فصل: تفسير الآيات رقم (8- 12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ‏(‏8‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ‏(‏10‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏11‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا ‏{‏لا تزغ قلوبنا‏}‏ أي عن الحق‏.‏

ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة‏:‏ ‏{‏بعد إذ هديتنا‏}‏ إليه‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن انتهى‏.‏ فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏وهب لنا من لدنك‏}‏ أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية، الباطن عن غير خواصك ‏{‏رحمة‏}‏ أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب‏.‏

ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا وقال الحرالي‏:‏ ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت الوهاب *‏}‏ وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب انتهى‏.‏

ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله‏:‏ ‏{‏ربنا إنك جامع‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من الجمع، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً انتهى‏.‏ ‏{‏الناس‏}‏ أي كلهم ‏{‏ليوم‏}‏ أي يدانون فيه ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ ثم عللوا نفي الريب بقولهم عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏لا يخلف‏}‏ ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال‏:‏ ‏{‏الميعاد *‏}‏ وقال الحرالي‏:‏ هو مفعال من الوعد، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه، والوعد العهد في الخير انتهى‏.‏ وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه، فكأنه تعالى يقول للنصارى‏:‏ هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره، ووكلتم أمر ذلك إليّ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين‏؟‏ قال ابن الزبير‏:‏ ثم لما بلغ الكلام إلى هنا أي إلى آيه التصوير كان كأنه قد قيل‏:‏ فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب‏؟‏ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه، وكذا عيره من الكتب والله سبحانه وتعالى أعلم، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به، وهذا بيان لقوله‏:‏

‏{‏يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ وكل هذا بيان لكون الكتاب العزيز أعظم فرقان وأوضح بيان إذ قد أوضح أحوال المختلفين ومن أين أتى عليهم مع وجود الكتب، وفي أثناء ذلك تنبيه العباد على عجزهم وعدم استبدادهم لئلا يغتر الغافل فيقول مع هذا البيان ووضوح الأمر‏:‏ لا طريق إلى تنكب الصراط، فنبهوا حين علموا الدعاء من قوله‏:‏ ‏{‏وإياك نستعين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ ثم كرر تنبيههم لشدة الحاجة ليذكر هذا أبداً، ففيه معظم البيان، ومن اعتقاد الاستبداد ينشأ الشرك الأكبر إذ اعتقاد الاستبداد بالأفعال إخراج لنصف الموجودات عن يد بارئها ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏ فمن التنبيه ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ ومنه‏:‏ ‏{‏يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ ومنه ‏{‏آمن الرسول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ إلى خاتمتها، هذا من جلي التنبيه ومحكمه، ومما يرجع إليه ويجوز معناه بعد اعتباره‏:‏ ‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 163‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، فمن رأى الفعل أو بعضه لغيره تعالى حقيقة فقد قال بإلهية غيره، ثم حذروا أشد التحذير لما بين لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 4‏]‏ ثم ارتبطت الآيات إلى آخرها انتهى‏.‏

ولما تحقق أن يوم الجمع كائن لا محالة تحقق أن من نتائجه تحقيقاً لعزته سبحانه وتعالى وانتقامه من الكفرة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي الذين يظنون لسترهم ما دلت عليه مرأى عقولهم أنهم يمتنعون من أمر الله لأنهم يفعلون في عصيانه وعداوة أوليائه فعل من يريد المغالبه ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم‏}‏ أي وإن كثرت، وقدمها لأن بها قوام ما بعدها وتمام لذاته، وأكد بإعادة النافي ليفيد النفي عن كل حالة وعن المجموع فيكون أصرح في المرام ‏{‏ولا أولادهم‏}‏ وإن جلت وعظمت ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من إغناء مبتدئاً من جهة الله، وإذا كانت تلك الجهة عارية عما يغني كان كل ما يأتيهم من قبله سبحانه وتعالى من بأس واقعاً بهم لا مانع له، فمهما أراد بهم كان من خذلان في الدنيا وبعث بعد الموت وحشر بعد البعث وعذاب في الآخرة، فأولئك المعرضون منه لكل بلاء ‏{‏وأولئك هم وقود النار *‏}‏ وفي ذلك أعظم تنبيه على أن الزائغين الذين خالفوا الراسخين فوقفت بهم نعمه المقتضيه لتصديقه عن تصديقه ليست مغنية عنهم تلك النعم شيئاً، وأنهم مغلوبون لا محالة في الدنيا ومحشورون في الآخرة إلى جهنم‏.‏

ولما كانت هذه السورة سورة التوحيد كان الأليق بخطابها أن يكون الدعاء فيه إلى الزهد أتم من الدعاء في غيرها، والإشارة فيه إلى ذلك أكثر من الإشارة في غيره، فكانت هذه الآية قاطعة للقلوب النيرة بما أشارت إليه من فتنة الأموال والأولاد الموجبة للهلاك‏.‏ قال الحرالي‏:‏ ولما كان من مضمون ترجمة سورة البقرة إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على سر التقدير الذي صرف عن الجواب فيه وإظهار سره موسى كليم الله وعيسى كلمة الله عليهما الصلاة والسلام كان مما أظهره الله سبحانه وتعالى لعامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم إعلاء لها على كل أمة، واختصاصاً لها بما علا اختصاص نبيها صلى الله عليه وسلم حتى قال قائلهم‏:‏ أخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني لقوم لم يظهروا على سر القدر، وقال‏:‏ والذي يحلف به عبد الله بن عمر‏:‏ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل منه حتى يؤمن بالقدر، فأفهم الله سبحانه وتعالى علماء هذه الأمة أن أعمالها لا تقبل إلا على معرفة سر التقدير لتكون قلوبها بريئة من أعمال ظواهرها، كما قيل في أثارة من العلم‏:‏ من لم يختم عمله بالعلم لم يعمل، ومن لم يختم علمه بالجهل لم يعلم فختم العامل عمله بالعلم أن يعلم أنه لا عمل له، وأن المجرى على يديه أمر مقدر قدره الله تعالى عليه وأقامه فيه لما خلقه له من حكمته من وصفه من خير أو شر ومن تمام كلمته في رحمته أو عقوبته ليظهر بذلك حكمة الحكيم، ولا حجة للعبد على ربه ولا حجة للصنعة على صانعها ولله سبحانه وتعالى الحجة البالغة؛ وكذلك العالم متى لم ينطو سره على أنه لا يعلم وإنما العلم عند الله سبحانه وتعالى لم يثبت له علم، فذلك ختم العمل بالعمل وختم العلم بالجهل، فكما أطلعه سبحانه وتعالى في فاتحة سورة البقرة على سر تقديره في خلقه أظهره في فاتحة سورة آل عمران على علن قيوميته الذي هو شاهده في وحي ربه، كما هو بصير بسر القدر في تفرق أفعال خلقه، فكان منزل سورة البقرة قوام الأفعال ومنزل سورة آل عمران قوام التنزيل والإنزال فكان علن القيومية قوام التنزيل للكتاب الجامع الأول، والتنزيل قوام إنزال الكتب، وإنزال الكتاب الجامع لتفسير الكتب قوام تفصيل الآيات المحكمات والمتشابهات، والإحكام والتشابه إقامة الهدى والفتنة، والهدى والفتنة إقامة متصرف الحواس الظاهرة والباطنة، والأحوال وما دونها من الأفعال على وجه جمع يكون قواماً لما تفصل من مجمله وتكثر من وحدته وتفرق من اجتماعه، ولعلو مضمون هذه السورة لم يقع فيها توجه الخطاب بها لصنف الناس، واختص خطابها بالذين آمنوا في علو من معاني الإيمان لما ذكر من شرف سن الإيمان على سن الناس في تنامي أسنان القلوب، وكان خطاب سورة البقرة بمقتضى رتبة العقل الذي به يقع أول الإصغاء والاستماع، كما ظهر في آيات الاعتبار فيها في قوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏إن في خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ فكان خطاب سورة آل عمران إقبالاً على أولي الألباب الذين لهم لب العقل، بما ظهر في أولها وخاتمتها في قوله‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ وفي خاتمتها في آيات اعتبارها في قوله سبحانه وتعالى ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 190‏]‏ فبالعقل يقع الاعتبار لمنزل الكتاب وباللب يكون التذكر، إيلاء إلى الذي نزل الكتاب، وبالجملة فمثاني هذه السورة من تفاصيل آياتها وجمل جوامعها مما هو أعلق بطيب الإيمان واعتبار اللب، كما أن منزل سورة البقرة أعلق بما هو من أمر الأعمال وإقامة معالم الإسلام بما ظهر في هذه السورة من علن أمر الله، وبما افتتحت به من اسم الله الأعظم الذي جميع الأسماء أسماء له لإحاطته واختصاصها بوجه ما، فكان فيها علن التوحيد وكماله وقوام تنزيل الأمر وتطورالخلق في جميع متنزلها ومثانيها، وظهر فيها تفصيل وجوه الحكم العلية التي تضمن جملة ذكرها الآية الجامعة في سورة البقرة في قوله سبحانه وتعالى ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 269‏]‏ فكان من جملة بناء الحكمة ما هو السبب في ظهور الكفر من الذين كفروا بما غلب عليهم من الفتنة بأموالهم وأولادهم حتى ألهتهم عن ذكر الله، فانتهوا فيه إلى حد الكفر الذي نبه عليه ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ في قوله سبحانه وتعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏ انتهى‏.‏

ولما كان السبب المقتضي لاستمرارالكفر من النصارى المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الخوف ممن فوقهم من ملوك النصرانية نبههم سبحانه وتعالى على أول قصة أسلافهم من بني إسرائيل، وما كانوا فيه من الذل مع آل فرعون، وما كان فيه فرعون من العظمة التي تُقسر بها ملوك زمانهم، ثم لما أراد الله سبحانه وتعالى قهر أسلافهم له لم تضرهم ذلتهم ولا قلتهم، ولا نفعته عزته ولا كثرة آله، فلذلك صرح بهم سبحانه وتعالى وطوى ذكر من قبلهم فقال‏:‏ ‏{‏كدأب‏}‏ أي لم يغن عنهم ذلك شيئاً مثل عادة ‏{‏آل فرعون‏}‏ أي الذين اشتهر لديكم استكبارهم وعظمتهم وفخارهم، قال الحرالي‏:‏ الدأب العادة الدائمة التي تتأبد بالتزامها، وآل الرجل من إذ أحصر تراءى فيهم فكأنه لم يغب؛ وفرعون اسم ملك مصر في الكفر، ومصر أرض جامعة كليتها وجملة، إقليمها نازل منزلة الأرض كلها، فلها إحاطة بوجه ما، فلذلك أعظم شأنها في القرآن وشأن العالي فيها من الفراعنة، وكان الرسول المبعوث إليه أول المؤمنين بما وراء أول الخلق من طليعة ظهور الحق لسماع كلامه بلا واسطة ملك، فكان أول من طوى في رتبة بنوتة رتبة البنوة ذات الواسطة، فلذلك بدئ به في هذا الخطاب لعلو رتبة بنوته بما هو كليم الله ومصطفاه على الناس، ولحق به من تقدمهم بما وقعت في بنوته من واسطة زوج أو ملك، وخص آله لأنه هو كان عارفاً بأمر الله سبحانه وتعالى فكان جاحداً لا مكذباً انتهى‏.‏

‏{‏والذين‏}‏ ولما كان المكذبون إنما هم بعض المتقدمين أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ وقد نقلت إليكم أخبارهم وقوتهم واستظهارهم فكأنه قيل‏:‏ ماذا كانت عادتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏كذبوا‏}‏ ولما كان التكذيب موجباً للعقوبة كان مظهر العظمة به أليق، فصرف القول إليه فقال‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ السورية والصورية مع ما لها من العظمة بما لها من إضافتها إلينا ‏{‏فأخذهم‏}‏ ولما أفحشوا في التكذيب عدل إلى أعظم من مظهر العظمة تهويلاً لأخذهم فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ فاظهر الاسم الشريف تنبيهاً على باهر العظمة ‏{‏بذنوبهم‏}‏ أي من التكذيب وغيره‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إشعار بأن صريح المؤاخذة مناط بالذنوب، وأن المؤاخذة الدنيوية لا تصل إلى حد الانتقام على التكذيب، فكان ما ظهر من أمر الدنيا يقع عقاباً على ما ظهر من الأعمال، وما بطن من أمر الآخرة يستوفي العقاب على ما أصرت عليه الضمائر من التكذيب، ولذلك يكون عقاب الدنيا طهرة للمؤمن لصفاء باطنه من التكذيب، ويكون واقع يوم الدنيا كفاف ما جرى على ظاهره من المخالفة فكأن الذنب من المؤمن يقع في دنياه خاصة، والذنب من الكافر يقع في دنياه وأخراه من استغراقه لظاهره وباطنه، وأظهر الاسم الشريف ولم يضمر للتنبيه على زيادة العظمه في عذابهم لمزيد اجترائهم فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الحال أن الملك الذي لا كفوء له في جبروته ولا شيء من نعوته ‏{‏شديد العقاب *‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏

ولما تم ذلك على هذه الوجوه الظاهره التي أوجبت اليقين لكل منصف بأنهم مغلوبون وصل بها أمره صلى الله عليه وسلم وهو الحبيب العزيز بأن يصرح لهم بمضمون ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قل للذين كفروا‏}‏ أي من أهل زمانك جرياً على منهاج أولئك الذين أخذناهم ‏{‏ستغلبون‏}‏ كما غلبوا وإن كنتم ملأ الأرض لأنكم إنما تغالبون خالقكم وهو الغالب لكل شيء‏:‏ «وليُغلَبنّ مُغالبُ الغَلاّب» واللام على قراءة الجمهور بالخطاب معدية، وعلى قراءة الغيب معللة، أي قل لأجلهم، أو هي بمعنى عن، أي قل عنهم، وقد أفهم الإخبار بمجرد الغلبة دون ذكر العذاب كما كان يذكر في تهديد من قبلهم أن أخذهم بيد المغالبة والمدافعة والنصرة تشريفاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم لأنه عرض عليه عذابهم فأبى إلا المدافعة على سنة المصابرة، فكان أول ذلك غلبته صلى الله عليه وسلم على مكة المشرفة، وكان فتحها فتحاً لجميع الأرض لأنها أم القرى نبه على ذلك الحرالي‏.‏ ‏{‏وتحشرون‏}‏ أي تجمعون بعد موتكم أحياء كما كنتم قبل الموت ‏{‏إلى جهنم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وهي من الجهامة، وهي كراهه المنظر انتهى؛ فتكون مهادكم، لا مهاد لكم غيرها ‏{‏وبئس‏}‏ أي والحال أنها بئس ‏{‏المهاد *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏13‏)‏ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك‏:‏ كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود‏؟‏ قيل لهم‏:‏ إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه ‏{‏قد كان لكم آية‏}‏ أي عظيمة بدلالة تذكير كان ‏{‏في فئتين‏}‏ تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئاً، استناداً إليها حماية بها لقوتها ومنعتها ‏{‏التقتا‏}‏ أي في بدر ‏{‏فئة‏}‏ أي منهما مؤمنة، لما يرشد إليه قوله‏:‏ ‏{‏تقاتل في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا، ومن كان كذلك لم يكن قطعاً إلا مؤمناً ‏{‏وأخرى‏}‏ أي منهما ‏{‏كافرة‏}‏ أي تقاتل في سبيل الشيطان، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازاً، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر، وبعبارة أخرى‏:‏ هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازاً ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه‏.‏

ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله‏:‏ ‏{‏يرونهم‏}‏ وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن، وانتزع منه حالاً ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير‏:‏ ظانيهم ‏{‏مثليهم‏}‏ فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى‏:‏ ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين ‏{‏رأي العين‏}‏ أي بالحزر والتخمين، لا بحقيقة العدد، هذا أقل ما يجوزونه فيهم، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم، كما هو المشهور في الآثار تأييداً من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي‏:‏ لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتاً، وبما هو مؤمن ذاتاً، فالمؤمن المسلم ضعفان أبداً ‏{‏فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏ وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين، لا ذات قلب له، فكان المؤمن ضعفه، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل الزيادة الصحيحة، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين

‏{‏إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏ انتهى‏.‏ وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره، وقبل اللقاء وبعده، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال، والمعنى‏:‏ إنا فاعلون بكم أيها الكفارعلى أيديهم ما فعلناه بأولئك، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يؤيد‏}‏ والأيد تضعيف القوة الباطنة ‏{‏بنصره‏}‏ قال الحرالي‏:‏ والنصر لا يكون إلا لمحق، وإنما يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى‏.‏ ‏{‏من يشاء‏}‏ أي فلا عجب فيه في التحقيق، فلذلك اتصل به قوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر الباهر، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية ‏{‏لعبرة‏}‏ قال‏:‏ هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة ‏{‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏- انتهى‏.‏ ‏{‏لأولي الأبصار *‏}‏ أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار‏.‏ قال الحرالي‏:‏ أول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 198‏]‏ فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها، التي تكون بالشام في آخر الزمان- انتهى‏.‏

ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل‏:‏ الآية العلامة، ومن شأنها الظهور، فما حجبها عنهم‏؟‏ فقيل‏:‏ تزيين الشهوات لمن دنت همته‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة‏:‏ إنزال التوراة بما أنشاء عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى مكلوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة، لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضاً فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة ووام التبس على أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بنى عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعداً ووعيداً، لتكون هذه الآية تطئة لتحقيق صرف النهي عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال‏:‏ ‏{‏زين للناس‏}‏ فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا ‏{‏حب الشهوات‏}‏ جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه- انتهى‏.‏

وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب، لا الشيء المحبوب، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها ‏{‏خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 1‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏من النساء‏}‏ أي المبتدئة منهن، وأتبعه ما هو منه أيضاً وهو بينه وبين الأنثى فقال‏:‏ ‏{‏والبنين‏}‏ قال الحرالي‏:‏ وأخفى فتنة النساء بالرجال ستراً لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حي كريم- انتهى‏.‏

ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال‏:‏ ‏{‏والقناطير‏}‏ قال الحرالي‏:‏ جمع قنطار، يقال‏:‏ هو مائة رطل ويقال‏:‏ إن الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهماً، والدرهم خمسون حبة وخمساً من حب الشعير، وأحقه أن يكون من شعير المدينة ‏{‏المقنطرة‏}‏ أي المضاعفة مرات- انتهى‏.‏ ثم بينها بقوله‏:‏ ‏{‏من الذهب والفضة‏}‏ ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال‏:‏ ‏{‏والخيل‏}‏ قال الحرالي‏:‏ اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحدة فرساً ‏{‏المسومة‏}‏ أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها، من السومة- بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم بالفتح الإرسال للرعي مكتفي في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها ‏{‏والأنعام‏}‏ وهي جمع نعم، وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم- انتهى‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ النعم- وقد تسكن عينه- الإبل والشياء جمع أنعام، وجمع جمعه أناعيم‏.‏ وقال القزاز في جامعه‏:‏ النعم اسم يلزم الإبل خاصة، وربما دخل في النعم سائر المال، وجمع النعم أنعام، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة، فإذا قلت‏:‏ الأنعام- دخل فيها البقر والغنم، قال‏:‏ وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام‏.‏ وقال قوم‏:‏ النعم والأنعام بمعنى، وقال في المجمل‏:‏ والأنعام البهائم، وقال الفارابي في ديوان الأدب‏:‏ والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل‏.‏ ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها أو تنيتها وتكثيرها فقال‏:‏ ‏{‏والحرث‏}‏‏.‏

ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيداً لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى‏.‏ ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ أي التي هي مع دناءتها إلى فناء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى، فافهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا، فأنبا سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى‏.‏

ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالاً من فاعل معنى الإشارة لقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ الذي بيده كل شيء، ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره‏:‏ وهو سوء المبدأ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة، والله ‏{‏عنده حسن المآب *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى‏.‏ فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث يشغله عن الخير، بل يجعل عوناً على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوجب الإعراض عن هذا العرض فكان السامع جديراً بأن يقول فعلاً أقبل‏؟‏ أمر سبحانه وتعالى أقرب الخلق إليه وأعزهم لديه بجوابه لتكون البشارة داعية إلى حبه فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لمن فيه قابلية الإقبال إلينا، ولما أجرى سبحانه وتعالى هذه البشارة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لتقوم الحجة على العباد بحاله كما تقوم بمقاله من حيث إنه لا يدعو إلى شيء إلا كان أول فاعل له، ولا ينهى عن شيء إلا كان أول تارك له، لإيثاره الغائب المسموع من بناء الآخرة على العاجل المشهود من أثر الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه حين أشفق عليه من تأثير رمال السرير في جنبه فذكر ما فيه فارس والروم من النعيم‏:‏ «أو في شك أنت يا ابن الخطاب‏؟‏ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة‏؟‏» شوق إليها بالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أؤنبئكم بخير من ذلكم‏}‏ أي الذي ذكر من الشهوات، وعظمه بأداة البعد وميم الجمع لعظمته عندهم والزيادة في التعظيم ما يرشد إليه، ثم استأنف بيان هذا الخير بقوله‏:‏ ‏{‏للذين اتقوا‏}‏ أي اتصفوا بالتقوى فكان مما أثمر لهم اتصافهم بها أن أعرضوا عن هذه الشهوات من حيث إنها شهوات وجعلوها عبادات واقية لهم من عذاب ربهم، فتلذذوا بالنساء لا لمجرد الشهوة بل لغض البصر من الجانبين وابتغاء ما كتب لهم من الولد إنفاذاً لمراد ربهم من تكثير خلائفهم في الأرض للإصلاح، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» ونحو ذلك وفرحوا بالبنين لا لمجرد المكاثرة بل لتعليمهم العلم وحملهم على الذكر والجهاد والشكر وأنواع السعي في رضى السيد، وحازوا النقدين لا للكنز، بل للإنفاق في سبيل الخيرات، وربطوا للجهاد، لا للفخر والرئاسة على العباد بل لقمع أولياء الشيطان ورفع أولياء الرحمن المسلتزم لظهور الإيمان، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم متشابه اقتنائها فقال‏:‏ «وهي لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر» ثم عظم سبحانه وتعالى ما لهم بقوله مرغباً بلفت القول إلى وصف الإحسان المقتضي لتربية الصدقات وغيرها من الأعمال الصالحات‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بلباس التقوى الموجب لإيثارهم الآخرة على الدنيا، وقوله‏:‏ ‏{‏جنّات‏}‏ مرفوع بالابتداء، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف إذا كان وللذين، متعلقاً بخير، ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي أن ماءها غير مجلوب، بل كل مكان منها متهيئ لأن ينبع منه ماء يجري لتثبت بهجتها وتدوم زهرتها ونضرتها، ثم أشار بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ إلى أنها هي المشتملة على جميع الإحسان المغنية عن الحرث والأنعام، وأن ذلك على وجه لا انقطاع له‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي معنى لفظ الخلود إعلام بسكون الأنفس إليها لما فيها من موافقتها انتهى‏.‏ ولعله إنما خص من بين ما تقدم من الشهوات ذكر النسوان في قوله‏:‏ ‏{‏وأزواج‏}‏ لأنها أعظم المشتهيات، ولا يكمل التلذذ بها إلا بحصول جميع ما يتوقف ذلك عليه، فصار ذكرهن على سبيل الامتنان من القادر كناية عن جميع ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين‏.‏

ولما كانت التقوى حاملة على تطهير الأنفس من أوضار الأدناس من الأوصاف السيئة وكان الوصف بالمفرد أدل على أنهن في أصل الطهارة كأنهن نفس واحدة قال عادلاً عما هو الأولى من الوصف بالجمع لجمع من يعقل‏:‏ ‏{‏مطهرة‏}‏ لأنهن مقتبسات من أنفسهم ‏{‏خلق لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 31‏]‏‏.‏

ولما ذكر حظ البدن قرر لذة هذا النعيم بما للروح، وزاده من الأضعاف المضاعفة ما لا حد له بقوله‏:‏ ‏{‏ورضوان‏}‏ قال الحرالي‏:‏ بكسر الراء وضمها، اسم مبالغة في معنى الرضى، وهو على عبرة امتلاء بما تعرب عنه الألف والنون وتشعر ضمة رائه بظاهر إشباعه، وكسرتها بباطن إحاطته- انتهى‏.‏

ولما جرى وعد الجنات على اسم الربوبية الناظر إلى الإحسان بالتربية فخم أمر هذا الجزاء وأعلاه على ذلك بنوطه بالاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال‏.‏ ولما كان شاملاً لجميعهم وكان ربما ظن أنهم فيه متساوون أشار إلى التفاوت بقوله مظهراً في موضع الإضمار إشارة إلى الإطلاق عن التقييد بحيثية ما‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الحكمة البالغة ‏{‏بصير بالعباد‏}‏ أي بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏16‏)‏ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ‏(‏17‏)‏ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بأنه بصير بمن يستحق ما أعد من الفوز أتبعه ما استحقوا ذلك به من الأوصاف تفضلاً منه عليهم بها وبإيجاب ذلك على نفسه حثاً لهم على التخلق بتلك الأوصاف فقال‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ لما وصف تعالى قلوبهم بالتقوى وبرأهم من الاستغناء بشيء من دونه وصف أدبهم في المقال فقال؛ انتهى- ‏{‏الذين يقولون ربنا‏}‏ أي يا من ربانا بإحسانه وعاد علينا بفضله، وأسقط أداة النداء إشعاراً بما لهم من القرب لأنهم في حضرة المراقبة؛ ولما كانت أحوالهم في تقصيرها عن أن يقدر الله حق قدره كأنها أحوال من لم يؤمن اقتضى المقام التأكيد فقالوا‏:‏ ‏{‏إننا‏}‏ فأثبتوا النون إبلاغاً فيه ‏{‏آمنا‏}‏ أي بما دعوتنا إليه، وأظهروا هذا المعنى بقولهم‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي فإننا عاجزون عن دفعها ورفع الهمم عن مواقعتها وإن اجتهدنا لما جبلنا عليه من الضعف والنقص، تنبيهاً منه تعالىعلى أن مثل ذلك لا يقدح في التقوى إذا هدم بالتوبة لأنه ما أصر من استغفر، والتوبة تجب ما قبلها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وبين المغفرة على مجرد الإيمان إشارة إلى أنه لا تغيرها الأفعال، من ترتب إيمانه على تقوى غفرت ذنوبه، فكانت مغفرة الذنوب لأهل هذا الأدب في مقابلة الذين آخذهم الله بذنوبهم من الذين كذبوا، ففي شمول ذكر الذنوب في الصنفين إعلام بإجراء قدر الذنوب على الجميع، فما كان منها مع التكذيب أخذ به، وما كان منها مع التقوى والإيمان غفر له- انتهى‏.‏

ولما رتب سبحانه وتعالى الغفران على التقوى ابتداء رتب عليها الوقاية انتهاء فقال‏:‏ ‏{‏وقنا عذاب النار‏}‏ أي الذي استحققناه بسوء أعمالنا‏.‏

قال الحرالي‏:‏ ولما وصف تقوى قلوبهم باطناً وأدب مقالهم ظاهراً وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال‏:‏ ‏{‏الصابرين‏}‏ فوصفهم بالصبر إشعاراً بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها، والصبر أمدح أوصاف النفس، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر، قال صلى الله عليه وسلم- يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه «لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي» وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصناماً يضر موجودها، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل، يقال‏:‏ إنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف، لأن كل مستزيد تمولاً من الدنيا زائداً على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد» الحديث ‏{‏وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتباً للإلزام ومرصداً للنوائب ومخرجاً للبذر، فإن أعطاه الله فضلاً أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع، ولا يمسكه متمولاً لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكراً، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من احتكر أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ الله منه» فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحاً، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص- انتهى‏.‏

ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذاناً بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏والصادقين‏}‏ قال الحرالي‏:‏ في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضاً إذا تركبت والتأمت، يعني مثل‏:‏ الرمان حلو حامض- إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم، في الآية السابقة، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل قيتحقق به فيصدق في جميع أموره والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه- انتهى ‏{‏والقانتين‏}‏ أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال‏:‏ ‏{‏والمنفقين‏}‏ أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إشعار بأن من صبر نوّل، ومن صدق أعلى، ومن قنت جل وعظم قدره، فنوله الله ما يكون له منفقاً، والمنفق أعلى حالاً من المزكي، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضاً، والمنفق يجود بما في يده فضلاً- انتهى‏.‏

ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص‏:‏ ‏{‏والمستغفرين‏}‏ أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال ‏{‏بالأسحار *‏}‏ التي هي أشق الأوقات استيقاظاً عليهم، وأحبها راحة لديهم، وأولاها بصفات القلوب، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهو جمع سحر، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر، ومنه السحور، تعلل عن الغداء؛ ثم قال‏:‏ وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏كانوا قليلاً من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 17، 18‏]‏ فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤاً من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئاماً بصدق قولهم في الابتداء‏:‏ ‏{‏ربنا إننا آمنا‏}‏ وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيراً لهم من الدنيا وما فيها، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود- انتهى‏.‏ ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لا سيما في القيام ولا سيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجرداً بعد عبادة المال مجرداً ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعال بوحدانيته في أول السورة واستدل عليها وأخبر عما أعد للكافرين واستدل عليه بما دل على الوحدانية وختم بالإخبار بما أعد للمتقين مما جر إلى ذكره تعالى بما يقتضي الوحدانية أيضاً من الأوصاف المبنية على الإيمان أنتج ذلك ثبوتها ثبوتاً لا مرية فيه، فكرر تعالى هذه النتيجة على وجه أضخم من الماضي كما اقتضته الأدلة فقال- وقال الحرالي‏:‏ لما أنهى تعالى الفرقان نهايته ببيان المحكمين والمتشابهين في الوحي والكون انتظمت هذه الشهادة التي هي أعظم شهادة في كتاب الله بآية القيومية التي هي أعظم آية الوجود لينتظم آية الشهود بآية الوجود، انتهى‏.‏

فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ‏{‏أنه‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل‏:‏ إلا الله، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي- انتهى‏.‏ والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جرياً على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيهاً على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب، وإلى ذلك ينظر قول وفد ثقيف‏:‏ ما لمحمد يأمرنا بأن نشهد له بالرسالة ولا يشهد هو لنفسه‏!‏ فكان صلى الله عليه وسلم بعد لا يخطب خطبة إلا شهد لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم الشهادة لله فيها بالرسالة، فكأنه قيل‏:‏ إن ربكم الذي أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة قد نصب لكم الأدلة بخلق ما خلق على تفرده بحيث انتفى كل ريب فكان ذلك أعظم شهادة منه سبحانه لنفسه، وإليه أومأ من قال‏:‏

ولله في كل تحريكة *** وتسكينة أبداً شاهد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

ثم شهد بذلك لنفسه بكلامه جمعاً بين آيتي السمع والبصر فلم يبق لكم عذراً‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وهذه الشهادة التي هي من الله لله هي الشهادة التي إليها قصد القاصدون وسلك السالكون وإليه انتهت الإشارة، وعندها وقفت العبارة، وهي أنهى المقامات وأعظم الشهادات، فمن شهد بها فقد شهد شهادة ليس وراءها مرمى، ومن شهد بما دونها كانت شهادته مشهوداً عليها لا شهادة، يؤثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يوم الجمعة وهو قائم بعرفة منذ كان وقت العصر إلى أن غربت الشمس في حجته التي كمل بها الدين وتمت بها النعمة يقول هذه الآية لا يزيد عليها، فأي عبد شهد لله بهذه الشهادة التي هي شهادة الله لله سبحانه وتعالى بالوحدانية فقد كملت شهادته، وأتم الله سبحانه وتعالى النعمة عليه، وهي سر كل شهادة من دونها، وهي آية علن التوحيد الذي هو منتهى المقامات وغاية الدرجات في الوصول إلى محل الشهود الذي منه النفوذ إلى الموجود بمقتضى الأعظمية التي في الآية الفاتحة- انتهى‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى عن نفسه المقدسة أخبر عمن يعتد به من خلقه فقال مقدماً لأن المقام للعلم لمن هم أعلم به سبحانه وتعالى ممن أطلعهم من الملك والملكوت على ما لم يطلع عليه الإنسان ولا شاغل لهم من شهوة ولا حظ ولا فتور‏:‏ ‏{‏والملائكة‏}‏ أي العباد المقربون المصفون من أدناس البشر، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏.‏ ولما خص أهل السماوات عم فقال‏:‏ ‏{‏وأولوا العلم‏}‏ وهم الذين عرفوه بالأدلة القاطعة ففعلوا ما فعل العظيم من الشهادات ليكون ذلك أدعى لغيرهم إليه وأحث عليه، ولما كانت الشهادة قد تكون على غير وجه العدل نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قائماً‏}‏ وأفرد ليفهم أنه حال كل من المذكورين لا المجموع بقيد الجمع، ويجوز- وهو الأقرب- أن يكون حالاً من الاسم الشريف إشارة إلى أنه ما وحد الله سبحانه وتعالى حق توحيده غيره، لأنه لا يحيط به أحد علماً‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ أفرد القيام فاندرج من ذكر من الملائكة وأولي العلم في هذا القيام إفهاماً، كما اندرجوا في الشهادة إفصاحاً، فكان في إشعاره أن الملائكة وأولي العلم لا يقاد منهم فيما يجريه الله سبحانه وتعالى على أيديهم، لأن أمرهم قائم بالقسط من الله، يذكر أن عظيم عاد لما كشف له عن الملائكة في يوم النقمة قال لهود عليه الصلاة والسلام‏:‏ يا هود‏!‏ ما هذا الذي أراهم في السحاب كأنهم البخاتي‏؟‏ فقال‏:‏ ملائكة ربي، فقال له‏:‏ أرأيت إن آمنت بالهك أيقيدني منهم بمن قتلوا من قومي‏؟‏ قال‏:‏ ويحك‏!‏ وهل رأيت ملكاً يقيد من جنده- انتهى‏.‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ أي العدل السواء الذي لا حيف فيه أصلاً بوجه من الوجوه، وقد ثبت بهذه الشهادة على هذا الوجه أن التوحيد في نفس الأمر على ما وقعت به الشهادة، ويجوز أن يراد مع ذلك أن قيامه بالعدل فعله في خلقه فإنه عدل وإن كان من بعضهم إلى بعض ظلماً، فإنه تصرف منه سبحانه في ملكه الذي لا شائبة لأحد فيه، فهو إذا نسب إليه كان عدلاً، لأنه فعله بالحكمة، وإذا نسب إلى الظالم كان ظلماً، لأنه فعله لحظه لا للحكمة فلذلك قال على طريق الاستنتاج والتعليل للقيام بالقسط والتلقين للعباد لأن يقولوها بعد ثبوتها بما تقدم وأن يكرروها دائماً أبداً‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ وقال الحرالي‏:‏ كرر هذا التهليل لأنه في مرتبة القسط الفعلي، لأن التهليل الأول في مرتبة الشهادة العلمية فاستوفى التهليلان جميع البادي علماً وفعلاً- انتهى‏.‏ وأتبعه سبحانه وتعالى بقوله‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم *‏}‏ دليلاً على قسطه، لأنه لا يصح أبداً لذي العزة الكاملة والحكمة الشاملة أن يتصرف بجور، وعلى وحدانيته، لأنه لا يصح التفرد بدون الوصفين وليسا على الإطلاق لأحد غيره أصلاً، ولما كانت الآيات كلها في الإيقاع بالكافرين قدم الوصف الملائم لذلك‏.‏

قال الحرالي‏:‏ وقسط الله هو إخفاء عدله في دار الدنيا من حيث إنه خفض ورفع، يعادل خفضه رفعه ورفعه خفضه، فيؤول إلى عدل، ويراه بذلك في حال تفاوته كل ذي لب بما أنه عزيز يظهر عزته فيما يرفع، حكيم يخفي معنى حكمه فيما يخفض، فكل ما هو باد من الخلق جود فهو من الله سبحانه وتعالى قسط، طيته عدل، سره سواء، فيظهر عزته فيما حكم انتقاماً وحكمته في الموازنة بين الأعمال والجزاء عدلاً- انتهى‏.‏

ولما كان ذلك علم أنه يجب أن تخضع له الرقاب ويخلص له التوحيد جميع الألباب وذلك هو الإسلام فقال معللاً للشهادة منهم بالعدل- وقراءة الكسائي بالفتح أظهر في التعليل‏:‏ ‏{‏إن الدين‏}‏ واصله الجزاء، أطلق هنا على الشريعة لأنها مسببة ‏{‏عند الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله ‏{‏الإسلام‏}‏ فاللام للعهد في هذه الشهادة فإنها أس لكل طاعة، فلأجل أن الدين عنده هذا شهدوا له هذه الشهادة المقتضية لنهاية الإذعان‏.‏

ولما كان ذلك مصرحاً بأنه لا دين عنده غيره كان كأن قائلاً قال‏:‏ فكان يجب أن يعلم بذلك الأنيباء الماضون والأمم السالفون ليلزموه ويلزموه أتباعهم‏!‏ فقيل‏:‏ قد فعل ذلك، فقيل‏:‏ فما لهم لم يلزموه‏؟‏ فقيل‏:‏ قد لزموه مدة مديدة ‏{‏وما‏}‏ ويجوز وهو أحسن أن يكون التقدير‏:‏ بين الله سبحانه وتعالى بشهادته ما يرضيه بآياته المرئية ثم أوضحة غاية الإيضاح بآياته المسموعة بكتبه وما ‏{‏اختلف الذين أوتوا الكتاب‏}‏ هذا الاختلاف الذي ترونه ‏{‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏ بذلك كله، وما كان اختلافهم لجهلهم بذلك بل ‏{‏بغياً‏}‏ واقعاً ‏{‏بينهم‏}‏ لا بينهم وبين غيرهم، بل من بعضهم على بعض للحسد والتنافس في الدنيا لشبه أبدوها ودعاو ادعوها، طال بينهم فيها النزاع وعظم الدفاع، والله سبحانه وتعالى عالم بكشفها، قادر على صرفها‏.‏ قال الحرالي‏:‏ والبغي السعي بالقول والفعل في إزالة نعم أنعم الله تعالى بها على خلق بما اشتملت عليه ضمائر الباغي من الحسد له- انتهى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن استمر على الإيمان فإن الله عظيم الثواب، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكفر‏}‏ أي يستمر على كفره ولم يقل حلماً منه‏:‏ ومن كفر ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي المرئيات والمسموعات الدالة على إحاطته بالكمال وقوفاً مع تلك الشبه وعمى عن الدليل فالله مهلكه عاجلاً ‏{‏فإن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا كفوء له ‏{‏سريع‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من السرعة وهي وحاء النجاز فيما شأنه الإبطاء- انتهى‏.‏ ويحتمل أن يكون كنى بالسرعة عن القرب فالمعنى‏:‏ قريب ‏{‏الحساب *‏}‏ أي عن قريب يجازيهم على كفرهم في هذه الحياة الدنيا بأيدي بعضهم وبأيدي المؤمنين، ثم ينقلون إلى حسابه سبحانه وتعالى في الدار الآخرة المقتضي لعذاب الكفرة، ويحتمل أن تكون السرعة على بابها، والمراد أنه لا يتهيأ في حسابه ما يتهيأ في حساب غيره من المغالطة المقتضية للنجاة أو المطاولة في مدة الحساب المقتضية لتأخر الجزاء في مدة المراوغة والله تعالى أعلم‏.‏

ومن الكفر بالآيات الكفر بعيسى عليه الصلاة والسلام حين انتحلوا فيه الإلهية‏.‏ قال الحرالي‏:‏ كان آية من الله سبحانه وتعالى للهداية، فوقع عندهم بحال من كفروا به، فكان سبب كفرهم ما كان مستحقاً أن يكون سبب هداية المهتدي، وكان ذلك فيه لمحل اشتباهه لأنه اشتبه عليهم خلقه بما ظهر على يديه من آيات الله سبحانه وتعالى، وفي التعريض به إلاحة لما يقع لهذه الأمة في نحوه ممن هو مقام الهداية فوقع في طائفة موقع آية كفروا بها، كما قال عليه الصلاة والسلام في علي رضي الله تعالى عنه «مثلك يا علي كمثل عيسى ابن مريم أبغضه يهود فبهتوا أمه وأحبه النصارى فأنزلوه بالمحل الذي ليس به» كذلك تفرقت فرق في علي رضي الله تعالى عنه من بين خارجيهم ورافضيهم انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏20‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏21‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏22‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما تم ذلك كان كأنه قيل‏:‏ قد جئناك بالأمر الواضح الذي لا يشكون فيه ‏{‏فإن حاجّوك‏}‏ بعده في شيء مما تضمنه وهدى إليه ودل صريحاً أو تلويحاً عليه فاعلم أن جدالهم عن عناد مع العلم بحقيقة الحال ‏{‏فقل‏}‏ أي فأعرض عنهم إلى أن آمرك بالقتال، لأن من الواجبات- كما تقرر في آداب البحث- الإعراض عمن كابر في المحسوس، وقل أنت عملاً بالآية السالفة‏:‏ ‏{‏أسلمت وجهي‏}‏ أي أخلصت قصدي وتوجهي، وانقدت غاية الانقياد ‏{‏لله‏}‏ الملك الأعظم الذي له الأمر كله، فلا كفوء له‏.‏

قال الحرالي‏:‏ ولما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته لقن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي صلى الله عليه وسلم «وما أنا عليه» فيما أوتي من اليقين «وأصحابي» فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر، كما كانوا يقولون عند كل ناشئة علم أو أمر‏:‏ الله ورسوله أعلم، فمن دخل برأيه في أمر نقص حظه من الاتباع بحسب استبداده- انتهى‏.‏ فقال تعالى عاطفاً على الضمير المرفوع المتصل لأجل الفعل‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وأسلم من ‏{‏اتبعن‏}‏ وجوههم له سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان المكمل لنفسه يجب عليه السعي في إكمال غيره أعلمه بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ تهديداً وتعجيزاً وتبكيتاً وتقريعاً ‏{‏للذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي عامة من هؤلاء النصارى الذين يجادلونك ومن اليهود أيضاً ‏{‏والأمّيّن‏}‏ الذين لا كتاب لهم، مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم‏:‏ ‏{‏ءأسلمتم فإن أسلموا‏}‏ عند ذلك ‏{‏فقد اهتدوا‏}‏ فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وفي صيغة «افتعلوا» ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طريق الكمال ‏{‏وإن تولوا‏}‏ أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم ‏{‏فإنما عليك البلاغ‏}‏ أي وعليهم وبال توليهم، وفي بنية التفعل ما يومئ إلى أن طرق الهدى بعد البيان آخذ محاسنها بمجامع القلوب، وأن الصادف عنها بعد ذلك قاهر لظاهر عقله وقويم فطرته الأولى برجاسة نفسه واعوجاج طبعه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله يوفق لقبول البلاغ عنك من علم فيه الخير، وينكب عنه من علم فيه الشر، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏بصير بالعباد‏}‏ أي فهو يوفق من خلقه للخير منهم ويخذل غيره‏.‏ لا يقدر على فعل ذلك غيره، ولا يقدر أحد غيره أن يفعل غير ذلك‏.‏

ولما أشرك اليهود في هذا الخطاب وأفهم شرط التولي بأداة الشك وقوعه، فتشوفت النفس إلى معرفة جزائهم أشار إليه واصفاً لهم ببعض ما اشتد فحشه من أفعالهم فقال‏:‏- وقال الحرالي‏:‏ ولما كانت هذه السورة منزلة لتبيين ما اشتبه على أهل الإنجيل جرى ذكر أهل التوراة فيها مجملاً بجوامع من ذكرهم، لأن تفاصيل أمرهم قد استقرأته سورة البقرة، فكان أمر أهل التوراة في سورة البقرة بياناً وأهل الإنجيل إجمالاً، وكان أمر أهل الإنجيل في سورة آل عمران بياناً وذكر أهل التوراة إجمالاً، لما كان لبس أهل التوراة في الكتاب فوقع تفصيل ذكرهم في سورة

‏{‏الم ذلك الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1، 2‏]‏، ولما كان اشتباه أمر أهل الإنجيل في شأن الإلهية كان بيان ما تشابه عليهم في سورة ‏{‏الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1، 2‏]‏ فجاء هذا الذكر لأهل التوراة معادلة بينهم وبين أهل الإنجيل بما كفروا بالآيات من المعنى الذي اشتركوا فيه في أمر الإلهية في عزير واختصوا بقتل الأنبياء وقتل أهل الخير الآمرين بالقسط؛ انتهى‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون‏}‏ وهم الذين خذلهم الله ‏{‏بآيات الله‏}‏ في إبراز الاسم الأعظم إشارة إلى عظيم كفرهم بكونه مما أضيف إليه سبحانه وتعالى‏.‏ قال الحرالي‏:‏ وفي ذكره بصيغة الدوام ما يقع منهم من الكفر بآيات الله في ختم اليوم المحمدي مع الدجال فإنهم أتباعه ‏{‏ويقتلون النبيين‏}‏ في إشعاره ما تمادوا عليه من البغي على الأنيباء حتى كان لهم مدخل في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم التي رزقه الله فيما كان يدعو به حيث كان يقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم ارزقني شهادة في يسر منك وعافية»‏.‏

ولما كان قتلهم إياهم بدون شبهة أصلاً بل لمحض والكفر والعناد، لأن الأنبياء مبرؤون من أن يكون لأحد قبلهم حق دنيوي أو أخروي قال‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ أي لا صغير ولا كبير في نفس الأمر ولا في اعتقادهم، فهو أبلغ مما في البقرة على عادة أفعال الحكماء في الابتداء بالأخف فالأخف‏.‏ ولما خص ذكر أكمل الخلق عبر بما يعم أتباعهم فقال معيداً للفعل زيادة في لومهم وتقريعهم‏:‏ ‏{‏ويقتلون الذين يأمرون بالقسط‏}‏ أي العدل، ولما كان ذلك شاملاً لمن لا قدرة لهم على قتله من الملائكة قال‏:‏ ‏{‏من الناس‏}‏ أي كلهم، سواء كانوا أنبياء أو لا، ويجوز أن يكون المراد بهذا القيد زيادة توبيخهم بأنهم يقتلون جنسهم الذي من حقهم أن يألفوه ويسعوا في بقائه، وهذا تحقيق لأن قتلهم لمجرد العدوان قال الحرالي‏:‏ فيه إعلام بتمادي تسلطهم على أهل الخير من الملوك والرؤساء، فكان في طيه إلاحة لما استعملوا فيه من علم التطبب ومخالطتهم رؤساء الناس بالطب الذي توسل كثير منهم إلى قتلهم به عمداً وخطأ، ليجري ذلك على أيديهم خفية في هذه الأمة نظير ما جرى على أيدي أسلافهم في قتل الأنبياء جهرة- انتهى‏.‏

ويجوز أن يكون الخبر عنهم محذوفاً والتقدير‏:‏ أنهم مطبوع على قلوبهم، أو‏:‏ لا يؤمنون، أو‏:‏ لا يزالون يجادلونك وينازعونك ويبغون لك الغوائل ‏{‏فبشرهم بعذاب أليم *‏}‏ أي اجعل إخبارهم بأنه لهم موضع البشارة، فهو من وادي‏:‏ تحيتهم بينهم ضرب وجيع‏.‏

ولما كان الحال ربما اقتضى أن يقال من بعض أهل الضلال‏:‏ إن لهؤلاء أعمالاً حساناً واجتهادات في الطاعة عظيمة، بيّن تعالى أن تلك الأفعال مجرد صور لا معاني لها لتضييع القواعد، كما أنهم هم أيضاً ذوات بغير قلوب، لتقع المناسبة بين الأعمال والعاملين فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏الذين حبطت‏}‏ أي فسدت فسقطت، وأشار بتأنيث الفعل إلى ضعفها من أصلها ‏{‏أعمالهم‏}‏ أي كلها الدنياوية والدينية، وأنبأ تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏في الدنيا‏}‏ كما قال الحرالي- أنهم يتعقبون أعمال خيرهم ببغي يمحوها فلا يطمعون بجزائها في عاجل ولا آجل، وبذلك تمادى عليهم الذل وقل منهم المهتدي- انتهى ‏{‏والآخرة‏}‏ فلا يقيم لهم الله في يوم الدين وزناً، وأسقط ذكر الحياة إشارة إلى أنه لا حياة لهم في واحدة من الدارين‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا ينتصرون بأنفسهم أصلاً، فإنهم لا يدبرون تدبيراً إلا كان فيه تدميرهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما لهم من ناصرين *‏}‏ قال الحرالي‏:‏ فيه إعلام بوقوع الغلبة عليهم غلبة لا نصرة لهم فيها في يوم النصر الموعود في سورة الروم التي هي تفصيل من معنى هذه السورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 4، 5‏]‏ فهم غير داخلين فيمن ينصر بما قد ورد أنهم «يقتلون في آخر الزمان حتى يقول الحجر‏:‏ يا مسلم‏!‏ خلفي يهودي فاقتله، حتى لا يبقى منهم إلا من يستره شجر الفرقد» كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنه من شجرهم» وفي إفهامه أن طائفة من أهل الإنجيل يقومون بحقه، فيكونون ممن تشملهم نصرة الله سبحانه وتعالى مع المسلمين، فتنتسق الملة واحدة مما يقع من الاجتماع حين تضع الحرب أوزارها- انتهى‏.‏

ولما كان من المعلوم أن ثبات الأعمال وزكاءها إنما هو باتباع أمر الله سبحانه وتعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأمر الذين ورثوا العلم عنه دل على ما أخبر به من الحبوط وعدم النصر بما يشاهد من أحوالهم في منابذة الدين فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وكان الموضع لأن يقال‏:‏ إليهم، ولكنه قال‏:‏ ‏{‏إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ ليدل على أن ضلالهم على علم، وأن الذي أوتوه منه قراءتهم له بألسنتهم وادعاء الإيمان به‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ كتابهم الخاص بهم نصيب من الكتاب الجامع، وما أخذوا من كتابهم نصيب من اختصاصه، فإنهم لو استوفوا حظهم منه لما عدلوا في الحكم عنه ولرضوا به، وكان في هذا التعجيب أن يكون غيرهم يرضى بحكم كتابهم ثم لا يرضون هم به- انتهى‏.‏

‏{‏يدعون إلى كتاب الله‏}‏ أظهر الاسم الشريف ولم يقل‏:‏ إلى كتابهم، احترازاً عما غيروا وبدلوا ولأنهم إنما دعوا إلى كتاب الله الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام، لا إلى ما عساه أن يكون بأيديهم مما غيروا- نبه عليه الحرالي‏.‏ وفيه أيضاً إشارة إلى عظيم اجترائهم بتوليهم عمن له الإحاطة الكاملة ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ في إشعاره أن طائفة منهم على حق منه، أي وهم المذعنون لذلك الحكم الذي دعي إليه- انتهى‏.‏

ولما كان اتباعه واجباً واضحاً نفعه لمن جرد نفسه عن الهوى عبر عن مخالفته بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ وقال الحرالي‏:‏ في إمهاله ما يدل على تلددهم وتبلدهم في ذلك بما يوقعه الله من المقت والتحير على من دعي إلى حق فأباه، وفي صيغة يتفعل في قوله‏:‏ ‏{‏يتولى‏}‏ ما يناسب معنى ذلك في تكلف التولي على انجذاب من بواطنهم لما عرفوه وكتموه، وصرح قوله‏:‏ ‏{‏فريق منهم‏}‏ بما أفهمه ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏ليحكم بينهم‏}‏ فأفهم أن طائفة منهم ثابتون قائلون لحكم كتاب الله تعالى، وأنبأ قوله المشير إلى كثرة أفراد هذا الفريق ‏{‏وهم معرضون *‏}‏ بما سلبوه من ذلك التردد والتكلف، فصار وصفاً لهم بعد أن كان تعملاً، ما أنكر منكر حقاً وهو يعلمه إلا سلبه الله تعالى علمه حتى يصير إنكاره له بصورة وبوصف من لم يكن قط علمه- انتهى‏.‏

وفي هذا تحذير لهذه الأمة من الوقوع في مثل ذلك ولو بأن يدعى أحدهم من حسن إلى أحسن منه- نبه عليه الحرالي وقال‏:‏ إذ ليس المقصود حكاية ما مضى فقط ولا ما هو كائن فحسب، بل خطاب القرآن قائم دائم ماض كلية خطابه في غابر اليوم المحمدي مع من يناسب أحوال من تقدم منهم، وفي حق المرء مع نفسه في أوقات مختلفة- انتهى‏.‏ ثم علل اجتراءهم على الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإعراض البعيد عن أفعال أهل الكرم المبعد من الله ‏{‏بأنهم قالوا‏}‏ كذباً على الله- كما تقدم بيانه في سورة البقرة ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً‏}‏ ولما كان المقام هنا لتناهي اجترائهم على العظائم لاستهانتهم بالعذاب لاستقصارهم لمدته والتصريح بقتل الآمرين بالقسط عامة وبحبوط الأعمال، وكان جمع القلة قد يستعار للكثرة أكدت إرادتهم حقيقة القلة بجمع آخر للقلة، فقيل على ما هو الأولى من وصف جمع القلة لما لا يعقل بجمع جبراً له‏:‏ ‏{‏معدودات‏}‏ وتطاول الزمان وهم على هذا الباطل حتى آنسوا به واطمأنوا إليه لأنه ما كذب أحد بحق إلا عوقب بتصديقه بباطل، وما ترك قوم سنة إلا أحيوا بدعة، على أن كذبهم أيضاً جرهم إلى الاستهانة بعذاب الله الذي لا يستهان بشيء منه ولو قل‏.‏

ولما نسبوا ذلك إلى الكتاب فجعلوه ديناً قال‏:‏ ‏{‏وغرَّهم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من الغرور وهو إخفاء الخدعة في صورة النصيحة- انتهى ‏{‏في دينهم ما كانوا‏}‏ أي بما هيؤوا له وجبلوا عليه ‏{‏يفترون *‏}‏ أي يتعمدون كذبة، قال الحرالي‏:‏ فتقابل التعجيبات في ردهم حق الله سبحانه وتعالى وسكونهم إلى باطلهم- انتهى‏.‏

ولما تسبب عن اجترائهم بالكذب على الله أن يسأل عن حالهم معه قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة المقتضي للمجازاة والمناقشة‏:‏ ‏{‏فكيف‏}‏ أي يكون حالهم ‏{‏إذا جمعناهم‏}‏ أي وقد رفعنا حجاب العظمة وشهرنا سيف العزة والسطوة‏.‏ ولما كان المقصود بالجمع الجزاء قال‏:‏ ‏{‏ليوم‏}‏ ووصفُه بقوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ مشعر- كما قال الحرالي- بأنهم ليسوا على طمأنينة في باطلهم بمنزلة الذي لم يكن له أصل كتاب، فهم في ريبهم يترددون إلى أن يأتي ذلك اليوم‏.‏

ولما كان الجزاء أمراً متحققاً لا بد منه أشار إليه بصيغة الماضي في قوله‏:‏ ‏{‏ووفيت‏}‏ والبناء للمفعول للإفهام بسهولة ذلك عليه وإن كان يفوت الحصر وتأنيث الفعل للإشارة إلى دناءة النفوس وضعفها وقوله‏:‏ ‏{‏كل نفس‏}‏ قال الحرالي‏:‏ الفصل الموقع للجزاء مخصوص بوجود النفس التي دأبها أن تنفس فتريد وتختار وتحب وتكره، فهي التي توفي، فمن سلب الاختيار والإرادة والكراهة بتحقق الإسلام الذي تقدم ارتفع عنه التوفية، إذ لا وجود نفس له بما أسلم وجهه لله، فلذلك اختص وعيد القرآن كله بالنفس في نفاستها بإرادتها وما تنشأ لها عليه من أحوالها وأفعالها ودعواها في ملكها ومُلكها، فمتى نفست فتملكت ملكاً أو تشرفت مُلكاً خرجت عن إسلامها حتى ينالها سلب القهر منه وإلزام الذل عنه، وبلمح من هذا المعنى اتصلت الآية التي بعدها بختم هذه الآية وناظرت رأس آية ذكر الإسلام، فإنما هو مسلم لله وذو نفس متملك على الله حتى يسلبه الله في العقبى أو يذله في الدنيا، فشمل هذا الوفاء لكل نفس أهل الكتاب وغيرهم، وعم الوفاء لكل من يعمه الجمع، كذلك خطاب القرآن يبدأ بخصوص فيختم بعموم، ويبدأ بعموم فيثنيه تفصيل- انتهى‏.‏

ولما كان هذا الجزاء شاملاً للخير والشر قال‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ أي جزاء ما ‏{‏كسبت‏}‏ فأتى به مخففاً ليشمل المباشرة بكسب أو اكتساب، وأنث الفعل مع جواز التذكير مراعاة للفظ كل إشارة إلى الإحاطة بالأفعال ولو كانت في غاية الحقارة، وراعى معنى «كل» للوفاء بالمعنى مع موافقة الفواصل ‏{‏وهم لا يظلمون *‏}‏ أي لا يقع عليهم ظلم بزيادة ولا نقص، ولا يتوقعونه‏.‏

ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضياً لأن يقولوا‏:‏ كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى، فكيف نغلب‏؟‏ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضاً وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوونا القليل الضعفاء، أهل الأرض الغبراء، وأولو البأساء والضراء، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلات المتقلبون في فلوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه جدير بأن يفعل أضعافه لأوليائه‏:‏ ‏{‏قل اللهم‏}‏ قال الحرالي‏:‏ ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكاً فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم الذين يقولون‏:‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 8‏]‏، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب- انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة، وخص به من لاق به الملك، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه- انتهى؛ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء‏.‏ قال الحرالي‏:‏ لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل‏:‏ قل لهم، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل- انتهى‏.‏ ‏{‏اللهم مالك الملك‏}‏ أي لا يملك شيئاً منه غيرك‏.‏ قال الحرالي‏:‏ فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبياً عبداً، لا نبياً ملكاً، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش، ولانوا في الحق، وحملوا جفاء الغريب، واتبعوا اثره في العبودية، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوه شيئاً منه، حمل عمر رضي الله تعالى عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله، لينال كل من رحمة الله وفضله، التي ولى جميعها نبيه صلى الله عليه وسلم كلَّ طائفة على قدر قربهم منه، حتى اختص بالتقدم قريشاً ما كانت، ثم العرب ما كانت إلى ما صار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر إلى ما يصير إليه من دجل كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه ‏{‏تؤتي الملك من تشآء‏}‏ في الإيتاء إشعار بأنه تنوبل من الله من غير قوة وغلبة ولا مطاولة فيه وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم للهداية من ذريته ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة من ذرية آدم، ويؤتيهم من المكنة، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل» ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم، فيؤتيهم الله ملكاً من ملكه- ظاهر هداية من هداه، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته‏:‏ إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم، وإياك والذخيرة‏!‏ فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها‏.‏

لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال‏:‏ إنا قوم أعزنا الله بالإسلام‏!‏ فلن نلتمس العزة بغيره‏.‏ فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل، وهو به من أتباع ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال‏:‏ أخبروني أخليفة أنا أم ملك‏؟‏ فقال له سلمان رضي الله عنه‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب‏:‏ رحم الله تعالى‏!‏ ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه- انتهى‏.‏

وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب ‏{‏وتنزع‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش- انتهى‏.‏ ‏{‏الملك ممن تشآء‏}‏ وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب، وعلى هذا المنوال أبرز قوله‏:‏ ‏{‏وتعز من تشآء‏}‏ أي إعزازه ‏{‏وتذل من تشآء‏}‏ أي إذلاله، وهو كما قال‏:‏ «إن رحمتي سبقت غضبي» قال الحرالي‏:‏ وفي كلمة النزع بما ينبئ عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له‏:‏ سلم ما بيدك لصاحب الهراوة، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشاً ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غرباً وشرقاً وجنوباً وشمالاً، إلى ما يتم به الأمر في الختم، والعز- والله سبحانه وتعالى أعلم- عزة الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا ‏{‏من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا استتروا أو اشتهروا، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهراً، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم، محصورون في أقطار ممالكهم، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك، والله عز وجل يقول‏:‏ «إن عبداً أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في رزقه، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم» فالملوك مملوكون بما ملكوا، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى، فقارض الله أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين، والذل مقابل ذلك العزة، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل- والله تعالى أعلم- ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين- انتهى‏.‏

ولعل نصارى نجران أشد قصداً بهذا الخطاب، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بيدك‏}‏ أي وحدك ‏{‏الخير‏}‏ ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر- والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً‏:‏ ‏{‏إنك على كل شيء قدير *‏}‏