فصل: تفسير الآيات رقم (78- 81)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 81‏]‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏81‏)‏‏}‏

ولما زهدهم في دار المتاعب والأكدار على تقدير طول البقاء، وكانوا كأنهم يرجون بترك القتال الخلود، أو تأخير موت يسببه القتال؛ نبههم على ما يتحققون من أن المنية منهل لا بد من وروده في الوقت الذي قدر له وإن امتنع الإنسان منه في الحصون، أو رمى نفسه في المتألف فقال تعالى- مبكتاً من قال ذلك، مؤكداً بما النافية لنقيض ما تضمنه الكلام لأن حالهم حال من ينكر الموت بغير القتال، مجيباً بحاق الجواب بعد ما أورد الجواب الأول على سبيل التنزل-‏:‏ ‏{‏أينما تكونوا‏}‏ أيها الناس كلكم مطيعكم وعاصيكم ‏{‏يدرككم الموت‏}‏ أي فإنه طالب، لا يفوته هارب ‏{‏ولو كنتم في بروج‏}‏ أي حصون برج داخل برج، أو كل واحد منكم في برج‏.‏

ولما كان ذلك جمعاً ناسب التشديد المراد به الكثرة في ‏{‏مشيّدة‏}‏ أي مطولة، كل واحد منها شاهق في الهواء منيع، وهو مع ذلك مطلي بالشيد أي بالجص، فلا خلل فيه أصلاً، ويجوز أن يراد بالتشيد مجرد الإتقان، يعني أنها مبالغ في تحصينها- لأن السياق أيضاً يقتضيه، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يكون في الجهاد الذي يستعقب السعادة الأبدية أولى من أن يكون في غيره‏.‏

ثم عطف ما بقي من أقوالهم على ما سلف منها في قوله‏:‏ ‏{‏ربنا لم كتبت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏ إلى آخره وإن كان هذا الناس منهم غير الأولين، ويجوز أن يقال‏:‏ إنه لما أخبر أن الحذر لا يغني من القدر أتبع ذلك حالاً لهم مبكتاً به لمن توانى في أمره، مؤذناً بالالتفات إلى الغيبة إعراضاً عن خطابهم ببعض غضب، لأنهم جمعوا إلى الإخلال بتعظيمهم لله تعالى الإخلال بالأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ليطاع بإذن الله فقال‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي قالوا ذلك والحال أنه إن ‏{‏تصبهم‏}‏ أي بعض المدعوّين من الأمة، وهم من كان في قلبه مرض ‏{‏حسنة‏}‏ أي شيء يعجبهم، ويحسن وقعه عندهم من أي شيء كان ‏{‏يقولوا هذه من عند الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، لا دخل لك فيها ‏{‏وإن تصبهم سيئة‏}‏ أي حالة تسوءهم من أي جهة كانت ‏{‏يقولوا هذه من عندك‏}‏ أي من جهة حلولك في هذا البلد تطيراً بك‏.‏

ولما كان هذا أمراً فادحاً، وللفؤاد محرقاً وقادحاً، سهل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏قل كل‏}‏ أي من السيئة والحسنة في الحقيقة دنيوية كانت أو أخروية ‏{‏من عند الله‏}‏ أي الذي له كل شيء، ولا شيء لغيره، وذلك كما قالوا لما مات أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار رضي الله تعالى عنه عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم- كما في السيرة-‏:‏

«بئس الميت أبو أمامة ليهود ومنافقي العرب‏!‏ يقولون‏:‏ لو كان نبياً لم يمت صاحبه، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئاً»‏.‏ ولما تسبب عن هذا معرفة أنهم أخطؤوا في ذلك، فاستحقوا الإنكار قال منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ وحقرهم بقوله‏:‏ ‏{‏لهؤلاء‏}‏ وكأنه قال‏:‏ ‏{‏القوم‏}‏ الذي هو دال على القيام والكفاية، إما تهكماً بهم، وإما نسبة لهم إلى قوة الأبدان وضعف المكان ‏{‏لا يكادون يفقهون‏}‏ لا يقربون من أن يفهموا ‏{‏حديثاً *‏}‏ أي يلقي إليهم أصلاً فهما جيداً‏.‏

ولما أجابهم بما هو الحق إيجاداً علمهم ما هو الأدب لماحظة السبب فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة‏}‏ اي نعمة دنيوية أو أخروية ‏{‏فمن الله‏}‏ أي إيجاداً وفضلاً، والإيمان أحسن الحسنات، قال الإمام‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ إنهم اتفقوا على أن قوله ‏{‏ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 33‏]‏ المراد به كلمة الشهادة ‏{‏وما أصابك‏}‏ وأنت خير الخلق ‏{‏من سيئة‏}‏ أي بلاء ‏{‏فمن نفسك‏}‏ أي بسببها فغيرك بطريق الأولى‏.‏

ولما اقتضى قولهم إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم إلا أن فعل كل خارق، وأخبر سبحانه وتعالى بأنه مستو مع الخلق في القدرة قال سبحانه وتعالى مخبراً بما اختصه به عنهم‏:‏ ‏{‏وأرسلناك‏}‏ أي مختصين لك بعظمتنا ‏{‏للناس‏}‏ أي كافة ‏{‏رسولاً‏}‏ أي تفعل ما على الرسل من البلاغ ونحوه، وقد اجتهدت في البلاغ والنصيحة، ولم نجعلك إلهاً تأتي بما يطلب منك من خير وشر، فإن أنكروا رسالتك فالله يشهد بنصب المعجزات والآيات البينات ‏{‏وكفى بالله‏}‏ المحيط علماً وقدرة ‏{‏شهيداً *‏}‏ لك بالرسالة والبلاغ‏.‏ ولما نفى عللهم في التخلف عن طاعته إلى أن ختم بالشهادة برسالته؛ قال مرغباً مرهباً على وجه عام يسكن قلبه، ويخفف من دوام عصيانهم له، دالاً على عصمته في جميع حركاته وسكناته‏:‏ ‏{‏من يطع الرسول‏}‏ أي كما هو مقتضى حاله ‏{‏فقد أطاع الله‏}‏ الملك الأعظم الذي لا كفوء له، لأنه داع إليه، وهو لا ينطق عن الهوى، إنما يخبر بما يوحيه إليه ‏{‏ومن تولى‏}‏ أي عن طاعته‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنما عصى الله‏.‏ والله سبحانه وتعالى عالم به وقادر عليه، فلو راد لرده ولو شاء لأهلكه بطغيانه، فاتركه وذاك‏!‏ عبر عن ذلك كله بقوله‏:‏ ‏{‏فما أرسلناك‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏عليهم حفيظاً‏}‏ إنما أرسلناك داعياً‏.‏

ولما كان من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفظ من أطاعه ومن عصاه ليبلغ ذلك من أرسله، وكان سبحانه وتعالى قد أشار له إلى الإعراض عن ذلك، لكونه لا يحيط بذلك علماً وإن اجتهد؛ شرع يخبره ببعض ما يخفونه فقال حاكياً لبعض أقوالهم مبيناً لنفاقهم فيه وخداعهم ‏{‏ويقولون‏}‏ أي إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك ‏{‏طاعة‏}‏ أي كل طاعة منا لك دائماً، نحن ثابتون على ذلك، والتنكير للتعظيم بالتعميم ‏{‏فإذا برزوا‏}‏ أي خرجوا ‏{‏من عندك بيَّت طائفة‏}‏ هم في غاية التمرد ‏{‏منهم‏}‏ أي قدرت وزورت على غاية من التقدير والتحرير مع الاستدارة والتقابل كفعل من يدبر الأمور ويحكمها ويتقنها ليلاً ‏{‏غير الذي تقول‏}‏ أي تجدد قوله لك في كل حين من الطاعة التي أظهروها أو غير قولك الذي بلغته لهم، وأدغم أبو عمرو وحمزة التاء بعد تسكينها استثقالاً لتوالي الحركات في الطاء لقرب المخرجين، والطاء تزيد بالإطباق، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد؛ وأظهر الباقون، والإدغام أوفق لحالهم، والإظهار أوفق لما فصح من محالهم‏.‏

ولما كان الإنسان من عادته إثبات الأمور التي يريد تخليدها بالكتابة أجرى الأمر على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الملك المستجمع لصفات الكمال ‏{‏يكتب ما يبيتون‏}‏ أي يجددون تبييته كلما فعلوه، وهو غني عنه ولكن ذلك ليقربهم إياه يوم يقوم الأشهاد، ويقيم به الحجة عليهم على ما جرت به عاداتهم، أو يوحى به إليك فيفضحهم بكتابته وتلاوته مدى الدهر، فلا يظنوا أن تبييتهم يغنيهم شيئاً‏.‏

ولما تسبب عن ذلك كفايته صلى الله عليه وسلم هذا المهم قال‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي فإنهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم ‏{‏وتوكل‏}‏ أي في شأنهم وغيره ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي لا يخرج شيء عن مراده ‏{‏وكفى بالله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏وكيلاً *‏}‏ فستنظر كيف تكون العاقبة في أمرك وأمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 84‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏83‏)‏ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ‏(‏84‏)‏‏}‏

ولما كان سبب إبطانهم خلاف ما يظهرونه اعتقاد أنه صلى الله عليه وسلم رئيس، لا يعلم إلا ما أظهروه، لا رسول من الله الذي يعلم السر وأخفى؛ سبب عن ذلك على وجه الإنكار إرشادهم إلى الاستدلال على رسالته بما يزيح الشك ويوضح الأمر، وهو تدبر هذا القرآن المتناسب المعاني المعجز المباني، الفائت لقوى المخاليق، المظهر لخفاياهم على اجتهادهم في إخفائها، فقال سبحانه وتعالى دالاً على وجوب النظر في القرآن والاستخراج للمعاني منه‏:‏ ‏{‏أفلا يتدبرون‏}‏ أي يتأملون، يقال‏:‏ تدبرت الشيء- إذا تفكرت في عاقبته وآخر أمره ‏{‏القرآن‏}‏ أي الجامع لكل ما يراد علمه من تمييز الحق من الباطل على نظام لا يختل ونهج لا يمل؛ قال المهدوي‏:‏ وهذا دليل على وجوب تعلم معاني القرآن وفساد قول من قال‏:‏ لا يجوز أن يؤخذ منه إلا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنع أن يتأول على ما يسوغه لسان العرب، وفيه دليل على النظر والاستدلال‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلو كان من عند غير الله لم يخبر بأسرارهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو كان من عند غير الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة- كما زعم الكفار ‏{‏لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً *‏}‏ أي في المعنى بالتناقض والتخلف عن الصدق في الإخبار بالمغيبات أو بعضها، وفي النظم بالتفاوت في الإعجاز؛ فإذا علموا أنه من عند الله بهذا الدليل القطعي حفظوا سرائرهم كما يحفظون علانياتهم، لأن الأمر بالطاعة مستوٍ عند السر والعلن؛ والتقيد بالكثير يفيد أن المخلوق عاجز عن التحرز من النقص العظيم بنفسه، وإفهامه- عند استثناء نقيض التالي- وجود الاختلاف اليسير فيه تدفعه الصرائح‏.‏

ولما أمر سبحانه وتعالى بالنفر إلى الجهاد على الحزم والحذر، وأولاه الإخبار بأن من الناس المغرر والمخذل تصريحاً بالثاني وتلويحاً إلى الأول، وحذر منهما ومن غيرهما إلى أن ختم بأمر الماكرين، وبأن القرآن قيم لا عوج فيه؛ ذكر أيضاً المخذلين والمغررين على وجه أصرح من الأول مبيناً ما ان عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا جاءهم‏}‏ أي هؤلاء المزلزلين ‏{‏أمر من الأمن‏}‏ من غير ثبت ‏{‏أو الخوف‏}‏ كذلك ‏{‏أذاعوا‏}‏ أي أوقعوا الإذاعة لما يقدرون عليه من المفاسد ‏{‏به‏}‏ أي بسببه نم غير علم منهم بصدقه من كذبه، وحقه من باطله، ومتفقه من مختلفه، فيحصل الضرر البالغ لأهل الإسلام، أقله قلب الحقائق؛ قال في القاموس‏:‏ أذاعه وبه‏:‏ أفشاه ونادى به في الناس‏.‏ وذلك كما قالوا في أمر الأمن حين انهزم أهل الشرك بأحد، فتركوا المركز الذي وضعهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالفوا أمره وأمر أميرهم، فكان سبب كرة المشركين وهزيمة المؤمنين، وفي أمر الخوف حين صاح الشيطان‏:‏ إن محمداً قد قتل، فصدقوه وأذاعه بعضهم لبعض، وانهزموا وأرادوا الاستجارة بالكفار من أبي سفيان وأبي عامر، وكذا ما أشاعوه عند الخروج إلى بدر الموعد من أن أبا سفيان قد جمع لهم ما لا يحصى كثرة، وأنهم إن لقوة لم يبق منهم أحد- إلى غير ذلك من الإرجاف إلى أن صارت المدينة تفور بالشر فوران المرجل، حتى أحجموا كلهم- أو إلا أقلهم- حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«والله لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد» فاستجابوا حينئذ، وأكسبهم هذا القول شجاعة وأنالهم طمأنينة، فرجعوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء كما وعدهم الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إن صبروا واتقوا، فكذب ظنهم وصدق الله ورسوله، وفي هذا إرشاد إلى الاستدلال على كون القرآن من عنده سبحانه وتعالى بما يكذب من أخبارهم هذه التي يشيعونها ويختلف، وأن ما كان من غيره تعالى فمختلف- وإن تحرى فيه متشبه- وإن دل عقله وتناهي نبله إلا أن استند عقله إلى ما ورد عن العالم بالعواقب، المحيط بالكوائن على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وإلى أن القياس حجة‏.‏ وأن تقليد القاصر للعالم واجب، وأن الاستنباط واجب على العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم رأس العلماء، وإلى ذلك يومي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو ردوه‏}‏ أي ذلك الأمر الذي لا نص فيه من قبل أن يتكلموا به ‏{‏إلى الرسول‏}‏ أي نفسه إن كان موجوداً، وأخباره إن كان مفقوداً ‏{‏وإلى أولي الأمر منهم‏}‏ أي المتأهلين لأن يأمروا وينهوا من الأمراء بالفعل أو بالقوة من العلماء وغيرهم ‏{‏لعلمه‏}‏ أي ذلك الأمر على حقيقته وهل هو مما يذاع أو لا ‏{‏الذين يستنبطونه‏}‏ أي يستخرجونه بفطنتهم وتجربتهم كما يستخرج الإنباط المياه ومنافع الأرض ‏{‏منهم‏}‏ أي من الرسول وأولي الأمر‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلولا فضل الله عليكم ورحمته بالرسول وورّاث علمه لاستبيحت بإشاعاتهم هذه بيضة الدين واضمحلت أمور المسلمين؛ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏ أي أيها المتسمون بالإسلام بإنزال الكتاب وتقويم العقول ‏{‏ورحمته‏}‏ بإرسال الرسول ‏{‏لاتبعتم الشيطان‏}‏ أي المطرود المحترق ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ أي منكم فإنهم لا يتبعونه حفظاً من الله سبحانه وتعالى بما وهبهم من صحيح العقل من غير واسطة رسول؛ وهذه الآية من المواضع المستصعبة على الأفهام بدون توقيف على المراد بالفضل إلا عند من آتاه الله سبحانه وتعالى علماً بالمناسبات، وفهماً ثاقباً بالمراد بالسياقات، وفطنة بالأحوال والمقامات تقرب من الكشف، وذلك أن من المقرر أنه لا بد من مخالفة حكم المستثنى لحكم المستثنى منه وهو هنا من وجد عليهم الفضل والرحمة فاهتدوا ومخالفة المستثنى لهم تكون بأحد أمور ثلاثة كل منها فاسد، إما بأن يعدموا الفضل فيتبعوه، ويلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي، وهو خلاف المشاهد؛ أو بأن يعدموه فلا يتبعوه، فيكونوا مهتدين من غير فضل؛ أو بأن يوجد عليهم الفضل فيتبعوه، فيكونوا ضالين مع الفضل والرحمة اللذين كانا سبباً في امتناع الضلال عن المخاطبين‏.‏

فيكونان تارة مانعين، وتارة غير مانعين، فلم يفيدا إذن مع أن أيضاً يلزم عليه أن يكون الضال أقل من المهتدي؛ فإذا حمل الكلام على أن المراد بالفضل الإرسال وضح المعنى ويكون التقدير‏:‏ ولولا إرسال الرسول لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنهم لا يتبعونه من غير إرشاد الرسول، بل بهداية من الله سبحانه وتعالى وفضل بلا واسطة كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل؛ والدليل على هذا المقدر أن السياق لرد الأشياء كلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمنع من الاستقلال بشيء دونه‏.‏

ولما بين سبحانه وتعالى نفاقهم المقتضي لتقاعدهم عن الجهاد بأنفسهم وتنشيطهم لغيرهم، كان ذلك سبباً لأن يمضي صلى الله عليه وسلم لأمره سبحانه وتعالى من غير التفات إليهم وافقوا أو نافقوا، فقال سبحانه وتعالى بعد الأمر بالنفر ثبات وجميعاً، وبيان أن منهم المبطئ، مشيراً إلى أن الأمر باق وإن بطّأ الكل‏:‏ ‏{‏فقاتل في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولو كنت وحدك‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فما أفعل فيمن أرسلت إليهم إن لم يخرجوا‏؟‏ قال- معلماً بأنه قد جعله أشجع الناس وأعلمهم بالحروب وتدبيرها، وهو مع تأييده بذلك قد تكفل بنصرته ولم يكله إلى أحد-‏:‏ ‏{‏لا تكلف إلا نفسك‏}‏ أي ليس عليك إثم أتباعك لو تخلفوا عنك، وقد أعاذهم الله سبحانه وتعالى من ذلك، ولا ضرر عليك في الدنيا أيضاً من تخليهم، فإن الله سبحانه وتعالى ناصرك وحده، وليس النصر إلا بيده سبحانه وتعالى، وما كان سبحانه وتعالى ليأمره بشيء إلا وهو كفوء له، فهو ملئ بمقاتلة الكفار كلهم وحده وإن كانوا أهل الأرض كلهم، ولقد عزم في غزوة بدر الموعد- التي قيل‏:‏ إنها سبب نزول هذه الآية- على الخروج إلى الكفار ولو لم يخرج معه أحد؛ وقد اقتدى به صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه في قتال أهل الردة فقال للصحابة رضي الله تعالى عنهم‏:‏ والله لو لم أجد إلا هاتين- يعني ابنتيه‏:‏ عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما- لقاتلتهم بهما‏.‏

ولما كان ذلك قد يفتر عن الدعاء قال‏:‏ ‏{‏وحرض المؤمنين‏}‏ أي مرهم بالجهاد وانههم عن تركه وعن مواصلة كل من يثبطهم عنه وعظمهم واجتهد في أمرهم حتى يكونوا مستعدين للنفر متى ندبوا حتى كأنهم لشدة استعدادهم حاضرون في الصف دائماً‏.‏ ثم استأنف الذكر لثمرة ذلك فقال‏:‏ ‏{‏عسى الله‏}‏ أي الذي استجمع صفات الكمال ‏{‏أن يكف‏}‏ بما له من العظمة ‏{‏بأس الذين كفروا‏}‏ أي عن أن يمنعوك من إظهار الدين بقتالك وقتال من تحرضه، ولقد فعل سبحانه وتعالى ذلك، فصدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، حتى ظهر الدين، ولا يزال ظاهراً حتى يكون آخر ذلك على يد عيسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان السامع ربما فهم أنه لا يتأتى كفهم إلا بذلك، قال ترغيباً وترهيباً واحتراساً‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي لا مثل له ‏{‏أشد بأساً‏}‏ أي عذاباً وشدة من المقاتِلين والمقاتَلين ‏{‏وأشد تنكيلاً *‏}‏ أي تعذيباً بأعظم العذاب، ليكون ذلك مهلكاً للمعذب ومانعاً لغيره عن مثل فعله؛ قال الإمام أبو عبد الله القزاز‏:‏ يقال‏:‏ نكلته تنكيلاً- إذا عملت به عملاً يكون نكالاً لغيره، أي عبرة فيرجع عن المراد من أجله، وهو أن الناظر إليه والذي يبلغه ذلك يخاف أن يحل به مثله، أي فيكون له ذلك قيداً عن الإقدام؛ والنكل- بالكسر‏:‏ القيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏88‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك موجباً للرغبة في طاعة النبي صلى الله عليه وسم لا سيما في الجهاد، وللرغبة فيمن كان بصفة المؤمنين من الإقبال على الطاعة، والإعراض عن كل من كان بصفة المنافقين، والإدامة لطردهم وإبعادهم والغلظة عليهم والحذر من مجالستهم حتى يتبين إخلاصهم، وكان بين كثير من خلص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينهم قرابات توجب العطف المقتضي للشفقة عليهم، الحاملة للشفاعة فيهم، إما بالإذن في التخلف عن الجهاد لما يزخرفون القول من الأعذار الكاذبة، أو في العفو عنهم عند العثور على نقائصهم، أو في إعانتهم أو إعانة غيرهم بالمال والنفس في أمر الجهاد عند ادعاء أن المانع له عنه العجز- وفي غير ذلك، وكانت التوبة معروضة لهم ولغيرهم، وكان البر ما سكن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر، والإنسان على نفسه بصيرة، وكانت البواطن لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان الإنسان ربما أظهر شراً في صورة خير؛ رغب سبحانه وتعالى في البر، وحذر من الإثم بقوله- معمماً مستأنفاً في جواب من كأنه قال‏:‏ أما تقبل فيهم شفاعة-‏:‏ ‏{‏من يشفع‏}‏ أي يوجد ويجدد، كائناً من كان، في أي وقت كان ‏{‏شفاعة حسنة‏}‏ أي يقيم بها عذر المسلم في كل ما يجوز في الدين ليوصل إليه خيراً، أو يدفع عنه ضيراً ‏{‏يكن له نصيب منها‏}‏ بأجر تسببه في الخير ‏{‏ومن يشفع‏}‏ كائناً من كان، في أي زمان كان ‏{‏شفاعة سيئة‏}‏ أي بالذب عن مجرم في أمر لا يجوز، والتسبب في إعلائه وجبر دائه؛ وعظّم الشفاعة السيئة لأن درء المفاسد أولى من جلب المصلح، فقال- معبراً بما يفهم النصيب ويفهم أكثر مه تغليظاً في الزجر-‏:‏ ‏{‏يكن له كفل منها‏}‏ وهذا بيان لأن الشفاعة فيهم سيئة إن تحقق إجرامهم، حسنة إن علمت توبتهم وإسلامهم‏.‏

ولما كان كل من تحريض المؤمنين على الجهاد والشفاعة الحسنة من وادي «من سنَّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» حَسُنَ اقترانهما جداً، والنصيب قدر متميز من الشيء يخص من هو له، وكذا الكفل إلا أن الاستعمال يدل على أنه أعظم من النصيب، ويؤيده ما قالوا من أنه قد يراد به الضعف، فكأنه نصيب متكفل بما هو له من إسعاد وإبعاد؛ قال أهل اللغة‏:‏ النصيب‏:‏ الحظ، والكفر- بالكسر‏:‏ الضعف والنصيب والحظ، ومادة «نصب» يدور على العلم المنصوب، ويلزمه الرفع والوضع والتمييز والأصل والمرجع والتعب، فيلزمه الوجع، ومن لوازمه أيضاً الحد والغاية والجد الوقوف؛ ومادة «كفل» تدور على الكفل- بالتحريك وهو العجز أو ردفه، ويلزمه الصحابة واللين والرفق والتأخر؛ وقال الإمام‏:‏ الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الإنسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه، والمقصود هنا حصول ضد ذلك كقوله

‏{‏فبشرهم بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21 والتوبة‏:‏ 34 والانشقاق‏:‏ 24‏]‏ والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سيقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله سبحانه وتعالى- انتهى‏.‏ وما غلظ هذا الزجر إلا للعلم بأن أكثر النفوس ميالة بأصحابها للشفاعة بالباطل‏.‏

ولما كان الأليق بالرغبة أن لا يقطع في موجبها وإن عظم بالحقية، ليكون ذلك زاجراً عن مقارفة شيء منها وإن صغر؛ عبر في الحسنة بالنصيب، وفي السيئة بالكفل؛ ويؤيد إرادة هذا أنه تعالى لما ذكر ما يوجب الجنة من الإيمان والتقوى، وكان في سياق الوعظ لأهل الكتاب الذين هم على شرع أصله حق بتشريع رسول من عند الله، فتركهم لذلك بعيد يحتاج إلى زيادة ترغيب؛ عبر بالكفل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ إلى آخرها‏.‏

ولما كان النصيب مبهماً بالنسبة إلى علمنا لتفاوته بالنسبة إلى قصور الشافعين، وإقدامهم على الشفاعة على علم أو جهل وغير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به إلا الله سبحانه وتعالى علماً وقدرة؛ قال تعالى مرغباً ومرهباً‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام ‏{‏على كل شيء‏}‏ من الشافعين وغيرهم وجزاء الشفاعة ‏{‏مقيتاً *‏}‏ أي حفيظاً وشهيداً وقديراً على إعطاء ما يقوت من أخلاق النفوس وأحوال القلوب وأرزاق الأبدان وجميع ما به القوام جزاء وابتداء من جميع الجهات، وعلى تقدير ما يستحق كل أحد من الجزاء على الشفاعة وكل خير وشر‏.‏

ولما كان ذلك موجباً للإعراض عنهم رأساً ومنابذتهم قولاً وفعلاً، وبين سبحانه وتعالى أن التحية ليست من وادي الشفاعة، وأن الشفاعة تابعة للعمل، والتحية تابعة للظاهر، فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلا تشفعوا فيهم وأنتم تعلمون سوء مقاصدهم، فقال معبراً بأداة التحقق بشارة لهم بأنهم يصيرون- بعد ما هم فيه الآن من النكد- ملوكاً، وفي حكم الملوك، يحبون ويشفع عندهم، وحثاً على التواضع‏:‏ ‏{‏وإذا حييتم بتحية‏}‏ أي أي تحية كانت إذا كانت مشروعة، وأصل التحية الملك، واشتقاقها من الحياة، فكأن حياة الملك هي الحياة وما عداها عدم ثم أطلقت على كل دعاء يبدأ به عند اللقاء؛ وقال الأصبهاني‏:‏ لفظ التحية صار كناية عن الإكرام، فجميع أنواع الإكرام تدخل تحت لفظ التحية ‏{‏فحيوا بأحسن منها‏}‏ كأن تزيدوا عليها ‏{‏أو ردوها‏}‏ أي من غير زيادة ولا نقص، وذلك دال على وجوب رد السلام- من الأمر، وعلى الفور- من الفاء والإجماع موافق لذلك، وترك الجواب إهانة، والإهانة ضرر، والضرر حرام؛ قال الأصبهاني‏:‏ والمبتدئ يقول‏:‏ السلام عليكم، والمجيب يقول‏:‏ وعليكم السلام، ليكون الافتتاح والاختتام بذكر الله سبحانه وتعالى‏.‏

وما أحسن جعلها تالية لآية الجهاد إشارة إلى أن من بذل السلام وجب الكف عنه ولو كان في الحرب، على أن من مقتضيات هاتين الآيتين أن مبني هذه السورة على الندب إلى الإحسان والتعاطف والتواصل، وسبب ذلك إما المال وقد تقدم الأمر به في قوله تعالى ‏{‏وإذا حضر القسمة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8‏]‏، وإما غيره ومن أعظمه القول، لأنه ترجمان القلب الذي به العطف، ومن أعظم ذلك الشفاعة والتحية، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله عنه «والذي نفسي بيده‏!‏ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» فناسب ذكر هاتين الآيتين بعد ذكر آية الجهاد المختتمة بالبأس والتنكيل‏.‏

ولما كانت الشفاعة أعظمها في الإحسان قدمت ولا سيما وموجبها الإعراض، ومقصد السورة التواصل، فشأنها أهم والنظر إليها آكد، ثم رغب في الإحسان في الرد، ورهب من تركه بقوله معللاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة ‏{‏كان‏}‏ أي أزلاً وأبداً ‏{‏على كل شيء حسيباً *‏}‏ أي محصياً لجميع المتعددات دقيقها وجليلها، كافياً لها في أقواتها ومثوباتها، محاسباً بها، مجازياً عليها، وذلك كله شأن المقيت؛ ثم علل ذلك بقوله دالاً على تلازم التوحيد والعدل‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لا مثل له ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي وقد أمركم بالعدل في الشفاعة والسلام، فإن لم تفعلوه- لما لكم من النقائص التي منها عدم الوحدانية- فهو فاعله ولا بد فاحذروه لأنه واحد فلا معارض له في شيء من الحساب ولا غيره، ولا يخفى عليه شيء فالحكم على البواطن إنما هو له تعالى، وأما أنتم فلم تكلفوا إلا بالظاهر‏.‏

ولما تبين أنه لا معارض له أنتج قوله مبيناَ لوقت الحساب الأعظم‏:‏ ‏{‏ليجمعنكم‏}‏ وأكده باللام والنون دلالة على تقدير القسم لإنكار المنكرين له، ولما كان التدريج بالإماتة شيئاً فشيئاً، عبر بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ والهاء للمبالغة، ثم آكده بقوله‏:‏ ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ أي فيفصل بينكم وبين من أخبركم بهم من المنافقين ونقد أحوالهم وبين محالهم، فيجازي كلاً بما يستحق‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن أعظم من الله قدرة‏!‏ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن أصدق من الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله فلا شوب نقص يلحقه ‏{‏حديثاً‏}‏ وهو قد وعد بذلك لأنه عين الحكمة، وأقسم عليه، فلا بد من وقوعه، وإذ قد تحرر بما مضى أن المنافقين كفرة، لا لبس في أمرهم، وكشف سبحانه وتعالى الحكم في باطن أمرهم بالشفاعة وظاهره بالتحية، وحذر من خالف ذلك بما أوجبته على نفسه حكمته من الجمع ليوم الفصل للحكم بالعدل، وختم بأن الخبر عنهم وعن جميع ذلك صدق؛ كان ذلك سبباً لجزم القول بشقاوتهم والإعراض عنهم والبعد عن الشفاعة فيهم، والإجماع على ذلك من كل مؤمن وإن كان مبنى السورة على التواصل، لأن ذلك إنما هو حيث لا يؤدي إلى مقاطعة أمر الله، فقال تعالى مبكتاً لمن توقف عن الجزم بإبعادهم‏:‏ ‏{‏فما لكم‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏في المنافقين‏}‏ أي أيّ شيء لكم من أمور الدنيا أو الآخرة في افتراقكم فيهم ‏{‏فئتين‏}‏ بعضكم يشتد عليهم وبعضكم يرفق بهم‏.‏

ولما كان هذا ظاهراً في بروز الأمر المطاع بين القول بكفرهم وضحه بقوله؛ ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الملك الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏أركسهم‏}‏ أي ردهم منكوسين مقلوبين ‏{‏بما كسبوا‏}‏ أي بعد إقرارهم بالإيمان من مثل هذه العظائم، فاحذروا ذلك ولا تختلفوا في أمرهم بعد هذا البيان؛ وفي عزوة أحد والتفسير من البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين‏:‏ فرقة تقول‏:‏ نقاتلهم، وفرقة تقول‏:‏ لا نقاتلهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏فما لكم في المنافقين‏}‏- الآية، وقال‏:‏ إنها طيبة تنفي الذنوب وفي رواية‏:‏- كما تنفي النار خبث الفضة» انتهى‏.‏ فالمعنى حينئذ‏:‏ اتفقوا على أن تسيروا فيها بما ينزل عليكم في هذه الآيات‏.‏

ولما كان حال من يرفق بهم حال من يريد هدايتهم، أنكر سبحانه وتعالى ذلك عليهم صريحاً لبت الأمر في كفرهم فقال ‏{‏أتريدون‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏أن تهدوا‏}‏ أي توجدوا الهداية في قلب ‏{‏من أضل الله‏}‏ أي وهو الملك الأعظم الذي لا يرد له أمر، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي والحال أنه من ‏{‏يضلل الله‏}‏ أي بمجامع أسمائه وصفاته ‏{‏فلن تجد‏}‏ أي أصلاً أيها المخاطب كائناً من كان ‏{‏له سبيلاً *‏}‏ أي إلى ما أضله عنه أصلاً، والمعنى‏:‏ إن كان رفقكم بهم رجاء هدايتهم فذلك أمر ليس إلا الله، وإنما عليكم أنتم الدعاء، فمن أجاب صار أهلاً للمواصلة، ومن أبى صارت مقاطعته ديناً، وقتله قربة، والإغلاظ واجباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ‏(‏90‏)‏ سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

ولما أخبر بضلالهم وثباتهم عليه، أعلم بأعراقهم فيه فقال‏:‏ ‏{‏ودّوا‏}‏ أي أحبوا وتمنوا تمنياً واسعاً ‏{‏لو تكفرون‏}‏ أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً ‏{‏كما كفروا‏}‏ ولما لم يكن بين ودهم لكفرهم وكونهم مساوين لهم تلازم، عطف على الفعل المودود- ولم يسبب- قوله‏:‏ ‏{‏فتكونون‏}‏ أي وودوا أن يتسبب عن ذلك ويتعقبه أن تكونوا أنتم وهم ‏{‏سواء‏}‏ أي في الضلال، أي توجدون الكفر وتجددونه وتستمرون عليه دائماً، فأنتم ترجون في زمان الرفق بهم هدايتهم وهم يودون فيه كفركم وضلالكم، فقد تباعدتم في المذاهب وتباينتم في المقاصد‏.‏

ولما أخبر بهذه الودادة، سبب عنه أمرهم بالبراءة منهم حتى يصلحوا، بياناً لأن قولهم في الإيمان لا يقبل ما لم يصدقوه بفعل فقال‏:‏ ‏{‏فلا تتخذوا‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏منهم أولياء‏}‏ أي أقرباء منكم ‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ أي يوقعوا المهاجرة ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي يهجروا من خالفهم في ذات من لا شبه له، ويتسببوا في هجرانه لهم إن كانوا في دار الحرب فبتركها، وإن كانوا عندكم فبترك موادة الكفرة والموافقة لهم في أقوالهم وأفعالهم وإن كانوا أقرب أقربائهم، وهجرتهم في جميع ذلك بمواصلتكم في جميع أقوالكم وأفعالكم، والهجرة العامة هي ترك ما نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه‏.‏

ولما نهى عن موالاتهم وغيّي النهي بالهجرة، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي عن الهجرة المذكورة ‏{‏فخذوهم‏}‏ أي اقهروهم بالأسر وغيره ‏{‏واقتلوهم حيث وجدتموهم‏}‏ أي في حل أو حرم‏.‏ ولما كانوا في هذه الحالة لا يوالون المؤمنين إلا تكلفاً قال‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا‏}‏ أي تتكلفوا أن تأخذوا ‏{‏منهم ولياً‏}‏ أي من تفعلون معه فعل المقارب المصافي ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ على أحد من أعدائكم، بل جانبوهم مجانبة كلية‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد أمر فيهم على تقدير توليهم بما أمر، استثنى منه فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين يصلون‏}‏ فراراً منكم، وهم من الكفار عند الجمهور ‏{‏إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي عهد وثيق بأن لا تقاتلوهم ولا تقاتلوا من لجأ إليهم أو دخل فيما دخلوا فيه فكفوا حينئذ عن أخذهم وقتلهم ‏{‏أو‏}‏ الذين ‏{‏جاءوكم‏}‏ حال كونهم ‏{‏حصرت‏}‏ أي ضاقت وهابت وأحجمت ‏{‏صدورهم أن‏}‏ أي عن أن ‏{‏يقاتلوكم‏}‏ أي لأجل دينهم وقومهم ‏{‏أو يقاتلوا قومهم‏}‏ أي لأجلكم فراراً أن يكفوا عن قتالكم وقتال قومهم فلا تأخذوهم ولا تقاتلوهم، لأنهم كالمسالمين بترك القتال، ولعله عبر بالماضي في «جاء» إشارة إلى أن شرط مساواتهم للواصلين إلى المعاهدين عدم التكرر، فإن تكرر ذلك منهم فهم الآخرون الآتي حكمهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلو شاء الله لجعلهم مع قومهم إلباً واحداً عليكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو‏}‏ أي يكون المعنى‏:‏ والحال أنه لو ‏{‏شاء الله‏}‏ أي وهو المتصف بكل كمال ‏{‏لسلطهم‏}‏ أي هؤلاء الواصلين والجائين على تلك الحال من الكفار ‏{‏عليكم‏}‏ ينوع من أنواع التسليط، تسليطاًَ جارياً على الأسباب ومقتضى العوائد، لأن بهم قوة على قتالكم ‏{‏فلقاتلوكم‏}‏ أي فتسبب عن هذا التسليط أنهم قاتولكم منفردين أو مع غيرهم من أعدائكم، واللام فيه جواب «لو» على التكرير، أو البدل من سلط‏.‏

ولما كان المغيّي على النهي عن قتالهم حينئذ، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏فإن اعتزلوكم‏}‏ أي هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عنهم من المنافقين، فكفوا عنكم ‏{‏فلم يقاتلوكم‏}‏ منفردين ولا مجتمعين مع غيرهم ‏{‏وألقوا إليكم السلم‏}‏ أي الانقياد ‏{‏فما جعل الله‏}‏ أي الذي لا أمر لأحد معه بجهة من الجهات ‏{‏لكم عليهم سبيلاً *‏}‏ أي إلى شيء من أخذهم ولا قتلهم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هل بقي من أقسام المنافقين شيء‏؟‏ قيل‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏ستجدون‏}‏ أي عن قرب بوعد لا شك فيه ‏{‏آخرين‏}‏ أي من المنافقين ‏{‏يريدون أن يأمنوكم‏}‏ أي فلا يحصل لكم منهم ضرر ‏{‏ويأمنوا قومهم‏}‏ كذلك، لضعفهم عن كل منكم‏.‏ فهم يظهرون لكم الإيمان إذا لقوكم، ولهم الكفر إذا لقوهم، وهو معنى ‏{‏كلما ردوا إلى الفتنة‏}‏ أي الابتلاء بالخوف عند المخالطة ‏{‏أركسوا‏}‏ أي قلبوا منكوسين ‏{‏فيها‏}‏‏.‏

ولما كان هؤلاء أعرق في النفاق وأردى وأدنى من الذين قبلهم وأعدى، صرح بمفهوم ما صرح به في أولئك، لأنه أغلظ وهم أجدر من الأولين بالإغلاظ، وطوى ما صرح به، ثم قال‏:‏ ‏{‏فإن لم يعتزلوكم‏}‏ ولما كان الاعتزال خضوعاً لا كبراً، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏ويلقوا إليكم السلم‏}‏ أي الانقياد‏.‏ ولما كان الإلقاء لا بد له من قرائن يعرف بها قال‏:‏ ‏{‏ويكفوا أيديهم‏}‏ أي عن قتالكم وأذاكم ‏{‏فخذوهم‏}‏ أي اقهروهم بكل نوع من أنواع القهر تقدرون عليه ‏{‏واقتلوهم‏}‏‏.‏

ولما كان نفاقهم- كما تقدم- في غاية الرداءة، وأخلاقهم في نهاية الدناءة، أشار إلى الوعد بتيسير التمكين منهم فقال‏:‏ ‏{‏حيث ثقفتموهم‏}‏ فإن معناه‏:‏ صادفتموهم وأدركتموهم وأنتم ظافرون بهم، حاذقون في قتالهم، فطنون به، خفيفون فيه، فإن الثقف‏:‏ الحاذق الخفيف الفطن، ولذلك أشار إليهم بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏وأولئكم‏}‏ أي البعداء عن منال الرحمة من النصر والنجاة وكل خير ‏{‏جعلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏لكم عليهم سلطاناً‏}‏ أي تسلطاً ‏{‏مبيناًَ *‏}‏ أي ظاهراً قوته وتسلطه‏.‏ وهذه الآيات منسوخة بآية براءة، فإنها متأخرة النزول فإنها بعد تبوك‏.‏

ولما بين أقسامهم بياناً ظهر منه أن أحوالهم ملبسة، وأمر بقتالهم مع الاجتهاد في تعرف أحوالهم، وختم بالتسلط عليهم، وكان ربما قتل من لا يستحق القتل بسبب الإلباس؛ أتبع ذلك بقوله المراد به التحريم، مخرجاً له في صورة النفي المؤكد بالكون لتغليظ الزجر عنه لما للنفوس عند الحظوظ من الدواعي إلى القتل‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن‏}‏ أي يحرم عليه ‏{‏أن يقتل مؤمناً‏}‏ أي في حال من الحالات ‏{‏إلا خطأ‏}‏ أي في حالة الخطأ بأن لا يقصد القتل، أو لا يقصد الشخص، أو يقصده بما لا يقصد به زهوق الروح، أو لا يقصد ما هو ممنوع منه كمن يرمي إلى صف الكفار وفيهم مسلم، أو بأن يكون غير مكلف، فإن القتل على هذا الوجه ليس بحرام، وهذا الذي ذكره في أقسام المنافقين إشارة إلى أنه ينبغي التثبت والتحري في جميع أمر القتل متى احتمل أن يكون القاتل مؤمناً احتمالاً لا تقضي العادة بقربه، فلزم من ذلك بيان حكم الخطأ، ولام الاختصاص قد تطلق على ما لا مانع منه «فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب» وكأنه عبر به ليفيد بإيجاب الكفارة والدية غاية الزجر عن قتل المؤمن، لأنه إذا كان هذا جزاء ما هو له فما الظن بما ليس له‏!‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمناً‏}‏ صغيراً كان أو كبيراً، ذكراً كان أو أنثى، ولعله عبَّر سبحانه وتعالى بالوصف تنبيهاً على أنه إن لم يكن كذلك في نفس الأمر لم يكن عليه شيء في نفس الأمر وإن ألزم به في الظاهر ‏{‏خطأ‏}‏‏.‏

ولما كان الخطأ مرفوعاً عن هذه الأمة، فكان لذلك يظن أنه لا شيء على المخطئ؛ بين أن الأمر في القتل ليس كذلك حفظاً للنفوس، لأن الأمر فيها خطر جداً، فقال- مغلظاً عليه حثاً على زيادة النظر والتحري عند فعل ما قد يقتل-‏:‏ ‏{‏فتحرير‏}‏ أي فالواجب عليه تحرير ‏{‏رقبة‏}‏ أي نفس، عبر بها عنها لأنها لا تعيش بدونها كاملة الرق ‏{‏مؤمنة‏}‏ ولو ببيع الدار أو البساتين، سليمة عما يخل بالعمل، وقدم التحرير هنا حثاً على رتق ما خرق من حجاب العبد، وإيجاب ذلك في الخطأ إيجاب له في العمد بطريق الأولى، وكأنه لم يذكره في العمد لأنه تخفيف في الجملة والسياق للتغليظ ‏{‏ودية مسلّمة‏}‏ أي مؤداة بيسر وسهولة ‏{‏إلى أهله‏}‏ أي ورثته يقتسمونها كما يقسم الميراث ‏{‏إلا أن يصدّقوا‏}‏ أي يجب ذلك عليه في كل حال إلا في حال تصدقهم بالعفو عن القاتل بإبرائه من الدية، فلا شيء عليه حينئذ، وعبر بالصدقة ترغيباً ‏{‏فإن كان‏}‏ أي المقتول ‏{‏من قوم‏}‏ أي فيهم منعة ‏{‏عدو لكم‏}‏ أي محاربين ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏مؤمن فتحرير‏}‏ أي فالواجب على القاتل تحرير ‏{‏رقبة مؤمنة‏}‏ وكأنه عبر بذلك إشارة إلى التحري في جودة إسلامها، وقد أسقط هذا حرمة نفسه بغير الكفارة بسكناه في دار الحرب التي هي دار الإباحة أو وقوعه في صفهم، ولعده في عدادهم قال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ ومعناه- كما قال الشافعي وغيره تبعاً لابن عباس رضي الله تعالى عنهما-‏:‏ في ‏{‏وإن كان‏}‏ أي المقتول ‏{‏من قوم‏}‏ أي كفرة أيضاً عدو لكم ‏{‏بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ وهو كافر مثلهم ‏{‏فدية‏}‏ أي فالواجب فيه كالواجب في المؤمن المذكور قبله دية ‏{‏مسلّمة إلى أهله‏}‏ على حسب دينه، إن كان كتابياً فثلث دية المسلم، وإن كان مجوسياً فثلثا عشرها ‏{‏وتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ وكأنه قدم الدية هنا إشارة إلى المبادرة بها حفظاً للعهد، ولتأكيد أمر التحرير بكونه ختاماً كما كان افتتاحاً حثاً على الوفاء به، لأنه أمانة لا طالب له إلا الله؛ وقال الأصبهاني‏:‏ إن سر ذلك أن إيجابه في المؤمن أولى من الدية، وبالعكس ها هنا- انتهى‏.‏

وكان سره النظر إلى خير الدين في المؤمن، وإلى حفظ العهد في الكافر ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ أي الرقبة ولا ما يتوصل به إليها ‏{‏فصيام‏}‏ أي فالواجب عليه صيام ‏{‏شهرين متتابعين‏}‏ حتى لو أفطر يوماً واحداً بغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، وعلل ذلك بقوله عادا للخطأ- بعد التعبير عنه باللام المقتضية أنه مباح- ذنباً تغليظاً للحث على مزيد الاحتياط‏:‏ ‏{‏توبة‏}‏ أي أوجب ذلك عليكم لأجل قبول التوبة ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي كل شيء في قبضته‏.‏

ولما كان الكفارات من المشقة على النفس بمكان، رغب فيها سبحانه وتعالى بختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏عليماً‏}‏ أي بما يصلحكم في الدنيا والآخرة، وبما يقع خطأ في نفس الأمر أو عمداً، فلا يغتر أحد بنصب الأحكام بحسب الظاهر ‏{‏حكيماً *‏}‏ في نصبه الزواجر بالكفارات وغيرها، فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 97‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏

ولما ساق تعالى الخطأ مساق ما هو للفاعل منفراً عنه هذا التنفير، ناسب كل المناسبة أن يذكر ما ليس له من ذلك، إذ كان ضبط النفس بعد إرسالها شديداً، فربما سهلت قتل من تحقق إسلامه إحنة، وجرت إليه ضغينة وقوت الشبه فيه شدة شكيمة، ولعمري إن الحمل على الكف بعد الإرسال أصعب من الحمل على الإقدام‏!‏ وإنما يعرف ذلك من جرب النفوس حال الإشراف على الظفر واللذاذة بالانتقام مع القوى والقدرة فقال‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمناً‏}‏ ولعله أشار بصيغة المضارع إلى دوم العزم على ذلك لأجل الإيمان، وهو لا يكون إلا كفراً، وترك الكلام محتملاً زيادة تنفير من قتل المسلم ‏{‏متعمّداً‏}‏ أي وأما الخطأ فقد تقدم حكمه في المؤمن وغيره ‏{‏فجزاؤه‏}‏ أي على ذلك ‏{‏جهنم‏}‏ أي تتلقاه بحالة كريهة جداً كما تجهم المقتول ‏{‏خالداَ فيها‏}‏ أي ماكثاً إلى ما لا آخر له ‏{‏وغضب الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له مع ذلك ‏{‏عليه ولعنه‏}‏ أي وأبعده من رحمته ‏{‏وأعد له عذاباً عظيماً *‏}‏ أي لا تبلغ معرفته عقولكم، وإن عمم القول في هذه الآية كان الذي خصها ما قبلها وما بعدها من قوله تعالى ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48 و116‏]‏ لا آية الفرقان فإنها مكية وهذه مدنية‏.‏

ولما تبين بهذا المنع الشديد من قتل العمد، وما في قتل الخطأ من المؤاخذة الموجبة للتثبت، وكان الأمر قد برز بالقتال والقتل في الجهاد ومؤكداً بأنواع التأكيد، وكان ربما التبس الحال؛ أتبع ذلك التصريح بالأمر بالتثبت جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ماذا نفعل بين أمري الإقدام والإحجام‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أمنوا‏}‏ مشيراً بأداة البعد والتعبير بالماضي الذي هو لأدنى الأسنان إلى أن الراسخين غير محتاجين إلى مزيد التأكيد في التأديب، وما أحسن التفاته إلى قوله تعالى ‏{‏وحرض المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏ إشارة منه تعالى إلى أنهم يتأثرون من تحريضه صلى الله عليه وسلم وينقادون لأمره، بما دلت عليه كلمة «إذا» في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا ضربتم‏}‏ أي سافرتم وسرتم في الأرض ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، لأجل وجهه خالصاً ‏{‏فتبينوا‏}‏ أي اطلبوا بالتأني والتثبت بيان الأمور والثبات في تلبسها والتوقف الشديد عند منالها، وذلك بتميز بعضها من بعض وانكشاف لبسها غاية الانكشاف؛ ولا تقدموا إلا على ما بان لكم ‏{‏ولا تقولوا‏}‏ قولاً فضلاً عما هو أعلى منه ‏{‏لمن ألقى‏}‏ أي كائناً من كان ‏{‏إليكم السلام‏}‏ أي بادر بأن حياكم بتحية افسلام ملقياً قياده ‏{‏لست مؤمناً‏}‏ أي بل متعوذ- لتقتلوه‏.‏

ولما كان اتباع الشهوات عند العرب في غاية الذم قال موبخاً منفراً عن مثل هذا في موضع الحال من فاعل «تقولوا» ‏{‏تبتغون‏}‏ أي حال كونكم تطلبون طلباً حثيثاً بقتله ‏{‏عرض الحياة الدنيا‏}‏ أي بأخذ ما معه من الحطام الفاني والعرض الزائل، أو بإدراك ثأر كان لكم قبله؛ روى البخاري ي التفسير ومسلم في آخر كتابه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏

«‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام‏}‏ قال‏:‏ كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون فقال‏:‏ السلام عليكم‏:‏ فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى قوله ‏{‏عرض الحياة الدنيا‏}‏» ورواه الحارث بن أبي أسامة عن سعيد بن جبير وزاد ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ تخفون إيمانكم وأنتم مع المشركين، ‏{‏فمنَّ الله عليكم‏}‏ وأظهر الإسلام ‏{‏فتبينوا‏}‏ ثم علل النهي عن هذه الحالة بقوله‏:‏ ‏{‏فعند الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏مغانم كثيرة‏}‏ أي يغنيكم بها عما تطلبون من العرض مع طيبها؛ ثم علل النهي من أصله بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الذي قتلتموه بجعلكم إياه بعيداً عن الإسلام ‏{‏كنتم‏}‏ وبعّض زمان القتل- كما هو الواقع- بقوله‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل ما نطقتم بكلمة الإسلام ‏{‏فمنّ الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏عليكم‏}‏ أي بأن ألقى في قلوب المؤمنين قبول ما أظهرتم امتثالاً لأمره سبحانه وتعالى بذلك، فقوى أمر الإيمان في قلوبكم قليلاً قليلاً حتى صرتم إلى ما أنتم عليه في الرسوخ في الدين والشهرة به والعز، ولو شاء لقسى قلوبكم وسلطهم عليكم فقتلوكم‏.‏ فإذا كان الأمر كذلك فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الدين من القبول ما فعل بكم، وهو معنى ما سبب عن الوعظ من قوله تأكيداً لما مضى إعلاماً بفظاعة أمر القتل‏:‏ ‏{‏فتبينوا‏}‏ أي الأمور وتثبتوا فيها حتى تنجلي؛ ثم علل هذا الأمر بقوله مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المختص بأنه عالم الغيب والشهادة ‏{‏كان بما تعملون خبيراً *‏}‏ أي يعلم ما أقدمتم عليه عن تبيين وغيره فاحذروه بحفظ بواطنكم وظواهركم‏.‏

ولما ناسبت هذه الآية ما قبلها من آية القتل العمد، والتفتت إلى ‏{‏وحرض المؤمنين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏ وإلى آية التحية، فاشتد اعتناقها لهما، وعلم بها أن في الضرب في سبيل الله هذا الخطر، فكان ربما فتر عنه؛ بين فضله لمن كأنه قال‏:‏ فحينئذ نقعد عن الجهاد لنسلم، بقوله‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏ أي عن الجهاد حال كونهم ‏{‏من المؤمنين‏}‏ أي الغريقين في الإيمان، ليفيد التصريح بتفضيل المؤمن المجاهد على المؤمن القاعد لئلا يخصه أحد بالكافر الجاحد‏.‏

ولما كان من الناس من عذره سبحانه وتعالى برحمته استثناهم، فقال واصفاً للقاعدين أو مستثنياً منهم‏:‏ ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏ أي المانع أو العائق عن الجهاد في سبيل الله من عوج أو مرض أو عمى ونحوه، وبهذا بان أن الكلام في المهاجرين؛ وفي البخاري في التفسير عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه

«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها عليّ فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ والله لو استطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى؛فأنزل الله ع وجل على رسوله وفخذه على فخذي فثقلت عليّ حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سرى عنه فأنزل الله ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏» وأخرجه في فضائل القرآن عن البراء رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏- الآية، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ادع لي زيداً وليجئ باللوح والدواة والكتف؛ ثم قال‏:‏ اكتب- فذكره» وحديث زيد أخرجه أيضاً أبو داود والترمذي والنسائي، وفي رواية أبي داود‏:‏ قال‏:‏ «كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سرى عنه فقال لي‏:‏ اكتب، فكتبت في كتف ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏ إلى آخرها؛ فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلاً أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏ فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين‏؟‏ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ اقرأ يا زيد‏!‏ فقرأت ‏{‏لا يستوي القاعدون من المؤمنين‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏غير أولي الضرر‏}‏- الآية كلها، قال زيد‏:‏ أنزلها الله وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف» ورواه أبو بكر ابن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وفيه‏:‏ «إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وقلبه لما يأتيه من الله عز وجل»‏.‏

ولما ذكر القاعد أتبعه قسيمه المجاهد بقوله‏:‏ ‏{‏والمجاهدون في سبيل الله‏}‏ أي دين الملك الأعظم الذي من سلكه وصل إلى رحمته ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ ولما كان نفي المساواة سبباً لترقب كل من الحزبين الأفضليبة، لأن القاعد وإن فاته الجهاد فقد تخلف الغازي في أهله، إذ يحيي الدين بالاشتغال بالعلم ونحوه؛ قال متسأنفاً‏:‏ ‏{‏فضل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏المجاهدين‏}‏ ولما كان المال في أول الأمر ضيقاً قال مقدماً للمال‏:‏ ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ أي جهاداً كائناً بالفعل ‏{‏على القاعدين‏}‏ أي عن ذلك وهم متمكنون منه بكونهم في دار الهجرة ‏{‏درجة‏}‏ أي واحدة كاملة لأنهم لم يفوقوهم بغيرها، وفي البخاري في المغازي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏

«لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر»‏.‏

ولما شرك بين المجاهدين والقاعدين بقوله‏:‏ ‏{‏وكلاً‏}‏ أي من الصنفين ‏{‏وعد الله‏}‏ أي المحيط بالجلال والإكرام أجراً على إيمانهم ‏{‏الحسنى‏}‏ بين أن القاعد المشارك إنما هو الذي يه قوة الجهاد القريبة من الفعل، وهو التمكن من تنفيذ الأمر بسبب هجرته لأرض الحرب وكونه بين أهل الإيمان، وأما القاعد عن الهجرة مع التمكن فليس بمشارك في ذلك، بل هو ظالم لنفسه فإنه ليس متمكناً من تنفيذ الأوامر فلا هو مجاهد بالفعل ولا بالقوة القريبة منه، فقال‏:‏ ‏{‏وفضل الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له فلا يجبر عليه ‏{‏المجاهدين‏}‏ أي بالفعل مطلقاً بالنفس أو المال ‏{‏على القاعدين‏}‏ أي عن الأسباب الممكنة من الجهاد ومن الهجرة ‏{‏أجراً عظيماً *‏}‏ ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏درجات‏}‏ وعظمها بقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ وهي درجة الهجرة، ودرجة التمكن من الجهاد بعد الهجرة ودرجة مباشرة الجهاد بالفعل‏.‏

ولما كان الإنسان لا يخلو عن زلل وإن اجتهد في العمل قال‏:‏ ‏{‏ومغفرة‏}‏ أي محواً لذنوبهم بحيث أنها لا تذكر ولا يجازى عليها ‏{‏ورحمة‏}‏ أي كرامة ورفعة ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المحيط بالأسماء الحسنى والصفات العلى ‏{‏غفوراً رحيماً *‏}‏ أزلاً وأبداً، لم يتجدد له ما لم يكن؛ ثم علل ذلك بأبلغ حث على الهجرة فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين توفاهم الملائكة‏}‏ أي تقبض أرواحهم كاملة على ما عندهم من نقص بعض المعاني بما تركوا من ركن الهجرة بما أشارة إليه حذف التاء، وفي الحذف إرشاد إلى أنه إذا ترك من يسعى في جبره بصدقة أو حج ونحوه من أفعال البر جُبر، لأن الأساس الذي تبنى عليه الأعمال الصالحة موجود وهو الإيمان ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ أي بالقعود عن الجهاد بترك الهجرة والإقامة في بلاد الحرب حيث لا يتمكنون من إقامة شعائر الدين كلها ‏{‏قالوا‏}‏ أي الملائكة موبخين لهم ‏{‏فيم كنتم‏}‏ أي في أي شيء من الأعمال والأحوال كانت إقامتكم في بلاد الحرب‏.‏

ولما كان المراد من هذا السؤال التوبيخ لأجل ترك الهجرة ‏{‏قالوا‏}‏ معتذرين ‏{‏كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ أي أرض الكفار، لا نتمكن من إقامة الدين، وكأنهم أطلقوها إشارة إلى أنها عندهم لا تساعها لكثرة الكفار هي الأرض كلها، فكأنه قيل‏:‏ هل قنع منهم بذك‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة، فكأنه قال‏:‏ فما قيل لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي الملائكة بياناً لأنهم لم يكونوا ضعفاء عن الهجرة إلى موضع يأمنون فيه على دينهم ‏{‏ألم تكن أرض الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء، الذي له كل شيء ‏{‏واسعة فتهاجروا‏}‏ أي بسبب اتساعها كل من يعاديكم في الدين ضاربين ‏{‏فيها‏}‏ أي إلى حيث يزول عنكم المانع، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الجهاد أولاً في ‏{‏وفضل الله المجاهدين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏ دليل عى حذفه ثانياً بعد ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، وذكر الهجرة ثانياً دليل على حذفها أولاً بالقعود عنها، ولذلك خص الطائفة الأولى بوعد الحسنى‏.‏

ولما وبخوا على تركهم الهجرة، سبب عنه جزاؤهم فقيل‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء من اجتهادهم لأنفسهم ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي لتركهم الواجب وتكثيرهم سواد الكفار وانبساطهم في وجوه أهل الناس ‏{‏وساءت مصيراً *‏}‏ روى البخاري في التفسير والفتن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله تعالى ‏{‏إن الذين توافاهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 101‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

ولما توعد على ترك الهجرة، أتبع ذلك بما زاد القاعد عنها تخويفاً بذكر من لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناء تنبيهاً على أنهم جديرون بالتسوية في الحكم لولا فضل الله عليهم، فقال بياناً لأن المستثنى منهم كاذبون في ادعائهم الاستضعاف‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين‏}‏ أي الذين وجد ضعفهم في نفس الأمر وعُدوا ضعفاء وتقوى عليهم غيرهم ‏{‏من الرجال والنساء والولدان‏}‏ ثم بين ضعفهم بقوله‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون حيلة‏}‏ أي في إيقاع الهجرة ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً *‏}‏ أي إلى ذلك‏.‏

ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء ‏{‏لا يسأل عما يفعل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال‏:‏ ‏{‏عسى الله‏}‏ أي المرجو والخليق والجدير من الملك المحيط بأوصاف الكمال ‏{‏أن يعفو عنهم‏}‏ أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً ‏{‏عفواً‏}‏ أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه ‏{‏غفوراً *‏}‏ أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان‏.‏

ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به الشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر‏}‏ أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بهجرته ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي لا أعظم من ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع ‏{‏يجد في الأرض‏}‏ أي في ذات الطول والعرض ‏{‏مراغماً‏}‏ أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله‏:‏ لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول‏:‏ راغمت فلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك‏.‏

ولما كان ذلك الموضع وإن كان واحداً فإنه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال ‏{‏كثيراً‏}‏‏.‏

ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها؛ أتبعها قوله‏:‏ ‏{‏وسعة‏}‏ أي في الرزق، كما قال صلى الله عليه وسلم «صوموا تصحوا وسافروا تغنموا» أخرجه الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه «واغزوا، وهاجروا تفلحوا»‏.‏

ولما كان ربما مات المهاجر قبل وصوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فظن أنه لم يدرك الهجرة مع تجشمه لفراق بلده قال‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته‏}‏ أي فضلاً عن بلده ‏{‏مهاجراً إلى الله‏}‏ أي رضى الملك الذي له الكمال كله ‏{‏ورسوله‏}‏ أي ليكون عنده ‏{‏ثم يدركه الموت‏}‏ أي بعد خروجه من بيته ولو قبل الفصول من بلده ‏{‏فقد وقع أجره‏}‏ أي في هجرته بحسب الوعد فضلاً، لا بحسب الاستحقاق عدلاً ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له تمام الإحاطة فلا ينقصه شيء، وكذا كل من نوى خيراً ولم يدركه «لا حسد إلا في اثنتين» فهو موفيه إياه توفية ما يلتزمه الكريم منكم‏.‏

ولما كان بعضهم ربما قصر به عن البلوغ توانيه في سيره أو عن خروجه من بلده فظن أن هجرته هذه لم تجبُر تقصيره قال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏غفوراً‏}‏ أي لتقصير إن كان ‏{‏رحيماً *‏}‏ يكرم بعد المغفرة بأنواع الكرامات‏.‏

ولما أوجب السفر للجهاد والهجرة، وكان مطلق السفر مظنة المشقة فكيف بسفرهما مع ما ينضم إلى المشقة فيهما من خوف الأعداء؛ ذكر تخفيف الصلاة بالقصر بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم‏}‏ أي بالسفر ‏{‏في الأرض‏}‏ أيّ سفر كان لغير معصية‏.‏ ولما كان القصر رخصة غير عزيمة، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح‏}‏ أي إثم وميل في ‏{‏أن تقصروا‏}‏ ولما كان القصر خاصاً ببعض الصلوات، أتى بالجار لذلك ولإفادة أنه في الكم لا في الكيف فقال‏:‏ ‏{‏من الصلاة‏}‏ أي فاقصروا إن أردتم وأتموا إن أردتم، وبينت السنة أعيان الصلوات المقصورات، وكم يقصر منها من ركعة، وأن القصر من الكمية لا من الكيفية بالإيماء مثلاً في صلاة الخوف بقول عمر رضي الله تعالى عنه ليعلى بن أمية- حين قال له‏:‏ كيف تقصر وقد أمنا-‏:‏ عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك-، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا هو حقيقة القصر والذي دلت عليه «من»، وأما الإيماء ونحوه من كيفيات صلاة الخوف فإبدال لا قصر، والسياق كام ترى مشير إلى شدة الاهتمام بشأنها، وأنه لا يسقطها عن المكلف شيء، وقاض بأن المخاطرة بالنفس والمال لا تسقط الجهاد ولا الهجرة إذ الخوف والخطر مبنى أمرهما ومحط قصدهما، فهذا سر قوله‏:‏ ‏{‏وإن خفتم أن يفتنكم‏}‏ أي يخالطم مخالطة مزعجة ‏{‏الذين كفروا‏}‏ لا أنه شرط في القصر، كما بينت نفي شرطيته السنة، والحاصل أن هذا الشرط ذكر لهذا المقصد، لا لمخالفة المفهوم للمنطوق بشهادة السنة؛ وقد كانت الصلاة قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فأتمت بعد الهجرة إشارة إلى أن المدينة دار الإقامة وما قبلها كان محل سفر ونقلة؛ روى الشيخان وأحمد- وهذا لفظه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏

«فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر»‏.‏

ولما ذكر الخوف منهم، علله مشيراً بالإظهار موضع الإضمار، وباسم الفاعل إلى أن من تلبس بالكفر ساعة ما، أعرق فيه، أو إلى أن المجبول على العداوة المشار إليه بلفظ الكون إنما هو الراسخ في الكفر المحكوم بموته عليه فقال‏:‏ ‏{‏إن الكافرين‏}‏ أي الراسخين منهم في الكفر ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً‏.‏ ولعله اشار إلى أنهم مغلوبون بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ دون عليكم ‏{‏عدواً‏}‏ ولما كان العدو مما يستوي فيه الواحد والجمع قال‏:‏ ‏{‏مبيناً‏}‏ أي ظاهر العداوة، يعدون عليكم لقصد الأذى مهما وجدوا لذلك سبيلاً، فربما وجدوا الفرصة في ذلك عند طول الصلاة فلذلك قصرتها، ولولا أنها لا رخصة فيها بوجه لوضعتها عنكم في مثل هذه الحالة، أو جعلت التخفيف في الوقت فأمرت بالتأخير، ولكنه لا زكاء للنفوس بدون فعلها على ما حددت من الوقت وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

ولما أتم سبحانه وتعالى بيان القصر في الكمية مقروناً بالخوف لما ذكر، وكان حضور النبي صلى الله عليه وسلم مظنة الأمن بالتأييد بالملائكة ووعد العصمة من الناس، وما شهر به من الشجاعة ونصر به من الرعب وغير ذلك من الأمور القاضية بأن له العاقبة؛ بيَّن سبحانه وتعالى حال الصلاة في الكيفية عند الخوف، وأن صلاة الخوف تفعل عند الأنس بحضرته كما تفعل عند الاستيحاش بغيبته صلى الله عليه وسلم، فجوازها لقوم ليس هو صلى الله عليه وسلم فيهم مفهوم موافقة، فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإذا كنت‏}‏ حال الخوف الذي تقدم فرضه ‏{‏فيهم‏}‏ أي في أصحابك سواء كان ذلك في السفر أو في الحضر ‏{‏فأقمت‏}‏ أي ابتدأت وأوجدت ‏{‏لهم الصلاة‏}‏ أي الكاملة وهي المفروضة ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏ أي في الصلاة ولتقم الطائفة الأخرى وجاه العدو ويطوفون في كل موضع يمكن أن يأتي منه العدو ‏{‏وليأخذوا‏}‏ أي المصلون لأنهم المحتاجون إلى هذا الأمر لدخولهم في حالة هي بترك السلاح أجدر ‏{‏أسلحتهم‏}‏ كما يأخذها من هو خارج الصلاة، وسبب الأمر بصلاة الخوف- كما في صحيح مسلم وغيره عن جابر رضي الله تعالى عنه «أنهم غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قوماً من جهينة فقاتلوا قتالاً شديداً، قال جابر رضي الله تعالى عنه‏:‏ فلما صلينا الظهر قال المشركون‏:‏ لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبرئيل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ وقالوا‏:‏ إنه ستأتيهم صلاة هي أحب إليهم من الأولاد فلما حضرت العصر صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة» الحديث ‏{‏فإذا سجدوا‏}‏ يمكن أن يكون المراد بالسجود ظاهره، فيكون الضمير في ‏{‏فليكونوا‏}‏ للجمع الذين منهم هذه الطائفة- المذكورين بطريق الإضمار في قوله ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ وفي ‏{‏فلتقم طائفة منهم‏}‏ أي فإذا سجد الذين قاموا معك في الصلاة فليكن المحدث عنهم وهم الباقون الذين أنت فيهم وهذه الطائفة منهم ‏{‏من ورائكم‏}‏ فإذا أتمت هذه الطائفة صلاتها فلتذهب إلى الحراسة ‏{‏ولتأت طائفة أخرى‏}‏ أي من الجماعة ‏{‏لم يصلوا فليصلوا معك‏}‏ كما صلت الطائفة الأولى، فإن كانت الصلاة ثنائية ولم تصل بكل طائفة جميع الصلاة فلتسلم بالطائفة الثانية، وإن كانت رباعية ولم تصل بكل فرقة جميع الصلاة فلتتم صلاتها، ولتذهب إلى وجاه العدو ولتأت طائفة أخرى- هكذا حتى تتم الصلاة؛ ويمكن أن يكون المراد بالسجود الصلاة- من إطلاق اسم الجزء على الكل، فكأنه قال‏:‏ فإذا صلوا، أي أتموا صلاتهم- على ما مضت الإشارة إليه، والضمير حينئذ في «فليكونوا» للطائفة الساجدة، وقوله‏:‏ ‏{‏وليأخذوا‏}‏ يمكن أن يكون ضميره للكل، لئلا يتوهم أن الأمر بذلك يختص بالمصلي، لأن غيره لا عائق له عن الأخذ متى شاء، أو ولتأخذ جميع الطوائف الحارسون والمصلون ‏{‏حذرهم وأسلحتهم‏}‏ في حال صلاتهم وحراستهم وإتيانهم إلى الصلاة وانصرافهم منها فجعل الحذر الذي هو التيقظ والتحرز بإقبال الفكر على ما يمنع كيد العدو كالآلة المحسوسة، وخص في استعماله في الصلاة في شأن العدو وخص آخر الصلاة بزيادة لاحذر إشارة إلى أن العدو في أول الصلاة قلما يفطنون لكونهم في الصلاة بخلاف الآخر، فلهذا خص بمزيد الحذر، وهذا الكلام على وجازته محتمل- كما ترى- لجميع الكيفيات المذكورة في الفقه لصلاة الخوف إذا لم يكن العدو في وجه القبلة على أنها تحتمل التنزيل على ما إذا كان في وجه القبلة بأن يحمل الواء على ما واراه السجود عنكم وإتيان الطائفة الأخرى على الإقبال على المتابعة للامام في الأفعال ‏{‏ولم يصلوا‏}‏ اي بقيد المتابعة له فيها- والله سبحانه وتعالى الهادي‏.‏

وما أحسن اتصال ذلك بأول آيات الجهاد في هذه السورة ‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏ فهو من رد المقطع على المطلع، ثم علل أمره بهذه الكيفية على هذا الاحتياط والحزم بقوله مقوياً لترغيبهم في ذلك بإقبال الخطاب عليهم‏:‏ ‏{‏ودَّ‏}‏ أي تمنى تمنياً عظيماً ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي باشروا الكفر وقتاً ما، فكيف بمن هو غريق فيه ‏{‏لو تغفلون‏}‏ أي تقع لكم غفلة في وقت ما ‏{‏عن أسلحتكم‏}‏‏.‏

ولما كانت القوة بالآلات مرهبة للعدو ومنكبة قال‏:‏ ‏{‏وأمتعتكم‏}‏ ولما كانت الغفلة ضعفاً ظاهراً، تسبب عنها قوله‏:‏ ‏{‏فيميلون‏}‏ وأشار إلى العلو والغلبة بقوله‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ وأشار إلى سرعة الأخذن بقوله‏:‏ ‏{‏ميلة‏}‏ وأكده بقوله‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏‏.‏

ولما كان الله- وله المنّ- قد رفع عن هذه الأمة الحرج، وكان المطر والمرض شاقين قال‏:‏ ‏{‏ولا جناح‏}‏ أي حرج ‏{‏عليكم إن كان بكم أذى‏}‏ أي وإن كان يسيراً ‏{‏من مطر‏}‏ أي لأن حمل السلاح حينئذ يكون سبباً لبلّه ‏{‏أو كنتم مرضى‏}‏ أي متصفين بالمرض وكأن التعبير بالوصف إشارة إلى أن أدنى شيء منه لا يرخص ‏{‏أن تضعوا أسلحتكم‏}‏ أي لأن حملها يزيد المريض وهنا‏.‏

ولما خفف ما أوجبه أولاً من أخذ السلاح برفع الجناح في حال العذر، فكان التقدير‏:‏ فضعوه إن شئتم؛ عطف عليه بصيغة الأمر إشارة إلى وجوب الحذر منهم في كل حال قوله‏:‏ ‏{‏وخذوا حذركم‏}‏ أي في كل حالة، فإن ذلك نفع لا يتوقع منه ضرر؛ ثم علل ذلك بما بشر فيه بالنصر تشجيعاً للمؤمنين، وإعلاماً بأن الأمر بالحزم إنما هو للجري على ما رسمه من الحكمة في قوله- ربط المسببات بالأسباب، فهو من باب «اعقلها وتوكل» فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ المحيط علماً وقدرة ‏{‏أعدَّ‏}‏ أي في الأزل ‏{‏للكافرين‏}‏ أي الدائمين على الكفر، لا من اتصف به وقتاً ما وتاب منه ‏{‏عذاباً مهيناً *‏}‏ أي يهينهم به، من أعظمه حذركم الذي لا يدع لهم عليكم مقدماً، ولا تمكنهم معه منكم فرصة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 106‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏ وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏‏}‏

ولما علمهم بما يفعلون في الصلاة حال الخوف، أتبع ذلك ما يفعلون بعدها لئلا يظن أنها تغني عن مجرد الذكر، فقال مشيراً إلى تعقيبه به‏:‏ ‏{‏فإذا قضيتم الصلاة‏}‏ أي فرغتم من فعلها وأديتموها على حالة الخوف أو غيرها ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ أي بغير الصلاة لأنه لإحاطته بكل شيء يستحق أن يراقب فلا ينسى ‏{‏قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم‏}‏ أي في كل حالة، فإن ذكره حصنكم في كل حالة من كل عدو ظاهر أو باطن‏.‏

ولما كان الذكر أعظم حفيظ للعبد، وحارس من شياطين الإنس والجن، ومسكن للقلوب ‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏؛ أشار إلى ذلك بالأمر بالصلاة حال الطمأنينة، تنبيهاً على عظم قدرها، وبياناً لأنها أوثق عرى الدين وأقوى دعائمه وأفضل مجليات القلوب ومهذبات النفوس، لأنها مشتملة على مجامع الذكر ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏ فقال‏:‏ ‏{‏فإذا اطمأننتم‏}‏ أي عما كنتم فيه من الخوف ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ أي فافعلوها قائمة المعالم كلها على الحالة التي كنتم تفعلونها قبل الخوف؛ ثم علل الأمر بها في الأمن والخوف والسعة والضيق سفراً أو حضراً بقوله‏:‏ ‏{‏إن الصلاة‏}‏ مظهراً لما كان الأصل فيه الإضمار تنيبهاً على عظيم قدرها بما للعبد فيها من الوصلة بمعبوده ‏{‏كانت على المؤمنين كتاباً‏}‏ أي هي- مع كونها فرضاً- جامعة على الله جمعاً لا يقارنها فيه غيره ‏{‏موقوتاً *‏}‏ أي وهي- مع كونها محدودة- مضبوطة بأوقات مشهورة، فلا يجوز إخراجها عنها في أمن ولا خوف فوت- بما أشارت إليه مادة وقت للأبدان بما تسبب من الأرزاق‏.‏ وللقلوب بما تجلب من المعارف والأنوار‏.‏

ولما عرف من ذلك أن آيات الجهاد في هذه السورة معلمة للحذر خوف الضرر، مرشدة إلى إتقان المكائد للتخلص من الخطر، وكان ذلك مظنة لمتابعة النفس والمبالغة فيه، وهو مظنة للتواني في أمر الجهاد؛ أتبع ذلك قوله تعالى منبهاً على الجد في أمره، وأنه لم يدع في الصلاة ولا غيرها ما يشغل عنه، عاطفاً على نحو‏:‏ فافعلوا ما أمرتكم به، أو على ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي تضعفوا وتتوانوا بالاشتغال بذكر ولا صلا، فقد يسرت ذلك لكم تيسيراً لا يعوق عن شيء من أمر الجهاد ‏{‏في ابتغاء القوم‏}‏ أي طلبهم بالاجتهاد وإن كانوا في غاية القوم والقيام بالأمور؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن تكونوا تألمون‏}‏ أي يحصل لكم ألم ومشقة بالجهاد من القتل وما دونه ‏{‏فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏ أي لأنهم يحصل لهم من ذلك ما يحصل لكم، فلا يكونن على باطلهم اصبر منكم على حقكم‏.‏

ولما بين ما يكون مانعاً لهم من الوهن دونهم، لأنه مشترك بينهم؛ بيّن ما يحملهم على الإقدام لاختصاصه به فقال‏:‏ ‏{‏وترجون‏}‏ أي أنتم ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ‏{‏ما لا يرجون‏}‏ أي من النصر والعزم والكرم واللطف، لأنكم تقاتلون فيه وهم يقاتلون في الشيطان، وهذا لكل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر سواء كان ذلك في جهاد الكفار أو لا‏.‏

ولما كان العلم مبنى كل خير، وكانت الحكمة التي هي نهاية العلم وغاية القدرة مجمع الصفات العلى قال تعالى؛ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الآمر لكم بهذه الأوامر وهو المحيط بكل شيء ‏{‏عليماً‏}‏ أي بالغ العلم فهو لا يأمر إلا بما يكون بالغ الحسن مصلحاً للدين والدنيا ‏{‏حكيماً‏}‏ فهو يتقن لمن يأمره الأحوال، ويسدده في المقال والفعال، فمن علم منه خيراً أراده ورقاه في درج السعادة، ومن علم منه شراً كاده فنكس مبدأه ومعاده‏.‏

ولما كان أول هذه القصص والتعجيب من حال الذين أوتوا نصيباً من الكتاب في ضلالهم وإضلالهم، ثم التعجيب من إيمانهم بالجبت والطاغوت، ثم التعجيب من حال من ادعى الإيمان بهذا الكتاب مع الكتب السالفة، ثم رضي بحكم غيره، وساق سبحانه وتعالى أصول ذلك وفروعه، ونصب الأدلة حتى علت على الفرقدين، وانتشر ضياؤها على جميع الخافقين، وختم ذلك بمجاهدة المبطلين بالحجة والسيف، وسوّر ذلك بصفتي العلم والحكمة؛ ناسب أتم مناسبة الإخبار بأنه أنزل هذا الكتاب بالحق وبين فائدته التي عدل عنها المنافقون في استحكام غيره فقال‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي تتقاصر دونها كل عظمة ‏{‏إليك‏}‏ أي خاصة وأنت أكمل الخلق ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الكامل الجامع لكل خير ‏{‏بالحق‏}‏ أي ملتبساً بما يطابقه الواقع ‏{‏لتحكم بين الناس‏}‏ أي عامة، لأن دعوتك عامة فلا أضل ممن عدل عن حكمك وابتغى خيراً من غير كتابك، وأشار إلى أنه لا ينطق عن الهوى بقوله‏:‏ ‏{‏بما أراك الله‏}‏ أي عرفكه الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل، فإن كان قد بين لك شيئاً غاية البيان فافعله، وإلا فانتظر منه البيان؛ ثم شرع سبحانه وتعالى في إتمام ما بقي من أخبارهم، وكشف ما بطن من أسرارهم، وبيان علاماتهم ليعرفوا، ويجتنبها المؤمنون لئلا يوسموا بميسمهم‏.‏

ولما كان سبحانه وتعالى قد خفف عليه صلى الله عليه وسلم بأن شرع له القناعة في الحكم بالظاهر وعدم التكليف بالنقب عن سرائرهم بالدفع عن طعمة بن أبيرق، لأن أمره كان مشكلاً، فإنه سرق درعاً وأودعها عند يهودي، فوجدت عنده فادعى أن طعمة أودعها عنده، ولم يثبت ذلك على طعمة حتى أنزل الله سبحانه وتعالى الآية، فأراد تعالى إنزاله في هذه النازلة وغيرها مما يريده سبحانه وتعالى في المقام الخضري من الحكم بما في نفس الأمر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى إذ كان الصحيح الذي عليه الجمهور- كما نقله شيخنا قاضي الشافعية بمصر أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر رحمه الله تعالى في الإصابة في أسماء الصحابة- أن الخضر عليه الصلاة والسلام نبي، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم قد أعطى مثل جميع معجزات الأنيباء صلوات الله عليهم مع ما اختص به دونهم- على جميعهم أفضل الصلاة وأتم التسليم والبركات، فقال تعالى عاطفاً على ما علم تقديره من نحو‏:‏ فاحكم بما نريك من بحار العلوم التي أودعناها هذا الكتاب‏:‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين‏}‏ أي لأجلهم، من طعمة وغيره ‏{‏خصيماً *‏}‏ أي مخاصماً لمن يخاصمهم، وأتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واستغفر الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة التامة والغنى المطلق ‏{‏كان‏}‏ أي أزلاً وأبداً ‏{‏غفوراً رحيماً *‏}‏ وهذا الاستغفار لا عن ذنب إذ هو منزه عن ذلك، معصوم منه، ولكن عن مقام عال تام للارتقاء إلى أعلى منه وأتم؛ وقد روى الترمذي سبب نزول هذه الآيات إلى قوله تعالى ‏{‏فقل ضل ضلالاً بعيداً‏}‏ من وجه مستقص مبين بياناً شافياً وسمى بني أبيرق بشراً وبشيراً ومبشراً، ولم يذكر طعمة- والله سبحانه وتعالى أعلم، قال‏:‏ عن قتادة بن النعمان قال‏:‏ «كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق‏:‏ بشر وبشير ومبشر، فكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول‏:‏ قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا‏:‏ والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث‏!‏ قال‏:‏ وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فقدمت ضافطة من الشام، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح درع وسيف، فعدى عليه من تحت البيت فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال‏:‏ يا ابن أخي‏!‏ إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال‏:‏ فتحسسنا في الدار، فقيل لنا‏:‏ قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال‏:‏ وكان بنو أبيرق قالوا- ونحن نسأل في الدار-؛ والله ما نرى صابحكم إلا لبيد بن سهل- رجل منا له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال‏:‏ أنا أسرق‏!‏ فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقةَ‏!‏ قالوا‏:‏ إليك عنا أيها الرجل‏!‏ فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي‏!‏ لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له‏!‏ قال قتادة‏:‏ فأتيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سآمر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت‏!‏ قال قتادة‏:‏ فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال‏:‏ عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح‏!‏ ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة‏!‏ قال‏:‏ فقال لي عمي‏:‏ يا ابن أخي‏!‏ ما صنعت‏؟‏ فأخبرته بام قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ الله المستعان‏!‏ فلم يلبث أن نزل القرآن ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ إلى ‏{‏خصيماً‏}‏ بني أبيرق، ‏{‏واستغفر الله‏}‏ مما قلت لقتادة، ‏{‏إن الله كان غفوراً رحيماًْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فسوق نؤتيه أجراً عظيماً‏}‏؛ فلا نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية، فأنزل الله سبحانه وتعالى ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ضلالاً بعيداً‏}‏» وروى الحديث ابن إسحاق في السيرة وزاد‏:‏ إن حساناً قال في نزوله عندها أبياتاً فطردته، فلحق بالطائف فدخل بيتاً ليسرق منه، فوقع عليه فمات، فقالت قريش‏:‏ والله ما يفارق محمداً من أصحابه أحد فيه خير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 111‏]‏

‏{‏وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

ولما نهاه عن الخصام لمطلق الخائن، وهو من وقعت منه خيانة ما؛ أتبعه النهي عن المجادلة عمن تعمد الخيانة فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادل‏}‏ أي في وقت ما ‏{‏عن الذين يختانون‏}‏ أي يتجدد منهم تعمد أن يخونوا ‏{‏أنفسهم‏}‏ بأن يوقعوها في الهلكة بالعصيان فيما اؤتمنوا عليه من الأمور الخفية، والتعبير بالجمع- مع أن الذي نزلت فيه الآية واحد- للتعميم وتهديد من أعانه من قومه، ويجوز أن يكون أشار بصيغة الافتعال إلى أن الخيانة لا تقع إلا مكررة، فإنه يعزم عليها أولاً ثم يفعلها، فأدنى لذلك أن يكون قد خان من نفسه مرتين، قال الإمام ما معناه أن التهديد في هذه الآية عظيم جداً، وذلك أنه سبحانه وتعالى عاتب خير الخلق عنده وأكرمهم لديه هذه المعاتبة وما فعل إلا الحق في الظاهر، فكيف بمن يعلم الباطن ويساعد أهل الباطل‏؟‏ فكيف إن كان بغيرهم‏؟‏ ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن من خان غيره كان مبالغاً في الخيانة بالعزم وخيانة الغير المستلزمة لخيانة النفس فلذا ختمت بالتعليل بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الجليل العظيم ذا الجلال والإكرام ‏{‏لا يحب‏}‏ أي لا يكرم ‏{‏من كان خواناً أثيماً‏}‏ بصيغتي المبالغة- على أن مراتب المبالغين في الخيانة متفاوتة، وفيه مع هذا استعطاف لمن وقعت منه الخيانة مرة واحدة وقدم سبحانه وتعالى ذلك، لأن فيه دفعاً للضر عن البريء وجلباً للنفع إليه؛ ثم أتبعه بعيب هذا الخائن وقلة تأمله والإعلام بأن المجادلة عنه قليلة الجدوى، فقال سبحانه وتعالى معجباً منهم بما هو كالتعليل لما قبله‏:‏ ‏{‏يستخفون‏}‏ أي هؤلاء الخونة‏:‏ طعمة ومن مالأه وهو يعلم باطن أمره ‏{‏من الناس‏}‏ حياء منهم وخوفاً من أن يضروهم لمشاهدتهم لهم وقوفاً مع الوهم كالبهائم ‏{‏ولا يستخفون‏}‏ أي يطلبون ويوجدون الخفية بعدم الخيانة ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي لا شيء أظهر منه لما له من صفات الكمال ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏معهم‏}‏ لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، ولا يعجزه شيء من نكالهم، فالاستخفاء منه لا يكون إلا بترك الخيانة ومحض الإخلاص، فواسوأتاه من أغلب الأفعال والأقوال والأحوال‏!‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏يبيتون‏}‏ أي يرتبون ليلاً على طريق الإمعان في الفكر والإتقان للرأي ‏{‏ما لا يرضى من القول‏}‏ أي من البهت والحلف عليه، فلا يستحيون منه ولا يخافون، لاستيلاء الجهل والغفلة على قلوبهم وعدم إيمانهم بالغيب‏.‏

ولما أثبت علمه سبحانه وتعالى بهذا من حالهم عمم فقال‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي كل شيء في قبضته لأنه الواحد الذي لا كفوء له ‏{‏بما يعملون‏}‏ أي من هذا وغيره ‏{‏محيطاً *‏}‏ أي علماً وقدرة‏.‏

ولما وبخهم سبحانه وتعالى على جهلهم، حذر من مناصرتهم فقال مبنياً أنها لا تجديهم شيئاً، مخوفاً لهم جداً بالمواجهة بمثل هذا التنبيه والخطاب ثم الإشارة بعد‏:‏ ‏{‏هاأنتم هؤلاء‏}‏ وزاد في الترهيب للتعيين بما هو من الجدل الذي هو أشد الخصومة- من جدل الحبل الذي هو شدة فتله- وإظهاره في صيغة المفاعلة، فقال مبيناً لأن المراد من الجملة السابقة التهديد‏:‏ ‏{‏جادلتم عنهم‏}‏ في هذه الواقعة أو غيرها ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ أي بما جعل لكم من الأسباب‏.‏

ولما حذرهم وبخهم على قلة فطنتهم وزيادة في التحذير بأن مجادلتهم هذه سبب لوقوع الحكومة بين يديه سبحانه وتعالى فقال‏:‏ ‏{‏فمن يجادل الله‏}‏ أي الذي له الجلال كله ‏{‏عنهم‏}‏ أي حين تنقطع الأسباب ‏{‏يوم القيامة‏}‏ ولا يفترق الحال في هذا بين أن تكون «ها» من ‏{‏هأنتم‏}‏ للتنبيه أو بدلاً عن همزة استفهام- على ما تقدم، فإن معنى الإنكار هنا واضح على كلا الأمرين‏.‏

ولما كان من أعظم المحاسن كف الإنسان عما لا علم له به، عطف على الجملة من أولها من غير تقييد بيوم القيامة منبهاً على قبح المجادلة عنهم بقصور علم الخلائق قوله‏:‏ ‏{‏أم من يكون‏}‏ أي فيما يأتي من الزمان ‏{‏عليهم وكيلاً *‏}‏ أي يعلم منهم ما يعلم الله سبحانه وتعالى بأن يحصي أعمالهم فلا يغيب عنه منها شيء ليجادل الله عنهم، فيثبت لهم ما فارقوه، وينفي عنهم ما لم يلابسوه ويرعاهم ويحفظهم مما يأتيهم به القدر من الضرر والكدر‏.‏

ولما نهى عن نصرة الخائن وحذر منها، ندب إلى التوبة من كل سوء فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن يصر على مثل هذه المجادلة يجد الله عليماً حكيماً-‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءاً‏}‏ أي قبيحاً متعدياً يسوء غيره شرعاً، عمداً- كما فعل طعمة- أو غير عمد ‏{‏أو يظلم نفسه‏}‏ بما لا يتعداه إلى غيره شركاً كان أو غيره، أو بالرضى لها بما غيره أعلى منه، ولم يسمه بالسوء لأنه لا يقصد نفسه بما يضرها في الحاضر ‏{‏ثم يستغفر الله‏}‏ أي يطلب من الملك الأعظم غفرانه بالتوبة بشروطها ‏{‏يجد الله‏}‏ أي الجامع لكل كمال ‏{‏غفوراً‏}‏ أي ممحيّاً للزلات ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي مبالغاً في إكرام من يقبل إليه «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» روى إسحاق بن راهويه عن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو يعلى الموصلي عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية نسخت ‏{‏من يعمل سوءاً يجز به‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 123‏]‏ وأنها نزلت بعدها‏.‏

ولما ندب إلى التوبة ورغب فيها، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها فقال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثماً‏}‏ أي إثم كان ‏{‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ لأن وباله راجع عليه إذ الله له بالمرصاد، فهو مجازيه على ذلك لا محالة غير حامل لشيء من إثمه على غيره كما أنه غير حامل لشيء من إثم غيره عليه، والكسب‏:‏ فعل ما يجر نفعاً أو يدفع ضراً‏.‏

ولما كان هذا لا يكون إلا مع العلم والحكمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له كمال الإحاطة أزلاً وأبداً ‏{‏عليماً‏}‏ أي بالغ العلم بدقيق ذلك وجليله، فلا يترك شيئاً منه ‏{‏حكيماً *‏}‏ فلا يجازيه إلا بمقدار ذنبه، وإذا أراد شيئاً وضعه في أحكم مواضعه فلا يمكن غيره شيء من نقضه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 116‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

ولما ذكر ما يخص الإنسان من إثمه أتبعه ما يعديه إلى غيره فقال‏:‏ ‏{‏ومن يكسب خطيئة‏}‏ أي ذنباً غير متعمد له ‏{‏أو إثماً‏}‏ أي ذنباً تعمده‏.‏ ولما كان البهتان شديداً جداً قلَّ من يجترئ عليه، أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم يرم به بريئاً‏}‏ أي ينسبه إلى من لم يعمله- كما فعل طعمة باليهودي، وابن أبي بالصديقة رضي الله تعالى عنها‏.‏ وعظم جرم فاعل ذلك بصيغة الافتعال في قوله‏:‏ ‏{‏فقد احتمل‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏بهتاناً‏}‏ أي خطر كذب يبهت المرمى به لعظمه، وكأنه إشارة إلى ما يلحق الرامي في الدنيا من الذم ‏{‏وإثماًَ‏}‏ أي ذنباً كبيراً ‏{‏مبيناً‏}‏ يعاقب به في الآخرة، وإنما كان مبيناً لمعرفته بخيانة نفسه وبراءة المرمى به، ولأن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته الجميلة أن يظهر براءة المقذوف به يوماً ما بطريق من الطرق ولو لبعض الناس‏.‏

ولما وعظ سبحانه وتعالى في هذه النازلة وحذر ونهى وأمر، بين نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم في عصمته عما أرادوه من مجادلته عن الخائن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏عليك‏}‏ أي بإنزال الكتاب ‏{‏ورحمته‏}‏ أي بإعلاء أمرك وعصمتك من كل ذي كيد وحفظك في أصحابك الذين أتوا يجادلون عن ابن عمهم سارق الدرع في التمسك بالظاهر وعدم قصد العناد ‏{‏لهمت طائفة منهم‏}‏ أي فرقة فيها أهلية الاستدارة والتخلق، لا تزال تتخلق فتفيل الآراء وتقلب الأمور وتدير الأفكار في ترتيب ما تريد ‏{‏أن يضلوك‏}‏ أي يوقعوك في ذلك بالحكم ببراءة طعمة، ولكن الله حفظك في أصحابك فما هموا بذلك، وإنما قصدوا المدافعة عن صاحبهم بما لم يتحققوه، ولو هموا لما أضلوك ‏{‏وما يضلون‏}‏ أي على حالة من حالات هذا الهم ‏{‏إلا أنفسهم‏}‏ إذ وبال ذلك عليهم ‏{‏وما يضرونك‏}‏ أي يجددون في ضرك حالاً ولا مالاً بإضلال ولا غيره ‏{‏من شيء‏}‏ وهو وعد بدوام العصمة في الظاهر والباطن كآية المائدة أيضاً وإن كانت هذه بسياقها ظاهرة في الباطن وتلك ظاهرة في الظاهر ‏{‏وأنزل الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏عليك‏}‏ وأنت أعظم الخلق عصمة لأمتك ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الذي تقدم أول القصة الإشارة إلى كماله وجمعه لخيري الدارين ‏{‏والحكمة‏}‏ أي الفهم لجميع مقاصد الكتاب فتكون أفعالك وأفعال من تابعك فيه على أتم الأحوال، فتظفروا بتحقيق العلم وإتقان العمل، وعمم بقوله‏:‏ ‏{‏وعلمك ما لم تكن تعلم‏}‏ أي من المشكلات وغيرها غيباً وشهادة من أحوال الدين والدنيا ‏{‏وكان فضل الله‏}‏ أي المتوحد بكل كمال ‏{‏عليك عظيماَ *‏}‏ أي بغير ذلك من أمور لا تدخل تحت الحصر، وهذا من أعظم الأدلة على أن العلم أشرف الفضائل‏.‏

ولما كان قوم طعمة قد ناجوا النبي صلى الله عليه وسلم في الدفع عنه، نبههم سبحانه وغيرهم على ما ينبغي أن يقع به التناجي، ويحسن فيه التفاؤل والتجاذب على وجه ناه عن غيره أشد نهي بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير من نجواهم‏}‏ أي نجوى جميع المناجين ‏{‏إلا من‏}‏ أي نحوى من ‏{‏أمر بصدقة‏}‏ ولما خص الصدقة لعزة المال في ذلك الحال، عمم بقوله‏:‏ ‏{‏أو معروف‏}‏ أيّ معروف كان مما يبيحه الشرع من صدقة وغيرها‏.‏

ولما كان إصلاح ذات البين أمراً جليلاً، نبه على عظمه بتخصيصه بقوله‏:‏ ‏{‏أو إصلاح بين الناس‏}‏ أي عامة، فقد بين سحانه وتعالى أن غير المستثنى من التناجي لا خير فيه، وكل ما انتقى عنه الخير كان مجتنباً- كما روى أحمد والطبراني في الكبير بسند لا بأس به وهذا لفظه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ إنما الأمور ثلاثة‏:‏ أمر تبين لك رشده فاتبعه، وأمر تبين لك غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فرده إلى عالمه»‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن أمر بشي من ذلك فنجواه خير، وله عليها أجر؛ عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏من يفعل ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي أمر به من هذه الأشياء ‏{‏ابتغاء مرضاة الله‏}‏ الذي له صفات الكمال، لأن العمل لا يكون له روح إلا بالنية ‏{‏فسوف نؤتيه‏}‏ أي في الآخرة بوعد لا خلف فيه ‏{‏أجراًَ عظيماً *‏}‏ وهذه الآية من أعظم الدلائل على أن المطلوب من أعمال الظاهر رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض دنيوي، فإن كان رياء انقلبت فصارت من أعظم المفاسد‏.‏

ولما رتب سبحانه وتعالى الثواب العظيم على الموافقة، رتب العقاب الشديد على المخالفة والمشاققة، ووكل المخالف إلى نفسه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يشاقق الرسول‏}‏ أي الكامل في الرسلية، فيكون بقلبه أو شيء من فعله في جهة غير جهته على وجه المقاهرة، وعبر بالمضارع رحمة منه سبحانه بتقييد الوعيد بالاستمرار، وأظهر القاف إشارة إلى تعليقه بالمجاهرة، ولأن السياق لأهل الأوثان وهم مجاهرون، وقد جاهر سارق الدرعين الذي كان سبباً لنزول الآية في آخر قصته- كما مضى‏.‏

ولما كان في سياق تعليم الشريعة التي لم تكن معلومة قبل الإيحاء بها، لا في سياق الملة المعلومة بالعقل، أتى ب «من» تقييداً للتهديد بما بعد الإعلام بذلك فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ما‏}‏ ولو حذفت لفهم اختصاص الوعيد بمن استغرق زمان البعد بالمشاققة‏.‏ ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الظهور قال‏:‏ ‏{‏تبين له الهدى‏}‏ أي الدليل الذي هو سببه‏.‏

ولما كان المخالف للإجماع لا يكفر إلا بمنابذة المعلوم بالضرورة، عبر بعد التبين بالاتباع فقالك ‏{‏ويتبع غير سبيل‏}‏ أي طريق ‏{‏المؤمنين‏}‏ أي الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة، والمراد الطريق المعنوي، وجه الشبه الحركة البدنية الموصلة إلى المطلوب في الحسي، والنفسانية في مقدمات الدليل الموصل إلى المطلوب في المعنوي ‏{‏نوله‏}‏ أي بعظمتنا في الدنيا والآخرة ‏{‏ما تولى‏}‏ أي نكله إلى ما اختار لنفسه وعالج فيه فطرته الأولى خذلاناً منا له ‏{‏ونصله‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏جهنم‏}‏ أي تلقاه بالكراهة والغلظة والعبوسة كما تجهم أولياءنا وشاققهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فهو صائر إليها لا محالة، بين حالها في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وساءت مصيراً *‏}‏ وهذه الآية دالة على أن الإجماع حجة لأنه لا يتوعد إلا على مخالفة الحق، وكذا حديث «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله- وفي رواية‏:‏ ظاهرين على الحق- حتى يأتي أمر الله» رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثوبان والمغيرة وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله ومعاوية وأنس وأبو هريرة، بعض أحاديثهم في الصحيحين، وبعضها في السنن، وبعضها في المسانيد، وبعضها في المعاجيم وغير ذلك؛ ووجه الدلالة أن الطائفة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالحق في جملة أهل الإجماع والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏

ولما كان فاعل ذلك بعد بيان الهدى هم أهل الكتاب ومن أضلوه من المنافقين بما ألقوه إليهم من الشبه، فردوهم إلى ظلام الشرك والشك بعد أن بهرت أبصارهم أشعة التوحيد؛ حسن إيلاؤه قوله سبحانه وتعالى- معللاً تعظيماً لأهل الإسلام، وحثاً على لزوم هديهم، وذما لمن نابذهم وتوعداً له، إشارة إلى أن من خرق إجماع المسلمين صار حكمه حكم المشركين، فكيف بمن نابذ المرسلين‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الأحد المطلق فلا كفوء له ‏{‏لا يغفر أن يشرك به‏}‏ أي وقوع الشرك به، من أي شخص كان، وبأي شيء كان، لأن من قدح في الملك استحق البوار والهلك، وسارق الدرع أحق الناس بذلك ‏{‏ويغفر ما‏}‏ أي كل شيء هو ‏{‏دون ذلك‏}‏ أي الأمر الذي لم يدع للشناعة موضعاً- كما هو شأن من ألقى السلم ودخل في ربقة العبودية، ثم غلبته الشهوة فقصر في بعض أنواع الخدمة‏.‏ ثم دل على نفوذ أمره بقوله‏:‏ ‏{‏لمن يشاء‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن من أشرك به فقد افترى إثماً مبيناً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يشرك‏}‏ أي يوقع هذا الفعل القذر جداً في أي وقت كان من ماض أو حال أو استقبال مداوماً على تجديده ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الذي لا نزاع في تفرده بالعظمه لأنه لا خفاء في ذلك عند أحد ‏{‏فقد ضل‏}‏ أي ذهب عن السنن الموصل ‏{‏ضلالاً بعيداً *‏}‏ لا تمكن سلامة مرتكبه، وطوزى مقدمة الافتراء الذي هو تعمد الكذب، وذكر مقدمة الضلال، لأن معظم السياق للعرب أهل الأوثان والجهل فيهم فاش، بخلاف ما مضى لأهل الكتاب فإن كفرهم عن علم فهو تعمد للكذب‏.‏