

ولما عظم كتابهم بهذه الفضائل، التفتت النفي إلى معرفة حالهم فقال شافياً لعي هذا الالتفات مؤكداً لأجل من ينكر‏:‏ ‏{‏إن الأبرار‏}‏ أي الذين هذا كتابهم ‏{‏لفي نعيم *‏}‏ أي محيط بهم ضد ما فيه الفجار من الجحيم‏:‏ ولما كان لا شيء أنعم للإنسان من شيء عال يجلس عليه ويمد بصره إلى ما يشتهي مما لديه، قال مبيناً لذلك النعيم‏:‏ ‏{‏على الأرائك‏}‏ أي الأسرة العالية مع هذا العلو المطلق في الحجال التي يعيي الفكر وصفها لما لها من العلو من ترصيع اللؤلؤ والياقوت وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ‏{‏ينظرون *‏}‏ أي إلى ما يشتهون من الجنان والأنهار والحور والولدان، ليس لهم شغل غير ذلك وما شابهه من المستلذات‏.‏ وقال الإمام القشيري‏:‏ أثبت النظر ولم يبين المنظور إليه لاختلافهم‏:‏ منهم من ينظر إلى قصوره، ومنهم من ينظر إلى حوره، ومنهم ومنهم، والخواص على دوام الأوقات إلى الله تعالى ينظرون كما أن الفجار دائماً عن ربهم محجوبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما وصف نعيمهم، أخبر أنهم من عراقتهم فيه يعرفهم به كل ناظر إليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تعرف‏}‏ أي أيها الناظر إليهم- هذا على قراءة الجماعة، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بالبناء للمفعول، وهو أدل على العموم ‏{‏في وجوههم‏}‏ عند رؤيتهم ‏{‏نضرة النعيم *‏}‏ أي بهجته ورونقه وحسنه وبريقه وطراوته، من نضر النبات- إذا أزهر ونوّر، وقال الحسن رحمه الله تعالى‏:‏ النضرة في الوجه والسرور في القلب‏.‏

ولما كانت مجالس الأنس لا سيما في الأماكن النضرة لا تطيب إلا بالمآكل والمشارب، وكان الشراب يدل على الأكل، قال مقتصراً عليه لأن هذه السور قصار يقصد فيها الجمع مع الاختصار قال‏:‏ ‏{‏يسقون‏}‏ بانياً له للمفعول دلالة على أنهم مخدومون أبداً لا كلفة عليهم في شيء ‏{‏من رحيق‏}‏ أي شراب خالص صاف عتيق أبيض مطيب في غاية اللذة، فإنهم قالوا‏:‏ إن الرحيق الخمر أو أطيبها أو أفضلها أو الخالص أو الصافي، وضرب من الطيب‏.‏ ولا شك أن العاقل لا يشرب الخمر مطلقاً فكيف بأعلاها إلا إذا كان مستكملاً لمقدماتها من مأكول ومشروب وملبوس ومنكوح وغير ذلك، ولما كان الختم لا يكون إلا لما عظمت رتبته وعزت نفاسته، قال مريداً الحقيقة، أو الكناية عن نفاسته‏:‏ ‏{‏مختوم *‏}‏ أي فهو مع نفاسته سالم من الغبار وجميع الأقذاء والأقذار‏.‏

ولما كان الختم حين الفك لا بد أن ينزل من فتاته في الشراب قال‏:‏ ‏{‏ختامه مسك‏}‏ وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ إن المراد بختامه آخر طعمه، فيحصل أن ختامه في أول فتحه وفي آخر شربه المسك، وذلك يقتضي أن لا يكون يفتحه إلا شاربه، وأنه يكون على قدر كفايته فيشربه كله، والعبارة صالحة لأن يكون الختام أولاً وآخراً، وهو يجري مجرى افتضاض البكر‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فيه يبلغ نهاية اللذة الشاربون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وفي ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم البعيد المتناول وهو العيش والنعيم والشراب الذي هذا وصفه ‏{‏فليتنافس‏}‏ أي فليرغب غاية الرغبة بجميع الجهد والاختيار ‏{‏المتنافسون *‏}‏ أي الذين من شأنهم المنافسة وهو أن يطلب كل منهم أن يكون ذلك المتنافس فيه لنفسه خاصة دون غيره لأنه نفيس جداً، والنفيس هو الذي تحرص عليه نفوس الناس وتتغالى فيه‏.‏ والمنافسة في مثل هذا بكثرة الأعمال الصالحات والنيات الخالصة‏.‏

ولما ذكر الشراب، أتبعه مزاجه على ما يتعارفه أهل الدنيا لكن بما هو أشرف منه، فقال مبيناً لحال هذا المسقي‏:‏ ‏{‏ومزاجه‏}‏ أي يسقون منه والحال أن مزاج هذا الرحيق ‏{‏من تسنيم *‏}‏ علم على عين معينة وهو- مع كونه علماً- دال على أنها عالية المحل والرتبة، والشراب ينزل عليهم ماؤها من العلو-، وقال حمزة الكرماني‏:‏ ماؤها يجري على الهواء متنسماً ينصب في أواني أهل الجنة على مقدار الحاجة، فإذا امتلأت أمسك، وهو في الشعر اسم جبل عال وكذا التنعيم وأصله من السنام، ولذلك قطعها مادحاً فقال‏:‏ ‏{‏عيناً يشرب بها‏}‏ أي بسببها على طريقة المزاج منها ‏{‏المقربون *‏}‏ أي الذين وقع تقريبهم من اجتذاب الحق لهم إليه وقصر هممهم عليه، كل شراب يريدونه، وأما الأبرار فلا يشربون بها إلا الرحيق، وأما غيرهم فلا يصل إليها أصلاً، وقال بعضهم‏:‏ إن المقربين يشربون من هذه العين صرفاً، والأبرار يمزج لهم منها والفرق ظاهر- هنياً لهم‏.‏

ولما ذكر سبحانه جزاء الكافر بالجحيم وجزاء المؤمن بالنعيم، وكان من أجل النعيم الشماتة بالعدو، علل جزاء الكافر بما فيه شماتة المؤمن به لأنه اشتغل في الدنيا بما لا يغني، فلزم من ذلك تفويته لما يغني، فقال مؤكداً لأن ذا المروءات والهمم العاليات والطبع السليم والمزاج القويم لا يكاد يصدق مثل هذا، وأكده إشارة إلى أن من حقه أن لا يكون‏:‏ ‏{‏إن الذين أجرموا‏}‏ أي قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ‏{‏كانوا‏}‏ أي في الدنيا ديدناً وخلقاً وطبعاً وجبلة ‏{‏من الذين آمنوا‏}‏ أي ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان ‏{‏يضحكون *‏}‏ أي يجددون الضحك كلما رأوهم أو ذكروهم استهزاء بهم وبحالاتهم التي هم عليها من علامات الإيمان في رثاثة أحوالهم وقلة أموالهم واحتقار الناس لهم مع ادعائهم أن الله تعالى لا بد أن ينصرهم ويعلي أمرهم ‏{‏وإذا مروا‏}‏ أي الذين آمنوا ‏{‏بهم‏}‏ أي بالذين أجرموا في أي وقت من الأوقات يستهزئون و‏{‏يتغامزون‏}‏ أي يغمز بعض الذين أجرموا بعضاً لأذى الذين آمنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 36‏]‏

‏{‏وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

ولما وصفهم في مواضع التردد والتقلب، وصفهم في المنازل فقال‏:‏ ‏{‏وإذا انقلبوا‏}‏ أي رجع الذين أجرموا برغبتهم في الرجوع وإقبالهم عليه من غير تكره ‏{‏إلى أهلهم‏}‏ أي منازلهم التي هي عامرة بجماعتهم ‏{‏انقلبوا‏}‏ حال كونهم ‏{‏فاكهين *‏}‏ أي متلذذين غاية التلذذ بما كان من مكنتهم ورفعتهم التي أوصلتهم إلى الاستسخار بغيرهم، قال‏:‏ ابن برجان‏:‏ وذكر عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً- كما بدأ، يكون القابض على دينه كالقابض على الجمر» وفي أخرى‏:‏ يكون المؤمن فيهم أذل من الأمة‏.‏ وفي أخرى‏:‏ العالم فيهم أنتن من جيفة حمار- فالله المستعان‏.‏

ولما ذكر مرورهم بهم، ذكر مطلق رؤيتهم لهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا رأوهم‏}‏ أي رأى الذين أجرموا الذين آمنوا ‏{‏قالوا‏}‏ أي عند رؤيتهم للذين آمنوا مؤكدين لأنهم يستشعرون أن كل ذي عقل يكذبهم مشيرين إلى تحقيرهم بأداة القرب‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ أي الذين آمنوا ‏{‏لضالون *‏}‏ أي عريقون في الضلال لأنهم تركوا الدنيا لشيء أجل لا صحة له ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنهم ما ‏{‏أرسلوا‏}‏ أي من مرسل ما ‏{‏عليهم‏}‏ أي على الذين آمنوا خاصة حتى يكون لهم بهم هذا الاعتناء في بيوتهم وخارجها عند مرورهم وغيره ‏{‏حافظين*‏}‏ أي عريقين في حفظ أعمال الذين آمنوا فما اشتغالهم بهم إلى هذا الحد أن كانوا عندهم في عداد الساقط المهمل كما يزعمون فما هذه المراعاة المستقصية لأحوالهم وإن كانوا في عداد المنظور إليه المعتنى به فليبينوا فساد حالهم بوجه تقبله العقول ويقوم عليه دليل أو ليتبعوهم وإلا فهم غير عارفين بمواضع الإصلاح وتعاطي الأمور على وجهها فما أحقهم بقول القائل‏:‏

أوردها سعد وسعد مستمل *** ما هكذا تورد يا سعد الإبل

ولما كان لا نعيم أفضل من الشماتة بالعدو لا سيما إذا كانت على أعلى طبقات الشماتة قال تعالى‏:‏ ‏{‏فاليوم‏}‏ أي فتسبب عن هذا من فعلهم في دار العمل أنه يكون في دار الجزاء ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان ‏{‏من الكفار‏}‏ خاصة، وهم الراسخون في الكفر من عموم الذين أجرموا، في الحشر والجنة سخرية وهزؤاً، فإن الذين آمنوا لا يضحكون من عصاة المؤمنين لو رأوهم يعذبون بل يرحمونهم لاشتراكهم في الدين ‏{‏يضحكون‏}‏ قصاصاً وجزاء حين يرون ما هم فيه من الذل سروراً بحالهم شكراً لله على ما أعطاهم من النجاة من النار والنقمة من أعدائهم، قال أبو صالح‏:‏ تفتح لهم الأبواب ويقال‏:‏ اخرجوا، فيسرعون فإذا وصلوا إلى الأبواب غلقت في وجوههم وردوا على أقبح حال، فيضحك المؤمنون- انتهى‏.‏ ويا لها من خيبة وخجلة وسواد وجه وتعب قلب وتقريع نفس من العذاب بالنار وبالشماتة والعار، حال كون الذين آمنوا ملوكاً ‏{‏على الأرائك‏}‏ أي الأسرة العالية المزينة التي هي من حسنها أهل لأن يقيم المتكئ بها ‏{‏ينظرون *‏}‏ أي يجددون تحديق العيون إليهم كلما أرادوا فيرون ما هم فيه من الهوان والذل والعذاب بعد العزة والنعيم نظر المستفهم ‏{‏هل ثوب‏}‏ بناه للمفعول لأن الملذذ مطلق مجازاتهم ‏{‏الكفار‏}‏ أي وقع تثويب العريقين في الكفر أي إعطاؤهم الثواب والجزاء على أنهى ما يكون، فالجملة في محل نصب «ينظرون» ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي نفس فعلهم بما هو لهم كالجبلات ‏{‏يفعلون *‏}‏ أي بدواعيهم الفاسدة ورغباتهم المعلولة، فالجملة في موضع المفعول، وقد علم أن لهم الويل الذي افتتحت السورة بالتهديد به لمن يفعل فعل من لا يظن أنه يجازى على فعله، وآخرها فيمن انتقص الأعراض في خفاء، وأولها فيمن انتقص الأموال كذلك، وجفاء العدل والوفاء، والله الهادي للصواب، وإليه المرجع والمآب وإليه المتاب‏.‏