فصل: الجزء الخامس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء الخامس

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 103‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

ولما كان آخر هذه القصص في الحقيقة إبطال كل ما خالف الإسلام الذي هو معنى ‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏- وما بعد ذلك إنما جرّه- ختم الآية بدعوى أن المخالفين من الخاسرين، وختم ذلك بأن من مات على الكفر لا يقبل إنفاقه للإنقاذ مما يلحقه من الشدائد، لا بدفع لقاهر ولا بتقوية لناصر، فتشوفت النفس إلى الوقت الذي يفيد فيه الإنفاق وأي وجوهه أنفع، فأرشد إلى ذلك وإلى أن الأحب منه أجدر بالقبول، رجوعاً إلى ما قرره سبحانه وتعالى قبل آية الشهادة بالوحدانية من صفة عباده المنفقين والمستغفرين بالأسحار على وجه أبلغ بقوله‏:‏ ‏{‏لن تنالوا البر‏}‏ وهو كمال الخير ‏{‏حتى تنفقوا‏}‏ أي في وجوه الخير ‏{‏مما تحبون‏}‏ أي من كل ما تقتضون، كما ترك إسرائيل عليه الصلاة والسلام أحب الطعام إليه لله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن أنفقتم منه علمه الله سبحانه وتعالى فأنالكم به البر، وإن تيممتم الخبيث الذي تكرهونه فأنفقتموه لم تبروا، وكان كل من المحبة والكراهة أمراً خفياً، قال سبحانه وتعالى مرغماً مرهباً‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء‏}‏ أي من المحبوب وغيره ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة‏.‏ وقدم الجار اهتماماً به إظهاراً لأنه يعلمه من جميع وجوهه ما تقول لمن سألك- هل تعلم كذا‏:‏ لا أعلم إلا هو، فقال‏:‏ ‏{‏به عليم *‏}‏ فهذا كما ترى احتباك‏.‏

ولما أخبر بذلك بين أنه كان ديدن أهل الكمال على وجه يقرر به ما مضى من الإخبار بعظيم اجتراء أهل الكتاب على الكذب بأمر حسّي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كل الطعام‏}‏ أي من الشحوم مطلقاً وغيرها ‏{‏كان حلاًّ لبني إسرائيل‏}‏ أي أكله- كما كان حلاًّ لمن قبلهم على أصل الإباحة ‏{‏إلا ما حرم إسرائيل‏}‏ تبرراً وتطوعاً ‏{‏على نفسه‏}‏ وخصه بالذكر استجلاباً لبنيه إلى ما يرفعهم بعد اجتذابهم للمؤمنين إلى ما يضرهم ولا ينفعهم‏.‏ ولما كانوا بما أغرقوا فيه من الكذب ربما قالوا‏:‏ إنما حرم ذلك اتباعاً لحكم التوراة قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ وأثبت الجار لأن تحريمه كان في بعض ذلك الزمان، لا مستغرقاً له‏.‏ وعبر بالمضارع لأنه أدل على التجدد فقال‏:‏ ‏{‏أن تنزل التوراة‏}‏ وكان قد ترك لحوم الإبل وألبانها وكانت أحب الأطعمة إليه لله وإيثاراً لعباده- كما تقدم ذلك في البقرة عند ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏‏.‏

ولما كانت هذه الآية إلزاماً لليهود باعتقاد النسخ الذي طعنوا به في هذا الدين في أمر القبلة، وكانوا ينكرونه ليصير عذراً لهم في التخلف عن اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم، فكانوا يقولون‏:‏ لم تزل الشحوم وما ذكر معها حراماً على من قبلنا كما كانت حراماً علينا، فأمر بجوابهم بأن قال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لليهود ‏{‏فأتوا بالتوارة فاتلوها‏}‏ أي لتدل لكم ‏{‏إن كنتم صادقين *‏}‏ فيما ادعيتموه، فلم يأتلوا بها فبان كذبهم فافتضحوا فضيحة لا مثل لها في الدنيا ‏{‏فمن‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه من ‏{‏افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏الكذب‏}‏ أي في أمر المطاعم أو غيرها‏.‏

ولما كان المراد النهي عن إيقاع الكذب في أي زمن كان، لا عن إيقاعه في جميع الزمان الذي بعد نزول الآية أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي البيان العظيم الظاهر جداً ‏{‏فأولئك‏}‏ أي الأباعد الأباغض ‏{‏هم‏}‏ خاصة لتعمدهم الكذب على من هو محيط بهم ولا تخفى عليه خافية ‏{‏الظالمون *‏}‏ أي المتناهو الظلم بالمشي على خلاف الدليل فعل من يمشي في الظلام، فهو لا يضع شيئاً في موضعه، وذلك بتعرضهم إلى أن يهتكهم التام العلم ويعذبهم الشامل القدرة‏.‏

ولما اتضح كذبهم وافتضح تدليسهم- لأنه لما استدل عليهم بكتابهم فلم يأتوا به صار ظاهراً كالشمس، لا شك فيه ولا لبس، ولم يزدهم ذلك إلا تمادياً في الكذب- أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لأهل الكتاب الذي أنكروا النسخ فأقمت عليهم الحجة من كتابهم ‏{‏صدق الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الكمال كله في جميع ما أخبر، وتخبر به عن ملة إبراهيم وغيره من بنيه أسلافكم، وتبين أنه ليس على دينكم هو ولا أحد ممن قبل موسى عليه الصلاة والسلام، لأنكم لو كنتم صادقين لأتيتم بالتوراة، نافياً بذلك أن يكون تأخرهم عن الإتيان بها لعلة يعتلون بها غير ذلك، وإذ قد تبين صدقه تعالى في جميع ما قال وجب اتباعه في كل ما يأمر به، وأعظمه ملة إبراهيم فإنها الجامعة للمحاسن‏.‏

ولما ثبت ذلك بهذا الدليل المحكم لزم قطعاً أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً ولا مشركاً، وقد أقروا بأن ملته هي الحق وأنهم أتباعه، فتسبب عن ذلك وجوب اتباعه فيما أخبر الله سبحانه وتعالى به فبان كالشمس صدقه، لا فيما افتروه هم من الكذب، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم‏}‏ وهي الإسلام أي الانقياد للدليل، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏حنيفاً‏}‏ أي تابعاً للحجة إذا تحررت، غير متقيد بمألوف‏.‏ ولما كان صلى الله عليه وسلم مفطوراً‏.‏ على الإسلام فلم يكن في جبلته شيء من العوج فلم يكن له دين غير الإسلام نفى الكون فقال‏:‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏}‏ أي بعزير ولا غيره من الأكابر كالأحبار الذين تقلدونهم مع علمكم بأنهم يدعون إلى ضد ما دعا إليه سبحانه وتعالى‏.‏

ولما ألزمهم سبحانه وتعالى بالدليل الذي دل على النسخ أنهم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأوجب عليهم اتباعها بعد بيان أنها هي ما عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، أخبر عن البيت الذي يخول إليه التوجه في الصلاة، فعابوه على أهل الإسلام أنه أعظم شعائر إبراهيم عليه الصلاة والسلام التي كفروا بتركها، ولذلك أبلغ في تأكيده فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن أول بيت‏}‏ أي من البيوت الجامعة للعبادة ‏{‏وضع للناس‏}‏ أي على العموم متعبداً واجباً عليهم قصده وحجه بما أمرهم به على لسان موسى عليه الصلاة والسلام، واستقباله في الصلاة بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولعل بناء وضع، للمفعول إشارة إلى أن وضعه كان قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ‏{‏للذي ببكة‏}‏ أي البلدة التي تدق أعناق الجبابرة، ويزدحم الناس فيها إزدحاماً لا يكون في غيرها مثله ولا قريب منه، فلا بد أن يدق هذا النبي الذي أظهرته منها الأعناق من كل من ناواه ويزدحم الناس على الدخول في دينه ازدحاماً لم يعهد مثله فإن فاتكم ذلك ختم في الدارين غاية الخيبة ودام ذلكم وصغاركم؛ حال كونه ‏{‏مباركاً‏}‏ أي عظيم الثبات كثير الخيرات في الدين والدنيا ‏{‏وهدى للعالمين *‏}‏ أي من بني إسرائيل ومن قبلهم ومن بعدهم، فعاب عليهم سبحانه وتعالى في هذه الآية فعلهم من النسخ ما أنكروه على مولاهم‏.‏

وذلك نسخهم لما شرعه من حجة من عند أنفسهم تحريفاً منهم مثالاً لما قدم من الإخبار به عن كذبهم، وهذا أمر شهير يسجل عليهم بالمخالفة ويثبت للمؤمنين المؤالفة، فإن حج البيت الحرام وتعظيمه من أعظم ما شرعه إبراهيم عليه الصلاة والسلام- كما هو مبين في السير وغيرها وهم عالمون بذلك، وقد حجه أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام وأسلافهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم- كما روي من غير طريق عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أن في بعض الطرق أنه كان مع موسى عليه الصلاة في حجة إليه سبعون ألفاً من بني إسرائيل، ومن المحال عادة أن يخفى ذلك عليهم، ومن الأمر الواضح أنهم قد تركوا هذه الشريعة العظيمة أصلاً ورأساً، فكيف يصح لهم دعوى أنهم على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع انسلاخهم من معظم شرائعه‏!‏ ثم فسر الهدى بقوله‏:‏ ‏{‏فيه آيات بينات‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مقام إبراهيم *‏}‏ أي أثر قدمه عليه الصلاة والسلام في الحجر حيث قام لتغسل كنته رأسه الشريف- أعربه أبو حيان بدلاً أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر ‏{‏إن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏للذي ببكة‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ إن أول بيت وضع للناس لمقام إبراهيم، وأعربه غيره بدل بعض من قوله ‏{‏آيات‏}‏ وهو وحده آيات لعظمه ولتعدد ما فيه من تأثير القدم، وحفظه إلى هذا الزمان مع كونه منقولاً، وتذكيره بجميع قضايا إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان أمن أهله في بلاد النهب والغارات التي ليس بها حاكم يفزع إليه ولا رئيس يعول في ذلك عليه من أدل الآيات قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله‏}‏ أي فضلاً عن أهله ‏{‏كان آمناً‏}‏ أي عريقاً في الأمن، أو فأمنوه بأمان الله، وتحويل العبارة عن «وأمن داخله» لأن هذا أدل على المراد من تمكن الأمن، وفيه بشارة بدخول الجنة‏.‏

ولما أوضح سبحانه وتعالى براءتهم من إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمخالفتهم إياه بعد دعواهم بهتاناً أنه على دينهم، وكانت المخالفة في الواجب أدل قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله ‏{‏على الناس‏}‏ أي عامة، فأظهر في موضع الإضمار دلالة على الإحاطة والشمول- كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي في ‏{‏استطعما أهلها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 77‏]‏ في الكهف، وذلك لئلا يدعي خصوصة بالعرب أو غيرهم ‏{‏حج البيت‏}‏ أي زيارته زيارة عظيمة، وأظهر أيضاً تنصيصاً عليه وتنويهاً بذكره تفخيماً لقدره، وعبر هنا بالبيت لأنه في الزيارة، وعادة العرب زيارة معاهد الأحباب وأطلالهم وأماكنهم وحلالهم، وأعظم ما يعبر به عن الزيارة عندهم الحج، ثم مَن بالتخفيف بقوله مبدلاً من الناس، تأكيداً بالإيضاح بعد الإبهام وحملاً على الشكر بالتخفيف بعد التشديد وغير ذلك من البلاغة‏:‏ ‏{‏من استطاع‏}‏ أي منهم ‏{‏إليه سبيلاً‏}‏ فمن حجه كان مؤمناً‏.‏

ولما كان من الواضح أن التقدير‏:‏ ومن لم يحجه مع الاستطاعة كفر بالنعمة إن كان معترفاً بالوجوب، وبالمروق من الدين إن جحد، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏ أي بالنعمة أو بالدين ‏{‏فإن الله‏}‏ اي الملك الأعلى ‏{‏غني‏}‏ ولما كان غناه مطلقاً دل عليه بقوله موضع عنه‏:‏ ‏{‏عن العالمين *‏}‏ أي طائعهم وعاصيهم، صامتهم وناطقهم، رطبهم ويابسهم، فوضح بهذه الآية وما شاكلها أنهم ليسوا على دينه كما وضح بما تقدم أنه ليس على دينهم، فثبتت بذلك براءته منهم، والآية من الاحتباك لأن إثبات فرضه أولاً يدل على كفر من أباه، وإثبات ‏{‏ومن كفر‏}‏ ثانياً يدل على إيمان من حجه‏.‏

ولما أتم سبحانه وعز شأنه البراهين وأحكم الدلائل عقلاً وسمعاً، ولم يبق لمتعنت شبهة، ولم يبادروا الإذعان، بل زادوا في الطغيان، وكادوا أن يوقعوا الضراب والطعان بين أهل الإيمان، أعرض سبحانه وتعالى عن خطابهم إيذاناً بشديد الغضب ورابع الانتقام فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لرسوله الذي يكون قتلهم على يده‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ وأثبت أداة دالة على بعدهم عن الحضرة القدسية فقال‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ أي من الفريقين ‏{‏لم تكفرون‏}‏ أي توقعون الكفر ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي وهي- لكونه الحائز بجميع الكمال- البينات نقلاً وعقلاً الدالة على أنكم على الباطل لما وضح من أنكم على غير ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان كفرهم ظاهراً ذكر شهادته تعالى فقال مهدداً ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الله الذي هو محيط بكل شيء قدرة وعلماً فلا إله غيره وقد أشركتم به ‏{‏شهيد على‏}‏ كل ‏{‏ما تعملون *‏}‏ أي لكونه يعلم سبحانه السر وأخفى وإن حرفتم وأسررتم‏.‏ ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال‏:‏ ‏{‏قل يا آهل الكتاب‏}‏ أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التطلف في صرفهم عن ضلالهم ‏{‏لم تصدون‏}‏ أي بعد كفركم ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه اهتماماً به‏.‏ ثم ذكر المفعول فقال‏:‏ ‏{‏من أمن‏}‏ حال كونكم ‏{‏تبغونها‏}‏ أي السبيل ‏{‏عوجاً‏}‏ أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله، ولم يفعل سبحانه وتعالى إذ أعرض عنهم في هذه الآية ما فعل من قبل إذ أقبل عليهم بلذيذ خطابه تعالى جده وتعاظم مجده إذ قال‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 70‏]‏ والآية التي بعدها بغير واسطة‏.‏ وقال أبو البقاء في إعرابه‏:‏ إن تبغون يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من الضمير في تصدون أو من السبيل، لأن فيها ضميرين راجعين إليها، فلذلك يصح أن يجعل حالاً من كل واحد منهما، وعوجاً حال- انتهى‏.‏ وقال صاحب القاموس في بنات الواو‏:‏ بغا الشيء بغواً‏:‏ نظر إليه كيف هو، وقال في بنات الياء‏:‏ بغيته أبغيه‏:‏ طلبته، فالظاهر أن جعل عوجاً حالاً- كما قال أبو البقاء- أصوب من جعله مفعولاً- كما قال في الكشاف‏.‏ ويكون تبغون إما يائياً فيكون معناه‏:‏ تريدونها معوجة أو ذات عوج، فإن طلب بمعنى‏:‏ أراد؛ وإما أن يكون واوياً بمعنى‏:‏ ترونها ذات عوج، أي تجعلونها في نظركم يعني‏:‏ تتكلفون وصفها بالعوج مع علمكم باستقامتها، لكن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بهن» يؤيد قول صاحب الكشاف‏.‏

ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً‏:‏ ‏{‏وأنتم شهداء‏}‏ أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة‏.‏ ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال‏:‏ ‏{‏وما الله‏}‏ أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها ‏{‏بغافل‏}‏ أي أصلاً ‏{‏عما تعملون *‏}‏ ولما تم إيذانه بالسخط على أعدائه وأبلغ في إنذارهم عظيم انتقامه إن داموا على إضلالهم، أقبل بالبشر على أحبائه، مواجهاً لهم بلذيذ خطابه وصفي غنائه، محذراً لهم الاغترار بالمضلين، ومنبهاً ومرشداً ومذكراً ودالاً على ما ختم به ما قبلها من إحاطة علمه بدقيق مكر اليهود، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إن تطيعوا فريقاً‏}‏ أتى بهذا اللفظ لما كان المحذر منه الافتراق والمقاطعة الذي يأتي عيب أهل الكتاب به ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ أي القاطعين بين الأحباب مثل شأس بن قيس الذي مكر بكم إلى أن أوقع الحرب بينكم، فلولا النبي الذي رحمكم به ربكم لعدتم إلى شر ما كنتم فيه ‏{‏يردوكم‏}‏ وزاد في تقبيح هذا الحال بقوله مشيراً بإسقاط الجار إلى الاستغراق زمان البعد‏:‏ ‏{‏بعد إيمانكم كافرين *‏}‏ أي غريقين في صفة الكفر، فيا لها من صفقة ما أخسرها وطريقة ما أجورها‏!‏‏.‏

ولما حذرهم منهم عظم عليهم طاعتهم بالإنكار والتعجيب من ذلك مع ما هم عليه بعد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحوال الشريفة فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فكيف تطيعونهم وأنتم تعلمون عداوتهم‏:‏ ‏{‏وكيف تكفرون‏}‏ أي يقع منكم ذلك في وقت من الأوقات على حال من الأحوال ‏{‏وأنتم تتلى‏}‏ أي تواصل بالقراءة ‏{‏عليكم آيات الله‏}‏ أي علامات الملك الأعظم البينات ‏{‏وفيكم رسوله‏}‏ الهادي من الضلالة المنقذ من الجهالة، فتكونون قد جمعتم إلى موافقة العدو مخالفة الولي وأنتم بعينه وفيكم أمينه ‏{‏ومن‏}‏ أي والحال أنه من ‏{‏يعتصم‏}‏ أي يجهد نفسه في ربط أموره ‏{‏بالله‏}‏ المحيط بكل شيء علماً وقدرةً في جميع أحواله كائناً من كان‏.‏ ولما كان من قصر نفسه على من له الكمال كله متوقعاً للفلاح عبر بأداة التوقع مقرونة بفاء السبب فقال‏:‏ ‏{‏فقد هدى‏}‏ وعبر بالمجهول على طريقة كلام القادرين ‏{‏إلى صراط مستقيم *‏}‏‏.‏

ولما انقضى هذا التحذير من أهل الكتاب والتعجيب والترغيب، أمر بما يثمر ذلك من رضاه فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ادعوا ذلك بألسنتهم ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي صدقوا دعواكم بتقوى ذي الجلال والإكرام ‏{‏حق تقاته‏}‏ فأديموا الانقياد له بدوام مراقبته ولا تقطعوا أمراً دونه ‏{‏ولا تموتن‏}‏ على حالة من الحالات ‏{‏إلا وأنتم مسلمون *‏}‏ أي منقادون أتم الانقياد، ونقل عن العارف أبي الحسن الشاذلي أن هذه الآية في أصل الدين وهو التوحيد، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ في فروعه‏.‏

ولما كان عزم الإنسان فاتراً وعقله قاصراً، دلهم- بعد أن أوقفتهم التقوى- على الأصل لجميع الخيرات المتكفل بالحفظ من جميع الزلات فقال‏:‏ ‏{‏واعتصموا‏}‏ أي كلفوا أنفسكم الارتباط الشديد والانضباط العظيم ‏{‏بحبل الله‏}‏ أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له التي نهجها لكم ومهدها، وأصل الحبل السبب الذي يوصف به إلى البغية والحاجة، وكل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله عنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن الخوف، ولا يخفى دقة الصراط بما ورد به النقل الصحيح وهذا الدين مثاله فصعوبته وشدته على النفوس بما لها من النوازع والحظوظ مثال دقته، فمن قهر نفسه وحفظها على التمسك به حفظ عن السقوط عما هو مثاله‏.‏

ولما أفهم كل من الضمير والحبل والاسم الجامع إحاطة الأمر بالكل أكده بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ لا تدعوا أحداً منكم يشذ عنها، بل كلما عثرتم على أحد فارقها ولو قيد شبر فردوه إليها ولا تناظروه ولا تهملوا أمره، ولا تغفلوا عنه فيختل النظام، وتتعبوا على الدوام، بل تزالوا كالرابط ربطاً شديداً حزمة نبل بحبل، لا يدع واحدة منها تنفرد عن الأخرى، ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ ثم ذكرهم نعمة الاجتماع، لأن ذلك باعث على شكرها، وهو باعث على إدامة الاعتصام والتقوى، وبدأ منها بالدنيوية لأنها أس الأخروية فقال‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله‏}‏ الذي له الكمال كله ‏{‏عليكم‏}‏ يا من اعتصم بعصام الدين‏!‏ ‏{‏إذا كنتم أعداء‏}‏ متنافرين أشد تنافر ‏{‏فألف بين قلوبكم‏}‏ بالجمع على هذا الصراط القويم والمنهج العظيم ‏{‏فأصبحتم بنعمته إخواناً‏}‏ قد نزع ما في قلوبكم من الإحن، وأزال تلك الفتن والمحن‏.‏

ولما ذكر النعمةت التي أنقذتهم من هلاك الدنيا ثنى بما تبع ذلك من نعمة الدين التي عصمت من الهلاك الأبدي فقال‏:‏ ‏{‏وكنتم على شفا‏}‏ أي حرف وطرف ‏{‏حفرة من النار‏}‏ بما كنتم فيه من الجاهلية ‏{‏فأنقذكم منها‏}‏‏.‏

ولما تم هذا البيان على هذا الأسلوب الغريب نبه على ذلك بقوله- جواباً لمن يقول‏:‏ لله در هذا البيان‏!‏ ما أغربه من بيان‏!‏- ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البيان البعيد المنال البديع المثال ‏{‏يبين الله‏}‏ المحيط علمه الشاملة قدرته بعظمته ‏{‏لكم آياته‏}‏ وعظم الأمر بتخصيصهم به وإضافة الآي إليه‏.‏ ولما كان السياق لبيان دقائق الكفار في إرادة إضلالهم ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تهتدون *‏}‏ أي ليكون حالكم عند من ينظركم حال من ترجى وتتوقع هدايته، هذا الترجي حالكم فيما بينكم، وأما هو سبحانه وتعالى فقد أحاط علمه بالسعيد والشقي، ثم الأمر إليه، فمن شاء هداه، ومن أراد أرداه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 112‏]‏

‏{‏وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏104‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏105‏)‏ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏106‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏107‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

ولما عاب سبحانه وتعالى الكفار بالضلال ثم بالإضلال أمر المؤمنين بالهدى في أنفسهم، وأتبعه الأمر بهداية الغير بالاجتماع، وكان الأمر بالاجتماع المؤكد بالنهي عن التفرق ربما أفهم الوجوب لتفرد الجميع في كل جزئية من جزئيات العبادة في كل وقت على سبيل الاجتماع مع الإعراض عن كل عائق عن ذلك سواء كان وسيلة أو لا بالنسبة إلى كل فرد فرد؛ أتبعه بقوله- منبهاً على الرضى بإيقاع ذلك في الجملة سواء كان بالبعض أو الكل كما هو شأن فروض الكفايات-‏:‏ ‏{‏ولتكن منك أمة‏}‏ أي جماعة تصلح لأن يقصدها غيرها، ويكون بعضها قاصداً بعضاً، حتى تكون أشد شيء ائتلافاً واجتماعاً في كل وقت من الأوقات على البدل ‏{‏يدعون‏}‏ مجددين لذلك في كل وقت ‏{‏إلى الخير‏}‏ أي بالجهاد والتعليم والوعظ والتذكير‏.‏

ولما عم كل خير خص ليكون المخصوص مأموراً به مرتين دلالة على جليل أمره وعليّ قدره فقال‏:‏ ‏{‏ويأمرون بالمعروف‏}‏ أي من الدين ‏{‏وينهون عن المنكر‏}‏ فيه بحيث لا يخلو وقت من الأوقات عن قوم قائمين بذلك، وهو تنبيه لهم على أن يلازموا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حين استفزهم الشيطان بمكر شأس بن قيس في التذكير بالأحقاد والأضغان والأنكاد، وإعلام بأن الذكرى تنفع المؤمنين‏.‏

ولما كان هذا السياق مفهماً لأن التقدير‏:‏ فإنهم ينالون بذلك خيراً كثيراً، ولهم نعيم مقيم؛ عطف عليه مرغباً‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي العالون الرتبة العظيمو النفع ‏{‏هم المفلحون *‏}‏ حق الإفلاح، فبين سبحانه وتعالى أن الاجتماع المأمور به إنما هو بالقلوب الجاعلة لهم كالجسد الواحد، ولا يضر فيه صرف بعض الأوقات إلى المعاش وتنعيم البدن ببعض المباحات، وإن كان الأكمل صرف الكل بالنية إلى العبادة‏.‏

ولما أمر بذلك أكده بالنهي عما يضاده معرضاً بمن نزلت هذه الآيات فيهم من أهل الكتاب مبكتاً لهم بضلالهم واختلافهم في دينهم على أنبيائهم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا‏}‏ بما ابتدعوه في أصول دينهم وبما ارتكبوه من المعاصي، فقادهم ذلك ولا بد إلى التخاذل والتواكل والمداهنة التي قصدوا بها المسالمة فجرتهم إلى المصارمة‏.‏ ولما كان التفرق ربما كان بالأبدان فقط مع الاتفاق في الآراء بيَّن أن الأمر ليس كذلك فقال‏:‏ ‏{‏واختلفوا‏}‏ بما أثمر لهم الحقد الحامل على الاتصاف بحالة من يظن أنهم جميع وقلوبهم شتى‏.‏

ولما ذمهم بالاختلاف الذي دل العقل على ذمه زاد في تقبيحه بأنهم خالفوا فيه بعد نهي العقل واضح النقل فقال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي وابتدأ اختلافهم من الزمان الذي هو من ‏{‏بعد ما جاءهم‏}‏ وعظمه بإعرائه عن التأنيث ‏{‏البينات‏}‏ أي بما يجمعهم ويعليهم ويرفعهم ويوجب اتفاقهم وينفعهم، فأرداهم ذلك الافتراق وأهلكهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأولئك قد تعجلوا الهلاك في الدنيا فهم الخائبون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏لهم عذاب عظيم *‏}‏ أي في الدار الآخرة بعد عذاب الدنيا باختلافهم منابذين لما من شأنه الجمع، والآية من الاحتباك‏:‏ إثبات «المفلحون» أولاً يدل على «الخاسرون» ثانياً، والعذاب العظيم ثانياً يدل على النعيم المقيم أولاً‏.‏

ولما قدم ما لأهل الكتاب المقدمين على الكفر على علم يوم القيامة في قوله ‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ وختم تلك الآية بأنهم لهم عذاب أليم واستمر حتى ختم هذه الآية بأنه مع ذلك عظيم؛ بين ذلك اليوم بقوله- بادئاً بما هو أنكى لهم من تنعيم أضدادهم-‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه‏}‏ أي بما لها من المآثر الحسنة ‏{‏وتسود وجوه‏}‏ بما عليها من الجرائر السيئة ‏{‏فأما الذين اسودت وجوههم‏}‏ بدأ بهم لأن النشر المشوش أفصح، ولأن المقام للترهيب وزيادة النكاية لأهله، فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً‏:‏ ‏{‏أكفرتم‏}‏ يا سود الوجوه وعبيد الشهوات‏!‏ ‏{‏بعد إيمانكم‏}‏ بما جبلتم عليه من الفطر السليمة ومكنتم به من العقول المستقيمة من النظر في الدلائل، ثم بما أخذ عليكم أنبياؤكم من العهود ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏ أي الأليم العظيم ‏{‏بما كنتم تكفرون *‏}‏ وأنتم تعلمون، فإنكم في لعنة الله ماكثون ‏{‏وأما الذين ابيضت وجوهم‏}‏ إشراقاً وبهاء لأنهم آمنوا فأمنوا من العذاب ‏{‏ففي رحمة الله‏}‏ أي ثمرة فعل ذي الجلال والإكرام الذي هو فعل الراحم‏.‏ لا في غير رحمته‏.‏ ثم أجاب عن سؤال من كأنه قال‏:‏ هل تزول عنهم كما هو حال النعم في الدنيا‏؟‏ بقوله- على وجه يفهم لزومها لهم في الدنيا والآخرة-‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏فيها خالدون‏}‏ فلذا كانوا يؤمنون، فالآية من الاحتباك‏:‏ إثبات الكفر أولاً دل على إرادة الإيمان ثانياً، وإثبات الرحمة ثانياً دل على حذف اللعنة أولاً‏.‏

ولما حازت هذه الآيات من التهذيب وإحكام الترتيب وحسن السياق قصب السباق أشار إليها مع قربها بأداة البعد وأضافها إلى أعظم أسمائه فقال‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله‏}‏ أي هذه دلائل الملك الأعظم العالية الرتب البعيدة المتناول، ثم استأنف الخبر عنها في مظهر العظمة قائلاً‏:‏ ‏{‏نتلوها‏}‏ أي نلازم قصها، وزاد في تعظيمها بعد المبتدأ بالمنتهي فقال‏:‏ ‏{‏عليك‏}‏ ثم أكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي ثابتة المعاني راسخة المقاصد صادقة الأقوال في كل مما أخبرت به من فوزكم وهلاكهم من غير أن نظلم أحداً منهم ‏{‏وما الله‏}‏ أي الحائز لجميع الكمال ‏{‏يريد ظلماً‏}‏ قلَّ أو جلَّ ‏{‏للعالمين *‏}‏ أي ما ظلمهم ولا يريد ظلم أحد منهم، لأنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن ذلك، لا يتصور منه وهو غني عنه، لأن له كل شيء‏.‏

ولما كان أمرهم بالإقبال عليه ونهيهم عن الإعراض عنه ربما أوقع في وهم أنه غير قادر على ضبطهم أو محتاج إلى ربطهم أزال ذلك دالاً على أنه غني عن الظلم بقوله‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ الملك الأعلى ‏{‏ما‏}‏ أي كل شيء ‏{‏في السماوات و‏}‏ كل ‏{‏ما في الأرض‏}‏ من جوهر وعرض مِلكاً ومُلكاً‏.‏ ولما كان المقصود سعة الملك لم يضمر لئلا يظن تخصيص الثاني بما في حيز الأول فقال‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏ترجع الأمور‏}‏ أي كلها، التي فيهما والتي في غيرهما، فلا داعي له إلى الظلم، لأنه غني عن كل شيء وقادر على كل شيء‏.‏

ولما كان من رجوع الأمور إليه هدايته من يشاء وإضلاله من يشاء قال- مادحاً لهذه الأمة ليمعنوا في رضاه حمداً وشكراً ومؤيساً لأهل الكتاب عن إضلالهم ليزدادوا حيرة وسكراً‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة‏}‏ أي وجدتم على هذا الوصف الثابت لكم جبلة وطبعاً‏.‏ ثم وصف الأمة بما يدل على عموم الرسالة وأنهم سيقهرون أهل الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏أخرجت للناس‏}‏ ثم بين وجه الخيرية بما لم يحصل مجموعة لغيرهم على ما هم عليه من المكنة بقوله‏:‏ ‏{‏تأمرون‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي كل ما عرفه الشرع وأجازه ‏{‏وتنهون عن المنكر‏}‏ وهو ما خالف ذلك، ولو وصل الأمر إلى القتال، مبشراً لهم بأنه قضى في ألأزل أنهم يمتثلون ما أمرهم به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قوله‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير‏}‏ إراحة لهم من كلفة النظر في أنهم هل يمتثلون فيفلحوا، وإزاحة لحملهم أعباء الخطر بكونهم يعانون عليه ليفوزوا ويربحوا، فصارت فائدة الأمر كثيرة الثواب بقصد امتثال الواجب، وللترمذي- وقال‏:‏ حسن عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه يقول في هذه الآية‏:‏ «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله سبحانه وتعالى» وللبخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «أنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام»‏.‏

ولما أخبر عنهم بهذا الوصف الشريف في نفسه أتبعه ما زاده شرفاً، وهو أنهم فعلوه في حال إيمانهم فهو معتبر به لوجود شرطه الذي هو أساس كل خير فقال ‏{‏وتؤمنون‏}‏ أي تفعلون ذلك والحال أنكم تؤمنون ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي تاهت الأفكار في معرفة كنه ذاته، وارتدت نوافذ أبصار البصائر خاسئة عن حصر صفاته، أي تصدقون أنبياءه ورسله بسببه في كل ما أخبروا به قولاً وفعلاً ظاهراً وباطناً، وتفعلون جميع أوامره وتنهون عن جميع مناهيه؛ وهذا يفهم أن من لم يؤمن كإيمانهم فليس من هذه الأمة أصلاً، لأن الكون المذكور لا يحصل إلا بجميع ما ذكر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في تعظيمهم، وقد صدق الله ومن أصدق من الله حديثاً‏!‏

قال الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في خطبة كتاب الاستيعاب‏:‏ روى ابن القاسم عن مالك أنه سمعه يقول‏:‏ لما دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب فقال‏:‏ ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطعوا بالمناشير وصلبوا على الخشب بأشد اجتهاداً من هؤلاء- انتهى‏.‏

ولما كان من المعلوم أن التقدير‏:‏ وذلك خير لكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو آمن أهل الكتاب‏}‏ أي أوقعوا الإيمان كما آمنتم بجميع الرسل وجميع ما أنزل عليهم في كتابهم وغيره، ولم يفرقوا بين شيء من ذلك ‏{‏لكان‏}‏ أي الإيمان ‏{‏خيراً لهم‏}‏ إشارة إلى تسفيه أحلامهم في وقوفهم مع ما منعهم عن الإيمان من العرض القليل الفاني والرئاسة التافهة، وتركهم الغنى الدائم والعز الباهر الثابت‏.‏

ولما كان هذا ربما أوهم أنه لم يؤمن منهم أحد قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏منهم المؤمنون‏}‏ أي الثابتون في الإيمان، ولكنهم قليل ‏{‏وأكثرهم الفاسقون *‏}‏ أي الخارجون من رتبة الأوامر والنواهي خروجاً يضمحل معه خروج غيرهم‏.‏ ولما كانت مخالفة الأكثر قاصمة خفف عن أوليائه بقوله‏:‏ ‏{‏لن يضروكم‏}‏ ولما كان الضر- كما تقدم عن الحرالي- إيلام الجسم وما يتبعه من الحواس، والأذى إيلام النفس وما يتبعها من الأحوال، أطلق الضر هنا على جزء معناه وهو مطلق الإيلام، ثم استثنى منه فقال‏:‏ ‏{‏إلا أذى‏}‏ أي بألسنتهم، وعبر بذلك لتصوير مفهومي الأذى والضر ليستحضر في الذهن، فيكون الاستثناء أدل على نفي وصولهم إلى المواجهة ‏{‏وإن يقاتلوكم‏}‏ أي يوماً من الأيام ‏{‏يولوكم‏}‏ صرح بضمير المخاطبين نصاً في المطلوب ‏{‏الأدبار‏}‏ أي انهزاماً ذلاً وجبناً‏.‏

ولما كان المولي قد تعود له كرة بعد فرة قال- عادلاً عن حكم الجزاء لئلا يفهم التقييد بالشرط مشيراً بحرف التراخي إلى عظيم رتبة خذلانهم-‏:‏ ‏{‏ثم لا ينصرون *‏}‏ أي لا يكون لهم ناصر من غيرهم أبداً وإن طال المدى، فلا تهتموا بهم ولا بأحد يمالئهم من المنافقين، وقد صدق الله ومن أصدق من الله قيلاً‏!‏ لم يقاتلوا في موطن إلا كانوا كذلك‏.‏

ولما أخبر عنهم سبحانه وتعالى بهذا الذل أتبعه الإخبار بأنه في كل زمان وكل مكان معاملة منه لهم بضد ما أرادوا، فعوضهم عن الحرص على الرئاسة إلزامهم الذلة، وعن الإخلاد إلى المال إسكانهم المسكنة، وأخبر أن ذلك لهم طوق الحمامة غير مزائلهم إلى آخر الدهر باقٍ في أعقابهم بأفعالهم هذه التي لم ينابذهم فيها الأعقاب فقال سبحانه وتعالى مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ وهي الانقياد كرهاً، وأحاطت بهم كما يحيط البيت المضروب بساكنه ‏{‏أين ما ثقفوا‏}‏ أي وجدهم من هو حاذق خفيف فطن في كل مكان وعلى كل حال ‏{‏إلا‏}‏ حال كونهم معتصمين ‏{‏بحبل‏}‏ أي عهد وثيق مسبب للأمان، وهو عهد الجزية وما شاكله ‏{‏من الله‏}‏ أي الحائز لجميع العظمة ‏{‏وحبل من الناس‏}‏ أي قاطبة‏:‏ الذي آمنوا وغيرهم، موافقٍ لذلك الحبل الذي من الله سبحانه وتعالى‏.‏

ولما كان الذل ربما كان مع الرضى ولو من وجه قال‏:‏ ‏{‏وبآءو‏}‏ أي رجعوا عما كانوا فيه من الحال الصالح ‏{‏بغضب من الله‏}‏ الملك الأعظم، ملازمٍ لهم، ولما كان الوصفان قد يصحبهما اليسار قال‏:‏ ‏{‏وضربت‏}‏ أي مع ذلك ‏{‏عليهم‏}‏ أي كما يضرب البيت ‏{‏المسكنة‏}‏ أي الفقر ليكونوا بهذه الأوصاف أعرق شيء في الذل، فكأنه قيل‏:‏ لم استحقوا ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإلزام لهم بما ذكر ‏{‏بأنهم‏}‏ أي أسلافهم الذي رضوا هم فعلهم ‏{‏كانوا يكفرون‏}‏ أي يجددون الكفر مع الاستمرار ‏{‏بآيات الله‏}‏ اي الملك الأعظم الذي له الكمال كله، وذلك أعظم الكفر لمشاهدتهم لها مع اشتمالها من العظم على ما يليق بالاسم الأعظم ‏{‏ويقتلون الأنبياء‏}‏ أي الآتين من عند الله سبحانه وتعالى حقاً على كثرتهم بما دل عليه جمع التكسير، فهو أبلغ مما في أولها الأبلغ مما في البقرة ليكون ذمهم على سبيل الترقي كما هي قاعدة الحكمة‏.‏

ولما كانوا معصومين ديناً ودنيا قال‏:‏ ‏{‏بغير حق‏}‏ أي يبيح قتلهم؛ ثم علل إقدامهم على هذا الكفر بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الكفر والقتل العظيمان ‏{‏بما عصوا وكانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يعتدون *‏}‏ أي يجددون تكليف أنفسهم الاعتداء، فإن الإقدام على المعاصي والاستهانة بمجاوزة الحدود يهوّن الكفر، فقال الأصفهاني‏:‏ قال أرباب المعاملات‏:‏ من ابتلى بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلى بترك السنن وقع في ترك الفرائض، ومن ابتلى بترك الفرائض وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلى بذلك وقع في الكفر، والآية دليل على مؤاخذة الابن الراضي بذنب الأب وإن علا، وذلك طبق ما رأيته في ترجمة التوراة التي بين أيديهم الآن، قال في السفر الثاني‏:‏ وقال الله سبحانه وتعالى جميع هذه الآيات كلها‏:‏ أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكون لك آلهة أخرى، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت، ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، أجازي الأبناء بذنوب الآباء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة خلوف، وأثبت النعمة إلى ألف حقب لأحبائي وحافظي وصاياي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 117‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك‏:‏ ‏{‏ليسوا سوآء‏}‏ أي في هذه الأفعال، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً‏.‏ ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم‏:‏ ‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ فأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم ‏{‏أمة‏}‏ أي جماعة يحق لها أن تؤم ‏{‏قائمة‏}‏ أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه‏.‏ غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه‏.‏ ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال‏:‏ ‏{‏يتلون‏}‏ أي يتعابعون مستمرين ‏{‏آيات الله‏}‏ أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها ‏{‏آناء الليل‏}‏ أي ساعاته ‏{‏وهم يسجدون *‏}‏ أي يصلون في غاية الخضوع‏.‏ ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال‏:‏ ‏{‏يؤمنون‏}‏ وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال‏:‏ ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول‏.‏ وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها، لأنه الحامل على كل خير فقال‏:‏ ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم‏.‏

ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏ويأمرون بالمعروف‏}‏ أي مجددين ذلك مستمرين عليه ‏{‏وينهون عن المنكر‏}‏ لذلك، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم في جميع أنواعه فقال‏:‏ ‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ ولما كان التقدير‏:‏ فأولئك من المستقيمين، عطف عليه‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏من الصالحين *‏}‏ إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء، وأرشد السياق إلى أن التقدير‏:‏ وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى، يشكره لهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا‏}‏ أي أنتم ‏{‏من خير‏}‏ من إنفاق أو غيره ‏{‏فلن تكفروه‏}‏ بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى، وليكون على طريق المتكبرين‏.‏ وعطف على ما تقديره‏:‏ فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون، قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏عليم بالمتقين *‏}‏ من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم على كل خير، فهو يثيبهم أعظم الثواب، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب، هذا على قراءة الخطاب، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته‏.‏

ولما رغبهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله، وأخبر أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذبون في ادعائهم أنهم على ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة المتقين المستغفرين بالأسحار التي هي أشرف آناء الليل وكان مما يمنع منه خوفُ الفقر والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال- واصفاً أضداد من تقدم، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم-‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم‏}‏ أي وإن كثرت ‏{‏ولا أولادهم‏}‏ وإن عظمت ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار- كما قال في أول السورة- سواءً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأولئك هم الخاسرون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ أي هم مختصون بها، ثم استأنف ما يفيد ملازمتها فقال‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون *‏}‏ ولما كان ربما قيل‏:‏ فما حال ما يبدلونه في المكارم ويواسون به في المغارم‏؟‏ ضرب لذلك مثلاً جعله هباء منثوراً، ضائعاً وإن كثر بوراً، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، بقوله سبحانه وتعالى جواباً لهذا السؤال‏:‏ ‏{‏مثل ما ينفقون‏}‏ أي من المال، وحقر قصدهم بتحقير محطه فقال‏:‏ ‏{‏في هذه الحياة الدنيا‏}‏ أي على وجه القربة أو غيرها، لكونهم ضيعوا الوجه الذي به يقبل، وهو الإخلاص‏.‏ ومثل إنفاقهم له ومثل حرث أصيب بالريح ‏{‏كمثل ريح فيها صر‏}‏ أي برد شديد ‏{‏أصابت حرث قوم‏}‏ موصوفين بأنهم ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ أي بالبناء على غير أساس الإيمان ‏{‏فأهلكته‏}‏ فمثل ما ينفقون في كونه لم ينفعهم في الدنيا بإنتاج ما أرادوا في الدنيا وضرهم في الدارين، أما في الدنيا فبضياعه في غير شيء، وأما في الآخرة فبالمعاقبة عليه لتضييع أساسه وقصدهم الفاسد به، مثل الزرع الموصوف فإنه لم ينفع أهله الموصوفين، بل ضرهم في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بما قصدوا به من المقصود الفاسد، ومثل إنفاقهم له في كونه ضرهم ولم ينفعهم مثل الريح في كونها ضرت الزرع ولم تنفعه، فلما كانت الريح الموصوفة أمراً مشاهداً جلياً جعلت في إهلاكها مثلاً لضياع أنفاقهم الذي هو أمر معنوي خفي، ولما كان الزرع المحترق أمراً محسوساً جعل فيما حصل له بعد التعب من العطب مثالاً لأمر معقول، وهو أموالهم في كون إنفاقهم إياها لم يثمر لهم شيئاً غير الخسارة والتعب، فالمثلان ضياع الرزع والإنفاق، وضياع الزرع أظهر فهو مثل لضياع الإنفاق لأنه أخفى، وقد بان أن الآية من الاحتباك‏:‏ حذف أولاً مثل الإنفاق لدلالة الريح عليه، وثانياً الحرث لدلالة ما ينفق عليه‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى موصوفاً بأنه الحكم العدل القائم بالقسط وأنه لا ينسى خيراً فعل قال دفعاً لتوهم أن ذلك بخس‏:‏ ‏{‏وما ظلمهم‏}‏ أي الممثل بهم والممثل لهم ‏{‏الله‏}‏ الملك الأعظم الغنيّ الغِِنى المطلق لأنه المالك المطلق، وقد كفروا، أما الممثل لهم فبكونهم أنفقوا على غير الوجه الذي شرعه، وأما الممثل بهم فبكونهم لم يحرسوا زرعهم بالطاعات، وفي الآية دليل على أن أهل الطاعات تحرس ضوائعهم من الآفات وتخرق فيها العادات، ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ لوما كان الممثل لأجلهم الذين كفروا أعم من أن يموتوا عليه أو يسلموا لم يعبر في الظلم بما تقتضيه الجبلة من فعل الكون وقال‏:‏ الأساس بكفرهم، وأن ظلمهم مقصور على أنفسهم، لا يتعداها إلى غيرها وإن ظهر لإنفاقهم نكاية في عدوهم، فإن العاقبة لما كانت للمؤمنين كانت نكايتهم كالعدم، بل هي زيادة في وبالهم، فهي من ظلمهم لأنفسهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 119‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

ولما كان الجمال بالمال لا سيما مع الإنفاق من أعظم المرغبات في الموالاة، وكانت هذه الآية قد صيرت جميلة قبيحاً وبَذوله شحيحاً؛ قال سبحانه وتعالى- مكرراً التنبيه على مكر ذوي الأموال والجمال الذين يريدون إيقاع الفتنة بينهم من اليهود والمنافقين ليضمحل أمرهم وتزول شوكتهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي إيماناً صحيحاً مصدقاً ادعاؤه بالعمل الصالح الذي من أعظمه الحب في الله والبغض في الله ‏{‏لا تتخذوا بطانة‏}‏ أي من تباطنونهم بأسراركم وتختصونهم بالمودة والصفاء ومبادلة المال والوفاء ‏{‏من دونكم‏}‏ أي ليسوا منكم أيها المؤمنون، وعبر بذلك إعلاماً بأنهم يهضمون أنفسهم وينزلونها عن علّي درجتها بموادتهم‏.‏ ثم وصفهم تعليلاً للنهي بقوله‏:‏ ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ أي يقصرون بكم من جهة الفساد، ثم بين ذلك بقوله على سبيل التعليل أيضاً‏:‏ ‏{‏ودّوا ما عنتم‏}‏ أي تمنوا مشقتكم‏.‏

ولما كان هذا قد يخفى بيَّنه بقوله معللاً‏:‏ ‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ أي هي بينة في حد ذاتها مع اجتهادهم في إخفائها، لأن الإنسان إذا امتلأ من شيء غلبه بفيضه، ولكنكم لحسن ظنكم وصفاء نياتكم لا تتأملونها فتأملوا‏.‏ ثم أخبر عن علمه سبحانه قطعاً وعلم الفطن من عباده بالقياس ظناً بقوله‏:‏ ‏{‏وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ مما ظهر على سبيل الغلبة‏.‏ ثم استأنف على طريق الإلهاب والتهييج قوله‏:‏ ‏{‏قد بيَّنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لكم‏}‏ أي بهذه الجمل ‏{‏الآيات‏}‏ أي الدالات على سعادة الدارين ومعرفة الشقي والسعيد والمخالف والمؤالف‏.‏ وزادهم إلهاباً بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏تعقلون *‏}‏ ثم استانف الإخبار عن ملخص حالهم معهم فقال منبهاً أو مبدلاً الهاء من همزة الإنكار‏:‏ ‏{‏ها أنتم أولاء‏}‏ أي المؤمنون المسلمون المستسلمون ‏{‏تحبونهم‏}‏ أي لاغتراركم بإقرارهم بالإيمان لصفاء بواطنكم ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنهم لا ‏{‏يحبونكم‏}‏ لمخالفتهم لكم في الدين، فإنهم كاذبون في إقرارهم بالإيمان ‏{‏وتؤمنون‏}‏ أي أنتم ‏{‏بالكتاب كله‏}‏ أي ويكفرون هم به كله، إما بالقصد الأول وإما بالإيمان بالبعض والكفر بالبعض ‏{‏وإذا لقوكم قالوا‏}‏ أي لكم ‏{‏آمنا‏}‏ لتغتروا بهم ‏{‏وإذا خلوا‏}‏ أي منكم، وصوّر شدة حنقهم بقوله‏:‏ ‏{‏عضّوا عليكم‏}‏ لما يرون من ائتلافكم وحسن أحوالكم ‏{‏الأنامل من الغيظ‏}‏ أي المفرط منكم، ومن جعل الهاء في ‏{‏ها أنتم‏}‏ بدلاً عن همزة الاستفهام فالمراد عنده‏:‏ أأنتم يا هؤلاء القرباء مني تحبونهم والحال أنهم على ما هم عليه من منابذتكم وأنتم على ما أنتم عليه من الفطنة بصفاء الأفكار وعليّ الآراء بقبولكم الحق كله، لأن المؤمن كيس فطن؛ فهو استفهام- وإن كان من وادي التوبيخ- المراد به التنبيه والتهييج المنقل من سافل الدركات إلى عالي الدرجات- والله الموفق‏.‏

ولما كانوا كأنهم قالوا‏:‏ فما نفعل‏؟‏ قال مخاطباً للرأس المسموع الأمر المجاب الدعاء‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم ‏{‏موتوا بغيظكم‏}‏ أي ازدراء بهم ودعاء عليهم بدوام الغيظ من القهر وزيادته حتى يميتهم‏.‏ ولما كانوا يحلفون على نفي هذا ليرضوهم قال تعالى مؤكداً لما أخبر به لئلا يظن أنه أريد به غير الحقيقة‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكامل ‏{‏عليم بذات الصدور *‏}‏ أي فلا تظنوا أنه أراد بعض ما يتجوز بالغيظ عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏120- 122‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

ولما كان ما أخبرت به هذه الجمل من بغضهم وشدة عداوتهم محتاجاً ليصل إلى المشاهدة إلى بيان دل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن تمسسكم‏}‏ أي مجرد مس ‏{‏حسنة تسؤهم‏}‏ ولما كان هذا دليلاً شهودياً ولكنه ليس صريحاً أتبعه الصريح بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تصبكم‏}‏ أي بقوة مرها وشدة وقعها وضرها ‏{‏سيئة يفرحوا بها‏}‏ ولما كان هذا أمراً مبكتاً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر مشروطاً بشرط التقوى والصبر فقال‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا‏}‏ أي تكونوا من أهل الصبر والتقوى ‏{‏لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي ذال الجلال والإكرام ‏{‏بما يعملون محيط *‏}‏ أي فهو يعد لكل كيد ما يبطله، والمعنى على قراءة الخطاب‏:‏ بعملكم كله، فمن صبر واتقى ظفرته، ومن عمل على غير ذلك انتقمت منه‏.‏

ولما كان ما تضمنته هذه الآية من الإخبار ومن الوعد ومن الوعيد منطوقاً ومفهوماً محتاجاً إلى الاجتلاء في صور الجزئيات ذكرهم سبحانه وتعالى بالوقائع التي شوهدت فيها أحوالهم من النصر عند العمل بمنطوق الوعد من الصبر والتقوى وعدمه عند العمل بالمفهوم، وشوهدت فيها أحوال عدوهم من المساءة عند السرور والسرور عد المساءة، وذلك غني عن دليل لكونه من المشاهدات، مشيراً إلى ذلك بواو العطف على غير مذكور، مخاطباً لأعظم عباده فطنة وأقربهم إليه رتبة، تهييجاً لغيره إلى تدقيق النظر واتباع الدليل من غير أدنى وقوف مع المألوف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر ما يصدق ذلك من أحوالكم الماضية حين صبرتم واتقيتم فنصرتم، وحين ساءهم نصركم في كل ذلك في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة، ثم في بدر، ثم في غزوة بني قينقاع ونحو ذلك، واذكر إذ لم يصبر أصحابك فأصيبوا، وإذ سرتهم مصيبتكم في وقعة أحد إذ ‏{‏غدوت‏}‏ أي يا خاتم الأنبياء وأكرم المرسلين‏!‏ ‏{‏من أهلك‏}‏ أي بالمدينة الشريفة صبيحة يوم الجمعة إلى أصحابك في مسجدك لتستشيرهم في أمر المشركين‏.‏ وقد نزلوا بأحد في أواخر يوم الأربعاء، أو في يوم الخميس لقتالكم‏.‏ وبنى من ‏{‏غدوت‏}‏ حالاً إعلاماً بأن الشروع في السبب شروع في مسببه فقال‏:‏ ‏{‏تبوئ‏}‏ أي تنزل ‏{‏المؤمنين‏}‏ أي صبيحة يوم السبت وعبر بقوله‏:‏ ‏{‏مقاعد‏}‏ إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم تقدم إلى كل أحد بالثبات في مركزه، وأوعز إليه في أن لا يفعل شيئاً إلا بأمره لا سيما الرماة، ثم ذكر علة ذلك فقال‏:‏ ‏{‏للقتال‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وتتقدم إليهم بأبلغ مقال في تشديد الأقوال والأفعال، أشار تعالى إلى أنه وقع في غضون ذلك منه ومنهم كلام كثير خفي وجلي بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الملك الأعظم الذي أنتم في طاعته ‏{‏سميع‏}‏ أي لأقوالكم ‏{‏عليم *‏}‏ أي بنياتكم في ذلك وغيره فاحذروه، ولعله خص النبي صلى الله عليه وسلم بلذيذ الخطاب في التذكير تحريضاً لهم مع ما تقدمت الإشارة إليه على المراقبة تعريضاً لهم بأنهم خفوا مع الذين ذكرهم أمر بعاث حتى تواثبوا حين تغاضبوا إلى السلاح- كما ذكر في سبب نزول قوله تعالى‏:‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏، فوقفوا عن نافذ الفهم وصافي الفكر خفة إلى ما أراد بهم عدوهم فاقتضى هذا التحذير كله، ويؤيد ذلك إقباله في الخطاب عليهم عند نسبة الفشل إليها- كما يأتي قريباً، ولعله إنما خص هذه الغزوة بالذكر دون ما ذكرت أن واو عطفها دلت عليه مما أيدوا فيه بالنصر لأن الشماتة بالمصيبة أدل على البغضاء والعداوة من الحزن بما يسر، ودل ذكرها على المحذوف لأن المدعي فيما قبلها شيئان‏:‏ المساءة بالحسنة، والفرح والمسرة بالمصيبة، فإذا برهن المتكلم على الثاني عليم ولا بد أنه حذف برهان الأول، وأنه إنما حذفه- وهو حكيم- لنكتة، وهي هنا عدم الاحتياج إلى ذكره لوضوحه بدلالة السياق مع واو العطف عليه، وما تقدم من كونه غير صريح الدلالة في أمر البغض على أنه تعالى قد ذكر بدراً- كما ترى- بعد محكمة ستذكر، وأطلق سبحانه وتعالى- كما عن الطبري وغيره- التبوء على ابتداء القتال بالاستشارة فإن الكفار لما نزلوا يوم الأربعاء ثاني عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة في سفح أحد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر فيهم ما يأتيه من الوحي بقية يوم الأربعاء ويوم الخميس وليلة الجمعة وباتت وجوه الأنصار في المسجد بباب النبي صلى الله عليه وسلم يحرسونه صلى الله عليه وسلم وحرست المدينة الشريفة، ثم دعا الناس صبيحة يوم الجمعة فاستشارهم في أمرهم وأخبرهم برؤياه تلك الليلة‏:‏ البقر المذبوحة، والثلم في سيفه، وإدخال يده في الدرع الحصينة، وكان رأيه مع رأي كثير من الصحابة المكث في المدينة، فإن قاتلوهم فيها قاتلهم الرجال مواجهة والنساء والصبيان من فوق الأسطحة، وكان عبد الله بن أبيّ المنافق على هذا الرأي، فلم يزل ناس ممن أكرمهم الله بالشهادة- منهم أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه- يلحون عليه صلى الله عليه وسلم في الخروج إليهم حتى أجاب فدخل بيته ولبس لأمته بعد أن صلى الجمعة فندموا على استكراههم له صلى الله عليه وسلم وهو يأتيه الوحي، فلما خرج إليهم أخبروه وسألوه في الإقامة إن شاء فقال‏:‏ «ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه»‏.‏

وفي رواية «حتى يلاقي» فأتى الشيخين- وهما أطمان- فعرض بهما عسكره ففرغ مع غياب الشمس، ورآه المشركون حين نزل بهما، واستعمل تلك الليلة على حرسه محمد ابن مسلمة، واستعمل المشركون على حرسهم عكرمة بن أبي جهل، ثم أدلج من سحر ليلة السبت، وندب الأدلاء ليسيروا أمامه، وحانت صلاة الصبح في الشوط وهم بحيث يرون المشركين، فأمر بلالاً رضي الله عنه فأذن وأقام، وصلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الصبح صفوفاً، فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث العسكر فرجع وقال‏:‏ أطاع الولدان، ومن لا رأي له وعصاني، وما ندري علام نقتل أنفسنا‏!‏ وتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر ابن عبد الله-أحد بني سلمة وأحد من استشهد في ذلك اليوم وكلمه الله قبلاً- يناشدهم الله في الرجوع، فلم يرجعوا فقال‏:‏ أبعدكم الله‏!‏ سيغني الله نبيه صلى الله عليه وسلم عنكم، ورجع فوافق النبي صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه، وكادت طائفتان من الباقين- وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة- أن تفشلا لرجوع المنافقين، ثم ثبتهم الله تعالى؛ ونزل صلى الله عليه وسلم الشعب من أحد، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وعبأ أصحابه وقال‏:‏

«لا يقاتلن أحد حتى نأمره‏!‏» وعين طائفة من الرماة وأنزلهم بعينين- جبيل هناك من ورائهم- وأوعز إليهم في أن لا يتغيروا منه حتى يأمرهم إن كانت له أو عليه، حتى قال لهم‏:‏ «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تعينونا، وإن رأيتمونا هزمناهم فلا تشركونا في الغنيمة، وانضحوا الخيل عنا إذا أتت من ورائنا» وبرز صاحب لواء المشركين وطلب المبارزة، فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله المسلم فحمله آخر وبرر فقتل، وفعلوا ذلك واحداً بعد واحد حتى تموا عشرة كلهم يقتل، فلما انكسرت قلوب المشركين بتوالي القتل في أصحاب اللواء أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فشدوا فهزموا المشركين وخلوا عسكرهم ونساءهم، وكان الخيل كلما أتت من وراء المسلمين نضحهم الرماة بالنبل فرجعوا فلما وقع الصحابة رضي الله عنهم في نهب العسكر خلى الرماة ثغرهم، فنهاهم أميرهم وحذرهم مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يطعه منهم إلا نحو العشرة، فأتى أصحاب الخيل فقتلوا من بقي من الرماة، ثم أتوا الصحابة رضي الله عنهم من ورائهم وهم ينتهبون، فأسرعوا فيهم القتل ونادى إبليس‏:‏ إن محمداً قد قتل، فانهزم الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا قليل ما بين العشرة إلى الثلاثين- على اختلاف الأقوال، فاستمر يحاول بهم العدو، والله تعالى يحفظه ويدافع عنه حتى دنت الشمس للمغرب، وصرف الله العدو، فدفن النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء وصف أصحابه رضي الله عنهم فأثنى على الله عز وجل ثناء عظيماً، ذكر فيه فضله سبحانه وعدله، وأن الملك ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، ورجع إلى المدينة الشريفة وقد أصابته الجراحة في مواضع من وجهه بنفسي هو وأبي وأمي ووجهي وعيني‏.‏

ولما كان رجوع عبد الله بن أبي المنافق- كما يأتي في صريح الذكر آخر القصة- من الأدلة على أن المنافقين فضلاً عن المصارحين بالمصارمة متصفون بما أخبر الله تعالى عنهم من العداوة والبغضاء مع أنه كان سبباً في هم الطائفتين من الأنصار بالفشل كان إيلاء هذه القصة للنهي عن اتخاذ بطانة السوء الذين لا يقصرون عن فساد في غاية المناسبة، ولذلك افتتحها سبحانه وتعالى بقوله- مبدلاً من ‏{‏إذ غدوت‏}‏ دليلاً على ما قبله من أن بطانة السوء لا تألوهم خبالاً وغير ذلك-‏:‏ ‏{‏إذا همت طائفتان‏}‏ وكانا جناحي العسكر ‏{‏منكم‏}‏ أي بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ‏{‏أن تفشلا‏}‏ أي تكسلاً وتراخياً وتضعفاً وتجبناً لرجوع المنافقين عن نصرهم وولايتهم فترجعا، كما رجع المنافقون ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن ذا الجلال والإكرام ‏{‏وليهما‏}‏ وناصرهما لأنهما مؤمنتان فلا يتأتى وقوع الفشل وتحققه منهما لذلك، فليتوكلا عليه وحده لإيمانهما، أو يكون التقدير‏:‏ فالعجب منهما كيف تعتمدان على غيره سبحانه وتعالى لتضعفا بخذلانه ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله وحده ‏{‏فليتوكل المؤمنون *‏}‏ أي الذين صار الإيمان صفة لهم ثابتة، أجمعون لينصرهم، لا على كثرة عدد ولا قوة جلد، والأحسن تنزيل الآية على الاحتباك ويكون أصل نظمها‏:‏ والله وليهما لتوكلهما وإيمانهما فلم يمكن الفشل منهما، فتولوا الله وتوكلوا عليه ليصونكم من الوهن، وعلى الله فليتوكل المؤمنون كلهم ليفعل بهم ذلك، فالأمر بالتوكل ثانياً دال على وجوده أولاً، وإثبات الولاية أولاً دال على الأمر بها ثانياً، وفي البخاري في التفسير عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ فينا نزلت ‏{‏إذ همت طائفتين منكم أن تفشلا‏}‏ قال‏:‏ نحن الطائفتان‏:‏ بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله وليهما‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 127‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

ولما كان ظاهر الحال فيما أصاب الكفار من المسلمين في هذه الغزوة ربما كان سبباً في شك من لم يحقق بواطن الأمور ولا له أهلية النفوذ في الدقائق من عجائب المقدور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 12‏]‏ ذكرهم الله تعالى نصره لهم في غزوة بدر، وهم في القلة دون ما هم الآن بكثير، مشيراً لهم إلى ما أثمره توكلهم من النصر، وحالهم إذ ذاك حال الآيس منه، ولذلك كانوا في غاية الكراهة للّقاء بخلاف ما كانوا عليه في هذه الكرة، حثاً على ملازمة التوكل، منبهاً على أنه لا يزال يريهم مثل ذلك النصر ويذيق الكفار أضعاف ذلك الهوان حتى يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر دينه الإسلام على الدين كله فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن توكل عليه نصره وكفاه وإن كان قليلاً فلقد نصركم الله أول النهار في هذه الغزوة حيث صبرتم واتقيتم بطاعتكم للرسول صلى الله عليه وسلم في ملازمة التعب والإقبال على الحرب وغير ذلك بما أمركم به صلى الله عليه وسلم ولم تضركم قلتكم ولا ضعفكم بمن رجع عنكم شيئاً-‏:‏ ‏{‏ولقد نصركم الله‏}‏ بما له من صفات الجلال والجمال ‏{‏ببدر‏}‏ المشار إليها أول السورة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ لما صبرتم واتقيتم‏.‏

ولما كانوا في عدد يسير أشار إليه بجمع القلة فقال‏:‏ ‏{‏وأنتم أذلة‏}‏ أي فاذكروا ذلك واجعلوه نصب أعينكم لينفعكم، وكان الإتيان بأمر بدر بعد آية الفشل المختتمة بالحث على التوكل في الغاية من حسن النظم، وهو دليل أيضاً على منطوق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ كما كان أمر أحد دليلاً على منطوقها ومفهومها معاً‏:‏ دل على منطوقها بنصرهم أول النهار عند صبرهم، وعلى مفهومها بإدالة العدو عليهم عند فشلهم آخره- والله الموفق؛ على أنك إذا أنعمت التأمل في قصة أحد من السير وكتب الأخبار علمت أن الظفر فيها ما كان إلا للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي الخبر به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏، فإن الصحابة رضي الله عنهم هزموهم- كما مضى- في أول النهار حتى لم يبق في عسكرهم أحد ولا بقي عند نسائهم حامٍ، فلما خالف الرماة أمره صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على الغنيمة أراد الله تأديبهم وتعريفهم أن نصرته لنبيه صلى الله عليه وسلم غير محتاجة في الحقيقة إليهم حين انهزموا حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم منهم غير نفر يسير ما يبلغون الخمسين، والكفار ثلاثة آلاف وخيلهم مائتان، فاستمر عليه الصلاة والسلام في نحورهم يحاولهم ويصاولهم، يرامونه مرة ويطاعنون أخرى، ويجتمعون عليه كرة ويفترقون عنه أخرى، والله تعالى يمنعه منهم بأيده ويحفظه بقوته حتى تدلت الشمس للغروب، وقتل بيده صلى الله عليه وسلم أُبي بن خلف مبارزة، تصديقاً لما كان أوعده به قبل الهجرة، وخالطوه غير مرة ولم يمكنهم الله منه ولا أقدرهم على أسر أحد من أصحابه، ثم ردهم خائبين بعد أن تراجع إليه من أصحابه في أثناء النهار، ولم يرجع صلى الله عليه وسلم من أحد إلا بعد انصرافهم ودفن من استشهد من أصحابه، وأما هم فاستمروا راجعين ولم يلووا على أحد ممن قتل منهم، وهم اثنان وعشرون رجلاً من سرواتهم وحمال راياتهم، وقال الجلال الخجندي في كتابه فردوس المجاهدين‏:‏ إنه صح النقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ما نصر النبي صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن نصرته في يوم أحد- انتهى‏.‏

كفى على ذلك دليلاً ما نقل موسى بن عقبة- وسيرته أصح السير في غزوة الفتح- عن قائد الجيش بأحد أبي سفيان بن حرب أنه قال عندما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام‏:‏ يا محمد‏!‏ قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك، فوالله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقاً وإلهك مبطلاً لقد ظهرت عليك، وإنما كانت الهزيمة وقتل من قتل لحكم ومصالح لا تخفى على من له رسوخ في الشريعة وثبات قدم في السنن، ويمكن أن تكون هذه القصة مندرجة في حكم النهي في القصة التي قبلها عن طاعة فريق من أهل الكتاب عطفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نعمة‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ لتشابه القصتين في الإصغاء إلى الكفار قولاً أو فعلاً، المقتضي لهدم الدين من أصله، لأن همّ الطائفتين بالفشل إنما كان من أجل رجوع عبد الله بن أبي المنافق حليف أهل الكتاب ومواليهم ومصادقهم ومصافيهم، ويؤيد ذلك نهيه تعالى في أثناء هذه عن مثل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 149‏]‏، ويكون إسناد الفعل في ‏{‏غدوت‏}‏، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الإسناد إلى الجمع، لأنه الرئيس فخطابه خطابهم، ولشرف هذا الفعل، فكان الأليق إفراده به صلى الله عليه وسلم، وأما الفشل ونحوه فأسند إليهم وقصر- كما هو الواقع- عليهم‏.‏

ولما امتن الله سبحانه عليهم بالنصرة في تلك الكرة سبب عن ذلك أمرهم بالتقوى إشارة إلى أنها السبب لدوام النعمة فقال‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي في جمع أوامره ونواهيه بأن التقوى التنزه عن المعاصي، والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم، وشكر الله صرف جميع ما أنعم به في طاعاته فحينئذ التقوى من الشكر فإن أريد العموم انحل الكلام إلى‏:‏ اشكروا لعلكم تشكرون، ولا يتحرر الجواب إلا بعد معرفة حقيقة التقوى لغة؛ قال الإمام عبد الحق في كتابه الواعي‏:‏ الواقية ما وقاك الشر، وكل شيء وقيت به شيئاً فهو وقاء له ووقاية، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ قال ابن عرفة- أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم به وقاية بينكم وبين النار- انتهى‏.‏

فاتضح أن حقيقة ‏{‏واتقوا‏}‏‏:‏ اجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وأن سبب اتخاذ الوقاية الخوف من ضاره فالظاهر- والله أعلم- أن اتقوا بمعنى‏:‏ خافوا- مجازاً مرسلاً من إطلاق اسم المسبب على السبب، فالمعنى‏:‏ خافوا الله لتكونوا على رجاء من أن يحملكم خوفه على طاعته على سبيل التجديد والاستمرار، ولئن سلمنا أن التقوى من الشكر فالمعنى‏:‏ اشكروا هذا الشكر الخاص ليحملكم على جميع الشكر، وغايته أنه نبه على أن هذا الفرد من الشكر هو أصل الباب الذي يثمر باقيه، وهوالمراد بقول ابن هشام في السيرة‏:‏ إن المعنى‏:‏ فاتقوني، فإنه شكر نعمتي، ويجوز أن يكون‏:‏ لعلكم تزدادون نعماً فتشكرون عليها- إقامة للمسبب مقام السبب- والله أعلم‏.‏

ولما اشتملت هذه القصة على المصيبة التي سيقص الله كثيراً منها، وهي مستوفاة في السير كان أنسب من قصها وبيان ما اتفق لها- لوعظ من يأتي- البداءةُ بتذكير من باشرها بما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع القتال من النصر المشروط بالصبر والتقوى تنبيهاً لهم على أن الخلل من جهتهم أتى، ثم وعظمهم بالنهي عما منعهم النصر، والأمر بما يحصله لهم كما سيحثهم على ذلك بما يقص عليهم من نبأ من قاتل مع الأنبياء قبلهم بأنهم لما أصابهم القتل لم يهنوا وعلموا أن الخلل من أنفسهم، فبادروا إلى إصلاحه بأفعال المتقين من الصبر والتضرع والإقرار بالذنب، فقال- مبدلاً من ‏{‏إذ غدوت‏}‏ عوداً على بدء تعظيماً للأمر حثاً على النظر في موارده ومصادره والتدبر لأوائله وأواخره-‏:‏ ‏{‏إذ تقول للمؤمنين‏}‏ أي الذين شاورتهم في أمر أحد- وفي غمارهم المنافقون- لما زلزلوا برجوع أكثر المنافقين به، حتى كاد بعض الثابتين أن يرجع ضعفاً وجبناً، مع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم به من تلك الرؤيا التي أولها بذبح يكون في أصحابه، ليكون إقدامهم على بصيرة، أو يصدهم ذلك عن الخروج إلى العدو كما كان ميل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر أصحابه وإعلامهم إلى المكث في المدينة قال منكراً آتياً بأداة التأكيد للنفي‏:‏ ‏{‏ألن يكفيكم‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏أن يمدكم‏}‏ إمداداً خفياً- بما أشار إليه الإدغام ‏{‏ربكم‏}‏ أي المتولي لتربيتكم ونصر دينكم ‏{‏بثلاثة آلاف‏}‏ ثم عظم أمرهم بقوله‏:‏ ‏{‏من الملائكة‏}‏ ثم زاد في إعظامهم بأنهم من السماء بقوله‏:‏ ‏{‏منزلين *‏}‏ ثم تولى سبحانه وتعالى هو الجواب عنهم تحقيقاً للكفاية فقال‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي يكفيكم ذلك، ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏إن تصبروا وتتقوا‏}‏ أي توقعوا الصبر والتقوى لله ربكم، فتفعلوا ما يرضيه وتنتهوا عما يسخطه ‏{‏ويأتوكم‏}‏ أي الكفار ‏{‏من فورهم‏}‏ أي وقتهم، استعير للسرعة التي لا تردد فيها، من‏:‏ فارت القدر- إذا غلت ‏{‏هذا‏}‏ أي في هذه الكرة ‏{‏يمددكم‏}‏ أي إمداداً جلياً- بما أشار إليه إشارة لفظية‏:‏ الفك، وإشارة معنوية‏:‏ التسويم ‏{‏ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بأكثر من ذلك ‏{‏بخمسة آلاف من الملائكة‏}‏ ثم بين أنهم من أعيان الملائكة بقوله‏:‏ ‏{‏مسومين *‏}‏ أي معلمين بما يعرف به مقامهم في الحرب، والظاهر من التعبير بالتسويم إفهام القتال، ومن الاقتصار على الإنزال عدمه، ويكون فائدة نزولهم البركة بهم وإرهاب الكفار بمن يرونه منهم‏.‏

قال البغوي‏:‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ لم يقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وليس الإمداد بهم موجود للنصر، وكان قد قدم في أول السورة قوله‏:‏ ‏{‏والله يؤيد بنصره من يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ قال هنا قاصراً للأمر عليه‏:‏ ‏{‏وما جعله الله‏}‏ أي الإمداد المذكور وذكره لكم على ما له من الإحاطة بصفات الكمال التي لا يحتاج مراقبها إلى شيء أصلاً ‏{‏إلا بشرى‏}‏‏.‏

وما كانت الهزيمة عليهم في هذه الكرة، وكان المقتول منهم أكثر قال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ لئلا يتوهم أن ذلك بشرى لضدهم، ولمثل هذا قدم القلوب فقال‏:‏ ‏{‏ولتطمئن‏}‏ وعلم أن التقدير- لتكون الآية من الاحتباك‏:‏ لتستبشر نفوسكم به وطمأنينة لكم لتطمئن ‏{‏قلوبكم به‏}‏ أي الإمداد، فحكم هنا بأنه بشرى مقيداً بلكم، فكانت العناية بضمير أشد حتى كأنه قيل‏:‏ إلا وبشرى لكم وطمأنينتكم، فوجب تأخير ضميره عنهم، والمعنى أنهم كانوا أولاً خائفين، فلما وردت البشرى اطمأنوا بها رجاء أن يفعل بهم مثل ما فعل في بدر، فلما اطمأنوا بها وقع النصر كما وقع به الوعد ثم لما اطمأنت قلوبهم إلى شيء ألزّ قوتها لأنه قد سبق لها نصر وسرور بضرب وطعن في بدر وغيرها فلمحت نحو شيء من ذلك؛ حصلت الهزيمة ليصيروا إلى حق اليقين بأنه لا حول لهم ولا قوة، ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما النصر‏}‏ أي في ذلك غيره ‏{‏إلا من عند الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال، لا بمدد ولا غيره فلا تجدوا في أنفسكم من رجوع من رجع ولا تأخر من تأخر ولا هزيمة من انهزم‏.‏

ولما قدم أمر بدر هنا وأول السورة، وتحقق بذلك ما له من العزة والحكمة قال‏:‏ ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يغالب، فلا يحتاج إلى قتال أحد ولا يحتاج في نصره- إن قاتل- إلى معونة أحد ‏{‏الحكيم *‏}‏ الذي يضع الأشياء في أتقن محالها من غير تأكيد أي الذي نصركم قبل هذه الغزوة وفي أول النهار فيها، ليس لكم ولا لغيركم ناصر غيره، فمتى التفت أحد إلى سواه وكله إليه فخذل، فاحذروه لتطيعوه طاعة أولي الإحسان في كل أوان، وهذا بخلاف ما في قصة بدر في الأنفال وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بها من المقال مما اقتضاه هناك الحال، والحكيم رأس آية بإجماع أهل العلم- كما في الأنفال، ولما قرر الوعد ذكر ثمرته فقال معلقاً الجار بيمددكم‏:‏ ‏{‏ليقطع‏}‏ أي بالقتل ‏{‏طرفاً‏}‏ أي طائفة من كرامهم، يهنون بهم ‏{‏من الذين كفروا‏}‏ أي ويهزم الباقين ‏{‏أو يكبتهم‏}‏ أي يكسرهم ويردهم بغيظهم مع الخزي أذلاء، وأصل الكبت صرع الشيء على وجهه ‏{‏فينقلبوا‏}‏ أي كلهم مهزومين ‏{‏خائبين *‏}‏ وذلك في كلتا الحالتين بقوتكم عليهم بالمد وضعفهم عنكم به، ويجوز تعليق ‏{‏ليقطع‏}‏ بفعل التوكل، أي فليتوكلوا عليه ليفعل بأعدائهم ما يشاءه من نصرهم عليهم، فيقبل بهم إلى الإسلام رغبة أو رهبة، أو يميتهم على كفرهم فيديم عذابهم مع عافيتهم منهم؛ ورأيت في سير الإمام محمد بن عمر الواقدي ما يدل على تعليقه بجعل من قوله‏:‏ ‏{‏وما جعله الله إلا بشرى‏}‏ أو بقوله‏:‏ ‏{‏ولتطمئن‏}‏ وهو حسن أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 130‏]‏

‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏128‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏129‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على طلب الإدالة عليهم ليمثل بهم كما مثلوا بعمه حمزة وعدة من أصحابه رضي الله عنهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر‏}‏ أي فيهم ولا غيرهم ‏{‏شيء‏}‏ موسطاً له بين المتعاطفات، يعني من الإدالة عليهم بقتل أو هزيمة تدرك بهما ما تريد، بل الأمر له كله، إن أراد فعل بهم ما تريد، وإن أراد منعك منه بالتوبة عليهم أو إماتتهم على الكفر حتف الأنف فيتولى هو عذابهم، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏أو يتوب عليهم‏}‏ أي كلهم بما يكشف عن قلوبهم من حجاب الغفلة فيرجعوا عما هم عليه من الظلم ‏{‏أو يعذبهم‏}‏ كلهم بأيديكم بأن تستأصلوهم فلا يفلت منهم أحد، أو يعذبهم هو من غير واسطتكم بما يستدرجهم به مما يوجب إصرارهم حتى يموتوا على الكفر مع النصر عليكم وغيره مما هو لهم في صورة النعم الموجب لزيادة عقابهم‏.‏ ثم علل الأقسام الأربعة بقوله‏:‏ ‏{‏فإنهم ظالمون *‏}‏ وفي المغازي من صحيح البخاري معلقاً عن حنظلة بن أبي سفيان قال‏:‏ سمعت سالم بن عبد الله قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ظالمون‏}‏» ورواه موصولاً في المغازي والتفسير والاعتصام عن سالم عن أبيه بغير هذا اللفظ، وفيه «اللهم العن فلاناً وفلاناً»‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ بل الأمر له سبحانه وحده عطف عليه قوله- مبيناً لقدرته على ما قدم من فعله بهم على وجه أعم-‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده ‏{‏ما في السماوات‏}‏ أي كلها على عظمها من عاقل وغيره، وعبر ب «ما» لأن غير العاقل أكثر وهي به أجدر ‏{‏وما في الأرض‏}‏ كذلك مِلكاً ومُلكاً فهو يفعل في مِلكه ومُلكه ما يشاء، وفي التعبير ب «ما» أيضاً إشارة إلى أن الكفرة الذين السياق لهم في عداد ما لا يعقل‏.‏

ولما كانت الأقسام كلها راجعة إلى قسمين‏:‏ عافية وعذاب، قال- مترجماً لذلك مقرراً لقوله‏:‏ ‏{‏ليس لك من الأمر شيء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏‏:‏ ‏{‏يغفر لمن يشاء‏}‏ أي منهم ومن غيرهم فيعطيه ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة ويغنيه عن الربا وغيره ‏{‏ويعذب من يشاء‏}‏ بالمنع عما يريد من خيري الدارين، لا اعتراض عليه، فلو عذب الطائع ونعّم العاصي لحسن منه ذلك، ولا يقبح منه شيء، ولا اعتراض بوجه عليه، هذا مدلول الآية وهو لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم لشدة غيظه عليهم في الله جديراً بالانتقام منهم بدعاء أو غيره أشار له سبحانه إلى العفو للحث على التخلق بأخلاق الله الذي سبقت رحمته غضبه بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المختص بالجلال والإكرام ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً، مكرم بعد ذلك بأنواع الإكرام، فانطبق ذلك على إيضاح ‏{‏ليس لك‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 128‏]‏ وإفهامه الموجب لاعتقاد أن يكون له سبحانه وتعالى الأمر وحده‏.‏

ولما أنزل عليه ذلك وما في آخر النحل مما للصابرين والعافين حرم المثلة واشتد نهيه صلى الله عليه وسلم عنها، فكان لا يخطب خطبة إلا منع منها‏.‏

ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب إقبالهم قبل إتمام هزيمة العدو على الغنائم للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى الربا في اللغة إذ هو مطلق الزيادة أقبل تعالى عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان، صدقوا إيمانكم بأن ‏{‏لا تأكلوا الربا‏}‏ أي المقبح فيما تقدم أمره غاية التقبيح، وهو كما ترى إقبال متلطف منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل ‏{‏ومما رزقناهم ينفقون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏؛ ‏{‏والمنفقين والمستغفرين بالأسحار‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 17‏]‏؛ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها بطريق الإشارة بدلالة التضمن، إذ المطلق جزء المقيد، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى، ويوجب لمن لم يتركه وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان ‏{‏فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278‏]‏، ‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 86‏]‏‏.‏

ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن غلب، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة، دلالة على تناهي الحب للتكاثر، ناسب المقام ربا التضعيف فقال‏:‏- أو يقال‏:‏ لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها حراماً، فيجر إلى الربا المضاعف، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال-‏:‏ ‏{‏أضعافاً مضاعفة‏}‏ أي لا تتهيؤوا لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها، وعلى مطلق الزيادة بتضمنها، وهي من وادي قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه»

وختام الآية بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ مشير إلى ذلك، أي واجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا وقاية بالإعراض عن مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم، ويمنعكم إن تساهلتم، فهو نهي عن الربا بصريح العبارة، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً وقوة بطريق الإشارة، وهي من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والذي دلنا على إرادة المعنى التضمني المجازي نظمها، والناظم حكيم في سلك هذه القصة ووضعها في هذا الموضع، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد، فقد كان حلفه صلى الله عليه وسلم أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏ إلى آخرها، ولم توضع هنا، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود في سننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد فقال‏:‏ أين بنو عمي‏؟‏ قالوا‏:‏ بأحد، قال‏:‏ أين فلان‏؟‏ قالوا‏:‏ بأحد، قال‏:‏ فأين فلان‏؟‏ قالوا‏:‏ بأحد؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا‏:‏ إليك عنا يا عمرو‏!‏ قال‏:‏ إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته‏:‏ سليه‏:‏ حمية لقومك أو غضباً لهم، أم غضباً لله عز وجل‏؟‏ فقال‏:‏ بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمات فدخل الجنة وما صلى لله عز وجل صلاة‏.‏ والقصة في جزء عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي- بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة- تخريج أبي القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ أبي داود، ولفظ العيشي‏:‏ إن عمرو بن وقش- وقال الدينوري‏:‏ أقيش- كان له ربا في الجاهلية، وكان يمنعه ذلك الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم- زاد الدينوري‏:‏ وأصحابه بأحد فقال‏:‏ أين سعد ابن معاذ‏؟‏ وقال العيشي‏:‏ فقال لقومه‏:‏ أين سعد بن معاذ‏؟‏ قالوا‏:‏ هو بأحد، قال الدينوري‏:‏ فقال‏:‏ أين بنو أخيه‏؟‏ قالوا‏:‏ بأحد، فسأل عن قومه، فقالوا‏:‏ بأحد، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته، ثم أتى أحداً؛ وقال الدينوري‏:‏ ثم ذهب إلى أحد، فلما رآه السملمون قالوا‏:‏ إليك عنا يا عمرو‏!‏ قال‏:‏ إني قد آمنت‏!‏ فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً، فدخل عليه سعد بن معاذ فقال- يعني لامرأته-‏:‏ سليه‏!‏ وقال العيشي‏:‏ فقال لأخته‏:‏ ناديه، فقولي؛ وقال الدينوري‏:‏ فقالت‏:‏ أجئت غضباً لله ورسوله أم حمية وغضباً لقومك‏؟‏ فنادته، فقال‏:‏ جئت غضباً لله ورسوله‏!‏ فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط؛ وقال الدينوري‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ ودخل الجنة، وما صلى لله صلاة‏.‏

ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنه كان يقول‏:‏ حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط؛ وقال الواقدي‏:‏ أخبروني برجل يدخل الجنة لم يسجد لله قط، فيسكت الناس، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه‏:‏ هو أخو بني عبد الأشهل؛ وقال ابن إسحاق‏:‏ فإذا لم يعرفه الناس سألوا‏:‏ من هو‏؟‏ فيقول‏:‏ أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت بن وقش رضي الله تعالى عنه؛ زاد ابن إحساق‏:‏ قال الحصين- يعني شيخه‏:‏ فقلت لمحمود بن لبيد‏:‏ كيف كان شأن الأصيرم‏؟‏ قال‏:‏ كان يأبى الإسلام على قومه، فلما كان يوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم، ثم أخذ سيف فغدا حتى دخل في عرض الناس، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، فبينما رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا‏:‏ والله إن هذا للأصيرم‏!‏ ما جاء به‏؟‏ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا الحديث‏!‏ فسألوه ما جاء به، فقالوا‏:‏ ما جاء بك يا عمرو‏؟‏ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام‏؟‏ فقال‏:‏ بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت، ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني‏.‏ ثم لم يلبث أن مات في أيديهم، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إنه لمن أهل الجنة» والمعنى على هذا‏:‏ يا أيها الذين يريدون الإيمان‏!‏ لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان ورسوخ الإذعان في أنفسهم والإيقان بمر الزمان‏!‏ افعلوا مثل فعله ساعة أسلم في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً، ومن أقبل عليها فاتته بذل وإن كان كثيراً جليلاً، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما يشاء، ولا تفيد الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى الأضعاف المضاعفة، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة، ويلزم من ترحيمه تحريم ربا الأضعاف، ثم نص عليه في هذه الآية، فصار محرمأً مرتين‏:‏ مفهوماً ومنطوقاً، مع ما أفاد ذكره من النكت التي تقدم التنبيه عليها‏.‏