فصل: تفسير الآيات رقم (34- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

ثم بين سبحانه وجه استحقاق بعض المفضلين، فقال- جوباً لسؤال من كأنه قال‏:‏ ما للرجال فضلوا‏؟‏- ‏{‏الرجال قوامون‏}‏ أي قيام الولاة ‏{‏على النساء‏}‏ في التأديب والتعليم وكل أمر ونهي، وبين سببي ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بما فضل الله‏}‏ أي الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى، هبة منه وفضلاً نم غير تكسب ‏{‏بعضهم‏}‏ وهم الرجال، في العقل والقوة والشجاعة، ولهذا كان فيهم الأنيباء والولاة والإمامة الكبرى والولاية في النكاح ونحو ذلك من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن والعقل والدين ‏{‏على بعض‏}‏ يعني النساء، فقال للرجال ‏{‏انفروا خفافاً وثقالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏ وقال للنساء‏:‏ ‏{‏وقرن في بيوتكن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏

ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي فقال‏:‏ ‏{‏وبما أنفقوا‏}‏ أي من المهور والكسى وغيرها ‏{‏من أموالهم‏}‏ أي عليهن، فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر‏.‏

ولما بان بذلك فضلهم، فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث وغيره، وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء والحث على العدل فيهن؛ حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم وتأديب من جحدت الحق، فقال مسبباً لما يلزمهن من حقوقهم عما ذكر من فضلهم ‏{‏فالصالحات قانتات‏}‏ أي مخلصات في طاعة الأزواج، ولذلك ترتب عليه ‏{‏حافظات للغيب‏}‏ أي لحقوق الأزواج من الأنفس والبيوت والأموال في غيبتهم عنهن ‏{‏بما‏}‏ أي بالأمر الذي ‏{‏حفظ الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة به غيبتهم بفعله فيه فعل من يحفظ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله والترهيب من عصيانهم بما يسخطه، ورعي الحدود التي أشار إليها سبحانه من البقرة، وشرحتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم أتبعه حكم غيرهن فقال‏:‏ ‏{‏واللاّتي تخافون نشوزهن‏}‏ أي ترفعهن عليكم عن الرتبة التي أقامهن الله بها، وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق، وأصل النشوز‏:‏ الانزعاج في ارتفاع، قال الشافعي‏:‏ دلالات النشوز قد تكون قولاً، وقد تكون فعلاً، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها، ثم تغيرت؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا دخل إليها، أو كانت تسارع إلى أمره، وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إذا تغيرت فحينئذ ظن نشوزها؛ ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز ‏{‏فعظوهن‏}‏ أي ذكروهن من أمر الله بما يصدع قلوبهن ويرققها ويخيفهن من جلال الله‏.‏

ولما كان الوعظ موجباً لتحقق الطاعة أو المعصية قال‏:‏ ‏{‏واهجروهن‏}‏ أي إن لم يرجعن بالوعظ ‏{‏في المضاجع‏}‏ أي التي كنتم تبيتون معهن فيها من البيت، وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها؛ قال الشافعي‏:‏ ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث ‏{‏واضربوهن‏}‏ أي إن أصررن ضرب تأديب غير مبرح، وهو ما لا يكسر عظماً ولا يشين عضواً، ويكون مفرقاً على بدناه ولا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون دون الأربعين؛ قال الشافعي‏:‏ الضرب مباح وتركه أفضل ‏{‏فإن أطعنكم‏}‏ أي بشيء من الوعظ، والهجر في موضع المبيت من البيت، أو الضرب ‏{‏فلا تبغوا‏}‏ أي تطلبوا ‏{‏عليهن سبيلاً‏}‏ أي طريقاً إلى الأذى على ما سلف من العصيان من توبيخ على ما سلف نحوه، بما لكم عليهن من العلو، بل اغفروا لهن ما سلف، ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي وقد علمتم ما له من الكمال ‏{‏كان‏}‏ ولم يزل ‏{‏علياً كبيراً *‏}‏ أي له العلو والكبر على الاطلاق بكمال القدرة ونفوذ المشيئة فهو لا يحب الباغي ولا يقره على بغيه، وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، وهو مع ذلك يعفو عمن عصاه وإن ملأ الأرض خطايا- إذا أطاعه، ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه، بل يبدل سيئاته حسنات، فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم؛ فتخلقوا بما قدرتم عليه من صفاته لتنالوا جليل هباته، وخافوا سطواته، واحذروا عقوبته، بما له من العلو والكبر‏.‏

ولما بين حال الوفاق وما خالطه من شيء من الأخلاق التي يقوم بإصلاحها الزوج، أتبعه حال المباينة والشقاق المحوج إلى من ينصف أحدهما من الآخر فقال‏:‏ ‏{‏وإن خفتم‏}‏ أي أيها المتقون القادرون على الإصلاح من الولاة وغيرهم ‏{‏شقاق بينهما‏}‏ أي الزوجين المفهومين من السياق، يكون كل واحد منهما في شق غير الشق الذي فيه الآخر، ولا يكون ذلك إلا وأحدهما على باطل، وأضاف الشقاق إلى البين ليفيد أن هذا العمل إنما يكون عند الخوف من شقاق خاص، وهو أن يكون البين المضاف إليهما- وهو الذي يميز كل واحد منهما من الآخر- لا تمكن في العادة إزالته ليكونا شيئاً واحداً كما كانا لا بين لهما، وذلك بظن أنه لا صلاح في اجتماعهما ‏{‏فابعثوا‏}‏ أي إليهما للإصلاح بينهما بإنصاف المظلوم من الظالم ‏{‏حكماً من أهله‏}‏ أي الزوج ‏{‏وحكماً من أهلها‏}‏ أي الزوجة، هذا أكمل لأن أهلهما أقرب إلى إزالة أسباب الشقاق من بينهما، لأنهم أجدر بالإطلاع على بواطن أمورهما وعلى حقائق أحوالهما، والزوجان أقرب إلى إطلاعهما إن كانا قريبين على ضمائرهما، وأقرب إلى إخفاء ذلك عن الأجانب؛ وفائدة الحكمين أن يخلو كل منهما بصاحبة ويستكشف حقيقة الحال ليعرف وجه الصلاح‏.‏

ثم أجاب من كأنه قال‏:‏ وماذا عسى أن يضيفا‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إن يريدا‏}‏ أي الحكمان ‏{‏إصلاحاً‏}‏ أي بينهما، وكأنه نكره لأن الإخلاص ووجود الكمال قليل ‏{‏يوفق الله‏}‏ الذي له الإحاطة بعلم الغيب والشهادة ‏{‏بينهما‏}‏ أي الزوجين لأن صلاح النية أكبر معين على بلوغ المقاصد، وهذا دالعلى أنه لا يكون شيء إلا بالله، وأن الأسباب إنما هي محنة من الله، يسعد بها من يباشرها ويعتمد على الله دونها، ويشقى بها من يجعلها محط قصده، فيعتمد عليها‏.‏

ولما كان المصلح قد يظن مفسداً لصدعه بمر الحق من غير مداراة، والمفسد قد يعد مصلحاً لما يرى منه من المداهنة والمراءاة والمكر، فيظن من يخلق الوعد بالتوفيق غير ما في نفس الأمر؛ قال تعالى مزيلاً لهذا الوهم مرغباً ومرهباً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال ‏{‏كان عليماً‏}‏ أي مطلقاً على ما يمكن الاطلاع عليه وإن غاب عن غيره ‏{‏خبيراً *‏}‏ أي لا يخفى عليه من ذلك خفي، ولا يغيب عنه خبيء، فصارت هذه الآيات كفيلة بغالب أحوال النكاح، ولم يذكر سبحانه وتعالى الطلاق عندما ذكر الشقاق لتقدمه في البقرة، ولأن مبنى هذه السورة على التواصل والتوادّ دون التفاصل والترادّ كما قال ابن الزبير، ولهذا- أي لبناء السورة على التواصل والائتلاف دون التفاصل والاختلاف- خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدالة إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء إلا قوله‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كثرت في هذه السورة الوصايا من أولها إلى هنا بنتيجة التقوى‏:‏ العدل والفضل، والترغيب في نواله، والترهيب من نكاله- إلى أن ختم ذلك بإرشاد الزوجين إلى المعاملة بالحسنى، وختم الآية بما هو في الذروة من حسن الختام من صفتي العلم والخبر، وكان ذلك في معنى ما ختم به الآية الآمرة بالتقوى من الوصف بالرقيب، اقتضى ذلك تكرير التذكير بالتقوى التي افتتحت السورة بالأمر بها، فكان التقدير حتماً‏:‏ فاتقوه؛ عطف عليه، أو على نحو ‏{‏وسئلوا الله من فضله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏ أو على ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ الخُلق المقصود من الخلق المبثوثين على تلك الصفة، وهو العبادة الخالصة التي هي الإحسان في معاملة الخالق، وأتبعها الإحسان في معاملة الخلائق فقال‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله‏}‏ أي أطيعوا- الذي له الكمال كله فلا يشبهه شيء- طاعة محضة من غير شائبة خلاف مع الذل والانكسار، لأن ملاك ذلك كله التعبد بامتثال الأوامر واجتناب الزواجر‏.‏

ولما كان سبحانه غنياً لم يقبل إلا الخالص، فقال مؤكداً لما أفهمه ما قبله‏:‏ ‏{‏ولا تشركوا به شيئاً‏}‏‏.‏

ولما أمر للواحد الحقيقي بما ينبغي له، وكان لذلك درجتان‏:‏ أولاهما الإيمان، وأعلاهما الإحسان، فصار المأمور بذلك مخلصاً في عبادته؛ أمره بالإحسان في خلافته، وبدأ بأولى الناس بذلك، وهو من جعله سبباً لإيجاده فقال- مشيراً إلى أنه لا يرضى له من ذلك إلا درجة الإحسان، وإلى أن من أخلص له أغناه عن كل ما سواه، فلا يزال منعماً على من عداه-‏:‏ ‏{‏وبالوالدين‏}‏ أي وأحسنوا بهما ‏{‏إحساناً‏}‏ وكفى دلالة على تعظيم أمرهما جعل برهما قرين الأمر بتوحيده سبحانه‏.‏

ولما كان مبنى السورة على الصلة لا سيما لذي الرحم، قال مفصلاً لما ذكر أول السورة تأكيداً له‏:‏ ‏{‏وبذي القربى‏}‏ لتأكد حقهم بمزيد قربهم، ولاقتضاء هذه السورة مزيد الحث على التعاطف أعاد الجار، ثم أتبع ذلك من تجب مراعاته لله، أو لمعنى تفسد بالإخلال به ذات البين، وبدأ بما لله لأنه إذا صح تبعه غيره فقال‏:‏ ‏{‏واليتامى والمساكين‏}‏ أي وإن لم تكن رحمهم معروفة، وخصهم لضعفهم وقدم اليتيم لأنه أضعف، لأنه لصغره يضعف عن دفع حاجته ورفعها إلى غيره ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ أي لأن له حقين ‏{‏والجار الجنب‏}‏ أي الذي لا قرابة له، للبلوى بعشرته خوفاً من بالغ مضرته «اللهم‏!‏ إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول» ‏{‏والصاحب الجنب‏}‏ أي الملاصق المخالط في أمر من الأمور الموجبة لامتداد العشرة ‏{‏وابن السبيل‏}‏ أي المسافر لغربته وقلة ناصره ووحشته ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ أي من العبيد والإماء كذلك، فإن الإحسان إليهم طاعة عظيمة «آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم»‏.‏

ولما ذكر الإحسان الذي عماده التواضع والكرم، ختم الآية ترغيباً فيه وتحذيراً من منعه معللاً للأمر به بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى ‏{‏لا يحب‏}‏ أي لا يفعل فعل المحب مع ‏{‏من كان مختالاً‏}‏ أي متكبراً معجباً بنفسه متزيناً بحليته مرائياً بما آتاه الله تعالى من فضله على وجه العظم واحتقار الغير، يأنف من أن ينسب إليه أقاربه الفقراء، ويقذر جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن إليهم لئلا يلمّوا به فيعيَّر بهم‏.‏

ولما كان المختال ربما أحسن رياء، قال معلماً أنه لا يقبل إلا الخالص‏:‏ ‏{‏فخوراً *‏}‏ مبالغاً في التمدح بالخصال، يأنف من عشرة الفقراء وفي ذلك أتم ترهيب من الخلق المانع من الإحسان، وهو الاختيال على عباد الله والافتخار عليهم ازدراء بهم، فإنه لا مقتضى لذلك لأن الكل من نفس واحدة، والفضل نعمة منه سبحانه، يجب شكرها بالتواضع لتدوم، ويحذر كفرها بالفخار خوفاً من أن تزول‏.‏

ولما كان الاختيال والفخر على الفرح بالأعراض الفانية والركون إليها والاعتماد عليها، فكانا حاملين على البخل خوفاً من زوالها؛ قال واصفاً لهم بجملة من الأخلاق الرديئة الجلية، ذلك منشأها‏:‏ ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ أي يوقعون البخل بما حملهم من المتاع الفاني على الفخار، وقصره ليعم كتم العلم ونحوه؛ ثم تلا ذلك بأسوأ منه فقال ‏{‏ويأمرون الناس بالبخل‏}‏ مقتاً للسخاء، وفي التعبير بما هو من النوس إشارة إلى أنهم لا يعلقون أطماعهم بذلك إلا بذوي الهمم السافلة والرتب القاصرة، ويحتمل أن يكون الأمر كناية عن حملهم غيرهم على البخل بما يرى من اختيالهم وافتخارهم عليهم؛ ثم أتبع ذلك أخبث منه، وهو الشح بالكلام الذي لا يخشى نقصه وجحد النعمة وإظهار الافتقار فقال‏:‏ ‏{‏ويكتمون ما أتاهم الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏من فضله‏}‏ أي من العلم جاحدين أن يكون لهم شيء يجودون به‏.‏ قال الأصبهاني‏:‏ ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر، مثل أن يظهر الشكاية لله سبحانه وتعالى ولا يرضى بالقضاء‏.‏ ثم عطف على ‏{‏إن الله لا يحب‏}‏ ملتفتاً إلى مقام التكلم، دلالة على تناهي الغضب وتعييناً للمتوعد، مصرحاً بمظهر العظمة الذي دل عليه هناك بالاسم الأعظم قوله‏:‏ ‏{‏وأعتدنا‏}‏ أي أحضرنا وهيأنا، وكان الأصل‏:‏ لهم، ولكنه قال- تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، وإعلاماً بأن ذلك حامل على الكفر-‏:‏ ‏{‏للكافرين‏}‏ أي بفعل هذه الخصال كفراً حقيقياً بما أوصلهم إليه لزوم الأخلاق الدنية، أو مجازياً بكتمان النعمة ‏{‏عذاباً مهيناً *‏}‏ أي بما اغتروا بالمال الحامل على الفخر والكبر والاختيال «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر»‏.‏

ولما ذم المقترين، أتبعه ذم المسرفين المبذرين فقال- عطفاً على ‏{‏الكافرين‏}‏ أو ‏{‏الذين يبخلون‏}‏ معرفاً أن الذين لا يحسنون على الوجه المأمور به فيمن تقدم الأمر بالإحسان إليهم فرقتان‏:‏ فرقة يمنعون النفقة أصلاً، وفرقة يمنعون وصفها ويفعلونها رياء، فيعدمون بذلك روحها-‏:‏ ‏{‏والذين ينفقون‏}‏ وأشار إلى عظيم رغبتهم في نفقتهم بقوله‏:‏ ‏{‏أموالهم‏}‏ ودل على خسة مقاصدهم وسفول هممهم بقوله‏:‏ ‏{‏رئاء الناس‏}‏ أي لقصور نظرهم وتقيده بالمحسوسات كالبهائم التي لا تدرك إلا الجزيئات المشاهدات‏.‏

ولما ذكر إخراج المال على وجه لا يرضاه ذو عقل، ذكر الحامل عليه مشيراً إلى أنهم حقروا أنفسهم بما عظموها به، وذلك أنهم تعبدوا للعبيد، وتكبروا على خالقهم العزيز المجيد فقال‏:‏ ‏{‏ولا يؤمنون بالله‏}‏ وهو الملك الأعظم‏.‏ ولما كان المأمور بالإحسان إليهم هنا من الوالدين ومن ذكر معهم أخص ممن أشير إليهم في البقرة، أكد بزيادة النافي فقال‏:‏ ‏{‏ولا باليوم الآخر‏}‏ الحامل على كل خير، والنازع عن كل شر‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكان الشيطان قرينهم، لكفره بإعجابه وكبره؛ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يكن الشيطان‏}‏ أي وهو عدوه البعيد من كل خير، المحترق بكل ضير ‏{‏له قريناً‏}‏ فإنه يحمله على كل شر، ويبعده عن كل خير؛ وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فساء قريناً *‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فماذا لهم في الكفر والإنفاق رياء لمن لا ضر ولا نفع بيده‏؟‏ عطف عليه قوله تعنيفاً لهم وإنكاراً عليهم‏:‏ ‏{‏وماذا عليهم‏}‏ أي من حقير الأشياء وجليلها ‏{‏لو آمنوا بالله‏}‏ أي الذي له كل كمال، وبيده كل شيء ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ الحامل على كل صلاح ‏{‏وأنفقوا‏}‏‏.‏

ولما وصفهم بإنفاق جميع أموالهم للعدو الحقير أشار إلى شحهم فيما هو لله العلي الكبير بشيء يسير يحصل لهم به خير كثير، فقال‏:‏ ‏{‏مما رزقهم الله‏}‏ الذي له الغنى المطلق والجود الباهر، ولما كان التقدير‏:‏ فقد كان الله عليهم لما بذروا أموالهم قديراً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏بهم‏}‏ أي في كلتا الحالتين ‏{‏عليماً *‏}‏ أي بليغ العلم، وللإعلام بعظمة العلم بهم قدم الجار المفيد للاختصاص في غير هذا الموضع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

ولما فرغ من توبيخهم قال معللاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له كل كمال، فهو الغني المطلق ‏{‏لا يظلم‏}‏ أي لا يتصور أن يقع منه ظلم ما ‏{‏مثقال ذرة‏}‏ أي فما دونها، وإنما ذكرها لأنها كناية عن العدم، لأنها مثل في الصغر، أي فلا ينقص أحداً شيئاً مما عمله، ولا يثيب عليه شيئاً لم يعمله، فماذا على من آمن به وهو بهذه الصفة العظمى‏.‏

ولما ذكر التخلي من الظلم، أتبعه التحلي بالفضل فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فإن تك الذرة سيئة لم يزد عليها، ولا يجزي بها إلا مثلها‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ ولما كان تشوف السامع إلى ذلك عظيماً، حذف منه النون بعد حذف المعطوف عليه تقريباً لمرامه فقال‏:‏ ‏{‏تك‏}‏ أي مثقال الذرة، وأنثه لإضافته إلى مؤنث، وتحقيراً له، ليفهم تضعيف ما فوقه من باب الأولى، وهذا يطرد في قراءة الحرميين برفع ‏{‏حسنة‏}‏ أي وإن صغرت ‏{‏يضاعفها‏}‏ أي من جنسها بعشرة أمثالها إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى أزيد من ذلك بحسب ما يعلم من حسن العمل بحسن النية ‏{‏ويؤت من لدنه‏}‏ أي من غريب ما عنده فضلاً من غير عمل لمن يريد‏.‏ قال الإمام‏:‏ وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إلى السعادات الروحانية ‏{‏أجراً عظيماً *‏}‏ وسماه أجراً- وهو من غير جنس تلك الحسنة- لابتنائه على الإيمان، أي فمن كان هذا شأنه لا يسوغ لعاقل توجيه الهمة إلا إليه، ولا الاعتماد أصلاً بإنفاق وغيره إلا عليه‏.‏

ولما تم تحذيره من اليوم الآخر وما ذكره من إظهار العدل واستقصائه فيه كان سبباً للسؤال عن حال المبكتين في هذه الآيات إذ ذاك، فقال‏:‏ ‏{‏فكيف‏}‏ أي يكون حالهم وقد حملوا أمثال الجبال من مساوي الأعمال‏!‏ ‏{‏إذا جئنا‏}‏ على عظمتنا ‏{‏من كل أمة بشهيد‏}‏ أي يشهد عليهم ‏{‏وجئنا بك‏}‏ وأنت أشرف خلقنا ‏{‏على هؤلاء‏}‏ أي الذين أرسلناك إليهم وجعلناك شهيداً عليهم ‏{‏شهيداً *‏}‏ وفي التفسير من البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم» اقرأ عليّ «قلت‏:‏ أقرأ عليك وعليك أنزل‏؟‏ قال» إني أحب أن أسمعه من غيري «فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ قال» أمسك «فإذا عيناه تذرفان» ثم استأنف الجواب عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي تقوم الإشهاد ‏{‏يود الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما تهدي إليه العقول من آياته وبين أنهم مخاطبون بالفروع في قوله‏:‏ ‏{‏وعصوا الرسول‏}‏ بعد ستر ما أظهر من بيناته ‏{‏لو تسوى بهم الأرض‏}‏ أي تكون مستوية معتدلة بهم، ولا تكون كذلك إلا وقد غيبتهم واستوت بهم، ولم يبق فيها شيء من عوج ولا نتوّ بسبب أحد منهم ولا شيء من أجسامهم؛ وإنما ودوا ذلك خوفاً مما يستقبلهم من الفضيحة بعتابهم ثم الإهانة بعقابهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا تسوى بهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏حديثاً *‏}‏ أي شيئاً أحدثوه بل يفتضحون بسيئ أخبارهم، ويحملون جميع أوزارهم، جزاء لما كانوا يكتمون من آياته وما نصب للناس من بيناته‏.‏

ولما وصف الوقوف بين يديه في يوم العرض والأهوال الذي أدت فيه سطوة الكبرياء والجلال إلى تمني العدم، ومنعت قوة يد القهر والجبر أن يكتم حديثاً، وتضمن وصفه أنه لا ينجو فيه إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان به والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وصف الوقوف بين يديه في الدنيا في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، والذي خطرت معاني اللطف والجمال فهي الالتفات إلى غيره، وأمر بالطهارة في حال التزين به عن الخبائث فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا‏}‏ أي أقروا بالتصديق بالرسل وما أتوا به عن الله، وأوله وأولاه أن لا تشركوا به شيئاً من الإشراك ‏{‏لا تقربوا الصلاة‏}‏ أي بأن لا تكونوا في موضعها فضلاً عن أن تفعلوها ‏{‏وأنتم‏}‏ أي والحال أنكم ‏{‏سكارى‏}‏ أي غائبو العقل من الخمر أو نحوها، فإنه يوشك أن يسبق اللسان- بتمكن الشيطان بزوال العقل- إلى شيء من الإشراك، فيكون شركاً لسانياً وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان، فيوشك أن يعرض ذلك عليه يوم الوقوف الأكبر، فإن من أنتم بين يديه لا يكتم حديثاً، فيود من نطق سانه بذلك- لما يحصل له من الألم- لو كان من أهل العدم‏!‏ وأصل السكر في اللغة‏:‏ سد الطريق؛ وسبب نزولها ما رواه مسدد بإسناد- قال شيخنا البوصيري‏:‏ رجاله ثقات- عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فسقاهما قبل أن تحرم الخمر، فأمهم علي رضي الله تعالى عنه في المغرب وقرأ ‏{‏قل يا أيها الكافرون‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏ فنزلت» هكذا رواه، وقد رواه أصحاب السنن الثلاثة وأحمد وعبد بن حميد والبزار والحاكم والطبري، فبينوا المراد، وهو أن الذي صلى بهم قرأ‏:‏ أعبد ما تعبدون، وفي رواية الترمذي‏:‏ ونحن نعبد ما تعبدون‏.‏

ولما أفهم النهي عن قربانها ي هذا الحال زواله بانقضائه، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ أي ولا يزال هذا النهي قائماً حتى ‏{‏تعلموا‏}‏ بزوال السكر ‏{‏ما تقولون‏}‏ فلا يقع منكم حينئذ تبديل؛ وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المراد بالصلاة نفسها وموضعها وهو المسجد، وذلك من أدلته على استعمال الشيء في حقيقته ومجازه؛ نهى السكران أن يصلي إلى أن يفهم، أي يصحو، ونهى كل واحد أن يكون في المسجد وهو جنب بقوله عطفاً على محل ‏{‏وأنتم سكارى‏}‏‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي ولا تقربوا الصلاة بالكون في محالها فضلاً عنها ‏{‏جنباً‏}‏ أي ممنين بالفعل أو القوة القريبة منه بالتقاء الختانين، لأن الجنابة المني سواء كان عن جماع أو لا في حال من أحوال الجنابة ‏{‏إلا عابري سبيل‏}‏ أي مارين مروراً من غير مكث ولا صلاة؛ ولما غيَّى منع الجنابة بقوله‏:‏ ‏{‏حتى تغتسلوا‏}‏ أي تغسلوا البدن عمداً، ولما كان للإنسان حالات يتعسر أو يتعذر فيها عليه استعمال الماء؛ ذكرها فقال مرتباً لها على الأحوج إلى الرخصة فالأحوج‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى‏}‏ أي بجراحة أو غيرها مرضاً يمنع من طلب الماء أو استعماله ‏{‏أو على سفر‏}‏ كذلك سواء كان السفر طويلاً أو قصيراً ‏{‏أو جاء أحد منكم‏}‏ أي أيها المؤمنون‏!‏ ولو كان حاضراً صحيحاً ‏{‏من الغائط‏}‏ أي المكان المطمئن من الأرض الواسع الذي يقصد للتخلي، أي‏:‏ أو جاء من التخلي فقضى حاجته التي لا بد له منها، فهو بها أحوج إلى التخفيف مما بعده‏.‏

ولما تقدم أمر الجنابة التي هي المني أعم من أن تكون بجماع أو غيره، ذكر هنا ما يعمها وغيرها من وجه فقال‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ أي بمجرد التقاء البشرتين أو بالجماع سواء حصل إنزال أو لا، وأخر هذا لأنه مما منه بد، ولا يتكرر تكرر قضاء الحاجة ‏{‏فلم تجدوا ماء‏}‏ أي إما بفقده أو بالعجز عن استعماله ‏{‏فتيمموا‏}‏ أي اقصدوا قصداً صادقاً بأن تلابسوا ناوين ‏{‏صعيداً‏}‏ أي تراباً ‏{‏طيباً‏}‏ أي طهوراً خالصاً فهو بحيث ينبت ‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ ‏{‏فامسحوا‏}‏ وهذه عبادة خاصة بنا‏.‏

ولما كان التراب لا يتمكن من جميع العضو وإن اجتهد الإنسان في ذلك أدخل الباء قاصراً للفعل في قوله‏:‏ ‏{‏بوجوهكم‏}‏ أي أوقعوا المسح بها سواء عم التراب منبت الشعر أم لا ‏{‏وأيديكم‏}‏ أي منه كما صرح به في المائدة، لا فيه ولا عليه مثلاً، ليفهم التمعك أو أن الحجر مثلاً يكفي، والملامسة جوز الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً أن يراد بها المس- أي ملاقاة البشرتين- الذي هو حقيقة اللمس والجماع الذي هو مسبب عن المس، أو هو مماسة خاصة، فهو من تسمية الكل باسم البعض حينئذ‏.‏

ولما نهى عما يدني من وقوع صورة الذنب الذي هو جري اللسان بما لا يليق به سبحانه وتعالى، وخفف ما كان شديداً بالتيمم؛ ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي اختص بالكمال ‏{‏كان عفوّاً‏}‏ أي بترك العقاب على الذنب، وكأن هذا راجع إلى ما وقع حالة السكر ‏{‏غفوراً *‏}‏ أي بترك العقاب وبمحو الذنب حتى لا يذكر بعد ذلك أصلاً، وكأن هذا راجع إلى التيمم، فإن الصلاة معه حسنة، ولولاه كانت سيئة مذكورة ومعاقباً عليها، إما على تركها لمشقة استعمال الماء عند التساهل، أو على فعلها بغير طهارة في بعض وجوه التنطع، وذلك معنى قوله سبحانه وتعالى في المائدة ‏{‏ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ ومن كانت عادته العفو والمغفرة كان ميسراً غير معسر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام، فيكون سبباً في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت لهم الآصار عذاب النار فقال- ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة-‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أو يقال‏:‏ إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى ‏{‏ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 27‏]‏ ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏‏.‏

ولما كانوا بمحل البعد- بما لهم من اللعن- عن حضرته الشريفة، عبر بأداة الانتهاء، بصرية كانت الرؤية أو قلبية، فقال‏:‏ ‏{‏إلى الذين أوتوا‏}‏ وحقر أمرهم بالبناء للمفعول وبقوله‏:‏ ‏{‏نصيباً من الكتاب‏}‏ أي كشاس بن قيس الذي أراد الخلف بين الأنصار، وفي ذلك أن أقل شيء من الكتاب يكفي في ذم الضلال، لأنه كاف في الهداية ‏{‏يشترون‏}‏ أي يتكلفون ويلحون- بما هم فيه من رئاسة الدنيا من المال والجاه- أن يأخذوا ‏{‏الضلالة‏}‏ معرضين عن الهدى غير ذاكريه بوجه، وسبب كثير من ذلك ما في دينهم من الآصال والأثقال، كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى ‏{‏فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏ أي بسبب ما شدد عليهم فيها بأنها لا تفعل إلا في الموضع المبني لها، وبغير ذلك من أنواع الشدة، وكذا غيرها المشار إليه بقوله سبحانه وتعالى ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ وغير ذلك، ومن أعظمه ما يخفون من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ليتقربوا بذلك إلى أهل دينهم، ويأخذوا منهم الرشى على ذلك، ويجعلوهم عليهم رؤساء‏.‏

ولما ذكر ضلالهم المتضمن لإضلالهم، أتبعه ما يدل على إعراقهم فيه، فقال مخاطباً لمن يمكن توجيه هممهم بإضلال إليه‏:‏ ‏{‏ويريدون أن تضلوا‏}‏ أي يا أيها الذين آمنوا ‏{‏السبيل *‏}‏ حتى تساووهم، فلذلك يذكرونكم بالأحقاد والأضغان والأنكاد- كما فعل شاس- لا محبة فيكم، ويلقون إليكم الشبهة، فالله سبحانه وتعالى أعلم بهم حيث حذركم منه بقوله ‏{‏لا يألونكم خبالاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118‏]‏ وما بعده إلى هنا ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علمه وقدرته ‏{‏أعلم‏}‏ أي من كل أحد ‏{‏بأعدائكم‏}‏ أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره‏.‏

ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم‏:‏ ‏{‏وكفى‏}‏ أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال‏:‏ ‏{‏بالله ولياً‏}‏ أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق‏.‏

ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏نصيراً *‏}‏ أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع‏.‏

ولما وفرت هذه الآيات الدواعي على تعيين هؤلاء الذين يريدون الإضلال، قال بعد الاعتراض بما بين المبين والمبين من الجمل لمزيد الاهتمام به‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا‏}‏ ثم بين ما يضلون به ويضلون بقوله- ويجوز أن يكون استئنافاً بمعنى‏:‏ بعضهم، أو منهم من-‏:‏ ‏{‏يحرفون الكلم‏}‏ أي الذي أتى به شرعهم من صفة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وصفه دينه وأمته وغير ذلك مما يريدون تحريفه لغرض، فيتألفون في إمالته وتغييره عن حده وطرفه إلى حد آخر مجاوزين به ‏{‏عن‏}‏ ولما كانت الكلمة إذا غيرت تبعها الكلام وهو المقصود بالذات، نبه على ذلك بتذكير الضمير فقال‏:‏ ‏{‏مواضعه‏}‏ أي التي هي به أليق، فيتم ضلالهم وإضلالهم، وهو يشمل ما إذا كان المعنى المغير إليه بعيداً عن المغير أو قريباً، فالذي في المائدة أخص‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى عالماً بجميع تحريفهم، أشار إليه بالعطف على ما تقديره‏:‏ فيقولون كذا ويقولون كذا‏:‏ ‏{‏ويقولون سمعنا‏}‏ أي ما تقول ‏{‏وعصينا‏}‏ موهمين أنهم يريدون أن ذلك حكاية ما وقع لأسلافهم قديماً، وإنما يريدون أنهم هم سمعوا ما تقول وخالفوه عمداً ليظن من سمع ذلك أنهم على بصيرة في المخالفة بسبب ما عندهم من العلم الرباني ليورثه ذلك شكاً في أمره وحيرة في شأنه ‏{‏واسمع‏}‏ حال كونك ‏{‏غير مسمع‏}‏ موهمين عدم إسماعه ما يكره من قولهم‏:‏ فلان أسمع فلاناً الكلام، وإنما يريدون الدعاء، كما يقال‏:‏ اسمع لا سمعت‏!‏ ‏{‏وراعنا‏}‏ موهمين إرادة المراعاة والإقبال عليهم، وإنما يريدون الشتم بالرعونة؛ وقال الأصفهاني‏:‏ ويحتمل شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي‏:‏ راعينا، فكانوا- سخرية بالدين وهزءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم- يكلمونه بكلام محتمل، ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإكرام، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ليّاً بألسنتهم‏}‏ أي صرفاً لها عن مخارج الحروف التي تحق لها في العربية إلى ما يفعله العبرانيون من تغليظ بعض الحروف وشوب بعضها بغيره، لإرادة معانٍ عندهم قبيحة مع احتمالها لإرادة معانٍ غير تلك يقصدها العرب مليحة ‏{‏وطعناً في الدين‏}‏ أي بما يفسرونه به لمن يطمعون فيه من تلك المعاني الخبيثة‏.‏

ولما ذكر هذه الكلمات الموجهة، بين ما كان عليهم لو وقفوا فقال قاطعاً جدالهم‏:‏ ‏{‏ولو أنهم قالوا‏}‏ أي في الجواب له صلى الله عليه وسلم ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ أي بدل الكلمة الأولى ‏{‏واسمع وانظرنا‏}‏ بدل ما بعدها ‏{‏لكان‏}‏ أي هذا القول ‏{‏خيراً لهم‏}‏ أي من ذلك، لعدم استيجابهم الإثم ‏{‏وأقوم‏}‏ أي لعدم الاحتمال الذم ‏{‏ولكن لعنهم الله‏}‏ أي طردهم الذي له جميع صفات العظمة والكمال، وأبعدهم عن الخير ‏{‏بكفرهم‏}‏ أي بدناءتهم بما يغطون من أنوار الحق ودلائل الخير، فلم يقولوا ذلك‏.‏

ولما سبب عن طردهم استمرار كفرهم قال‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنون‏}‏ أي يتجدد لهم إيمان ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ أي منهم؛ استثناء من الواو، فإنهم يؤمنون، أو هو استثناء مفرغ من مصدر يؤمن أي من إيمانهم ببعض الآيات الذي لا ينفعها لكفرهم بغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين‏}‏ منادياً لهم من محل البعد ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم بالمصادقة إلا الجميع ‏{‏آمنوا بما نزلنا‏}‏ أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما معكم‏}‏ من حيث أنهم له مستحضرون، وبه في حد ذاته مُقِرّون‏.‏

ولما أمرهم وقطع حجتهم، حذرهم فقال- مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم-‏:‏ ‏{‏من قبل أن نطمس‏}‏ أي نمحو ‏{‏وجوهاً‏}‏ فإن الطمس في اللغة‏:‏ المحو؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات، ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فنردها‏}‏ فالتقدير‏:‏ من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها ‏{‏على أدبارها‏}‏ أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا، ليس فيها معلم من فم ولا غيره، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني؛ قال ابن هشام‏:‏ نطمس‏:‏ نمسحها فنسويها، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه، وكذلك ‏{‏فطمسنا أعينهم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 37‏]‏ المطموس العين‏:‏ الذي ليس بين جفنيه شق، ويقال‏:‏ طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء‏.‏ ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على ‏(‏نردها‏)‏‏:‏ ‏{‏أو نلعنهم‏}‏ أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة ‏{‏كما لعنا أصحاب السبت‏}‏ إذ قلنا لهم ‏{‏كونوا قردة خاسئين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏ ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء، فيكون عود الضمير إليه استخداماً، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل- والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً، وكان التقدير‏:‏ فقد كان أمر الله فيهم بذلك- كما علمتم- نافذاً؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر فقال عاطفاً على ما قدرته‏:‏ ‏{‏وكان أمر الله‏}‏ أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها ‏{‏مفعولاً *‏}‏ أي كائناً حتماً، لا تخلف له أصلاً، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا، لأنه قد وقع منهم إيمان‏.‏

ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون‏:‏ سيغفر لنا، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله- كما قال سبحانه وتعالى ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏ قال- معللاً لتحقيق وعيدهم، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك-‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجامع لصفات العظمة ‏{‏لا يغفر أن يشرك به‏}‏ أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا، وزاد ذلك حسناً انه في سياق ‏{‏واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏‏.‏

ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك‏}‏ الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة، سواء تاب فاعلها أو لا، ورهب بقوله- إعلاماً بأنه مختار، لا يجب عليه شيء-‏:‏ ‏{‏لمن يشاء‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك‏}‏ أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل، وأما الماضي فجبته التوبة ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي كل شيء دونه ‏{‏فقد افترى‏}‏ أي تعمد كذباً ‏{‏إثماً عظيماً *‏}‏ أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر، فلم يدع للصلح موضعاً، فلم تقتض الحكمة العفو عنه، لأنه قادح في الملك، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء- لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد، بخلاف ما يأتي عن العرب، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

ولما كان في ذلك إشارة إلى أن المرادين بهذه الآيات من أهل الكتاب أضل الناس، وكانوا يقولون‏:‏ إنهم أهدى الناس؛ عجب منهم منكراً عليهم بعد افترائهم تزكية أنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وأبعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ أي بما ليس لهم من قولهم ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ وقولهم ‏{‏لن يدخل الجنة لا من كان هوداً أو نصارى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏ ‏{‏ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 27‏]‏ فإن إبعاد غيرهم في الميل مصحح لتزكيتهم أنفسهم بالباطل ونحو ذلك مما تقدم وغيره‏.‏

ولما كان معنى الإنكار‏:‏ ليس لهم ذلك لأنهم كذبوا فيه وظلموا، أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏بل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يزكي من يشاء‏}‏ أي بما له من العلم التام والقدرة الشاملة والحكمة البالغة والعدل السوي بالثناء عليه وبخلق معاني الخير الظاهرة فيه لتنشأ عنها الأعمال الصالحة، فإذا زكي أحداً من أصفيائه بشيء كالنبوة، كان له أن يزكي نفسه بذلك حملاً على ما ينفع الناس به عن الله ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أن الذين يزكيهم أو يدسيهم لا ‏{‏يظلمون فتيلاً *‏}‏ أي مقدار ما في شق النواة من ذلك الشيء المفتول، أي قليلاً ولا كثيراً، لأنه عالم بما يستحقون وهو الحكم العدل الغني عن الظلم، لأن له صفات الكمال‏.‏

ولما أخبر تعالى أن التزكية إنما هي إليه بما له من العظمة والعلم الشامل، وكان ذلك أمراً لا نزاع فيه، وشهد عليهم بالضلال، وثبت أن ذلك كلامه بما له من الإعجاز في حالتي الإطناب والإيجاز؛ ثبت كذبهم فزاد في توبيخهم فقال- معجباً لرسوله صلى الله عليه وسلم من وقاحتهم واجترائهم على من يعلم كذبهم، ويقدر على معالجتهم بالعذاب، مبيناً أنه صلى الله عليه وسلم في الحضرة بعد بيان بعدهم-‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون‏}‏ أي يتعمدون ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي لا يخفي عليه شيء ولا يعجزه شيء ‏{‏الكذب‏}‏ أي من غير خوف منهم لذلك عاقبة ‏{‏وكفى‏}‏ أي والحال أنه كفي ‏{‏به‏}‏ أي بهذا الكذب ‏{‏إثماً مبيناً *‏}‏ أي واضحاً في نفسه ومنادياً عليها بالبطلان‏.‏

ولما عجب من كذبهم دلَّ عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وكان الأصل‏:‏ إليهم، ولكنه قال- لزيادة التقريع والتوبيخ والإعلام بأن كفرهم عناد لكونه عن علم-‏:‏ ‏{‏إلى الذين‏}‏ وعبر بإلى دلالة على بعدهم عن الحضرات الشريفة ‏{‏أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ أي الذي هو الكتاب في الحقيقة لكونه من الله ‏{‏يؤمنون بالجبت‏}‏ وهو الصنم والكاهن والساحر والذي لا خير فيه وكل ما عبد من دون الله ‏{‏والطاغوت‏}‏ وهو اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله؛ وكل هذه المعاني تصح إرادتها هنا، وهي مما نهي عنه في كتابهم- وأصله ومداره مجاوزة الحد عدواناً، وهو واحد وقد يكون جمعاً، قال سبحانه وتعالى

‏{‏أوليائهم الطاغوت يخرجونهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ والحال أن أقل نصيب من الكتاب كافٍ في النهي عن ذلك وتكفير فاعله‏.‏

ولما دل على ضلالهم دل على إضلالهم بقوله- معبراً بصيغة المضارع دلالة على عدم توبتهم-‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا‏}‏ ودل بالتعبير بالإشارة دون الخطاب على أنهم يقولون ذلك فيهم حتى في غيبتهم، حيث لا حامل لهم على القول إلا محض الكفر فقال‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الكفرة العابدون للأصنام ‏{‏أهدى‏}‏ أي أقوم في الهداية ‏{‏من الذين آمنوا‏}‏ أي أوقعوا هذه الحقيقة، فيفهم ذمهم بالتفضيل على الذين يؤمنون ومن فوقهم من باب الأولى ‏{‏سبيلاً *‏}‏ مع أن في كتابهم من إبطال الشرك وهدمه وعيب مدانيه وذمه في غير موضع تأكيداً أكيداً وأمراً عظيماً شديداً‏.‏

ولما أنتج ذلك خزيهم قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء عن الحضرات الربانية ‏{‏الذين لعنهم الله‏}‏ أي طردهم بجميع ما له من صفات الكمال طرداً هم جديرون بأن يختصوا به‏.‏ ولما كان قصدهم بهذا القول مناصرة المشركين لهم وكان التقدير‏:‏ فنالوا بذلك اللعن الذل والصغار، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يلعن الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله منهم ومن غيرهم ‏{‏فلن تجد له نصيراً *‏}‏ أي في وقت من الأوقات أصلاً، وكرر التعبير بالاسم الأعظم لأن المقام يقتضيه إشعاراً لتناهي الكفر الذي هو أعظم المعاصي بتناهي الغضب‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ كذلك كان من إلزامهم الذل والصغار، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏أم‏}‏ أي ليس ‏{‏لهم نصيب‏}‏ أي واحد من الأنصباء ‏{‏من الملك فإذاً‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أنهم إذا كان لهم أدنى نصيب منه ‏{‏لا يؤتون الناس‏}‏ أي الذين آمنوا ‏{‏نقيراً *‏}‏ أي شيئاً من الدنيا ولا الآخرة من هدى ولا من غيره، والنقير‏:‏ النقرة في ظهر النواة، قيل‏:‏ غاية في القلة؛ فهو كناية عن العدم، فهو بيان لأنهم لإفراط بخلهم لا يصلحون إلا لما هم فيه من الذل فكيف بدرجة الملك لأن الملك والبخل لا يجتمعان ‏{‏أم‏}‏ أي ليس لهم نصيب ما من الملك، بل ذلهم لازم وصغارهم أبداً كائن دائم، فهم ‏{‏يحسدون الناس‏}‏ أي محمداً صلى الله عليه وسلم الذي جمع فضائل الناس كلهم من الأولين والآخرين وزاد عليهم ما شاء الله، أو العرب الذي لا ناس الآن غيرهم، لأنَّا فضلناهم على العالمين- بأن يتمنوا دوام ذلهم كما دام لهم هم، ودل على نهاية حسدهم بأداة الاستعلاء في قوله‏:‏ ‏{‏على ما آتاهم الله‏}‏ أي بما له من صفات الكمال ‏{‏من فضله‏}‏ حسدوهم لما رأوا من إقبال جدهم وظهور سعدهم وأنهم سادة الناس وقادة أهل الندى والبأس‏:‏

إن العرانين تلقاها محسدة *** ولن ترى للئام الناس حساداً

وقد آتاهم الله سبحانه وتعالى جميع أنواع الملك، فإنه على ثلاثة أقسام‏:‏ ملك على الظواهر والبواطن معاً، وهو للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لهم من غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة والشفاعة والبر واللطف التي كل منها سبب للانقياد، وذلك مع ما لهم بالله سبحانه وتعالى من تمام الوصلة؛ وملك على الظواهر فقط، وهو ملك الملوك؛ وملك على البواطن فقط، وهو ملك العلماء‏.‏

ولما ذمهم سبحانه وتعالى أولاً بالجهل ومدح النفس تشبعاً بما لم يعطوا، وذلك سبب لجميع النقائص، وثانياً بأعظم منه‏:‏ منع الحق من أهله بخلاً، وثالثاً بأعظم منهما‏:‏ تمنى ألا يصل إلى أحد نعمة وإن كانت لا تنقصهم، فحازوا بذلك أعلى خلال الذم، وكانت المساوي تضع والمحاسن ترفع، تسبب عن هذا توقع السامع لإعلاء العرب وإدامة ذل اليهود وموتهم بحسدهم فقال‏:‏ ‏{‏فقد‏}‏ أي فتسبب عن هذا وتعقبه أنَّا آتيناهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر للتنبيه على التوصيف الذي شاركوهم به في استحقاق الفضائل فقال‏:‏ ‏{‏آتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏آل إبراهيم‏}‏ أي الذي أعلمناكم في كتابكم أنا أقسمنا له أنَّا نعز ذريته ونهديهم ونجعل ابنة إسماعيل حالاً على جميع حدود إخوته، ويده في جميع الناس ويده على كل أحد ويد كل به ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الذي لا كتاب إلا هو لما له من الحفظ والفضل بالإعجاز والفصل ‏{‏والحكمة‏}‏ أي النبوة التي ثمرتها العمل المتقن بالعلم المحرر المحكم ‏{‏وآتيناهم‏}‏ مع ذلك ‏{‏ملكاً عظيماً *‏}‏ أي ضخماً واسعاً باقياً إلى أن تقوم الساعة ‏{‏فمنهم‏}‏ أي من آل إبراهيم ‏{‏من آمن به‏}‏ وهم أغلب العرب ‏{‏ومنهم من صد عنه‏}‏ أي أعرض بنفسه، وصد غيره كبني إسرائيل وبعض العرب‏.‏

ولما كان قد علم من السياق أن الطاعن فيه ميت بحسده من غير أن يضره بأمر دنيوي، وكان التقدير لبيان أمرهم في الآخرة‏:‏ فحكمنا أن تسعر بهم النار بعد الذل في هذه الدار والهوان والصغار، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكفى بجهنم سعيراً *‏}‏ أي توقداً والتهاباً في غاية الإحراق والعسر والإسراع إلى الأذى، وفي آية الطاغوت أنهم سمحوا ببدل الدين- وهو لا أعز منه عند الإنسان- في شهادتهم للكفرة بالهداية، وفي آية الملك الإيماء إلى أنهم في الحضيض من الشح بالخسيس الفاني، وفي آية الحسد أنه لم يكفهم التوطن في حضيض الشح بما أوتوا مع الغنى حتى سفلوا عنه إلى أدنى من ذلك بالحسد لمن آتاه الله ما لا ينقصهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

ولما أثبت لمن صد عنه النار علله بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآياتنا‏}‏ أي ستروا ما أظهرته عقولهم بسببها ‏{‏سوف نصليهم‏}‏ أي بوعيد ثابت وإن طال معه الإمهال ‏{‏ناراً‏}‏ ولما كانت النار- على ما نعهده- مفنية ماحقة، استأنف قوله رداً لذلك‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم‏}‏ أي صارت بحرّها إلى حالة اللحم النضيج الذي أدرك أن يؤكل، فصارت كاللحم الميت الذي يكون في الجرح، فلا يحس بالألم ‏{‏بدَّلناهم‏}‏ أي جعلنا لهم ‏{‏جلوداً غيرها‏}‏ أي غير النضيجة بدلاً منها بأن أعدناها إلى ما كانت عليه قبل تسليط النار عليها، كما إذا صُغتَ من خاتم خاتماً على غير هيئته، فإنه هو الأول لأن الفضة واحدة، وهو غيره لأن الهيئة متغايرة، وهكذا الجلد الثاني مغاير للنضيج في الهيئة ‏{‏ليذوقوا‏}‏ أي أصحاب الجلود المقصودون بالعذاب ‏{‏العذاب‏}‏ أي ليدوم لهم تجدد ذوقه، فتجدد لهم مشاهده الإعادة بعد البلى كل وقت، كما كانوا يجددون التكذيب بذلك كل وقت، ليكون الجزاء من جنس العمل، فإنه لو لم يُعِدْ منهم ما وهي لأداه وهيه إلى البلى، ولو بلى منهم شيء لبلوا كلهم فانقطع عذابهم‏.‏

ولما كان هذا أمراً لم يعهد مثله، دل على قدرته عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏كان‏}‏ ولم يزل ‏{‏عزيزاً‏}‏ أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ‏{‏حكيماً *‏}‏ ي يتقن صنعه، فجعل عذابهم على قدر ذنوبهم، لأن عزائمهم كانت على دوامهم على ما استحقوا به ذلك ما بقوا‏.‏

ولما ذكر الترهيب بعقاب الكافرين أتبعه الترغيب بثواب المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ‏{‏وعملوا‏}‏ بياناً لصدقهم فيه ‏{‏الصالحات سندخلهم‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه، وربما أفهم التنفيس لهم بالسين دون سوف- كما في الكافرين- أنهم أقصر الأمم مدة، أو أنهم أقصرهم أعماراً إراحة لهم من دار الكدر إلى محل الصفاء، وأنهم يدخلون الجنة قبل جميع الفرق الناجية من أهل الموقف ‏{‏جنات‏}‏ أي بساتين، ووصفها بما يديم بهجتها ويعظم نضرتها وزهرتها فقال‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي إن أرضها في غاية الريّ، كل موضع منها صالح لأن تجري منه نهر‏.‏

ولما ذكر قيامها وما به دوامها، أتبعه ما تهواه النفوس من استمرار الإقامة بها فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ ولما وصف حسن الدار ذكر حسن الجار فقال‏:‏ ‏{‏لهم فيها أزواج‏}‏ والمطرد في وصف جمع القلة لمن يفضل الألف والتاء، فعدل هنا عن ذلك إلى الوحدة لإفهام أنهن لشدة الموافقة في الطهر كذات واحد فقيل‏:‏ ‏{‏مطهرة‏}‏ أي متكرر طهرها، لا توجد وقتاً ما على غير ذلك‏.‏ ولما كانت الجنان في الدنيا لا تحسن إلا بتمكن الشمس منها وكانت الشمس تنسخ الظل فتخرج إلى التحول إلى مكان آخر، وربما آذى حرها، أمّن من ذلك فيها بقوله‏:‏ ‏{‏وندخلهم‏}‏ أي فيها ‏{‏ظلاً‏}‏ أي عظيماً، وأكده بقوله ‏{‏ظليلاً *‏}‏ أي متصلاً لا فرج فيه، منبسطاً لا ضيق معه دائماً لا تصيبه الشمس يوماً ما، ولا حر فيه ولا برد، بل هو في غاية الاعتدال‏.‏

ولما تقدم في هذه السورة الأمر بالإحسان والعدل في النساء واليتامى في الإرث وغيره، وفي غير ذلك من الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وذكر خيانة أهل الكتاب وما أحل بهم لذلك من العقاب، وذكر أنه آتى هذه الأمة الملك المقتضي للحكم، وآتاهم الحكمة بعد جهلهم وضعفهم؛ أقبل عليهم بلذيذ خطابه بعد ما وعدهم على امتثال أمره من كريم ثوابه بما ختمه بالظل الموعود على العدل في حديث «سبعة يظلمهم الله في ظله» فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يأمركم‏}‏ أي أيتها الأمة ‏{‏أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ أي من غير خيانة ما، كما فعل أهل الكتاب في كتمان ما عندهم والإخبار بغيره، والأمانة‏:‏ كل ما وجب لغيرك عليك‏.‏

ولما أمر بما يحق للإنسان في نفسه، أمر بما يحق له في معاملة غيره، وحقق لهم ما لم يكونوا يرومونه من أمر الملك بقوله بأداة القطع عاطفاً شيئين على شيئين‏:‏ ‏{‏إذا حكمتم‏}‏ وبين عموم ملكهم لسائر الأمم بقوله‏:‏ ‏{‏بين الناس‏}‏ وبين المأمور به بقوله‏:‏ ‏{‏أن تحكموا بالعدل‏}‏ أي السواء بأن تأمروا من وجب عليه حق بأدائه إلى من هو له، فإن ذلك من أعظم الصالحات الموجبة لحسن المقيل في الظل الظليل، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل» الحديث‏.‏

ولما أخبرهم بأمره زادهم رغبة بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ معبراً أيضاً بالاسم الأعظم ‏{‏نعمَّا‏}‏ أي نعم شيئاً عظيماً ‏{‏يعظكم به‏}‏ وحثهم على المبادرة إلى حسن الامتثال بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ مكرراً لهذا الاسم الشريف ليجتهدوا في الترقي في طهارة الأخلاق إلى حد لم يبلغه غيرهم‏.‏ ولما كان الرقيب في الأمانات لا بد له من أن يكون له من يد سمع وعلم قال‏:‏ ‏{‏كان‏}‏ أي ولم يزل ولا يزال ‏{‏سميعاً‏}‏ أي بالغ السمع لكل ما يقولونه جواباً لأمره وغيره ذلك ‏{‏بصيراً *‏}‏ أي بالغ البصر والعلم بكل ما يفعلونه في ذلك وغيره من امتثال وغيره‏.‏

ولما أمر سبحانه بالعدل ورغب فيه، ورهب من تركه؛ أمر بطاعة المتنصبين لذلك الحاملة لهم على الرفق بهم والشفقة عليهم فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان، وبدأ بما هو العمدة في الحمل على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أطيعوا‏}‏ أي بموافقة الأمر تصديقاً لدعواكم الإيمان ‏{‏الله‏}‏ أي فيما أمركم به في كتابه مستحضرين ما له من الأسماء الحسنى، وعظم رتبة نبيه صلى الله عليه وسلم بإعادة العامل فقال‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ فيما حده لكم في سنته عن الله وبينه من كتابه لأن منصب الرسالة مقتضٍ لذلك، ولهذا عبر به دون النبي ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ أي الحكام، فإن طاعتهم فيما لم يكن معصية- كما أشير إلى ذلك بعدم إعادة العامل- من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته من طاعة الله عز وجل؛ والعلماء من أولي الأمر أيضاً، وهم العاملون فإنهم يأمرون بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما أبان هذا الحكم الأصول الثلاثة أتبعها القياس، فسبب عما تقديره‏:‏ هذا في الأمور البينة من الكتاب والسنة والتي وقع الإجماع عليها، قوله‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء‏}‏ أي لإلباسه فاختلفت فيه آراؤكم ‏{‏فردوه إلى الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة بالتضرع بين يديه بما شرعه لكم من الدعاء والعبادة، ليفتح لكم ما أغلق منه ويهديكم إلى الحق منه ‏{‏والرسول‏}‏ أي الكامل الرسالة بالبحث عن آثار رسالته من نص في ذلك بعينه أو أولى قياس، ودلت الآية على ترتيب الأصول الأربعة على ما هو فيها وعلى إبطال ما سواها، وعلم من إفراده تعالى وجمع النبي صلى الله عليه وسلم مع أعلام أمته أن الأدب توحيد الله حتى في مجرد ذكره، وأكد البيان لدعوى الطاعة بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون‏}‏ أي دائمين على الإيمان بتجديده في كل أوان ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ الحامل على الطاعة الحاجز عن المعصية، ثم دل على عظمة هذا الأمر وعميم نفعه بقوله مخصصاً رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة ‏{‏خير‏}‏ أي وغيره شر ‏{‏وأحسن تأويلاً *‏}‏ أي عاقبة أو ترجيعاً ورداً من ردكم إلى ما يقتضيه قويم العقل من غير ملاحظة لآثار الرسالة من الكتاب والسنة، فإن في الأحكام ما لا يستقل عنهما قال‏:‏ «نزلت هذه الآية ‏{‏أطيعوا الله‏}‏ في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية» يعني فأمرهم أن يدخلوا في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير- كما أفهمه آخر الآية وأشعر به أولها بعد أن جمع الخلق على طاعته بالطريق الذي ذكره‏:‏ فمن أبى ذلك فليس بمؤمن، دل عليه بقوله معجباً مخاطباً لأكمل الخلق الذي عرفه الله المنافقين في لحن القول‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وأشار إلى بعدهم عن على حضرته بقوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين‏}‏ وإلى كذبهم ودوام نفاقهم بقوله‏:‏ ‏{‏يزعمون أنهم آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة وأوقعوها في أنفسهم ‏{‏بما أنزل إليك‏}‏ ودل على أن هذا الزاعم المنافق كان من أهل الكتاب قبل ادعاء الإسلام بقوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي ويزعمون أنهم آمنوا بما ‏{‏أنزل من قبلك‏}‏ أي من التوراة والإنجيل، قال الأصبهاني‏:‏ ولا يستعمل- أي الزعم- في الأكثر إلا في القول الذي لا يتحقق، يقال‏:‏ زعم فلان- إذا شك فيه فلم يعرف كذبه أو صدقه، والمراد أن هؤلاء قالوا قولاً هو عند من لا يعلم البواطن أهل لأن يشك فيه بدليل أنهم ‏{‏يريدون أن يتحاكموا‏}‏ أي هم وغرماؤكم ‏{‏إلى الطاغوت‏}‏ أي إلى الباطل المعرق في البطلان ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنهم قد ‏{‏أمروا‏}‏ ممن له الأمر ‏{‏أن يكفروا به‏}‏ في كل ما أنزل من كتابك وما قبله، ومتى تحاكموا إليه كانوا مؤمنين به كافرين بالله وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ويريد الشيطان‏}‏ بإرادتهم ذلك التحاكم ‏{‏أن يضلهم‏}‏ أي بالتحاكم إليه ‏{‏ضلالاً بعيداً *‏}‏ بحيث لا يمكنهم معه الرجوع إلى الهدى‏.‏ وهذه الآية سبب تسمية عمر رضي الله عنه بالفاروق لضربه عنق منافق لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة ذكرها الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

ولما ذكر ضلالهم بالإرادة ورغبتهم في التحاكم إلى الطاغوت، ذكر فعلهم فيه في نفرتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي من أي قائل كان ‏{‏تعالوا‏}‏ أي أقبلوا رافعين أنفسكم من وهاد الجهل إلى شرف العلم ‏{‏إلى ما أنزل الله‏}‏ أي الذي عنده كل شيء ‏{‏وإلى الرسول‏}‏ أي الذي تجب طاعته لأجل مرسله مع أنه أكمل الرسل الذين هم أكمل الخلق رسالة، رأيتهم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف الذي دل على كذبهم فيما زعموه من الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏رأيت المنافقين يصدون‏}‏ أي يعرضون ‏{‏عنك‏}‏ وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏صدوداً‏}‏ أي هو في أعلى طبقات الصدود‏.‏

ولما تسبب عن هذا تهديدهم، قال- مهولاً لوعيدهم بالإبهام والتعجيب منه بالاستفهام، معلماً بأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ولا يغني عنهم الاعتذار-‏:‏ ‏{‏فكيف‏}‏ أي يكون حالهم ‏{‏إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ أي عقوبة هائلة ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏ مما ذكرنا ومن غيره‏.‏

ولما كان الذي ينبغي أن يكون تناقضهم بعيداً لأن الكذب عند العرب كان شديداً؛ قال‏:‏ ‏{‏ثم جاءوك‏}‏ أي خاضعين بما لينت منهم تلك المصيبة حال كونهم ‏{‏يحلفون بالله‏}‏ أي الحاوي لصفات الكمال من الجلال والجمال غير مستحضرين لصفة من صفاته ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أردنا‏}‏ أي في جميع أحوالنا وبسائر أفعالنا ‏{‏إلا إحساناً وتوفيقاً *‏}‏ أي أن تكون الأمور على الوجه الأحسن والأوفق لما رأينا في ذلك مما خفي على غيرنا- وقد كذبوا في جميع ذلك‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى بعض ما يصدر منهم من التناقضات وهم غير محتشمين ولا هائبين، قال معلماً بشأنهم معلماً لما يصنع بهم‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء عن الخير ‏{‏الذين يعلم الله‏}‏ أي الحاوي لنعوت العظمة ‏{‏ما في قلوبهم‏}‏ أي من شدة البغض للإسلام وأهله وإن اجتهدوا في إخفائه عنه، ثم سبب تعليماً لما يصنع بهم وإعلاماً بأنهم لا يضرون إلا أنفسهم قوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي عن عقابهم وعن الخشية منهم وعن عتابهم، لأنهم أقل من أن يحسب لهم حساب ‏{‏وعظهم‏}‏ أي وإن ظننت أن ذلك لا يؤثر، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى يصطنعها لما أراد متى أراد ‏{‏وقل لهم في أنفسهم‏}‏ أي بسببها وما يشرح أحوالها ويبين نقائصها من نفائسها، أو خالياً معهم، فإن ذلك أقرب إلى ترقيقهم ‏{‏قولاً بليغاً *‏}‏ أي يكون في غاية البلاغة في حد ذاته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 68‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

ولما أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذم من حاكم إلى غيره وهدده، وختم تهديده بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنه والوعظ له، فكان التقدير‏:‏ فما أرسلناك وغيرك من الرسل إلا الرفق بالأمة والصفح عنهم والدعاء لهم على غاية الجهد والنصيحة، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، ودل على الإعراق في الاستغراق بقوله‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏ ولما كان ما يؤتيهم سبحانه وتعالى من الآيات ويمنحهم به من المعجزات حاملاً في ذاته على الطاعة شبهه بالحامل على إرساله فقال‏:‏ ‏{‏إلا ليطاع‏}‏ أي لأن منصبه الشريف مقتض لذلك آمر به داعٍ إليه ‏{‏بإذن الله‏}‏ أي بعلم الملك الأعظم الذي له الإحاطة بكل شيء في تمكينه من أن يطاع، لما جعلنا له من المزية بالصفات العظيمة والمناصب الجليلة والأخلاق الشريفة كما قال صلى الله عليه وسلم «ما من الأنبياء نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلو أطاعوك لكان خيراً لهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو أنهم إذ‏}‏ أي حين ‏{‏ظلموا أنفسهم‏}‏ أي بالتحاكم إلى الطاغوت أو غيره ‏{‏جاءوك‏}‏ أي مبادرين ‏{‏فاستغفروا الله‏}‏ أي عقبوا مجيئهم بطلب المغفرة من الملك الأكرم لما استحضروه له من الجلال ‏{‏واستغفر لهم الرسول‏}‏ أي ما فرطوا بعصيانه فيما استحقه عليهم من الطاعة ‏{‏لوجدوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏تواباً رحيماً *‏}‏ أي بليغ التوبة على عبيده والرحمة، لإحاطته بجميع صفات الكمال، فقبل توتبهم ومحا ذنوبهم وأكرمهم‏.‏

ولما أفهم ذلك أن إباءهم لقبول حكمه والاعتراف بالذنب لديه سبب مانع لهم من الإيمان، قال- مؤكداً للكلام غاية التأكيد بالقسم المؤكد لإثبات مضمونه و«لا» النافية لنقيضه‏:‏ ‏{‏فلا وربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي يوجدون هذا الوصف ويجددونه ‏{‏حتى يحكموك‏}‏ أي يجعلوك حكماً ‏{‏فيما شجر‏}‏ أي اختلط واختلف ‏{‏بينهم‏}‏ من كلام بعضهم لبعض للتنازع حتى كانوا كأغصان الشجر في التداخل والتضايق‏.‏

ولما كان الإذعان للحكم بما يخالف الهوى في غاية الشدة على النفس أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا يجدوا في نفسهم حرجاً‏}‏ أي نوعاً من الضيق ‏{‏مما قضيت‏}‏ أي عليهم به، وأكد إسلامهم لأنفسهم بصيغة التفعيل فقال‏:‏ ‏{‏ويسلموا‏}‏ أي يوقعوا التسليم البليغ لكل ما هو لهم من أنفسهم وغيرها لله ورسوله صلى الله عليه وسلم خالصاً عن شوب كره؛ ثم زاده تأكيداً بقوله‏:‏ ‏{‏تسليماً *‏}‏ وفي الصحيح أن الآية نزلت في الزبير وخصم له من الأنصار، فلا التفات إلى من قال‏:‏ إنه حاطب رضي الله عنه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فقد كتبنا عليهم طاعتك والتسيم لك في هذه الحنيفية السمحة التي دعوتهم إليها وحملتهم عليها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم‏}‏ أي هذا المخاصم للزبير رضي الله تعالى عنه وأشباه هذا المخاصم ممن ضعف إيمانه كتابة مفروضة ‏{‏إن اقتلوا أنفسكم‏}‏ أي كما كان في التوراة في كفارة بعض الذنوب مباشرة حقيقة، وكما فعل المهاجرون بتعريض أنفسهم لذلك ثلاث عشرة سنة، هم فيها عند أعداء الله مضغة لحم بين يدي نسور يتخاطفونها ‏{‏أو اخرجوا‏}‏ كما فعل المهاجرون- رضي الله تعالى عنهم- الذين الزبير من رؤوسهم ‏{‏من دياركم‏}‏ أي التي هي لأشباحكم كأشباحكم لأرواحكم- توبة لربكم ‏{‏ما فعلوه‏}‏ أي لقصور إيمانهم وضعف إيقانهم، ولو كتبناه عليهم ولم يرضوا به كفروا، فاستحقوا القتل‏.‏

ولما كان كل كدر لا يخلو عن خلاصه، قال‏:‏ ‏{‏إلا قليل منهم‏}‏ أي وهم العالمون بأن الله سبحانه وتعالى خير لهم من أنفسهم، وأن حياتهم إنما هي في طاعته؛ روي أن من هؤلاء ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه، قال‏:‏ أما والله‏!‏ إن الله ليعلم مني الصدق، لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلها‏!‏ وكذا قال ابن مسعود وعمار ابن ياسر رضي الله عنهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ والله لو أمرنا ربنا لفعلنا‏!‏ والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك‏.‏ ولا ريب في أن التقدير‏:‏ ولكنا لم نكتب عليهم فليشكروا لنا ويستمسكوا بهذه الحنيفية السمحة‏.‏

ولما كان مبنى السورة على الائتلاف وكان السياق للاستعطاف، قال مرغباً‏:‏ ‏{‏ولو أنهم‏}‏ أي هؤلاء المنافقين ‏{‏فعلوا ما يوعظون‏}‏ أي يجدد لهم الوعظ في كل حين ‏{‏به لكان‏}‏ أي فعلهم ذلك ‏{‏خيراً لهم‏}‏ أي مما اختاروه لأنفسهم ‏{‏وأشد تثبيتاً *‏}‏ أي مما ثبتوا به أنفسهم بالأيمان الحانثة ‏{‏وإذاً لآتيناهم‏}‏ أي وإذا فعلوا ما يوعظون به آتيناهم بما لنا من العظمة إيتاء مؤكداً لا مرية فيه‏.‏ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏من لدنا‏}‏ إلى أنه من غرائب ما عنده من خوارق خوارق العادات ونواقض نواقض المطردات ‏{‏أجراً عظيماً * ولهديناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏صراطاً مستقيماً *‏}‏ أي يوصلهم إلى مرادهم، وقد عظم سبحانه وتعالى هذا الأجر ترغيباً في الطاعة أنواعاً من العظمة منها التنبيه ب «إذا»، والإتيان بصيغة العظمة و«لدن» مع العظمة والوصف بالعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

ولما رغب في العمل بمواعظه، وكان الوعد قد يكون لغلظ في الموعوظ، وكان ما قدمه في وعظه أمراً مجملاً؛ رغب بعد ترقيقه بالوعظ في مطلق الطاعة التي المقام كله لها، مفصلاً إجمال ما وعد عليها فقال‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله‏}‏ أي في امتثال أوامره والوقوف عند زواجره مستحضراً عظمته- طاعة هي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏والرسول‏}‏ أي في كل ما أراده، فإن منصب الرسالة يقتضي ذلك، لا سيما من بلغ نهايتها ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة العظيمو الشرف ‏{‏مع الذين أنعم‏}‏ أي بما له من صفات الجلال والجمال ‏{‏عليهم‏}‏ أي معدود من حزبهم، فهو بحيث إذا أراد زيارتهم أو رؤيتهم وصل إليها بسهولة، لا أنه يلزم أن يكون في درجاتهم وإن كانت اعماله قاصرة‏.‏ ثم بينهم بقوله‏:‏ ‏{‏من النبيين‏}‏ أي الذين أنبأهم الله بدقائق الحكم، وأنبؤوا الناس بحلائل الكلم، بما لهم من طهارة الشيم والعلو والعظم ‏{‏والصديقين‏}‏ أي الذين صدقوا أول الناس ما أتاهم عن الله وصدقوا هم في أقوالهم وأفعالهم، فكانوا قدوة لمن بعدهم ‏{‏والشهداء‏}‏ أي الذين لم يغيبوا أصلاً عن حضرات القدس ومواطن الأنس طرفة عين، بل هم مع الناس بجسومهم ومع الله سبحانه وتعالى بحلومهم وعلومهم سواء شهدوا لدين الله بالحق، ولسواه بالبطلان بالحجة أو بالسيف، ثم قتلوا في سبيل الله ‏{‏والصالحين‏}‏ أي الذين لا يعتريهم في ظاهر ولا باطن بحول الله فساد أصلاً، وإلى هذا يشير كلام العارف الشيخ رسلان حيث قال‏:‏ ما صلحت ما دامت فيك بقية لسواه، وقد تجتمع الصفات الأربع في شخص وقد لا تجتمع، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أحق الأمة بالصديقية وإن قلنا‏:‏ إن علياً وزيداً رضي الله تعالى عنهما أسلما قبله، لأنه- لكبره وكونه لم يكن قبل الإسلام تابعاً للنبي صلى الله عليه وسلم- كان قدوة لغيره، ولذلك كان سبباً لإسلام ناس كثير وأولئك كانوا سبباً لإسلام غيرهم، فكان له مثل أجر الكل، وكان فيه حين إسلامه قوة الجهاد في الله سبحانه وتعالى بالمدافعة عن النبي صلى الله عليه وسلم- وغير ذلك من الأفعال الدالة على صدقه، ولملاحظة هذه الأمور كانت رتبتها تلي رتبة النبوة، ولرفع الواسطة بينهما وفق الله سبحانه وتعالى هذه الأمة التي اختارها بتولية الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ودفنه إلى جانبه، ومن عظيم رتبتهم تنويه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره بهم فقال‏:‏ «مع الرفيق الأعلى» روى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنهما قالت‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة»

، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحّة شديدة، فسمعته يقول‏:‏ ‏{‏مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏}‏ فعلمت أنه خيّر‏.‏

ولما أخبر أن المطيع مع هؤلاء، لم يكتف بما أفهم ذكرهم من جلالهم وجلال من معهم، بل زاد في بيان علو مقامهم ومقام كل من معهم بقوله‏:‏ ‏{‏وحسن‏}‏ أي وما أحسن ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الأخلاق السابقون يوم السباق ‏{‏رفيقاً *‏}‏ من الرفق، وهو لغة‏:‏ لين الجانب ولطافة الفعل وهو مما يستوي واحده وجمعه‏.‏ ثم أشار إلى تعظيم ما منحهم به مرغباً في العمل بما يؤدي إليه بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ذلك الفضل‏}‏ وزاد في الترغيب فيه بالإخبار عن هذا الابتداء بالاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏‏.‏

ولما كان مدار التفضيل على العلم، قال- بانياً على تقديره‏:‏ لما يعلم من صحة بواطنهم اللازم منها شرف ظواهرهم-‏:‏ ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏عليماً *‏}‏ يعلم من الظواهر والضمائر ما يستحق به التفضيل من فضله على غيره‏.‏

ولما دل على درجة الشهادة بعد ما ذكر من ثواب من قبل موعظته ولو في قتل نفسه، وذم من أبى ذلك بعد ما حذر من الأعداء من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين المخادعين، فتوفرت دواعي الراغبين في المكارم على ارتقابها؛ التفت إلى المؤمنين ملذذاً لهم بحسن خطابه نادباً إلى الجهاد مع الإرشاد إلى الاستعداد له مما يروع الأضداد، فقال سبحانه وتعالى- منبهاً بأداة البعد وصيغة المضي إلى أن الراسخ لا ينبغي له أن يحتاج إلى تنبيه على مثل هذا-‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف، فكان كالآلة له، وكان- لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات- مهملاً له، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه؛ قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏خذوا حذركم‏}‏ أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم‏:‏ المشاققين منهم والمنافقين ‏{‏فانفروا‏}‏ أي اخرجوا تصديقاً لما ادعيتم إلى جهادهم مسرعين ‏{‏ثبات‏}‏ أي جماعات متفرقين سرية في إثر سرية‏.‏ لا تملوا ذلك أصلاً ‏{‏أو انفروا جميعاً *‏}‏ أي عسكراً واحداً، ولا تخاذلوا تهلكوا، فكأنه قال‏:‏ خففت عنكم قتل الأنفس على الصفة التي كتبتها على من قبلكم، ولم آمركم إلا بما تألفونه وتتمادحون به فيما بينكم وتذمون تاركه، من موارد القتال الذي هو مناهج الأبطال، ومشارع فحول الرجال، وجعلت للباقي منكم المحبوبين من الظفر وحل المغنم، وللماضي أحب المحبوب، وهو الدرجة التي ما بعدها إلا درجة النبوة، مع أنه لم ينقص من أجله شيء، ولو لم يقتل في ذلك السبيل المرضى لقتل في غيره في ذلك الوقت‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن منكم الخارج إلى الجهاد عن غير حزم ولا حذر، عطف عليه قوله- مبيناً لما هو من أجلّ مقاصد هذه الآيات من تبكيت المنافقين للتحذير منهم، ووصفهم ببعض ما يخفون، مؤكداً لأن كل ما ادعى الإيمان ينكر أن يكون كذلك-‏:‏ ‏{‏وإن منكم‏}‏ أي يا أيها الذين آمنوا وعزتنا ‏{‏لمن ليبطئن‏}‏ أي يتثاقل في نفسه عن الجهاد لضعفه في الإيمان أو نفاقه، ويأمر غيره بذلك أمراً مؤكداً إظهاراً للشفقة عليكم وهو عين الغش فإنه يثمر الضعف المؤدي إلى جرأة العدو المفضي إلى التلاشي‏.‏

ولما كان لمن يتثاقل عنهم حالتا نصر وكسر، وسبب عن تثاقله مقسماً لقوله فيهما‏:‏ ‏{‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏ أي في وجهكم الذي قعدوا عنه ‏{‏قال‏}‏ ذلك القاعد جهلاً منه وغلظة ‏{‏قد أنعم الله‏}‏ أي الملك الأعظم، ذاكراً لهذا الاسم غير عارف بمعناه ‏{‏عليّ إذ‏}‏ أي حين، أو لأني ‏{‏لم أكن معهم شهيداً *‏}‏ أي حاضراً، ويجوز أن يريد الشهيد الشرعي، ويكون إطلاقه من باب التنزل، فكأنه يقول‏:‏ هذا الذي هو أعلى ما عندهم أعدُّ فواته مني نعمة عظيمة ‏{‏ولئن أصابكم فضل‏}‏ أي فتح وظفر وغنيمة ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي كل شيء بيده‏.‏

ولما كان تحسره إنما هو على فوات الأغراض الدنيوية أكد قوله‏:‏ ‏{‏ليقولن‏}‏ أي في غيبتكم، واعترض بين القول ومقوله تأكيداً لذمهم بقوله‏:‏ ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنه ‏{‏لم‏}‏ أي مشبهاً حاله حال من لم ‏{‏يكن بينكم وبينه مودة‏}‏ أي بسبب قوله‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز‏}‏ أي بمشاركتهم في ذلك ‏{‏فوزاً عظيماً *‏}‏ وذلك لأنه لو كان ذا مودة لقال حال المصيبة‏:‏ يا ليتها لم تصبهم‏!‏ ولو كنت معهم لدافعت عنهم‏!‏ وحال الظفر‏:‏ لقد سرني عزهم، ولكنه لم يجعل محط همه في كلتا الحالتين غير المطلوب الدنيوي، ولعله خص الحالة الثانية بالتشبيه لأن ما نسب إليه فيها لا يقتصر عليه محب، وأما الحالة الأولى فربما اقتصر المحب فيها على ذلك قصداً للبقاء لأخذ الثأر ونكال الكفار، وذكر المودة لأن المنافقين كانوا يبالغون في إظهار الود والشفقة والنصيحة للمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 77‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

ولما بين أن محط حال القاعد عن الجهاد الدنيا، علم أن قصد المجاهد الآخرة، فسبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فليقاتل في سبيل الله‏}‏ أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له الأمر كله وحفظ الناس عليه ‏{‏الذين يشرون‏}‏ أي يبيعون برغبة ولجاجة وهم المؤمنون، أو يأخذون وهم المنافقون- استعمالاً للمشترك في مدلوليه ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ فيتركونها ‏{‏بالآخرة‏}‏ ولما كان التقدير‏:‏ فإنه من قعد عن الجهاد فقد رضي في الآخرة بالدنيا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يقاتل في سبيل الله‏}‏ أي فيريد إعلاء كلمة الملك المحيط بصفات الجمال والجلال ‏{‏فيقتل‏}‏ أي في ذلك الوجه وهو على تلك النية بعد أن يغلب القضاء والقدر على نفسه ‏{‏أو يغلب‏}‏ أي الكفار فيسلم ‏{‏فسوف نؤتيه‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه بما لنا من العظمة المحيطة بالخير والشر، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكرُ القتل أولاً دليل على السلامة ثانياً، وذكر الغالبية ثانياً دليل على المغلوبية أولاً؛ وربما دل التعبير بسوف على طول عمر المجاهد غالباً خلافاً لما يتوهمه كثير من الناس- إعلاماً بأن المدار على فعل الفاعل المختار، لا على الأسباب ‏{‏أجراً عظيماً *‏}‏ أي في الدارين على اجتهاده في إعزاز دين الله سبحانه وتعالى، واقتصاره على هذين القسمين حث على الثبات ولو كان العدو أكثر من الضعف ‏{‏فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏ ‏{‏والله يؤيد بنصره من يشاء‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ والله مع الصابرين‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما لكم لا تقاتلون في سبيل الله لهذا الأجر الكثير ممن لا يخلف الميعاد، وكانوا يقولون‏:‏ إنا لا نعطي الميراث إلا لمن يحمي الذمار، ويذب عن الجار، ويمنع الحوزة؛ قال عاطفاً على هذا المقدر ملهباً لهم ومهيجاً، ومبكتاً للقاعدين وموبخاً‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وأي شيء ‏{‏لكم‏}‏ من دنيا آو آخره حال كونكم ‏{‏لا تقاتلون‏}‏ أي تجددون القتال في كل وقت، لا تملونه ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي بسبب تسهيل طريق الملك الذي له العظمة الكاملة والغنى المطلق وبسبب خلاص ‏{‏والمستضعفين‏}‏ أي المطلوب من الكفار ضعفهم حتى صار موجوداً، ويجوز- وهو أقعد- أي يكون منصوباً على الاختصاص تنبيهاً على أنه من أجل ما في سبيل الله‏.‏

ولما كان الإنكاء من هذا ما لمن كان رجاء نفعه أعظم، ثم ما لمن يكون العار به أقوى وأحكم؛ رتبهم هذا الترتيب فقال‏:‏ ‏{‏من الرجال والنساء والولدان‏}‏ أي المسلمين الذين حبسهم الكفار عن الهجرة، وكانوا يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وكل منهما كافٍ في بعث ذوي الهمم العالية والمكارم على القتال، ثم وصفهم بما يهيج إلى نصرهم ويحث على غياثهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يقولون‏}‏ أي لا يفترون ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا بإخراجنا من الظلمات إلى النور ‏{‏أخرجنا من هذه القرية‏}‏ ثم وصفوها بالحامل على هذا الدعاء فقالوا‏:‏ ‏{‏الظالم أهلها‏}‏ أي بما تيسره لنا من الأسباب ‏{‏واجعل لنا من لدنك‏}‏ أي من أمورك العجيبة في الأمور الخارقة للعادات ‏{‏ولياً‏}‏ يتولى مصالحنا‏.‏

ولما كان الولي قد لا يكون فيه قوة النصر قالوا‏:‏ ‏{‏واجعل لنا‏}‏ ولما كانوا يريدون أن يأتيهم خوارق كرروا قولهم‏:‏ ‏{‏من لدنك نصيراً *‏}‏ أي بليغ النصر إلى حد تعجب منه المعتادون للخوارق، فكان بهذا الكلام كأنه سبحانه وتعالى قال‏:‏ قد جعلت لكم الحظ الأوفر من الميراث، فما لكم لا تقاتلون في سبيلي شكراً لنعمتي وأين ما تدّعون من الحمية والحماية‏!‏ ما لكم لا تقاتلون في نصر هؤلاء الضعفاء لتحقق حمايتكم للذمار ومنعكم للحوزة وذبكم عن الجار‏!‏‏.‏

ولما أخبر عن افتقارهم إلى الأنصار وتظلمهم من الكفار، استأنف الإخبار عن الفريقين فقال مؤكداً للترغيب في الجهاد‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي صدقوا في دعواهم الإيمان ‏{‏يقاتلون‏}‏ أي تصديقاً لدعواهم من غير فترة أصلاً ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال قاصدين وجهه بحماية الذمار وغيره، وأما من لم يصدق دعواه بهذا فما آمن ‏{‏والذين كفروا يقاتلون‏}‏ أي كذلك ‏{‏في سبيل الطاغوت‏}‏ فلا ولي لهم ولا ناصر‏.‏

ولما كان الطاغوت الشيطان أو من زينه الشيطان، وكان كل من عصى الله منه وممن أغواه حقيراً؛ سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أولياء الشيطان‏}‏ ثم علل الجرأة عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن كيد الشيطان‏}‏ أي الذي هو رأس العصاة ‏{‏كان‏}‏ جبلة وطبعاً ‏{‏ضعيفاً *‏}‏‏.‏

ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية، وختم بما ينهض الجبان، ويقوي الجنان، ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان؛ عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان، فقال تعالى مقبلاً بالخطاب على أعبد خلقه وأطوعهم لأمره‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته تنهيضاً لهم بقوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين قيل لهم‏}‏ أي جواباً لقولهم‏:‏ إنا نريد أن نبسط ايدينا إلى الكفار بالقتال لأن امتحاننا بهم قد طال ‏{‏كفوا أيديكم‏}‏ أي ولا تبسطوها إليهم فإنا لم نأمر بهذا ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق ‏{‏وأتوا الزكاة‏}‏ منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق ‏{‏فلما كتب عليهم القتال‏}‏ أي الذي طلبوه وهم يؤمرون بالصفح، كتابة لا تنفك إلى آخر الدهر ‏{‏إذا فريق منهم‏}‏ أي ناس تلزم عن فعلهم الفرقة، فأحبوا هذه الكتب بأنهم ‏{‏يخشون الناس‏}‏ أي الذين هم مثلهم، أن يضروهم، والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجراً منهم وهم ناس مثلهم ‏{‏كخشية الله‏}‏ أي مثل ما يخشون الله الذي هو القادر لا غيره‏.‏

ولما كان كفهم عن القتال شديداً يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس وخوفهم من الله، عبر بأداة الشك فقال‏:‏ ‏{‏أو أشد خشية‏}‏ أي أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم من الله، فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزماً بل إما مثله أو أشد منه؛ وقد يكون الإبهام لتفاوت بالنسبة إلى وقتين، فيكون خوفهم منه في وقت متساوياً، وفي آخر أزيد، فهو متردد بين هذين الحالين؛ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما‏.‏

وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ جزعاً من الموت أو المتاعب- إن كانوا مؤمنين، أو اعتراضاً- إن كانوا منافقين، على تقدير صحة ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا القريب منا ‏{‏لم كتبت علينا القتال‏}‏ أي ونحن الضعفاء ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ‏{‏أخرتنا‏}‏ أي عن الأمر بالقتال ‏{‏إلى أجل قريب‏}‏ أي لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة، «وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص وجماعة رضي الله عنهم كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهاجروا، ويقولون‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم» حكاه البغوي عن الكلبي، وحكاه الواحدي عنه بنحوه، وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال‏:‏» إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم «فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله عز وجل ‏{‏ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم‏}‏» الآية‏.‏ وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال حال من يقول ذلك، فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال وتهييجهم، ليس غير‏.‏

ولما عجب عليه الصلاة والسلام منهم إنكاراً عليهم كان كأنه قال‏:‏ فما أقول لهم‏؟‏ أمره بوعظهم وتضليل عقولهم وتقييل أرائهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل‏}‏ أي ولو فرض أنه مدّ في آجالكم إلى أن تملوا الحياة، فإن كل منقطع قليل، مع أن نعيمها غير محقق الحصول، وإن حصل كان منغصاً بالكدورات ‏{‏والآخرة خير لمن اتقى‏}‏ أي لأنها لا يفنى نعيمها مع أنه محقق ولا كدر فيه، وهي شر من الدنيا لمن لم يتق، لأن عذابها طويل لا يزول ‏{‏ولا تظلمون فتيلاً *‏}‏ أي لا في دنياكم بأن تنقص آجالكم بقتالكم، ولا أرزاقكم باشتغالكم، ولا في آخرتكم بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة، لأنه سبحانه وتعالى حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، ولا يفعل شيئاً إلا على قانون الحكمة، فما لكم تقولون قول المتهم‏:‏ لم فعلت‏؟‏ أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم وفي نقص الرزق والعمر‏؟‏ أتخشون الظلم في إيجاب العدل وله أن يفعل ما شاء،

‏{‏لا يسئل عما يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل‏.‏