فصل: تفسير الآيات رقم (33- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الإسراف بعد هذه الموانع محاربة للناهي عنه، وكان تارة يكون بالقتل وتارة بغيره، وكان ربما ظن أن عذاب القاتل يكون بأكثر من القتل لكونه كمن قتل الناس جميعاً، وصل به سبحانه قوله على طريق الحصر‏:‏ ‏{‏إنما جزاؤا‏}‏ وكان الأصل‏:‏ جزاؤهم، ولكن أريد تعليق الحكم بالوصف والتعميم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يحاربون الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ‏{‏ورسوله‏}‏ أي بمحاربة من نَهَيَا عن محاربته بقطع الطريق وهم مسلمون، ولهم منعة ممن أرادهم، ويقصدون المسلمين في دمائهم وأموالهم سواء كانوا في البلد أو خارجها‏.‏

ولما كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً، أعلم أن هؤلاء عماد الشيطان بقوله‏:‏ ‏{‏ويسعون في الأرض‏}‏ ولما كان هذا ظاهراً في الفساد، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏فساداً‏}‏ أي حال كونهم ذوي فساد، أو للفساد، ويجوز أن يكون مصدراً ليسعون- على المعنى، ولما كانت أفعالهم مختلفة، فسم عقوبتهم بحسبها فقال‏:‏ ‏{‏أن يقتلوا‏}‏ أي إن كانت جريمتهم القتل فقط، لأن القتل جزاؤه القتل، وزاد- لكونه في قطع الطريق- صيرورته حتماً لا يصح العفو عنه ‏{‏أو يصلّبوه‏}‏ أي مع القتل إن ضموا إلى القتل أحد المال، بأن يرفع المصلوب على جذع، ومنهم من قال‏:‏ يكون ذلك وهو حيّ، فحينئذٍ تمد يداه مع الجذع، والأصح عند الشافعية أنه يقتل ويصلى عليه ثم يرفع على الجذع زمناً يشيع خبره فيه لينزجر غيره، ولا يزاد على ثلاثة أيام ‏{‏أو تقطّع أيديهم‏}‏ أي اليمنى بأخذهم المال من غير قتل ‏{‏وأرجلهم‏}‏ أي اليسرى لإخافة السبيل، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏من خلاف‏}‏ أي إن كانت الجريمة أخذ المال فقط ‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏ أي بالإخافة والإزعاج إن لم يقعوا في قبضة الإمام ليكونوا منتقلين من بلد إلى آخر ذعراً وخوفاً، وبالحبس إن وقعوا في القبضة، وكانوا قد كثروا سواد المحاربين وما قتلوا ولا أخذوا مالاً ‏{‏ذلك‏}‏ أي النكل الشديد المفصّل إلى ما ذكر ‏{‏لهم‏}‏ أي خاصاً بهم ‏{‏خزي‏}‏ أي إهانة وذل بإيقاعه بهم ‏{‏في الدنيا‏}‏ أي ليرتدع بهم غيرهم ‏{‏ولهم‏}‏ أي إن لم يتوبوا ‏{‏في الآخرة‏}‏ أي التي هي موطن الفصل بإظهار العدل ‏{‏عذاب عظيم‏}‏ أي هو بحيث لا يدخل تحت مَعارِفِكم أكثر من وصفه بالعظم‏.‏

ولما كان التعبير ب «إنما» يدل بختم الجزاء على هذا الوجه، استثنى من المعاقبين هذه العقوبة بقوله‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ أي رجعوا عما كانوا عليه من المحاربة خوفاً من الله تعالى، ولذا قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ وأثبت الجار إشارة إلى القبول وإن طال زمن المعصية وقصر زمن التوبة ‏{‏أن تقدروا عليهم‏}‏ أي فإن تحتم الجزاء المذكور يسقط، فلا يجازون على ما يتعلق بحقوق الآدمي إلاّ إذا طلب صاحب الحق، فإن عفا كان له ذلك، وأما حق الله تعالى فإنه يسقط، وإلى هذا الإشارة أيضاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن الله‏}‏ أي على ما له من صفات العظمة ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي صفته ذلك أزلاًَ وأبداً، فهو يفعل منه ما يشاء لمن يشاء، وأفهمت الآية أن التوبة بعد القدرة لا تسقط شيئاً من الحدود‏.‏

ولما ذكر تعالى حكمهم عند التوبة، وختم الآية بما يناسب من الغفران والرحمة، وكان ذلك ربما كان جزاء من لم يرسخ قدمه في الدين على جنابه المتعالي، أتبع ذلك الأمر بالتقوى وجهاد كل من أفسد بقطع الطريق أو الكفر أو غيره فقال على وجه الاستنتاج مما قبله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي وجد منهم الإقرار بالإيمان ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين ما سمعتم من وعيده للمفسدين وقاية تصديقاً لما أقررتم به، لما له سبحانه من العظمة التي هي جديرة بأن تخشى وترجى لجمعها الجلال والإكرام‏.‏

ولما كانت مجامع التكليف منحصرة في تخلٍّ من فضائح المنهيات وتحلٍّ بملابس المأمورات، وقدم الأول لأنه من درء المفاسد، أتبعه الثاني فقال‏:‏ ‏{‏وابتغوا‏}‏ أي اطلبوا طلباً شديداً ‏{‏إليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏الوسيلة‏}‏ أي التقريب بكل ما يوصل إليه من طاعته، ولا تيأسوا وإن عظمت ذنوبكم لأنه غفور رحيم‏.‏

ولما كان سببحانه قد قدم أوامر ونواهي، وكان الاستقراء قد أبان الناس عند الأمر والنهي بين مقبل ومعرض، وكان قد أمر المقبل بجهاد المعرض، وكان للجهاد‏.‏ بما له من عظيم النفع وفيه من المشقة- مزيدُ خصوصية، أفرد بالذكر تأكيداً لما مضى منه وإعلاماً بأنه للعاصي مطلقاً سواء كان بالكفر أو بغيره فقال‏:‏ ‏{‏وجاهدوا في سبيله‏}‏ أي لتكون كلمته هي العليا ‏{‏لعلكم تفلحون *‏}‏ أي لتكون حالكم حال من يرجى نيله لكل ما يطلبه، وهذا شامل لكل أمر بمعروف ونهي عن منكر في أعلى درجاته وأدناها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كان ترك هذه الأوصاف الثلاثة‏:‏ التقوى وطلب الوسيلة والجهاد مزيلاً للوصف الأول وهو الإيمان، ناسب كل المناسبة تحذيراً من تركها ذكرُ حال الكفار وأنه لا تنفعهم وسيلة في تلك الدار فقال معللاً لما قبله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ أي بترك ما في الآية السابقة، ورتب الجزاء عن الماضي زيادة في التحذير ‏{‏لو أن لهم ما في الأرض‏}‏ وأكد ما أفهمه الكلام من استغراق الظرف والمظروف فقال‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ أي مما كان يطلب منهم شيء يسير جداً منه، وهو الإذعان بتصديق الجنان إنفاق الفضل من المال، وزاد الأمر هولاً بقوله‏:‏ ‏{‏ومثله‏}‏ ولما كان لدفع الفداء جملة ما ليس له مفرَّقاً قال ‏{‏معه‏}‏‏.‏

ولما كان المقصود تحقير ذلك بالنسبة إلى عظمة يوم التغابن وإن كان عند الكفار الذين جعلوا غاية أمرهم الحياة الدنيا أعظم ما يكون، والإفهام بأن المراد بالمثل الجنس ليشمل ما عساه أن يفرض من الأمثال، أعاد الضمير على هذين الشيئين على كثرتهما وعظمتهما مفرداً، فقال معبراً بالمضارع الدال على تجديد الرغبة في المسألة على سبيل الاستمرار ولأن السياق للمتصفين بالكفر والمحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والسعي في الأرض بالفساد، ولذلك صرح بنفي القبول على الهيئة الآتية‏:‏ ‏{‏ليفتدوا به‏}‏ أي يجددوا الافتداء في كل لحظة، أي بما ذكر ‏{‏من عذاب يوم القيامة‏}‏‏.‏

ولما كان المراد تهويل الأمر بردّه، وكان ذلك يحصل بغير تعيين الرادّ، قال‏:‏ ‏{‏ما تقبل منهم‏}‏ بالبناء للمفعول، أي على حالة من الحالات وعلى يد من كان، لأن المدفوع إليه ذلك تام القدرة وله الغنى المطلق‏.‏

ولما كان من النفوس ما هو سافل لا ينكّبه الرد، وكان الرد لأجل إمضاء المُعَدِّ من العذاب، قال مصرحاً بالمقصود‏:‏ ‏{‏ولهم‏}‏ أي بعد ذلك ‏{‏عذاب أليم *‏}‏ أي بالغ الإيجاع بما أوجعوا أولياء الله بسترهم لما أظهروا من شموس البيان، وانتهكوا من حرمات الملك الديان‏.‏ ثم علل شدة إيلامه بدوامه فقال‏:‏ ‏{‏يريدون أن يخرجوا‏}‏ أي يكون لهم خروج في وقت ما إذا رفعهم اللهب إلى أن يكاد أن يلقيهم خارجاً ‏{‏من النار‏}‏ ثم نفى خروجهم على وجه التأكيد الشديد فقال‏:‏ ‏{‏وما هم‏}‏ وأغرق في النفي بالجار واسم الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏بخارجين منها‏}‏ أي ما يثبت لهم خروج أصلاً، ولعله عبر في النفي بالاسمية إشارة إلى أنه يتجدد لهم الخروج من الحرور إلى الزمهرير، فإن سمى أحد ذلك خروجاً فهو غير مرادهم‏.‏

ولما كان المعذبون في دار ربما دام لهم المكث فيها وانقطع عنهم العذاب قال‏:‏ ‏{‏ولهم‏}‏ أي خاصة دون عصاة المؤمنين ‏{‏عذاب‏}‏ أي تارة بالحر وتارة بالبرد وتارة بغيرهما، دائم الإقامة لا يبرح ولا يتغير ‏{‏مقيم *‏}‏‏.‏

ولما كانت السرقة من جملة المحاربة والسعي بالفساد، وكان فاعلها غير متقٍ ولا متوسل، عقب بها فقال‏:‏ ‏{‏والسارق‏}‏ الآخذ لما هو في حرز خفيةً لكونه لا يستحقه ‏{‏والسارقة‏}‏ أي كذلك؛ ولما كان التقدير‏:‏ وهما مفسدان، أو حكمهما فيما يتلى عليكم، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاقطعوا‏}‏ وال- قال المبرد- للتعريف بمعنى‏:‏ الذي، والفاء للسبب كقولك‏:‏ الذي يأتيني فله كذا كذا درهم ‏{‏أيديهما‏}‏ أي الأيامن من الكوع إذا كان المأخوذ ربع دينار فصاعداً من حرز مثله من غير شبهة له فيه- كما بين جميع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم- ويرد مع القطع ما سرقه؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏جزاء بما كسبا‏}‏ أي فعلا من ذلك، وإدالته على أدنى وجوه السرقة وقاية للمال وهواناً لها للخيانة، وديتها إذا قطعت في غير حقها خمسمائة دينار وقاية للنفس من غير أن ترخصها الخيانة، ثم علل هذا الجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏نكالاً‏}‏ أي منعاً لهما كما يمنع القيد ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة فهو المرهوب لكل مربوب، وأعاد الاسم الأعظم تعظيماً للأمر فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏عزيز‏}‏ أي في انتقامه فلا يغالبه شيء ‏{‏حكيم *‏}‏ أي بالغ الحكم والحكمة في شرائعه، فلا يستطاع الامتناع من سطوته ولا نقض شيء يفعله، لأنه يضعه في أتقن مواضعه‏.‏

ولما ختم بوصفي العزة والحكمة، سبب عنهما قوله‏:‏ ‏{‏فمن تاب‏}‏ أي ندم وأقلع، ودل على كرمه بالقبول في أيّ وقت وقعت التوبة فيه ولو طال زمن المعصية بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد‏}‏ وعدل عن أن يقول «سرقته» إلى ‏{‏ظلمه‏}‏ تعميماً للحكم في كل ظلم، فشمل ذلك فعل طعمة وما ذكر بعده مما تقدم في النساء وغير ذلك من كل ما يسمى ظلماً ‏{‏وأصلح‏}‏ أي أوجد الإصلاح وأوقعه بردّ الظلامة والثبات على الإقلاع ‏{‏فإن الله‏}‏ أي بما له من كمال العظمة ‏{‏يتوب عليه‏}‏ أي يقبل توبته ويرجع به إلى أتم ما كان عليه قبل الظلم من سقوط عذاب الآخرة دون عقاب الدنيا، رحمة من الله له ورفقاً به وبمن ظلمه وعدلاً بينهما، لا يقدر أحد أن يمنعه من ذلك ولا يحول بينه وبينه لحظة ما؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله أزلاً وأبداً ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي بالغ المغفرة والرحمة، لا مانع له من ذلك ولا من شيء منه ولا من شيء يريد فعله، بل هو فعال لما يريد، والآية معطوفة على آية المحاربين وإنما فصل بينهما بما تقدم لما ذكر من العلة الطالبة لمزيد العناية به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما كان معنى ذلك أنه لا اعتراض عليه سبحانه في شيء من ذلك ولا مانع، لأن قدرته تامة، ليس هو كمن يشاهد من الملوك الذين ربما يعجزون من اعتراض أتباعهم ورعاياهم عن تقريب بعض ما لم يباشر إساءة، وإبعاد بعض من لم يباشر إحساناً، فكيف بغير ذلك‏!‏ قال تعالى مقرراً لذلك بتفرده في الملك‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله‏}‏ أي الذي له جميع العز ‏{‏له ملك السماوات‏}‏ أي على علوها وارتفاع سمكها وانقطاع أسباب ما دونها منها ‏{‏والأرض‏}‏ أي أن الملك خالص له عن جميع الشوائب‏.‏

ولما كان إيقاع النقمة أدل على القدرة، وكان السياق لها لما تقدم من خيانة أهل الكتاب وكفرهم وقصة ابنيّ آدم والسرقة والمحاربة وغير ذلك، قدم قوله معللاً لفعل ما يشاء بتمام الملك لا بغيره من رعاية لمصالح أو غيرها‏:‏ ‏{‏يعذب من يشاء‏}‏ أي من بني إسرائيل الذين ادعوا النبوة والمحبة وغيرهم وإن كان مطيعاً أي له فعل ذلك لآنه لا يقبح منه شيء ‏{‏ويغفر لمن يشاء‏}‏ أي وإن كان عمله موبقاً، لأنه لا يتصور منه ظلم ولا يسوغ عليه اعتراض‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لأنه قادر على ذلك، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل كمال ‏{‏على كل شيء‏}‏ أي شيء ‏{‏قدير *‏}‏ أي ليس هو كغيره من الملوك الذين قد يعجز أحدهم عن تقريب ابنه وتبعيد أعدى عدوه، وهذه القضية الضرورية ختم بها ما دعت المناسبة إلى ذكره من الأحكام، وكرَّ بها على أتم انتظام إلى أوائل نقوض دعواهم في قوله ‏{‏بل أنتم بشر ممن خلق‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏-‏.‏

ولما تقرر ذلك، كان من غير شك علةً لعدم الحزن على شيء من أمرهم ولا من أمر غيرهم ممن عصى شيئاً من هذه الأحكام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏لكيلا تأسوا على ما فاتكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ أي المبلغ لما أرسل به- معلول لما قبله‏.‏ وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ‏{‏ومن يرد اله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏ ‏{‏ولا يحزنك‏}‏ أي لا يوقع عندك شيئاً من الحزن صنعُ ‏{‏الذين يسارعون في الكفر‏}‏ أي يفعلون في إسراعهم يف الوقوع فيه غاية الإسراع فعلَ من يسابق غيره، وفي تبيينهم بالمنافقين وأهل الكتاب بشارة بإتمام النعمة على العرب بدوام إسلامهم ونصرهم عليهم، وقدم أسوأ القسمين فقال‏:‏ ‏{‏من الذين قالوا آمنا‏}‏‏.‏

ولما كان الكلام هو النفسي، أخرجه بتقييده بقوله‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ معبراً لكونهم منافقين بما منه ما هو أبعد عن القلب من اللسان، فهم إلى الحيوان أقرب منهم إلى الإنسان، وزاد ذلك بياناً بقوله‏:‏ ‏{‏ولم تؤمن قلوبهم‏}‏‏.‏

ولما بين المسارعين بالمنافقين، عطف عليهم قسماً آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال‏:‏ ‏{‏ومن الذين هادوا‏}‏ أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعاً لمخالفة قلوبهم لما تعرف عناداً وطغياناً، ثم أخبر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏سمّاعون‏}‏ أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة ‏{‏للكذب‏}‏ أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب ‏{‏سمّاعون لقوم آخرين‏}‏ أي الصدق، ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏لم يأتوك‏}‏ أي لعلة، وذكر الضمير لإرادة الكلام، لأن المقصود البغض على نفاقهم ‏{‏يحرفون الكلم‏}‏ أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين‏:‏ المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً، ولذلك، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد‏}‏ أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من ‏{‏مواضعه‏}‏ أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء‏:‏ مال عنه، قال الصغاني‏:‏ وتحريف الكلام عن مواضعه‏:‏ تغييره، وقال أبو عبد الله القزاز‏:‏ والتحريف التفعيل، من‏:‏ انحرف عن الشيء- إذا مال، فمعنى حرفت الكلام‏:‏ أزلته عن حقيقة ما كان عليه في المعنى، وأبقيت له شبه اللفظ، ومنه قوله تعالى ‏{‏يحرفون الكلم‏}‏، وذلك أن اليهود كانت تغير معاني التوراة بالأشباه، وفي الحديث «يسلط عليهم طاعون يحرف القلوب» أي يغيرها عن التوكل ويدعوهم إلى الانتقال عن تلك البلاد، وحكي‏:‏ حرفته عن جهته- أي بالتخفيف- مثل‏:‏ حرّفته، والمحارفة‏:‏ المقايسة، من المحراف وهو الميل الذي يقاس به الجراح- انتهى‏.‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف منها أولاً الإتيان وأثبت عدمه ثانياً للدلالة عليه، وحذف منها ثانياً الصدق ودل عليه بإثبات ضده- الكذب- في الأولى‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما غرضهم بإثبات الكذب وتحريف الصدق‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ أي لمن يوافقهم ‏{‏إن أوتيتم‏}‏ أي من أيّ مؤت كان ‏{‏هذا‏}‏ أي المكذوب والمحرف ‏{‏فخذوه‏}‏ أي اعملوا به ‏{‏وإن لم تؤتوه‏}‏ أي بأن أوتيتم غيره أو سكت عنكم ‏{‏فاحذروا‏}‏ أي بأن تؤتوا غيره فتقبلوه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأولئك الذين أراد الله فتنتهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يرد الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏فتنته‏}‏ أي أن يحل به ما يميله عن وجه سعادته بالكفر حقيقة أو مجازاً ‏{‏فلن تملك له من الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ‏{‏شيئاً‏}‏ أي من الإسعاد، وإذا لم تملك ذلك أنت وأنت أقرب الخلق إلى الله فمن يمكله‏.‏

ولما كان هذا، أنتج لا محالة قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من الهدى ‏{‏الذين لم يرد الله‏}‏ أي وهو الذي لا راد لما يريده، ولا فاعل لما يرده، فهذه أشد الآيات على المعتزلة ‏{‏أن يطهر قلوبهم‏}‏ أي بالإيمان، والجملة كالعلة لقوله ‏{‏فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏، ولما ثبت أن قلوبهم نجسة، أنتج ذلك قوله‏:‏ ‏{‏لهم في الدنيا خزي‏}‏ أي بالذل والهوان، أما المنافقون فبإظهار الأسرار والفضائح الكبار وخوفهم من الدمار، وأما اليهود فببيان أنهم حرفوا وبدلوا وضرب الجزية عليهم وغير ذلك من الصغار ‏{‏ولهم في الآخرة‏}‏ التي من خسرها فلا ربح له بوجه ما ‏{‏عذاب عظيم *‏}‏ أي لعظيم ما ارتكبوه من هذه المعاصي المتضاعفة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

ولما ذكر التحريف، ذكر أثره وهو الحكم به فقال مكرراً لوصفهم زيادة في توبيخهم وتقبيح شأنهم‏:‏ ‏{‏سمّاعون‏}‏ أي هم في غاية الشهوة والانهماك في سماعهم ذلك ‏{‏للكذب أكّالون‏}‏ أي على وجه المبالغة ‏{‏للسحت‏}‏ أي الحرام الذي يسحت البركة أي يستأصلها، وهو كل ما لا يحل كسبه، وذلك أخذهم الرشى ليحكموا بالباطل على نحو ما حرفوه وغيره من كلام الله، قال الشيخ أبو العباس المرسي‏:‏ ومن آثر من الفقراء السماع لهواه، وأكل ما حرمه مولاه، فقد استهوته نزعة يهودية، فإن القوال يذكر العشق والمحبة والوجد وما عنده منها شيء‏.‏

ولما كانوا قد يأخذون الرشوة ولا يقدرون على إبرام الحكم بما أرادوه، فيطمعون في أن يفعلوا ذلك بواسطة ترافعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيترافعون إليه، فإن حكم بينهم بما أرادوا قبلوه واحتجوا به على من لعله يخالفهم، وإن حكم بما لم يريدوه قالوا‏:‏ ليس هذا في ديننا- طمعاً في أن يخليهم فلا يلزمهم بما حكم، أعلمه الله تعالى بما يفعل في أمرهم، وحذره غوائل مكرهم، فقال مفوضاً الخيرة إليه في أمر المعاهدين إلى مدة- وأما أهل الجزية فيجب الحكم بينهم إذا ترافعوا إلى حاكمنا- مسبباً عن أكلهم الحرام وسماعهم الكذب‏:‏ ‏{‏فإن جاءوك‏}‏ أي طمعاً في أن تؤتيهم ما حرفوا إليه الكلم ‏{‏فاحكم بينهم‏}‏ أي إن شئت بما أنزل الله عليك من الحق ‏{‏أو أرض عنهم‏}‏ أي كذلك‏.‏

ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ دالاً بعطفه على غير معطوف عليه أن التقدير‏:‏ فإن حكمت بينهم لم ينفعوك شيئاً لإقبالك عليهم، قال‏:‏ وإن ‏{‏تعرض عنهم‏}‏ أي الكفرة كلهم من المصارحين والمنافقين ‏{‏فلن يضروك شيئاً‏}‏ أي إعراضك عنهم واستهانتك بهم‏.‏

ولما كان التخيير غير مراد الظاهر في جواز الحكم بينهم عند الترافع إلينا وعدمه، بل معناه عدم المبالاة بهم، أعرض عنهم أولاً، فحقيقته بيان العاقبة على تقديري الفعل والترك، علَّمه كيف يحكم بينهم، فقال عاطفاً على ما قدرته‏:‏ ‏{‏وإن حكمت‏}‏ أي فيهم ‏{‏فاحكم‏}‏ أي أوقع الحكم ‏{‏بينهم بالقسط‏}‏ أي العدل الذي أراكه الله- على أن الآية ليست في أهل الذمة، والحكم في ترافع الكفار إلينا أنه كان منهم أو من أحدهم التزام لأحكامنا أم منا التزام للذب عنهم وجب، لقوله تعالى ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم‏}‏ وإلا لم يجب، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يحب المقسطين‏}‏ أي الفاعلين للعدل السوي من غير حيف أصلاً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكيف يحكمونك وهم يكذبونك ويدعون أنك مبطل، عطف عليه قوله معجباً منهم موبخاً لهم‏:‏ ‏{‏وكيف يحكمونك‏}‏ أي في شيء من الأشياء ‏{‏وعندهم‏}‏ أي والحال أنه عندهم ‏{‏التوراة‏}‏ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏فيها حكم الله‏}‏ أي الذي لا يداني عظمته عظمة وهو الذي كان مقرراً في شرعهم أنه لا يسوغ خلافه، فإن كانوا يعتقدون ذلك إلى الآن لم يجز لهم العدول إليك على زعمهم، وإن كانوا لا يعتقدونه ويعتقدون أن حكمك هو الحق ولم يؤمنوا بك كانوا قد آمنوا ببعض وكفروا ببعض‏.‏

ولما كان الإعراض عن حكمه سبحانه عظيماً، وكان وقوعه ممن يدعي أنه مؤمن به بعيداً عظيماً شديداً، قال‏:‏ ‏{‏ثم يتولون‏}‏ أي يكلفون أنفسهم الإعراض عنه سواء تأيد بحكمك به أو لا لأجل الأعراض الدنيوية، ولما كان المراد بالحكم الجنس، وكانوا يفعلون بعض أحكامها فلم يستغرق زمان توليهم زمان البعد، أدخل الجار لذلك فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي الأمر العالي وهو الحكم الذي يعلمون أنه حكم الله، فلم يبق تحكيمهم لك من غير إيمان بك إلا تلاعباً‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فما أولئك بالمريدين للحق في ترافعهم إليك، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أولئك‏}‏ أي البعداء من الله ‏{‏بالمؤمنين *‏}‏ أي العريقين في صفة الإيمان بكتابهم ولا بغيره مما يستحق الإيمان به، لأنهم لو كانوا عريقين في ذلك آمنوا بك لأن كتابهم دعا إليك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما تضمن هذا مدح التوراة، صرح به فقال تأكيداً لذمهم في الإعراض عما دعت إليه من أصل وفرع، وتحذيراً من مثل حالهم‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏التوراة‏}‏ ثم استأنف قوله معظماً لها‏:‏ ‏{‏فيها هدى‏}‏ أي كلام يهدي بما يدعو إليه إلى طريق الجنة ‏{‏ونور‏}‏ أي بيان لا يدع لبساً، ثم استأنف المدح للعاملين بها فقل‏:‏ ‏{‏يحكم بها النبيون‏}‏ ووصفهم بأعلى الصفات وذلك الغنى المحض، فقال مادحاً لا مقيداً‏:‏ ‏{‏الذين أسلموا‏}‏ أي أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار أصلاً، وفيه تعريض بأن اليهود بعداء من الإسلام وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته‏.‏

ولما كان من المعلوم أن حكمهم بأمر الله لهم باتباع التوراة ومراعاتها، عُلِم أن التقدير‏:‏ بما استحفظوا من كتاب الله، فحذف لدلالة ما يأتي عليه وإشعار الإسلام به، ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ فقال‏:‏ ‏{‏للذين هادوا‏}‏ أي لمن التزم اليهودية ‏{‏والرّبانيون‏}‏ أي أهل الحقيقة، منهم الذين انسلخوا من الدنيا وبالغوا فيما يوجب النسبة إلى الرب ‏{‏والأحبار‏}‏ أي العلماء الذي أسلموا ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما‏.‏

ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ، لا كونه من الله بلا واسطة، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏استُحفظوا‏}‏ أي الأنبياء ومن بعدهم ‏{‏من كتاب الله‏}‏ أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته، فعظمته من عظمته، وحفظه‏:‏ دراسته والعمل بما فيه ‏{‏وكانوا‏}‏ أي وبما كانوا ‏{‏عليه شهداء‏}‏ أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً، فالآية- كما ترى- من فن الاحتباك‏:‏ ترك أولاً «بما استحفظوا» لدلالة ما ذكر هنا عليه، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به، وهو داع إلى الحفظ قطعاً، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به، وهو دال على الإسلام‏.‏

ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم، ومدحاً لمن راعاه منهم، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف، قال مخاطباً لهذه الأمة كلها طائعها وعاصيها، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس‏}‏ أي في العمل بحكم من أحكام الله ‏{‏واخشون‏}‏ أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة، وهذا شامل لليهود وغيرهم‏.‏

ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا‏}‏ ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقال‏:‏ ‏{‏بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب‏.‏

ولما نهى عن الأمرين، وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو لخوف أو رجاء أو شهوة، رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ من جحد حكم الله كفر ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق‏.‏ فلما كان التقدير‏:‏ فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون، عطف عليه ما أفهمه من قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم‏}‏ أي يوجد الحكم ويوقعه على وجه الاستمرار ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله فلا أمر لأحد معه تديناً بالإعراض عنه، أعم من أن يكون تركه له حكماً بغيره أو لا ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء من كل خير ‏{‏هم الكافرون‏}‏ أي المختصون بالعراقة في الكفر، وهذه الآيات من قوله تعالى ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ إلى هنا نزلت في الزنا، ولكن لما كان السياق للمحاربة، وكان كل من القتل وقطع الطريق والسرقة محاربة ظاهرة مع كونه فساداً صرح به، ولما كان الزنا محاربة خفية بالنظر إلى فحشه وحرمته وجرّه في بعض الصور إلى المحاربة وغير محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربين، لم يصرح في هذه الآيات باسمه وإن كانت نزلت فيه، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته‏:‏ «إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها» الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم «وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده- الحديث‏.‏ وفي آخره‏:‏ ولولا أني أخشى أن يقول الناس‏:‏ زاد في كتاب الله، لأثبته في حاشية المصحف» وأصله في الصحيحين وغيرهما، وللحاكم والطبراني عن أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء رضي الله عنها بلفظ‏:‏ «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة» وفي صحيح ابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال لزرّ بن حبيش‏:‏ «كم تعدون سورة الأحزاب من آية‏؟‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ثلاثاً وسبعين، قال‏:‏ والذي يحلف به‏!‏ كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، وكان فيها آية الرجم‏:‏ الشيخ والشيخة» الحديث‏.‏ وللشيخين‏:‏ البخاري في مواضع، ومسلم وأحمد وأبي داود- وهذا لفظه- والدرامي والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال‏:‏

«إن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تجدون في التوراة في شأن الزنا‏؟‏ فقالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون- وفي رواية‏:‏ فقال‏:‏ لا تجدون في التوراة الرجم‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا نجد فيها شيئاً- فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه‏:‏ كذبتم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة، فنشروها فجعل أحدهم- وفي رواية- مدراسها الذي يدرسها منهم- يده على آية الرجم فجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام‏:‏ ارفع يدك، فرفعها فقال‏:‏ ما هذه‏؟‏ فإذا فيها آية الرجم، فقالوا‏:‏ صدق يا محمد‏!‏ فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‏:‏ فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة» وفي لفظ للبخاري في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تجدون في التوراة الرجم‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام‏:‏ كذبتم‏!‏ فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» وفي لفظ له في التوحيد- وهو رواية أحمد- أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال‏:‏ «فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» ولأبي داود عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما قال‏:‏ «أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم‏!‏ إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال‏:‏ ائتوني بالتوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال‏:‏ آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال‏:‏ ائتوني بأعلمكم، فأتي بفتى شاب» فذكر قصة الرجم نحو الذي قبله، وسكت عليه أبو داود والحافظ المنذري في مختصره وسنده حسن، ولمسلم وأبي داود- وهذا لفظه- والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال‏:‏ «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم‏.‏ فدعاهم فقال‏:‏ هكذا تجدون حد الزاني‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، فدعا رجلاً من علمائهم فقال‏:‏ نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم‏؟‏ فقالك اللهم‏!‏ لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا‏:‏ تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه، فأمر به فرجم، فأنزل الله عزّ وجلّ ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏ في اليهود- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏ في اليهود- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏ قال‏:‏ هي في الكفار كلها»

يعني هذه الآية‏.‏

وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا، فقال لليهود‏:‏ ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد‏؟‏ فقالوا‏:‏ كنا نفعل إذا كان الملك لنا، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل، فقال لهم‏:‏ ائتوني بأعلم رجلين فيكم، فأتوه بابني صوريا، فقال لهما‏:‏ أنتم أعلم من ورائكما‏؟‏ قالا‏:‏ يقولون، قال‏:‏ فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة‏؟‏ فقالا‏:‏ الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم، قال‏:‏ ائتوني بالشهود فشهد أربعة، فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم»- انتهى‏.‏ وهذه الآية ملتفتة إلى آية ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة‏}‏- الآية والتي بعدها أي التفات وذلك أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم، جرَّهم إلى الكفر وليس في هذه الروايات- كما ترى- تقييد الرجم بالإحصان، وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة، قال في السفر الثالث وغيره‏:‏ ثم كلم الله موسى وقال له‏:‏ قل لبني إسرائيل‏:‏ أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة، وأنا أيضاً أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال، ثم قال‏:‏ الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعاً، والرجل الذي يرتكب ذكراً مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة، يحرق بالنار هو وهما، والرجل الذي يرتكب من البهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلاً، والبهيمة ترجم أيضاً، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعاً، يقتلان ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي امرأة طامثاً ويكشف عورتها، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضاً كشفت عن ينبوع دمها، يهلكان جميعاً من شعبهما، وقال‏:‏ والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه، يقتلان جميعاً ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما، لأنهما ارتكبا خطيئة، ودمهما في أعناقهما، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته، هذا عار شديد، يقتلان قدام شعبهم، وذلك لأنه كشف عورة أخته، يكون إثمهما في رؤوسهما، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك‏!‏ لأنهما قرابتك، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثماً، لأنه كشف عورة أخيه يموتان، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكراً فادعى أنه وجدها ثيباً‏:‏ فإن كان قذفه إياها حقاً ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت، لأنها ارتكبت حوباً بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها، نحوّا الشر عنكم، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما‏:‏ الرجل والمرأة، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم‏:‏ وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد، فخرجت خارجاً فظفر بها رجل وقهرها وضاجعها، يخرجان جميعاً ويرجمان حتى يموتا، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث- انتهى‏.‏

فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏ وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما كان ختام هذه الآيات في ترهيب المعرض عن الحكم بما أنزل الله مطابقاً لقوله في أول سياق المحاربة ‏{‏ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون‏}‏ رجع إلى القتل مبيناً أنهم بدلوا في القتل كما بدلوا في الزنا، ففضلوا بني النضير على بني قريظة، فقال‏:‏ ‏{‏وكتبنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عليهم فيها‏}‏ أي في التوراة، عطفاً على قوله ‏{‏كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس‏}‏، وإذا أنعمت النظر وجدت ما بينهما لشدة اتصاله وقوة الداعية إليه كأنه اعتراض ‏{‏أن النفس‏}‏ أي مقتولة قصاصاً مثلاً بمثل ‏{‏بالنفس‏}‏ أي بقتل النفس بغير وجه مما تقدم ‏{‏والعين‏}‏ أي تقلع ‏{‏بالعين‏}‏ أي قلعت بغير شبهة ‏{‏والأنف‏}‏ يجدع ‏{‏بالأنف‏}‏ كذلك ‏{‏والأذن‏}‏ تصلم ‏{‏بالأذن‏}‏ على ما تقدم ‏{‏والسن‏}‏ تقلع ‏{‏بالسن‏}‏ إذا قلعت عمداً بغير حق ‏{‏والجروح‏}‏ أي التي تنضبط كلها ‏{‏قصاص‏}‏ مثلاً بمثل سواء بسواء‏.‏

ولما أوجب سبحانه هذا، رخص لهم في النزول عنه، فسبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به‏}‏ أي عفا عن القصاص ممن يستحقه سواء كان هو المجروح إن كان باقياً أو وارثه إن كان هالكاً ‏{‏فهو‏}‏ أي التصدق بالقصاص ‏{‏كفارة له‏}‏ أي ستارة لذنوب هذا العافي ولم يجعل لهم دية، إنما هو القصاص أو العفو، فمن حكم بما أنزل الله على وجه الاستمرار ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له فلا أمر لأحد معه لخوف أو رجاء، أو تديناً بالإعراض عنه سواء حكم بغيره أو لا ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء عن طريق الاستقامة، البغضاء إلى أهل الكرامة ‏{‏هم الظالمون *‏}‏ أي الذي تركوا العدل فضّلوا، فصاروا كمن يمشي في الظلام، فإن كانا تديناً بالترك كان نهاية الظلم وهو الكفر، وإلا في الزنا نحو ما تقدم ثم قال‏:‏ وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ إلى‏:‏ ‏{‏المقسطين‏}‏ إنما نزلت في الدية بين بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير وكان لهم شرف- يؤدون الدية الكاملة وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء» قال ابن إسحاق‏:‏ فالله أعلم أيّ ذلك كان‏!‏ وأخرجه النسائي في سننه من طريق ابن إسحاق، وروي من طريق آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً، قال‏:‏ كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلاً من النضير قُتِل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة أدى مائة وسق من تمر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا‏:‏ ادفعوه إلينا نقتله فقالوا‏:‏ بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت

‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ والقسط‏:‏ النفس بالنفس، ثم نزلت ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 50‏]‏ انتهى‏.‏

وهذا نص ما عندهم من التوراة في القصاص قال في السفر الثاني‏:‏ وكل من ضرب رجلاً فمات فليقتل قتلاً، وإذا تشاجر رجلان فأصابا امرأة حبلى فأخرجا جنينها ولم تكن الروح حلت في السقط بعد، فليغرم على قدر ما يلزمه زوج المرأة، وليؤد ما حكم عليه الحاكم، فإن كانت الروح حلت في السقط فالنفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والجراحة بالجراحة واللطمة باللطمة، وقال في السفر الثالث بعد ذكر الأعياد في الاصحاح السابع عشر‏:‏ ومن قتل إنساناً يقتل، ومن قتل بهيمة يدفع إلى صاحبها مثلها، والرجل يضرب صاحبه ويؤثر فيه أثراً يعاب به يصنع به كما صنع، والجروح قصاص‏:‏ الكسر بالكسر والعين بالعين والسن بالسن، كما يصنع الإنسان بصاحبه كذلك يصنع به، القضاء واحد لكم وللذين يقبلون إليّ، وقال في الثاني‏:‏ إذا ضرب الرجل عين عبده أو أمته ففقأها فليعتقه بدل عينه، وإذا قلع سن عبده أو أمته فليعتقه بدل سنة- وذكر أحكاماً كثيرة، ثم قال‏:‏ ومن ذبح للأوثان فيهلك، بل لله وحده، وقال في الرابع‏:‏ ومن يقتل نفساً لا يقتل إلا ببينة عادلة، ولا تقبل شهادة شاهد واحد على قتل النفس، ولا تقبلوا رشوة في إنسان يجب عليه القتل بل يقتل، لوا تأخذوا منه رشوة ليهرب إلى قرية إلى الملجأ ليسكنها إلى وفاة الحبر العظيم، ولا تنجسوا الأرض التي تسكنونها، لأن الدم ينجس الأرض، والأرض التي يسفك فيها الدم لا يغفر لتلك الأرض حتى يقتل القاتل الذي قتل، وقال في الخامس‏:‏ ولا يقتل من قد وجب عليه القتل إلا بشهادة رجلين، لا يقتل بشهادة رجل واحد، وإذا رجمتم فالذي يُشَهد عليه فليبدأ برجمه الشهود أولاً ثم يبدأ به جميع الشعوب، وأهلكوا الذين يعملون الشر واستأصلوهم من بينكم، وإن شهد رجل على صاحبه شهادة زور يقوم الرجلان قدام الحبر والقاضي فيفحصون عن أمرهما فحصاً شديداً، فإن وجدوا رجلاً شهد شهادة، زور يصنعوا به مثل ما أراد أن يصنع بأخيه، ونحوّا الشر من بينكم، وعاقبوا بالحق ليسمع الذين يتقون فيفزعوا ولا يعودوا أن يفعلوا مثل هذا الفعل القبيح بينكم، ولا تشفق أعينكم على الظالم، بل يكون قضاؤكم نفساً بنفس وعيناً بعين وسناً بسن ويداً بيد ورجلاً برجل‏.‏

ولما كانت هذه الآيات كلها- مع ما فيها من الأسرار- ناقضة أيضاً لما ادعوا من البنوة بما ارتكبوه من الذنوب من تحريف كلام الله وسماع الكذب وأكل السحت والإعراض عن أحكام التوراة والحكم بغير حكم الله، أتبعها ما أتى به عيسى عليه السلام الذي ادعى فيه النصارى النبوة الحقيقية والشركة في الإلهية، وقد أتى بتصديق التوراة في الشهادة على من خالفها من اليهود بالتبرؤ من الله، مؤكداً لما فيها من التوحيد الذي هو عماد الدين وأعظم آياتها التي أخذت عليهم بها العهود ووضعت في تابوت الشهادة الذي كانوا يقدمونه أمامهم في الحروب، فإن كانوا باقين على ما فيه من الميثاق نصروا وإلا خذلوا، وناسخاً لشريعتهم مجازاة لهم من جنس ما كانوا يعملون من التحريف، وشاهداً على من أطراه بالضلال فقال‏:‏ ‏{‏وقفينا‏}‏ إلى آخرها، وكذا كل ما بعدها من آياتهم إلى آخر السورة، لا تخلوا آية منها من التعرض إلى نقض دعواهم لها بذكر ذنب، أو ذكر عقوبة عليه، أو ذكر تكذيب لهم من كتابهم أو نبيهم، والمعنى‏:‏ أوجدنا التقفية، وهي اتباع شيء بشيء تقدِّمه، فيكون أتيا في قفاه لكونه وراءه، وإلقاؤه في مظهر العظمة لتعظيم شأن عيسى عليه السلام ‏{‏على آثارهم‏}‏ أي النبيين الذين يحكمون بالتوراة، وذكر الأثر يدل على أنهم كانوا قد تركوا دينهم، لم يبق منه إلا رسم خفي ‏{‏بعيسى‏}‏ ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا والد له تكذيباً لليهود، وإلى أنه عبد مربوب تكذيباً للنصارى، فقال‏:‏ ‏{‏ابن مريم مصدقاً‏}‏ أي عيسى عليه السلام في الأصول وكثير من الفروع و‏{‏لما بين يديه‏}‏ أي مما أتى به موسى عليه السلام قبله ‏{‏من التوراة‏}‏ وأشار إلى أنه ناسخ لكثير من أحكامها بقوله‏:‏ ‏{‏وآتيناه الإنجيل‏}‏ أي أنزلناه بعظمتنا عليه كما أنزلنا التوراة على موسى عليه السلام‏.‏

ولما كان في الإنجيل المحكم الذي يفهمه كل أحد، والمتشابه الذي لا يفهمه إلا الأفراد من خلص العباد، ولا يقف بَعدَ فهمه عند حدوده إلا المتقون، قال مبيناً لحاله‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ أي آتيناه إياه بحكمتنا وعظمتنا كائناً فيه ‏{‏هدى‏}‏ أي وهو المحكم، يهتدي به كل أحد سمعه إلى صراط مستقيم ‏{‏ونور‏}‏ أي حسن بيان كاشف للمشكلات، لا يدع بذلك الصراط لبساً‏.‏

ولما كان الناسخ للشيء بتغيير حكمه قد يكون مكذباً له، أعلم أنه ليس كذلك، بل هو مع النسخ للتوراة مصدق لها فقال- أي مبيناً لحال الإنجيل عطفاً على محل ‏{‏فيه هدى‏}‏‏:‏ ‏{‏ومصدقاً‏}‏ أي الإنجيل بكماله ‏{‏لما بين يديه‏}‏ ولما كان الذي نزل قبله كثيراً، عين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏من التوراة‏}‏ فالأول صفة لعيسى عليه السلام، والثاني صفة لكتابه، بمعنى أنه هو والتوراة والإنجيل متصادقون، فكل من الكتابين يصدق الآخر وهو يصدقهما، لم يتخالفوا في شيء، بل هو متخلق بجميع ما أتى به‏.‏

ولما كان المتقون خلاصة الخلق، فهم الذين يُنزلون كل ما في كتب الله من محكم ومتشابه على ما يتحقق به أنه هدى ويتطابق به المتشابه والمحكم، وكان قد بين أنه فيه من الهدى ما يسهل به رد المتشابه إليه فصار بعد البيان كله هدى، قال معمماً بعد ذلك التخصيص‏:‏ ‏{‏وهدى وموعظة للمتقين *‏}‏ أي كل ما فيه يهتدون به ويتعظون فترق قلوبهم ويعتبرون به وينتقلون مترقين من حال عالية إلى حال أعلى منها‏.‏

ذكرُ بعض ما يدل على ذلك من الإنجيل الذي بين ظهراني النصارى الآن وقد مزجتُ فيه كلام بعض الأناجيل ببعض وأغلب السياق لمتى، وعينتُ بعض ما خالفه، قال لوقا‏:‏ وجاء إليه قوم وأخبروه خبر الجليليين الذين خلط بيلاطس دماءهم مع دماء ذبائحهم، فأجاب يسوع وقال لهم‏:‏ لا تظنوا أن أولئك الجليليين أشد خطأ من كل الجليليين إذا أصابتهم هذه الأوجاع، لا أقول لكم إن لم تتوبوا كلكم أنتم تهلكون مثلهم، وهؤلاء الثمانية عشر الذين سقط عليهم البرج في سيلوخا وقتلهم أتظنون أنهم أكبر جرماً من جميع سكان يروشليم، كلا أقول لكم، إن لم تتوبوا فجميعكم يهلك؛ وقال لهم‏:‏ شجرة تين كانت لواحد مغروسة في كرمه، جاء يطلب فيها ثمرة فلم يجد، فقال للكرام‏:‏ هذه ثلاث سنين آتي وأطلب فيها ثمرة فلا أجد، اقطعها لئلا تبطل الأرض، فقال‏:‏ يا رب‏!‏ دعها في هذه السنة لأنكحها وأصلحها، لعلها تثمر في السنة الآتية، فإن هي أثمرت وإلا أقطعها‏.‏ قال متى‏:‏ ولما نزل من الجبل تبعه جمع كبير وإذا أبرص قد جاء فسجد له وقال‏:‏ إن شئت فأنت قادر أن تطهرني، فمد يده ولمسه وقال له‏:‏ قد شئت فاطهر، وللوقت طهر برصه، وقال له يسوع‏:‏ لا تقل لأحد ولكن امض فأرٍ نفسَك للكاهن وقدم قرباناً كما أمر موسى للشهادة عليهم- وقال مرقس‏:‏ بشهادتهم- قال لوقا‏:‏ فذاع عنه الكلام وزاد، واجتمع جمع كثير ليسمعوا منه ويستشفوا من أمراضهم، وأما هو فكان يمضي إلى البرية ويصلي هناك‏.‏ وقال متى‏:‏ ولما دخل كفرناحوم جاء إليه قائد مائة فطلب إليه قائلاً‏:‏ يا رب‏!‏ فتاي ملقى في البيت مخلع وسقيم جداً، فقال له‏:‏ إني آتي وأبرئه، فأجاب قائد المائة وقال‏:‏ يا رب‏!‏ لست مستحقاً أن تدخل تحت سقف بيتي، ولكن قل كلمة فقط فيبرأ فتاي لأني تحت سلطان، ولي جند، إن قلت لهذا‏:‏ اذهب، ذهب، ولآخر‏:‏ ائت، أتى، ولعبدي‏:‏ اعمل هذا، عمل، فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعونه‏:‏ الحق أقول لكم‏!‏ إنني لم أجد مثل هذه الأمانة في إسرائيل، أقول لكم‏:‏ إن كثيراً يأتون من المشرق والمغرب- وقال لوقا‏:‏ والشمال واليمين- يتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب؛ قال لوقا‏:‏ وكل الأنبياء في ملكوت الله وأنتم خارجاً ويكون الأولون آخرين والآخرون أولين؛ وقال متى‏:‏ في ملكوت السماوات، وبنو الملكوت يلقون في الظلمة البرانية، الموضع الذي يكون فيه البكاء وصرير الأسنان، وقال يسوع لقائد المائة‏:‏ اذهب كأمانتك يكن لك، فبرأ الفتى في تلك الساعة، وقال لوقا‏:‏ ولما أكمل جميع كلامه ودخل كفرناحوم، وكان عبد لقائد المائة قد قارب الموت وكان كريماً عنده، فلما سمع بيسوع أرسل إليه شيوخ اليهود يسألونه المجيء ليخلص عبده، فلما جاؤوا إلى يسوع طلبوا منه باجتهاد وقالوا‏:‏ إنه مستحق أن يفعل معه هذا، لأنه محب لأمتنا وهو بنى لنا كنيسة، فمضى يسوع معهم، وفيما هو قريب من البيت أرسل إليه قائد المائة أصدقاءه قائلاً‏:‏ يا رب‏!‏ لا تتعب فإني لا أستحق أن تدخل تحت سقف بيتي، من أجل ذلك لم أستحق أن أجيء أنا إليك لكن قل كلمة فيبرأ لأني رجل ذو سلطان وتحت يدي جند فأقول لهذا‏:‏ امض فيمضي ولآخر‏:‏ ائت فيأتي فلما سمع يسوع هذا تعجب منه والتفت إلى الجمع الذي يتبعه وقال‏:‏ الحق أقول لكم‏!‏ إني لم أجد في بني إسرائيل مثل هذه الأمانة، فرجع المرسلون إلى اليبت فوجدوا المريض قد برأ، وفي غد كان يسوع ماضياً إلى مدينة اسمها نايين وتبعه تلاميذه أجمع وجمع كبير، فلما قرب من باب المدينة إذا محمول قد مات وحيداً لأمه وكانت أرملة، وجمع كبير من أهل المدينة معها، فلما رآها الرب تحنن عليها وقال لها‏:‏ لا تبكي، وتقدم ولمس النعش فوقف الحاملون له، وقال له‏:‏ أيها الشاب‏!‏ لك أقول‏:‏ قم واجلس‏!‏ فجلس الميت وبدأ يتكلم، ودفعه لأمه، ولحقهم خوف ومجدوا الله قائلين‏:‏ لقد قام فينا نبي عظيم، وتعاهد الله شعبه بصلاح، فذاع هذا الكلام في كل اليهودية وكل الكور التي حولها‏.‏

قال متى‏:‏ وجاء يسوع إلى بيت بطرس فنظر إلى حماته ملقاة تحمى؛ وقال مرقس‏:‏ وجاء إلى بيت سمعان وأندراوس مع يعقوب ويوحنا فرأى حماة سمعون في حمى شديدة فقالوا له من أجلها، فقدم وأمسك بيدها وأقامها؛ وقال متى‏:‏ فمس يديها فتركها الحمى وقامت تخدمهم؛ وقال لوقا‏:‏ ونهضت للوقت تخدمهم، فلما كان المساء- قال مرقس‏:‏ عند غروب الشمس- قدموا إليه مجانين كثيراً، قال مرقس‏:‏ ووقف جميع أهل المدينة على الباب، وأبرأ كثيراً ممن به علة رديئة، وأخرج شياطين كثيرة؛ وقال متى‏:‏ وكان يخرج الأرواح بكلمة، وأبرأ كل سقيم لكي يتم ما قيل في أشعياء النبي القائل‏:‏ إنه أخذ أمراضنا وحمل أوجاعنا‏.‏ وسحرا جدا قام وخرج إلى البرية ليصلي هناك وسمعون ومن معه يطلبونه، فلما وجدوه قالوا له‏:‏ إن الجمع يطلبك، فقال لهم‏:‏ سيروا بنا إلى القرى والمدن القريبة لنكرز، فإني لهذا وافيتُ، فأقبل يبشر في مجمعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين؛ وقال لوقا‏:‏ وفي غد اليوم خرج وذهب إلى موضع قفر والجمع يطلبونه، وجاؤوا إليه وأمسكوه لئلا يمضي من عندهم، فقال لهم‏:‏ إنه ينبغي أن أبشر في المدن الأخر بملكوت الله، لأني لهذا أرسلت، وكان يكرز في مجامع الجليل، وكان لما اجتمع إليه جمع ليسمعوا كلام الله كان هو واقفاً على بحيرة جاناسر، فرأى سفينتين موقفتين على شاطئ البحيرة والصيادون قد صعدوا عليها ليغسلوا شباكهم، فصعد إلى إحداهما التي لسمعان، وأمر أن يبعدها عن الشط قليلاً، وجلس يعلم في الجمع من السفينة؛ ولما أكمل كلامه قال لسمعان‏:‏ تقدم إلى اللج وألقوا شباككم‏!‏ فقال‏:‏ يا معلم‏!‏ قد تعبنا الليل أجمع ولم نأخذ شيئاً، وبكلمتك نحن نلقي شباكنا، ولما فعلوا ذلك أخذوا سمكاً كثيراً، وكادت شباكهم تتخرق، فأشاروا إلى شركائهم في السفينة الأخرى ليأتوا يعينوهم، فلما جاؤوا ملؤوا السفينتين حتى كادتا أن تغرقا، فلما رأى سمعان ذلك خر عند قدمي يسوع وقال له‏:‏ ابعد عني يا سيدي‏!‏ لأني رجل خاطئ، لأن الخوف اعتراه وكل من معه لأجل صيد الحيتان التي اصطادوا، وكذلك يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا صديقي سمعان، فقال يسوع لسمعان‏:‏ لا تخف، من الآن تكون صياداً تصيد للناس، وقربوا السفن إلى الشط وتركوا كل شيء وتبعوه؛ وقال متى‏:‏ فلما نظر يسوع إلى الجمع الذي حوله أمر أن يذهبوا إلى العبر، فجاء إليه كاتب وقال له‏:‏ يا معلم‏!‏ أتبعك إلى حيث تمضي، فقال له يسوع‏:‏ إن للثعالب أجحاراً، ولطير السماء أوكاراً، فأما ابن الإنسان فليس له موضع يسند رأسه؛ وقال لوقا‏:‏ وقال لآخر‏:‏ اتبعني، فقال‏:‏ يا رب‏!‏ ائذن لي أن امضي أولاً وأدفن أبي، فقال له يسوع‏:‏ اتبعني ودع الموتى يدفنوا موتاهم، وقال الآخر أيضاً‏:‏ بل تأذن لي أولاً أن أرتب أهل بيتي، فقال‏:‏ ما من أحد يضع يده على سكة الفدان وينظر إلى ورائه يستحق ملكوت الله؛ وقال متى‏:‏ فلما صعد السفينة تبعه تلاميذه- وقال لوقا‏:‏ صعد السفينة هو وتلاميذه وقال لهم‏:‏ امضوا بنا إلى عبر البحيرة، فساروا وفيما هم سائرون نام- وإذا اضطراب عظيم كان في البحر حتى كادت الأمواج تغطي السفينة- لأن الريح كانت مضادة لهم- وهو نائم، فتقدم إليه تلاميذه وقالوا‏:‏ يا رب‏!‏- وقال مرقس‏:‏ وكانت رياح عواصف عظيمة، وكانت الأمواج تضرب السفينة وتدخلها المياه حتى كادت تمتلئ، وهو نائم في مؤخرها على وسادة- فأيقظوه وقالوا له‏:‏ يا معلم‏!‏ نجِّنا فقد هلكنا‏!‏ فقال لهم‏:‏ ما أخافكم يا قليلي الأمانة‏؟‏ حينئذ قام وانتهر الرياح والبحر، فصار هدوءاً عظيماً، ثم قال متى‏:‏ فلما صعد السفينة وجاء إلى العبر ودخل مدينته قدم إليه مخلع ملقى على سرير- وفي إنجيل مرقس ولوقا‏:‏ إنهم أرادوا الدخول به إليه فلم يقدروا لكثرة الجمع، فصعدوا إلى السطح ودلوه بسريره إليه- حينئذ قال للمخلع‏:‏ قم‏!‏ امل سريرك واذهب إلى بيتك‏!‏ فقام ومضى إلى بيته، فنظر الجمع وتعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى هذا السلطان كذا للناس؛ وقال يوحنا في إنجيله‏:‏ وبعد هذا كان عيد اليهود فصعد يسوع إلى يروشليم، وكان هناك بيروشليم مكان يسمى بالعبرانية بيت الرحمة، وكان فيه خمسة أروقة، وكان خلق كثير من المرضى مطروحين فيها وعمي ومقعدون وجافون، فكانوا يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكاً كان ينزل إلى الصبغة في حين بعد حين، وكان يحرك الماء، والذي كان ينزل فيه أولاً من بعد حركة الماء يبرأ من كل الوجع الذي به، وكان هنا رجل سقيم منذ ثمان وثلاثين سنة، فنظر إليه يسوع ملقى فقال له‏:‏ أتحب أن تبرأ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم يا سيدي‏!‏ ولكن ليس لي إنسان إذا تحرك الماء يلقيني في البركة أولاً، فإلى أن أجيء أنا ينزل قدامي آخر، فقال له‏:‏ قم، احمل سريرك وامض فمن ساعته برأ ونهض حاملاً سريره، وكان ذلك اليوم يوم سبت، فقال له اليهود‏:‏ إنه يوم سبت، ولا يحل لك أن تحمل سريرك، فأجابهم‏:‏ الذي أبرأني هو قال لي‏:‏ احمل سريرك وامش، فسألوه‏:‏ من هو‏؟‏ فلم يكن يعلم من هو، لأن يسوع كان قد استتر في الجمع الكبير الذي كان في ذلك الموضع، ثم قال‏:‏ وقال لهم يسوع‏:‏ لقد عملت عملاً واحداً فعجبتم بأجمعكم، أعطاكم موسى الختان وليس هو من موسى ولكنه من الآباء، وقد تختنون الإنسان يوم السبت لئلا تنقضوا سنة موسى، فلِمَ تتذمرون عليّ لإبرائي الإنسان يوم السبت، لا تحكموا بالمحاباة ولكن احكموا حكماً عدلاً، ثم قال‏:‏ فبينما هو مار رأى رجلاً ولد أعمى فقال تلاميذه‏:‏ يا معلم‏!‏ من أخطأ‏؟‏ هذا أم أبواه حتىأنه ولد أعمى، فقال‏:‏ لا هو ولا أبواه، ولكن لتظهر أعمال الله فيه، ينبغي أن أعمل أعمال من أرسلني ما دام النهار، سيأتي الليل الذي لا يستطيع أحد أن يعمل فيه عملاً، ما دمت في العالم أن نور العالم- قال هذا وتفل على التراب وصنع من تفله طيناً وطلى به عيني ذلك الأعمى وقال له‏:‏ امض واغتسل في عين سيلوخا التي تأويلها المبعوثة، فمضى وغسلهما فعاد ينظر، فأما جيرانه والذين كانوا يرونه يتسول فقالوا‏:‏ ليس هو هذا الذي كان يجلس ويتسول، وآخرون قالوا‏:‏ إنه هو، وآخرون قالوا‏:‏ إنه يشبهه، فأما هو فكان يقول‏:‏ إني أنا هو، فقالوا له‏:‏ كيف انفتحت عيناك‏؟‏ فقص عليهم القصة، فقالوا‏:‏ أين هو ذاك‏؟‏ فقال‏:‏ ما أدري، فأتوا به إلى الفريسيين، لأن يسوع صنع الطين يوم السبت، فسأله الفريسيون فأخبرهم، فقال قوم منهم‏:‏ ليس هذا الرجل من الله إذ لا يحفظ السبت، وآخرون قالوا‏:‏ كيف يقدر رجل خاطئ أن يعمل هذه الآيات‏!‏ فوقع بينهم لذلك شقاق، فقالوا للأعمى‏:‏ ما تقول أنت من أجله‏؟‏ قال لهم‏:‏ إنه نبي، ولم يصدق اليهود أنه كان أعمى حتى دعوا أبويه وسألوهما، فقالا‏:‏ نحن نعلم أن هذا ولدنا وأنه وُلِدَ أعمى، ووقعت بين الأعمى وبينهم محاورة، كان آخر ما قالوا له‏:‏ أنت ولدت بالخطايا وأنت تعلمنا‏!‏ وأخرجوه‏.‏

وقال متى‏:‏ واجتاز يسوع هناك فرأى إنساناً جالساً على التعشير اسمه متى فقال له‏:‏ اتبعني، فترك كل شيء وقام وتبعه‏.‏ وقال لوقا‏:‏ وبعد هذا خرج فنظر إلى عشار اسمه لاوي جالساً على المكس، فقال له‏:‏ اتبعني، فترك كل شيء وقام وتبعه، وصنع له لاوي في بيته وليمة عظيمة، وكان جمع كثير من العشارين وآخرين متكئين معه‏.‏ وقال مرقس‏:‏ ثم خرج إلى شاطئ البحر واجتمع إليه جمع كبير وعلمهم، وعند مضيه رأى لاوي ابن حلفي جالساً على العشارين فقال له‏:‏ اتبعني، فقام وتبعه، وبينما هو متكئ في بيته- وقال متى‏:‏ وبينما هو متكئ في بيت سمعان- جاء عشارون وخطأة كثيرون، فاتكؤوا مع يسوع وتلاميذه، فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه‏:‏ لماذا معلمكم يأكل مع العشارين والخطأة‏؟‏ فلما سمع يسوع قال لهم‏:‏ الأصحاء لا يحتاجون إلى طبيب، لكن ذوو الأسقام، اذهبوا فاعلموا ما هو، إني أريد رحمة لا ذبيحة، لم آت لأدعو الصديقين لكن الخطأة للتوبة‏.‏ وقال لوقا‏:‏ وطلب إليه واحد من الفريسيين أن يأكل معه، فدخل بيت ذلك الفريسي وجلس، وكان في تلك المدينة امرأة خاطئة، فلما علمت أنه متكئ في بيت ذلك الفريسي أخذت قارورة طيب ووقفت من ورائه عند رجليه باكية، وبدأت تبل قدميه بدموعها وتمسحها بشعر رأسها، وكانت تقبل قدميه وتدهنهما بالطيب، فلما رأى ذلك الفريسي الذي دعاه فكر في نفسه قائلاً‏:‏ لو كان هذا نبياً علم ما هذه وأنها خطائة، فأجاب يسوع وقال له‏:‏ يا سمعان‏!‏ غريمان عليها لإنسان دين، على أحدهما خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون، وليس لهما ما يوفيان فوهب لهما، فأيهما أكثر حبّاً له‏؟‏ فقال‏:‏ أظن الذي وهب له الأكثر، فقال له‏:‏ بالحق حكمت؛ ثم التفت إلى المرأة وقال‏:‏ يا سمعان‏!‏ دخلت بيتك فلم تسكب على رجلي ماء وهذه بلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها، أنت لم تقبلني وهذه منذ دخلت لم تكف عن تقبيل قدمي، أنت لم تدهن رأس بزيت وهذه دهنت بالطيب قدمي، لأجل ذلك أقول لك‏:‏ إن خطاياها مغفورة لها، لأنها أحبت كثيراًن ثم قال لها‏:‏ اذهبي بسلام‏!‏ إيمانك خلصك؛ وكان بعد ذلك يسير إلى كل مدينة ويكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الاثنا عشر ونسوة كن أبرأهن من الأمراض والأرواح الخبيثة‏:‏ مريم التي تدعى المجدلانية التي أخرج منها سبعة شياطين، ويونا امرأة خوزي خازن هيرودس، وأخر كثيرات‏.‏

وقال متى‏:‏ حينئذ جاء إليه تلاميذ يوحنا قائلين‏:‏ لماذا نحن والفريسيون نصوم كثيراً وتلاميذك لا يصومون‏؟‏ فقال لهم يسوع‏:‏ لا يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم، وستأتي أيام إذا ارتفع العريس عنهم حينئذ صومون؛ ليس أحد يأخذ خرقة جديدة يجعلها في ثوب بال، لأنها تأخذ ملأها من الثوب فيصير الخرق أكبر وقال مرقس‏:‏ إنه لا يرقع إنسان ثوباً بالياً بخرقة جديدة إلا مد الجديد البالي فيخرقه؛ وقال متى‏:‏ ولا تُجْعَلُ خمر جديدة في زقاق عتق فتنشق الزقاق وتهلك وتهراق الخمر لكن تجعل خمر جديدة في زقاق جدد فيتحفظان جميعاً؛ وقال لوقا‏:‏ وما من أحد يشرب قديماً فيحب الجديد للوقت لأنه يقول‏:‏ إن القديم أطيب، وقال متى‏:‏ وفيما هو يكلمهم إذا رئيس قد جاء إليه ساجداً قائلاً‏:‏ إن ابنتي ماتت الآن، تأتي فتضع يدك عليها فتحيى‏!‏ فقام يسوع وتبعه تلاميذه، فإذا امرأة بها نزيف دم منذ اثنتي عشرة سنة؛ قال مرقس‏:‏ أعيت من الأطباء، أنفقت كل مالها، لم تجد راحة بل تزداد وجعاً، فلما سمعت بيسوع- قال متى‏:‏ جاءت من خلفه ومست طرفه ثوبه- فالتفت يسوع فرآها فقال لها‏:‏ ثقي يا ابنة‏!‏ إيمانك خلصك، فبرئت المرأة من تلك الساعة، وجاء يسوع إلى بيت الرئيس؛ وقال مرقس‏:‏ ولم يدع أحداً يتبعه إلا بطرس ويعقوب ويوحنا أخا يعقوب- انتهى‏.‏ فنظر إلى الجمع مضطربين، فقال لهم‏:‏ اخرجوا، لم تمت الجارية لكنها نائمة، فضحكوا منه، فلما خرج الجمع دخل وأمسك يدها فقامت الجارية؛ وقال مرقس‏:‏ وأخرج جميعهم وأخذ معه أبا الصبية وأمها والذين معه، ثم دخل إلى الموضع الذي فيه الصبية موضوعة، وأخذ بيدها وقال لها‏:‏ طليثا‏!‏ قومي، الذي تأويله‏:‏ يا صبية‏!‏ لك أقول‏:‏ قومي، فللوقت قامت الصبية ومشت، وكان لها اثنتا عشرة سنة، فبهتوا وعجبوا عجباً عظيماً، فأمرهم كثيراً أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا، وقال‏:‏ أطعموها تأكل؛ وقال متى‏:‏ وخرج خبرها في جميع تلك الأرض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وليحكم‏}‏ في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم‏:‏ فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم ‏{‏أهل الإنجيل‏}‏ وهم أتباع عيسى عليه السلام ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏فيه‏}‏ من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن انتهى فأولئك هم المسلمون، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء، وكل شيء إليه مفتقر، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره؛ وهو غير منسوخ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء عن كل خير البغضاء ‏{‏هم الفاسقون *‏}‏ أي المختصون بكمال الفسق، فإن كان تديناً كان كفراً، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث‏:‏ ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن، فانحط إلى أقبح المساوي؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر، فحق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة، لأن المعنى‏:‏ ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن حرف الكلم عن موضعه، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر لأنه من الظلام، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة، والآية دالة على أن فيه أحكاماً، وكذا قوله تعالى في آل عمران‏:‏ ‏{‏ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 5‏]‏، وهذا هو الحق، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم؛ قال فيما رأيته من ترجمة إنجيل متى‏:‏ سمعتم ما قيل للأولين‏:‏ لا تقتل، فإن من قتل وجبت عليه لائمة الجماعة، ومن قال لأخيه‏:‏ أحمق، فقد وجبت عليه نار جهنم، إن أنت قدمت قربناك على المذبح وذكرت هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح، وامض أولاً وصالح أخاك، وحينئذ فائت وقدم قربانك، كن متفهماً من خصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن؛ وفي إنجيل لوقا‏:‏ إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم‏:‏ إن المطر يأتي؛ فيكون كذلك، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم‏:‏ سيكون حر، يا مراؤون‏!‏ تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف لا تميزونه، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم‏!‏ لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب عليك في الطريق تتخلص منه، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن؛ وقال متى‏:‏ الحق الحق أقول لك‏!‏ إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك، سمعتم ما قيل للأولين‏:‏ لا تزن، وأنا أقول لكم‏:‏ إن كل من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها، لأنه خير لك أن تهلك أحد أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم، قيل‏:‏ إن من طلق امرأته فيدفع لها كتاب الطلاق، وأنا أقول لكم‏:‏ إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين‏:‏ لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا اقول لكم‏:‏ إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين‏:‏ لا تحنث في مينك، وأوف للرب قسمك، وأنا أقول لكم‏:‏ لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بيروشليم فإنها مدينة الملك العظيم، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء، ولتكن كلمتكم‏:‏ نعم ونعم ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشر، سمعتم ما قيل‏:‏ العين بالعين والسن بالسن، وأنا أقول لكم‏:‏ لا تقاوموا الشر، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك دفع له رداءك، ومن سخّرك ميلاً فامض مع اثنين، قال لوقا‏:‏ وكل من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم؛ وقال متى‏:‏ سمعتم ما قيل‏:‏ أحبب قريبك وابغض عدوك، وأنا أقول لكم‏:‏ حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى من أبغضكم- وقال لوقا‏:‏ يبغضكم- وصلوا على من يطردكم ويحزنكم، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم‏!‏ أليس العشارون يفعلون مثل ذلك‏!‏ وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم‏!‏ أليس كذلك يفعل العشارون‏!‏ وقال لوقا‏:‏ إن كنتم إنما تحبون من يحبكم فأي أجر لكم‏!‏ إن الخطأة يحبون من يحبهم، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم‏!‏ إن الخطأة هكذا يصنعون، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم‏!‏ إن الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة لكي يأخذوا منهم العوض، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف، وقال متى‏:‏ كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل‏.‏

ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين‏:‏ وفي ذلك الزمان مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه، فبدؤوا يفركون سنبلاً ويأكلون- وفي لوقا‏:‏ كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون- فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له‏:‏ ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت- وفي لوقا‏:‏ لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت- فقال لهم‏:‏ أما قرأتم ما صنع داود لما جاع هو والذين معه‏!‏ كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة‏!‏ قال مرقس‏:‏ وأعطى الذين كانوا مع، ثم قال لهم‏:‏ السبت من أجل الإنسان كان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت؛ قال متى‏:‏ أوما قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح‏!‏ وأقول لكم‏:‏ إن ها هنا أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب، إني أريد الرحمة لا الذبيحة، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له‏!‏ وقال لوقا‏:‏ ودخل بيت أحد الرؤساء الفريسيين في يوم سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه فإذا إنسان به استسقاء، فقال يسوع للكهنة والفريسيين‏:‏ هل يحل أن يبرأ في السبت‏؟‏ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم‏:‏ من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت‏؟‏ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا؛ ثم قال متى‏:‏ فجاء الفريسيون ليجربوه قائلين‏:‏ هل يحل للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل كلمة‏؟‏ أجاب‏:‏ أما قرأتم أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته، ويكونان كلاهما جسداً واحداً، وليس هما اثنين لكن جسد واحد، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان- وقال مرقس‏:‏ لا يقدر إنسان يفرقه- قالوا له‏:‏ لماذا أمر موسى أن يعطى كتاب الطلاق وتخلى‏؟‏ قال لهم‏:‏ موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم- وفي مرقس‏:‏ إنهم سألوه فقال لهم‏:‏ بماذا أوصاكم موسى‏؟‏ قالوا‏:‏ أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى، قال لهم يسوع‏:‏ من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم موسى هذه الوصية، من البدء لم يكن هكذا، وأقول لكم‏:‏ من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فقد زنى، وفي إنجيل مرقس‏:‏ وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم‏:‏ من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها، وإن هي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية؛ وفي لوقا‏:‏ كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني؛ قال متى‏:‏ فقال له التلاميذ‏:‏ إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير له أن لا يتزوج، فقال لهم‏:‏ ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا، الآن خِصيانُ ولدوا من بطون أمهاتهم، وخصيان أخصاهم الناس، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل‏.‏

ولما ذكر سبحانه الكتابين، ذكر ختامهما وتمامهما، وهو ما أنزل إلى هذا النبي الأمي من الفرقان الشاهد على جميع الكتب التي قبله، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏إليك‏}‏ أي خاصة ‏{‏الكتاب‏}‏ أي الكامل في جمعه لكل ما يطلب منه وهو القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ أي الكامل الذي لا يحتاج إلى شيء يتمه، ثم مدحه بمدح الأنبياء الذين تقدموه فقالك ‏{‏مصدقاً لما بين يديه‏}‏ أي تقدمه‏.‏

ولما كانت الكتب السماوية من شدة تصادقها كالشيء الواحد، عبر بالمفرد لإفادته ما يفيد الجمع وزيادة دلالة على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من الكتاب‏}‏ أي الذي جاء به الأنبياء من قبل ‏{‏ومهيمناً‏}‏ أي شاهداً حفيظاً مصدقاً وأميناً رقيباً ‏{‏عليه‏}‏ أي على كل كتاب تقدمه- كما قاله البخاري في أول الفضائل من الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي هذه الصفة بشارة لحفظه سبحانه لكتابنا حتى لا يزال بصفة الشهادة، فإن الله تعالى استحفظهم كتبهم فعجزوا عنها، فحرفها محرفوهم وأسقطوا منها وأسقط مسرفوهم، فتكفل هو سبحانه بحفظ كتابنا فكان قيماً عليها، فما كان فيها موافقاً له فهو حق، وما كان فيها مخالفاً فهو إما منسوخ أو مبدل فلا يعبر، بل يحكم بما في كتابنا لأنه ناسخ لجميع الكتب، والآتي به مرسل إلى جميع العالمين، فملته ناسخة لجميع الملل، فأنتج هذا وجوب الحكم بما فيه على المؤالف والمخالف بشرطه؛ فلذا قال مسبباً عما قبله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم‏}‏ أي بين جميع أهل الكتب، فغيرهم من باب الأولى ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ أي الملك الذي له الأمر كله إليك في هذا الكتاب الناسخ لكتبهم المهيمن عليها في إثبات ما أسقطوه منها من أمرهم باتباعك ونحو ذلك من أوصافك ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ فيما خالفه منحرفين ‏{‏عما جاءك‏}‏ وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏من الحق‏}‏‏.‏

ولما كان كل من كتابيهم من عند الله، كان كأنه قيل‏:‏ كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق‏؟‏ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله‏:‏ ‏{‏لكل‏}‏ أي لكل واحد ‏{‏جعلنا‏}‏ أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره، ثم خصص الإبهام بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي يا أهل الكتب ‏{‏شرعة‏}‏ أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ‏{‏ومنهاجاً‏}‏ أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع، وهذا وأمثاله- مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله- محمول على الفروع، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد ‏{‏لجعلكم أمة‏}‏ أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً، وحقق المراد بقوله‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ أي على دين واحد، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع، لأن الكل بمشيئته، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته ‏{‏ولكن‏}‏ لم يشأ ذلك، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر ‏{‏فيما آتاكم‏}‏ أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة‏.‏

ولما كان في الاختبار أعظم تهديد، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الشارع لذلك، لا إلى غيره، لأنه الملك الأعلى ‏{‏مرجعكم جميعاً‏}‏ وإن اختلفت شرائعكم، حساً في القيامة، ومعنى في جميع أموركم في الدارين ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي يخبركم إخباراً عظيماً ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي بحسب اختلاف الجبلات؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس، قال ‏{‏فيه تختلفون *‏}‏ أي تجددون الخلاف مستمرين عليه، ويعطي كلاماً يستحقه، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 51‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما كان الأمر بالحكم فيما مضى لكونه مسبباً عما قبله من إنزال الكتاب على الأحوال المذكورة، أعاد الأمر به سبحانه مصرحاً بذلك لذاته لا لشيء آخر، ليكون الأمر به مؤكداً غاية التأكيد بالأمر به مرتين‏:‏ مرة لأن الله أمر به، وأخرى لأنه على وفق الحكمة، فقال تأكيداً له وتنويهاً بعظيم شأنه ومحذراً من الأعداء فيما يلقونه من الشبه للصد عنه‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي احكم بينهم بذلك لما قلنا من السبب وما ذكرنا من العلة في جعلنا لكل ديناً، ولأنا قلنا آمرين لك أن ‏{‏احكم بينهم‏}‏ أي أهل الكتب وغيرهم ‏{‏بما أنزل الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال لأنه يستحق أن يتبع أمره لذاته وبين أن مخالفتهم له وإعراضهم عنه إنما هو مجرد هوى، لأن كتابهم داع إليه، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ أي في عدم التقييد به ‏{‏واحذرهم أن يفتنوك‏}‏ أي يخالطوك بكذبهم على الله وافترائهم وتحريفهم الكلم ومراءاتهم مخالطة تميلك ‏{‏عن بعض ما أنزل الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه، فلا وجه أصلاً للعدول عن أمره ‏{‏إليك فإن تولوا‏}‏ أي كلفو أنفسهم الإعراض عما حكمت به بينهم مضادين لما دعت إليه الطفرة الأولة من اتباع الحق ودعت إليه كتبهم من اتباعك ‏{‏فاعلم إنما يريد الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة العظمة ‏{‏أن يصيبهم‏}‏ لأنه لو أراد بهم الخير لهداهم إلى القبول الذي يطابق عليه شاهد العقل بما تدعو إليه الفطرة الأولى والنقل بما في كتبهم، إما من الأمر بذلك الحكم بعينه، وإما من الأمر باتباعك ‏{‏ببعض ذنوبهم‏}‏ أي التي هذا منها، وأبهمه زيادة في استدراجهم وإضلالهم وتحذيراً لهم من جميع مساوي أعمالهم، لئلا يعلموا عين الذنب الذي اصيبوا به، فيحملهم ذلك على الرجوع عنه، ويصير ذلك كالإلجاء، أو يكون إبهامه للتعظيم كما أن التنكير يفيد التعظيم، فيؤذن السياق بتعظيم هذا التولي وبكثرة ذنوبهم واجترائهم على مواقعتها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنهم بالتولي فاسقون، عطف عليه‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الناس‏}‏ أي هم وغيرهم ‏{‏لفاسقون *‏}‏ أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات، متكلفون لأنفسهم إظهار ما في بواطنهم من خفي الحيلة بقوة؛ ولما كان من المعلوم أن من أعرض عن حكم الله أقبل ولا بد على حكم الشيطان الذي هو عين الهوى الذي هو دين أهل الجهل الذين لا كتاب لهم هاد ولا شرع ضابط، سبب عَن إعراضهم الإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفحكم الجاهلية‏}‏ أي خاصة مع أن أحكامها لا يرضى بها عاقل، لكونها لم يدع إليها كتاب، بل إنما هي مجرد أهواء وهم أهل كتاب ‏{‏يبغون‏}‏ أي يريدون بإعراضهم عن حكمك مع ما دعا إليه كتابهم من اتباعك، وشهد به كتابك بالعجز عن معارضته من وجوب رسالتك إلى جميع الخلائق، وقراءة ابن عامر بالالتفات إلى الخطاب أدل على الغضب‏.‏

ولما كان حسن الحكم تابعاً لإتقانه، وكان إتقانه دائراً على صفات الكمال من تمام العلم وشمول القدرة وغير ذلك، قال- معلماً أن حكمه أحسن الحكم عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن أضل منهم‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ ويجوز أن تكون الجملة حالاً من واو يبغون، أي يريدون ذلك والحال أنه يقال‏:‏ من ‏{‏أحسن من الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏حكماً‏}‏ ثم زاد في تقريعهم بكثافة الطباع وجمود الأذهان ووقوف الأفهام بقوله معبراً بلام البيان إشارة إلى المعنى بهذا الخطاب‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي فيهم نهضة وقوة محاولة لما يريدونه ‏{‏يوقنون *‏}‏ أي يوجد منهم اليقين يوماً ما وأما غيرهم فليس بأهل الخطاب فكيف بالعتاب‏!‏ إنما عتابه شديد العقاب، وفي ذلك أيضاً غاية التبكيت لهم والتقبيح عليهم من حيث إنهم لم يزالوا يصفون أهل الجاهلية بالضلال، وأن دينهم لم ينزل الله به من سلطان، وقد عدلوا في هذه الأحكام إليه تاركين جميع ما أنزل الله من كتابهم والكتاب الناسخ له، فقد ارتكبوا الضلال بلا شبهة على علم، وتركوا الحق المجمع عليه‏.‏

ولما بين عنادهم وأن عداوتهم لأهل هذا الدين التي حملتهم على هذا الأمر العظيم ليس بعدها عداوة، نهى من اتسم بالإيمان عن موالاتهم، لأنه لا يفعلها بعد هذا البيان مؤمن ولا عاقل، فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان؛ ولما كان الإنسان لا يوالي غير قومه إلا باجتهاد في مقدمات يعملها وأشياء يتحبب بها إلى أولئك الذين يريد أن يواليهم، أشار إلى ذلك بصيغة الافتعال فقال‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا‏}‏ أي إن ذلك لو كان يتأتى بسهولة لما كان ينبغي لكم أن تفعلوه، فكيف وهو لا يكون إلا ببذل الجهد‏!‏ ‏{‏اليهود والنصارى أولياء‏}‏ أي أقرباء تفعلون معهم ما يفعل القريب مع قريبه، وترجون منهم مثل ذلك، وهم أكثر الناس استخفافاً بكم وازدراء لكم؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ أي كل فريق منهم يوالي بعضهم بعضاً، وهم جميعاً متفقون- بجامع الكفر وإن اختلفوا في الدين- على عداوتكم يا أهل هذا الدين الحنيفي‏!‏ ‏{‏ومن يتولهم منكم‏}‏ أي يعالج فطرته الأولى حتى يعاملهم معاملة الأقرباء ‏{‏فإنه منهم‏}‏ لأن الله غني عن العالمين، فمن والى أعداءه تبرأ منه ووكله إليهم؛ ثم علل ذلك تزهيداً فيهم وترهيباً لمتوليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق والحكمة البالغة، وكان الأصل‏:‏ لا يهديهم، أو لا يهديه، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ الأصل‏:‏ لا يهديهم، أو لا يهديه، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏لا يهدي القوم الظالمين *‏}‏ أي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها، فهم يمشون في الظلام، فلذلك اختاروا غير دين الله ووالوا من لا تصلح موالاته، ومن لم يرد الله هدايته لم يقدر أحد أن يهديه، ونفي الهداية عنهم دليل على أن العبرة في الإيمان القلب، إذ معناه أن هذا الذي يظهر من الإقرار ممن يواليهم ليس بشيء، لأن الموالي لهم ظالم بموالاته لهم، والظالم لا يهديه الله، فالموالي لهم لا يهديه الله فهو كافر، وهكذا كل من كان يقول أو يفعل ما يدل دلالة ظاهرة على كفره وإن كان يصرح بالإيمان- والله الهادي، وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبه المخالف في الدين واعتزاله- كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا تراءى ناراهما» ومنه قول عمر لأبي موسى رضي الله عنهما حين اتخذ كاتباً نصرانياً‏:‏ لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إذ خونهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، وروي أن أبا موسى رضي الله عنه قال‏:‏ لا قوام للبصرة إلا به، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ مات النصراني- والسلام، يعني هب أنه مات فما كنت صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة‏.‏