فصل: تفسير الآيات رقم (261- 268)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏261- 268‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏261‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏262‏)‏ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ‏(‏263‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏264‏)‏ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏265‏)‏ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏266‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏267‏)‏ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏268‏)‏‏}‏

ولما انقضى جواب السؤال عن الملك الذي لا تنفع عنده شفاعة بغير إذنه ولا خلة ولا غيرهما وما تبع ذلك إلى أن ختم بقصة الأطيار التي صغت إلى الخليل بالإنفاق عليها والإحسان إليها ثنى الكلام إلى الأمر بالنفقة قبل ذلك اليوم الذي لا تنفع فيه الوسائل إلا بالوجه الذي شرعه بعد قوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 11‏]‏ نظراً إلى أول السورة تذكيراً بوصف المتقين حثاً عليه، فضرب لذلك مثلاً صريحة لمضاعفتها فاندرج فيه مطلق الأمر بها اندراج المطلق في المقيد وتلويحه الذي هو من جملة المشار إليه بحكيم للاحياء، فصرح بأن النفقة المأمور بها من ذخائر ذلك اليوم الذي لا ينفع فيه إلا ما شرعه وهو من جليل العزة، وساقه على وجه يتضمن إحياء الموات الذي هو أنسب الأشياء لما قبله من نشر الأموات، فهو إيماء إلى الاستدلال على البعث بأمر محسوس، وذلك من دقيق الحكمة، فكأنه سبحانه وتعالى يقول‏:‏ إن خليلي عليه الصلاة والسلام لما كان من الراسخين في رتبة الإيمان أهّلته لامتطاء درجة أعلى من درجة الإيقان بخرق العادة في رفع الأستار على يده عن إحياء الأطيار وأقمت نمطاً من ذلك لعامة الخلق مطوياً في إحياء النبات على وجه معتاد فمن اعتبر به أبصر ومن عمي عنه انعكس حاله وأدبر فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏مثل‏}‏ فكان كأنه قيل‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏ فإنه مثل ‏{‏الذين ينفقون‏}‏ أي يبذلون ‏{‏أموالهم‏}‏ بطيب نفس ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله كمثل زارع مثل ما ينفقون ‏{‏كمثل حبة‏}‏ مما زرعه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من الحب وهو تمام النبات المنتهي إلى صلاحية كونه طعاماً للآدمي الذي هو أتم الخلق، فالحب أكمل من الثمرة طعامية والثمرة إدامية ‏{‏أنبتت‏}‏ أي بما جعل الله سبحانه وتعالى لها من قوة الإنبات بطيب أرضها واعتدال ريها ‏{‏سبع سنابل‏}‏ بأن تشعب منها سبع شعب في كل شعبة سنبلة وهو من السنبل‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهو مجتمع الحب في أكمامه، كأنه آية استحقاق اجتماع أهل ذلك الرزق في تعاونهم في أمرهم، وتعريف بأن الحب يجمعه لا بوحدته ‏{‏في كل سنبلة مائة حبة‏}‏ فصارت الحبة سبعمائة حبة بمضاعفة الله لها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فضرب المثل للإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام بالحرث الذي هو كيميا عباده يشهدون من تثميره حيث تصير الحبة أصلاً ويثمر الأصل سنابل ويكون في كل سنبلة أعداد من الحب، فكان ما ذكر تعالى هو أول الإنفاق في سبيل الله وذكر السبع لما فيه من التمام وما يقبله من التكثير، فإن ما أنبت أكثر من سبع إذا قصد بالتكثير أنبأ عنه بالسبع، لأن العرب تكثر به ما هو أقل منه أو أكثر، فجعل أدنى النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف، ثم فتح تعالى باب التضعيف إلى ما لا يصل إليه عد- انتهى‏.‏

فالآية من الاحتباك وتقديرها‏:‏ مثل الذين ينفقون ونفقتهم كمثل حبة وزارعها، فذكر المنفق أولاً دليل على حذف الزارع ثانياً، وذكر الحبة ثانياً دليل على حذف النفقة أولاً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكما ضاعف سبحانه وتعالى للزارع حبته فهو يضاعف للمنفق نفقته، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لمن يشاء‏}‏ بما له من السعة في القدرة وكل صفة حسنى ‏{‏والله‏}‏ أي بما له من الكمال في كل صفة ‏{‏واسع‏}‏ لا يحد في صفة من صفاته التي تنشأ عنها أفعاله ‏{‏عليم *‏}‏ فهو يضاعف لأهل النفقة على قدر ما علمه من نياتهم؛ ولما ختم أول آيات هذه الأمثال بهاتين الصفتين ختم آخرها بذلك إشارة إلى أن سعته قد أحاطت بجميع الكائنات فهو جدير بالإثابة في الدارين، وأن علمه قد شمل كل معلوم فلا يخشى أن يترك عملاً‏.‏

ولما كان الإنسان قد يزرع ما يكون لغيره بين أن هذا لهم بشرط فقال‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ ولما كان للخلافة وخصوصاً بالإنفاق موقع من النفس بوجوه مما ينقص التضعيف أو يبطله كالذي يطرأ على الحرث الذي ضرب به المثل مما ينقص نباته أو يستأصله نبه تعالى على ما يبطل؛ انتهى‏.‏ فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون‏}‏ ورغبهم في إصلاحها ورهبهم من إفسادها بإضافتها إليهم فقال‏:‏ ‏{‏أموالهم‏}‏ وحث على الإخلاص في قوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الأسماء الحسنى‏.‏

ولما كانت النفس مطبوعة على ذكر فضلها وكان من المستبعد جداً تركها له نبه عليه بأداة البعد إعلاماً بعظيم فضله فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا يتبعون ما أنفقوا‏}‏ بما يجاهدون به أنفسهم ‏{‏مناً‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وهو ذكره لمن أنفق عليه فيكون قطعاً لوصله بالإغضاء عنه لأن أصل معنى المنّ القطع ‏{‏ولا أذى‏}‏ وهو ذكره لغيره فيؤذيه بذلك لما يتعالى عليه بإنفاقه- انتهى‏.‏ وكذا أن يقول لمن شاركه في فعل خير‏:‏ لو لم أحضر ما تم، وتكرير ‏{‏لا‏}‏ تنبيه على أن انتفاء كل منهما شرط لحصول الأجر ‏{‏لهم‏}‏ ولم يقرنه بالفاء إعلاماً بأنه ابتداء عطاء من الله تفخيماً لمقداره وتعظيماً لشأنه حيث لم يجعله مسبباً عن إنفاقهم ‏{‏أجرهم‏}‏ أي الذي ذكره في التضعيف فأشعر ذلك أنه إن اقترن بما نهي عنه لم يكن لهم، ثم زادهم رغبة بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بتربيتهم القائم على ما يقبل من النفقات بالحفظ والتنمية حتى يصير في العظم إلى حد يفوت الوصف ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ من هضيمة تلحقهم ‏{‏ولا هم يحزنون *‏}‏ على فائت، لأن ربهم سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً من الفضل اللائق بهم إلا أوصله إليهم‏.‏

ولما أفهم هذا وهي ما لا يقترن بالشرط من الإنفاق فتشوقت النفس إلى الوقوف على الحقيقة من أمره صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏قول معروف‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وهو ما لا يوجع قلب المتعرض بحسب حاله وحال القائل‏.‏ ولما كان السائل قد يلح ويغضب من الرد وإن كان بالمعروف من القول فيغضب المسؤول قال‏:‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ للسائل إذا أغضب من رده ‏{‏خير من صدقة‏}‏ وهي الفعلة التي يبدو بها صدق الإيمان بالغيب من حيث إن الرزق غيب فالواثق منفق تصديقاً بالخلف إعلاماً بعظم فضله ‏{‏يتبعها أذى‏}‏ بمن أو غيره، لأنه حينئذ يكون جامعاً بين نفع وضر وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الملك الذي لا أعظم منه ‏{‏غني‏}‏ فهو لا يقبل ما لم يأذن فيه‏.‏ ولما رهب المتصدق بصفة الغني رغبة في الحلم عمن أغضبه بكفران الإحسان أو الإساءة في القول عند الرد بالجميل فقال‏:‏ ‏{‏حليم *‏}‏ أي لا يعاجل من عصاه بل يرزقه وينصره وهو يعصيه ويكفره‏.‏ ولما شرط لقبولها شرطاً ووهّى ما عري منها عنه أتبعه التصريح بالنهي عن إهماله والنص على محقه لها وإبطاله وضرب لذلك مثلاً وضرب للمثل مثلاً مبالغة في الزجر عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بذلك صدقوا إقراركم بأن ‏{‏لا تبطلوا‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فبين أن ما اشترطه في الأجر المطلق مبطل للإنفاق- انتهى ‏{‏صدقاتكم بالمن والأذى‏}‏ فربما وازى عقابهما ثواب الصدقة أو زاد فكان كالإبطال لأوله إلى أن لا ثواب‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء- انتهى‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله‏}‏ لغير الله، إنما ينفقه ‏{‏رئاء الناس‏}‏ أي لقصد أن يروه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه‏.‏

ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظراً وأعماهم قلباً فأولو الهمم العلية لا سيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه وكان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال‏:‏ ‏{‏ولا يؤمن بالله‏}‏ أي الذي له صفة الكمال ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال‏:‏ ‏{‏فمثله‏}‏ في إنفاقه مقارناً لما يفسده، ومثل نفقته ‏{‏كمثل صفوان‏}‏ وما زرع عليه، وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات- انتهى‏.‏ ‏{‏عليه تراب‏}‏ فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه‏.‏

ولما كانت إزالة التراب عما وقع عليه عقب وقوعه أجدر ما زالت بحذافيره ولا سيما إن كان حجراً أملس قال إبلاغاً في إبطال الرياء للعمل‏:‏ ‏{‏فأصابه‏}‏ أي عقب كون التراب عليه من غير مهمة بخلاف ما يأتي من الربوة فإنها صفة لازمة فلو تعقبها المطر لدام بدوامها فأفسدها ‏{‏وابل‏}‏ أي مطر كثير فأزال التراب عنه ‏{‏فتركه صلداً‏}‏ أي صخراً لا يقبل النبات بوجه بل يخيب من يأمله كما يقال أصله الزند إذا لم يور، فجعل قلب المؤذي المانّ بمنزلة الصفوان الذي أصابه وابل المطر، فأذهب عائد نفقته كما أذهب بذر الحارث على الصفوان وابل المطر الذي شأنه أن يصلح البذر- قاله الحرالي وفيه تصرف‏.‏

ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله‏:‏ ‏{‏لا يقدرون‏}‏ أي الممثل لهم والممثل بهم ‏{‏على شيء مما كسبوا‏}‏ فالآية من الاحتباك ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة وكان التقدير‏:‏ فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين، عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ الذي له الحكمة كلها ‏{‏لا يهدي‏}‏ أي لوجه مصلحة‏.‏ ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال‏:‏ ‏{‏القوم الكافرين‏}‏ وفي ذكره ولهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه‏.‏

ولما فرغ من مثل العاري عن الشرط ضرب للمقترن بالشرط من الإنفاق مثلاً منبهاً فيه على أن غيره ليس مبتغى به وجه الله فقال‏:‏ ‏{‏ومثل‏}‏ قال الحرالي‏:‏ عطفاً على ‏{‏الذي ينفق ماله رئاء الناس‏}‏ ‏{‏ولا يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ عطف مقابلة وعلى ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ عطف مناسبة- انتهى‏.‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم‏}‏ أي مثل نفقاتهم لغير علة دنياوية ولا شائبة نفسانية بل ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام فلذلك صلح كل الصلاح فعري عن المن والأذى وعيرهما من الشوائب الموجبة للخلل قال الحرالي‏:‏ والمرضاة مفعلة لتكرر الرضى ودوامه- انتهى‏.‏ ‏{‏وتثبيتاً من أنفسهم‏}‏ بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم والصفح والصبر على جميع مشاق التكاليف فإن من راض نفسه بحملها على بذل المال الذي هو شقيق الروح وذلت له خاضعة وقل طمعها في اتباعه لشهواتها فسهل عليه حملها على سائر العبادات، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طمعاً في اتباع الشهوات ولزوم الدناءات، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قولهم‏:‏ لين من عطفه وحرك من نشاطه ‏{‏كمثل جنة‏}‏ أي بستان ومثل صاحبها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولما كان حرث الدنيا حباً وثمراً جعل نفقات الأخرى كذلك حباً وتمراً‏.‏ فمن أنفق في السبيل جعل مثله كالحب، ومن أنفق ابتغاء لمرضاة الله جعل مثله كالجنة التي لها أصل ثابت تدور عليها الثمرات وهي ثابتة وتستغني من الماء بما لا يستغني به الحرث لأن الحرث مستجد في كل وقت، كما أن الجهاد واقع عند الحاجة إليه والمنفق ابتغاء مرضاة الله ينفق في كل وجه دائم الإنفاق، فكان مثله مثل الجنة الدائمة ليتطابق المثلان بالممثولين، فعمت هذه النفقة جهات الإنفاق كلها في جميع سبل الخير- انتهى‏.‏

‏{‏بربوة‏}‏ أي مكان عال ليس بجبل‏.‏ قال الحرالي‏:‏ في إعلامه أن خير الجنات ما كان في الربوة لتنالها الشمس وتخترقها الرياح اللواقح، فأما ما كان من الجنان في الوهاد تجاوزتها الرياح اللواقح من فوقها فضعفت حياتها، لأن الرياح هي حياة النبات «الريح من نفس الرحمن» انتهى‏.‏ ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏أصابها وابل‏}‏ أي مطر كثير ‏{‏فأتت أكلها‏}‏ أي أخرجته بإذن الله سبحانه وتعالى حتى صار في قوة المعطي ‏{‏ضعفين‏}‏ أي مثل ما كانت تخرجه لو أصابها دون الوابل- كذا قالوا‏:‏ مثلين، والظاهر أن المراد أربعة أمثاله، لأن المراد بالضعف قدر الشيء ومثله معه فيكون الضعفان أربعة- والله سبحانه وتعالى أعلم؛ والآية من الاحتباك، ذكر المنفق أولاً دال على حذف صاحب الجنة ثانياً، وذكر الجنة ثانياً دال على حذف النفقة أولاً‏.‏

ولما كان الوابل قد لا يوجد قال‏:‏ ‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏}‏ أي فيصيبها لعلوها طل، وهو الندى الذي ينزل في الضباب‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ الطل سن من أسنان المطر خفي لا يدركه الحس حتى يجتمع، فإن المطر ينزل خفياً عن الحس وهو الطل، ثم يبدو بلطافة وهو الطش، ثم يقوى وهو الرش، ثم يتزايد ويتصل وهو الهطل، ثم يكثر ويتقارب وهو الوابل، ثم يعظم سكبه وهو الجود؛ فله أسنان مما لا يناله الحس للطافته إلى ما لا يحمله الحس كثرة- انتهى‏.‏ والمعنى أن أهل هذا الصنف لا يتطرق إلى أعمالهم فساد، غايتها أن يطرقها النقص باعتبار ضعف النيات، ولذلك كان التقدير تسبيباً عن ذلك‏:‏ فالله بما تستحقون على نياتكم عليم، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي بما ظهر منه ‏{‏بصير *‏}‏ كما هو كذلك بما بطن، فاجتهدوا في إحسان الظاهر والباطن‏.‏ وقدم مثل العاري عن الشرط عليه لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح‏.‏

ولما قدم سبحانه وتعالى أن المن مبطل للصدقة ومثله بالرياء وضرب لهما مثلاً ورغب في الخالص وختم ذلك بما يصلح للترهيب من المن والرياء رجع إليهما دلالة على الاهتمام بهما فضرب لهما مثلاً أوضح من السالف وأشد في التنفير عنهما والبعد منهما فقال- وقال الحرالي‏:‏ ولما تراجع خبر الإنفاقين ومقابلهما تراجعت أمثالها فضرب لمن ينفق مقابلاً لمن يبتغي مرضاة الله تعالى مثلاً بالجنة المخلفة، انتهى‏.‏

فقال- منكراً على من يبطل عمله كأهل مثل الصفوان بعد كشف الحال بضرب هذه الأمثال‏:‏ ‏{‏أيود أحدكم‏}‏ أي يحب حباً شديداً ‏{‏أن تكون له جنة‏}‏ أي حديقة تستر داخلها وعين هنا ما أبهمه في المثل الأول فقال‏:‏ ‏{‏من نخيل‏}‏ جمع نخلة وهي الشجرة القائمة على ساق الحية من أعلاها أشبه الشجر بالآدمي، ثابت ورقها، مغذ مؤدم ثمرها، في كليتها نفعها حتى في خشبها طعام للآدمي بخلاف سائر الشجر، مثلها كمثل المؤمن الذي ينتفع به كله ‏{‏وأعناب‏}‏ جمع عنب وهو شجر متكرم لا يختص ذهابة بجهة العلو اختصاص النخلة بل يتفرع علواً وسفلاً ويمنة ويسرة، مثله مثل المؤمن المتقي الذي يكرم بتقواه في كل جهة- قاله الحرالي‏.‏

ولما كانت الجنان لا تقوم وتدومها إلا بالماء قال‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي لكرم أرضها‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ وفي إشعاره تكلف ذلك فيها بخلاف الأولى التي هي بعل فإن الجائحة في السقي أشد على المالك منها في البعل لقلة الكلفة في البعل ولشدة الكلف في السقي- انتهى‏.‏

ولما وصفها بكثرة الماء ذكر نتيجة ذلك فقال‏:‏ ‏{‏له فيها من كل الثمرات‏}‏ أي مع النخل والعنب‏.‏ ولما ذكر كرمها ذكر شدة الحاجة إليها فقال‏:‏ ‏{‏وأصابه‏}‏ أي والحال أنه أصابه ‏{‏الكبر‏}‏ فصار لا يقدر على اكتساب ‏{‏وله ذرية ضعفاء‏}‏ بالصغر كما ضعف هو بالكبر ‏{‏فأصابها‏}‏ أي الجنة مرة من المرات ‏{‏إعصار‏}‏ أي ريح شديدة جداً‏.‏ قال الحرالي‏:‏ صيغة اشتداد بزيادة الهمزة والألف فيه من العصر وهو الشدة المخرجة لخبء الأشياء، والإعصار ريح شديدة في غيم يكون فيها حدة من برد الزمهرير، وهو أحد قسمي النار، نظيره من السعير السموم‏.‏ وقال الأصفهاني‏:‏ ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود ‏{‏فيه نار، فاحترقت‏}‏ تلك الجنة وبقي صاحبها بمضيعة مع ضعفه وثقل ظهره بالعيال وقلة المال‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من الاحتراق وهو ذهاب روح الشيء وصورته ذهاباً وحياً بإصابة قاصف لطيف يشيع في كليته فيذهبه ويفنيه؛ فجعل المثل الأول في الحب أي الذي على الصفوان لآفة من تحته‏.‏ وجعل المثل في الجنة بجائحة من فوقه كأنهما جهتا طرو العلل والآفات من جهة أصل أو فرع- انتهى‏.‏ فحال من رأى في أعماله أو آذى في صدقة ماله في يوم القيامة وأهواله كحال هذا في نفسه وعياله عند خيبة آماله، وروى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن عبيد بن عمير قال قال عمر رضي الله تعالى عنه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فيم ترون هذه الآية نزلت ‏{‏أيود أحدكم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه‏:‏ ضربت مثلاً لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أيّ عمل‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لعمل، قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ لرجل غني يعمل بطاعة الله سبحانه وتعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله»‏.‏

ولما بين لهم هذا البيان الذي أبهت بلغاء الإنس والجان نبههم على تعظيمه لتبجيله وتكريمه بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البيان ‏{‏يبين الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لكم الآيات‏}‏ أي كلها ‏{‏لعلكم تتفكرون *‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى أن يحمل نفسه على الفكر، ومن يكون كذلك ينتفع بفكره‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ فتبنون الأمور على تثبيت، لا خير في عبادة إلا بتفكر، كما أن الباني لا بد أن يفكر في بنائه، كما قال الحكيم‏:‏ أول الفكرة آخر العمل وأول العمل آخر الفكرة، كذلك من حق أعمال الدين أن لا تقع إلا بفكرة في إصلاح أوائلها السابقة وأواخرها اللاحقة، فكانوا في ذلك صنفين بما يشعر به ‏{‏لعلكم‏}‏ مطابقين للمثل متفكر مضاعف حرثه وجنته وعامل بغير فكرة تستهويه أهواء نفسه فتلحقه الآفة في عمله في حرثه وجنته من سابقه أو لاحقه- انتهى‏.‏

ولما رغب في الفعل وتخليصه عن الشوائب أتبعه المال المنفق منه فأمر بطيبه فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ‏{‏أنفقوا‏}‏ أي تصديقاً لإيمانكم ‏{‏من طيبات ما كسبتم‏}‏ وإنما قدم الفعل لأنه ألصق بالإنسان وتطييبه أعم نفعاً، ولما ذكر ما أباحه سبحانه وتعالى من أرباح التجارات ونحوها أتبعه ما أباحه من منافع النباتات ونحوها منبهاً بذلك على أن كل ما يتقلب العباد فيه من أنفسهم وغيرها نعمة منه أنشأها من الأرض التي أبدعها من العدم ترغيباً في الجود به وفي جعله خياراً حلالاً وترهيباً من الشح به وجعله ديناً أو حراماً فقال‏:‏ ‏{‏ومما أخرجنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏لكم‏}‏ نعمة منا عليكم ‏{‏من الأرض‏}‏ قال الحرالي‏:‏ قدم خطاب المكتسبين بأعمالهم كأنهم المهاجرون وعطف عليهم المنفقين من الحرث والزرع كأنهم الأنصار- انتهى‏.‏

ولما أمر بذلك أكد الأمر به بالنهي عن ضده فقال‏:‏ ‏{‏ولا تيمموا‏}‏ أي لا تتكلفوا أن تقصدوا ‏{‏الخبيث منه‏}‏ أي خاصة ‏{‏تنفقون‏}‏ قال الحرالي‏:‏ الخبيث صيغة مبالغة بزيادة الياء من الخبث وهو ما ينافر حس النفس‏:‏ ظاهره وباطنه، في مقابله ما يرتاح إليه من الطيب الذي ينبسط إليه ظاهراً وباطناً، وقال‏:‏ ففي إلاحته معنى حصر كأنهم لا ينفقون إلا منه ليتجاوز النهي من ينفق من طيبه وخبيثه على غير قصد اختصاص النفقة من الخبيث- انتهى‏.‏ ثم أوضح قباحة ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولستم بآخذيه‏}‏ أي إذا كان لكم على أحد حق فأعطاكموه ‏{‏إلا أن تغمضوا‏}‏ أي تسامحوا ‏{‏فيه‏}‏ بالحياء مع الكراهة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من الإغماض وهو الإغضاء عن العيب فيما يستعمل، أصله من الغمض وهي نومة تغشي الحس ثم تنقشع، وقال‏:‏ ولما كان الآخذ هو الله سبحانه وتعالى ختم بقوله‏:‏ ‏{‏واعلموا‏}‏ انتهى‏.‏

وعبر بالاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏أن الله‏}‏ المستكمل لجميع صفات الكمال من الجلال والجمال ‏{‏غني‏}‏ يفضل على من أسلف خيراً رغبة فيما عنده وليست به حاجة تدعوه إلى أخذ الرديء ولا رغبكم في أصل الإنفاق لحاجة منه إلى شيء مما عندكم وإنما ذلك لطف منه بكم ليجري عليه الثواب والعقاب ‏{‏حميد *‏}‏ يجازي المحسن أفضل الجزاء على أنه لم يزل محموداً ولا يزال عذب أو أثاب‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهي صيغة مبالغة بزيادة ياء من الحمد الذي هو سواء أمر الله الذي لا تفاوت فيه من جهة إبدائه وافق الأنفس أو خالفها‏.‏

ولما رغب سبحانه وتعالى في الإنفاق وختم آياته بما يقتضي الوعد من أصدق القائلين بالغنى والإثابة في الدارين أتبعه بما للعدو الكاذب من ضد ذلك فقال محذراً من البخل- في جواب من كأنه قال‏:‏ هذا ما لا يشك فيه فما للنفوس لا توجد غالباً إلا شحيحة بالإنفاق-‏:‏ ‏{‏الشيطان‏}‏ أي الذي اسمه أسوأ الأسماء، فإنه يقتضي الهلاك والبعد، وأحد الوصفين كاف في مجانبته فكيف إذا اجتمعا‏!‏ ‏{‏يعدكم الفقر‏}‏ المانع من الإنفاق‏.‏ قال الحرالي‏:‏ الذي لخوفه تقاطع أهل الدنيا وتدابروا وحرصوا وادخروا‏.‏ وكل ذلك لا يزيل الفقر، كل حريص فقير ولو ملك الدنيا، وكل مقتنع غني، ومن حق من كان عبداً لغني أن يتحقق أنه غني يغني سيده، ففي خوف الفقر إباق العبد عن ربه؛ والفقر فقد ما إليه الحاجة في وقت من قيام المرء في ظاهره وباطنه- انتهى‏.‏ ‏{‏ويأمركم بالفحشاء‏}‏ المبطلة له من المن والأذى وغيرهما من مستلذات الأنفس وربما كان فيها إتلاف الأموال وإذهاب الأرواح‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ وكل ما اجتمعت عليه استقباحات العقل والشرع والطبع فهو فحشاء، وأعظم مراد بها هنا البخل الذي هو أدوأ داء، لمناسبة ذكر الفقر، وعليه ينبني شر الدنيا والآخرة ويلازمه الحرص ويتابعه الحسد ويتلاحق به الشر كله انتهى وفيه تصرف‏.‏

ولما ذكر ما للعدو من الشر أتبعه سبحانه وتعالى بما له من الخير فقال مصرحاً بما تقدم التلويح به‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى الرحيم الودود ‏{‏يعدكم مغفرة منه‏}‏ لما وقع منكم من تقصير، وفيه إشعار بأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره لما له من الإحاطة بصفات الكمال ولما جبل عليه الإنسان من النقص ‏{‏وفضلاً‏}‏ بالزيادة في الدارين، وكل نعمة من فضل؛ ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل كمال ‏{‏واسع‏}‏ لتضمنه معنى حليم غني، وأتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏عليم *‏}‏ إشارة إلى أنه لا يضيع شيئاً وإن دق‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي إشعاره توهين لكيد الشيطان ووعد كريم للمفتون بخوف الفقر وعمل الفحشاء لما علمه من ضعف الأنفس وسرعة قبولها من الوسواس- انتهى‏.‏ فختم آخر آيات الأمثال بما ختم به أولها ترغيباً وترهيباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏269- 274‏]‏

‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏269‏)‏ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏270‏)‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏271‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏272‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏273‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏274‏)‏‏}‏

ولما انقضى الكلام في الإنفاق والمال المنفق على هذا الأسلوب الحكيم تصريحاً وتلويحاً وختم ذلك بهاتين الصفتين وتضمن ذلك مع التصريح بأنه عليم أنه حكيم أتبع ذلك الوصف بأن من سعته وعلمه وحكمته أنه يهب من صفاته ما يشاء لمن يشاء بأن يؤتيه الحكمة فيوقفه على علم ما خفي من هذه الأمثال المتقنة والأقوال الحسنة تصريحاً وتلويحاً ويوفقه للعمل بذلك إنشاء وتصحيحاً فقال تعالى منبهاً على ترجيح العمل بأمر الرحمن وقبول وعده بأنه على مقتضى العقل والحكمة وأن أمر الشيطان ووعده على وفق الهوى والشهوة‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ ولما أبدى سبحانه وتعالى أمر الآخرة وأظهر ما فيها وبين أمر الدنيا من الترتيب والتسبيب ورجع بعضها على بعض عوداً على بدء أنبأ تعالى أن ذلك من حكمته وأنهى الحكمة لما فيها من استيفاء حكمة الدارين فليس الحكيم من علم أمر الدنيا بل من علم أمر ما بين الدنيا والآخرة فداوى أدواء الدنيا بدواء الآخرة وداوى النفس بدواء الدارين وضم جوامعها في تيسير الكلم كما ضمّها لمن اصطفاه ‏{‏ذلك مما أوحى إليك ربّك من الحكمة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 39‏]‏ فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة‏}‏ انتهى‏.‏ وفي ترتيبها على واسع عليم بعد غني حميد بعد عزيز حكيم التحذير من التعريض لإنفاق ما يرده لعزته وغناه وسعته ويذم عليه لعلمه لرداءته أو فساد في نيته وإن خفي فإن ذلك خارج عن منهاج الحكمة منا ومقتضى الحكمة منه سبحانه وتعالى كما وقع لقابيل إذ قرب رديئاً كما هو مشهور في قصته، ولعله لوح إليه بالتذكر في ختام هذه الآية ثم بقوله‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ فصار كأنه قال سبحانه وتعالى‏:‏ واعلم أن الله عزيز حكيم يؤتي الحكمة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم ‏{‏من يشاء‏}‏ من عباده، ثم مدح من حلاه بها فقال مشيراً ببناء الفعل للمفعول إلى أنها مقصودة في نفسها‏:‏ ‏{‏ومن يؤت الحكمة‏}‏ أي التي هي صفة من صفاته، وأشار بالتعريف إلى كمالها بحسب ما تحتمله قوى العبيد، والحكمة قوة تجمع أمرين‏:‏ العلم المطابق وفعل العدل وهو العمل على وفق العلم‏.‏ قال الأصبهاني‏:‏ والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن كمال الإنسان ليس إلا هاتين القوتين ‏{‏فقد أوتي خيراً كثيراً‏}‏ قال الحرالي ما معناه‏:‏ إنه نكرة لما في الحكمة من التسبب الذي فيه كلفة ولو يسرت فكان الخير الكثير المعرف في الكلمة لما فيها من اليسر والحياطة والإنالة الذي لا ينال منه منال بسبب وإنما هو فضله يؤتيه من يشاء فيصير سبحانه وتعالى سمعه وبصره- إلى آخره‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن ذلك الذي أوتي الحكمة يصير ذا لبّ فيتأهل لأن يتذكر بما يلقيه الله سبحانه وتعالى من كلمته ما بثّ في الأنفس والآفاق من حكمته وصل به قوله‏:‏ ‏{‏وما يذكر‏}‏ أي بكلام الله سبحانه وتعالى حكمه ‏{‏إلا أولوا الألباب *‏}‏ أي أصحاب العقول الصافية عن دواعي الهوى المنبعثة من التوهمات الحاصلة عن الوسوسة فهم يترقون بالتذكر بأنهم لا حول لهم عن المسببات إلى أسبابها إلى أن يصلوا إلى مسببها فيعرفوه حق معرفته‏.‏

وقال الحرالي‏:‏ الذين لهم لب العقل الذي ينال لب الحس كأن الدنيا قشر تنال بظاهر العقل، والآخرة لب تنال بلب العقل ظاهراً لظاهر وباطناً لباطن، من تذكر ابتداء من الابتداءات السابقة ورد عليه فضل الله منه، من رجع من حسه إلى نفسه تنشأت له أوصاف الفضائل النفسانية وترقى عما في محسوسه من المهاوي الشهوانية، ومن تخلص من نفسه إلى روحه تحسس بالوصلة الرحمانية والمحبة الربانية، كذلك من ترقى من روحه إلى أمره تحقق بالإحاطة الوحدانية، ومن استبطن من أمره إلى سره اجتمع إلى الأولية الفردانية؛ فهذا الترتيب من كمالات هذه الحكمة المؤتاة المنزلة بالوحي في هذا الكتاب الجامع لنبأ ما سبق وخبر ما لحق وباطن ما ظهر أنهى تعالى إلى ذكرها أعمال الخلق وخصوصاً في الجود بالموجود كما أنهى إقامة مبنى الدين بظهور وجوده، فأنهى تنزيل أمره بظهور وجوده وأنهى استخلاف عباده بالانتهاء إلى مدد جوده، فكان أعلى الحكمة الجود بالموجود فبذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- اتصل ذكر آية الحكمة بالإنفاق نظماً وبآية الكرسي مناظرة- انتهى‏.‏

ولما كان السياق سابقاً ولاحقاً للإنفاق علم أن التقدير‏:‏ فما جمعتم من شيء فإن الله مطالبكم في وضعه وجمعه بوجه الحكمة ومحاسبكم على ذلك، فعطف عليه حثّاً على الإسرار بالنفقة في الخير والوفاء بالنذر وتحذيراً من الإنفاق في المعصية ولو على أدق الوجوه بأنه يعلم ذلك كله ويجازي عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أنفقتم من نفقة‏}‏ أي في وجه من الوجوه، فدخل فيه جميع التوسعات المشروعات عند النكاح والختان والولادة واتخاذ المسكن وفي الدعوات للإخوان وغير ذلك‏.‏

ولما كان الإنسان كثيراً ما يخشى فوات أمر فينذر إن حصل بنفقة في وجه خير ونحو ذلك ولكن ربما ظن أن الترغيب في الإنفاق خاص بما ندب الله إليه ابتداء لا بما ألزمه الإنسان نفسه قال ‏{‏أو نذرتم من نذر‏}‏ وإدخال من لتأكيد الاستغراق‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والنذر إبرام العدة بخير يستقبل فعله أو يرتقب له ما يلتزم به وهو أدنى الإنفاق لا سيما إذا كان على وجه الاشتراط، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنما يستخرج به من البخيل» انتهى‏.‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ عظم الأمر بهذا الاسم الأعظم ‏{‏يعلمه‏}‏ ذكر الضمير لأنه مع وضوح عوده إلى المتقدم أشد تعظيماً للنذر لما قد يتوهم فيه من النقص عن مندوب الشرع فتحروا في طيب ذلك والوفاء به وجميع ما يدخل فيه من الأوامر والنواهي تحري من يطلب إرضاء ملك عظيم بما يهدي إليه ويعرضه عليه، فما تصرفتم فيه بالحكمة من إنفاق أو غيره فالله سبحانه وتعالى يجازيكم عليه على حسب ما ذكر لكم من التضعيف، ومن فعل منكم شيئاً منه على غير وجه الحكمة فهو ظالم واضع للشيء في غير موضعه فهو مردود عليه ومعاقب به وما له من ناصر، هكذا كان الأصل ولكنه سبحانه وتعالى عم وعلق الحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏وما للظالمين‏}‏ أي الواضعين للشيء في غير موضعه ‏{‏من أنصار *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ ففي إفهامه أن الله آخذ بيد السخي وبيد الكريم كلما عثر فيجد له نصيراً ولا يجد الظالم بوضع القهر موضع البر ناصراً، وفيه استغراق نفي بما تعرب عنه كلمة من- انتهى‏.‏

ولما كان حال الإنفاق المحثوث عليه يختلف بالسر والجهر فكان مما يسأل عنه قال سبحانه وتعالى حاثاً على الصدقة في كلتا الحالتين مع ترجيح الإسرار لما فيه من البعد عن الرياء‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏ أي المتطوع بها، قال الحرالي‏:‏ وهي من أدنى النفقة ولذلك لا تحل لمحمد ولا لآل محمد لأنها طهرة وغسول يعافها أهل الرتبة العلية والاصطفاء، وقال‏:‏ والهدية أجل حق المال لأنها لمن فوق رتبة المهدي والهبة لأنها للمثل ‏{‏فنعماً هي‏}‏ فجمع لها الأمداح المبهمة لأن نعم كلمة مبالغة تجمع المدح كله وما كلمة مبهمة تجمع الممدوح فتطابقتا في الإبهام؛ وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح‏:‏ إن نِعْم،، وبِئْس للمبالغة فالمراد بهما التناهي في المدح والذم ولاختصاصهما بهذا المعنى منعتا التصرف، واقتصر بهما على المعنى لأن المدح والذم إنما يكونان متعلقين بما ثبت واستقر، لا يمدح الإنسان بما لم يقع منه- انتهى‏.‏ ‏{‏وإن تخفوها‏}‏ حتى لا يعلم بها إلا من فعلتموها له‏.‏ ولما كان المقصود بها سد الخلة قال‏:‏ ‏{‏وتؤتوها الفقراء فهو‏}‏ أي فذلك الإخفاء والقصد للمحتاج ‏{‏خير لكم‏}‏ لأنه أبعد عن الرياء وأقرب إلى الإخلاص الذي هو روح العبادات، وفي تعريفها وجمعها ما ربما أشعر بعموم الفرض والنفل لما في إظهار المال الخفي من التعرض للظلم والحسد وفي إفهام السياق أن الصدقة تجوز على الغني‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فإنا نرفع بها درجاتكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏ أي التي بيننا وبينكم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا تخافوا من إخفائها أن يضيع عليكم شيء منها فإن الله بكل ما فعلتموه منها عليم، عطف عليه تعميماً وترغيباً وترهيباً‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له كل كمال ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي من ذلك وغيره ‏{‏خبير *‏}‏ فلم يدع حاجة أصلاً إلى الإعلان فعليكم بالإخفاء فإنه أقرب إلى صلاح الدين والدنيا فأخلصوا فيه وقروا عيناً بالجزاء عليه‏.‏

ولما حث سبحانه وتعالى على وجوه الخير ورغب في لزوم الهدى وكان أكثرهم معرضين، لأن ما دعا إليه هادم لما جبلوا عليه من الحب لتوفير المال والحفيظة على النفس، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الأسف عليهم دائم القلق من أجلهم لعظيم رحمته لهم وشفقته عليهم، فكان يجد من تقاعدهم عما يدعوهم إليه من هذه الحالة العلية التي هي حكمة الله التي رأسها الإيمان بالله واشتراء الآخرة بكلية الدنيا وجداً شديداً، خفض سبحانه وتعالى عليه الأمر وخفف عليه الحال فقال‏:‏ ‏{‏ليس عليك‏}‏ أي عندك ‏{‏هداهم‏}‏ حتى تكون قادراً عليه، فما عليك إلا البلاغ، وأما خلق الهداية لهم فليس عليك ولا تقدر عليه ‏{‏ولكن الله‏}‏ الذي لا كفوء له هو القادر على ذلك وحده فهو ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ فظهر من هذا أنه يتعين أن يكون عليك بمعنى عندك ومعك ونحو ذلك، لأن لكن للاستدراك وهو أن يكون حكم ما بعدها مخالفاً لما قبلها وكلام أهل اللغة يساعد على ذلك، قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي‏:‏ في حديث عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما‏:‏ كنت أضحي بالجذع وعلينا ألف شاة، معناه‏:‏ وعندنا ألف شاة، تقول العرب‏:‏ علينا كذا وكذا، أي مننا- فسره قاسم؛ انتهى‏.‏ وهو يرجع إلى القدرة كما تقول‏:‏ عليّ رضى فلان، أي أنا مطيق لذلك قادر على حمله، فالمعنى‏:‏ لست تقدر على إيجاد الاهتداء فيهم أصلاً وإنما ذلك إلى الله سبحانه وتعالى فهو يهدي من يشاء فيفعل ما يقدره سبحانه له من وجوه الهدى من نفقة وغيرها‏.‏ قال الحرالي ما معناه‏:‏ إن الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أول مراد بهذه الجملة لأنه سبحانه وتعالى جعل فيهم نصرة دينه‏.‏

ولما كان المقصود الأعظم في هذه الحكمة وهذا الهدى إنما هو الهدى للتوسل إلى الجواد بالجود بالنفس والمال النائل عموماً القريب والبعيد والمؤمن والكافر بمنزلة المطر الجود الذي يأخذ السهل والجبل حتى كان هذا الخطاب صارفاً لقوم تحرجوا من الصدقة على فقراء الكفار وصلة قراباتهم منهم فحملوا على عموم الإنفاق- انتهى‏.‏ فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير‏}‏ أي مال ومعروف على مؤمن أو كافر يحل فعل ذلك معه ولو قل «لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» ‏{‏فلأنفسكم‏}‏ كما قيل له صلى الله عليه وسلم عن شاة ذبحت‏:‏ ذهبت أي بالهدية والصدقة إلا رقبتها‏!‏ فقال‏:‏ بقيت إلا رقبتها‏!‏ فهو يفهم أنكم إن بخلتم أو مننتم فإنما تفعلون ذلك بأنفسكم‏.‏

ولما كان الكلام في النفقة مع المؤمنين المنفقين وفي سبيل الله وعبر عنها بالخير وكل ذلك إشارة إلى الإخلاص الحري بحال المؤمن فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنكم ما ‏{‏تنفقون إلا ابتغاء‏}‏ أي إرادة‏.‏

ولما كان تذكر الوجه لما له من الشرف أدعى إلى الاجتهاد في تشريف العمل بإحسانه وإخلاصه قال‏:‏ ‏{‏وجه الله‏}‏ أي الملك الأعظم من سد خلة فقير أو صلة رحم مسلم أو كافر تجوز الصدقة عليه لا لأنفسكم ولا غيرها بل تخلصاً من إمساك المال بأداء الأمانة فيه إلى عباد الله لأنهم عباده، هذا هو الذي يدعو إليه الإيمان فلا يظن لمؤمن أن يفعل غيره وذلك يقتضي البعد جداً عن الأذى والرياء وكل نقيصة والملابسة لكل ما يوجب القبول من الكمال الحسي والمعنوي‏.‏

ولما كان الإيقان بالوفا مرغباً في الإحسان ومبعداً من الإساءة والامتنان خوفاً من جزاء الملك الديان قال ‏{‏وما تنفقوا من خير‏}‏ أي على أي وجه كان وبأي وصف كان التصدق والمتصدق عليه ‏{‏يوف‏}‏ أي يبالغ في وفائه بالتضعيف واصلاً ‏{‏إليكم وأنتم لا تظلمون *‏}‏ أي لا يقع عليكم ظلم في ترك شيء مما أنفقتموه ولا في نقص مما وعدتموه من التضعيف إن أحسنتم والمماثلة إن أسأتم‏.‏

ولما كان غالب هذه الأحكام التي ذكرت في الإنفاق من أجل المحاويج وكان ما مضى شاملاً للمؤمن وغيره بيّن أن محط القصد في الحثّ عليها المؤمن قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏للفقراء‏}‏ أي هذه الأحكام لهم ‏{‏الذين أحصروا‏}‏ أي منعوا عن التكسب، وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام إلى أن المقعد لهم عن ذلك الاشتغال بإقامة الدين بالجهاد وغيره ‏{‏لا يستطيعون ضرباً في الأرض‏}‏ بالتجارة لأجل ذلك وأشار إلى شدة رضاهم عن الله سبحانه وتعالى بعدم شكايتهم فقال‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل‏}‏ أي الذي ليس عنده فطنة الخلص ‏{‏أغنياء من‏}‏ أجل ‏{‏التعفف‏}‏ عن المسألة والتلويح بها قناعة بما أعطاهم الله سبحانه وتعالى مولاهم ورضي عنه وشرف نفس، والتعفف تكلف العفة وهي كف ما ينبسط للشهوة من الآدمي إلا بحقه ووجهه- قاله الحرالي‏.‏

ولما ذكر خفاءهم على الغبي ذكر جلاءهم عند المتوسم فقال‏:‏ ‏{‏تعرفهم‏}‏ أي يا أبصر الموقنين وأفطنهم أنت ومن رسخت قدمه في متابعتك ‏{‏بسيماهم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وهي صيغة مبالغة من السمة والوسم وهي العلامة الخفية التي تتراءى للمستبصر- انتهى‏.‏ وتلك العلامة والله سبحانه وتعالى أعلم هي السكينة والوقار وضعف الصوت ورثاثة الحال مع علو الهمة والبراءة من الشماخة والكبر والبطر والخيلاء ونحو ذلك ‏{‏لا يسئلون‏}‏ لطموح أبصار بصائرهم عن الخلق إلى الخالق ‏{‏الناس‏}‏ من ملك ولا غيره ‏{‏إلحافاً‏}‏ سؤال إلزام، أخذاً من اللحاف الذي يتغطى به للزومه لما يغطيه، ومنه لاحفه أي لازمه‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ هو لزوم ومداومة في الشيء من حروف الحلف الذي هو إنهاء الخبر إلى الغاية كذلك اللحف إنهاء السؤال إلى الغاية- انتهى‏.‏ وإنما يسألون إن سألوا على وجه العرض والتلويح الخفي، كما كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يستقرئ غيره الآية ليضيفه وهو أعرف بها ممن يستقرئه فلا يفهم مراده إلا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالتعبير بالتعفف يفيد الاجتهاد في العفة والمبالغة فيها، والتقيد بالإلحاف يدل على وقوع السؤال قليلاً جداً أو على وجه التلويح لا التصريح كما يؤيده ويؤكده المعرفة بالسيما‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى أخفى مواضع النفقة أشار إلى إخفائها لا سيما في ذلك الموضع فقال‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير‏}‏ أي في أي وقت أنفقتموه ‏{‏فإن الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏به عليم *‏}‏ وإن اجتهدتم في إخفائه بإعطائه لمن لا يسأل بأن لا يعرف أو بغير ذلك، وذكر العلم في موضع الجزاء أعظ مرغب وأخوف مرهب كما يتحقق ذلك بإمعان التأمل لذلك‏.‏

ولما حض على النفقة فأكثر وضرب فيها الأمثال وأطنب في المقال ولم يعين لها وقتاً كان كأن سائلاً قال‏:‏ في أي وقت تفعل‏؟‏ فبين في آية جامعة لأصناف الأموال والأزمان والأحوال أنها حسنة في كل وقت وعلى كل حال فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم‏}‏ أي في الوجوه الصالحة التي تقدم التنبيه عليها وقدم من المتقابلين ما كان أقرب إلى الإخلاص اهتماماً به دلالة على فضله فقال‏:‏ ‏{‏بالليل‏}‏ إن اقتضى ذلك الحال ‏{‏والنهار‏}‏ إن دعتهم إلى ذلك خطة رشد ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ كذلك‏.‏

ولما كان الانتهاء عن المن والأذى في بعض الأحوال أشد ما يكون على النفس لما يرى من المنفق عليه من الغض ونحو ذلك فلا يكاد يسلم منه أحد‏.‏

ابتدأ الجزاء في آيته من غير ربط بالفاء إشارة إلى العفو عما يغلب النفس منه تنزيلاً له منزلة العدم، وإيماء إلى تعظيمه بكونه ابتداء عطية من الملك، ترغيباً في الكف عنه، لأنه منظور إليه في الجملة، وربط الجزاء في هذه إعلاماً بأنه مسبب عن هذه الأحوال، لأن الأفعال أيسر من التروك فحصوله متوقف على حصولها، حثاً على الإتيان بها كلها للسهولة في ذلك، لأن من سمح بالإنفاق لله سبحانه وتعالى استوت عنده فيه الأوقات فقال‏:‏ ‏{‏فلهم أجرهم‏}‏ وسببيته كونه علامة لحصول الأجر، لا أنه سبب حقيقي، إنما السبب الحقيقي رحمة الله بالتوفيق للعمل والاعتداد به، وأعلم بأنه محفوظ مضاعف مربي لا يضيع أصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي فهو يربي نفقاتهم ويزكيها كما رباهم، ثم ختم آي النفقات بما بدأها به من الأمن والسرور فقال‏:‏ ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ كما فرحوا بها عن غيرهم ‏{‏ولا هم يحزنون *‏}‏ لأنه لا ثواب أعظم من ذلك، إذ لا عيشة لحزين ولا خائف؛ ولشدة مشاق الإنفاق على الأنفس لا سيما في أول الإسلام لما كانوا فيه من الضيق أكد تعالى فيه هذا التأكيد بجملته وبينه هذا البيان الواضح حتى لم يبق فيه خفية وجه إلا أظهرها وحذر منها وقررها- أشار إلى ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي فقال‏:‏ فأفضلهم المنفق ليلاً سراً‏.‏ وأنزلهم المنفق نهاراً علانية؛ فهم بذلك أربعة أصناف- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏275- 276‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏275‏)‏ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ‏(‏276‏)‏‏}‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد ذكر النفقة مما أفاض عليهم من الرزق من أول السورة إلى هنا في غير آية، ورغب فيها بأنواع من الترغيب في فنون من الأساليب، وكان الرزق يشمل الحلال والحرام، وكان مما يسترزقون به قبل الإسلام الربا، وهو أخذ مجاناً، وهو في الصورة زيادة وفي الحقيقة نقص وعيب، ضد ما تقدم الحث عليه من الإعطاء مجاناً، وهو في الظاهر نقص وفي الباطن زيادة وخير؛ نهاهم عن تعاطيه ونفرهم منه، وبين لهم حكمه وأنه خبيث لا يصلح لأكل ولا صدقة، وجعل ذلك في أسلوب الجواب لمن قال هل يكون النفقة المحبوبة المحثوث عليها من كل مال‏؟‏ فأجاب بقوله‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ ولما كان حال المنفق لا سيما المبتغي وجه الله سبحانه وتعالى أفضل الأحوال، وهو الحال الذي دعوا إليه؛ نظم به أدنى الأحوال، وهو الذي يتوسل به إلى الأموال بالربا، فأفضل الناس المنفق، وشر الناس المربي؛ فنظم به خطاب الربا فقال‏:‏- ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان من الصحابة من أكل الربا عبر بالمضارع إشارة إلى أن هذا الجزاء يخص المصر فقال‏:‏ ‏{‏يأكلون الربا‏}‏ وهو الزيادة من جنس المزيد عليه المحدود بوجه ما- انتهى‏.‏ فجرى على عادة هذا الذكر الحكيم في ذكر أحد الضدين بعد الآخر، وعبر بالأكل عن التناول، لأنه أكبر المقاصد وأضرها ويجري من الإنسان مجرى الدم كالشيطان ‏{‏لا يقومون‏}‏ أي عند البعث يظهر ثقله في بطونهم فيمنعهم النشاط ويكون ذلك سيماهم يعرفون به بين أهل الموقف هتكاً لهم وفضيحة‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة، ففي إعلامه إيذان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخرق لا بعقل، يقبل في محل الإدبار ويدبر في محل الإقبال انتهى‏.‏ وهو مؤيد بالمشاهدة فإنا لم نر ولم نسمع قط بآكل ربا ينطق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة بل هم أدنى الناس وأدنسهم ‏{‏إلا كما يقوم‏}‏ المصروع ‏{‏الذي يتخبطه‏}‏ أي يتكلف خبطه ويكلفه إياه ويشق به عليه ‏{‏الشيطان‏}‏ ولما كان ذلك قد يظن أنه يخبط الفكر بالوسوسة مثلاً قال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي تخبطاً مبتدئاً من ‏{‏المس‏}‏ أي الجنون، فأشار سبحانه وتعالى بذلك إلى المنع من أن تكون النفقة من حرام ولا سيما الربا، وإلى أن الخبيث المنهي عن تيمم إنفاقه قسمان‏:‏ حسي ومعنوي، والنهي في المعنوي أشد‏.‏ وقال البيضاوي تبعاً للزمخشري‏:‏ وهو أي التخبط والمس وارد على ما يزعمون أي العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله- انتهى‏.‏ وظاهره إنكار ذلك وليس بمنكر بل هو الحق الذي لا مرية فيه، قال المهدوي في تفسيره‏:‏ وهذا دليل على من أنكر أن الصرع من جهة الجن وزعم أنه فعل الطبائع‏.‏

وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد‏:‏ وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشياطين مما انعقد عليه إجماع الآراء ونطق به كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وحكي مشاهدة الجن عن كثير من العقلاء وأرباب المكاشفات من الأولياء، فلا وجه لنفيها؛ وقال‏:‏ الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة، والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية؛ ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الناس ولا يرون بحس البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات- انتهى‏.‏ وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن «الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وورد «أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب» ونحو ذلك؛ وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك، فأما مشاهدة المصروع يخبر بالمغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان يلقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع، فكثير جداً لا يحصى مشاهدوه- إلى غير ذلك من الأمور الموجبة للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطين؛ وها أنا أذكر لك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم من كتب الله القديمة ما فيه مقنع لمن تدبره- والله سبحانه وتعالى الموفق‏:‏ روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ «أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند أغدائنا وعشائنا فيخبث علينا، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا فثعّ ثعة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود» فثعّ ثعة بمثلثة ومهملة أي قاء وللدارمي أيضاً وعبد بن حميد بسند صحيح حسن أيضاً عن جابر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلنا، فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال‏:‏ اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثلاثاً‏!‏ ثم دفعه إليها» وأخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع وأن ذلك في حرة واقم، قال جابر‏:‏ «فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعد ذلك‏!‏ فقال‏:‏ خذوا منها واحداً وردوا عليها الآخر»

وروى البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله تعالى عنه‏.‏ وفي الإنجيل من ذلك كثير جداً، قال في إنجيل متى ولوقا ومُرقُس يزيد أحدهم على الآخر وقد جمعت بين ألفاظهم‏:‏ وجاء يعني عيسى عليه الصلاة والسلام إلى عبر البحر إلى كورة الجرجسيين، وقال في إنجيل لوقا‏:‏ التي هي مقابل عبر الجليل، فلما خرج من السفينة استقبله مجنون، قال لوقا‏:‏ من المدينة معه شياطين، وقال متى مجنونان جائيان من المقابر رديئان جداً حتى أنه لم يقدر أحد أن يجتاز من تلك الطريق فصاحا قائلين‏:‏ ما لنا ولك يا يسوع‏!‏ جئت لتعذبنا قبل الزمان؛ قال لوقا‏:‏ وكان يربط بالسلاسل والقيود ويحبس، وكان يقطع الرباط ويقوده الشيطان إلى البراري، فسأله يسوع‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ لاجاون، لأنه دخل فيه شياطين كثيرة؛ وقال مرقس‏:‏ فقال له‏:‏ اخرج أيها الروح النجس‏!‏ اخرج من الإنسان، ثم قال له‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فقال‏:‏ لاجاون اسمي لأنا كثير، وطلب إليه أن يرسلهم خارجاً من الكورة؛ وكان هناك نحو الجبل قطيع خنازير كثيرة يرعى بعيداً منهم، فطلب إليه الشياطين قائلين‏:‏ إن كنت تخرجنا فأرسلنا إلى قطيع الخنازير فقال لهم‏:‏ اذهبوا، وقال مرقس‏:‏ فأذن لهم يسوع، فللوقت خرجت الأرواح النجسة ودخلت في الخنازير وقال‏:‏ متى‏:‏ فلما خرجوا ومضوا في الخنازير وإذا بقطيع خنازير قد وثب على جرف وتواقع في البحر ومات جميعه في المياه، وأن الرعاة هربوا ومضوا إلى المدينة وأخبروهم بكل شيء وبالمجنونين، فخرج كل من في المدينة للقاء يسوع؛ قال مرقس‏:‏ وأبصروا ذلك المجنون جالساً لابساً عفيفاً فخافوا، فلما أبصروه- يعني عيسى عليه الصلاة والسلام- طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم؛ قال لوقا‏:‏ لأنهم خافوا عظيماً، وقال مرقس‏:‏ فلما صعد السفينة طلب إليه المجنون أن يكون معه فلم يدعه يسوع لكن قال له امض إلى بيتك وعرفهم صنع الرب بك ورحمته إياك، فذهب وكرز في العشرة مدن، وقال كل ما صنع به يسوع فتعجب جميعهم؛ وفي إنجيل لوقا معناه، وفي آخره‏:‏ فذهب وكان ينادي في المدينة كلها بكل ما صنعه معه يسوع؛ وفي إنجيل متى‏:‏ فلما خرج يسوع من هناك قدموا إليه أخرس به شيطان، فلما خرج الشيطان تكلم الأخرس، فتعجب الجميع قائلين‏:‏ لم يظهر قط هكذا في بني إسرائيل، فقال الفريسيون‏:‏ إنه باركون الشياطين يخرج الشياطين‏.‏

ثم قال‏:‏ حينئذ أتى إليه بأعمى به شيطان أخرس، فأبرأه حتى أن الأخرس تكلم وأبصر، فبهت الجمع كلهم وقالوا‏:‏ لعل هذا هو ابن داود، فتسمع الفريسيون فقالوا‏:‏ هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين‏.‏

وفيه بعد ذلك‏:‏ فلما جاء إلى الجمع جاء إليه إنسان ساجداً له قائلاً‏:‏ يا رب‏!‏ وفي إنجيل لوقا‏:‏ يا معلم‏!‏ ارحم ابني، فإنه يعذب في رؤوس الأهلة، ومراراً كثيرة يريد أن ينطلق في النار، ومراراً كثيرة في الماء؛ وفي إنجيل مرقس‏:‏ قد أتيتك يا بني‏!‏ وبه روح نجس وحيث ما أدركه صرعه وأزبده وضرر أسنانه فتركه يابساً، وفي إنجيل لوقا‏:‏ أضرع إليك أن تنظر إلى ابني، لأنه وحيدي، وروح يأخذه فيصرخ بغتة ويلبطه بجهل، ويزيد عند انفصاله عنه ويرضضه، وضرعت لتلاميذك أن يخرجوه فلم يقدروا؛ وفي إنجيل متى‏:‏ وقدمته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يبرئوه، أجاب يسوع‏:‏ أيها الجيل الأعوج الغير مؤمن‏!‏ إلى متى أكون معكم‏!‏ وحتى متى أحتملكم‏!‏ قدمه إلى هنا؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ وفيما هو جاء به طرحه الشيطان ولبطه؛ وفي إنجيل مرقس‏:‏ فلما رأته الروح النجسة من ساعته صرعته وسقط على الأرض مضطرباً مزبداً؛ ثم قال لأبيه‏:‏ من كم أصابه هذا‏؟‏ فقال‏:‏ منذ صباه، ثم قال ما معناه‏:‏ افعل معه ما استطعت وتحنن علينا، فقال له يسوع‏:‏ كل شيء مستطاع للمؤمن، فصاح أبو الصبي وقال‏:‏ أنا أومن فأعن ضعف إيماني، فلما رأى يسوع تكاثر الجمع انتهر الروح النجس وقال‏:‏ يا أيها الروح الأصم الغير ناطق‏!‏ أنا آمرك أن تخرج منه ولا تدخل فيه، فصرخ ولبطه كثيراً وخرج منه وصار كالميت، وقال كثير‏:‏ إنه مات، فأمسك يسوع بيده وأقامه فوقف؛ وفي إنجيل متى‏:‏ فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان وبرئ الفتى في تلك الساعة، حينئذ أتى التلامذة إلى يسوع منفردين وقالوا له‏:‏ لماذا لم نقدر نحن نخرجه‏؟‏ فقال لهم يسوع‏:‏ من أجل قلة إيمانكم، الحق أقول لكم أن لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل‏:‏ انتقل من هاهنا إلى هناك، فينتقل ولا يعسر عليكم شيء، وهذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة؛ وقال مرقس‏:‏ لا يستطاع أن يخرج بشيء إلا بصلاة وصوم؛ وقال في إنجيل مرقس‏:‏ إنه كان يعلم في كفرناحوم مدينة في الجليل، قال‏:‏ وكان في مجمعهم رجل فيه روح شيطان نجس فصاح بصوت عظيم قائلاً‏:‏ ما لنا ولك يا يسوع الناصري‏!‏ أتيت لتهلكنا‏!‏ قد عرفنا من أنت يا قدوس الله‏!‏ فنهره يسوع قائلاً‏:‏ اسدد فاك واخرج منه‏!‏ فأقلقته الروح النجسة وصاح بصوت عظيم وخرج منه؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ فطرحه الشيطان في وسطهم وخرج منه ولم يؤلمه وخاف الجمع مخاطبين بعضهم بعضاً قائلين‏:‏ ما هو هذا العلم الجديد الذي سلطانه يأمر الأرواح النجسة فتطيعه‏!‏ وخرج خبره في كل كورة الجليل؛ وفيه‏:‏ ثم قام من هناك وذهب إلى تخوم صور وصَيْدا ودخل إلى بيت فأراد أن لا يعلم أحد به، فلم يقدر أن يختفي، فلما سمعت امرأة كانت بابنة لها روح نجس جاءت إليه وسجدت قدام قدميه، وكانت يونانية صورية، وسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها، فقال لها‏:‏ دعي البنين حتى يشبعوا أولاً، لا تحسبنّ أن يؤخذ خبز البنين يدفع للكلاب، وأجابت بنعم يا رب‏!‏ والكلاب أيضاً تأخذ مما يسقط من المائدة من فتات الأطفال، فقال لها من أجل هذه الكلمة‏:‏ اذهبي قد خرج الشيطان من ابنتك، فذهبت إلى بنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها؛ وفي آخر إنجيل مرقس‏:‏ إنه أخرج من مريم المجدلانية سبعة شياطين؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة وقرية ويكرز ويكبر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة‏:‏ مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين ومرثا امراة خوزي خازن هين ودس وسوسنة وأخوات كثيرات؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ وفيما هو يعلم في أحد المجامع في السبت فإذا امرأة معها روح مزمن منذ ثمان عشرة سنة وكانت منحنية لا تقدر أن تستوي البتة، فنظر إليها يسوع وقال‏:‏ يا امرأة‏!‏ أنت محلولة من مرضك ووضع يده عليها، فاستقامت للوقت ومجدت الله، فأجاب رئيس الجماعة وهو مغضب وقال للجميع‏:‏ لكم ستة أيام ينبغي العمل فيها وفيها تأتون وتستشفعون إلا في السبت‏!‏ فقال‏:‏ يا مراؤون‏!‏ واحد منكم يحل ثوره أو حماره من المدود في السبت ويذهب فيسقيه وهذه ابنة إبراهيم كان الشيطان قد ربطها منذ ثمان عشرة سنة‏!‏ أما كان يحل أن تطلق من هذا الرباط في يوم السبت‏؟‏ فلما قال هذا الكلام أخزى كل من كان يقاومه‏.‏

وكل الشعب كانوا يفرحون بالأعمال الحسنة التي كانت منه- انتهى‏.‏

وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافياً لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان مع أن فيه دلائل رادة على النصارى في ادعائهم التثليث والاتحاد وأحسن ما ردّ على الإنسان من كلامه وبما يعتقده، وسيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة عند قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وما من إله إلا الله‏}‏ ما يلتفت إلى بعض هذا ويشرحه شرحاً جيداً نافعاً وكذا في جميع ما أنقله من الإنجيل كما ستراه إن شاء الله تعالى في مواضعه، وكل ما فيه من متشابه لم تألفه مما يوهم اتحاداً أو تثليثاً فلا تزدد نفرتك منه وراجع ما سيقرر في آل عمران وغيرها يرجع معك إلى المحكم رجوعاً جلياً، على أن أكثره إذا تؤملت أطرافه وجدته لا شبهة فيه أصلاً، وإن لم تكن أهلاً للجري في مضمار ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ كن ممن يعرف الرجال بالحق ولا تكن ممن يعرف الحق بالرجال، فانظر كتاب الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى تجده أوّل كثيراً مما ذكرته بمثل تأويلي أو قريب منه، ولم أر كتابه إلا بعد كتابتي لذلك- والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏

وفي الآية إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قضى بنزع نور العقل من المربي ودل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر البعيد من الصواب ‏{‏بأنهم‏}‏ أي المربون ‏{‏قالوا‏}‏ جدالاً لأهل الله ‏{‏إنما البيع‏}‏ أي الذي تحصرون الحل فيه يا أهل الإسلام ‏{‏مثل الربا‏}‏ في أن كلاًّ منهما معاوضة، فنحن نتعاطى الربا كما تتعاطون أنتم البيع، فما لكم تنكرونه علينا‏؟‏ فَجعْلهُم الربا أصلاً انسلاخ مما أودعه الله في نور العقل وحكم الشرع وسلامة الطبع من الحكمة؛ والبيع كما عرفه الفقهاء نقل ملك بثمن‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ هو رغبة المالك عما في يده إلى ما في يد غيره، والشراء رغبة المستملك فيما في يد غيره بمعاوضة بما في يده مما رغب عنه، فلذلك كل شار بائع ‏{‏وأحل‏}‏ أي والحال أنه أحل ‏{‏الله‏}‏ الذي له تمام العظمة المقتضية للعدل ‏{‏البيع‏}‏ أي لما فيه من عدل الانتفاع، لأنه معاوضة على سبيل النصفة للتراضي من الجانبين، لأن الغبن فيه غير محقق على واحد منهما، لأن من اشترى ما يساوي درهماً بدرهمين يمكن أن يبيعه بعد ذلك لرواجه أو وجود راغب فيه لأمر دعاه إليه بثلاثة ‏{‏وحرم الربا‏}‏ لما فيه من اختصاص أحد المتعاملين بالضرر والغبن والآخر بالاستئثار على وجه التحقيق، فإن من أخذ درهماً بدرهمين لا يرجى خير ما فاته من ذلك الوجه أصلاً، وكذلك ربا المضاعفة وهو ما إذا طلب دينه فكان الغريم معسراً فألزمه بالدفع أو الزيادة في الدين فإنه ليس في مقابلة هذا الزائد شيء ينتفع به المدين‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيقع الإيثار قهراً وذلك الجور الذي يقابله العدل الذي غايته الفضل، فأجور الجور في الأموال الربا، وأجور الجور في الربا الربا كالذي يقتل بقتيل قتيلين، وكل من طفف في ميزان فتطفيفه ربا بوجه ما؛ ولذلك تعددت أبواب الربا وتكثرت؛ قال قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الربا بضع وسبعون باباً، والشرك مثل ذلك وهذا رأسه» وهو ما كانت تتعامل به أهل الجاهلية، من قولهم‏:‏ إما أن تربي وإما أن تقضي، ثم لحق به سائر أبوابه، فهو انتفاع للمربي وتضرر للذي يعطي الربا، وهذا أشد الجور بين العبيد الذين حظهم التساوي في أمر بلغة الدنيا؛ فكما أعلمهم سبحانه وتعالى أثر حكمة الخير في الإنفاق أعلمهم أثر حكمة الشر في الربا في دار الآخرة وفي غيب أمر الدنيا وكما أنه يعجل للمنفق خلفاً في الدنيا كذلك يعجل للمربي محقاً في الدنيا حسب ما صرح به الخطاب بعد هذا الإشعار- انتهى‏.‏

ومادة بيع بجميع تقاليبها التسعة يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة‏:‏ بيع وعيب وعبي وبوع وبعو ووبع ووعب وعبو وعبا- تدور على الاتساع، فالبيع يدور على التصرف التام بالقوة تارة وبالفعل أخرى، والذي بالفعل يكون بالملك تارة وبغيره أخرى، والذي بالملك يكون بالتحصيل تارة وبالإزالة أخرى، ولا يخفى أن كل ذلك من الاتساع فمن الذي بالقوة‏:‏ باعه من السلطان سعى به إليه، وامرأة بائع إذا كانت نافقة لجمالها، والبياعة السلعة، والبيّع كسيد‏:‏ المساوم، وأبعته بمعنى عرضته للبيع؛ ومن الذي بالفعل من غير ملك‏:‏ باع على بيعه أي قام مقامه في المنزلة والرفعة وظفر به، وكذا أبعت الرجل فرساً أي أعرته إياه ليغزو عليه؛ ومن الذي بالملك إزالة‏:‏ بعته وأبعته أي أزلت ملكي عنه بثمن، واستباعه سأله أن يبيعه منه، وانباع نفق، وانباع لي في سلعته سامح في بيعها وامتد إلى الإجابة إليه؛ ومن الذي بالملك تحصيلاً‏:‏ باع الشيء بمعنى اشتراه‏.‏ قال الفارابي في ديوان الأدب‏:‏ قال أبو ثروان‏:‏ بع لي تمراً بدرهم- يريد اشتر، وهذا الحرف من الأضداد، وابتاعه‏:‏ اشتراه‏.‏ والعيب بمعنى الوصمة توسع الكلام في العرض وسببه توسع الإنسان في قول أو فعل على غير منهاج العقل، والعيبة وعاء من أدم يوضع فيه المتاع وهي أيضاً الصدر والقلب وموضع السر، والعائب من اللبن الخادر أي الآخذ طعم حموضة إما من العيب وإما لأنه انتشر عن طعمه الأول؛ والعباية ضرب من الأكسية لاتساعه عن الأزر ونحوها طولاً وعرضاً والرجل الجافي الثقيل تشبيهاً بها في الخشونة والثقالة، وتعبئة الجيش تهيئته من موضعه كأن مراكزه عياب له وضعت كل فرقة منه في عيبتها، وعيبك من الجزور نصيبك، والتعابي أن يميل رجل مع قوم وآخر مع آخرين لأن ذلك اتساع بالفريقين وانتشار من الرجلين؛ ومن المهموز العبء- بالكسر وهو الحمل الثقيل من أي شيء كان لأنه بقدر وسع الحامل أو فوق وسعه وهو أوسع مما دونه من الأحمال، وهو أيضاً العدل لأنه يسع ما يوضع فيه والمثل، ويفتح لأن الاثنين أوسع من الواحد، والعبء بالفتح ضياء الشمس وهو واضح في السعة، وعبأ المتاع والأمر كمنع هيأ كعبأه تعبئة لأنه أعطاه ما يسعه ووضعه في مواضع تسعه، والطيب صنعه وخلطه فاتسع بالخلط وانتشرت رائحته بالصنعة؛ والعباء كساء معروف وهو يسع ما يلف به كالعباية، والأحمق الثقيل الوخم وتقدم تخريجه ويمكن جعله من العبء بمعنى الحمل وبمعنى الثقيل والمعبأة كمكنسة خرقة الحائض لأنها بقدر ما يسعه الفرج، والمعبأ كمقعد المذهب لاتساعه للذاهب فيه، وما أعبأ به ما أصنع، وبفلان‏:‏ ما أبالي أي ما أوسع الفكر فيه- انتهى المهموز؛ والباع قدر مد اليدين والشرف والكرم، والبوع أبعاد خطو الفرس في جريه، وبسط اليد بالمال، والمكان المنهضم أي المطمئن في لصب الجبل- واللصب بالكسر الشعب الصغير من الجبل أضيق من اللهب وأوسع من الشقب، واللهب مهواة ما بين كل جبلين أو الصدع في الجبل أو الشعب الصغير، والشعب بالعين الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض أو ما انفرج بين الجبلين، والشقب بالقاف صدع يكون في لهوب الجبال ولصوب الأودية دون الكهف توكر فيه الطير- وباعة الدار ساحتها، والبائع ولد الظبي إذا باع في مشيه، وانباع العرق سال، والحية بسطت نفسها بعد تحوّيها لتساور؛ والوبّاعة الاست لاتساعها بخروج الخارج منها، وكذبت وبّاعته أي حبق يعني ضرط، والوباعة من الصبي ما يتحرك من يافوخه لامتداده إلى الحركة، ووعبه كوعده أخذه أجمع، كأوعبه واستوعبه، وأوعب جمع، والشيء في الشيء أدخله كله أي وسعه حتى دخل فيه، والوعب من الطرق‏:‏ الواسعة، وبيت وعيب واسع؛ والبعو الجناية والجرم لأن ذلك يوسع الكلام في العرض، وهو أيضاً العارية، وبعاه قمره وأصاب منه، وبعاه بالعين أصابه بها كأنه وسع لعينه فيه حظاً‏.‏

ولما كان الوعظ كما قال الحرالي دعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها ويقبضها في مقابلة التذكير بما يرجيها ويبسطها، وكان فيما أخبر به سبحانه وتعالى عن حال المربي أتم زاجر لأن أجلّ ما للإنسان بعد روحه عقله سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن جاءه‏}‏ قال الحرالي‏:‏ أطلق الكلمة من علامة التأنيث النازل الرتبة ترفيعاً لقدر هذه الموعظة الخفية المدرك العظيمة الموقع ‏{‏موعظة‏}‏ بناء مبالغة وإعلاء لما أشعرت المفعلة الزائدة الحروف على أصل لفظ الوعظ بما يشعر به الميم من التمام والهاء من الانتهاء، فوضع الأحكام حكمة، والإعلام بثمراتها في الآخرة موعظة تشوق النفس إلى رغبتها ورهبتها- انتهى‏.‏

ولما كان التخويف من المحسن أردع لأن النفس منه أقبل قال‏:‏ ‏{‏من ربه‏}‏ أي المربي له المحسن إليه بكل ما هو فيه من الخير‏.‏ قال الحرالي‏:‏ في إشعاره أن من أصل التربية الحمية من هذا الربا- انتهى‏.‏ ‏{‏فانتهى‏}‏ أي عما كان سبباً للوعظ‏.‏ قال الحرالي‏:‏ أتى بالفاء المعقبة فلم يجعل فيه فسحة ولا قراراً عليه لما فيه من خبل العقل الذي هو أصل مزية الإنسانية وإن لم يشعر به حكماء الدنيا ولا أطباؤها- انتهى‏.‏

ولما كان السياق بما أرشد إليه التعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏}‏ دالاً على أن الآية في الكفرة وأن المراد بالأكل الاستحلال أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فله ما سلف‏}‏ أي من قبيح ما ارتكبه بعد أن كان عليه ولا يتبعه شيء من جريرته لأن الإسلام يجب ما قبله وتوبة المؤمن لا تجب المظالم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والسلف هو الأمر الماضي بكليته الباقي بخلفه، وقال‏:‏ في إعلامه إيذان بتحليل ما استقر في أيديهم من ربا الجاهلية ببركة توبتهم من استئناف العمل به في الإسلام لما كان الإسلام يجب ما قبله، وفي طيّ إشعاره تعريض برده لمن يأخذ لنفسه بالأفضل ويقوي إشعاره قوله ‏{‏وأمره إلى الله‏}‏ انتهى، أي فهو يعامله بما له من الجلال والإكرام بما يعلمه من نيته من خلوص وغيره‏.‏

ولما كان المربون بعد هذه الزواجر بعيدين من رحمة الله عبر عنهم سبحانه وتعالى بأداة البعد في قوله‏:‏ ‏{‏ومن عاد‏}‏ أي إلى تحليل الربا بعد انتهائه عنه نكوباً عن حكمة ربه ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء من الله ‏{‏أصحاب النار‏}‏ ولما كانت نتيجة الصحبة الملازمة قال‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون*‏}‏‏.‏

ولما كان المرغب في الربا ما فيه من الربح الناجز المشاهد، والمفتر عن الصدقة كونها نقصاً محققاً بالحس بيّن أن الربا وإن كان بصورة الزيادة فهو نقص وأن الصدقة وإن كانت بصورة النقص فهي زيادة لأن ذلك إنما هو بيده سبحانه وتعالى فما شاء محقه وإن كان كثيراً أو ما أراد نماه وإن كان يسيراً فقال كالتعليل للأمر بالصدقة والنهي عن الربا ولكون فاعله من أهل النار‏:‏ ‏{‏يمحق الله‏}‏ أي بما له من الجلال والقدرة ‏{‏الربا‏}‏ بما يفتح له من أبواب المصارف‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والمحق الإذهاب بالكلية بقوة وسطوة ‏{‏ويربي الصدقات‏}‏ أي يزيد الصدقات بما يسد عنها مثل ذلك ويربح في تقلباتها؛ ويجوز كونه استئنافاً وذلك أنه لما تقرر أن فاعليه من أصحاب النار ساقه مساق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ وإن تصدقوا من أموال الربا وأنفقوا في سبيل الخير‏!‏ إعلاماً بأن الربا مناف للخير فهو مما يكون هباء منثوراً‏.‏ ولما آذن جعلهم من أصحاب النار أن من لم ينته عن الربا أصلاً أو انتهى وعاد إلى فعله مرتبك في شرك الشرك قاطع نحوه عقبات‏:‏ ثنتان منها في انتهاك حرمة الله‏:‏ ستر آياته في عدم الانتهاء، والاستهانة بها في العود إليه، الثالثة انتهاك حرمة عباد الله فكان إثمه متكرراً مبالغاً فيه لا يقع إلا كذلك عبر سبحانه وتعالى بصيغة المبالغة في قوله عطفاً على ما تقديره تعليلاً لما قبله‏:‏ فالمتصدق مؤمن كريم والمربي كفار أثيم‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ المتصف بجميع صفات الكمال ‏{‏لا يحب كل كفار‏}‏ أي في واجب الحق بجحد ما شرع من آياته وسترها والاستهانة بها، أو كفار لنعمته سبحانه وتعالى بالاستطالة بما أعطاه على سلب ما أعطى عباده ‏{‏أثيم *‏}‏ في واجب الخلق، أي منهمك في تعاطي ما حرم من اختصاصاتهم بالربا وغيره، فلذا لا يفعل معهم سبحانه وتعالى فعل المحب لا بالبركة في أموالهم ولا باليمن في أحوالهم، وهذا النفي من عموم السلب، وطريقه أنك تعتبر النفي أولاً ثم تنسبه إلى الكل، فيكون المعنى‏:‏ انتفى عن كل كفار أثيم حبه، وكذا كل ما ورد عليك من أشباهه إن اعتبرت النسبة إلى الكل أولاً ثم نفيت فهو لسلب العموم، وإن اعتبرت النفي أولاً ثم نسبته إلى الكل فلعموم السلب، وكذلك جميع القيود؛ فالكلام المشتمل على نفي وقيد قد يكون لنفي التقييد وقد يكون لتقييد النفي، فمثل‏:‏ ما ضربته تأديباً، أي بل إهانة، سلب للتعليل والعمل للفعل، وما ضربته إكراماً له، أي تركت ضربه للإكرام، تعليل للسلب والعمل للنفي، وما جاءني راكباً، أي بل ماشياً، نفي للكيفية، وما حج مستطيعاً، أي ترك الحج مع الاستطاعة، تكييف للنفي؛ وقد أشبع الشيخ سعد الدين التفتازاني رحمه الله تعالى الكلام في ذلك في شرحه للمقاصد في بحث الرؤية عند استدلال المعتزلة بقوله تعالى‏:‏

‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 104‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏277- 282‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏277‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏278‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ‏(‏279‏)‏ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏280‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏281‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏282‏)‏‏}‏

ولما بين تعالى ما سلبه عن الكافرين من محبته أتبعه ما أثبته للمؤمنين المصدقين من رحمة الملوح إليهم فيما قبل بالعطف على غير معطوف عليه ظاهر كما تقدم آنفاً على وجه لم يخله من ذكر النفقة فقال تعالى مشيراً إلى قسيم ‏{‏ومن عاد‏}‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي صدقوا بجميع ما أتتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم عن الله سبحانه وتعالى ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ ائتماراً وانتهاء لا سيما ترك الربا‏.‏

ولما كانت الصلاة زبدة الدين فيما بين الحق والخلق خصها بالذكر فقال‏:‏ ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ بجميع حدودها ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ولما كان الإيثار أجل ما بين الحق والخلق وزبدته إخراج الواجب من المال عن طيب نفس قال‏:‏ ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ فضلاً عن أن يبخلوا فضلاً عن أن يربوا ودل على أن جزاءهم بحسب النيات لثباتهم في فتنة الردة بقوله‏:‏ ‏{‏لهم أجرهم‏}‏ وأعلم بحفظه وتنميمته بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ وآذن بتمام الانتفاع بقوله‏:‏ ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ أي من طارق يطرقهم بغير ما يلائمهم لأنهم في كنف العزيز العليم ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ على شيء فاتهم فهم في غاية الرضى بما هم فيه، ولعظيم الجدوى في ذلك كرره في هذه الآيات غير مرة ونوه به كرة في أثر كرة‏.‏

ولما كانت نتيجة الآية الماضية في الاعتماد على ما عند الله سبحانه وتعالى من الأجر وعدم الحزن على ما فات من ربا وغيره والخوف من شيء آت من فقر أو غيره ترك كل شيء ينسب إلى الربا وكان بين أهل الإسلام وأهل الجاهلية وبين بعضهم وبعض معاملات في الجاهلية ربوية لم تتم بعد بين أمرها نفياً لما قد يتوهم من قوله سابقاً ‏{‏فله ما سلف‏}‏ من تحليل بقايا الربا وأن النهي خاص بما تجدد منه فقال مخاطباً لأقرب من ذكره ممن تلبس بالإيمان ولم يلتفت إلى غيرهم تشريفاً لهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالتصديق بألسنتهم‏.‏ ولما كان الربا قد يكون مؤجلاً فيكون صاحبه قد مضت عليه مدد وهو موطن نفسه على أخذه فيصير الكف عنه يعدل الموت عنده أبلغ سبحانه وتعالى في التشديد في هذه المواعظ فقال‏:‏ ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة تصديقا لإقراركم ‏{‏وذروا‏}‏ أي اتركوا أي ترك كان ‏{‏ما بقي من الربا‏}‏ أي الذي كنتم تتعاملون به فلا تستحلوه ولا تأكلوه‏.‏

ولما لوح في أول الآية إلى أن من أصر فهو غير صادق في دعوى الإيمان صرح بذلك في آخرها فقال‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ أي متصفين بما ذكرتموه بألسنتكم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فبين أن الربا والإيمان لا يجتمعان وأكثر بلايا هذه الأمة حتى أصابها ما أصاب بني إسرائيل من البأس الشنيع والانتقام بالسنين إنما هو من عمل من عمل بالربا، وهذه الآية أصل عظيم في أحكام الكفار إذا أسلموا فما مضى منها لم ينقص وما لم يمض لم يفعل- نبه عليه الأصبهاني‏.‏

ولما كان من حق من عاند السيد الأخذ سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا‏}‏ أي ترك الربا‏.‏ قال الحرالي‏:‏ في إشعاره أن طائقة منهم لا يذرونه بعد تحريمه بما أنهم ليسوا من الذين كانوا مؤمنين- انتهى‏.‏ ‏{‏فأذنوا بحرب‏}‏ أي عظيمة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والحرب مدافعة بشدة عن اتساع، المدافع بما يطلب منه الخروج عنه فلا يسمح به ويدافع عنه بأشد مستطاع؛ ثم عظم أمرها بإيراد الاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ العظيم الجليل ‏{‏ورسوله‏}‏ صلى الله عليه وسلم الذي هو أعظم الخلائق بتشريفه بالإضافة إليه‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ الذي هيأه للرحمة، فكان نبي الرحمة محارباً له، فانقطعت وصلته من الرحيم والشفيع- انتهى‏.‏ ‏{‏وإن تبتم‏}‏ أي فعلتم بعد الإذن بالقتال أو قبله ما أمركم الله به من ترك ما بقي منه ‏{‏فلكم رؤوس أموالكم‏}‏ أي كما هو حال البيع‏.‏ ولما كان ذلك هو العدل لأنه الحق قال‏:‏ ‏{‏لا تظلمون‏}‏ أي بأخذ شيء مما بقي من الربا ‏{‏ولا تظلمون‏}‏ بنقص من رأس المال أو دفع بمطال لأنه الحق‏.‏ ولما كان الناس منقسمين إلى موسر ومعسر أي غني وفقير كان كأنه قيل‏:‏ هذا حكم الموسر ‏{‏وإن كان‏}‏ أي وجد من المدينين ‏{‏ذو عسرة‏}‏ لا يقدر على الأداء في هذا الوقت ‏{‏فنظرة‏}‏ أي فعليكم نظرة له‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهو التأخير المرتقب نجازه ‏{‏إلى ميسرة‏}‏ إن لم ترضوا إلا بأخذ أموالكم؛ وقرأ نافع وحمزة بضم السين؛ قال الحرالي‏:‏ إنباء عن استيلاء اليسر وهي أوسع النظرتين، والباقون بالفتح إنباء عن توسطها ليكون اليسر في مرتبتين، فمن انتظر إلى أوسع اليسرين كان أفضل توبة- انتهى‏.‏ ‏{‏وأن تصدقوا‏}‏ أي وصدقتكم على المعسر بتركه له، ذلكم ‏{‏خير‏}‏ في الدنيا بما يبارك الله سبحانه وتعالى ‏{‏لكم‏}‏ ويعوضكم وفي الآخرة بما يجزل لكم من الأجر‏.‏

ولما كان كل أحد يدعي العلم ويأنف أشد أنفة من النسبة إلى الجهل قال‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ أي إن كنتم من ذوي العلم فأنتم تعرفون صحة ما دعوتكم إليه مما يقتضي الإدبار عنه أو الإقبال عليه، فإذا تحققتم ذلك فامتثلوه فإنه يقبح على العلم بقبح الشيء الإصرار عليه وإلا فبينوا أنه ليس بخير وإلا فأنتم من أهل الاعوجاج بالجهل تقومون بالحرب والضرب والطعن كالسباع الضارية والذئاب العاوية‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ فأعلم سبحانه وتعالى أن من وضع كيانه للعلم فكان ممن يدوم علمه‏؟‏ تنبه لأن خير الترك خير من خير الأخذ فأحسن بترك جميعه- انتهى‏.‏

وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «لما أنزلت الآيات الأواخر- وفي رواية‏:‏ من آخر سورة البقرة في الربا- قرأهن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية‏:‏ على الناس في المسجد- ثم حرم التجارة في الخمر» وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» ولأبي عبيد عن ابن شهاب قال‏:‏ آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين‏.‏ وله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ آخر آية نزلت من القرآن ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 281‏]‏ قال‏:‏ زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال وبدئ به يوم السبت ومات يوم الاثنين- انتهى‏.‏ ولا مخالفة لأنها من آية الربا والدين‏.‏ وروى الحديث أبو عمرو الداني في كتاب «البيان في عدد آي القرآن» وقال فيه‏:‏ «قال الملك‏:‏ اجعلها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة»‏.‏

ولما كان من المعلوم أنه لا يدفعه حجة كان التقدير‏:‏ فامتثلوا ما أمرتم به واجتنبوا ما نهيتم عنه، فعطف عليه تخويفاً من يوم العرض عليه والمجازاة بين يديه فقال- وقال الحرالي‏:‏ لما أنهي الخطاب بأمر الدين وعلنه وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما وأنهى ذلك إلى الموعظة بموعود جزائه في الدنيا والآخرة أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها ليكون انتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها من خطاب الله سبحانه وتعالى لها فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هو في الشكاية وهي آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ الذي هو أول منزل النبوة و‏{‏يا أيها المدثر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 1‏]‏ الذي هو أول منزل الرسالة فكان أول الأمر نذارة وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف وتبعث القلب على الشوق من معنى ما انختم به أمر خطاب الله سبحانه وتعالى في آية ‏{‏مالك يوم الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ انتهى- فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ أي في غاية العظم ‏{‏ترجعون فيه‏}‏ حساً بذواتكم كما أنتم في الدنيا ومعنى بجميع أموركم رجوعاً ظاهراً لا يحجبه شيء من الأسباب ولا يحول دونه عارض ارتياب ‏{‏إلى الله‏}‏ الذي لا يحصر عظمته وصف ولا يحيط بها حد، فيكون حالكم بعد النقلة من الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن لا تصرف لكم أصلاً ولا متصرف فيكم إلا الله ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار، لأنه لا يمكن أحد أن يكافئ ما لله سبحانه وتعالى عليه من نعمه، فمن نوقش الحساب عذب؛ فإن كنتم تحبون المجاوزة عنكم هنالك فتجاوزوا أنتم عن إخوانكم اليوم، وتصدقوا ما دمتم قادرين على الصدقة، واتقوا النار في ذلك اليوم ولو بشق تمرة؛ وأشار سبحانه وتعالى إلى طول وقوفهم ذلك الموقف في مقام الهيبة وتمادي حبسهم في مشهد الجلال والعظمة بأداة التراخي في قوله ‏{‏ثم‏}‏ قال الحرالي وقيل‏:‏

«يا رسول الله‏!‏ أين يكون الناس ‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏‏؟‏ قال‏:‏ في الظلمة دون الجسر» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يقيمون في الظلمة ألف سنة» وورد عن علي رضي الله تعالى عنه في تفصيل مواقف يوم الجزاء أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة ويساقون إلى المحشر ألف سنة، ويوقفون في الظلمة ألف سنة؛ ثم يكون انشقاق السماوات السبع وتبديل الأرض وما شاء الله سبحانه وتعالى من أمره انتظاراً لمجيئه؛ ففي عبرة مقاله والله سبحانه وتعالى أعلم أن ذلك يكون ستة آلاف سنة وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏، فيكون ذلك تسعة أيام؛ ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي هو يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي تكرر مجيء أمره فيه في يوم الدنيا- ثم وصف صلى الله عليه وسلم المواقف إلى منتهاها- انتهى‏.‏

ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر وعلن في غاية الكراهة إليه فضلاً عن جزائه على كل شيء منه لا بالنسبة إلى موقف معين بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏توفى‏}‏ أي تعطى على سبيل الوفاء ‏{‏كل نفس ما كسبت‏}‏ من خير وشر‏.‏ قال الحرالي‏:‏ جاء بصيغة فعل المشعر بجري العمل على غير تكلف وتحمل، ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير وما كونت له من الشر وأن ما تكلفته من الشر وفي دخلتها كراهية ربما غفر لها حيث لم تكن توفى ما كسبت وما اكتسبت كما قال في الآية التي بعدها ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏ فكان مكتسبها عليها وربما غفر لها فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له- انتهى‏.‏

ولما كانت عادة الناس أنه إذا بقي شيء يسير وقع في محل المسامحة وكان اليسير يختلف باختلاف الأصل فالألف مثلاً يتسامح فيه بمائة مثلاً بيّن أن الأمر عنده على غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون *‏}‏ شيئاً من الأشياء ولو قلّ، وهذا إشارة إلى العدل بين عباده قال الحرالي‏:‏ وهذه الآية ختم للتنزيل وختم لتمام المعنى في هذه السورة التي هي سنام القرآن وفسطاطه وختم لكل موعظة وكل ختم، فهو من خواص المحمدية الجامعة المفصلة من سورة الحمد المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله في حقه وفي خلقه وفيما بينه وبين خلقه- انتهى‏.‏

ولما نهى سبحانه وتعالى عن الربا وكان أحد مدايناتهم وكان غيره من الدين مأذوناً فيه وهو من أنواع الإنفاق مع دخوله في المطالبة برؤوس الأموال عقب ذلك بآية الدين‏.‏ وأيضاً فإنه سبحانه وتعالى لما ذكر في المال أمرين ينقصانه ظاهراً ويزكيانه باطناً‏:‏ الصدقة وترك الربا، وأذن في رؤوس الأموال وأمر بالإنظار في الإعسار وختم بالتهديد فكان ذلك ربما أطمع المدين في شيء من الدين ولو بدعوى الإعسار اقتضى حال الإنسان لما له من النقصان الإرشاد إلى حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والتنبيه على كيفية التوثق فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ كالذي تقدمه ‏{‏إذا تداينتم‏}‏ من التداين تفاعل بين اثنين من الدين، والدين في الأمر الظاهر معاملة على تأخير كما أن الدين بالكسر فيما بين العبد وبين الله سبحانه وتعالى معاملة على تأخير- قاله الحرالي‏.‏ أي أوقعتم بينكم ذلك‏.‏ والدين مال مرسل في الذمة سواء كان مؤجلاً أو لا، وهو خلاف الحاضر والعين، وقال‏:‏ ‏{‏بدين‏}‏ مع دلالة الفعل عليه ليخرج بيع الدين بالدين، لأنه مداينة بدينين‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فكان في إعلامه أي بالإتيان بصيغة إذا أنهم لا بد أن يتداينوا لأنها حين منتظر في أغلب معناها- انتهى‏.‏ وأرشد إلى ضبطه بالوقت إشارة إلى أنه يجوز كونه حالاً وإلى أن الأجل وهو الوقت المحدود وأصله التأخير إن كان مجهولاً كان باطلاً بقوله‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من التسمية وهي إبداء الشيء باسمه للسمع في معنى المصور- وهو إبداء الشيء بصورته في العين‏.‏

ولما كان الله سبحانه وتعالى وهو العليم الخبير قد أجرى سنته في دينه بالكتابة فأمر ملائكته وهم الأمناء العدول بإثبات أعمال الخلق لحكم ومصالح لا تخفى وأنزل كتابه الشريف شهادة لهم وعليهم بما يوفونه في يوم الدين من ثواب وعقاب قطعاً لحججهم أمرهم أن يكون عملهم في الدين كما كان فعله في الدين فأرشدهم إلى إثبات ما يكون دينهم من المعاملات لئلا يجر ذلك إلى المخاصمات فقال سبحانه وتعالى أمراً للإرشاد لا للإيجاب ‏{‏فاكتبوه‏}‏ وفي ذكر الأجل إشارة إلى البعث الذي وقع الوعد بالوفاء فيه ‏{‏أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وإنكم إلينا لا ترجعون *‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 115‏]‏ ‏{‏ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ ولما أمر بالكتابة وكان المراد تحصيلها في الجملة لا من أحد بعينه لأن أغلب الناس لا يحسنها أتبعها الإرشاد إلى تخير الكاتب بقوله‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم‏}‏ أي الدين المذكور ‏{‏كاتب‏}‏ وإن كان صبياً أو عبداً كتابة مصحوبة ‏{‏بالعدل‏}‏ استناناً به سبحانه وتعالى في ملائكته

‏{‏وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين *‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏بأيدي سفرة * كرام بررة *‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 15‏]‏‏.‏

ولما أرشد إلى تخير الكاتب تقدم إليه بالنهي تقديماً لدرء المفاسد ثم الأمر فقال‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب‏}‏ أي ما ندب إليه من ذلك ‏{‏كما علمه الله‏}‏ أي لأجل الذي هو غني عنه وعن غيره من خلقه شكراً له على تلك النعمة وكتابة مثل الكتابة التي علمها الله سبحانه وتعالى لا ينقص عنها شيئاً ‏{‏فليكتب‏}‏ وفي ذلك تنبيه على ما في بذل الجهد في النصيحة من المشقة‏.‏

ولما كان ذلك وكان لا بد فيه من ممل بين من يصح إملاؤه للمكتوب فقال‏:‏ ‏{‏وليملل‏}‏ من الإملال وهو إلقاء ما تشتمل عليه الضمائر على اللسان قولاً وعلى الكتاب رسماً- قاله الحرالي ‏{‏الذي عليه الحق‏}‏ ليشهد عليه المستملي ومن يحضره‏.‏

ولما كانت الأنفس مجبولة على محبة الاستئثار على الغير حذرها مما لا يحل من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وليتق الله‏}‏ فعبر بالاسم الأعظم ليكون أزجر للمأمور ثم قال‏:‏ ‏{‏ربه‏}‏ تذكيراً بأنه لإحسانه لا يأمر إلا بخير، وترجية للعوض في ذلك إذا أدى فيه الأمانة في الكم والكيف من الأجل وغيره؛ وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يبخس‏}‏ من البخس وهو أسوأ النقص الذي لا تسمح به الأنفس لبعده عن محل السماح إلى وقوعه في حد الضيم ‏{‏منه شيئاً‏}‏‏.‏

ولما كان هذا المملي قد يكون لاغي العبارة وكان الإملاء لا يقدر عليه كل أحد قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً‏}‏ فلا يعتبر إقراره لضعف رأيه ونظره ونقص حظه من حكمة الدنيا ‏{‏أو ضعيفاً‏}‏ عن الإملاء في ذلك الوقت لمرض أو غيره من صبا أو جنون أو هرم من الضعف وهو وهن القوى حساً أو معنى ‏{‏أو لا يستطيع أن يمل هو‏}‏ كعيّ أو حياء أو عجمة ونحوه ‏{‏فليملل وليه‏}‏ القائم لمصالحه من أب أو وصي أو حاكم أو ترجمان أو وكيل ‏{‏بالعدل‏}‏ فلا يحيف عليه ولا على ذي الحق‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فجعل لسان الولي لسان المولى عليه، فكان فيه مثل لما نزل به الكتاب من إجراء كلام الله سبحانه وتعالى على ألسنة خلقه في نحو ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وما تفصل منها ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ أمل ما عليهم من الحقوق له فجعل كلاماً من كلامه يتلونه، فكان الإملال منه لهم لتقاصرهم عن واجب حقه تقاصر السفيه ومن معه عن إملال وليه عنه لرشده وقوته وتمكن استطاعته- انتهى‏.‏

ولما لم يكن بين الكتابة والشهادة ملازمة نص عليها وبين أهلها فقال‏:‏ ‏{‏واستشهدوا‏}‏ أي اطلبوا الشهادة وأوجدوها مع الكتابة ودونها ‏{‏شهيدين‏}‏ قال الحرالي فجعل شهادة الدين باثنين كما جعل الشاهد في الدين اثنين‏:‏ شاهد التفكر في الآيات المرئية وشاهد التدبر للآيات المسموعة، وفي صيغة فعيل مبالغة في المعنى في تحقق الوصف بالاستبصار والخبرة- انتهى‏.‏

ولما بيّن عدد الشاهد بيّن نوعه فقال‏:‏ ‏{‏من رجالكم‏}‏ وأعلم بالإضافة اشتراط كونه مسلماً وإطلاق هذا الذي ينصرف إلى الكامل مع ما يؤيده في الآية يفهم الحريّة كقوله ‏{‏ولا يأب الشهداء‏}‏ والإتيان بصيغة المبالغة في الشاهد وتقييده مع ذلك بالرضى وتعريف الشهداء ونحوه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولكثرة المداينة وعمومها وسع فيها الشهادة فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم يكونا‏}‏ أي الشاهدان ‏{‏رجلين‏}‏ أي على صفة الرجولية كلاهما ‏{‏فرجل وامرأتان‏}‏ وفي عموم معنى الكون إشعار بتطرق شهادة المرأتين مع إمكان طلب الرجل بوجه ما من حيث لم يكن، فإن لم تجدوا ففيه تهدف للخلاف بوجه ما من حيث إن شمول الكتاب توسعة في العلم سواء كان على تساو أو على ترتب؛ ولما كنّ ناقصات عقل ودين جعل ثنتان منهن مكان رجل- انتهى‏.‏ ولما بيّن العدد بيّن الوصف فقال‏:‏ ‏{‏ممن ترضون‏}‏ أي في العدالة ‏{‏من الشهداء‏}‏ هذا في الديون ونحوها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي مفهوم الشهادة استبصار نظر الشاهد لما في الشهود من إدراك معنى خفي في صورة ظاهر يهدي إليها النظر النافذ- انتهى‏.‏

ولما شرط في القيام مقام الواحد من الرجال العدد من النساء علله بما يشير إلى نقص الضبط فيهن فقال‏:‏ ‏{‏أن تضل إحداهما‏}‏ أي تغيب عنها الشهادة فتنساها أو شيئاً منها ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ فتهتدي إلى ما ضلت عنه بواسطة الذاكرة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ بما هي أعرف بمداخل الضلال عليها، لأن المتقاربين أقرب في التعاون، وفي قراءتي التخفيف والتثقيل إشعار بتصنيف النساء صنفين في رتبة هذه الشهادة من يلحقها الضلال عن بعض ما شهدت فيه حتى تذكر بالتخفيف ولا يتكرر عليها ذلك ومن شأنها أن يتكرر عليها ذلك، وفي إبهامه بلفظ إحدى أي من غير اقتصار على الضمير الذي يعين ما يرجع إليه إشعار أن ذلك يقع بينهما متناوباً حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر فأذكرت كل واحدة منهما صاحبتها فلذلك يقوم بهما معاً شاهد واحد حافظ- انتهى‏.‏ وفي ذكر الإذكار منع من الشهادة بدون الذكر، والآية من الاحتباك‏.‏ ولما أفهم ذلك الحث على الشهادة صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء‏}‏ أي تحمل الشهادة وأدائها بعد التحمل ‏{‏إذا ما دعوا‏}‏ دعاء جازماً بما أفهمته زيادة ما‏.‏

ولما تمّ ذلك وكان صغير الحق وكبيره ربما تُركت تهاوناً بالصغير ومللاً للكبير حذر من ذلك ولم يجعله في صلب الأمر قبل الإشهاد بل أفرده بالذكر تعظيماً لشأنه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تسئموا‏}‏ من السآمة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ بناء مبالغة وهو أشد الملالة ‏{‏أن تكتبوه‏}‏ أي لا تفعلوا فعل السئيم فتتركوا كتابته ‏{‏صغيراً‏}‏ كان الدين ‏{‏أو كبيراً‏}‏ طالت الكتابة أو قصرت‏.‏

قال الحرالي‏:‏ ولم يكن قليلاً أو كثيراً، لأن الكثرة والقلة واقعة بالنسبة إلى الشيء المعدود في ذاته، والصغير والكبير يقع بالنسبة إلى المداين، فربما كان الكثير في العدد صغير القدر عند الرجل الجليل المقدار، وربما كان القليل العدد كثيراً بالنسبة إلى الرجل المشاحح فيه، فكان الصغر والكبر أشمل وأرجع إلى حال المداين الذي هو المخاطب بأن يكتب انتهى‏.‏ ‏{‏إلى أجله‏}‏ أي الذي توافقتم وتواثقتم عليه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما فائدة ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة بأداة البعد وميم الجمع إلى عظم جدواه‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولبيانه ووضوحه عندهم لم يكن إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقبل عليه في الأمور الخفية- انتهى‏.‏ ‏{‏أقسط‏}‏ أي أعدل فقد نقل عن ابن السيد أنه قال في كتابه الاقتضاب‏:‏ إن قسط بمعنى جار وبمعنى عدل‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ ‏{‏أقسط‏}‏ من الإقساط وهو وضع القسط وهو حفظ الموازنة حتى لا تخرج إلى تطفيف‏.‏ ثم زاد تعظيمه بقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أي الذي هو محيط بصفات الكمال بالنسبة إلى كل صفة من صفاته، لأنه يحمل على العدل بمنع المغالطة والتلون في شيء من أحوال ذلك الدين ‏{‏وأقوم للشهادة‏}‏ أي وأعدل في قيام الشهادة إذا طلب من الشاهد أن يقيمها بما هو مضبوط له وعليه ‏{‏وأدنى‏}‏ أي أقرب في ‏{‏ألاّ ترتابوا‏}‏ أي تشكوا في شيء من الأمر الذي وقع‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ففي إشعاره أنه ربما داخل الرجل والرجلين نحو ما داخل المرأتين فيكون الكتاب مقيماً لشهادتهما، فنفى عن الرجال الريبة بالكتاب كما نفى عن النساء الضلال بالذكر- انتهى‏.‏

ولما كان الدين المؤجل أعم من أن يكون قرضاً أو تجارة ينمي بها المال المأمور بالإنفاق منه في وجوه الخير النافعة يوم الدين وكان قد أكد في أمر الكتابة تأكيداً ربما ظن معه الحث عليها ولو لم يكن أجل نبه على أن العلة فيها الأجل الذي هو مظنة النسيان المستولي على الإنسان بقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون‏}‏ أي المداينة ‏{‏تجارة حاضرة‏}‏ هذا على قراءة عاصم، وكان في قراءة غيره تامة ‏{‏تديرونها بينكم‏}‏ أي يداً بيد، من الإدارة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ من أصل الدور وهو رجوع الشيء عوداً على بدئه ‏{‏فليس عليكم‏}‏ حينئذ ‏{‏جناح‏}‏ أي اعتراض في ‏{‏ألاّ تكتبوها‏}‏ أي لأنها مناجزة وهي عرض زائل لا يكاد يستقر في يد أحد لأن القصد به المتجر لا الاستبقاء فبعد ما يخشى من التجاحد‏.‏

ولما كان البيع أعم من أن يقصد به المتجر أو غير ذلك من وجوه الانتفاع قال‏:‏ ‏{‏وأشهدوا‏}‏ سواء كانت كتابة أو لا ‏{‏إذا تبايعتم‏}‏ أي على وجه المتجر عاجلاً أو آجلاً أو لا للمتجر، لأن الإشهاد أبعد من الخلاف وأقرب إلى التصادق بما فيه من الإنصاف، والأمر للإرشاد فلا يجب‏.‏

ولما ألزم في صدر الخطاب الكاتب أن يكتب والشهيد أن يجيب ولا يأبى وأكد ذلك بصيغة تشمل المستكتب والمستشهد فقال ناهياً‏:‏ ‏{‏ولا يضار‏}‏ يصح أن يكون للفاعل والمفعول وهو صحيح المعنى على كل منهما ‏{‏كاتب ولا شهيد‏}‏ أي لا يحصل ضرر منهم ولا عليهم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ففي إلاحته تعريض بالإحسان منه للشهيد والكاتب ليجيبه لمراده ويعينه على الائتمار لأمر ربه بما يدفع عنه من ضرر عطلته واستعماله في أمر من أمور دنياه، ففي تعريضه إجازة لما يأخذه الكاتب ومن يدعي لإقامة معونة في نحوه ممن يعرض له فيما يضره التخلي عنه- انتهى‏.‏ ‏{‏وإن تفعلوا‏}‏ أي ما نهيتم عنه من الضرار وغيره ‏{‏فإنه فسوق‏}‏ أي خروج ‏{‏بكم‏}‏ عن الشرع الذي نهجه الله لكم‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي صيغة فعول تأكيد فيه وتشديد في النذارة- انتهى‏.‏

وختم آيات هذه المعاملات بصفة العلم بعد الأمر بالتقوى في غاية المناسبة لما يفعله المتعاملون من الحيل التي يجتلب كل منهم بها الحظ لنفسه، والترغيب في امتثال ما أمرهم به في هذه الجمل بأنه من علمه وتعليمه فقال تعالى- عاطفاً على ما تقدم من أمر ونهي، أو على ما تقديره‏:‏ فافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه-‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي خافوا الذي له العظمة كلها فيما أمركم به ونهاكم من هذا وغيره‏.‏ ولما كان التقدير استئنافاً لبيان فخامة هذه التنبيهات يرشدكم الله إلى مثل هذه المراشد لإصلاح ذات بينكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويعلمكم الله‏}‏ أي يدريكم الذي له الكمال كله بذلك على العلم‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يعلم‏}‏ بصيغة الدوام إيذان بما يستمر به التعليم من دون هذا المنال انتهى‏.‏

وأظهر الاسم الشريف هنا وفي الذي بعده تعظيماً للمقام وتعميماً للتعليم فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏بكل شيء عليم *‏}‏ وهذا الختم جامع لبشرى التعليم ونذارة التهديد‏.‏