فصل: تفسير الآيات رقم (52- 53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما علل بذلك، كان سبباً لتمييز الخالص الصحيح من المغشوش المريض، فقال‏:‏ ‏{‏فترى‏}‏ أي فتسبب عن أن الله لا يهدي متوليهم أنك ترى ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي فساد في الدين كابن أبي وأصحابه- أخزاهم الله تعالى ‏{‏يسارعون‏}‏ أي بسبب الاعتماد عليهم دون الله ‏{‏فيهم‏}‏ أي في موالاة أهل الكتاب حتى يكونوا من شدة ملابستهم كأنهم مظروفون لهم كأن هذا الكلام الناهي لهم كان إغراء، ويعتلون بما بما لا يعتل به إلا مريض الدين من النظر إلى مجرد السبب في النصرة عند خشية الدائرة ‏{‏يقولون‏}‏ أي قائلين اعتماداً عليهم وهم أعداء الله اعتذاراً عن موالاتهم ‏{‏نخشى‏}‏ أي نخاف خوفاً بالغاً ‏{‏أن تصيبنا دائرة‏}‏ أي مصيبة محيطة بنا، والدوائر‏:‏ التي تخشى، والدوائل‏:‏ التي ترجى‏.‏

ولما نصب سبحانه هذا الدليل الذي يعرف الخالص من المغشوش، كان فعلهم هذا للخالص سبباً في ترجي أمر من عند الله ينصر به دينه، إما الفتح أو غيره مما أحاط به علمه وكوّنته قدرته يكون سبباً لندمهم، فلذا قال‏:‏ ‏{‏فعسى الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه فلا يطلب النصر إلا منه ‏{‏أن يأتي بالفتح‏}‏ أي بإظهار الدين على الأعداء ‏{‏أو أمر من عنده‏}‏ بأخذهم قتلاً بأيديكم أو بإخراج اليهود من أرض العرب أو بغير ذلك فينكشف لهم الغطاء‏.‏

ولما كانت المصيبة عند الإصباح أعظم، عبر به وإن كان المراد التعميم فقال‏:‏ ‏{‏فيصبحوا‏}‏ أي فيسبب عن كشف غطائهم أن يصبحوا والأحسن في نصبه ما ذكره أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي من أنه جواب «عسى» إلحاقاً لها بالتمني لكونها للطمع وهو قريب منه، ويحسنه أن الفتح وندامتهم المترتبة عليه عندهم من قبيل المحال، فيكون النصب إشارة إلى ما يخفون من ذلك، وهو مثل ما يأتي إن شاء الله تعالى في توجيه قراءة حفص عن عاصم في غافر ‏{‏فاطلع‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏ بالنصب ‏{‏على ما أسروا‏}‏‏.‏

ولما كان الإسرار لا يكون إلاّ لما يخشى من إظهاره فساد، وكان يطلق على ما دار بين جماعة خاصة على وجه الكتمان عن غيرهم، بين أنه أدق من ذلك وأنه على الحقيقة مَنَعهم خوفهم من غائلته وغرته عندهم أن يبرزوه إلى الخارج فقال‏:‏ ‏{‏في أنفسهم‏}‏ أي من تجويز محو هذا الدين وإظهار غيره عليه ‏{‏نادمين *‏}‏ أي ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره ‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ من رفعه عطفه على معنى ‏{‏نادمين‏}‏ فإن أصله‏:‏ يندمون، ولكنه عبر بالاسم إعلاماً بدوام ندمهم بشارة بدوام الظهور لهذا الدين على كل دين، أو على ‏{‏يقولون نخشى‏}‏، ومن أسقط الواو جعله حالاً، ومن نصبه جاز أن يعطفه على «يصبحوا» أي يكون ذلك سبباً لتحقق المؤمنين أمر المنافقين بالمسارعة في أهل الكتاب عند قيامهم سروراً بهم والندم عند خذلانهم ومحقهم، فيقول بعض المؤمنين لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما من الله عليهم به من التوفيق في الإخلاص مشيرين إلى المنافقين تنبيهاً وإنكاراً‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ أي الحقيرون ‏{‏الذين أقسموا بالله‏}‏ أي وهو الملك الأعظم ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ أي مبالغين في ذلك اجتراء على عظمته ‏{‏إنهم لمعكم‏}‏ أيها المؤمنون‏!‏ ويجوز أن يكون هذا القول من المؤمنين لليهود في حق المنافقين حيث قاسموهم على النصرة؛ ثم ابتدأ جواباً من بقية كلام المؤمنين أو من كلام الله لمن كأنه قال‏:‏ فماذا يكون حالهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏حبطت‏}‏ أي فسدت فسقطت ‏{‏أعمالهم فأصبحوا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنهم صاروا ‏{‏خاسرين‏}‏ أي دائمي الخسارة بتعبهم في الدنيا بالأعمال وخيبة الآمال، وجنايتهم في الآخرة الوبال، وعبر بالإصباح لأنه لا أقبح من مصابحة السوء لما في ذلك من البغتة بخلاف ما ينتظر ويؤمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم‏.‏ نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان‏!‏ من يوالهم منكم- هكذا كان الأصل، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال‏:‏ ‏{‏من يرتد‏}‏ ولو على وجه خفي- بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر ‏{‏منكم عن دينه‏}‏ أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه، فيبغضهم الله ويبغضونه، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، فالله غني عنهم ‏{‏فسوف يأتي الله‏}‏ اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه ‏{‏بقوم‏}‏ أي يكون حالهم ضد حالهم، يثبتون على دينهم، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان- رضي الله عنهم‏.‏

ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال‏:‏ ‏{‏يحبهم‏}‏ فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب ‏{‏ويحبونه‏}‏ فيثبتون عليه، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال‏:‏ ‏{‏أذلة‏}‏ وهو جمع ذليل؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان، كان في الحقيقة عزاً، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف‏:‏ ‏{‏على المؤمنين‏}‏ أي لعلمهم أن الله يحبهم ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم، فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يجاهدون‏}‏ أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين‏.‏

ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد، فصلهم منهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنهم لا ‏{‏يخافون لومة‏}‏ أي واحدة من لوم ‏{‏لائم‏}‏ وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم إذا شرعوا في أمر من أمور الدين- أمر بالمعروف أو نهي عن منكر- كانوا كالمسامير المحماة، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم‏.‏

ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الذي تقدم من أوصافهم العالية ‏{‏فضل الله‏}‏ أي الحاوي لكل كمال ‏{‏يؤتيه‏}‏ أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد ‏{‏من يشاء‏}‏ أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏واسع‏}‏ أي محيط بجميع أوصاف الكمال، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص ‏{‏عليم *‏}‏ أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره، وبكل ما يمكن علمه‏.‏

ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال‏:‏ ‏{‏إنما وليكم الله‏}‏ أي لأنه القادر على ما يلزم الولي، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له معلماً بأفراد المبتدأ أنه الأصل في ذلك وما عداه تبع، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏ وأضافة إليه إظهاراً لرفعته ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا الإيمان وأقروا به ثم وصفهم بما يصدق دعواهم الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏والذين يقيمون الصلاة‏}‏ أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ إحساناً إلى الخلائق، وقوله‏:‏ ‏{‏وهم راكعون *‏}‏ يمكن أن يكون معطوفاً على ‏{‏يقيمون‏}‏ أي ويكونون من أهل الركوع، فيكون فضلاً مخصصاً بالمؤمنين المسلمين، وذلك لأن اليهود والنصارى لا ركوع في صلاتهم- كما مضى بيانه في آل عمران، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه‏.‏ وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله من فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان، وحزب الشيطان هم الخاسرون، عطف عليه‏:‏ ‏{‏ومن يتول الله‏}‏ أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز ‏{‏ورسوله‏}‏ الذي خُلقه القرآن ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود، فإنهم الغالبون- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال‏:‏ ‏{‏فإن حزب الله‏}‏ أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه ‏{‏هم الغالبون *‏}‏ أي لا غيرهم، بل غيرهم مغلوبون، ثم إلى النار محشورون، لأنهم حزب الشيطان‏.‏

ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا الذين اتخذوا‏}‏ أي بغاية الجد والاجتهاد منهم ‏{‏دينكم‏}‏ أي الذي شرفكم الله به ‏{‏هزواً ولعباً‏}‏ ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من الذين‏}‏‏.‏

ولما كان المقصود بهم منح العلم، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي، بني للمجهول قوله‏:‏ ‏{‏أوتوا الكتاب‏}‏ ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين‏.‏

ولما خص عم فقال‏:‏ ‏{‏والكفار‏}‏ أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين، وكذا غيرهم، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب ‏{‏أولياء‏}‏ أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً‏.‏

ولما كان المستحق لموالاة شخص- إذا تركه ووالى غيره- يسعى في إهانته، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ من له الإحاطة الكاملة، فإن من والى غيره عاداه، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه ‏{‏إن كنتم مؤمنين *‏}‏ أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان‏.‏

ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين، خص روحه وخالصته وسره فقال‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم‏}‏ أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع، فأجابه الباقون بغاية الرغبة، ومنه دار الندوة، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل، فكان ذلك مناداة- هذا أصله، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء‏:‏ ‏{‏الى الصلاة‏}‏ أي التي هي أعظم دعائم الدين، وموصل إلى الملك العظيم، وعاصم بحبلة المتين ‏{‏اتخذوها‏}‏ على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم ‏{‏هزواً ولعباً‏}‏ فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون‏:‏ صاحوا كصياح العير- ونحو هذا، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم، وذلك لأن تأملها- في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية، والتحلي بالقراءة لأعظم الكلام، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع- بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الشناعة ‏{‏بأنهم قوم‏}‏ وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور ‏{‏لا يعقلون *‏}‏ أي ليست لهم هذه الحقيقة، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر‏:‏ العشرة المشهود لهم بالجنة، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي صلى الله عليه وسلم، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً- كما بنت ذلك في كتابي «الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما كانت النفوس نزاعة إلى الهوى، عمية عن المصالح، جامحة عن الدواء بما وقفت عنده من النظر إلى زينة الحياة الدنيا، وكان الدليل على سلب العقل عن أهل الكتاب دليلاً على العرب بطريق الأولى، وكان أهل الكتاب لكونهم أهل علم لا ينهض بمحاجتهم إلا الأفراد من خلص العباد، قال تعالى دالاً على ما ختم به الآية من عدم عقلهم آمراً لأعظم خلقه بتبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ وأنزلهم بمحل البعد فقال مبكتاً لهم بكون العلم لم يمنعهم عن الباطل‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ أي من اليهود والنصارى ‏{‏هل تنقمون‏}‏ أي تنكرون وتكرهون وتعيبون ‏{‏منا إلا أن آمنا‏}‏ أي أوجدنا الإيمان ‏{‏بالله‏}‏ أي لما له من صفات الكمال التي ملأت الأقطار وجاوزت حد الإكثار ‏{‏وما أنزل إلينا‏}‏ أي لما له من الإعجاز في حالات الإطناب والتوسط والإيجاز ‏{‏وما أنزل‏}‏‏.‏

ولما كان إنزال الكتب والصحف لم يستغرق زمان المضي، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي لما شهد له كتابنا، وهذه الأشياء التي آمنا بها لا يحيد فيها عاقل، لما لها من الأدلة التي وضوحها يفوق الشمس، فحسنها لا شك فيه ولا لبس ‏{‏وأن‏}‏ أي آمنا كلنا مع أن أو والحال أن ‏{‏أكثركم‏}‏ قيد به إخراجاً لمن يؤمن منهم بما دل عليه التعبير بالوصف ‏{‏فاسقون *‏}‏ أي عريقون في الفسق، وهو الخروج عن دار السعادة بحيث لا يمكن منهم رجوع إلى المرضى من العبادة، فبين أنهم لا ينقمون من المؤمنين إلا المخالفة، والمخالفة إنما هي بإيمان المسلمين بالله وما أمر به، وكفر أهل الكتاب بجميع ذلك مع علمهم بما تقدم لهم أن من آمن بالله كان الله معه، فنصره على كل من يناويه، وجعل مآله إلى الفوز الدائم، وأن من كفر تبرأ منه فأهلكه في الدنيا، وجعل مآله إلى عذاب لا ينقضي سعيره، ولا ينصرم أنينه وزفيره، ومن ركب ما يؤديه إلى ذلك على علم منه واختيار لم يكن أصلاً أحد أضل منه ولا أعدم عقلاً، وتخصيص النقم بما صدر من المؤمنين يمنع عطف ‏{‏وأن‏}‏ على ‏{‏أن آمنا‏}‏‏.‏

ولما أنزلهم سبحانه إلى عداد البهائم بكونهم ينسبونهم إلى الشر بجعلهم إياهم موضع الهزء واللعب وبكونهم ينظرون إلى أي من خالفهم، فيبعدون منه وينفرون عنه من غير أن يستعملوا ما امتازوا به عن البهائم في أن المخالف ربما كان فيه الدواء، والمكروه قد يؤول إلى الشفاء، والمحبوب يجر إلى العطب والتوي، بين لهم أن تلك رتبة سنية ومنزلة علية بالنسبة إلى ما هم فيه، فقال على سبيل التنزل وإرخاء العنان‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا من لا ينهض بمحاجتهم لعلمهم ولددهم غيره لما جبلت عليه من قوة الفهم ثم لما أنزل عليك من العلم ‏{‏هل أنبئكم‏}‏ أي أخبركم إخباراً متقناً معظماً جليلاً ‏{‏بشر من ذلك‏}‏ أي الأمر الذي نقمتموه علينا مع كونه قيماً وإن تعاميتم عنه، ووحد حرف الخطاب إشارة إلى عمى قلوبهم وأن هذه المقايسة لا يفهمها حق الفهم إلا المؤيد بروح من الله ‏{‏مثوبة‏}‏ أي جزاء صالحاً ويرجع إليه، فإن المثوبة للخير كما أن العقوبة للشر، وهي مصدر ميمي كالميسور والمعقول، ثم نوه بشرفه بقوله‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أي المحيط بصفات الجلال والإكرام، ثم رده أسفل سافلين بياناً لأنه استعارة تهكمية على طريق‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع‏.‏

بقوله- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ نعم‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي مثوبة من ‏{‏لعنة الله‏}‏ أي أبعده الملك الأعظم وطرده ‏{‏وغضب عليه‏}‏ أي أهلكه، ودل على اللعن والغضب بأمر محسوس فقال‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ ودل على كثرة الملعونين بجمع الضمير فقال‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ أي بالمسخ على معاصيهم ‏{‏القردة‏}‏ تارة ‏{‏والخنازير‏}‏ أخرى، والتعريف للجنس، وقال ابن قتيبة‏:‏ إن التعريف يفيد ظن أنهم لم ينقرضوا بل توالدوا حتى كان منهم أعيان ما تعرفه من النوعين، فما أبعد من كان منهم هذا من أن يكونوا أبناء الله وأحباءه‏!‏ ثم عطف- على قراءة الجماعة- على قوله ‏{‏لعنه الله‏}‏ سبب ذلك بعد أن قدم المسبب اهتماماً به لصراحته في المقصود، مع أن اللعن والغضب سبب حقيقي، والعبادة سبب ظاهري، فقال‏:‏ ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ وقرأه حمزة بضم الباء على أنه جمع والإضافة عطف على القردة، فهو- كما قال في القاموس- اللات والعزى والكاهن والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب، للواحد والجمع، فلعوت من طغوت، وكل هذه المعاني تصلح ها هنا، أما اللات والعزى وغيرهما مما لم يعبدوه صريحاً فلتحسينهم دين أهله حسداً للإسلام وقد عبدوا الأوثان في كل زمان حتى في زمان موسى عليه السلام كما في نص التوراة‏:‏ ثم بالغوا في النجوم لاستعمال السحر فشاركوا الصابئين في ذلك‏.‏ فمعنى الآية‏:‏ تنزلنا إلى أن نسبتكم لنا إلى الشر صحيحة، ولكن لم يأت كتاب بلعننا ولا بالغضب علينا ولا مسخنا قردة ولا خنازير، ولا عبدنا غير الله منذ أقبلنا عليه، وأنتم قد وقع بكم جميع ذلك، لا تقدرون أن تتبرؤوا من شيء منه، فلا يشك عاقل أنكم شر منا وأضل، والعاقل من إذا دار أمره بين شرين لم يختر إلا أقلهما شراً، فثبت كالشمس صحة دعوى أنهم قوم لا يعقلون، ولذلك ختم الآية بقوله ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء الموصوفون باللعن وما معه ‏{‏شر مكاناً‏}‏ وإذا كان ذلك لمكانهم فما ظنك بأنفسهم، فهو كناية عن نسبتهم إلى العراقة في الشر ‏{‏وأضل‏}‏ أي ممن نسبوهم إلى الشر والضلال، وسلم لهم ذلك فيهم إرخاء للعنان قصداً للإبلاغ في البيان ‏{‏عن سواء‏}‏ أي قصد وعدل ‏{‏السبيل *‏}‏ أي الطريق، ويجوز أن تكون الإشارة في ذلك إلى ما دل عليه الدليل الأول من عدم عقلهم ولا تنزل حينئذ، وإنما قلت‏:‏ إنهم لا يقدرون على إنكار شيء من ذلك، لأن في نص التوراة التي بين أظهرهم في السفر الخامس‏:‏ فالرب يقول لكم ويأمركم أن تكونوا له شعباً حبيباً، وتحفظوا جميع وصاياه وتعملوا بها، فإنه يرفعكم فوق جميع الشعوب، وإذا جزتم الأردن انصبوا الحجارة التي آمركم بها اليوم على جبل عبل وكلسوها بالكلس، وابنوا هناك مذبحاً من الحجارة لم يقع عليها حديد، ولكن ابنوا الحجارة كاملة لم تقطع، وقربوا عليها ذبائح كاملة أمام الله ربكم، وكلوا هناك وافرحوا أمام الله ربكم، واكتبوا على تلك الحجارة جميع آيات هذه السنة‏.‏

ثم عين موسى رجالاً يقومون على جبل إذا جازوا الأردن ويهتفون بصوت عال ويقولون لبني إسرائيل‏:‏ ملعوناً يكون الذي يتخذ أصناماً مسبوكة وأوثاناً منحوتة أمام الرب، والشعب كلهم يقولون‏:‏ آمين‏!‏ ملعوناً يكون من ينقل حد صاحبه ويظلمه في أرضه، ويقول الشعب كلهم‏:‏ آمين‏!‏ ملعوناً يكون من يضل الأعزى عن الطريق، ويقول الشعب كلهم‏:‏ آمين‏!‏ ملعوناً يكون من يحيف على المسكين واليتيم والأرملة في القضاء، ويقول الشعب كلهم‏:‏ آمين‏!‏- إلى أن قال‏:‏ ملعوناً يكون كل من لا يثبت على عهد آيات هذه التوراة ويعمل بها، ويقول الشعب كلهم‏:‏ آمين‏!‏ ثم قال‏:‏ وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله ويدرككم العقاب، وتكونوا ملعونين في القرية، ملعونين في الحرب، ويلعن نسلكم وثمار أرضكم، وتكونون ملعونين إذا دخلتم وملعونين إذا خرجتم، ينزل بكم الرب البلاء والحشرات، وينزل بكم الضربات الشديدة، وبكل شيء تمدون أيديكم إليه لتعملوه حتى يهلككم ويتلفكم سريعاً من أجل سوء أعمالكم وترككم لعبادتي، ويسلط عليكم هذه الشعوب حتى تهلكوا، وتكون السماء التي فوقكم عليكم شبه النحاس، والأرض تحتكم شبه الحديد، ويكسركم الرب بين يدي أعدائكم، تخرجون إليهم في طريق واحدة وتهربون في سبعة طرق، وتكونون مثلاً وقرعاً لجميع مملكات الأرض، وتكون جيفكم مأكلاً لجميع السباع وطيور السماء ولا يذب أحد عنكم، تكونون مقهورين مظلومين مغصوبين كل أيام حياتكم، يسبي بنيك وبناتك شعب آخر وتنظر إليهم ولا تقدر لهم على خلاص، وتكون مضطهداً مظوماً طور عمرك يسوقك الرب، ويسوق ملكك الذي مكله عليك إلى شعب لم يعرفه أبوك، وتعبد هناك آلهة أخرى عملت من خشب وحجارة، وتكون مثلاً وعجباً ويفكر فيك كل من يسمع خبرك في جميع الشعوب التي يقركم الله فيها، تزرع كثيراً وتحصد قليلاً، ويتعظم عليك سكانك ويصيرون فوقك، هذا اللعن كله يلزمك وينزل بك ويدركك حتى تهلك، لأنك لم تقبل قول الله ربك، ولم تحفظ سننه ووصاياه التي أمرك بها، وتظهر فيك آيات وعجائب وفي نسلك إلى الأبد، لأنك لم تعبد الله ربك ولم تعمل بوصاياه، ويصير أعداؤك دق الحديد على عنقك، ويسلط الله عليك شعباً يأتيك وأنت جائع ظمآن عريان فقير، قد أعوزك كل شيء يحتاج إليه، وتخدم أعداءك، ويسرع إليك مثل طيران النسر شعب لا تعرف نعتهم، شعب وجوههم صفيقة، لا تستحيي من الشيوخ ولا ترحم الصبيان، ويضيق عليك في جميع قراك حتى يظفر بسوراتك المشيدة التي تتوكل عليها وتثق بها في كل أرضك، وتضطر حتى تأكل لحم ولدك، والرجل المدلل منكم المفنق تنظر عيناه إلى أخيه وخليله وإلى من بقي من ولده جائعاً، لا يعطيهم من لحم ابنه الذي يأكله لأنه لا يبقى عنده شيء من الاضطهاد والضيق الذي يضيق عليك عدوك، وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتقي الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب يخصك الرب بضربات موجعة، ويبتليك بها ويبتلي نسلك من بعدك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، لأنك لم تسمع قول الله، كما فرّحكم الرب وأنعم عليكم وكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليستأصلكم بالعقاب والنكال، ويدمر عليكم ويتلفكم، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين جميع الشعوب- هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض موآب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب، فإن قالوا‏:‏ نحن لم ننقض بعد موسى عليه السلام حتى يلزمنا هذا اللعن المشروط بنقض العهد‏!‏ قيل‏:‏ قد شهد عليكم بذلك ما بين أيديكم من كتابكم، فإنه قال في آخر أسفاره ما نصه‏:‏ وقال الرب لموسى‏:‏ قد دنت أيام وفاتك فادع يشوع وقوما في قبة الزمان لآمره بما أريد، وانطلق يشوع وموسى وقاما في قبة الزمان، وظهر الرب في قبة الزمان بعمود من سحاب، وقام عمود من سحاب في باب قبة الزمان، وقال الرب لموسى‏:‏ أنت مضطجع منقلب إلى آبائك، فيقول هذا الشعب فيضل ويتبع آلهة أخرى آلهة الشعوب التي تدخل وترى وتسكن بينها، ويخالفني ويبطل عهدي الذي عهدته، ويشتعل غضبي عليه في ذلك اليوم، وأخذلهم وأدير وجهي عنهم، ويصيرون مأكلاً لأعدائهم، ويصيبهم شر شديد وغم طويل، لأنهم تبعوا الآلهة الأخرى، فاكتب لهم الآن هذا التسبيح وعلمه بني إسرائيل وصيره في أفواههم، ليكون هذا التسبيح شهادة على بني إسرائيل، لأني مدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم، الأرض التي تغل السمن والعسل، ويأكلون ويشبعون ويتلذذون، ويتبعون الآلهة الأخرى ويعبدونها، ويغضبوني ويبطلون عهدي، فإذا نزل بهم هذا الشر الشديد والغموم يتلى عليهم هذا التسبيح للشهادة، ولا تعدمه أفواه ذريتهم، لأني عالم بأهوائهم، وكل ما يصنعونه ها هنا اليوم قبل أن أدخلهم الأرض التي أقسمت لآبائهم، وكتب موسى هذا التسبيح ذلك اليوم وعلمه بني إسرائيل- وذكر بعد هذا كله ما ذكرته عند

‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163‏]‏ في النساء فراجعه، ثم قال‏:‏ أنصتي أيتها السماء فأتكلم، ولتسمع الأرض النطق من فيّ لأنها ترجو كلامي عطشانة، وكمثل الندى ينزل قولي وكالمطر على النخيل وشبه الضباب على العشب، لأني دعوت باسم الرب أبداً وبالتعظيم لله الرب العدل وليس عنده ظلم، الرب البار الصادق، أخطأ أولاد الأنجاس، الجيل المتعوج المنقلب، وبهذا كافؤوا الرب، لأنه شعب جاهل وليس بحليم، أليس الرب استخلصك وخلقك‏!‏ اذكروا أيام الدهر وتفهموا ما مضى من سنني جيلاً بعد جيل، استخبر أباك فيخبرك، وشيوخك فيفهموك، حين قسم العلى للأمم بني آدم الذين فرقهم، أقام حدود الأمم على عدد الملائكة، وصار جزء الرب شعبه، يعقوب حبل ميراثه، إسرائيل فأرواه في البرية من عطش الحر حيث لم يكن ماء، وحاطه وأدبه وحفظه مثل حدقة العين، وكمثل النسر حيث نقل عشه وإلى فراخه اشتاق، فنشر أجنحته وقبلهم وحملهم على صلبه، الرب وحده ساقهم ولم يكن معهم إله آخر، وأصعدهم إلى علو الأرض وأطعمهم من ثمر الشجر وغذاهم عسلاً من حجر، من الصخرة أخرج لهم الزيت، ومن سمن البقر ولبن الغنم وشحم الخراف والكباش والثيران والجداء ولب القمح، أكل يعقوب المخصوص، حين شحم وغلظ وعرُض، ترك الإله الذي خلقه وبعُد من الله مخلصه، يقول الله‏:‏ أسخطوني مع الغرباء بأوثانهم وأغضبوني حين ذبحوا للشياطين ولم يقربوا لإله الآلهة ولم يعرفه الجيل الجديد الذين أتوا ونسوا آباءهم‏.‏

هذا ما أردت ذكره من التوراة في الشهادة على لزوم اللعن والغضب لهم بعبادتهم الطواغيت، وقد صدق الله قوله فيها وأتم كلماته- وهو أصدق القائلين- بما وقع لهم بعد وفاة موسى عليه السلام ثم بعد يوشع عليه السلام مع ما تقدم لهم في أيام يوشع عليه السلام من عبادة بعليون الصنم كما مضى عند قوله تعالى ‏{‏وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏‏.‏

ذكر ما يصدق ذلك من سفر يوشع، قال‏:‏ ودعا يوشع جميع بني إسرائيل وقال لهم‏:‏ أنا قد شخت وطعنت في السن، وأنتم قد رأيتم ما صنع الله بهذه الشعوب، إنه أهلكهم من بين أيديكم، وإن الله ربكم هو تولى حروبكم وظفركم، قد علمتم أني قسمت لكم الشعوب التي بقيت‏.‏ فأما عند النهر الأعظم في مغارب الشمس فقد قسمتها لكم، والله ربكم يهزمهم ويهلكهم في أمامكم وترثون أرضهم كما قال الله ربكم، ولكن تقووا جداً واعلموا بجميع ما كتب في سفر موسى عند الرب، أهلك الرب من أمامكم شعوباً عظيمة ولم يثبت لكم إنسان إلى اليوم، الرجل منكم يهزم ألف رجل، لأن الله ربكم معكم وهو يجاهد عنكم كما قال لكم، فاحترسوا لأنفسكم، إن أنتم خالطتم الشعوب الذين بقوا بينكم وصرتم لهم أختاناً صاروا لكم فخاخاً وعثرات وأسنة في أصدافكم وصنارات في أعينكم حتى تهلكوا من الأرض الصالحة التي أعطاكم الله ربكم، وأما أنا فسائر في طريق أهل الأرض كلهم، وقد تعلمون يقيناً من كل قلوبكم وأنفسكم أنه ما سقطت كلمة واحدة من الكلام الذي وعدكم الله ربكم، وكما تم كل الكلام الصالح الذي وعدكم الله به كذلك ينزل بكم كل اللعن حتى تهلكوا وتبيدوا إن أنتم عصيتم وتعديتم على ميثاق الله ربكم والوصايا التي أوصاكم بها؛ وجمع جميع بني إسرائيل إلى سجام وأقامهم أمام الرب في قبة الزمان وقال‏:‏ اسمعوا قول الله إله إسرائيل‏:‏ كان آباؤكم سكاناً في مجاز النهر في الدهر الأول، ترح أبو إبراهيم وناحور، وكانوا يعبدون هناك آلهة أخرى، وعهد إلى إبراهيم أبيكم وأخرجته من مجاز النهر وسيَّرته في أرض كنعان كلها، وأكثرت ذريته ورزقته إسحاق ابناً، ورزقت إسحاق يعقوب وعيسو، وأعطيت عيسو جبل ساعير ميراثاً، فأما يعقوب وبنوه فنزلوا إلى مصر، وأرسلت موسى وهارون وعاقبت أهل مصر وأكثرت في أرضهم من الآيات والأعاجيب، ومن بعد ذلك أخرجتهم منها، وشق لهم الرب بحر سوف وأجاز إياكم فيه مشياً، فلما أراد المصريون أن يجوزوا أقلب البحر عليهم وغرقهم، ورأت أعينكم ما صنعت بأهل مصر، ثم أتيت بكم المفازة وسكنتموها أياماً كثيرة، وأتيت بكم أرض الأمورانيين الذين يسكنون عند مجاز الأردن، وحاربوكم ودفعتهم إليكم، ووثب عليكم بالاق بن صفور ملك الموآبيين، وحارب إسرائيل فأرسل فدعا بلعام بن بعور ليلعنكم، ولم يسرني أن أسمع قول بلغام، ولكن باركت عليكم ونجيتكم من يديه، ثم جزتم نهر الأردن وأتيتم أهل أريحا فحاربكم أهلها والأمورانيون- ثم عد بقية الطوائف السبع- فدفعتهم إليكم أجمعين، وأعطيتكم أرضاً لم تتعبوا فيها، فاتقوا الرب واعبدوه بالبر والعدل، واصرفوا عن قلوبكم الفكر في عبادة الآلهة الأخرى التي عبدها أباؤكم عند مجاز النهر وفي أرض مصر، واعبدوا الرب وحده، وإن كان يشق عليكم أن تعبدوا الرب اختاروا لأنفسكم يومنا هذا من تعبدون، أتحبون أن تعبدوا الآلهة التي عبدها آباؤكم عند مجاز نهر الفرات أم آلهة الأمورانيين الذين سكنتم بينهم‏!‏ أما أنا وأهل بيتي فإنا نعبد الله الرب، فأجاب الشعب وقالوا‏:‏ حاشا لله أن نجتنب عبادة الرب ونعبد الآلهة الأخرى‏!‏ لأن الله ربنا هو الذي أخرجنا من أرض مصر وخلصنا من العبودية، وأكمل الآيات والأعاجيب أمامنا، وحفظنا في كل الطرق التي سلكناها، وقوانا على جميع الشعوب التي حاربناها لذلك نعبد الرب لأنه هو الإلهة وحده وهو إلهنا، فقال‏:‏ انظروا‏!‏ لعلكم تجتنبون عبادة الله وتعبدون الآلهة الغريبة، فيغضب الرب عليكم وينزل بكم البلاء ويهلككم من بعد إنعامه عليكم، فقال الشعب‏:‏ لا يكون لنا عبادة أخرى غير عبادة الله، ربنا، قال يشوع‏:‏ اشهدتم على أنفسكم‏:‏ أنتم الذين اخترتم عبادة الرب قالوا له‏:‏ نشهد‏!‏ فأول ما دخل عليهم الدخيل أنهم لم يستأصلوا الكفرة وخالطوهم في أيام يوشع؛ قال في سفره‏:‏ فصعد رسول الرب من الجلجال إلى سجين وقال لبني إسرائيل‏:‏ هكذا يقول الرب‏:‏ أنا الذي أصعدتكم من أرض مصر وأتيت بكم الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت‏:‏ إني لا أبطل عهدي إلى الأبد، وأمرتكم أن لا تعاهدوا أهل هذه الأرض، ولكن استأصلوا مذابحهم، ولم تقبلوا ولم تطيعوني، وأنا أيضاً قد قلت‏:‏ إني لا أهلكهم من أمامكم، ولكن تكون لكم آلهتهم عشرة، فلما قال رسول الرب لبني إسرائيل هذا القول رفع القوم أصواتهم بالبكاء ودعوا اسم ذلك الموضع تحناد أي موضع البكاء، وذبحوا هناك ذبائح للرب؛ وتوفي يشوع بن نون عند الرب ابن مائة وعشرين سنة، ودفن في حد ميراثه بسرح التي في جبل إفرائيم عن يسار جبل جعس، وكل ذلك الحقب أيضاً قبضوا، ونشأ من بعدهم حقب لم يعرف الرب ولم يعرف أعماله التي عملها، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب واجتنبوا عبادة الله إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر، وتبعوا آلهة الشعوب التي حولهم وسجدوا لها وعبدوا بعلاً وأشتراثاً الصنمين، وغضب الرب على بني إسرائيل، وسلط عليهم المنتهبين، ودفعهم إلى أعدائهم، ولم يقدروا أن يثبتوا لأعدائهم، وكلما كانوا يخرجون إلى الحرب كانت يد الرب عليهم بالعقاب والبلاء كما قال لهم الرب وكما أقسم لآبائهم، واضطروا وضاق بهم جداً، فصير الرب عليهم قضاة، وأعان قضاتهم وخلصوهم من أيدي أعدائهم، وكان الرب يسمع أنينهم وما يشكون من المضيقين عليهم والمزعجين لهم، فلما توفيت قضاتهم رجعوا إلى الفساد كآبائهم، وعبدوا الأصنام وسجدوا لها، ولم ينقصوا من سوء أعمالهم الأولى وطرقهم الرديئة، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل وقال‏:‏ لأن الشعب اعتدوا الوصية التي أوصيت آباءهم، ولم يسمعوا قولي، لا أعود أن أهلك إنساناً بين أيديهم من الشعوب التي خلف يشوع بعد وفاته، ليجرب الرب بها بني إسرائيل هل يحفظون طرق الرب كما حفظ آباؤهم أولاً‏!‏ فلذلك ترك الرب هذه الشعوب ولم يهلكهم سريعاً، ولم يسلمها في يدي يشوع، والذين تركوا خمسة رؤساء أهل فلسطين وجميع الكنعانيين والصيدانيين والحاوانيين والذين يسكنون جبل لبنان ومن جبل بني حرمون إلى مدخل حماة ليجرب بهم بني إسرائيل، وجلس بنو إسرائيل بين يدي الأمورانيين وبقية القبائل، وزوجوا بنيهم من بناتهم وزوجوا بناتهم من بنيهم وعبدوا آلهتهم، وارتكب بنو إسرائيل السيئات أمام الرب ونسوا صنيع الرب إلههم وعبدوا بعلاً وأشتراثاً، واشتد غضب الرب على بني إسرائيل ودفعهم إلى كوشان الأتيم ملك حران، فاستعبدهم ثماني سنين، ودعا بنو إسرائيل الرب متضرعين، وصيَّر الرب لهم مخلصاً، وخلصهم عثنايال بن قنز أخو كالاب الأصغر، فأعانه الرب وصار حكماً لبني إسرائيل فخرج إلى الحرب، وأسلم الرب في يده كوشان الأتيم، واستراحت الأرض من الحرب أربعين سنة، وتوفي عثنايال ابن قنز، وعاد بنو إسرائيل في سوء أعمالهم أمام الرب فقوى الرب عليهم ملك موآب، واستمروا هكذا في كل حين ينقضون، وسنة الرب كل قليل يرفضون، ولا يستقيمون إلا بقدر ما ينسون حرارة النقم ويذوقون لذاذة النعم- ولولا خوف الإطالة الموجبة للسآمة والملالة لذكرت من ذلك كثيراً من الكتب التي بين أيديهم، لا يقدرون على إنكار ما يلزمهم بها من الفضيحة والعار- والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما تم ذلك عطف سبحانه على ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة‏}‏ قوله دالاً على استحقاقهم للعن وعلى ما أخبر به من شرهم وضلالهم بما فضحهم به من سوء أعمالهم دلالة على صحة دين الإسلام بإطلاع شارعه عليه أفضل الصلاة والسلام على خفايا الأسرار‏:‏ ‏{‏وإذا جاءوكم‏}‏ أي أيها المؤمنون‏!‏ هؤلاء المنافقون من الفريقين، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئاً عند الله، والعدول إلى خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم ‏{‏قالوا آمنا‏}‏ أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر، لكونهما علة للمعطوف عليه، فهما كالجزء منه‏.‏

ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقرباً لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه، فوجب التوقع للتصريح بها‏:‏ ‏{‏وقد‏}‏ أي قالوا ذلك والحال أنهم قد ‏{‏دخلوا‏}‏ أي إليكم ‏{‏بالكفر‏}‏ مصاحبين له متلبسين به‏.‏

ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال، لما يرون من سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيداً للأخبار عن ثباتهم على الكفر، لأنه أمر ينكره العاقل فقال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم، لا منك ولا من أتباعك ‏{‏قد خرجوا به‏}‏ أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما رأوا من الخير، دالاً على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات، وذكر المسند إليه مرتين، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا‏.‏

ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه، نبه عليه بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علماً وقدرة ‏{‏أعلم‏}‏ أي منهم وممن توسم فيهم النفاق ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي بما في جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد ‏{‏يكتمون *‏}‏ أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم‏.‏

ولما كذبهم في دعوى الإيمان، أقام سبحانه الدليل على كفرهم فقال مخاطباً لمن له الصبر التام، مفيداً أنه أطلعه صلى الله عليه وسلم على ما يعلم منهم مما يكتمونه من ذلك تصديقاً لقوله تعالى ‏{‏ولتعرفنهم في لحن القول‏}‏ إطلاعاً هو كالرؤية، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ وقد أخبرنا غيرك من المؤمنين بما نعلم منهم من ذلك، وأما أنت فترى ما في قلوبهم بما آتيناك من الكشف‏:‏ ‏{‏وترى‏}‏ أي لا تزال يتجدد لك ذلك ‏{‏كثيراً منهم‏}‏ أي اليهود والكفار منافقهم ومصارحهم‏.‏

ولما كان التعبير بالعجلة لا يصح هنا، لأنها لا تكون إلا في شيء له وقتان‏:‏ وقت لائق، ووقت غير لائق، والإثم لا يتأتى فيه ذلك، قال‏:‏ ‏{‏يسارعون‏}‏ أي يفعلون في تهالكهم على ذلك فعل من يناظر خصماً في السرعة فيما هو فيه محق وعالم بأنه في غاية الخير، وكان موضع لأن يعبر بالضمير فيقال‏:‏ فيه- أي الكفر فعبر عنه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف إفادة لأن كفرهم عن حيلة هي في غاية الرداءة بقوله‏:‏ ‏{‏في الإثم‏}‏ أي كل ما يوجب إثماً من الذنوب، وخص منه أعظمه فقال‏:‏ ‏{‏والعدوان‏}‏ أي مجاوزة الحد في ذلك الذي أعظمه الشرك، ثم حقق الأمر وصوَّره بما يكون لوضوحه دليلاًعلى ما قبله من إقدامهم على الحرام الذي لا تمكن معه صحة القلب أصلاً، ولا يمكنهم إنكاره فقال‏:‏ ‏{‏وأكلهم السحت‏}‏ أي الحرام الذي يستأصل البركة من أصلها فيمحقها، ومنه الرشوة، وكان هذا دليلاً على كفرهم لأنهم لون كانوا مؤمنين ما أصروا على شيء من ذلك، فكيف بجميعه‏!‏ فكيف بالمسارعة فيه‏!‏ ولذلك استحقوا غاية الذم بقوله‏:‏ ‏{‏لبئس ما كانوا‏}‏ ولما كانوا يزعمون العلم، عبر عن فعلهم بالعمل فقال‏:‏ ‏{‏يعملون *‏}‏‏.‏

ولما كان المنافقون من الأميين وأهل الكتاب قد صاروا شيئاً واحداً في الانحياز إلى المصارحين من أهل الكتاب، فأنزل فيهم سبحانه هذه الآيات على وجه يعم غيرهم حتى تبينت أحوالهم وانكشف زيغهم ومحالهم- أنكر- على من يودعونهم أسرارهم ويمنحونهم مودتهم وأخبارهم من علمائهم وزهادهم- عدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لكونهم جديرين بذلك لما يزعمونه من اتباع كتابهم فقال‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏ينهاهم‏}‏ أي يجدد لهم النهي ‏{‏الربانيون‏}‏ أي المدعون للتخلي من الدنيا إلى سبيل الرب ‏{‏والأحبار‏}‏ أي العلماء ‏{‏عن قولهم الإثم‏}‏ أي الكذب الذي يوجبه وهو مجمع له ‏{‏وأكلهم السحت‏}‏ وذلك لأن قولهم للمؤمنين ‏{‏آمنا‏}‏ وقولهم لهم ‏{‏إنا معكم إنما نحن مستهزءون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ لا يخلو عن كذب، وهو محرم في توراتهم وكذا أكلهم الحرام، فما سكوتهم عنهم في ذلك إلا لتمرنهم على المعاصي وتمردهم في الكفر واستهانتهم بالجرأة على من لا تخفى عليه خافية، ولا يبقى لمن عاداه باقية‏.‏

ولما كان من طبع الإنسان الإنكار على من خالفه، كانت الفطرة الأولى مطابقة لما أتت به الرسل من قباحة الكذب وما يتبعه من الفسوق‏.‏ وكان الإنسان لا ينزل عن تلك الرتبة العالية إلى السكوت عن الفاسقين فضلاً عن تحسين أحوالهم إلا بتدرب طويل وتمرن عظيم، حتى يصير له ذلك كالصفة التي صارت بالتدريب صنعة يألفها وملكة لا يتكلفها، فجعل ذنب المرتكب للمعصية غير راسخ، لأن الشهوة تدعوه إليها، وذنب التارك للنهي راسخاً لأنه لا شهوة له تدعوه إلى الترك، بل معه حامل من الفطرة السليمة تحثه على النهي، فكان أشد حالاً؛ قال‏:‏ ‏{‏لبئس ما‏}‏ ولما كان ذلك في جبلاتهم، عبر بالكون فقال‏:‏ ‏{‏كانوا يصنعون *‏}‏ أي في سكوتهم عنهم وسماعهم منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

ولما لم تزل الدلائل على إبطال دعوى أهل الكتاب في البنوة والمحبة تقوم، وجبوش البراهين تنجد، حتى انتشبت فيهم سهام الكلام أي انتشاب، قال تعالى معجباً من عامتهم بعد تعيين خاصتهم، معلماً بأنهم لم يقنعوا بالسكوت عن المنكر حتى تكلموا بأنكره، مشيراً إلى سفول رتبتهم ودناءة منزلتهم بأداة التأنيث‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود‏}‏ معبرين عن البخل والعجز جرأة وجهلاً بأن قالوا ذاكرين اليد لأنها موضع القدرة وإفاضة الجود والنصرة‏:‏ ‏{‏يد الله‏}‏ أي الذي يعلم كل عاقل أن له صفات الكمال ‏{‏مغلولة‏}‏ أي فهو لا يبسط الرزق غاية البسط، وهذا كناية عن البخل والعجز من غير نظر إلى مدلول كل من ألفاظه على حياله أصلاً، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 29‏]‏ ولم يقصد من ذلك غير الجود وضده، لا غل ولا عنق ولا بسط أصلاً، بل صار هذا الكلام عبارة عما وقع مجازاً عنه، كأنهما متعقبان على معنى واحد، حتى لو جاد الأقطع إلى المنكب لقيل له ذلك، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، منه الاستواء «وقالت‏:‏ في السماء» المراد منه- كما قاله العلماء- أنه ليس مما يعبده المشركون من الأوثان، قال في الكشاف‏:‏ ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية، ولم يتخلص عن يد الطاعن إذا عبثت به‏.‏

ولما نطقوا بهذه الكلمة الشنعاء، وفاهوا بتلك الداهية الدهياء، أخبر عما جازاهم به سبحانه على صورة ما كان العرب يقابلون به من يستحق الهلاك من الدعاء، فقال معبراً بالمبني للمفعول إفادة لتحتم الوقوع وتعليماً لنا كيف ندعو عليهم، ولم يسببه عما قبله بالفاء تقوية له على تقدير سؤال سائل‏:‏ ‏{‏غلت أيديهم‏}‏ دعاء مقبولاً وخبراً صادقاً، عن كل خير، فلا تكاد تجد فيهم كريماً ولا شجاعاً ولا حاذقاً في فن، وإن كان ذلك لم تظهر له ثمرة ‏{‏ولعنوا‏}‏ أي أبعدوا مطرودين عن الجناب الكريم ‏{‏بما قالوا‏}‏ والمعنى أنهم كما رأوا أحوال المنافقين المقضي في التوراة بأنها إثم وأقروا عليها، فكذلك نطق بعضهم بكلمة الكفر التي لا أفظع منها، وسكت عليه الباقون فشاركوه، ولما كان الغل كناية عن البخل وعدم الإنفاق، وكان الدعاء بغلهم ولعنهم متضمناً أن الأمر ليس كما قالوا، ترجمة سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏بل يداه‏}‏ وهو منزه عن الجارحة وعن كل ما يدخل تحت الوهم ‏{‏مبسوطتان‏}‏ مشيراً بالتثنية إلى غاية الجود، ليكون رد قولهم وإنكاره بأبلغ ما يكون في قطع تعنتهم وتكذيب قولهم‏.‏

ولما كان معنى هذا إثبات ما نفوه على أبلغ الأحوال، قال مصرحاً بالمقصود معرفاً أنه في إنفاقه مختار فلا غرو أن يبسط لبعض دون بعض‏:‏ ‏{‏ينفق‏}‏ ولما كان إنفاقه سبحانه تحقيقاً للاختيار على أحوال متباينة بحيث إنها تفوت الحصر، أشار إلى التعجيب من ذلك بالتعبير بأداة الاستفهام وإن قالوا‏:‏ إنها في هذا الموطن شرط، فقال‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ أي كما ‏{‏يشاء‏}‏ أي على أي حالة أراد دائماً من تقتير وبسط وغير ذلك‏.‏

ولما كان قولهم هذا غاية في العجب لأن كتابهم كافٍ في تقبيحه بل تقبيح ما هو دونه في الفحش، فكيف وقد انضم إلى ذلك ما أنزل في القرآن من واضح البيان، قال سبحانه عاطفاً على ‏{‏وترى كثيراً منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 62‏]‏ مؤكداً لمضمون ما سبق من قوله ‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ بأنه جعل سبب هذا القول منهم ما أتاهم من الهدى الأكمل في هذا الكتاب المعجز على لسان هذا النبي الذي هم به أعرف منهم بأبنائهم‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منهم‏}‏ أي ممن أراد الله فتنته، ثم ذكر فاعل الزيادة فقال‏:‏ ‏{‏ما أنزل إليك‏}‏ أي على ما له من النور وما يدعو إليه من الخير ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بكل ما ينفعك دنيا وأخرى ‏{‏طغياناً‏}‏ أي تجاوزاً عظيماً عن الحد تمتلئ منه الأكوان في كل إثم وشنأ، وذلك بما جره إليهم داء الحسد، لأنهم كلما رأوه سبحانه قد زاد إحسانه إليك طعنوا في ذلك الإحسان، وهو- لما له من الكمال وعلو الشأن- يكون الطعن فيه من أعظم الدليل عليه والبرهان، فيكون أعدى العدوان ‏{‏وكفراً‏}‏ أي ستراً لما ظهر لعقولهم من النور ودعت إليه كتبهم من الخير، وهذا كما يؤذي الخفاش ضياء الصباح، وكلما قوي الضياء زاد أذاه، وفي هذا إياس من توبتهم وتأكيد لعداوتهم وزجر عن موالاتهم ومودتهم، أي إنهم لا يزدادون بحسن وعظم وجميل تلاوتك عليهم الآيات إلا شقاقاً ما وجدوا قوة، فإن ضعفوا فنفاقاً‏.‏

ولما كان الإخبار باجتماع كلمتهم على شقاوة الكفر ربما أحدث خوفاً من كيدهم، نفى ذلك بقوله ‏{‏وألقينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة الباهرة ‏{‏بينهم‏}‏ أي اليهود ‏{‏العداوة‏}‏ ولما كانت العداوة- وهي أي يعدون بعضهم إلى أذى بعض- ربما زالت بزوال السبب، أفاد أنها لازمة لا تنفك بقوله‏:‏ ‏{‏والبغضاء‏}‏ أي لأمور باطنية وقعت في قلوبهم وقوع الحجر الملقى من علو ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك مفيداً لوهنهم ترجمه بقوله‏:‏ ‏{‏كلما أوقدوا‏}‏ على سبيل التكرار لأحد من الناس ‏{‏ناراً للحرب‏}‏ أي باحكام أسبابها وتفتيح جميع أبوابها ‏{‏اطفأها‏}‏ أي خيّب قصدهم في ذلك ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال، فلا تجدهم في بلد من البلاد إلا في الذل وتحت القهر، وأصل استعارة النار لها ما في كل منهما من التسلط والغلبة والحرارة في الظاهر والباطن، مع أن المحارب يوقد النار في موضع عال ليجتمع إليه أنصاره، ولقد قام لعمري دليل المشاهدة على صدق ذلك بغزوة قينقاع تم النضير ثم قريضة، والقبائل الثلاث بالمدينة لم يتناصروا ولم ينصروا، ثم غزوة خيبر وأهل فدك ووادي القرى وهم متقاربون ولم يتناصروا ولم ينصروا، هذا فيما في خاصتهم، وأما في غير ذلك فقد ألبّوا الأحزاب وجمعوا القبائل وأتقنوا في أمرهم على زعمهم المكايد، ثم أطفأ الله نارهم حساً ومعنى بالريح والملائكة، وألزمهم خزيهم وعارهم وجعل الدائرة عليهم- وساق جيش المنون على أيدي المؤمنين إليهم، وإلى ذلك وأمثاله من أذاهم الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ويسعون‏}‏ أي يوجدون مجتهدين اجتهاد الساعي على سبيل الاستمرار بما يوجدون من المعاصي من كتمان ما عندهم من الدليل على صحة الإسلام وغير ذلك من أنواع الأجرام ‏{‏في الأرض‏}‏ أي كل ما قدروا عليه بالفعل والباقي بالقوة‏.‏

ولما كان الإنسان لكونه محل نقصان لا ينبغي أن يتحرك فضلاً عن أن يمشي فضلاً عن أن يسعى إلا بما يرضي الله، وحينئذ لا ينسب الفعل إلا إلى الله لكونه آمراً به خالقاً له، فكانت نسبة السعي إلى الإنسان دالة على الفساد، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏فساداً‏}‏ أي للفساد أو ذوي فساد ‏{‏والله‏}‏ أي والحال أن الذي له الكمال كله ‏{‏لا يحب المفسدين *‏}‏ أي لا يفعل معهم فعل المحب، فلا ينصر لهم جيشاً، ولا يعلي لهم كعباً، ولا يصلح لهم شأناً، وبذلك توعدهم سبحانه في التوراة أنهم إذا خالفوا أمره سلط عيهم من عذابه بواسطة عباده وبغير واسطتهم ما يفوت الحصر- كما مضى ذلك قريباً عما بين أيديهم من التوراة بنصه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ولما أثبت بقوله ‏{‏وليزيدن‏}‏ أنهم كانوا كفرة قبل إتيان هذا الرسول عليه السلام، وكرر ما أعده لهم من الخزي الدائم على نحو ما أخبرهم به كتابهم، وعظهم ورجّاهم سبحانه استعطافاً لهم لئلا ييأسوا من روح الله على عادة منه في رحمته لعباده ورأفته بهم بقوله تعالى عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلو أنهم كفوا عن هذه الجرائم العظائم لاضمحلت صغائرهم فلم تكن لهم سيئات‏:‏ ‏{‏ولو أن‏}‏ ولما كان الضلال من العالم أقبح، قال‏:‏ ‏{‏أهل الكتاب‏}‏ أي الفريقين منهم‏.‏

ولما كان الإيمان أساس جميع الأعمال، قدمه إعلاماً بأنه لا نجاة لأحد إلا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ هذا مع أنه حقيق باشتداد العناية بهم لمبالغتهم في كتمان ما عندهم منه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏آمنوا‏}‏ أي بهذا النبي الكريم وما أنزل إليه من هذا الهدى ‏{‏واتقوا‏}‏ أي ما هددوا به في كتابهم على ترك الإيمان به على حسب ما دعاهم إليه كتابهم كما في قصة إسماعيل وغيرها إلى أن كان آخر ما فارقهم عليه موسى عليه السلام في آخر كتابهم التصريح بنبوته عليه السلام والإشارة إلى أن اتباعه أحق من اتباعه فقا‏:‏ جاء ربنا من سيناء؛ وشرق من ساعير، وتبدّى من جبال فاران، فأضاف الرب إليهم، وجعل الإتيان من جبال فاران- التي هي مكة، لا نزاع لهم في ذلك- تبدياً وظهوراً أي لاخفاء به بوجه، ولا ظهور أتم منه ‏{‏لكفّرنا‏}‏ وأشار إلى عظيم جرأتهم بمظهر العظمة ‏{‏عنهم سيئاتهم‏}‏ أي التي ارتكبوها قبل مجيئه وهي مما يسوء، أي يشتد تنكر النفس له أو تكرّهها، وأشار إلى سعة رحمته وأنها لا تضيق عن شيء أراده بمظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ولأدخلناهم‏}‏ أي بعد الموت ‏{‏جنات النعيم *‏}‏ أي بدل ما هم فيه من هذا الشقاء الذي لا يدانيه شقاء‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ ما فعلوا ذلك، فألزمناهم الخزي في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة، وكان هذا إجمالاً لحالتهم الدنيوية والأخروية، وكان محط نظرهم الأمر الدنيوي، رجع- بعد إرشادهم إلى إصلاح الحالة الأخروية لأنها أهم في نفسها- إلى سبب قولهم تلك الكلمة الشنعاء والداهية القبيحة الصلعاء، وهو تقتير الرزق عليهم، وبين أن السبب إنما هو من أنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة‏}‏ أي قبل إنزال الإنجيل بالعمل بجميع ما دعت إليه من أصل وفرع وثبات عليها وانتقال عنها ‏{‏والإنجيل‏}‏ أي بعد إنزاله كذلك، وفي إقامته إقامة التوراة الداعية إليه ‏{‏وما أنزل إليهم من ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم من أسفار الأنبياء المبشرة بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ومن القرآن بعد إنزاله، وفي إقامته إقامة جميع ذلك، لأنه مبشر به وداع إليه ‏{‏لأكلوا‏}‏ أي لتيسر لهم الرزق، وعبّر ب «من» لأن المراد بيان جهة المأكول لا الأكل ‏{‏من فوقهم‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك كناية عن عظم التوسعة، قال موضحاً له معبراً بالأحسن ليفهم غيره بطريق الأولى‏:‏ ‏{‏ومن تحت أرجلهم‏}‏ أي تيسراً واسعاً جداً متصلاً لا يحصر، أو يكون كناية عن بركات السماء والأرض، فبين ذلك أنه ما ضربهم بالذل والمسكنة إلا تصديقاً لما تقدم إليهم به في التوراة، قال مترجمها في السفر الخامس- الدعاء والبركات‏:‏ وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وحفظتم وعملتم بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم، يصيركم الرب فوق جميع الشعوب، فتصيرون إلى هذا الدعاء، يبارك لكل امرئ منكم في القرية والحقل، يبارك في أولادكم وأرضكم، يبارك لكم في بهائمكم وما يضع في أقطاع بقركم وأحزاب غنمكم، ويبارك فيكم إذا دخلتم ويبارك فيكم إذا خرجتم، ويدفع إليكم الله أعداءكم أسارى، يخرجون إليكم في طريق واحد ويهربون منكم في سبعة طرق، يأمر الله ببركاته في أهرائكم وفي جميع الأشياء التي تمدون أيديكم إليها، وينظر إليكم جميع شعوب الأرض ويعلمون أن اسم الرب عليكم وقد وسمتم به فيخافونكم، ويزيدكم الرب خيراً ويبارك في ثمار أرضكم، يفتح الله ربكم أهراء السماء ويهبط المطر على أهله في زمانه، وتتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلط عليكم أحد، ويصيركم الرب رأساً ولا يصيركم ذنباً، وتصيرون فوق ولا تصيرون أسفل إذا عملتم بجميع وصايا الله ربكم ولم تروغوا عنها يمنة ولا يسرة، ولا تتبعوا الشعوب ولا تعبدوا آلهتها، وإن أنتم لم تسمعوا قول الله ربكم ولم تحفظوا ولم تعملوا بجميع سننه ووصاياه التي آمركم بها اليوم، ينزل بكم هذا اللعن الذي أقص عليكم كله، ويدرككم العقاب، وتكونون ملعونين في القرية- إلى آخر اللعن الذي تقدم قريباً، وقال في الثالث‏:‏ إذا سلكتم بسنتي وحفظتم وصاياي وعملتم بها، أديم أمطاركم في وقتها، وتبذل الأرض لكم غلاتها، وتبذل لكم الشجر ثمارها، ويدرك الدراس القطاف، والقطاف يدرك الزرع، وتأكلون خبزاً وتشبعون وتسكنون أرضكم مطمئنين، ولا يكون من يخرجكم، وأصرف عن أرضكم السباع الضارية، وتطردون أعداءكم، الخمسة منكم يهزمون مائة، والمائة منكم يهزمون عشرة آلاف، وتقع أعداؤكم قتلى بين أيديكم في الحرب، وأقبل إليكم وأكثركم وأديم مقدسي بينكم ولا أدبر عنكم، بل أكون معكم وأسير بينكم، وإن لم تطيعوني وتسمعوا قولي ولم تعملوا بهذه الوصايا وأبطلتم عهودي، أنا أيضاً أصنع بكم مثل صنيعكم، وآمر بكم البلايا والبرص والبهق المقشر الذي لا يبرأ، والسل الذي يطفئ البصر ويهلك النفس، ويكون تعبكم في الزرع باطلاً، وذلك لأن أعداءكم يأكلون ما تزرعون، وأنزل بكم غضبي، ويهزمكم أعداؤكم، ويتسلط عليكم شنّاؤكم، وتنهزمون من غير أن يهزمكم أحد، وأصيّر السماء فوقكم مثل الحديد، والأرض تحتكم مثل النحاس، ولا تغل لكم أرضكم غلاتها، ولا تثمر الشجر ثمارها، وأرسل عليكم السباع الضارية فتلهككم وتهلك بهائمكم، ويستوحش الطرق منكم، وأسلط عليكم الموت وأدفعكم إلى أعدائكم، وتأكلون ولا تشبعون، وتصيروا إلى ضيق حتى تأكلوا لحوم بناتكم، وأخرب منازلكم، وأفرقكم بين الأمم، وتخرب قراكم، فحينئذ تهوى الأرض أسباتها، وتسبت كل أيام وحشتها ما لم تسبت حيث كنتم فيها عصاة لا تسبتون، والذين يبقون منكم ألقي في قلوبهم فزعة، ويطردهم صوت ورقة تحرك، ويهربون من صوت الورقة كما يهربون من السيف، ويعنفون بإثمهم ويعاقبون بإثم آبائهم، ومن بعد ذلك تنكسر قلوبهم الغلف‏.‏

ولما كان ما مضى من ذمهم ربما أفهم أنه لكلهم، قال مستأنفاً جواباً لمن يسأل عن ذلك‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ أي أهل الكتاب ‏{‏أمة‏}‏ أي جماعة هي جديرة بأن تقصد ‏{‏مقتصدة‏}‏ أي مجتهدة في العدل لا غلو ولا تقصير، وهم الذين هداهم الله للإسلام بحسن تحريهم واجتهادهم ‏{‏وكثير منهم‏}‏ أي بني إسرائيل ‏{‏سآء ما يعملون *‏}‏ أي ما أسوأ فعلهم الذي هم فيه مستمرون على تجديده، ففيه معنى التعجيب، والتعبيرُ بالعمل لأنهم يزعمون أنه لا يصدر منهم إلا عن علم، وهم الذين حرفوا الكلم عن مواضعه، وارتكبوا العظائم في عداوة الله ورسوله‏.‏

ولما أتم ذلك سبحانه وعلم منه أن من أريدت سعادته يؤمن ولا بد، ومن أريدت شقاوته لا يؤمن أصلاً، ومن أقام ما أنزل عليه سعد، ومن كفر بشيء منه شقي، وكان ذلك ربما فتر عن الإبلاغ، قرن بقوله تعالى ‏{‏يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ قولَه حاثاً على الإبلاغ لإسعاد من أريد للسعادة، وهم الأمة المقتصدة منهم وإن كانوا قليلاً، وكذا إبلاغ جميع من عداهم‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول‏}‏ أي الذي موضوع أمره البلاغ ‏{‏بلغ‏}‏ أي أوصل إلى من أرسلت إليهم ‏{‏ما أنزل إليك‏}‏ أي كله ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإنزاله غير مراقب أحداً، ولا خائف شيئاً، لتعلم ما لم تكن تعلم، ويهدي على يدك من أراد الله هدايته، فيكون لك مثل أجره‏.‏

ولما كان إبلاغ ما يخالف الأهواء من الشدة على النفوس بمكان لا يعلمه إلا ذوو الهمم العالية والأخلاق الزاكية، كان المقام شديد الاقتضاء لتأكيد الحث على الإبلاغ، فدل على ذلك بالاعتراض بين الحال والعامل فيها، بالتعبير بالفعل الدال على داعية هي الردع بأن قال‏:‏ ‏{‏وإن لم تفعل‏}‏ أي وإن لم تبلغ جميع ذلك، أو إن لم تعمل به ‏{‏فما بلغت رسالته‏}‏ لأن من المعلوم أن ما تقع على كل جزء مما أنزل، فلو ترك منه حرف واحد صدق نفي البلاغ لما أنزل، ولأن بعضها ليس بأولى بالإبلاغ من بعض، فمن أغفل شيئاً منها فكأنه أغفل الكل، كما أن من لم يؤمن ببعضها لم يؤمن بكلها، لإدلاء كل منها بما يدليه الآخر، فكانت لذلك في حكم شيء واحد، والمعنى‏:‏ فلنجازينك، ولكنه كنى بالسبب عن المسبب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم وإفادة لأن المؤاخذة تقع على الكل، لأنه ينتفي بانتفاء الجزء‏.‏

ولما تقدم أنهم يسعرون الحروب، ويسعون في إيقاع أشد الكروب، وكان ذلك- وإن وعد سبحانه بإخماده عند إيقاده- لا يمنع من تجويز أنه لا يخمد إلا بعد قتل ناس وجراح آخرين، وكان كأنه قيل‏:‏ إذا بلغ ذلك وهو ينقّص أديانهم خيف عليه، قال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي بلغ أنت والحال أن الذي أمرك بذلك وهو الملك الأعلى الذي لا كفوء له ‏{‏يعصمك‏}‏ أي يمنعك منعاً تاماً ‏{‏من الناس‏}‏ أي من أن يقتلوك قبل إتمام البلاغ وظهور الدين، فلا مانع من إبلاغ شيء منها لأحد من الناس كائناً من كان‏.‏

ولما آذن ضمان العصمة بالمخالفة المؤذنة بأن فيهم من لا ينفعه البلاغ فهو لا يؤمن، فلا يزال يبغي الغوائل‏.‏ أقر على هذا الفهم بتعليل عدم الإيمان بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا أمر لغيره ‏{‏لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ أي المطبوع على قلوبهم في علم الله مطابقة لقوله ‏{‏ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ ويهدي المؤمنين في علمه المشار إليهم في قوله ‏{‏ويغفر لمن يشاء‏}‏ والحاصل أنه تبين من الآية الإرشاد إلى أن لترك البلاغ سببين‏:‏ أحدهما خوف فوات النفس، والآخر خوف فوات ثمرة الدعاء، فنفي الأول بضمان العصمة، والثاني بختام الآية، أي ليس عليك إلاّ البلاغ، فلا يحزنك من لا يقبل، فليس إعراضه لقصور في إبلاغك ولا حظك، بل لقصور إدراكه وحظه لأن الله حتم بكفره وختم على قلبه لما علم من فساد طبعه، والله لا يهدي مثله، وتلخيصه‏:‏ بلغ، فمن أجابك ممن أشير إليه- فيما سلف من غير الكثير الذين يزيدهم ما أنزل إليك عمى على عماهم ومن الأمة المقتصدة وغيرهم- فهو حظه في الدنيا والآخرة، ومن أبى فلا يحزنك أمره، لأن الله هو الذي أراد ضلاله‏.‏ فالتقدير‏:‏ بلغ، فليس عليك إلاّ البلاغ، وإلى الله الهدى والضلال، إن الله لا يهدي القوم الكافرين ويهدي القوم المؤمنين، أو فإذا بلغت هدى بك ربُك من أراد إيمانه، ليكتب لك مثل أجرهم، وأضل من شاء كفرانه، ولا يكون عليك شيء من وزرهم، إن الله لا يهدي القوم الكافرين، والمعنى كما تقدم‏:‏ يعصمك من أن ينالوك بما يمنعك من الإبلاغ حتى يتم دينك ويظهر على الدين كله كما وعدتك، وعلى مثل هذا دل كلام إمامنا الشافعي رحمه الله، قال في الجزء الثالث من الأم‏:‏ ويقال- والله أعلم‏:‏ إن أول ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم

‏{‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين، فمرت لذلك مدة، ثم يقال‏:‏ أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان‏.‏ فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يُتَناول، فنزل عليه ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالتك والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏:‏ من قبلهم أن يقتلوك حتى تبلغ ما أنزل إليك- انتهى‏.‏ ولقد وفى سبحانه بما ضمن ومن أوفى منه وعداً وأصدق قيلاً‏!‏ فلما أتم الدين وأرغم أنوف المشركين، أنفذ فيه السم الذي تناوله بخيبر قبل سنين فتوفاه شهيداً كما أحياه سعيداً؛ روى الشيخان‏:‏ البخاري في الهبة، ومسلم في الطب، وأبو داود في الديات عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك فقالت‏:‏ أردت لأقتلك، فقال‏:‏ ما كان الله ليسلطك على ذلك- أو قال‏:‏ عليّ- فقالوا‏:‏ ألا تقتلها‏؟‏ قال‏:‏ لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال أبو داود‏:‏ هي أخت مرحب اليهودي قال الحافظ عبد العظيم المنذري في مختصر سنن أبو داود‏:‏ وذكره غيره أنها بنت أخي مرحب أن اسمها زينب بنت الحارث، وذكر الزهري أنها أسلمت، ولأبي داود والدارمي- وهذا لفظه- عن أبي سلمة- وهو ابن عبد الرحمن بن عوف- قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت له امرأة من يهود خيبر شاة مصلية فتناول منها، وتناول منها بشر بن البراء، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يده ثم قال‏:‏ إن هذه تخبرني أنها مسمومة، فمات بشر بن البراء رضي الله عنه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقالت‏:‏ إن كنت نبياً لم يضرك شيء، وإن كنت ملكاً أرحت الناس منك، قال أبو داود‏:‏ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت‏.‏ زاد الدارمي‏:‏ فقال في مرضه‏:‏ ما زلت من الأكلة التي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري» وهذا مرسل‏.‏ قال البيهقي‏:‏ ورويناه عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال البيهقي‏:‏ ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر أمر بقتلها‏.‏ وقصة هذه الشاة عن أبي هريرة رواها البخاري في الجزية والمغازي والطب، والدارمي في أول المسند بغير هذا السياق- كما مضى في البقرة في قوله تعالى

‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ وقد مضى في أول هذه السورة عند قوله ‏{‏فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ شيء منه‏.‏ ولأبي داود والدارمي عن ابن شهاب قال‏:‏ «كان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارفعوا أيديكم، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها‏:‏ أسممت هذه الشاة‏؟‏ قالت اليهودية من أخبرك‏؟‏ قال‏:‏ أخبرتني هذه في يدي- للذراع، قالت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فما أردت‏؟‏ قالت‏:‏ قلت‏:‏ إن كان نبياً فلن يضره، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفي بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أو هند بالقرن والشفرة، وهو مولى لبني بياضة من الأنصار» قال الدارمي‏:‏ وهو من بني ثمامة- وهم حي من الأنصار، قال المنذري‏:‏ وهذا منقطع، الزهري لم يسمع من جابر بن عبد الله، وفي غزوة خيبر من تهذيب السيرة لابن هشام‏:‏ «فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارثة امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية وقد سألت‏:‏ أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقيل لها‏:‏ الذراع، فأكثرت فيها من السم ثم سمت سائر الشاة، ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تناول الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلفظها، ثم قال‏:‏ إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعاها فاعترفت، فقال‏:‏ ما حملك على ذلك‏؟‏ قالت‏:‏ بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت‏:‏ إن كان ملكاً استرحت منه، وإن كان نبياً فسيخبر، فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بْشر من أكلته التي أكل» وذكر موسى بن عقبة أن بشراً رضي الله عنه لم يسغ لقمته حتى أساغ النبي صلى الله عليه وسلم لقمته وقال بعد أن أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي أكرمك‏!‏ لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلاّ أني أعظمت أن أنغصك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أكن لأرغب بنفسي عن نفسك‏.‏

ونقلتُ من خط شيخنا حافظ عصره أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر الكناني الشافعي ما نصه‏:‏ وأخرج الحافظ أبو بكر أحمد بن عمر بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور، وأبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في معجمه الكبير من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت له بخيبر»‏.‏ قال شيخنا الحافظ أبو الحسن الهيثمي‏:‏ رجاله ثقات، قلت‏:‏ وذكر محمد بن إسحاق في السيرة الكبرى وكذلك الواقدي في المغازي- انتهى‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفي فيه ودخلت عليه أم بشر بنت البراء بن معرور تعوده‏:‏ يا أم بشر‏!‏ إن هذا الأوان وجدت انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر»، قال‏:‏ فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيداً مع ما أكرمه الله به من النبوة‏.‏ ولابن ماجه في الطب عن أم سلمة رضي الله عنها قالت‏:‏ لا يزال، يصيبك في كل عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت، قال‏:‏ ما أصابني شيء منها إلاّ وهو مكتوب عليَّ وآدم في طينته «وللبخاري في آخر المغازي عن عائشة رضي الله عنها» أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في مرضه الذي مات فيه‏:‏ يا عائشة‏!‏ ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم «قال ابن فارس في المجمل‏:‏ الأبهر عرق مستبطن الصلب، والقلب متصل به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏» هذا أوان قطعت أبهري «وعبارة المحكم‏:‏ عرق في الظهر، يقال‏:‏ هو الوريد في العنق، وبعضهم يجعله عرقاً مستبطن الصلب وقال ثابت بن عبد العزيز في كتاب خلق الإنسان‏:‏ وفي الصلب الوتين، وهو عرق أبيض غليظ كأنه قصبة، وفي الصلب الأبهر والأبيض وهما عرقان، وقال الزبيدي في مختصر العين‏:‏ والأبهران عرقان مكتنفاً الصلب، وقيل‏:‏ هما الأكحلان‏.‏ وقال الفيروزآبادي في قاموسه‏:‏ والأبهر‏:‏ الظهر وعرق فيه ووريد العنق والأكحل والكلية، والوتين‏:‏ عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه‏.‏ وقال ابن الفرات في الوفاة من السيرة من تاريخه‏:‏ قال الحربي‏:‏ العرق في الظهر يسمى الأبهر، وفي اليد الأكحل، وفي العنق الوريد، وفي الفخذ النسا، وفي الساق الأبجل، وفي العين الشأن، وهو عرق واحد، كله يسمى الجدول‏.‏ وقال ابن كيسان أيضاً‏:‏ هو الوتين في القلب والصافن‏.‏

وقال الإمام أبو غالب بن التياني الأندلسي في كتابه الموعب‏:‏ إسماعيل بو حاتم‏:‏ الأبهر عرق في الظهر، وقال‏:‏ هو الوريد في العنق، ثم يقال‏:‏ والأبهر عرق مستبطن المتن؛ الأصمعي‏:‏ وفي الصلب الأبهر وهو عرق؛ صاحب العين‏:‏ الأبهران الأكحلان، ويقال‏:‏ هما عرقان مكتنفا الصلب من جانبيه‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما زالت أكلة خيبر تعادّني كل عام فالآن حين قطعت أبهري» يعني عرقي، ويقال‏:‏ الأبهر عرق مستبطن الصلب، وإذا انقطع فلا حياة بعده‏.‏ وهذا اللفظ الذي ذكره رواه البخاري والطبراني عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ ومعنى تعادّني‏:‏ تناظرني وتخالفني، ومن العديد بمعنى الند الذي هو المثل المضاد والمنافر، أي إني كلما زدت في جسمي صحة، نقصته بما لها من الضر والأذى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ولما أمر سبحانه بالتبليغ العام، أمره بنوع منه على وجه يؤكد ما ختمت به آية التبليغ من عدم الهداية لمن حتم بكفره، ويبطل- مع تأكيده- هذه الدعوى‏:‏ قولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباءه، فقال مرهباً لهم بعد ما تقدم من الترغيب في إقامته‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ أي من اليهود والنصارى ‏{‏لستم على شيء‏}‏ أي سارّ أو يعتد به من دنيا ولا آخرة، لأنه لعدم نفعه لبطلانه لا يسمى شيئاً أصلاً ‏{‏حتى تقيموا‏}‏ أي بالعمل بالقلب والقالب ‏{‏التوراة والإنجيل‏}‏ وما فيهما من الإيمان بعيسى ثم بمحمد عليهما الصلاة والسلام بالإشارة إلى كل منهما بالخصوص بنحو ما تقدم في الإشراق من ساعير والظهور ممن فاران، وبالإشارة بالعموم إلى تصديق كل من أتى بالمعجز، وصدق ما قبله من منهاج الرسل ‏{‏وما أنزل‏}‏‏.‏

ولما كان ما عندهم إنما أوتي إليهم بواسطة الأنبياء، عداه بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إليكم من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بإنزاله على ألسنة أنبيائكم من البشارة بهما، وعلى لسان هذا النبي العربي الكريم مما يصدق ما قبله، فإنهم يعلمون ذلك ولكنهم يجحدونه‏.‏

ولما كان السياق لأن أكثرهم هالك، صرح به دالاً بالعطف على غير معطوف عليه أن التقدير‏:‏ فليؤمنن به من أراد الله منهم، فقال‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منهم‏}‏ أي ما عندهم من الكفر بما في كتابهم ‏{‏مآ أنزل إليك من ربك‏}‏ المحسن إليك بإنزاله ‏{‏طغياناً‏}‏ تجاوزاً شديداً للحد ‏{‏وكفراً‏}‏ أي ستراً لما دل عليه العقل‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الشفقة على خلق الله، سلاّه في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن إعلام الله لك بذلك قبل وقوعه ثم عن وقوعه كما أخبر أن تعلم أنه بإرادته وقدرته، فقال لك‏:‏ لا ‏{‏تأس‏}‏ أي تحزن ‏{‏على القوم الكافرين‏}‏ أي على فوات العريقين في الكفر لأنهم لم يضروا إلاّ أنفسهم لأن ربك العليم القدير لو علم فيهم خيراً لأقبل بهم إليك، والحاصل أنه ختم هذه الآية بمعلول الآية التي قبلها، فكأنه قبل‏:‏ بلغ، فإن الله هو الهادي المضل، فلا تحزن على من أدبر‏.‏

ولما كان ما مضى في هذه السورة غالباً في فضائح أهل الكتاب لا سيما اليهود وبيان أنهم عضوا على الكفر، ومردوا على الجحد، وتمرنوا على البهت، وعتوا عن أوامر الله، كان ذلك موجباً لأنه ربما حدث في الخاطر أنه إن آمن منهم أحد ما يقبل، أو لأن يقولوا هم‏:‏ ليس في دعائنا حينئذ فائدة فلا تدعنا، أخبر أن الباب مفتوح لهم ولغيرهم من جميع أهل الملل، وأنه ليس بين الإنسان وبين أن يكون من أهله إلا عدم الإخلاص، فإذا أخلص أذن في دخوله ونودي بقبوله، أو يقال- وهو أحسن‏:‏ لما أخبر عن كثير منهم بالزيادة في الكفر، رغب القسم الآخر على وجه يعم غيرهم، أو يقال‏:‏ إنه لما طال الكلام معهم‏.‏

كان ربما ظن أن الأمر ترغيباً وترهيباً وأمراً ونهياً خاص بهم، فوقع الإعلام بأنهم وغيرهم من جميع الفرق في ذلك سواء، تشريفاً لمقدار هذا النبي الكريم بعموم الدعوة وإحاطة الرسالة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي قالوا‏:‏ آمنا ‏{‏والذين هادوا‏}‏ أي اليهود ‏{‏والصابئون‏}‏ أي القائلون بالأوثان السماوية والأصنام الأرضية ‏{‏والنصارى‏}‏ أي الذين يدعون اتباع المسيح عليه السلام‏.‏

ولما كان اليهود قد عبدوا الأصنام متقربين بها إلى النجوم في استنزال الروحانيات انهماكاً في السحر الذي جاء نبيهم موسى عليهم السلام بإبطاله، وكان ذلك هو معنى دين الصابئة، وفرّق بين فريقي بني إسرائيل بهم مكتفياً بهم عن ذكر بقية المشركين لما مضى في البقرة، ولما سبق في هذه السورة من ذم اليهود بالنقض للميثاق والكفر واللعن والقسوة وتكرر الخيانة وإخفاء الكتاب والمسارعة في الكفر والنفاق والتخصيص بالكفر والظلم والفسق وغير ذلك من الطامات ما يسد الأسماع، كان قبول توبتهم جديراً بالإنكار، وكانوا هم ينكرون عناداً فلاح العرب من آمن منهم ومن لم يؤمن، فاقتضى الحال كون الفريقين في حيز التأكيد، ولم يتقدم للصابئة ذكر هنا فأخرجوا منه تنبيهاً على أن المقام لا يقتضيه لهم، فابتدئ بذكرهم اعتراضاً ودل على الخبر عنهم بخبر «إن»، أو أنه لما كان المقام للترغيب في التوبة، وجعل هؤلاء مع شناعة حالهم بظهور ضلالهم كمن لا إنكار لقبول توبته، كان غيرهم أولى بذلك، ولما كان حال النصارى مشتبهاً، جعلوا في حيز الاحتمال للعطف على اليهود لما تقدم من ذمهم، وعلى الصابئة لخفة حالهم بأنهم مع أن أصل دينهم صحيح لم يبلغ ذمهم السابق في هذه السورة مبلغ ذم اليهود ‏{‏من آمن‏}‏ أي منهم مخلصاً من قلبه، ولعله ترك الجار إعراقاً في التعميم ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي له جميع الجلال والإكرام ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي الذي يبعث فيه العباد بأرواحهم وأشباحهم، ويبعث من ذكره على الزهادة وألحد في العبادة، وبالإيمان به يحصل كمال المعرفة بالله تعالى باعتقاد كمال قدرته ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ أي صدق إيمانه القلبي بالعمل بما أمر به، ليجمع بين فضيلتي العلم والعمل، ويتطابق الجنان مع الأركان ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ يعتد به في دنيا ولا في آخرة ‏{‏ولا هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يحزنون *‏}‏ أي على شيء فات، لأنه لا يفوتهم شيء يؤسف عليه أصلاً، وأما غيرهم فهم في الحزن أبداً، وفي الآية تكذيب لهم في قولهم ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ المشار إليه في هذه السورة بنسبتهم إلى أكل السحت في غير موضع، وفي نصوص التوراة الموجودة بين أظهرهم الآن أعظم ناصح لهم في ذلك كما سبق في أوائل البقرة، وقال في السفر الرابع منها عند ذكر التيه ووصاياهم إذ أدخلهم الأرض المقدسة، ومكنهم فيها بأشياء منها القربان‏:‏ وإن سكن بينكم رجل غريب يقبل إليّ أو بين أولادكم لأحقابكم ويقرب قرباناً لريح قتار الذبيحة للرب يفعل كما فعلتم أنتم، ولتكن السنة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون بينكم سنة جارية لأحقابكم إلى الأبد، والذين يقبلون إليّ من الغرباء يكونون أمام الرب مثلكم، ولتكن لكم سنة واحدة وحكومة واحدة لكم وللذين يقبلون إليّ ويسكنون معكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 73‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه البشارة- الصادقة من العزيز العليم الذي أهل الكتاب أعرف الناس به لمن آمن كائناً من كان- موجبة للدخول في الإيمان والتعجب ممن لم يسارع إليه، وكان أكثر أهل الكتاب إنما يسارعون في الكفر، كان الحال مقتضياً لتذكر ما مضى من قوله تعالى ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 12‏]‏ وزيادة العجب منهم مع ذلك، فأعاد سبحانه الإخبار به مؤكداً له تحقيقاً لأمره وتفخيماً لشأنه، وساقه على وجه يرد دعوى البنوى والمحبة، ملتفتاً مع التذكير بأول قصصهم في هذه السورة إلى أول السورة ‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وعبر في موضع الجلالة بنون العظمة، وجعل بدل النقباء الرسل فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏لقد أخذنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏ميثاق بني إسرائيل‏}‏ أي على الإيمان بالله ثم بمن يأتي بالمعجز مصدقاً لما عنده بحيث يقوم الدليل على أنه من رسل الله الذين تقدم أخذ العهد عليهم بالإيمان بهم، ودل على عظمة الرسل بقوله في مظهر العظمة‏:‏ ‏{‏وأرسلنا إليهم رسلاً‏}‏ أي لم نكتف بهذا العهد، بل لم نخلهم من بعد موسى من الرسل الذين يرونهم الآيات ويجددون لهم أوامر الرب إلى زمن عيسى عليه السلام، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه- البخاري في بني إسرائيل ومسلم في المغازي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» انتهى‏.‏ ومع ذلك فلم يخل لهم زمان طويل من الكفر لا في زمن موسى ولا في زمن من بعده من الأنبياء عليهم السلام، حتى قتلوا كثيراً من الرسل وهو معنى قوله- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ما فعلوا بالرسل‏:‏ ‏{‏كلما جاءهم رسول‏}‏ أي من أولئك الرسل أي رسول كان ‏{‏بما لا تهوى أنفسهم‏}‏ أي بشيء لا تحبه نفوسهم محبة تتساقط بها إليه، خالفوه، فكأنه قيل‏:‏ أي مخالفة‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏فريقاً‏}‏ أي من الرسل ‏{‏كذبوا‏}‏ أي كذبهم بنو إسرائيل من غير قتل، ودل على شدة بشاعة القتل وعظيم شناعته بالتعبير بالمضارع تصويراً للحال الماضية وتنبيهاً على أن هذا ديدنهم وهو أشد من التكذيب فقال‏:‏ ‏{‏وفريقاً يقتلون *‏}‏ أي مع التكذيب وليدل على ما وقع منهم في سم النبي صلى الله عليه وسلم، وقدم المفعول للدلالة على انحصار أمرهم في حال التكذيب والقتل، فلا حظ لهم في تصديق مخالف لأهوتيهم ‏{‏وحسبوا‏}‏ أي لقلة عقولهم مع مباشرتهم لهذه العظائم التي ليس بعدها شيء ‏{‏ألاّ تكون‏}‏ أي توجد ‏{‏فتنة‏}‏ أي أنه لا يصيبهم بها عذاب في الدنيا ولا خزي في الأخرى، بل استحقوا بأمرها، فلا تعجب أنت من جرأتهم في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وقرئ‏:‏ تكون- بالرفع تنزيلاً للحسبان منزلة العلم فتكون مخففة من الثقيلة التي للتحقيق، وبالنصب كان الحسبان على بابه، وأن، على بابها خفيفة ناصبه للفعل، لأن القاعدة- كما ذكر الواحدي- أن الأفعال على ثلاثة أضرب‏:‏ فعل للثبات والاستقرار كالعلم والتيقن والبيان، تفع بعده الثقيلة دون الخفيفة، وفعل للزلزلة والاضطراب كالطمع والخوف والرجاء، فلا يكون بعده إلا الخفيفة الناصبة للمضارع، وفعل يقع على وجهين كحسب‏:‏ تارة تكون بمعنى طمع فتنصب، وتارة بمعنى علم فترفع، فإن رفع هنا كان الحسبان بمعنى العلم عندهم لقوة عنادهم، وإن نصب كان بمعنى الطمع لأنهم عالمون بأن قتلهم لهم خطأ، فتنزل القراءتان على فريقين- والله أعلم، وأيضاً فقراءة الرفع تفيد تأكيد حسبانهم المفيد لعدم خوفهم بزيادة عماهم ‏{‏فعموا‏}‏ أي فتسبب عن إدلالهم إدلال الولد والمحبوب جهلاً منهم وحماقة بظنهم أنهم لا تنالهم فتنة أنهم وُجِد عماهم العمى الذي لا عمى في الحقيقة سواه، وهو انطماس البصائر

‏{‏فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ حتى في زمن موسى عليه السلام ‏{‏وصموا‏}‏ أي بعده وبعد يوشع عليهما السلام، لأن الصمم أضر من العمى، فصاروا كمن لا يهتدي إلى سبيل أصلاً، لأنه لا بصر له بعين ولا قلب ولا سمع ‏{‏ثم تاب الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏عليهم‏}‏ أي فرجعوا إلى الحق وتكرر لهم ذلك ‏{‏ثم عموا‏}‏ أي في زمن المسيح عليه السلام ‏{‏وصموا‏}‏ أي بعده‏.‏

ولما كان الإتيان بالضمير مفهماً لأن ذلك عمهم كلهم، أعلم سبحانه أن ذلك ليس كذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كثير منهم‏}‏ إلا أن سوقه للعبارة هذا المساق يدل على أن من لم يكفر منهم كان مزلزلاً غير راسخ القدم في الهدى- والله أعلم، وربما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏بصير بما يعملون *‏}‏ أي وإن دق وإن كانوا يظنون أنهم أسسوا عملهم على علم، وقد مضى في قوله «من لعنه الله وغضب عليه» ما يشهد لهذا من عبادتهم بعلا الصنم وغيره من الأصنام مرة بعد مرة‏.‏

ولما أخبر تعالى بفساد أعمالهم، دل على ذلك بقوله مستفتحاً مبيناً من حال النصارى ما بين من حال اليهود، ومؤكداً لختم آية التبليغ بما ينقض دعواهم في البنوة والمحبة‏:‏ ‏{‏لقد كفر‏}‏ أي ستر ما دل عليه النقل وهدى إليه العقل ‏{‏الذين قالوا إن الله‏}‏ أي على ما له من نعوت الجلال والجمال ‏{‏هو المسيح‏}‏ فبين بصيغة فعيل- التي لا مانع من أن تكون للمفعول- بُعْدَه عما ادعوه فيه، ثم أوضح ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ابن مريم‏}‏ أيضاحاً لا خفاء معه‏.‏

ولما كانت دعوى الاتحاد الذي هو قول اليعقوبية أشد في الكفر وأنفى للإله من دعوى التثليث الذي هو قول النسطورية والملكية القائلين بالأقانيم، قدمها وبين تعالى أنهم خالفوا فيها أمر المسيح الذي ادعوا أنه الإله فقال‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي قالوا هذا الذي كفروا به والحال أنه قال لهم ‏{‏المسيح‏}‏ ضغطه عليهم ودعاء إلى ما هو الحق ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ أي الذي كان يتشرف بعبادة الله وتسميته بأنه عبده ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره، فأمرهم بأداء الحق لأهله مذكراً لهم بعظمته، ثم ذكرهم بإحسانه وأنه وإياهم في ذلك شرع واحد، فقال مقدماً لما يتعلق به لأنه أهم لإنكارهم له ‏{‏ربي وربكم‏}‏ فلم يطيعوا الإله الحق ولا الذي ادعوه إلهاً، فلا أضل منهم ولا أسفه، قال أبو حيان في النهر‏:‏ وهذا الذي ذكره الله تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به، وهو قول المسيح‏:‏ يا معشر بني المعمودية- وفي رواية‏:‏ يا معشر الشعوب- قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلى إلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم- انتهى‏.‏ وقد أسلفت أنا في آل عمران وغيرها عن الإنجيل كثيراً من شواهد ذلك، ويأتي في هذه السورة وغيرها كثير منه‏.‏

ولما أمرهم بما يفهم منه الإخلاص لله تعالى في العبادة لما ذكر من جلاله وأن ما سواه مربوب، ولأنه أغنى الأغنياء، فمن أشرك به شيئاً لم يعتد له بعبادة، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه من يشرك‏}‏ أي الآن أو بعد الآن في زمن من الأزمان ‏{‏بالله‏}‏ أي الذي تفرد بالجلال في عبادة أو فيما هو مختص به من صفة أو فعل ‏{‏فقد حرم الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه ‏{‏عليه الجنة‏}‏ أي منعه من دخولها منعاً عظيماً متحتماً‏.‏

ولما كان المنع من دار السعداء مفهماً لكونه في دار الأشقياء، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏ومأواه‏}‏ أي محل سكناه ‏{‏النار‏}‏ ولما جرت عادة الدنيا بأن من نزل به ضيم يسعى في الخلاص منه بأنصاره وأعوانه، نفى ذلك سبحانه مظهراً للوصف المقتضي لشقائهم تعليلاً وتعميماً فقال‏:‏ ‏{‏وما للظالمين‏}‏ أي لهم لظلمهم ‏{‏من أنصار *‏}‏ لا بفداء ولا بشفاعة ولا مقاهرة بمجاهرة ولا مساترة، لأن من وضع عمله في غير موضعه فكان ماشياً في الظلام، لا تمكنه أصلاً مقاومة من هو في أتم ضياء، وهذا على التهديد على الكفر فلا يصح أن يكون على مطلق المعصية ولو كانت كبيرة، فبطل قول المعتزلة‏.‏

ولما انقضى هذا النقض، وقدمه لأنه كما مضى أشد، أتبعه إبطال دعوى التثليث بقوله مبدلاً من تلك النتيجة نتيجة أخرى‏:‏ ‏{‏لقد كفر الذين قالوا‏}‏ بجرأة على الكلام المتناقض وعدم حياء ‏{‏إن الله‏}‏ أي على ما له من العظمة التي منها الغنى المطلق ‏{‏ثالث‏}‏ أي واحد ‏{‏ثلاثة‏}‏ أي كلهم آلهة، وأما القائل بأنه ثالث بالعلم فلا يكفر‏.‏

ولما أعلم بكفرهم، أشار إلى إبطاله كما أشار إلى إبطال الأول كما سلف بما لا يخفى على أحد، تحقيقاً لتلبسهم بمعنى الكفر الذي هو ستر ما هو ظاهر فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ وأغرق في النفي كما هو الحق واقتضاه المقام فقال‏:‏ ‏{‏من إله إلا إله واحد‏}‏ أي قالوا ذلك والحال أنه لا يصح ولا يتصور في العقل أن يكون الإله متعدداً لا تحقيقاً ولا تقديراً بوجه من الوجوه، لا يكون إلا واحداً بكل اعتبار، وهو الله تعالى لا غيره، وقد بين عيسى عليه السلام في الإنجيل الذي بين أظهرهم أنه لا يصح أن يكون الإله إلا واحداً- بالمعتمد من أدلة ذلك عند محققي أهل الأصول وهو برهان التمانع المشار إليه في كتابنا بقوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ فقال مترجمهم في إنجيل متى‏:‏ حينئذ أتى إليه- أي عيسى عليه لاسلام- بأعمى أخرس له شيطان، فأبرأه حتى أنه تكلم وأبصر، فبهت الجمع كلهم وقالوا‏:‏ لعل هذا هو ابن داود‏!‏ فسمع الفريسيون فقالوا‏:‏ هذا لا يخرج الشياطين إلا بباعل زبول رئيس الشياطين، فلما علم مكرهم قال لهم‏:‏ كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت ينقسم لا يثبت، فإن كان الشيطان يخرج الشيطان فقد انقسم فكيف يقوم ملكه‏؟‏ فإن كنت أنا أخرج الشياطين بباعل زبول فأبناؤكم بما تخرجونهم‏!‏ من أجل هذا هم يكونون عليكم، وإن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين فقد قربت منكم ملكوت الله، وكيف يستطيع حد أن يدخل بيت القوي ويخطف متاعه إلا أن يربط القوي أولاً، حينئذ ينهب بيته‏.‏ وقال مرقس‏:‏ وأما الكتبة الذين أتوا من يروشليم فقالا‏:‏ إن بعل زبول معه، وباركون الشياطين يخرج الشياطين؛ فدعاهم وقال لهم‏:‏ كيف يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً‏!‏ وكل مملكة تنقسم لا تثبت تلك المملكة، فإذا اختلف أهل البيت لا يثبت ذلك البيت، وإن كان الشيطان الذي يقاوم بقيته وينقسم فلن يقدر أن يثبت، لكن له انقضاء، لا يقدر أحد أن يدخل بيت القوي وينتهب بيته إلا أن يربطه أولاً وينتهب متاعه الحق أقول لكم‏!‏ إن كل شيء يغفر لبني الناس من الخطايا والتجديف الذي يجدفونه، والمجدفين على روح القدس ليس يغفر لهم إلى لأبد، بل يحل بهم العقاب الدائم، لأنهم يقولون‏:‏ إن معه روحاً نجساً‏.‏ قال متى‏:‏ من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق، من أجل هذا أقول لكم‏:‏ إن كل خطيئة وتجديف يترك للناس، والتجديف على روح القدس لا يترك، ومن يقل كلمة على ابن الإنسان يترك له، والذي يقول على روح القدس لا يترك له في هذا الدهر ولا في الآتي، إما أن تصيروا الشجرة الجيدة وثمرتها جيدة، وإما أن تصيروا الشجرة الرديئة وثمرتها رديئة، لأن من الثمرة تعرف الشجرة، يا أولاد الأفاعي‏!‏ كيف تقدرون أن تتكلموا بالصلاح وأنتم أشرار‏!‏ إنما يتكلم الفم من فضل ما في القلب، الرجل الصالح من كنزه الصالح يخرج الصلاح، والرجل الشرير من كنزه الشرير يخرج الشر، أقول لكم‏:‏ إن كل كلمة يتكلم بها الناس بطالة يعطون عنها جواباً في يوم الدين، لأنك من كلامك تبرّر، ومن كلامك يحكم عليك‏.‏

وفي إنجيل لوقا‏:‏ وفيما هو يتكلم إذا رفعت امرأة من الجمع صوتها وقالت‏:‏ طوبى لبطن التي حملتك، ولثدي التي أرضعتك، فقال لها‏:‏ مهلاً‏!‏ طوبى لمن يسمع كلام الله ويحفظه- انتهى‏.‏ حينئذ أجابه قوم من الكتبة والفريسين قائلين‏:‏ نريد يا معلم أن ترينا آية أجابهم وقال لهم‏:‏ الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطي آية إلا آية يونان النبي؛ قال لوقا‏:‏ فكما كان في يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان لهذا الجيل آية- انتهى‏.‏ رجال نينوى يقومون في الحكم ويحاكمون هذا الجيل، لأنهم تابوا بكريزة يونان- وقال لوقا‏:‏ بإنذار يونان- وهاهنا أفضل من يونان ملكة التيمن تقوم في الحكم مع هذا الجيل وتحاكمه، لأنها أتت من أقصى الأرض لتسمع من حكمة سليمان، وههنا أفضل من سليمان، إن الروح النجس إذا خرج من الإنسان يأتي أمكنة ليس فيها ماء، يطلب راحة فلا يجد، فيقول حينئذ‏:‏ أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه، فيأتي فيجد المكان فارغاً مكنوساً مزيناً، فيذهب حينئذ ويأخذ معه سبعة أرواح أخر شراً منه ويأتي ويسكن هناك، فتصير آخرة ذلك الإنسان شراً من أوليته، وهكذا يكون لهذا الجيل الشرير- انتهى‏.‏ والتجديف هو الكفر بالنعم، ويونان‏:‏ يونس عليه السلام، والكريزة- بينها لوقا بأنها الإنذار، والتيمن‏:‏ اليمن، والأركون- بضم الهمزة والكاف بينهما راء مهملة ساكنة‏:‏ الكبير، ويروشليم- بفتح التحتانية وضم المهملة ثم شين معجمة‏:‏ بيت المقدس، وباعل زبول- لا تصح أصلاً، وأما الدليل على عدم شركة كل من عيسى وأمه عليهما السلام بخصوصهما فسيأتي تقريره بقوله تعالى ‏{‏كانا يأكلان الطعام‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏ والمراد من ذلك كله أنه متى دخلت الشركة أتى النقص فعلاً أو إمكاناً، ومن اعترته شائبة نقص لم يصح كونه إلهاً‏.‏

ولما أخبر أنهم كفروا، وأشار إلى نقض قولهم، كان أنسب الأشياء بعده أن يعطف عليه ترهيبهم ثم ترغيبهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لم ينتهوا‏}‏ أي الكفرة بجميع أصنافهم ‏{‏عما يقولون‏}‏ أي من هاتين المقالتين وما داناهما ‏{‏ليمسن‏}‏ أي مباشرة من غير حائل ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي داموا على الكفر، وبشر سبحانه بأنه يتوب على بعضهم بقوله‏:‏ ‏{‏منهم عذاب أليم‏}‏‏.‏