فصل: تفسير الآيات رقم (51- 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما تلك الآية التي سميتها «آية» بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ الجامع لصفات الكمال ‏{‏ربي وربكم‏}‏ أي خالقنا ومربينا، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد، وقراءة من فتح ‏{‏إن‏}‏ أظهر في المراد ‏{‏فاعبدوه هذا‏}‏ أي الذي دعوتكم إليه ‏{‏صراط مستقيم *‏}‏ أنا وأنتم فيه سواء، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه، من كذبه هلك، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه، ومن صدقه هلك؛ قال في السفر الخامس منها‏:‏ وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام، ولا من يطلب تعليم العرافين، ولا من يأخذ بالعين، ولا يوجد فيكم من يتطير طيرة، ولا ساحر، ولا من يرقى رقية، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم‏:‏ لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب‏:‏ ما أحسن ما تكلموا‏!‏ سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي، وإن قلتم في قلوبكم‏:‏ كيف لنا أن نعرف القول الذي لم يقله الرب، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله‏:‏ ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه؛ وقال قبل ذلك بقليل‏:‏ وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم، احفظوا، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم الله من بين أيديكم، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا‏:‏ كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها‏؟‏ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا‏!‏ لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول‏:‏ اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها- لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام، لأنه إنما يريد، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله واعبدوه والحقوا به، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وخلصكم من العبودية فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه، واستأصلوا الشر من بينكم، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك‏:‏ هلم بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب التي حولكم- القريبة منكم والبعيدة- ومن أقطار الأرض إلى أقصاها- لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه، ولكن اقتله قتلاً، وابدأ به أنت قتلاً، ثم يبدأ به جميع الشعوب، وارجموه بالحجارة وليمت، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم‏:‏ ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم، لا تأثموا ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت، لأنكم شعب طاهر لله ربكم، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم- انتهى‏.‏

فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏‏.‏

ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة، وكان قوله‏:‏ في أول السورة ‏{‏يصوركم في الأرحام كيف يشاء‏}‏ وقوله هنا ‏{‏يخلق ما يشاء‏}‏ مغنياً عن ذكر حملها، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير‏:‏ فصدق الله فيما قال لها، فحملت به من غير ذكر فولدته- على ما قال سبحانه وتعالى- وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فلما أحس‏}‏ قال الحرالي‏:‏ من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني- انتهى ‏{‏عيسى منهم الكفر‏}‏ أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار، فعزم على إلحاقهم دار البوار ‏{‏قال من أنصاري‏}‏‏.‏

ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏قال الحواريون‏}‏ قال الحرالي‏:‏ جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب- انتهى‏.‏

وهو مصروف لأن ياءه عارضة ‏{‏نحن أنصار الله‏}‏ أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم‏:‏ ‏{‏آمنا بالله‏}‏ أي على ما له من صفات الكمال، ثم أكدوا ذلك بقولهم مخاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخق إذ ذاك‏:‏ ‏{‏واشهد بأنا مسلمون *‏}‏ أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة‏.‏

ثم لما خاطبوا الرسول أدباً ترقوا إلى المرسل في خطابهم إعظاماً للأمر وزيادة في التأكيد فقالوا مسقطين لأداة النداء استحضاراً لعظمته بالقرب لمزيد القدرة وترجي منزلة أهل الحب‏:‏ ‏{‏ربنا آمنا بما أنزلت‏}‏ أي على ألسنة رسلك كلهم ‏{‏واتبعنا الرسول‏}‏ الآتي إلينا بذلك معتقدين رسالته منك وعبوديته لك ‏{‏فاكتبنا‏}‏ لتقبّلك شهادتنا واعتدادك بها ‏{‏مع الشاهدين *‏}‏ أي الذين قدمت أنهم شهدوا لك بالوحدانية مع الملائكة، ولعله عقب ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ومكروا‏}‏ المعطوف على قوله‏:‏ ‏{‏قال من أنصاري إلى الله‏}‏ بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع، أما مكر اليهود فمشهور، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه- كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله‏.‏ والمكر- قال الحرالي- إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى- انتهى‏.‏ ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله‏:‏ ‏{‏ومكر الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً‏.‏

ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصاً من جهة ما فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد بوجه ‏{‏خير الماكرين *‏}‏ بإرادته تأخير حربه لهم إلى وقت قضاه في الأزل فأمضاه وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفاً لهم، ثم بين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوا أحدهم، ويقال‏:‏ إنه الذي دلهم، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذى طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أخفى الكيد فقال تعالى مخبراً عن ذلك على وجه مبشر له بأنه عاصمه من أن يقتلوه ومميته حتف أنفه‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي مكر حين ‏{‏قال الله‏}‏ أي ما له من التفرد بصفات الكمال ‏{‏يا عيسى إني متوفيك‏}‏ وعبر عن ذلك بطريق الكناية الإيمائية فإن عصمته من قتل الكفار ملزومة للموت حتف الأنف، وأما قول الزمخشري‏:‏ أي مستوفى أجلك ومعناه‏:‏ إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم- ليكون كناية تلويحية عن العصمة من القتل لأنها ملزومة لتأخيره إلى الأجل المكتوب والتأخير ملزوم للموت حتف الأنف- فلا ينبغي الاغترار به لأنه مبني على مذهب الاعتزال من أن القاتل قطع أجل المقتول المكتوب، وكأن القاضي البيضاوي لم يتفطن له فترجم هذه العبارة بما يؤديها؛ ويجوز أن يكون معنى متوفيك‏:‏ آخذك إليّ من غير أن يصلوا منك إلى محجم دم ولا ما فوقه من عضو ولا نفس فلا تخش مكرهم‏.‏

قال في القاموس‏:‏ أوفى فلاناً حقه‏:‏ أعطاه وافياً، كوفّاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه‏.‏

ثم زاد سبحانه وتعالى في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال‏:‏ ‏{‏ورافعك‏}‏ وزاد إعظام ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إليّ ومطهرك من الذين كفروا‏}‏‏.‏

ولما كان لذوي الهمم العوال، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال، بشره سبحانه وتعالى في ذلك بما يسره فقال‏:‏ ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك‏}‏ أي ولو بالاسم ‏{‏فوق الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما يعرفون من نبوتك بما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر بك ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ وكذا كان، لم يزل من اتسم بالنصرانية حقاً أو باطلاً فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد‏.‏

ولما كان البعث عاماً دل عليه بالالتفات إلى الخطاب فقال تكميلاً لما بشر به من النصرة‏:‏ ‏{‏ثم إليّ مرجعكم‏}‏ أي المؤمن والكافر في الآخرة ‏{‏فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون *‏}‏ ثم فصل له الحكم فقال مرهباً لمخالفيه مرغباً لموافقيه، وقدم المخالفين لأن السياق لبيان إذلالهم‏:‏ ‏{‏فإما الذين كفروا‏}‏ أي من الطائفتين ‏{‏فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا‏}‏ بالذل والهوان والقتل والأسر ‏{‏والآخرة‏}‏ بالخزي الدائم ‏{‏وما لهم من ناصرين *‏}‏ وإن كثر عددهم ولم يقل‏:‏ وأما الذين اتبعوك- لئلا يلتبس الحال وإن كان من اتبع النبي الأمي فقد اتبعه في بشارته به والأمر باتباعه بل قال‏:‏ ‏{‏وأما الذين آمنوا وعموا الصالحات‏}‏ لأن هذه ترجمة الذين اتبعوه حق الاتباع‏.‏

ولما كان تمام الاعتناء بالأولياء متضمناً لغاية القهر للأعداء أبدى في مظهر العظمة قوله تعظيماً لهم وتحقيراً لأعدائهم‏:‏ ‏{‏فيوفيهم أجورهم‏}‏ أي نحبهم من غير أن نبخسهم منها شيئاً أو نظلم أحداً من الفريقين في شيء فإن الله سبحانه وتعالى متعال عن ذلك ‏{‏والله‏}‏ الذي له الكمال كله ‏{‏لا يحب الظالمين *‏}‏ من كانوا، أي لا يفعل معهم فعل المحب، فهو يحبط أعمالهم لبنائها على غير أساس الإيمان، فالآية من الاحتباك، ونظمها على الأصل‏:‏ فنوفيهم لأنا نحبهم والله يحب المؤمنين، والذين ظلموا نحبط أعمالهم لأنا لا نحبهم والله لا يحب الظالمين؛ فتوفية الأجر أولاً ينفيها ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً يثبت ضدها أولاً، وحقيقة الحال أنه أثبت للمؤمنين لازم المحبة المراد منها في حق الله سبحانه وتعالى لأنه أسّر، ولازم المراد من عدمها في الظالمين لأنه أنكأ‏.‏

ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء تكوينه إلى انتهاء رفعه وما كان بعده من أمر أتباعه مشيراً بذلك إلى ما فيه من بدائع الحكم وخزائن العلوم واللطائف المتنزلة على مقادير الهمم على أتقن وجه وأحكمه وأتمه وأخلصه وأسلمه، وختمه بالتنفير من الظلم، وكان الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكان هذا القرآن العظيم قد حاز من حسن الترتيب ورصانة النظم بوضع كل شيء منه لفظاً ومعنى في محله الأليق به المحل الأعلى، لا سيما هذه الآيات التي أتت بالتفصيل من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فلم تدع فيه شكاً ولا أبقت شبهة ولا لبساً، أتبع ما تقدم من تفصيل الآيات البينات قوله منبهاً على عظمة هذه الآيات الشاهدات الآتي بها صلى الله عليه وسلم بأوضح الصدق بإعجازها في نظمها وفي العلم بمضامينها من غير معلم من البشر كما تقدم نحو ذلك في ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏{‏هود‏:‏ 49‏]‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي النبأ العظيم والأمر الجسيم الذي لم تكن تعلم شيئاً منه ولا علمه من شبان قومك ‏{‏نتلوه‏}‏ أي نتابع قصه بما لنا من العظمة ‏{‏عليك‏}‏ وأنت أعظم الخلق حال كونه ‏{‏من الآيات‏}‏ أي التي لا إشكال فيها، ويجوز أن يكون خبر اسم الإشارة، ‏{‏والذكر الحكيم *‏}‏ إشارة إلى ذلك لأن الحكمة وضع الشيء في أعدل مواضعه وأتقنها، وأشار بأداة البعد تنبيهاً على علو منزلته ورفيع قدره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى‏}‏ أي في كونه من أنثى فقط ‏{‏عند الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي ‏{‏كمثل آدم‏}‏ في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب، بل أمر آدم أعجب فإنه أوجده من غير أب ولا أم، ولذلك فسر مثله بأنه ‏{‏خلقه‏}‏ أي قدره وصوره جسداً من غير جنس البشر، بل ‏{‏من تراب‏}‏ فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم فقط بغير أب، فمثل عيسى أقل غرابة من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب اشهر ‏(‏وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن، لأن التراب أغلب أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو أكثف الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير أعجب‏)‏‏.‏

ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد من أنثى، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد من تراب، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن من التوليد بين الذكر والأنثى، كما أنا لما علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً‏:‏ إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب وسبب، بل كلها في قدرته سواء، وإلى ذلك أشار قوله‏:‏ ‏{‏ثم قال له كن‏}‏ أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في ‏{‏فيكون *‏}‏ دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً، يتجدد مع كل مراد، لا يتخلف عن مراد الآمر أصلاً- كما تقدم التصريح به في آية

‏{‏إذا قضى أمراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 117‏]‏ وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين يجادل عن معتقدهم وفد نجران، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة، لا بخالقه ومكونه تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً‏.‏

قال الحرالي‏:‏ جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه السلالة الطينية، وغايته النفخة الأمرية، وكان عيسى عليه الصلاة ولاسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة، وغايته التكمل بملابسة السلالة الطينية، حتى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة من بني أسد ويولد له غلام لتكمل به الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً ‏{‏وله المثل الأعلى في السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏- انتهى‏.‏

ولما ابتدأ القصة بالحق في قوله‏:‏ ‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق‏}‏ ختمها بذلك على وجه آكد وأضخم فقال‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ أي الكامل في الثبات كائن ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بأنه لا يدع لخصم عليك مقالاً، ولما تسبب عما مضى نقلاً وعقلاً الاعتقاد الحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏{‏فلا تكن من الممترين *‏}‏ مشيراً بصيغة الافتعال إلى أنه لا يشك فيه بعد هذا إلا من أمعن الفكر في شبه يثيرها وأوهام يزاولها ويستزيرها، وما أحسن ما في سفر الأنبياء الإسرائيليين الذي هو بأيدي الطائفتين اليهود ثم النصارى، يتناقلونه معتقدين ما فيه، وأوضحه في خلاف معتقدهم في عيسى عليه الصلاة والسلام وموافقة معتقدنا فيه، لكنهم لا يتدبرون، وذلك أنه قال في نبوة أشعيا عليه السلام‏:‏ اسمع مني يا يعقوب عبدي وأنت يا إسرائيل الذي انتخبته‏!‏ أنا الذي خلقتك في الرحم وأعنتك، ثم قال‏:‏ هكذا يقول‏:‏ يقول الرب‏:‏ أنا الذي جبلتك في الرحم وخلصتك وأعنتك، أنا الذي خلقت الكل، وأنا الذي مددت السماء وحدي، وأنا الذي ثبتّ الأرض، أنا الذي أبطل آيات العرافين، وأصير كل تعريفهم جهلاً، وأرد الحكماء إلى خلفهم، وأعرف أعمالهم للناس، وأثبت كلمة عبيدي، وأتمم قول رسلي؛ ثم قال‏:‏ أنا الرب الذي خلقت هذه الأشياء، الويل للذي يخاصم خالقه ولا يعلم أنه من خزف الطين‏!‏ لعل الطين يقول للفاخوري‏:‏ لماذا تصنعني‏؟‏ أو لعله يقول له‏:‏ لست أنا من صنعتك، الويل للذي يقول لأبيه‏:‏ لماذا ولدتني‏؟‏ أو لأمه‏:‏ لماذا حبلت بي‏؟‏ هكذا يقول الرب قدوس إسرائيل ومخلصه‏:‏ أنا الذي خلقت السماء ومددتها بيدي وجميع أجنادها، وجعلت فيها الكواكب البهية‏.‏

ذكر ما يحتاج إليه المفسرون- ويثمر إن شاء الله سبحانه وتعالى زيادة الإيقان لكل مسلم- من قصة عيسى عليه السلام في ولادته وما يتعلق بهذه السورة من مبدإ أمره ومنتهاه وبعض ما ظهر على يديه من الآيات ولسانه من الحكم المشيرة إلى أنه عبد الله ورسوله وغير ذلك من الأناجيل الأربعة التي في أيدي النصارى اليوم، وقد أدخلت كلام بعضهم في بعض وجمعت ما تفرق من المعاني في سياقاتهم بحيث صار الكل حديثاً واحداً‏:‏

قال متى- ومعظم السياق له-‏:‏ كتاب ميلاد يسوع المسيح بن داود بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام، ثم قال‏:‏ لكل الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى زربابل أربعة عشر جيلاً، ومن زربابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً؛ لما خطبت مريم أمه ليوسف قبل أن يفترقا وجدت حبلاً من روح القدس، وكان يوسف خطيبها صديقاً ولم يرد أن ينشرها، وهم بتخليتها سراً، وفيما هو مفكر في هذا إذا ظهر له ملاك الرب في الحلم قائلاً‏:‏ يا يوسف بن داود‏!‏ لا تخف أن تأخذ مريم خطيبتك، فإن الذي تلده هو من روح القدس، وستلد ابناً ويدعى اسمه يسوع، وهو يخلص شعبه من خطاياهم، هذا كله كان لكي يتم ما قيل من قبل الرب على لسان النبي القابل‏:‏ ها هو ذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعى اسمه «عمانويل» الذي تفسيره‏:‏ الله معنا، فقام يوسف من النوم وصنع كما أمره ملاك الرب وأخذ مريم خطيبته ولم يعرفها حتى ولدت ابناه البكر، ودعي اسمه يسوع‏.‏

وفي إنجيل لوقا‏:‏ ولما كان في تلك الأيام- أي أيام ولادة يحيى بن زكريا عليهم السلام- خرج أمر من أوغوسطوس قيصر بأن يكتب جميع المسكونة هذه الكتبة الأولى في ولاية فرسوس على الشام، فمضى جميعهم ليكتتب كل واحد منهم في مدينته، فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم، لأنه كان من بيت داود وقبيلته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى، فبينما هما هناك إذ تمت أيام ولادتها لتلد، فولدت ابنها البكر ولفته وتركته في مزود لأنه لم يكن لهما موضع حيث نزلا، وكان في تلك الكورة رعاة يسهرون لحراسة الليل نوباً على مراعيهم، وإذا ملاك الرب قد وقف بهم ومجد الرب أشرق عليهم، فخافوا خوفاً عظيماً، قال لهم الملاك‏:‏ لا تخافوا الآن، هو ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لكم ولجميع الشعوب، لأنه ولد لكم اليوم مخلص، الذي هو المسيح في مدينة داود، وهذه علامة لكم أنكم تجدون طفلاً ملفوفاً موضوعاً في مزود، وللوقت بغتة تراءى مع الملاك جنود كثيرة سماويون، يسبحون الله سبحانه وتعالى ويقولون‏:‏ المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة؛ فلما صعد الملائكة إلى السماء قال الرجال الرعاة بعضهم لبعض‏:‏ امضوا بنا إلى بيت لحم لننظر الكلام الذي أعلمنا به الرب، فجاؤوا مسرعين فوجدوا مريم ويوسف والطفل موضوعاً في مزود؛ فلما رأوه علموا أن الكلام الذي قيل لهم عن الصبي حق، وكل من سمع تعجب مما تكلم به الرعاة، وكانت مريم تحفظ هذا الكلام كله وتقيه، ورجع الرعاة يمجدون الله سبحانه وتعالى ويسبحون على كل ما سمعوا وعاينوا كما قيل لهم‏.‏

ولما تمت ثمانية أيام أتوا به ليختن ودعوا اسمه يسوع كالذي دعاه الملاك قبل أن تحبل به في البطن، فلما كملت أيام تطهيرها- على ما في ناموس موسى- صعدوا به إلى يروشليم ليقيموه للرب، كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم أمه يدعى قدوس الرب، ويقرب عنه- كما هو مكتوب في ناموس الرب- زوج يمام أو فرخا حمام؛ وكان إنسان بايروشليم اسمه شمعون، وكان رجلاً باراً تقياً، يرجو عز بني إسرائيل، وروح القدس كان عليه، وكان يوحى إليه من روح القدس أنه لا يموت حتى يعاين المسيح الرب، فأقبل بالروح إلى الهيكل عندما جاؤوا بالطفل يسوع ليصفى عنه كما يجب في الناموس، فحمله على ذراعه وبارك الرب قائلاً‏:‏ الآن يا سيد‏!‏ أطلق عبدك بسلام لكلامك، لأن عيني أبصرتك خلاصك الذي أعددت قدام جميع الشعوب، نور استعلن للأمم ومجد لشعبك إسرائيل، وكان يوسف وأمه يتعجبان مما يقال عنه، وباركهما شمعون وقال لمريم أمه‏:‏ هوذا هذا موضوع لسقوط كثير وقيام كثير من بني إسرائيل‏.‏ وكانت حنة النبية ابنة فانوئل من سبط أشير قد طعنت في أيامها وأقامت مع زوجها سبعة وستين بعد بكوريتها، وترملت أربعة وثمانين عاماً غير مفارقة للهيكل عائدة للصّوم، وللطلبة ليلاً ونهاراً، وفي تلك الساعة جاءت قدامه معترفة لله وكانت تتكلم من أجله عند كل أحد، تترجى خلاص يروشليم، فلما أكملوا كل شيء على ما في ناموس الرب رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة، فأما الصبي فكان ينشأ ويتقوى بالروح ويمتلئ بالحكمة، ونعمة الله كانت عليه، وأبواه يمضيان إلى يروشليم في كل سنة في عيد الفصح‏.‏

وقال متى‏:‏ فلما ولد يسوع في بيت لحم يهودا في أيام هيرودس الملك إذا مجوس وافوا من المشرق إلى يروشليم قائلين‏:‏ أين هو المولود ملك اليهود لأنا رأينا نجمة في المشرق، ووافينا لنسجد له، فلما سمع هيرودس الملك اضطرب وجمع يروشليم وجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب واتسخبرهم‏:‏ أين يولد المسيح‏؟‏ فقالوا له‏:‏ في بيت لجحم أرض يهودا- كما هو مكتوب في النبي‏:‏ وأنت يا بيت لحم أرض يهودا لست بصغيرة في ملوك يهود، يخرج منك مقدم، الذي يرعى شعب بني إسرائيل‏.‏

حينئذ دعا هيرودس والروم المجوس سراً، وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم قائلاً‏:‏ امضوا فابحثوا عن الصبي باجتهاد، فإذا وجدتموه فأخبروني لآتي أنا وأسجد له، فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يقدمهم حتى جاء ووقف حيث كان الصبي، فلما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً، وأتوا إلى البيت فرأوا الصبي، مع مريم أمه، فخروا له سجداً وفتحوا أوعيتهم وقدموا له قرابين ذهباً ولُباناً ومُرّاً، وأنحى إليهم في الحلم أن لا يرجعوا إلى هيردوس، بل يذهبوا في طريق أخرى إلى كورتهم، فلام ذهبوا وإذ ملاك الرب تراءى ليوسف في الحلم قائلاً‏:‏ قم، خذ الصبي وأمه واهرب إلى أرض مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه، فقام وأخذ الصبي أمه ليلاً، ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس، لكي يتم ما قيل من قبل الرب بالنبي القابل من مصر‏:‏ دعوت ابني؛ حينئذ لما رأى هيرودس سخرية المجوس به غضب جداً وأرسل، فقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من ابن سنتين فما دون، كنحو الزمان الذي تحقق عنده من المجوس، حينئذ تم ما قيل من أرميا النبي حيث يقول‏:‏ صوت سمع في الزأمة، بكاء ونوح وعويل كثير، راحيل تبكي على بنيها ولا تريد أن تتعزى لفقدهم؛ فلما مات هيرودس ظهر ملاك الرب ليوسف في الحلم بمصر قائلاً‏:‏ قم، خذ الصبي وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل؛ فما سمع أن أورشلاوش قد ملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه خاف أن يذهب إلى هناك، فأخبر في الحلم وذهب إلى حور ناحية الجليل، فأتى وسكن في مدينة تدعى ناصرة لكي يتم ما قيل في الأنبياء‏:‏ إنه يدعى ناصريا وفي إنجيل لوقا‏:‏ فلما تمت له اثنتا عشرة سنة مضوا إلى يروشليم إلى العيد كالعادة، فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهما يسوع في يروشليم ولم تعلم أمه ويوسف، لأنهما كانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فلما ساروا نحو يوم طلباه عند أقربائهما ومعارفهما فلم يجداه، فرجعا إلى يروشليم يطلبانه، وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل جالساً بين العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه مبهوتين من علمه وإجابته لهم، فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه‏:‏ يا بني‏!‏ ما هذا الذي صنعت بنا‏؟‏ إن أباك وأنا كنا نطلبك باجتهاد معذبين، فقال لهما‏:‏ لم تطلباني‏؟‏ أما تعلمان أنه ينبغي أن أكون في الذي لأبي‏؟‏ فأما هما فلم يفهما الكلام ونزل معهما وجاء إلى الناصرة وكان يطيعهما، فأما يسوع فكان ينشأ في قامته وفي الحكمة والنعمة عند الله والناس‏.‏

قال متى‏:‏ وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية يهودا- إلى آخر ما تقدم آنفاً من بشارة يحيى عليه الصلاة والسلام به، ثم قال‏:‏ حينئذ أتى يسوع من الجليل إلى الأردن ليعتمد من يوحنا، فامتنع يوحنا منه وقال‏:‏ أنا المحتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي، فأجاب يسوع‏:‏ دع الآن، هكذا يجب لنا أن نكمل كل البر، حينئذ تركه فاعتمد يسوع، وللوقت صعد من الماء فانفتحت له السماوات، ورأى روح الله نازلاً كمثل حمامة جائياً إليه‏.‏ وقال مرقس‏:‏ وكان تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واصطنع في نهر الأردن من يوحنا، فساعة صعد من الماء رأى السماوات قد انشقت، وروح القدس كالحمامة نزلت عليه، وللوقت أخرجه الروح إلى البرية، وأقام بها أربعين يوماً وأربعين ليلة، وهو مع الوحوش، والملائكة تخدمه‏.‏ وقال متى‏:‏ وصام أربعين يوماً وأربعين ليلة‏.‏ وقال لوقا‏:‏ وكان لما اعتمد جميع الشعب واعتمد يسوع فبينما هو يصلي انفتحت السماء ونزل عليه روح القدس شبه جسد حمامة، وكان قد صار ليسوع ثلاثون سنة وكان يُظنّ أنه ابن يوسف وأن يسوع امتلأ من روح القدس ورجع من الأردن، فانطلق به الروح أربعين يوماً، لم يأكل شيئاً في تلك الأيام؛ ثم قال‏:‏ ورجع يسوع إلى الجليل بقوة الروح وخرج خبره في كل الكورة، وكان يعلم في مجامعهم ويمجده كل أحد، وجاء إلى الناصرة حيث كان تربى ودخل كعادته إلى مجمعهم يوم السبت، وقام ليقرأ فدفع إليه سفر أشعيا النبي فلما فتح السفر وجد الموضع الذي فيه مكتوب‏:‏ روح الرب عليّ، من أجل هذا مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأبشر المأسورين بالتخلية والعميان بالنظر، وأرسل المربوطين بالتخلية، وأبشر بالسنة المقبولة للرب والأيام التي أعطانا إلهنا؛ ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس، وكل من كان في الجمع كانت عيونهم محدقة إليه، فبدأ يقول لهم‏:‏ اليوم كمل هذا المكتوب بأسماعكم؛ وفي إنجيل يوحنا‏:‏ إن يسوع قال‏:‏ إن كنت أنا أشهد لنفسي فليست شهادتي حقاً، ولكن الذي يشهد لي بها حق، أنتم أرسلتم إليّ يوحنا فشهد لي بالحق، وأما أنا فلست أطلب شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم، وأنا على أعظم من شهادة يوحنا لأن الأعمال التي أعملها تشهد من أجلي أن الرب أرسلني، والذي أرسلني قد شهد لي ولم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه، وكلمته لا تثبت فيكم لأنكم لستم تؤمنون بالذي أرسل، فتشوا الكتب التي تظنون أن تكون لكم بها حياة الأبد فهي تشهد من أجلي، لست آخذ المجد من الناس أنا أتيت باسم أبي فلم تقبلوني، وإن أتاكم آخر باسم نفسه قبلتموه، كيف تقدرون أن تؤمنوا وإنما تقبلون المجد بعضكم، من بعض ولا تظنون أن المجد من الله تعالى الواحد، لا تظنوا أني أشكوكم، إن لكم من يشكوكم‏:‏ موسى الذي عليه تتوكلون، فلو كنتم آمنتم بموسى آمنتم بي، لأن ذلك كتب من أجلي، وإن كنتم لا تؤمنون بكتب ذلك فكيف تؤمنون بكلامي- انتهى ما وقع الاختيار أخيراً على إثباته هنا، وفيه من الألفاظ المنكرة في شرعنا إطلاق الأب والابن، وقد تقدم التنبيه على مثل ذلك‏.‏

ولما أتاهم سبحانه وتعالى من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام بالفصل في البيان الذي ليس بعده إلا العناد، فبين أولاً ما تفضل فيه عيسى عليه الصلاة والسلام من أطوار الخلق الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ثم فضح بتمثيله بآدم عليه الصلاة والسلام شبهتَهم، ألزمهم عل تقديره بالفيصل الأعظم للمعاند الموجب للعذاب المستأصل أهل الفساد فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فمن‏}‏ أي فتسبب عما آتيناك به من الحق في أمره أنا نقول لك‏:‏ من ‏{‏حآجك فيه‏}‏ أي خاصمك بإيراد حجة، أي كلام يجعله في عداد ما يقصد‏.‏

ولما كان الملوم إنما هو من بلغته هذه الآيات وعرف معناها دون من حاج في الزمان الذي هو بعد نزولها دون اطلاعه عليها قال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي مبتدئاً المحاجة من، ويجوز أن يكون الإتيان بمن لئلا يفهم أن المباهلة تختص بمن استغرق زمان البعد بالمجادلة ‏{‏بعدما جآءك من العلم‏}‏ أي الذي أنزلنان إليك وقصصناه عليك في أمره ‏{‏فقل تعالوا‏}‏ أي اقبلوا أيها المجادلون إلى أمر نعرف فيه علو المحق وسفول المبطل ‏{‏ندع أبنآءنا وأبناءكم‏}‏ أي الذي هم أعز ما عند الإنسان لكونهم بعضه ‏{‏ونساءنا ونساءكم‏}‏ أي اللاتي هن أولى ما يدافع عنه أولو الهمم العوالي ‏{‏وأنفسنا وأنفسكم‏}‏ فقدم ما يدافع عنه ذوو الأحساب ويفدونه بنفوسهم، وقدم منه الأعز الألصق بالأكباد وختم بالمدافع، وهذا الترتيب على سبيل الترقي إذا اعتبرت أنه قدم الفرع ثم الأصل وبدأ بالأدنى وختم بالأعلى، وفائدة الجمع الإشارة إلى القطع بالوثوق بالكون على الحق‏.‏ ثم ذكر ما له هذا الجمع مشيراً بحرف التراخي إلى خطر الأمر وأنه مما ينبغي الاهتمام به والتروي له وإمعان النظر فيه لوخامة العاقبة وسوء المنقلب للكاذب فقال‏:‏ ‏{‏ثم نبتهل‏}‏ أي نتضرع- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما نقله الإمام أبو حيان في نهره‏.‏ وقال الحرالي‏:‏ الابتهال طلب البهل، والبهل أصل معناه التخلي والضراعة في مهم مقصود- انتهى‏.‏ ‏{‏فنجعل لعنت الله‏}‏ أي الملك الذي له العظمة كلها فهو يجبر ولا يجار عليه، أي إبعاد وطرده ‏{‏على الكاذبين *‏}‏ وقال ابن الزبير بعد ما تقدم من كلامه‏:‏ ثم لما أتبعت قصة آدم عليه الصلاة والسلام- يعني في البقرة- بذكر بني إسرائيل لوقوفهم من تلك القصص على ما لم تكن العرب تعرفه، وأنذروا وحذروا؛ أتبعت قصة عيسى عليه الصلاة والسلام- يعني هنا- بذكر الحواريين وأمر النصارى إلى آية المباهلة- انتهى‏.‏

ولما كان العلم الأزلي حاصلاً بأن المجادلين في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام يكفون عن المباهلة بعد المجادلة خوفاً من الاستئصال في العاجلة مع الخزي الدائم في الآجلة، وكان كفهم عن ذلك موجباً للقطع بإبطالهم في دعواهم لكل من يشاهدهم أو يتصل به خبرهم، حسن كل الحسن تعقيب ذلك بقوله‏:‏- تنبيهاً على ما فيه من العظمة- ‏{‏إن هذا‏}‏ أي الذي تقدم ذكره من أمر عيسى عليه السلام وغيره ‏{‏لهو‏}‏ أي خاصة دون غيره مما يضاده ‏{‏القصص الحق‏}‏ والقصص- كما قال الحرالي- تتبع الوقائع بالإخبار عنها شيئاً بعد شيء على ترتيبها، في معنى قص الأثر، وهو اتباعه حتى ينتهي إلى محل ذي الأثر- انتهى‏.‏

ولما بدأ سبحانه وتعالى القصة أول السورة بالإخبار بوحدانيته مستدلاً على ذلك بأنه الحي القيوم صريحاً ختمها بمثل ذلك إشارة وتلويحاً فقال- عاطفاً على ما أنتجه ما تقدم من أن عيسى صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله معمماً للحكم معرقاً بزيادة الجار في النفي‏:‏ ‏{‏وما من إله‏}‏ أي معبود بحق، لأن له صفات الكمال، فهو بحيث يضر وينفع ‏{‏إلا الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال، لأنه الحي القيوم- كما مضى التصريح به، فاندرج في ذلك عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره، وقد علم من هذا السياق أنهم لما علموا تفرده تركوا المباهلة رهبة منه سبحانه وتعالى علماً منهم بأنهم له عاصون ولحقّه مضيعون وأن ما يدعون إلهيته لا شيء في يده من الدفع عنهم ولا من النفع لهم، فلا برهان أقطع من هذا‏.‏

ولما كان في نفي العزة والحكمة عن غيره تعالى نوع خفاء أتى بالوصفين على طريق الحصر فقال- عاطفاً على ما قدّرته مام أرشد السياق إلى أنه علة ما قبله من نفي‏:‏ ‏{‏وإن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لهو‏}‏ أي وحده ‏{‏العزيز الحكيم *‏}‏ وهذا بخلاف الحياة والقيومية فإنه لم يؤت بهما على طريق الحصر لظهورهما، وقد علم بلا شبهة بما علم من أنه لا عزيز ولا حكيم إلا هو أنه لا إله إلا هو‏.‏

ولما ثبت ذلك كله سبب عنه تهديدهم على الإعراض بقوله- منبهاً بالتعبير بأداة الشك على أنه لا يعرض عن هذا المحل البين إلا من كان عالماً بأن مبطل، ومثل ذلك لا يظن بذي عقل ولا مروة، فمن حق ذكره أن يكون من قبيل فرض المحالات‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي عن إجابتك إلى ما تدعوا إليه ‏{‏فإن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏عليهم‏}‏ بهم، هكذا كان الأصل، فعدل عنه لتعليق الحكم بالوصف تنفيراً من مثل حالهم فقال‏:‏ ‏{‏بالمفسدين *‏}‏ أي فهو يحكم فيهم بعلمه فينتقم منهم فسادهم بعزته انتقاماً يتقنه بحكمته فينقلبون منه بصفقة خاسر ولا يجدون من ناصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 78‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

ولما نكصوا عن المباهلة بعد أن أورد عليهم أنواع الحجج فانقطعوا، فلم تبق لهم شبهة وقبلوا الصغار والجزية، فعلم انحلالهم عما كانوا فيه من المحاجة ولم يبق إلا إظهار النتيجة، اقتضى ذلك عظم تشوفه صلى الله عليه وسلم إليها لعظم حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق، فأمره بأن يذكرها مكرراً إرشادهم بطريق أخف مما مضى بأن يؤنسهم فيما يدعوهم إليه بالمؤاساة، فيدعو دعاء يشمل المحاجين من النصارى وغيرهم ممن له كتاب من اليهود وغيرهم إلى الكلمة التي قامت البراهين على حقيتها ونهضت الدلائل على صدقها، دعاء لا أعدل منه، على وجه يتضمن نفي ما قد يتخيل من إرادة التفضل عليهم والاختصاص بأمر دونهم، وذلك أنه بدأ بمباشرة ما دعاهم إليه ورضى لهم ما رضي لنفسه وما اجتمعت عليه الكتب واتفقت عليه الرسل فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ ولما كان قد انتقل من طلب الإفحام خاطبهم تلطفاً بهم بما يحبون فقال‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ إشارة إلى ما عندهم في ذلك من العلم ‏{‏تعالوا‏}‏ أي ارفعوا أنفسكم من حضيض الشرك الأصغر والأكبر الذي أنتم به ‏{‏إلى كلمة‏}‏ ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏سواء‏}‏ أي ذات عدل لا شطط فيه بوجه ‏{‏بيننا وبينكم‏}‏ ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏{‏ألا نعبد إلا الله‏}‏ أي لأنه الحائز لصفات الكمال، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا نشرك به شيئاً‏}‏ أي لا نعتقد له شريكاً وإن لم نعبده‏.‏

ولما كان التوجه إلى غير الله خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى عبر بصيغة الافتعال فقال‏:‏ ‏{‏ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً‏}‏ أي كعزير والمسيح والأحبار والرهبان الذين يحلون ويحرمون‏.‏ ولما كان الرب قد يطلق على المعلم والمربي بنوع تربية نبه على أن المحذور إنما هو اعتقاد الاستبداد، والأجتراء على ما يختص به الله سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ الذي اختص بالكمال‏.‏

ولما زاحت الشكوك وانتفت العلل أمر بمصارحتهم بالخلاف في سياق ظاهره المتاركة وباطنه الإنذار الشديد المعاركة فقال- مسبباً عن ذلك مشيراً بالتتعبير بأداة الشك إلى أن الإعراض عن هذا العدل لا يكاد يكون‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي عن الإسلام له في التوحيد ‏{‏فقولوا‏}‏ أنتم تبعاً لأبيكم إبراهيم عليه السلام إذ قال‏:‏ ‏{‏أسلمت لرب العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏ وامتثالاً لوصيته إذ قال‏:‏ ‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 132‏]‏ ‏{‏اشهدوا بأنا‏}‏ أي نحن ‏{‏مسلمون *‏}‏ أي متصفون بالإسلام منقادون لأمره، فيوشك أن يأمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم بقتالكم لنصرته عليكم جرياً على عادة الرسل، فنجيبه بما أجاب به الحواريون المشهدون بأنهم مسلمون، ثم نبارزكم متوجهين إليه معتمدين عليه، وأنتم تعرفون أيامه الماضية ووقائعه السالفة‏.‏

ولما علم أهل الكتاب ما جبل عليه العرب من محبة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بدينة كما تقدم في قوله سبحانه وتعالى

‏{‏بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ اجتمع ملأ من قرابتهم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وضلل كل منهم الآخر وادعى كل منهم قصداً لاجتذاب المسلمين إلى ضلالهم بكيدهم ومحالهم اتباع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأنه صلى الله عليه وسلم كان على دينهم، ولم يكن لذلك ذكر في كتابهم، مع أن العقل يرده بأدنى التفات، لأن دين كل منهم إنما قرر بكتابهم، وكتابهم إنما نزل على نبيهم، ونبيهم إنما كان بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بدهور متطاولة، واليهود ينسبون إلى يهوذا بن يعقوب عليه السلام، لأخذه البكورية عن أخيه بنيامين لأمر مذكور في كتابهم، والنصارى ينسبون إلى الناصرة مخرج عيسى عليه الصلاة والسلام في جبل الجليل، ولا يعقل أن يكون المتقدم على دين ما حدث إلا بعده وعلى نسبة متأخرة عنه، وكان دينه صلى الله عليه وسلم إنما هو الإسلام، وهو الحنيفية السمحة فقال سبحانه وتعالى مبكتاً لهم‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ كالمعلل لتبكيتهم، لأن الزلة من العالم أشنع ‏{‏لم تحآجون في إبراهيم‏}‏ فيدعيه كل من فريقكم ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏ما أنزلت التوراة والإنجيل‏}‏ المقرر كل منهما لأصل دين متجدد منكم ‏{‏إلا‏}‏ ولما كان إنزال كتاب كل منهم غير مستغرق للزمان الآتي بعده أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ وأعظم ما يتمسك به كل فرقة منهما السبت والأحد، ولم يكن ما يدعونه فيهما في شريعة إبراهيم عليه السلام، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يأتي مثل ذلك في دعوى أنه مسلم لأن الإسلام الذي هو الإذعان للدليل معنى قديم موجود من حين خلق الله العقل، والدليل أنه لا يقدر أحد أن يدعي أنه ما حدث إلا بعد إبراهيم عليه السلام كما قيل في الدينين المذكورين‏.‏

ولما كان الدليل العقلي واضحاً في ذلك ختم الآية بقوله منكراً عليهم ‏{‏أفلا تعقلون *‏}‏ أي هب أنكم لبستم وادعيتم أن ذلك في كتابكم زوراً وبهتاناً، وظننتم أن ذلك يخفى على من لا إلمام له بكتابكم، فكيف غفلتم عن البرهان العقلي‏!‏ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال منبهاً لهم مكرراً التنبيه إشارة إلى طول رقادهم أو شدة عنادهم‏:‏ ‏{‏ها أنتم هؤلاء‏}‏ أي الأشخاص الحمقى، ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏حاججتم‏}‏ أي قصدتم مغالبة من يقصد الرد عليكم ‏{‏فيما لكم به علم‏}‏ أي نوع من العلم من أمر موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام لذكر كل منهما في كتابكم وإن كان جدالكم فيهما على خلاف ما تعلمون من أحوالهما عناداً أو طغياناً ‏{‏فلم تحاجون‏}‏ أي تغالبون بما تزعمون أنه حجة، وهو لا يستحق أن يسمى شبهة فضلاً عن أن يكون حجة ‏{‏فيما ليس لكم به علم‏}‏ اصلاً، لكونه لا ذكر له في كتابكم بما حاججتم فيه مع مخالفته لصريح العقل ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏يعلم‏}‏ أي وأنتم تعلمون أن مجادلتكم في الحقيقة إنما هي مع الله سبحانه وتعالى، وتعلمون أن علمه محيط بجميع ما جادلتم فيه ‏{‏وأنتم‏}‏ أي وتعلمون أنكم أنتم ‏{‏لا تعلمون *‏}‏ أي ليس لكم علم أصلاً إلا ما علمكم الله سبحانه وتعالى، هذا على تقدير كون «ها» في «ها أنتم» للتنبيه، ونقل شيخنا ابن الجزري في كتابه «النشر في القراءات العشر» عن أبي عمرو بن العلاء وعن أبي الحسن الأخفش أنها بدل من همزة، وروي عن أبي حمدون عن اليزيدي أن أبا عمرو قال‏:‏ وإنما هي ‏{‏أأنتم‏}‏ ممدودة، فجعلوا الهمزة هاء، والعرب تفعل هذا، فعلى هذا التقدير يكون استفهاماً معناه التعجيب منهم والتوبيخ لهم‏.‏

ولما وبخهم على ذلك من جهلهم نفيى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى، ونفى عنه كل شرك أيضاً، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ما كان إبراهيم يهودياً‏}‏ أي كما ادعى اليهود ‏{‏ولا نصرانياً‏}‏ كما ادعى النصارى- لما تقدم من الدليل ‏{‏ولكن كان حنيفاً مسلماً‏}‏ وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل بل ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏ بما يصدق على المسلم، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر‏:‏ واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، والحنيف المائل عن كل دين باطل، والمسلم المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت، وإن شئت قلت‏:‏ هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له‏:‏ قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك «قل‏:‏ آمنت بالله ثم استقم» انتهى‏.‏

ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزير والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين *‏}‏ وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات‏.‏

ولما نفي عنه صلى الله عليه وسلم كل زيغ بعد أن نفي عنه أن يكون على ملة هو متقدم عن حدوثها شرع في بيان ما يتم به نتيجة ما مضى ببيان من هو أقرب إليه ممن جاء بعده، فقرر أن الأولى به إنما هو من اتبعه في أصل الدين، وهو التوحيد والتنزيه الذي لم يختلف فيه نبيان أصلاً، وفي الانقياد للدليل وترك المألوف من غير تلعثم حتى صاروا أحقاء بالإسلام الذي هو وصفه بقوله سبحانه وتعالى مؤكداً رداً عليهم وتكذيباً لمحاجتهم‏:‏ ‏{‏إن أولى الناس‏}‏ أي أقربهم وأحقهم ‏{‏بإبراهيم للذين اتبعوه‏}‏ أي في دينه من أمته وغيرهم، لا الذين ادعوا أنه تابع لهم، ثم صرح بهذه الأمة فقال‏:‏ ‏{‏وهذا النبي‏}‏ أي هو أولى الناس به ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي من أمته وغيرهم وإن كانوا في أدنى درجات الإيمان ‏{‏والله‏}‏ أي بما له من صفات الكمال- وليهم، هذا الأصل، ولكنه قال‏:‏ ‏{‏ولي المؤمنين *‏}‏ ليعم الأنبياء كلهم وأتباعهم من كل فرقة، ويعلم أن الوصف الموجب للتقريب العراقة في الإيمان ترغيباً لمن لم يبلغه في بلوغه‏.‏

ولما كان قصد بعضهم بدعواه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام على دينه إنما هو إضلال أهل الإسلام عقب ذلك بالإعراب عن مرادهم بقوله تعالى- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ فما كان مراد أهل الكتابين بدعواهم فيه مع علمهم أن ذلك مخالف لصريح العقل‏؟‏ ‏{‏ودت طآئفة‏}‏ أي من شأنها أن تطوف حولكم طواف التابع المحب مكراً وخداعاً ‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ حسداً لكم ‏{‏لو يضلونكم‏}‏ بالرجوع إلى دينهم الذي يعلمون أنه قد نسخ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنهم ما ‏{‏يضلون‏}‏ بذلك التمني أو الإضلال لو وقع ‏{‏إلا أنفسهم‏}‏ لأن كلاًّ من تمنيهم وإضلالهم ضلال لهم مع أنهم لا يقدرون أن يضلوا من هداه الله، فمن تابعهم على ضلالهم فإنما أضله الله ‏{‏وما يشعرون *‏}‏ أي وليس يتجدد لهم في وقت من الأوقات نوع شعور، فكيدهم لا يتعداهم فقد جمعوا بين الضلال والجهل، إما حقيقة لبغضهم وإما لأنهم لما عملوا بغير ما يعلمون عد علمهم جهلاً وعدوا هم بهائم، فكانت هذه الجملة على غاية التناسب، لأن أهم شيء في حق من رمى بباطل- إنما غلبة الرامي ليتعاظم بأنه شأنه- بيان إبطاله في دعواه، ثم تبكيته المتضمن لبراءة المقذوف، ثم التصريح ببراءته، ثم بيان من هو أولى بالكون من حربه، ثم بيان المراد من تلك الدعوى الكاذبة ليحذر غائلتها السامع‏.‏

ولما ختم الكلام فيهم بنفي شعورهم بين تعالى في معرض التبكيت أن نفيهم عنه إنما هو لأنهم معاندون، لا يعملون بعلمهم، بل يعملون بخلافه، فقال مستأنفاً بما يدل على غاية التبكيت المؤذنة بشديد الغضب‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ أي الذين يدعون أنهم أهل العلم ‏{‏لم تكفرون‏}‏ أي كفراً تجددونه في كل وقت ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي تسترون ما عندكم من العلم بسبب الآيات التي أنزلت عليكم من الملك المحيط بكل شيء عظمة وعزاً وعلماً ‏{‏وأنتم تشهدون *‏}‏ أي تعلمون علماً هو عندكم في غاية الانكشاف أنها آياته؛ ثم أتبع ذلك استئنافاً آخر مثل ذلك إلا أن الأول قاصر على ضلالهم وهذا متعد إلى إضلالهم فقال‏:‏ ‏{‏يا آهل الكتاب لم تلبسون الحق‏}‏ أي الذي لا مرية فيه ‏{‏بالباطل‏}‏ أي بأن تؤولوه بغير تأويله، أو تحملوه على غير محله ‏{‏وتكتمون الحق‏}‏ أي الذي لا يقبل تأويلاً، وهو ما تعلمون من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وتوابعها ‏{‏وأنتم‏}‏ أي والحال أنكم ‏{‏تعلمون *‏}‏ أي من ذوي العلم، فأنتم تعرفون ذلك قطعاً وأن عذاب الضال المضل عظيم جداً‏.‏

ولما ذكر لبسهم دل عليه بقوله عطفاً على ‏{‏ودت طائفة‏}‏ مبيناً لنوع إضلال آخر‏:‏ ‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب‏}‏ أي من يهود المدينة ‏{‏آمنوا‏}‏ أي أظهروا الإيمان ‏{‏بالذي أنزل على الذين آمنوا‏}‏ متابعة لهم ‏{‏وجه‏}‏ أي أول ‏{‏النهار‏}‏ سمي وجهاً لأنه أول ما يستقبلك منه وهو ما يظهر ولذا عبروا به عن الأول الذي يصلح لاستغراق النصف، لأن مرادهم التلبيس بظاهر لا باطن له، ولفظ لا حقيقة له، في جزء يسير جداً ‏{‏واكفروا آخره‏}‏ أي ليظنوا أنه لا غرض لكم إلا الحق، وأنه ما ردكم عن دينهم بعد ابتاعكم له إلا ظهور بطلانه ‏{‏لعلهم يرجعون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن دينه ‏{‏ولا تؤمنوا‏}‏ أي توقعوا التصديق الحقيقي ‏{‏إلا لمن تبع دينكم‏}‏ فصوبوا طريقته وصدقوا دينه وعقيدته‏.‏

ولما كان هذا عين الضلال أمره سبحانه وتعالى أن يعجب من حالهم منبهاً على ضلالهم بقوله معرضاً عنهم إيذاناً بالغضب‏:‏ ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏}‏ أي المختص بالعظمة وجميع صفات الكمال، أي لا تقدرون على إضلال أحد منا عنه، ولا نقدر على إرشاد أحد منكم إليه إلا بإذنه، ثم وصل به تقريعهم فقال‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ بإثبات همزة الإنكار في قراءة ابن كثير، وتقديرها في قراءة غيره، أي أفعلتم الإيمان على الصورة المذكورة خشية أن ‏{‏يؤتى أحد‏}‏ أي من طوائف الناس ‏{‏مثل ما أوتيتم‏}‏ أي من العلم والهدى الذي كنتم عليه أول الأمر ‏{‏أو‏}‏ كراهة أن ‏{‏يحاجوكم‏}‏ أي يحاجكم أولئك الذين أوتوا مثل ما أوتيتم ‏{‏عند ربكم‏}‏ الذي طال إحسانه إليكم بالشهادة عليكم أنهم آمنوا وكفرتم بعد البيان الواضح فيفضحوكم‏.‏

ولما كانت هذه الأية شبيهة بآية البقرة ‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏ في الحسد على ما أوتي غيرهم من الدين الحق وكالشارحة لها ببيان ما يلبيسونه لقصد الإضلال ختمت بما ختمت به تلك، لكن لما قصد بها الرد عليهم في كلا هذين الأمرين اللذين دبروا هذا المكر لأجلهما زيدت ما له مدخل في ذلك فقال تعالى مجيباً لمن تشوف إلى تعليم ما لعله يكف من مكرهم ويؤمن من شرهم معرضاً عنهم بالخطاب بعد الإقبال عليهم به إيذاناً بشديد الغضب‏:‏ ‏{‏قل إن الفضل‏}‏ في التشريف بإنزال الآيات وغيرها ‏{‏بيد الله‏}‏ المختص بأنه لا كفوء له، فله الأمر كله ولا أمر لأحد معه، وأتبعه نتيجته فقال‏:‏ ‏{‏يؤتيه من يشاء‏}‏ فله مع كمال القدرة كمال الاجتباء، ثم قال مرغباً مرهباً وراداً عليهم في الأمر الثاني‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ الذي له من العظمة وسائر صفات الكمال ما لا تحيط به العقول ولا تبلغه الأوهام ‏{‏واسع عليم *‏}‏ أي يوسع على من علم فيه خيراً، ويهلك من علم أنه لا يصلح لخير، ويعلم دقيق أمركم وجليله، فلا يحتاج سبحانه وتعالى إلى تنبيه أحد بمحاجتكم عليه عنده‏.‏

ولما كان هذا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تأكيد انتقل عنه إلى تأكيد الرد عليهم في الأمر الأول بثمرة هذه الجملة ونتيجتها من أنه فاعل بالاختيار تام الاقتدار فقال‏:‏ ‏{‏يختص برحمته من يشاء‏}‏ ثم أكد تعظيم ما لديه دفعاً لتوهم من يظن أن اختصاص البعض لضيق الرحمة عن العموم فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ الذي كل شيء دونه فلا ينقص ما عنده ‏{‏ذو الفضل العظيم *‏}‏ وكرر الاسم الأعظم هنا تعظيماً لما ذكر من النعم مشيراً بذلك كله إلى التمكن من الإعطاء باختباره وغزارة فضله وإلى القدرة على الإنجاء من حبائل المكر بسعة علمه‏.‏

فلما تقرر أن الأمر كله له ذكر دليل ذلك فيهم بأنه فضل فريقاً منهم فأعلاه، ورذل فريقاً منهم فأرداه، فلم يردهم الكتاب- وهم يتلونه- إلى الصواب، فقال عاطفاً على ما مضى من مخازيهم مقرراً لكتمانهم للحق مع علمهم بأنه الحق بأنه الخيانة ديدنهم في الأعيان الدنيوية والمعاني الدينية منبهاً على أنهم وإن شاركوا الناس في انقسامهم إلى أمين وخائن فهم يفارقونهم من حيث ان خائنهم يتدين بخيانته ويسندها- مروقاً من ربقة الحياء- إلى الله، مادحاً للأمين منهم‏:‏ ‏{‏ومن أهل الكتاب‏}‏ أي الموصوفين ‏{‏من إن تأمنه بقنطار‏}‏ أي من الذهب المذكور في الفريق الآتي ‏{‏يؤده إليك‏}‏ غير خائن فيه، فلا تسوقوا الكل مساقاً واحداً في الخيانة ‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار‏}‏ أي واحد ‏{‏لا يؤده إليك‏}‏ في زمن من الأزمان دناءة وخيانة ‏{‏إلا ما‏}‏ أي وقت ما ‏{‏دمت عليه قائماً‏}‏ تطالبه به غالباً له بما دلت عليه أداة الاستعلاء، ثم استأنف علة الخيانة بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر البعيد من الكمال ‏{‏بأنهم قالوا‏}‏ كذباً على شرعهم ‏{‏ليس علينا في الأميين‏}‏ يعني من ليس له كتاب فليس على دينهم ‏{‏سبيل‏}‏‏.‏

ولما كان الكذب من عظم القباحة بمكان يظن بسببه أنه لا يجترئ عليه ذو عقل فكيف على الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون *‏}‏ أي ذوو علم فيعلمون أنه كذب‏.‏

ولما ادعوا نفي الجناح عنهم فيهم وبين تعالى أنهم لا يتحاشون عن الكذب صرح بكذبهم في هذا الأمر بخصوصه بقوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي عليكم في خيانتهم لتحريم العذر عليكم مطلقاً، أي سبيل- كما هو في التوراة وقد مضى نقله في البقرة في آية ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏ وآية ‏{‏وقولوا للناس حسناً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏‏.‏

ولما مضى تقسيمهم إلى أمين وخائن استأنف بشارة الأول ونذارة الثاني على وجه عام لهم ولغيرهم لتحريم الخيانة في كل شرع في حق كل أحد منهما، إن الله يبغض الخائن فقال‏:‏ ‏{‏من أوفى بعهده‏}‏ في الدين والدنيا ‏{‏واتقى‏}‏ أي كائناً من كان ‏{‏فإن الله‏}‏ ذا الجلال والإكرام يحبه، هكذا الأصل، لكنه أظهر الوصف لتعليق الحكم به وإشعاراً بأنه العلة الحاملة له على الأمانة فقال‏:‏ ‏{‏يحب المتقين *‏}‏‏.‏

ولما كانت النفوس نزاعة إلى الخيانة رواغة عند مضائق الأمانة، وكانت الخيانة تجر إلى الكذب بسط في الإنذار فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين يشترون‏}‏ أي يلجون في أن يأخذوا على وجه العوض ‏{‏بعهد الله‏}‏ أي الذي عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول الذي عاهدهم على الإيمان به وذكر صفته للناس، وهو سبحانه أعلى وأعز من كل شيء فهو محيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏وأيمانهم‏}‏ أي التي عقدوها بالتزام متابعة الحق على ألسنة الرسل بما دل عليه العقل ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ في الدنيا ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعيدو الرتبة في الدناءة ‏{‏لا خلاق‏}‏ أي نصيب ‏{‏لهم في الآخرة‏}‏ أي لبيعهم له بنصيب الدنيا ‏{‏ولا يكلمهم الله‏}‏ أي الملك الأعظم استهانة بهم وغضباً عليهم بما انتهكوا من حرمته‏.‏

ولما زادت هذه عن آية البقرة العهد والحلف، وكان من عادة الحالف والمعاهد النظر إلى من فعل ذلك لأجله زاد قوله‏:‏ ‏{‏ولا ينظر إليهم‏}‏ أي بل يعدهم أحقر شيء بما أعرضوا عنه، ولما كان لكثرة الجمع مدخل عظيم في مشقة الخزي قال‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي من افتضح في جمعه لم يفز ‏{‏ولا يزكيهم‏}‏ لأنهم لم يزكوا اسمه ‏{‏ولهم‏}‏ أي مع ذلك ‏{‏عذاب أليم *‏}‏ يعرفون به ما جهلوا من عظمته‏.‏

ولما نسبهم إلى الكذب عموماً نبه على نوع خاص منه هو أكذب الكذب فقال‏:‏ ‏{‏وإن منهم لفريقاً‏}‏ أي جبلوا على الفرقة، فهم لا يزالون يسعون في التفريق ‏{‏يلون‏}‏ أي يفتلون ويحرفون ‏{‏ألسنتهم بالكتاب‏}‏ بأن ينقلوا اللسان لتغيير الحرف من مخرج إلى آخر- مثلاً بأن يقولوا في ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 72 وغيرها‏]‏ اللات، وفي ‏{‏لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ بالحد، وفي «من زنى فارجموه» فارحموه بالمهملة، أو فحمموه، أو اجلدوه- ونحو هذا‏.‏

ولما كان كلام الله سبحانه وتعالى لما له من الحلاوة والجلالة لا يلبس بغيره إلا على ضعيف العقل ناقص الفطرة عبر بالحسبان تنفيراً عن السماع منهم وتنبيهاً على بعد ما يسمعه الإنسان من غيره فقال‏:‏ ‏{‏لتحسبوه‏}‏ أي الذي لوى به اللسان فحرف ‏{‏من الكتاب‏}‏ أي المنزل من عند الله، ولما علم بهذه أنه ليس منه نبه على أنه في غاية البعد عنه فقال‏:‏ ‏{‏ما هو من الكتاب‏}‏ أعاده ظاهراً تصريحاً بالتعميم‏.‏

ولما كان إيهامهم هذا من الجرأة بمكان أعلم سبحانه وتعالى أنهم تجاوزوا إلى ما هو أعظم منه فصرحوا بما أوهموه فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي مجددين التصريح بالكذب في كل وقت بأن يقولوا ‏{‏وهو من عند الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال، ثم صرح بكذبهم بقوله- مبعداً لما لووا به ألسنتهم عن أن يكون فيه ثبوت حق مظهراً في موضع الإضمار لأن الاسم الذي لم يشارك فيه أحد بوجه أنص على المراد وأنفى لكل احتمال‏:‏ ‏{‏وما هو‏}‏ أي الذي لووا به ألسنتهم حتى أحالوه عن حقيقته ‏{‏من عند الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة العامة، فما لم يكن من عنده فلا حق فيه بوجه من الوجوه، لا بكونه من الكتاب ولا من غيره‏.‏

ولما بين بهذا كذبهم على الله سبحانه وتعالى تصريحاً بعد أن قدم في الآية الأولى بيانه بما يظن تلويحاً أخبر بأن ذلك عادة لهم، لا يقفون منه عند عد، ولا ينحصرون فيه بحد، فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون على الله‏}‏ أي الحائز لجميع العظمة جرأة منهم ‏{‏الكذب‏}‏ أي العام كما قالوا عليه هذا الكذب الخاص، ولما كان الكذب قد يطلق على ما لم يتعمد، بل وقع خطأ احترز عنه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون *‏}‏ أي أنه كذب، لا يشكون فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 91‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏ قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

ولما فرغ من بيان ما أراد من كتمانهم للحق مع الإشارة إلى بعض توابعه إلى أن ختم بأنهم لا يتحاشون من الكذب على الله المقتضي للكذب على الأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم، لأنهم لا علم لهم بقول الله سبحانه وتعالى إلا بواسطة الأنبياء عليهم السلام، ومهما كان القول كذباً على الله سبحانه وتعالى اقتضى أن يكون تعبداً للمنسوب إليه من دون الله سبحانه وتعالى لأنه هو الذي شرعه، وذلك موجب لأن يدعي أن النبي دعا إليه عبادته من دون الله سبحانه وتعالى، وذلك بعد أن اوضح سبحانه وتعالى من صفات عيسى عليه الصلاة والسلام المقتضية لنفي الإلهية عنه ما لا يخفى على ذي لب شرع يبين أنهم كاذبون فيما يدعونه في عيسى عليه الصلاة والسلام، فنفي أن يكون قال لهم ذلك أو شيئاً منه على وجه شامل له ولكل من اتصف بصفته وبسياق هو بمجرده كاف في إبطال قولهم فقال‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أي صح ولا تصور بوجه من الوجوه ‏{‏لبشر‏}‏ أي من البشر كائناً من كان من عيسى وعزير عليهما الصلاة والسلام وغيرهما ‏{‏أن يؤتيه الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏الكتاب والحكم‏}‏ أي الحكمة المهيئة للحكم، وهي العلم المؤيد بالعمل والعمل المتقن بالعلم، لأن أصلها الإحكام، وهو وضع الشيء في محله بحيث يمتنع فساده ‏{‏والنبوة‏}‏ وهي الخبر من الله سبحانه وتعالى المقتضي لأتم الرفعة، يفعل الله به ذلك الأمر الجليل وينصبه للدعاء إلى اختصاصه الله بالعبادة وترك الأنداد ‏{‏ثم‏}‏ يكذب على الله سبحانه وتعالى بأن ‏{‏يقول للناس كونوا عباداً لي‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك قد يكون تجوزاً عن قبول قوله والمبادرة لامتثال أمره عن الله سبحانه وتعالى احتراز عنه بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي المختص بجميع صفات الكمال إذ لا يشك عاقل أن من أوتي نبوة وحكمة- وهو بشر- في غاية البعد عن ادعاء مثل ذلك، لأن كل صفة من صفاته- لا سيما تغير بشرته الدالة على انفعالاته- مستقلة بالإبعاد عن هذه الدعوى، فلم يبق لهم مستند، لا من جهة عقل ولا من طريق نقل، فصار قول مثل ذلك منافياً للحكمة التي هو متلبس بها، فصح قطعاً انتقاؤه عنه‏.‏

ولما ذكر ما لا يكون له أتبعه ما له فقال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ أي يقول ‏{‏كونوا ربانيين‏}‏ أي تابعين طريق الرب منسوبين إليه بكمال العلم المزين بالعمل، والألف والنون زيدتا للإيذان بمبالغتهم في المتابعة ورسوخهم في العلم اللدني، فإن الرباني هو الشديد التمسك بدين الله سبحانه وتعالى وطاعته، قال محمد بن الحنفية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما مات‏:‏ مات رباني هذه الأمة‏:‏ ‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب‏}‏ أي بسبب كونكم عالمين به معلمين له ‏{‏وبما كنتم تدرسون *‏}‏ فإن فائدة الدرس العلم، وفائدة العلم العمل، ومنه الحث على الخير والمراقبة للخالق‏.‏

ولما نفي أن يكون الحكيم من البشر داعياً إلى نفسه وأثبت أنه يكون ولا بد داعياً إلى الله سبحانه وتعالى لتظهر حكمته أثبت أن ذلك لا بد وأن يكون على وجه الإخلاص، لأن بعض الشياطين يحكم مكره بإبعاد التهمة عن نفسه بالدعاء إلى إلى غيره على وجه الشرك لا سيما إن كان ذلك الغير ربانياً كعيسى عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ ‏{‏ولا يأمركم‏}‏ أي ذلك البشر ‏{‏أن تتخذوا‏}‏ أتى بصيغة الافتعال إيذاناً بأن الفطر مجبولة على التوجه لله سبحانه وتعالى من غير كلفة ‏{‏الملائكة والنبيين‏}‏ فضلاً عن غيرهم ‏{‏أرباباً‏}‏ أي مع الله سبحانه وتعالى أو من دونه، ثم بين أن كل عبادة كان فيها أدنى شائبة فهي باطلة بقوله على طريق الإنكار تبرئة لعبادة الخلص من مثل ذلك‏:‏ ‏{‏أيأمركم بالكفر‏}‏ إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غني، لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه ‏{‏بعد إذ أنتم مسلمون *‏}‏ أي منقادون لأحكامه، أو متهيئون للتوحيد على عليّ الفطرة الأولى‏.‏

ولما بين سبحانه وتعالى فيما مضى أن التولي عن الرسل كفر، وذكر كثيراً من الرسل فخص في ذكرهم وعمم، ذكر قانوناً كلياً لمعرفة الرسول عنه سبحانه وتعالى والتمييز بينه وبين الكاذب فقال عاطفاً على ‏{‏إذ أنتم مسلمون‏}‏ ‏{‏وإذ أخذ الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏ميثاق النبيين‏}‏ أي كافة، والمعنى‏:‏ ما كان له أن يقول ذلك بعد الإنعام عليكم بالإسلام والإنعام عليه بأخذ الميثاق على الناس- الأنبياء وغيرهم- بأن يؤمنوا به إذا آتاهم، فيكون بذلك الفعل مكفراً لغيره وكافراً بنعمة ربه، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏لما‏}‏ أي فقال لهم الله‏:‏ لما ‏{‏آتيتكم‏}‏ وقراءة نافع‏:‏ آتيناكم، أوفق لسياق الجلالة- قاله الجعبري ‏{‏من كتاب وحكمة‏}‏ أي أمرتكم بها بشرع من الشرائع، فأمرتم بذلك من أرسلتم إليه ‏{‏ثم جآءكم رسول‏}‏ أي من عندي، ثم وصفه بما يعلم أنه من عنده فقال‏:‏ ‏{‏مصدق لما معكم‏}‏ أي من ذلك الكتاب والحكمة ‏{‏لتؤمنن به‏}‏ أي أنتم وأممكم ‏{‏ولتنصرنه‏}‏ أي على من يخالفه، فكأنه قيل‏:‏ إن هذا الميثاق عظيم، فقيل‏:‏ إنّ، زاد في تأكيده اهتماماً به فقال‏:‏ ‏{‏قال ءأقررتم‏}‏ أي يا معشر النبيين ‏{‏وأخذتم على ذلكم‏}‏ أي العهد المعظم بالإشارة بأداة البعد وميم الجمع ‏{‏إصري‏}‏ أي عهدي، سمي بذلك لما فيه من الثقل، فإنه يشد في نفسه بالتوثيق والتوثق، ويشتد بعد كونه على النفوس لما لها من النزوع إلى الإطلاق عن عهد التقيد بنوع من القيود، فكأنه قيل‏:‏ ما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا أقررنا‏}‏ أي بذلك، فقيل‏:‏ ما قال‏؟‏ فقيل ‏{‏قال فاشهدوا‏}‏ أي يا أنبياء‏!‏ بعضكم على بعض، أو يا ملائكة‏!‏ عليهم ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين * فمن‏}‏ أي فتسبب عنه أنه من ‏{‏تولى‏}‏ أي منكم أو من أممكم الذي بلغهم ذلك عن نصرة نبي موصوف بما ذكر‏.‏

ولما كان المستحق لغاية الذم إنما هو من اتصل توليه بالموت لم يقرن الظرف بجار فقال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الميثاق البعيد الرتبة بما فيه من الوثاقة ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء من خصال الخير ‏{‏هم الفاسقون *‏}‏ أي المختصون بالخروج العظيم عن دائرة الحق‏.‏

ولما كان المدرك لكل نبي إنما هم أمة النبي الذي قبله، وكانوا يكذبونه ويخالفونه قال- خاتماً لهذه القصص بعد الشهادة بنفسه المقدسة بما بدأها به في قوله ‏{‏شهد الله‏}‏ الآية إلى ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ على وجه الإنكار والتهديد عاطفاً على ما دل عليه السياق-‏:‏ ‏{‏أفغير‏}‏ أي أتولوا ففسقوا، فتسبب عن ذلك أنهم غير دين الله، وأورد بأن تقديم «غير» يفهم أن الإنكار منحط على طلبهم اختصاصاً لغير دين الله، وليس ذلك هو المراد كما لا يخفى، وأجيب بأن تقديمه الاهتمام بشأنه في الإنكار، والاختصاص متأخر مراعاته عن نكبة غيره- كما تقرر في محله ‏{‏دين الله‏}‏ الذي اختص بصفات الكمال ‏{‏يبغون‏}‏ أي يطلبون بفسقهم، أو أتوليتم- على قراءة الخطاب ‏{‏وله‏}‏ أي والحال أنه له حاصة ‏{‏أسلم‏}‏ أي خضع بالانقياد لأحكامة والجري تحت مراده وقضائه، لا يقدرون على مغالبة قدره بوجه ‏{‏من في السموات والأرض‏}‏ وهم من لهم قوة الدفاع بالبدن والعقل فكيف بغيرهم ‏{‏طوعاً‏}‏ بالإيمان أو بما وافق أغراضهم ‏{‏وكرهاً‏}‏ بالتسليم لقهره في إسلام أحدهم وإن كثرت أعوانه وعز سلطانه إلى أكره ما يكره وهو صاغر داخر، لا يستطيع أمراً ولا يجد نصراً ‏{‏وإليه يرجعون *‏}‏ بالحشر، لا تعالجون مقراً ولا تلقون ملجأ ولا مفراً، فإذا كانوا كذلك لا يقدرون على التفصي من قبضته بنوع قوة ولا حيلة في سكون ولا حركة فكيف يخالفون ما أتاهم من أمره على ألسنة رسله وقد ثبت أنهم رسله بما أتى به كل منهم من المعجزة‏!‏ ومن المعلوم أن المعاند للرسول صلى الله عليه وسلم معاند للمرسل‏.‏

ولما تم تنزيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الدعاء إلى شيء غير الله، ثم هدد من تولى، فكان السامع جديراً بأن يقول‏:‏ أنا مقبل غير متول فما اقول وما أفعل‏؟‏ قال مخاطباً لرأس السامعين ليكون أجدر لامتثالهم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي قبل كل شيء، أي ملفتاً لمن نفعه هذا التذكير والتهديد فأقبل ‏{‏آمنا‏}‏ أنا ومن أطاعني من أمتي- مبكتاً لأهل الكتاب بما تركوه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده من خلص أبنائه، وأبوه وجادلوا فيه عدواناً وادعوه؛ ثم فصل المأمور بالإيمان به فقال‏:‏ ‏{‏بالله‏}‏ الذي لا كفوء له‏.‏

ولما كان الإنزال على الشيء مقصوداً به ذلك الشيء بالقصد الأول كان الأنسب أن يقال‏:‏ ‏{‏وما أنزل علينا‏}‏ فيكون ذلك له حقيقة ولأتباعه مجازاً، وكانت هذه السورة بذلك أحق لأنها سورة التوحيد ‏{‏وما أنزل على إبراهيم‏}‏ أي أبينا ‏{‏وإسماعيل وإسحاق‏}‏ أي ابنيه ‏{‏ويعقوب‏}‏ ابن إسحاق ‏{‏والأسباط‏}‏ أي أولاد يعقوب‏.‏

ولما كان ما ناله صاحبا شريعة بني إسرائيل من الكتابين المنزلين عليهما والمعجزات الممنوحين بها أعظم مما كان لمن قبلهما غير السياق إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما أوتي موسى‏}‏ من أولاد الأسباط من التوراة والشريعة ‏{‏وعيسى‏}‏ من ذرية داود من الإنجيل والشريعة الناسخة لشريعة موسى عليهما الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان النظر هنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر لكونها سورة التوحيد الذي هو أخلق به وأغرق فيه ناسب الإعراء عن التأكيد بما في البقرة، ونظر إلى الكل لمحاً واحداً فقال‏:‏ ‏{‏والنبيون‏}‏ أي كافة من الوحي والمعجزات ليكون الإيمان بالمنزل مذكوراً مرتين لشرفه ‏{‏من ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم خاصة وإلى العباد عامة بإرسالهم إليهم؛ ثم استأنف تفسير هذا الإيمان بقوله‏:‏ ‏{‏لا نفرق بين أحد منهم‏}‏ تنبيهاً على الموضع الذي كفر به اليهود والنصارى ‏{‏ونحن له‏}‏ أي لله وما أنزل من عنده ‏{‏مسلمون *‏}‏ أي منقادون على طريق الإخلاص والرضى‏.‏

ولما أمر سبحانه وتعالى بإظهار الإيمان بهذا القول، وكان ذلك هو الإذعان الذي هو الإسلام قال- محذراً من الردة عنه عاطفاً على ‏{‏آمنا‏}‏ ومظهراً لما من حقه الإضمار لولا إرادة التنبيه على ذلك مشيراً بصيغة الافتعال إلى مخالفة الفطرة الأولى-‏:‏ ‏{‏ومن يبتغ‏}‏ أي يتطلب ‏{‏غير‏}‏ دين ‏{‏الإسلام‏}‏ الذي هو ما ذكر من الانقياد لله سبحانه وتعالى المشتمل على الشرائع المعروفة التي أساسها الإيمان بعد التلبس به حقيقة بإظهار اتباع الرسل أو مجازاً بالكون على الفطرة الأولى بما أشعر به الابتغاء- كما تقدم، وكرر الإسلام في هذا السياق كثيراً لكونه في حيز الميثاق المأخوذ بمتابعة الرسول المصدق حثاً على تمام الانقياد له ‏{‏ديناً‏}‏ وأتى بالفاء الرابطة إعلاماً بأن ما بعدها مسبب عما قبلها ومربوط به فقال‏:‏ ‏{‏فلن يقبل منه‏}‏ أي في الدنيا، وأشعر ترتيب هذا على السبب بأنه يرجى زوال السبب لأنه مما عرض للعبد كما جرى في الردة في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، فإنه رجع إلى الإسلام أكثر المرتدين وحسن إسلامهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين *‏}‏ معناه‏:‏ ولا يقبل منهم في الآخرة، مع زيادة التصريح بالخسارة- وهي حرمان الثواب- المنافية لمقاصدهم، والقصد الأعظم بهذا أهل الكتاب مع العموم لغيرهم لإقرارهم بهذا النبي الكريم وتوقعهم له، عالمين قطعاً بصدقه لما في كتبهم من البشارة به‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بخسارة من ارتد عن الإسلام شرع يستدل على استحقاقه لذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كيف يهدي الله‏}‏ مع ما له من كمال العظمة ‏{‏قوماً‏}‏ أي يخلق الهداية في قلوب ناس بهم قوة المحاولة لما يريدونه ‏{‏كفروا‏}‏ أي أوقعوا الكفر بالله ربهم وبما ذكر مما أتت به رسله إعراضاَ عنه وعنهم، ولما كان المقصود بكمال الذم من استمر كفره إلى الموت قال من غير جار‏:‏ ‏{‏بعد إيمانهم‏}‏ بذلك كله ‏{‏وشهدوا‏}‏ أي وبعد أن شهدوا ‏{‏أن الرسول حق‏}‏ بما عندهم من العلم به ‏{‏وجاءهم البينات‏}‏ أي القاطعة بأنه حق وأنه رسول الله قطعاً، لا شيء أقوى من بيانه ولا أشد من ظهوره بما أشعر به إسقاط تاء التأنيث من جاء‏.‏

ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيان لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحاً لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد‏:‏ أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لا يهدي القوم الظالمين *‏}‏ أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك، تحذيراً من مطلق الظلم، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏جزاؤهم أن عليهم لعنة الله‏}‏ أي الملك الأعظم، وهي غضبه وطرده ‏{‏والملائكة والناس أجمعين *‏}‏ حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظاناً أنه ليس بكافر، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيئ، وحذراً من فعل مثل ذلك معه ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي اللعنة دائماً‏.‏

ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا يخفف عنهم العذاب‏}‏ مفيداً ان عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة‏.‏ ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتاً ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا هم ينظرون *‏}‏ أي يؤخرون للعلم بحالهم باطناً وظاهراً حالاً ومآلاً، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه، لم يترك شيء نمها لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان‏.‏

ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم- وإن استبعد رجوعهم- موضعاً للرجاء بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ الارتدار حيث تقبل التوبة ‏{‏وأصلحوا‏}‏ أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله ‏{‏غفور‏}‏ يمحو الزلات ‏{‏رحيم *‏}‏ بإعطاء المثوبات، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه‏.‏

ولما رغب في التوبة رهب من التواني عنها فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي بالله وأوامره، وأسقط الجار لما مضى من قوله ‏{‏من بعد إيمانهم‏}‏ بذلك‏.‏ ولما كان الكفر لفظاعته وقبحه وشناعته جديراً بالنفرة عنه والبعد منه نبه سبحانه وتعالى على ذلك باستبعاد إيقاعه، فكيف بالتمادي عليه فكيف بالازدياد منه‏!‏ وعبر عن ذلك بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم ازدادوا كفراً‏}‏ أي بأن تمادوا على ذلك ولم يبادروا بالتوبة ‏{‏لن تقبل توبتهم‏}‏ أي إن تابوا، لأن الله سبحانه وتعالى يطبع على قلوبهم فلا يتوبون توبة نصوحاً يدومون عليها ويصلحون ما فسد، أو لن توجد منهم توبة حتى يترتب عليها القبول لأنهم زادوا عن أهل القسم الأول بالتمادي، ولم يأت بالفاء الدالة على أنه مسبب عما قبله إعلاماً بأن ذلك إنما هو لأنهم مطبوع على قلوبهم، مهيؤون للكفر من أصل الجبلة، فلا يتوبون أبداً توبة صحيحة، فالعلة الحقيقية الطبع لا الذنب، وهذا شامل لمن تاب عن شيء وقع منه كأبي عزة الجمحي، ولمن لم يتب كحيي بن أخطب ‏{‏وأولئك هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الضالون *‏}‏ أي الغريقون في الضلال وإليه أشار ‏{‏ولو أسمعهم لتولوا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ لوقوعهم في أبعد شعابة وأضيق نقابه، فأنى لهم بالرجوع منه والتقصي عنه‏!‏

ولما أثبت لهم الخصوصية بذلك لائناً لهم فيه إلى حد أيس معه من رجوعهم تشوف السامع إلى حالهم في الآخرة فقال مبيناً لهم أن السبب في عدم قبول توبتهم تفويت محلها بتماديهم على الكفر‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي هذا الكفر أو غيره، ويجوز أن يكون المراد أنهم ثلاثة أقسام‏:‏ التائبون توبة صحيحة وهم الذين أصلحوا، والتائبون توبة فاسدة، والواصلون كفرهم بالموت من غير توبة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏وماتوا وهم كفار‏}‏ ولما كان الموت كذلك سبباً للخلود في النار لأن السياق للكفر والموت عليه، صرح بنفي قبول الفداء كائناً من كان، وربطه بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فلن يقبل‏}‏ أي بسبب شناعة فعلهم الذي هو الاجتراء على الكفر ثم الموت عليه ‏{‏من أحدهم‏}‏ أي كائناً من كان ‏{‏ملء الأرض ذهباً‏}‏ أي من الذهب لا يتجدد له قبول ذلك لو بذله هبة أوهدية أو غير ذلك ‏{‏ولو افتدى به‏}‏ لو في مثل هذا السياق تجيء منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صلى الله عليه وسلم «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» فكونه جاء على فرس يؤذن بغناه، فلا يناسب أن يعطى فنص عليه؛ وأما هنا فلما كان قبول الفدية واجباً عند أهل الكتاب- كما مر في قوله سبحانه وتعالى

‏{‏وإن يأتوكم أسارى تفادوهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 85‏]‏ كان بحيث ربما ظن أن بذله- على طريق الافتداء يخالف بذله على غير ذلك الوجه حتى يجب قبوله، فنص عليه؛ وأيضاً فحالة الافتداء حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدى- قاله أبو حيان‏.‏ فالمعنى‏:‏ لا يقبل من أحدهم ما يملأ الأرض من الذهب على حال من الأحوال ولو على حال الافتداء، والمراد بالمثال المبالغة في الكثرة، أي لا يقبل منه شيء؛ وإنما اقتصر على ملء الأرض لأنه أكثر ما يدخل تحت أوهام الناس ويجري في محاوراتهم- والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ولما تشوف السامع إلى معرفة ما يحل بهم أجيب بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من الرحمة ‏{‏لهم عذاب أليم‏}‏ ولعظمته أغرق في النفي بعده بزيادة الجار فقال‏:‏ ‏{‏وما لهم من ناصرين *‏}‏ أي ينصرونهم بوجه من الوجوه، فانتفى عنهم كل وجه من وجوه الاستنقاذ‏.‏