فصل: تفسير الآيات رقم (98- 101)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 101‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

ولما أنتج هذا كله أنه على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم، وكانت هذه الآية- كما تقدم- ناظرةً إلى أول السورة من آية ‏{‏لا تحلوا شعائر الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ وما بعدها أتم نظر، ذكر سبحانه ما اكتنف آية ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ من الوعيد الذي ختم به ما قبلها والوعد الذي ختمت هي به في هذه الآية على ترتيبه، سائقاً له مساق النتيجة والثمرة لما قبله، بياناً لأن من ارتكب شيئاً من هذه المنهيات كان حظه، فقال محذراً ومبشراً لأن الإيمان لا يتم إلاّ بهما‏:‏ ‏{‏اعلموا أن الله‏}‏ أي الذي له المعظمة كلها الذي نهاه عنها ‏{‏شديد العقاب‏}‏ فليكن عباده على حذر منه، وأن من أوقعه في شيء منها القدر، ثم فتح له التوفيقُ بابَ الحذر، فكفر فيما فيه كفارة وتاب، كان مخاطباً بقوله‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي واعلموا أن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام مع كونه شديد العقاب ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ يقبل عليه ويمحو زلله ويكرمه، فكان اكتناف أسباب الرجاء سابقاً للإنذار ولاحقاً معلماً بأن رحمته سبقت غضبه وأن العقاب إنما هو لإتمام رحمته، قال ابن الزبير‏:‏ ثم قال ‏{‏جعل الله الكعبة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 97‏]‏- فنبه على سوء العاقبة في منع البحث على التعليل وطلب الوقوف على ما لعله مما استأثر الله بعلمه، ومن هذا الباب أتى على بني إسرائيل في أمر البقرة وغير ذلك؛ وجعل هذا التنبيه إيماء، ثم أعقبه بما يفسره ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 101‏]‏- ووعظهم بحال غيرهم في هذا، وأنهم سألوا فأعطوا ثم امتحنوا، وقد كان التسليم أولى لهم، فقال تعالى ‏{‏قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 102‏]‏ ثم عرّف عباده أنهم إذا استقاموا فلن يضرهم خذلان غيرهم ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏- انتهى‏.‏

ولما رغب سبحانه ووهب، علم أنه المجازى وحده، فأنتج ذلك أنه ليس إلى غيره إلاّ ما كلفه به، فأنتج ذلك ولا بد قوله‏:‏ ‏{‏ما على الرسول‏}‏ أي الذي من شأنه الإبلاغ ‏{‏إلا البلاغ‏}‏ أي بأنه يحل لكم الطعام وغيره ويحرم عليكم الخمر وغيرها، وليس عليه أن يعلم ما تضمرون وما تظهرون ليحاسبكم عليه ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏يعلم ما تبدون‏}‏ أي تجددون إبداءه على الاستقرار ‏{‏وما تكتمون *‏}‏ من إيمان وكفر وعصيان وطاعة وتعمد لقتل الصيد وغيره ومحبة للخمر وغيرها وتعمق في الدين بتحريم الحلال من الطعام والشراب وغيره إفراطاً وتفريطاً، لأنه الذي خلقكم وقدّر ذلك فيكم في أوقاته، فيجازيكم على ما في نفس الأمر، من عصي أخذه بشديد العقاب، ومن أطاعه منحه حسن الثواب، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يحكم إلاّ بما يعلمه مما تبدونه ما لم أكشف له الباطن وآمره فيه بأمري، وهذه أيضاً ناظرة إلى قوله تعالى

‏{‏بلّغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏

ولما سلب سبحانه العلم عن كل أحد وأثبته لنفسه الشريفة، أنتج ذلك أنه لا أمر لغيره ولا نهي ولا إثبات ولا نفي، فأخذ سبحانه يبين حكمة ما مضى من الأوامر في إحلال الطعام وغيره من الاصطياد والأكل من الصيد وغيره والزواجر عن الخمر وغيرها بأن الأشياء منها طيب وخبيث، وأن الطيب وإن قل خير من الخبيث وإن كثر، ولا يميز هذا من ذاك إلاّ الخلاق العليم، فربما ارتكب الإنسان طريقة شرعها لنفسه ظانّاً أنها حسنة فجرته إلى السيئة وهو لا يشعر فيهلك، كالرهبانية التي كانوا عزموا عليها والخمر التي دعا شغفُهم بها إلى الإنزال فيها مرة بعد أخرى إلى أن أكد فيها هنا أشد تأكيد، وحذر فيها أبلغ تحذير، فقال تعالى صارفاً الخطاب إلى أشرف الورى صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لا ينهض بمعرفة هذا من الخلق غيرُه‏:‏ ‏{‏قل لا يستوي الخبيث‏}‏ أي من المطعومات والطاعمين ‏{‏والطيب‏}‏ أي كذلك، فإن ما يتوهمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان من جهة الخبيث‏.‏

ولما كان الخبيث من الذوات والمعاني أكثر في الظاهر وأيسر قال‏:‏ ‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ والخبيث والطيب منه جسماني ومنه روحاني، وأخبثهما الروحاني وأخبثه الشرك، وأطيب الطيب الروحاني وأطيبه معرفة الله وطاعته، وما يكون للجسم من طيب أو خبث ظاهر لكل أحد، فما خالطه نجاسة صار مستقذراً لأرباب الطباع السليمة، وما خالط الأرواح من الجهل صار مستقذراً عند الأرواح الكاملة المقدسة، وما خالطه من الأرواح معرفةُ الله فواظب على خدمته أشرق بأنوار المعارف الإلهية وابتهج بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة، وكما أن الخبيث والطيب لا يستويان في العالم الروحاني كذلك لا يستويان في العالم الجسماني، والتفاوت بينهما في العالم الروحاني أشد، لأن مضرة خبث الجسماني قليلة، ومنفعة طيبه يسيرة، وأما خبث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة، وطيب الروحاني منفعته جليلة دائمة، وهي القرب من الله والانخراط في زمرة السعداء، وأدلّ دليل على إرادة العصاة والمطيعين قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين ما يسخط الملك الأعظم الذي له صفات المال من الحرام وقايةً من الحلال لتكونوا من قسم الطيب، فإنه لا مقرب إلى الله مثلُ الانتهاء عما حرم- كما تقدم الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ثم اتقوا وأحسنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ ويزيد المعنى وضوحاً قوله ‏{‏يا أولي الألباب‏}‏ أي العقول الخالصة من شوائب النفس فتؤثروا الطيب وإن قل في الحبس لكثرته في المعنى على الخبيث وإن كثر في الحس لنقصه في المعنى ‏{‏لعلكم تفلحون *‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من أن تفوزوا بجميع المطالب، وحينئذ ظهر كالشمس مناسبة تعقيبها بقوله على طريق الاستئناف والاستنتاج‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أعطوا من أنفسهم العهد على الإيمان الذي معناه قبول جميع ما جاء به مَنْ وقع به الإيمان ‏{‏لا تسئلوا عن أشياء‏}‏ وذلك لأنهم إذا كانوا على خطر فيما يسرعون وفيما به ينتفعون من المآكل والمشارب وغيرها من الأقوال والأفعال فهم مثله فيما عنه يسألون سواء سألوا شرعه أو لا، لأنه ربما أجابهم من لا يضره شيء إلى ما فيه ضررهم مما سألوه، فإنهم لا يحسنون التفرقة بين الخبيث والطيب كما فعل بأهل السبت حيث أبوا الجمعة وسألوه، فاشتد اعتناقها حينئذ بقوله‏:‏

‏{‏إن الله يحكم ما يريد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏ما على الرسول إلا البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏ فكان كأنه قيل‏:‏ فما بلغكم إياه فخذوه بقبول وحسن انقياد، وما لا فلا تسألوا عنه، وسببُ نزولها- كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه «أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فغضب فصعد المنبر فقال‏:‏ لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم- وشرح يكرر ذلك، وإذ جاء رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ من أبي‏؟‏ قال‏:‏ أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن‏.‏ وفي آخره‏:‏ فنزلت ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏» وللبخاري في التفسير عن أنس أيضاً قال‏:‏ «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال‏:‏ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم حنين، فقال رجل‏:‏ من أبي‏؟‏ قال‏:‏ فلان، فنزلت ‏{‏لا تسئلوا عن أشياء‏}‏» الآية‏.‏ وللبخاري أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل‏:‏ من أبي‏؟‏ ويقول الرجل تضل ناقته‏:‏ أين ناقتي‏؟‏ فأنزل الله فيهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء‏}‏ حتى فرغ من الأية كلها» ولابن ماجه مختصراً وللحافظ أبي القاسم بن عساكر في الموافقات فيما أفاده المحب الطبري في مناقب العشرة وأبي يعلى في مسنده مطولاً عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان ونحن نرى أن معه جبرئيل عليه السلام حتى صعد المنبر- وفي رواية‏:‏ فخطب الناس- فقال‏:‏ سلوني‏!‏ فوالله لا تسألوني عن شيء اليوم إلا أخبرتكم وفي رواية‏:‏ أنبأتكم به- فما رأيت يوماً كان أكثر باكياً منه، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله- وفي رواية‏:‏ فقام إليه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله- إنا كنا حديث عهد بجاهلية، من أبي‏؟‏ قال‏:‏ أبوك حذافة- لأبيه الذي كان يدعى له- وفي رواية‏:‏ أبوك حذافة الذي تدعى له- فقام إليه آخر فقال‏:‏ يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار‏؟‏ فقال‏:‏ في النار، فقام إليه آخر فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أعلينا الحج كل عام‏؟‏- وفي رواية‏:‏ في كل عام- فقال‏:‏ لو قلت‏:‏ نعم، لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها عذبتم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً- وفي رواية‏:‏ رسولاً- لا تفضحنا بسرائرنا- وفي رواية‏:‏ فقام إليه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنا كنا حديث عهد بجاهلية فلا تبد علينا سرائرنا، أتفضحنا بسرائرنا- اعف عنا عفا الله عنك، فسرى عنه، ثم التفت إلى الحائط فذكر بمثل الجنة والنار» وللإمام أحمد ومسلم والنسائي والدارقطني والطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ خطب- وفي رواية‏:‏ خطبنا- رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏

«يا أيها الناس‏!‏ إن الله قد فرض عليكم الحج حجوا»، فقال رجل- وفي رواية النسائي‏:‏ «فقال الأقرع بن حابس التميمي-‏:‏ أكل عام يا رسول الله‏؟‏ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال‏:‏ من السائل‏؟‏ فقال‏:‏ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والذي نفسي بيده‏!‏ لو قلت‏:‏ نعم، لوجبت، ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون، ولكن حجة واحدة»- وفي رواية الدارقطني والطبري‏:‏ «ولو وجبت ما أطقتموها، ولو لم تطيقوها»- وفي رواية الطبري‏:‏ «ولو تركتموه- لكفرتم»، فأنزل الله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ ثم قال‏:‏ «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فآتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه- وفي رواية‏:‏ فاجتنبوه» وهذا الحديث له ألفاظ كثيرة من طرق شتى استوفيتها في كتابي «الاطلاع على حجة الوداع» ولا تعارض بين هذه الأخبار ولو تعذر ردها إلى شيء واحد لما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ من أن الأمر الواحد قد تعدد أسبابه، بل وكل ما ذكر من أسباب تلك وما أشبهه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏- الآية، يصلح أن يكون سبباً لهذه، وروى الدارقطني في آخر الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني وفي آخر الصيد عن أبي الدرداء رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقال أبو الدرداء‏:‏ «فلا تكلفوها، رحمة من ربكم فاقبلوها» وأخرج حديث أبي الدرداء أيضاً الطبراني‏.‏

ولما كان الإنسان قاصراً عن علم ما غاب، فكان زجره عن الكشف عما يسوءه زجراً له عن كل ما يتوقع أن يسوءه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبد‏}‏ أي تظهر ‏{‏لكم‏}‏ بإظهار عالم الغيب لها ‏{‏تسؤكم‏}‏ ولما كان ربما وقع في وهم متعنت أن هذا الزجر إنما هو لقصد راحة المسؤول عن السؤال خوفاً من عواقبه- قال‏:‏ ‏{‏وإن تسئلوا عنها‏}‏ أي تلك الأشياء التي تتوقع مساءتكم عند إبدائها ‏{‏حين ينزل القرآن‏}‏ أي والملك حاضر ‏{‏تبد لكم‏}‏ ولما كان ربما قال‏:‏ فما له لا يبديها سئل عنها أم لا‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏عفا الله‏}‏ بما له من الغنى المطلق والعظمة الباهرة وجميع صفات الكمال ‏{‏عنها‏}‏ أي سترها فلم يبدها لكم رحمة منه لكم وإراحة عما يسوءكم ويثقل عليكم في دين أو دنيا؛ ولما كانت صفاته سبحانه أزلية، لا تتوقف لواحدة منها على غيرها، وضع الظاهر موضع المضمر لئلا يختص بما قبله فقال نادباً من وقع منه ذنب إلى التوبة‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له مع صفة الكمال صفة الإكرام ‏{‏غفور‏}‏ أزلاً وأبداً يمحو الزلات عيناً وأثراً ويعقبها بالإكرام على عادة الحكماء ‏{‏حليم *‏}‏ أي لا يعجل على العاصي بالعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 105‏]‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

ولما نهى عن السؤال عنها ليتعرف حالها، علل ذلك بأن غيرهم عرف أشياء وطلب أن يعطاها، إما بأن سأل غيره ذلك، وإما بأن شرعها وسأل غيره أن يوافقه عليها وهو قاطع بأنها غاية في الحسن فكانت سبب شقائه فقال‏:‏ ‏{‏قد سألها‏}‏ يعني أمثالها، ولم يقل‏:‏ سأل عنها، إشارة إلى ما أبدته ‏{‏قوم‏}‏ أي أولو عزم وبأس وقيام في الأمور‏.‏

ولما كان وجود القوم فضلاً عن سؤالهم لم يستغرق زمان القبل، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ ولما كان الشيء إذا جاء عن مسألة جديراً بالقبول لا سيما إذا كان من ملك فكيف إذا كان من ملك الملوك‏.‏ فكان رده في غاية البعد، عبر عن استبعاده بأداة العبد في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أصبحوا بها‏}‏ أي عقب إتيانهم إياها سواء من غير مهلة ‏{‏كافرين *‏}‏ أي ثابتين في الكفر، هذا زجر بليغ لأن يعودوا لمثل ما أرادوا من تحريم ما أحل لهم ميلاً إلى الرهبانية والتعمق في الدين المنهي عنه بقوله‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

ولما فرغ من زجرهم عن أن يشرعوا لأنفسهم أو يسألوه عن أن يشرع لهم وأن يسألوا مَنْ رحمهم بابتدائهم بهذا الشرع عن شيء من الأشياء اعتماداً على أنه ما ابتدأ بذلك إلا وهو غير مخف عنهم شيئاً ينفعهم ولا مبد لهم شيئاً يضرهم لأنه بكل شيء عليم- كما تقدم التنبيه على ذلك، قال معللاً بختام الآية التي قبلها‏:‏ ‏{‏ما جعل الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال فلا يشرع شيئاً إلا وهو على غاية الحكمة، وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من بحيرة‏}‏ وأكد النفي بإعادة النافي فقال‏:‏ ‏{‏ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏ دالاً بذلك على أن الإنسان قد يقع في شرعه لنفسه على الخبيث دون الطيب، وذلك لأن الكفار شرعوا لأنفسهم هذا وظنوا أنه من محاسن الأعمال، فإذا هو مما لا يعبأ الله به بل ومما يعذب عليه، لكونه أوقعهم فيما كانوا معترفين بأنه أقبح القبائح وهو الكذب، بل في أقبح أنواعه وهو الكذب على ملك الملوك، ثم صار لهم ديناً، وصاروا أرسخ الناس فيه وهو عين الكفر، وهم معترفون بأنه ما شرعه إلا عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم- كما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن عمْراً أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي» ورواه عبد بن حميد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وفي آخره‏:‏ «وكان عمرو بن لحي أول من حمل العرب على عبادة الأصنام»

ورواه البخاري في المناقب من صحيحه ومسلم في صفة النار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، وكان أول من سيّب السوائب» قال ابن هشام في السيرة‏:‏ والبحيرة عندهم الناقة تشق أذنها فلا يركب ظهرها ولا يجزّ وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف أو يتصدق به وتهمل لآلهتهم‏.‏ وروى البخاري في المناقب ومسلم في صفة النار عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ البحيرة التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلبها أحد من الناس، والسائبة التي كانوا يسيّبونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء‏.‏ وكذا رواه البخاري أيضاً في التفسير وقال‏:‏ والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثنى بعد بأنثى‏.‏ وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر وقال البرهان السفاقسي في إعرابه‏:‏ قال أبو عبيد‏:‏ وهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، في الآخر‏.‏ ذكر، شقوا أذنها وخلو سبيلها لا تركب ولا تحلب- وقيل غير ذلك، وقال أبو حيان في النهر‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق، وكان الرجل يسيب من ماله شيئاً فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل، والوصيلة قال ابن عباس- إنها الشاة تنتج سبعة أبطن، فإن كان السابع أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها‏.‏ وقال ابن هشام‏:‏ والحامي الفحل إذا نتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكر، حمى ظهره فلم يركب ظهره ولم يجزّ وبره وخلى في إبله يضرب فيها لا ينتفع منه بغير ذلك‏.‏ وقال السفاقسي‏:‏ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم- واختاره أبو عبيدة والزجاج-‏:‏ هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن فيقولون‏:‏ قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم فلا يحمل عليه شيء‏.‏

ولما كانوا قد حرموا هذه الأشياء، وكان التحريم والتحليل من خواص الإله، وكان لا إله إلا الله، كان حكمهم عليها بالحرمة نسبة لذلك إلى الله سبحانه كذباً، فقال تعالى بعد أن نفى أن يكون جعل شيئاً من ذلك‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما دل عليه عقلهم من أن الله ما جعل هذا، لأنهم لا وصول لهم إليه سبحانه وعز شأنه، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏يفترون‏}‏ أي يتعمدون بجعل هذه الأشياء من تحريم وتحليل ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏الكذب‏}‏ فيحرمون ما لم يحرمه ويحللون ما لم يحلله ‏{‏وأكثرهم‏}‏ أي هؤلاء الذين جعلوا هذه الأشياء ‏{‏لا يعقلون *‏}‏ أي لا يتجدد لهم عقل، وهم الذين ماتوا على كفرهم‏.‏

ثم لما حرموا هذه الأشياء اضطروا إلى تحليل الميتة فحرموا الطيب وأحلوا الخبيث‏.‏ ولما اتخذوه ديناً واعتقدوه شرعاً ومضى عليه أسلافهم، دعتهم الحظوظ والأنفة من نسبة آبائهم إلى الضلال والشهادة عليهم بالسفه إلى الإصرار عليه وعدم الرجوع عنه بعد انكشاف قباحته وبيان شناعته حتى أفنى أكثرهم السيف ووطأتهم الدواهي، فوطأت أكتافهم وذللت أعناقهم وأكنافهم، فقال تعالى دالاً على ختام الآية التي قبله من عدم عقلهم‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي من أيّ قائل كان ولو أنه ربهم، بما ثبت من كلامهم بالعجز عنه أنه كلامه ‏{‏تعالوا‏}‏ أي ارفعوا أنفسكم عن هذا الحضيض السافل ‏{‏إلى ما أنزل الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه، وقد ثبت أنه أنزله بعجزكم عنه ‏{‏وإلى الرسول‏}‏ أي الذي من شأنه لكونه سبحانه أرسله أن يبلغكم ما يحبه لكم ويرضاه ‏{‏قالوا حسبنا‏}‏ أي يكفينا ‏{‏ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏‏.‏

ولما كانوا عالمين بأنه ليس في آبائهم عالم، وأنه من تأمل أدنى تأمل عرف أن الجاهل لا يهتدي إلى شيء، قال منكراً عليهم موبخاً لهم‏:‏ ‏{‏أولو‏}‏ أي يكفيهم ذلك إذا قالوا ذلك ولو ‏{‏كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً‏}‏ أي من الأشياء حق علمه لكونهم لم يأخذوه عن الله بطريق من الطرق الواصلة إليه، ولما كان من لا يعلم قد يشعر بجهله فيتعلم فيهتدي فيصير أهلاً للاقتداء به، وقد لا يشعر لكونه جهله مركباً فلا يجوز الاقتداء به، بين أنهم من أهل هذا القسم فقال‏:‏ ‏{‏ولا يهتدون *‏}‏ أي لا يطلبون الهداية فلا توجد هدايتهم إلى صواب، لأن من لا يعلم لا صواب له، لأنه ليس للهدى آلة سوى العلم، وأدل دليل على عدم هدايتهم أنهم ضيعوا الطيب من أموالهم فاضطرهم ذلك إلى أكل الخبيث من الميتة، وأغضبوا بذلك خالقهم فدخلوا النار، فلا أقبح مما يختاره لنفسه المطبوع على الكدر، ولا أحسن مما يشرعه له رب البشر، وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في سورة النساء ‏{‏إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً‏}‏ ‏[‏المساء‏:‏ 117‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏ فالتفت حينئذ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رجس من عمل الشيطان‏}‏ أيّ التفات‏.‏

ولما كان المانع لهم من قبول الهدى كون ذلك تسفيهاً لآبائهم، فيعود ضرراً عليهم يُسبَّون به على زعمهم، أعلم الله المؤمنين أن مخالفة الغير في قبول الهدى لا تضرهم أصلاً، بأن عقب آية الإنكار عليهم في التقيد بآبائهم لمتابعتهم لهم في الكفر بقوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي عاهدوا ربهم ورسوله على الإيمان ‏{‏عليكم أنفسكم‏}‏ أي الزموا هدايتها وإصلاحها؛ ولما كان كأنه قيل‏:‏ إنا ننسب بآبائنا، وننسب إليهم، فربما ضرتنا نسبتنا إليهم عند الله كما جوز أكثم بن الجون الخزاعي أن يضره شبه عمرو ابن لحي به حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏

«لا، إنك مؤمن وهو كافر»- كما في أوائل السيرة الهشامية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكان ذلك ربما وقف بأحد منهم عن الإسلام قال‏:‏ ‏{‏لا يضركم من ضل‏}‏ أي من المخالفين بكفر أو غيره بنسبتكم إليه ولا بقول الكفار‏:‏ إنكم سفهتم آراءكم، ولا بغير ذلك من وجوه الضرر، وحقق هدايتهم بشارة لهم بأداة التحقيق فقال مفهماً لوجود الضرر عند فقد الهداية‏:‏ ‏{‏إذا اهتديتم‏}‏ أي بالإقبال على ما أنزل الله وعلى الرسول حتى تصيروا علماء وتعملوا بعلمكم فتخالفوا من ضل، فإن كان موجوداً فبالاجتهاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الطاقة، فإن لم يستطع رده انتظر به يوم الجمع الأكبر والهول الأعظم، وإن كان مفقوداً فبمخالفته في ذلك الضلال وإن كان أقرب الأقرباء وأولى الأحباء، وإلا كان الباقي أسفه من الماضي، وقد كان لعمري أحدهم لا يتبع أباه إذا كان سفيهاً في أمر دنياه عاجزاً عن تحصيلها ولا يتحاشى عن مخالفته في طريقته بل يعد الكدح في تحصيلها والتعمق في اقتناصها وحسن السعي في تثميرها ولطف الحيلة في توسيعها من معالي الأخلاق وإصالة الرأي وجودة النظر على أن ذلك ظل زائل وعرض تافه، فكيف لا يخالفه فيما به سعادته الأبدية وحياته الباقية ويأخذ بالحزم في ذلك ويشمر ذيله في أمره ويسهر ليله في إعمال الفكر وترتيب النظر فيما أمره الله بالنظر فيه حتى يظهر له الحق فيتبعه، وينهتك لديه الباطل فيجتنبه، ما ذاك إلا لمجرد الهوى، وقد كان الحزم العمل بالحكمة التي كشفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن شداد بن أوس رضي الله عنه «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني» وروى مسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير أحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كان كذا وكذا- وقال ابن ماجه‏:‏ ولا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا وكذا- فإن» لو «تفتح عمل الشيطان»، وفي بعض طرق الحديث‏:‏ «ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل» يعني‏:‏ والله‏!‏ اعمل عمل الحزمة فأوسع النظر حتى لا تترك أمراً يحتمل أن ينفعك ولا يضرك إلا أخذت به، ولا تدع أمراً يحتمل أن يضرك ولا ينفعك إلا تجتنبه، فإنك إن فعلت ذلك وغلبك القضاء والقدر لم نجد في وسعك أمراً تقول‏:‏ لو أني فعلته أو تركته، ولكنك تقول‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، بخلاف ما إذا لم تنعم النظر وعملت عمل العجزة فإنك حتماً تقول‏:‏ لو أني فعلت كذا وكذا، لأن الشيطان يفتح لك تلك الأبواب التي نظر فيها الحازم، فيكثر لك من «لو» لأنها مفتاح عمله، وليس في الآية ما يتعلق به من يتهاون في الأمر بالمعروف كما يفعله كثير من البطلة؛ روى أحمد في المسند عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه

«أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في أمر رآه‏:‏ يا أبا عامر‏!‏ ألا غيرت‏؟‏ فتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أين ذهبتم‏؟‏ إنما هي لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم» وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحارث وأحمد بن منيع وأبو يعلى «أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ يا أيها الناس‏!‏ إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقابه‏.‏ قال البغوي‏:‏ وفي رواية‏:‏ لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملن الله عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب، ثم ليدعون الله خياركم فلا يستجاب لكم» والله الموفق‏.‏

ولما حكم الله تعالى- وهو الحكم العدل- أنه لا ضرر عليهم من غيرهم بشرط هداهم، وكان الكفار يعيرونهم، قال مؤكداً لما أخبر به ومقرراً لمعناه‏:‏ ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا شريك له، لا إلى غيره ‏{‏مرجعكم‏}‏ أي أنتم ومن يعيركم ويهددكم وغيرهم من جميع الخلائق ‏{‏جميعاً فينبئكم‏}‏ أي يخبركم إخباراً عظيماً مستوفى مستقصى ‏{‏بما كنتم تعملون *‏}‏ أي تعمداً جبلة وطبعاً، ويجازي كل أحد بما عمل على حسب ما عمل‏.‏ ولا يؤاخذ أحداً بما عمل غيره ولا بما أخطأ فيه أو تاب منه، وليس المرجع ولا شيء منه إلى الكفار ولا معبوداتهم ولا غيرهم حتى تخشوا شيئاً من غائلتهم في شيء من الضرر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

ولما خاطب سبحانه أهل ذلك الزمان بأنه نصب المصالح العامة كالبيت الحرام والشهر الحرام، وأشار بآية البحيرة وما بعدها إلى أن أسلافهم لا وفّروا عليهم مالهم ولا نصحوا لهم في دينهم، وختم ذلك بقهره للعباد بالموت وكشف الأسرار يوم العرض بالحساب على النقير والقطمير والجليل والحقير؛ عقب ذلك بآية الوصية إرشاداً منه سبحانه إلى ما يكشف سريرة مَنْ خان فيها علماً منه سبحانه أن الوفاء في مثل ذلك يقل وحثاً لهم على أن يفعلوا ما أمر سبحانه به لينصحوا لمن خلفوه بتوفير المال ويقتدي بهم فيما ختم به الآية من التقوى والسماع والبعد من الفسق والنزاع، فقال تعالى منادياً لهم بما عقدوا به العهد بينهم وبينه من الإقرار بالإيمان‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أخبروا عن أنفسهم بذلك ‏{‏شهادة بينكم‏}‏ هو كناية عن التنازع والتشاجر لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند ذلك، وسبب نزول الآية قد ذكره المفسرون وذكره الشافعي في الأم فقال‏:‏ أخبرني أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري عن بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك «أن رجلين نصرانيين من أهل دارين أحدهما تميمي والآخر يماني، صحبهما مولى لقريش في تجارة فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلوم قد علمه أولياؤه من بين آنية وبز ورِقَةٍ فمرض القرشي فجعل وصيته إلى الداريين فمات، وقبض الداريان المال فدفعاه إلى أولياء الميت، فأنكر القوم قلة المال فقالوا للداريين‏:‏ إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به، فهل باع شيئاً أو اشترى فوضع فيه‏؟‏ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه‏؟‏ قالا‏:‏ لا، قالوا‏:‏ فإنكما خنتمانا، فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فأنزل الله عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏ فلما نزلت أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة، فحلفا بالله رب السماوات‏:‏ ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به، فلما حلفا خلي سبيلهما، ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت فأخذوا الداريين فقالا‏:‏ اشتريناه منه في حياته، فكُذِّبا وكُلِّفا البينة فلم يقدرا عليها، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ‏{‏فإن عثر‏}‏- يعني إلى آخرها» ثم ذكر وقت الشهادة وسببها فقال‏:‏ ‏{‏إذا حضر‏}‏ وقدم المفعول تهويلاً- كما ذكر في النساء- لأن الآية نزلت لحفظ ماله فكان أهم، فقال‏:‏ ‏{‏أحدكم الموت‏}‏ أي أخذته أسبابه الموجبة لظنه‏.‏

ولما كان الإيصاء إذ ذاك أمراً متعارفاً، عرف فقال معلقاً بشهادة كما علق به ‏{‏إذا‏}‏ أو مبدلاً من ‏{‏إذا‏}‏ لأن الزمنين واحد‏:‏ ‏{‏حين الوصية‏}‏ أي إن أوصى، ثم أخبر عن المبتدأ فقال‏:‏ ‏{‏اثنان‏}‏ أي شهادة بينكم في ذلك الحين شهادة اثنين ‏{‏ذوا عدل منكم‏}‏ أي من قبيلتكم العارفين بأحوالكم ‏{‏أو آخران‏}‏ أي ذوا عدل ‏{‏من غيركم‏}‏ أي إن لم تجدوا قريبين يضبطان أمر الوصية من كل ما للوصي وعليه، وقيل‏:‏ بل هما الوصيان أنفسهما احتياطاً بجعل الوصي اثنين، وقيل‏:‏ آخران من غير أهل دينكم، وهو خاص بهذا الأمر الواقع في السفر للضرورة لا في غيره ولا في غير السفر؛ ثم شرط هذه الشهادة بقوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم ضربتم‏}‏ أي بالأرجل ‏{‏في الأرض‏}‏ أي بالسفر، كأن الضرب بالأرجل لا يسمى ضرباً إلا فيه لأنه موضع الجد والاجتهاد ‏{‏فأصابتكم‏}‏ وأشار إلى أن الإنسان هدف لسهام الحدثان بتخصيصه بقوله‏:‏ ‏{‏مصيبة الموت‏}‏ أي أصابت الموصي المصيبةُ التي لا مفر منها ولا مندوحة عنها‏.‏

ولما كان قد استشعر من التفصيل في أمر الشهود مخالفة لبقية الشهادات، فكان في معرض السؤال عن الشهود‏:‏ ماذا يفعل بهم‏؟‏ قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏تحبسونهما‏}‏ أي تدعونهما إليكم وتمنعونهما من التصرف لأنفسهما لإقامة ما تحملاه من هذه الواقعة وأدائه؛ ولما كان المراد إقامة اليمين ولو في أيسر زمن، لا استغراق زمن البعد بالحبس، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد الصلاة‏}‏ أي التي هي أعظم الصلوات؛ فكانت بحيث إذا أطلقت معرفة انصرفت إليها وهي الوسطى وهي العصر، ثم ذكر الغرض من حبسهما فقال‏:‏ ‏{‏فيقسمان بالله‏}‏ أي الملك الذي له تمام القدرة وكمال العلم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليمين إنما تكون إذا كانا من غيرنا، فإن كانا مسلمين فلا يمين، وعن غيره، إن كان الشاهدان على حقيقتهما فقد نسخ تحليفهما، وإن كان الوصيين فلا؛ ثم شرط لهذا الحلف شرطاً فقال اعتراضاً بين القسم والمقسم عليه‏:‏ ‏{‏إن ارتبتم‏}‏ أي وقع بكم شك فيما أخبرا به عن الواقعة؛ ثم ذكر المقسم عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لا نشتري به‏}‏ أي هذا الذي ذكرناه ‏{‏ثمناً‏}‏ أي لم نذكره ليحصل لنا به عرض دنيوي وإن كان في نهاية الجلالة، وليس قصدنا به إلا إقامة الحق ‏{‏ولو كان‏}‏ أي الوصي الذي أقسمنا لأجله تبرئة له ‏{‏ذا قربى‏}‏ أي لنا، أي إن هذا الذي فعلناه من التحري عادتنا التي أطعنا فيها ‏{‏كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏- الآية، لا أنه فعلنا في هذه الواقعة فقط ‏{‏ولا نكتم شهادة الله‏}‏ أي هذا الذي ذكرناه لم نبدل فيه لما أمر الله به من حفظ الشهادة وتعظيمها، ولم نكتم شيئاً وقع به الإشهاد، ولا نكتم فيما يستقبل شيئاً نشهد به لأجل الملك الأعظم المطلع على السرائر كما هو مطلع على الظواهر؛ ثم علل ذلك بما لقنهم إياه ليكون آخر كلامهم، كل ذلك تغليظاً وتنبيهاً على أن ذلك ليس كغيره من الأيمان، فقال تذكيراً لهم وتحذيراً من التغيير‏:‏ ‏{‏إنا إذاً‏}‏ أي إذا فعلنا شيئاً من التبديل أو الكتم ‏{‏لمن الآثمين * فإن‏}‏ ولما كان المراد مجرد الاطلاع بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏عثر‏}‏ أي اطلع مطلع بقصد أو بغير قصد؛ قال البغوي‏:‏ وأصله الوقوع على الشيء أي من عثرة الرجل ‏{‏على أنهما‏}‏ أي الشاهدين إن أريد بهما الحقيقة أو الوصيين ‏{‏استحقا إثماً‏}‏ أي بسبب شيء خانا فيه من أمر الشهادة ‏{‏فآخران‏}‏ أي من الرجال الأقرباء للميت ‏{‏يقومان مقامهما‏}‏ أي ليفعلا حيث اشتدت الريبة من الإقسام عند مطلق الريبة ما فعلا ‏{‏من الذين استحق‏}‏ أي طلب وقوع الحق بشهادة من شهد ‏{‏عليهم‏}‏ هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة حفص بالبناء للفاعل، المعنى‏:‏ وجد وقوع الحق عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما منزلة هذين الآخرين من الميت‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الأوليان‏}‏ أي الأحقان بالشهادة الأقربان إليه العارفان بتواطن أمره، وعلى قراءة أبي بكر وحمزة بالجمع، كأنه قيل‏:‏ هما من الأولين أي في الذكر وهم أهل الميت، فهو نعت للذين استحق ‏{‏فيقسمان‏}‏ أي هذان الآخران ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الذي لا يقسم إلا به لما له من كمال العلم وشمول القدرة ‏{‏لشهادتنا‏}‏ أي بما يخالف شهادة الحاضرين للواقعة ‏{‏أحق من شهادتهما‏}‏ أي أثبت، فإن تلك إنما ثباتها في الظاهر، وشهادتنا ثابتة في نفس الأمر وساعدها الظاهر بما عثر عليه من الريبة ‏{‏وما اعتدينا‏}‏ أي تعمدنا في يميننا مجاوزة الحق ‏{‏إنا إذاً‏}‏ أي إذا وقع منا اعتداء ‏{‏لمن الظالمين *‏}‏ أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام، وهذا إشارة إلى أنهم على بصيرة ونور مما شهدوا به، وذلك أنه لما وجد الإناء الذي فقده أهل الميت وحلف الداريان بسببه أنهما ما خانا طالبوهما، فقالا‏:‏ كنا اشتريناه منه، فقالوا‏:‏ ألم نقل لكما‏:‏ هل باع صاحبنا شيئاً‏؟‏ فقلتما‏:‏ لا، فقالا‏:‏ لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر فقام اثنان من أقارب الميت فحلفا على الإناء، فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إليهما، لأن الوصيين ادعيا على الميت البيع فصار اليمين في جانب الورثة لأنهم أنكروا، وسمي أيمان الفريقين شهادة كما سميت أيمان المتلاعنين شهادة- نبه على ذلك الشافعي، وكان ذلك لما في البابين من مزيد التأكيد‏.‏

ولما تم هذا على هذا الوجه الغريب، بين سبحانه سرَّه فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر المحكم المرتب هذا الترتيب بالأيمان وغيرها ‏{‏أدنى‏}‏ أي أقرب ‏{‏أن‏}‏ أي إلى أن ‏{‏يأتوا‏}‏ أي الذين شهدوا أولاً ‏{‏بالشهادة‏}‏ أي الواقعة في نفس الأمر ‏{‏على وجهها‏}‏ من غير أدنى ميل بسبب أن يخافوا من الحنث عند الله بعد هذا التغليظ ‏{‏أو يخافوا‏}‏ إن لم يمنعهم الخوف من الله ‏{‏أن ترد‏}‏ أي تثنى وتعاد ‏{‏أيمان‏}‏ أي من الورثة ‏{‏بعد أيمانهم‏}‏ للعثور على ريبة فيصيروا بافتضاحهم مثلاً للناس، قال الشافعي‏:‏ وليس في هذا رد اليمين، فما كانت يمين الداريين على ما ادعى الورثة من الخيانة، ويمين ورثة الميت على ما ادعى الداريان مما وجد في أيديهما وأقرا أنه مال الميت وأنه صار لهما من قِبَله، فلم تقبل دعواهما بلا بينة، فأحلف وارثاه، قال‏:‏ وإذا كان هذا كما وصفت فليست الآية ناسخة ولا منسوخة لأمر الله بإشهاد ذوي عدل ومن نرضى من الشهداء، هذا ما اقتضى إيلاؤها لما قبلها، وقد نزعها إلى مجموع هذه السورة مَنازع منها ما تقدم من ذكر القتل الذي هو من أنواع الموت عند قصة بني آدم وما بعدها، ثم تعقيب ذلك بالجهاد الذي هو من أسباب الموت، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 45‏]‏، ثم ذكره أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏ وقد جرت السنة الإلهية بذكر الوصية عقب مثل ذلك في البقرة، ولم يذكر عقب واحدة من الآيات المذكورة لزيادتها على آية البقرة بمنازع منها الحلف، فناسب كونها بعد آية الأيمان، ومنها تغليظ الحلف والخروج به عما يشاكله من القسم على المال بكونه في زمان مخصوص بعد عبادة مخصوصة، فناسب ذكرها بعد تغليظ أمر الصيد في حال مخصوص وهو الإحرام والخروج به عن أشكاله من الأحوال وبعد تغليظ جزائه والخروج به عن أشكاله من الكفارات وتغليظ أمر المكان المخصوص وهو الكعبة والخروج بها عن أشكالها من البيوت، وكذا تغليظ الزمان المخصوص وهو الشهر الحرام والخروج به عن أشكاله من الأزمنة‏.‏ وكل ذلك لقيام أمر الناس وإصلاح أحوالهم، وهكذا آية الوصية وما خرج من أحكامها عن أشكاله كله لقيام الأمور على السداد وإصلاح المعاش والمعاد، وهي ملتفتة إلى أول السورة إذا هي من أعظم العهود، والوفاءُ بها من أصعب الوفاء، وإلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتعاونوا على البر والتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏ وإلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كونوا قوامين لله شهداء بالقسط‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ انظر إلى ختمها بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله خبير بما تعملون‏}‏ وإلى كون هذه في سياق الإعلام بأن الله عالم بالخفيات، وقوله‏:‏- عطفاً على ما تقديره‏:‏ فالزموا ما أمرتكم به وأرشدتكم إليه تفلحوا‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي ذا الجلال والإكرام إلى آخرها- ملتفت إلى قوله‏:‏ ‏{‏وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏- الأية، أي خافوا الله خوفاً عظيماً يحملكم على أن تجعلوا بينكم وبين سخطه وقاية لئلا تحلفوا كاذبين أو تخونوا أدنى خيانة ‏{‏واسمعو‏}‏ أي الموعظة سمع إجابة وقبول ذاكرين لقولكم ‏{‏سمعنا وأطعنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ فإن الله يهدي المتمسكين بالميثاق ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الكمال كله وتمام الحكمة وكمال العزة والسطوة ‏{‏لا يهدي القوم‏}‏ أي لا يخلق الهداية في قلوب الذين لهم قدرة على ما يحاولونه الفاسقين *‏}‏ أي الذين هم خارجون، أي من عادتهم ذلك على وجه الرسوخ، فهم أبداً غير متقيدين بقيد ولا منضبطين بدائرة عقد ولا عهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏109‏)‏ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏110‏)‏ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

ولما كان فيها إقامة الشهود وحبسهم عن مقاصدهم حتى يفرغوا من هذه الواقعة المبحوث فيها عن خفايا متعلقة بالموت والتغليظ بالتحليف بعد صلاة العصر، وكانت ساعة يجتمع فيها الناس وفريقا الملائكة المتعاقبين فينا ليلاً ونهاراً مع أنها ساعة الأصيل المؤذنة بهجوم الليل وتقوّض النهار حتى كأنه لم يكن ورجوع الناس إلى منازلهم وتركهم لمعايشهم، وكانت عادته سبحانه بأنه يذكر أنواعاً من الشرائع والتكاليف، ثم يتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وإما بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم من التكاليف، ولا ينتقل من فن إلى آخر إلا بغاية الإحكام في الربط، عقبها تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏يوم يجمع الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏الرسل‏}‏ أي الذين أرسلهم إلى عباده بأوامره ونواهيه إشارة إلى تذكر انصرام هذه الدار وسرعة هجوم ذلك بمشاهدة هذه الأحوال المؤذنة به وبأنه يوم يقوم فيه الأشهاد، ويجتمع فيه العباد، ويفتضح فيه أهل الفساد- إلى غير ذلك من الإشارات لأرباب البصائر والقلوب، والظاهر أن «يوم» ظرف للمضاف المحذوف الدال عليه الكلام، فإن من المعلوم أنك إذا قلت‏:‏ خف من فلان، فإن المعنى‏:‏ خَف من عقابه ونحو ذلك، فيكون المراد هنا‏:‏ واتقوا غضب الله الواقع في ذلك اليوم، أي اجعلوا بينكم وبين سطواته في ذلك اليوم وقايةً، أو يكون المعنى‏:‏ اذكروا هذه الواقعة وهذا الوقت الذي يجمع فيه الشهود ويحبس المعترف والجحود يوم الجمع الأكبر بين يدي الله تعالى ليسألهم عن العباد ويسأل العباد عنهم ‏{‏فيقول‏}‏ أي للرسل تشريعاً لهم وبياناً لفضلهم وتشريفاً للمحق من أممهم وتبكيتاً للمبطل وتوبيخاً للمُفْرط منهم والمفرّط‏.‏

ولما كان مما لا يخفى أصلاً أنهم أجيبوا، ولا يقع فيه نزاع ولا يتعلق بالسؤال عنه غرض، تجاوز السؤال إلى الاستفهام من نوع الإجابة فقال‏:‏ ‏{‏ماذا أجبتم‏}‏ أي أيّ إجابة أجابكم من أرسلتم إليهم‏؟‏ إجابة طاعة أو إجابة معصية‏.‏

ولما كان المقصود من قولهم بيان الناجي من غيره، وكانت الشهادة في تلك الدار لا تنفع إلا فيما وافق فيه الإضمار الإظهار، فكانت شهادتهم لا تنفع المشهود له بحسن الإجابة إلا أن يطابق ما قاله بلسانه اعتقاده بقلبه ‏{‏قالوا‏}‏ نافين لعلمهم أصلاً ورأساً إذا كان موقوفاً على شرط هو من علم ما غاب ولا علم لهم به ‏{‏لا علم لنا‏}‏ أي على الحقيقة لأنا لا نعلم إلا ما شهدناه، وما غاب عنا أكثر، وإذا كان الغائب قد يكون مخالفاً للمشهود، فما شهد ليس بعلم، لأنه غير مطابق للواقع، ولهذا عللوا بقولهم‏:‏ ‏{‏إنك أنت‏}‏ أي وحدك ‏{‏علام الغيوب *‏}‏ أي كلها، تعلمها علماً تاماً فكيف بما غاب عنا من أحوال قومنا‏!‏ فكيف بالشهادة‏!‏ فكيف بما شهدنا من ذلك‏!‏ وهذا في موضع قولهم‏:‏ أنت أعلم، لكن هذا أحسن أدباً، فإنهم محوا أنفسهم من ديوان العلم بالكلية، لأن كل علم يتلاشى إذا نسب إلى علمه ويضمحل مهما قرن بصفته أو اسمه‏.‏

ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏يوم يجمع الله‏}‏ معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع، وتصويراً لعظيم تحققه، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى‏:‏ ‏{‏إذ قال الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏يا عيسى‏}‏ ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال‏:‏ ‏{‏ابن مريم‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال‏:‏ ‏{‏اذكر نعمتي عليك‏}‏ أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال‏:‏ ‏{‏وعلى والدتك‏}‏ إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه، فأقدره- وهو في المهد- على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه ديناً ودنيا‏.‏

ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 11‏]‏، وكانت هذه الآيات من عند ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول‏!‏ وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام‏:‏ اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره‏.‏

ولما كان أعظم الأمور التنزيه، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره‏:‏ ‏{‏إذ أيدتك‏}‏ أي قويتك تقوية عظيمة ‏{‏بروح القدس‏}‏ أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام، ومنه جبرئيل عليه السلام، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي‏:‏ وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال‏:‏ ‏{‏تكلم الناس‏}‏ أي من أردت من عاليهم وسافلهم ‏{‏في المهد‏}‏ أي بما برأ الله من أمك وأظهر به كرامتك وفضلك‏.‏

ولما ذكر هذا الفضل العظيم، أتبعه خارقاً آخر، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال‏:‏ ‏{‏وكهلاً‏}‏ ولما ذكر هذه الخارقة، أتبعها روح العلم الرباني فقال‏:‏ ‏{‏وإذ علمتك الكتاب‏}‏ أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم ‏{‏والحكمة‏}‏ أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم ‏{‏والتوراة‏}‏ أي المنزلة على موسى عليه السلام ‏{‏والإنجيل‏}‏ أي المنزل عليك‏.‏

ولما ذكر تأييده بروح الروح، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال‏:‏ ‏{‏وإذ تخلق من الطين‏}‏ أي هذا الجنس ‏{‏كهيئة الطير بإذني‏}‏ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فتنفخ فيها‏}‏ أي في الصورة المهيأة ‏{‏فتكون‏}‏ أي تلك الصورة التي هيأتها ‏{‏طيراً بإذني‏}‏ ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي قبله، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله‏:‏ ‏{‏وتبرئ الأكمة والأبرص‏}‏‏.‏

ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله‏:‏ ‏{‏بإذني‏}‏ ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ تخرج الموتى‏}‏ أي من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت ‏{‏بإذني‏}‏ ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ كففت بني إسرائيل عنك‏}‏ أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال‏:‏ ‏{‏إذ جئتهم بالبينات‏}‏ أي كلها، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك ‏{‏فقال الذين كفروا‏}‏ أي غطوا تلك البينات عناداً ‏{‏منهم إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا إلا سحر مبين *‏}‏ ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال‏:‏ ‏{‏وإذ أوحيت‏}‏ أي بإلهام باطناً وبإيصال الأوامر على لسانك ظاهراً ‏{‏إلى الحواريين‏}‏ أي الأنصار ‏{‏أن آمنوا بي وبرسولي‏}‏ أي الذي أمرته بالإبلاغ يعني إبلاغ الناس ما آمرهم به، ثم استأنف مبيناً لسرعة أجابتهم لجعله محبباً إليهم مطاعاً فيهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا آمنا‏}‏‏.‏

ولما كان الإيمان باطناً فلا بد في إثباته من دليل ظاهر، وكان في سياق عدّ النعم والطواعية لوحي الملك الأعظم دلوا عليه بتمام الانقياد، ناسب المقام زيادة التأكيد بإثبات النون الثالثة في قولهم‏:‏ ‏{‏واشهد بأننا‏}‏ بخلاف آل عمران ‏{‏مسلمون *‏}‏ أي منقادون أتم انقياد، فلا اختيار لنا إلا ما تأمرنا به، وانظر ما أنسب إعادة «إذ» عند التذكير بروح كامل حساً أو معنى وحذفها عند الناقص، فأثبتها عند التأييد بها في أصل الخلق وفي الكمال الموجب للحياة الأبدية وفي تعليم الكتاب وما بعده المفيض لحياة الأبد على كل من تخلّق بأخلاقه وفي خلق الطير وهو ظاهر وهكذا إلى الآخر‏.‏

ذكرُ شيء مما عزي إليه من الحكمة في الإنجيل‏:‏ قال متى‏:‏ وكان يسوع يطوف المدن والقرى ويعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل الأمراض والأوجاع، ثم قال‏:‏ فلما سمع يوحنا في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه قائلاً‏:‏ أنت هو الآتي أم نترجى آخر‏؟‏ قال لوقا‏:‏ وفي تلك الساعة أبرأ كثيراً من الأمراض والأوجاع والأرواح الشريرة ووهب النظر لعميان كثيرين، فأجاب يسوع وقال لهما‏:‏ اذهبا وأعلما يوحنا بما رأيتما وسمعتما، العميان يبصرون والعرج يمشون والبرص يتطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون، فطوبى لمن لا يشك فيّ‏!‏ فلما ذهب تلميذا يوحنا بدأ يسوع يقول للجمع من أجل يوحنا‏:‏ لماذا خرجتم إلى البرية تنظرون- قال لوقا‏:‏ قصبة تحركها الريح- أم لماذا خرجتم تنظرون‏؟‏ إنساناً لابساً لباساً ناعماً‏؟‏ إن اللباس الناعم يكون في بيوت الملوك، قال لوقا‏:‏ فإن الذين عليهم لباس المجد والتنعم هم في بيوت الملوك- انتهى‏.‏ لكن لماذا خرجتم تنظرون‏؟‏ نبياً‏؟‏ نعم، أقول لكم‏:‏ إنه أفضل من هذا الذي كتب من أجله‏:‏ هوذا أنا مرسل ملكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك، الحق أقول لكم‏!‏ إنه لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمد، والصغير في ملكوت السماء أعظم منه، وجميع الشعب الذي سمع والعشارون شكروا الله حيث اعتمدوا من معمودية يوحنا، فأما الفريسيون والكتاب فعلموا أنهم رفضوا أمر الله لهم إذ لم يعتمدوا منه؛ قال متى‏:‏ ثم قال‏:‏ من له أذنان سامعتان فليسمع‏!‏ بماذا أشبه هذا الجيل‏؟‏ يشبه صبياناً جلوساً في الأسواق، يصيحون إلى أصحابهم قائلين‏:‏ زمّرنا لكم فلم ترقصوا، ونحنا لكم فلم تبكوا، جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب، فقالوا‏:‏ معه جنون، جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا‏:‏ هذا إنسان أكول شرّيب خليل العشارين والخطأة، فتبررت الحكمة من بنيها، حينئذ بدأ يعيّر المدن التي كان فيها أكثر قواته، لأنهم لم يتوبوا، ويقول‏:‏ الويل لك يا كورزين‏!‏ والويل لك يا بيت صيدا‏!‏ لأن القوات اللاتي كنّ فيكما قديماً لو كنّ في صور وصيدا لتابوا بالمسوح والرماد، لكن أقول لكم‏:‏ إن لصور وصيدا راحة في يوم الدين أكثر منكن، وأنت يا كفرناحوم لو ارتفعت إلى السماء ستهبطين إلى الجحيم، لأنه لو كان في سدوم هذه القوات التي كانت فيك إذن لثبتت إلى اليوم، وأقول لكم أيضاً‏:‏ إن أرض سدوم تجد راحة يوم الدين أكثر منك‏.‏

ثم قال‏:‏ وانتقل يسوع من هناك ودخل إلى مجمعهم وإذا رجل هناك يده يابسة- وقال لوقا‏:‏ يده اليمنى يابسة- فسألوه قائلين‏:‏ هل يحل أن يشفى في السبت‏؟‏ فقال لهم‏:‏ أي إنسان منكم يكون له خروف، يسقط في حفرة في السبت، ولا يمسكه ويقيمه‏؟‏ فبكم أحزي الإنسان أفضل من الخروف، فإذن جيد هو فعل الخير في السبت؛ وقال لوقا‏:‏ فقال للرجل اليابس اليد‏:‏ قف في الوسط، فقام، وقال لهم يسوع‏:‏ أسألكم ماذا يحل أن يعمل في السبت‏؟‏ خير أم شر‏؟‏ نفس تخلص أم تهلك‏؟‏ فسكتوا؛ قال متى‏:‏ حينئذ قال للإنسان‏:‏ أمدد يدك، فمدها فصحت مثل الأخرى، فخرج الفريسيون- قال مرقس‏:‏ مع أصحاب هيرودس- متوامرين في إهلاكه، فعلم يسوع وانتقل من هناك وتبعه جمع كثير، فشقى جميعهم، وأمرهم أن لا يظهروا ذلك لكي يتم ما قيل في أشعيا النبي القائل‏:‏ ها هوذا فتاي الذي هويت، وحبيبي الذي به سررت، أضع روحي عليه ويخبر الأمم بالحكم، لا يماري ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا تكسر، وسراج مطفطف لا يطفأ حتى يخرج الحكم في الغلبة، وعلى اسمه تتكل الأمم؛ ثم قال‏:‏ وفي ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس جانب البحر، فاجتمع إليه جمع كبير حتى أنه صعد إلى السفينة وجلس، وكان الجمع كله قياماً على الشطّ، وكلهم بأمثال كثيرة قائلاً‏:‏ ها هو ذا خرج الزارع ليزرع، وفيما هو يزرع سقط البعض على الطريق، فأتى الطير وأكله- وقال لوقا‏:‏ فديس وأكله طائر السماء- وبعض سقط على الصخرة حيث لم يكن له أرض كثيرة، وللوقت شرق إذ ليس له عمق أرض، ولما أشرقت الشمس احترق، وحيث لم يكن له أصل يبس، وبعض سقط في الشوك فطلع الشوك وخنقه؛ وقال مرقس‏:‏ فخنقه بعلوه عليه فلم يأتي بثمرة؛ وقال متى‏:‏ وبعض سقط في الأرض الجيدة فأعطى ثمره، للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين- قال لوقا‏:‏ فلما قال هذا نادى‏:‏ من له أذنان سامعتان فليسمع- فتقدم إليه تلاميذه وقالوا له‏:‏ لماذا تكلمهم بالأمثال‏؟‏ فأجابهم وقال‏:‏ أنتم أعطيتم معرفة سرائر ملكوت السماوات- وقال لوقا‏:‏ فقال لهم‏:‏ لكم أعطي علم سرائر ملكوت الله- وأولئك لم يعطوا، ومن كان له يعطي ويزاد، ومن ليس له فالذي له يؤخذ منه- وقال لوقا‏:‏ والذي ليس له ينزع منه الذي يظن أنه له- فلهذا أكلمهم بالأمثال، لأنهم يبصرون فلا يبصرون، ويسمعون فلا يسمعون ولا يفهمون، لكي تتم فيهم نبوة أشعيا لقائل‏:‏ سمعاً يسمعون فلا يفهمون، ونظراً ينظرون فلا يبصرون، لقد غلظ قلب هذا الشعب، وثقلت آذانهم عن السماع، وغمضوا أعينهم لكيلا يبصروا بعيونهم ولا يسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم، فأما أنتم فطوبى لعيونكم‏!‏ لأنها تنظر، ولآذانكم‏!‏ لأنها تسمع؛ وقال لوقا‏:‏ ومثل الزرع هذا هو كلام الله؛ وقال متى‏:‏ كل من يسمع كلام الملكوت ولا يفهم يأتي الشرير فيخطف ما يزرع في قلبه، هذا الذي زرع على الطريق، والذي زرع على الصخرة هو الذي يسمع الكلام وللوقت يقبله بفرح، وليس له فيه أصل، لكن في زمان يسير، إذا حدث ضيق أو طرد فللوقت يشك- وقال مرقس‏:‏ بسبب الكلمة فيشكون للوقت‏:‏ وقال لوقا‏:‏ وهم إنما يؤمنون إلى زمان التجربة، وفي زمان التجربة يشكون- والذي يزرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلام فيخنق الكلام فيه؛ وقال لوقا‏:‏ فتغلب عليهم هموم هذا الدهر وطلب الغنى؛ وقال مرقس‏:‏ ومحبة الغنى وسائر الشهوات التي يسلكونها، فتخنق الكلمة فلا تثمر فيهم؛ وقال متى‏:‏ فيكون بغير ثمرة، والذي زرع في الأرض الجيدة هو الذي يسمع الكلام ويتفهم ويعطي ثمره؛ وقال لوقا‏:‏ وأما الذي وقع في الأرض الصالحة فهم الذين يسمعون الكلمة بقلب جيد فيحفظونها ويثمرون بالصبر؛ قال متى‏:‏ للواحد مائة وللآخر ستين وللآخر ثلاثين‏.‏

وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً‏:‏ يشبه ملكوت السماوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله، فلما نام الناس جاء عدوه فزرع زواناً في وسط القمح ومضى، فلما نبت القمح ظهر الزوان، فجاء عبيد رب البيت فقالوا له‏:‏ يا سيد‏!‏ أليس زرعاً جيداً زرعت في حقلك‏!‏ فمن أين صار فيه زوان‏؟‏ فقال لهم‏:‏ عدو فعل هذا، فقال عبيده‏:‏ تريد أن نذهب فنجمعه‏؟‏ فقال لهم‏:‏ لا، لئلا تنقلع معه الحنطة، دعوهما ينبتان جميعاً إلى زمان الحصاد، وأقول للحصادين‏:‏ أولاً اجمعوا الزوان فشدوه حزماً ليحرق، فأما القمح فاجمعوه إلى أهرائي‏.‏ وضرب لهم مثلاً آخر قائلاً‏:‏ يشب ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، لأنها أصغر الزراريع كلها- وقال مرقس‏:‏ وهي أصغر الحبوب التي على الأرض- فإذا طالت صارت أكبر من جميع البقول وتصير شجرة- وقال مرقس‏:‏ وصنعت أغصاناً عظاماً؛ وقال لوقا‏:‏ فنمت وصارت شجرة عظيمة- حتى أن طائر السماء يستظل تحت أغصانها‏.‏

وكلمهم بمثل آخر وقال لهم‏:‏ يشبه ملكوت السماوات خميراً أخذته امرأة وعجنته في ثلاثة أكيال دقيق فاختمر الجميع؛ وقال مرقس‏:‏ وكان يقول لهم‏:‏ هل يوقد سراج فيوضع تحت مكيال أو سرير، لكن على منارة؛ وقال لوقا‏:‏ ليس أحد يوقد سراجاً فيغطيه، ولا يجعله تحت سرير، لكن يضعه على منارة فيرى نوره كل من يدخل؛ قال مرقس‏:‏ كذلك ليس خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلن؛ وقال لوقا‏:‏ سراج الجسد العين، فإذا كانت عينك بسيطة فجسدك كله نير، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلماً أحرص أن لا يكون النور الذي فيك ظلاماً، فإن كان جسدك كله نيراً وليس فيه جزء مظلم فإنه يكون كاملاً نيراً، كما أن السراج ينير لك بلمع ضيائه؛ وقال مرقس‏:‏ من له أذنان سامعتان فليسمع، وقال لهم‏:‏ انظروا ماذا تسمعون، فبالكيل الذي تكيلون يكال لكم- وتزادون أيها السامعون لأن الذي له يعطي ومن ليس عنده فالذي عنده يؤخذ منه، وقال‏:‏ يشبه ملكوت الله إنساناً يلقي زرعه على الأرض وينام، ويقوم ليلاً ونهاراً والزرع ينمو ويطول وهو لا يعلم، أولاً أعشب وبعد ذلك سَنُبل، ثم يمتلئ السنبل حتى إذا انتهت الثمرة حينئذ يضع المنجل إذ قد دنا الحصاد؛ قال متى‏:‏ هذا كله قاله يسوع للجموع ليتم ما قيل في النبي القائل‏:‏ أفتح فاي بالأمثال وأنطق بالخفيات من قبل أساس العالم‏.‏ حينئذ ترك الجمع وجاء إلى البيت فجاء إليه تلاميذه وقالوا‏:‏ فسر لنا مثل زوال الحقل، أجاب‏:‏ الذي زرع الزرع الجيد هو ابن الإنسان، والحقل هو العالم، والزرع الجيد هو بنو الملكوت، والزوان هو بنو الشر، والعدو الذي زرعه هو الشيطان، والحصاد هو منتهى الدهر، والحصادون هم الملائكة، فكما أنهم يجمعون الزوان أولاً، وبالنار يحرق، هكذا يكون منتهى هذا الدهر، يرسل ملائكته ويجمعون من مملكته كل الشوك وفاعلي الإثم، فيلقونهم في أتون النار، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان، حينئذ يضيء الصديقون مثل الشمس في ملكوت أبيهم، من له أذنان سامعتان فليسمع‏.‏ ويشبه ملكوت السماوات كنزاً مُخفىّ في حقل وجده إنسان فخبأه، ومِن فرحه مضى وباع كل شيء واشترى ذلك الحقل‏.‏ وأيضاً يشبه ملكوت السماوات إنساناً تاجراً بطلب الجوهر الفاخر الحسن‏.‏ فوجد درة كثيرة الثمن فمضى وباع كل ماله واشتراها‏.‏ وأيضاً يشبه ملكوت السماوات شبكة ألقيت في البحر فجمعت من كل جنس، فلما امتلأت أطلعوها إلى الشّط فجلسوا وجمعوا الخيار في الأوعية، والرديء رموه خارجاً، هكذا يكون في انقضاء هذا الزمان، تخرج الملائكة ويميزون الأشرار من وسط الصديقين‏.‏

ويلقونهم في أتون النار‏.‏ هناك يكون البكاء وصرير الأسنان‏.‏ فلما أكمل يسوع هذه الأمثال انتقل من هناك وجاء إلى بلدته وكان يُعلِّم في مجامعهم حتى أنهم بهتوا وقالوا‏:‏ من أين له هذه الحكمة والقوة‏!‏ وقال مرقس‏:‏ من أين له هذا التعليم وهذه الحكمة التي أعطيها والقوات التي تكون على يديه- انتهى‏.‏ أليس هذا ابن النجار‏؟‏ وقال لوقا‏:‏ وكان جميعهم يشهدون له ويتعجبون من كلام النعمة الذي كان يخرج من فمه، وكانوا يقولون‏:‏ أليس هذا ابن يوسف‏؟‏ انتهى‏.‏ أليس أمه تسمى مريم وإخوته يعقوب ويوسا وسمعان ويهودا‏؟‏ أليس هو وأخواته عندنا جميعاً‏؟‏ فمن أين له هذا كله‏؟‏ وكانوا يشكون فيه، فإن يسوع قال لهم‏:‏ لا يهان نبي إلا في بلدته وبيته؛ وقال مرقس‏:‏ ليس يهان نبي إلا في بلدته وعند أنسابه وبيته؛ وقال لوقا‏:‏ فقال لهم‏:‏ لعلكم تقولون لي هذا المثل‏:‏ أيها الطبيب‏!‏ اشف نفسك والذي سمعنا أنك صنعته في كفرناحوم افعله أيضاً ههنا في مدينتك، فقال لهم‏:‏ الحق أقول لكم، إنه لا يقبل نبي في مدينته، الحق أقول لكم، إن الأرامل كثيرة كنّ في إسرائيل في أيام إليا إذ أغلقت السماء ثلاث سنين وستة أشهر، وصار جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يرسل إلياء إلى واحدة منهن إلا أرملة في صارفة صيدا، وبرص كثيرون كانوا في إسرائيل على عهد اليشع النبي ولم يطهر واحد منهم إلا نعمان الشامي، فامتلأ جميعهم غضباً عندما سمعوا هذا وأخرجوه خارج المدينة، وجاؤوا به إلى أعلى الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه ليطرحوه إلى أسفل، فأما هو فجاز وسطهم ومضى، ونزل إلى كفرناحوم مدينة في الجليل، وكان يعلمهم في السبت وبهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان‏.‏ وقال في موضع آخر‏:‏ وجاء إليه ناس من الفريسيين وقالوا له‏:‏ اخرج فاذهب من ههنا فإن ثيرودس يريد ليقتلك، فقال لهم‏:‏ امضوا وقولوا لهذا الثعلب‏:‏ إني هوذا أخرج الشياطين وأتم الشفاء اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أكمل، وينبغي أن أقيم اليوم وغداً، وفي اليوم الآتي أذهب، لأنه ليس يهلك نبي خارجاً عن يروشليم، أيا يروشليم‏!‏ أيا يروشليم‏!‏ يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها‏!‏ كم من مرة أردت أن أجمع بنيك مثل الدجاجة التي تجمع فراخها تحت جناحيها فلم تريدوا، هوذا أترك بيتكم خراباً، فسمع هيرودس رئيس الربع بجميع ما كان فتحير، لأن كثيراً كانوا يقولون‏:‏ إن يوحنا قام من الأموات، وآخرون يقولون‏:‏ إن إليا ظهر، وآخرون يقولون‏:‏ نبي من الأولين قام، فقال هيرودس‏:‏ أنا قطعت رأس يوحنا فمن هو الذي نسمع عنه هذا، وطلب أن يبصره؛ وفي إنجيل متى‏:‏ وفي ذلك الزمان سمع هيرودس رئيس الربع خبر يسوع فقال لغلمانه‏:‏ هذا هو يوحنا المعمدان، وهو قام من الأموات من أجل هذه القوات التي يعمل بها‏.‏

قوله‏:‏ المعمد، من أعمده- إذا غسله في ماء المعمودية، قوله‏:‏ تبررت، أي صارت برية بالنسبة إليهم، قوله‏:‏ يعيّر المدن، أي يذكر ما أوجب لها العار، قوله‏:‏ القوات جمع قوة وهي المعجزات هنا، قول‏:‏ الذي هويت، يعني أحببت حباً شديداً، ولفظ الهوى الظاهر أنه يفهم نقصاً فلا يحل في شرعنا إطلاقه على الله تعالى، قوله‏:‏ مطفطف، أي مملوء إلى رأسه، لا يزال كذلك، قوله‏:‏ شرق- وزن‏:‏ فرح، أي ضعف، من‏:‏ شرق بريقه، وشرقت الشمس- إذا ضعف ضوءها، قوله‏:‏ أتون وهو وزن تنور وقد يخفف‏:‏ أخدود الجيار والجصاص، قوله‏:‏ بسيطة، أي على الفطرة الأولى، قوله‏:‏ يروشليم- بتحتانية ومهملة وشين معجمة‏:‏ بيت المقدس، قوله‏:‏ ملكوت أبيهم، تقدم ما فيه غير مرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 114‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

ولما كان من المقصود بذكر معجزات عيسى عليه السلام تنبيه الكافر ليؤمن، والمؤمن ليزداد إيماناً، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء- إلى غير ذلك مما أراد الله، قرعت به الأسماع، ولم يتعلق بما يجيب به يوم القيامة عند أمره بذلك غرض فطوي؛ ولما كان أجلّ المقاصد تأديب هذه الأمة لنبيها عليه السلام لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال، ذكر لهم شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر ثم إلى الإشهاد على سبيل التأكيد بتمام الانقياد وسلب الاختيار، فقال معلقاً ب «قالوا آمنا» مقرباً لزمن تعنتهم من زمن إيمانهم، مذكراً لهذه الأمة بحفظها على الطاعة، ومبكتاً لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة، وهذه القصة قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون «إذ» هذه ظرفاً لتلك، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه، ويكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعدما رأوا منه صلى الله عليه وسلم من الآيات‏:‏ ‏{‏إذ قال‏}‏ وأعاد وصفهم ولم يضمره تنصيصاً عليهم لبُعد ما يذكر من حالهم هذا من حالهم الأول فقال‏:‏ ‏{‏الحواريون‏}‏ وذكر أنهم نادوه باسمه واسم أمه فقالوا‏:‏ ‏{‏يا عيسى ابن مريم‏}‏ ولم يقولوا‏:‏ يا رسول الله ولا يا روح الله، ونحو هذا من التبجيل أو التعظيم ‏{‏هل يستطيع ربك‏}‏ بالياء مسنداً إلى الرب وبالتاء الفوقانية مسنداً إلى عيسى عليه السلام ونصب الرب، ومعناهما واحد يرجع إلى التهييج والإلهاب بسبب الاجتهاد في الدعاء بحيث تحصل الإجابة، وتكون هذه العبارة أيضاً للتلطف كما يقول الإنسان لمن يعظمه‏:‏ هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا‏؟‏ وهو يعلم أنه قادر، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول ‏{‏أن ينزل‏}‏ أي الرب المحسن إليك ‏{‏علينا مائدة‏}‏ وهي الطعام، ويقال أيضاً‏:‏ الخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان شيء يوضع عليه الطعام للأكل، هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وهي من ماده- إذا أعطاه وأطعمه‏.‏

ولما كان هذا ظاهراً في أنها سماوية، صرحوا به احترازاً عما عوَّدهم به صلى الله عليه وسلم من أنه يدعو بالقليل من الطعام فيبارك فيه فيمده الله فيكفي فيه القيام من الناس فقالوا‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ أي لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدمنا من الأمم‏.‏

ولما كان المقصود من هذا وعظنا وإرشادنا إلى أن لا نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم شيئاً، اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه، وتخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم؛ دل على ذلك بالنزوع من أسلوب الخطاب إلى الغيبة فقال مستأنفاً إرشاداً إلى السؤال من جوابهم‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ ولم يقل‏:‏ فقلت ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقاية تمنعكم عن الاجتراء على الاقتراح ‏{‏إن كنتم مؤمنين *‏}‏ أي بأنه قادر وإني رسوله، فلا تفعلوا فعل من وقف إيمانه على رؤية ما يقترح من الآيات‏.‏

ولما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل‏:‏ لم ينتهوا بل ‏{‏قالوا‏}‏ إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل ‏{‏نريد‏}‏ مجموع أمور‏:‏ ‏{‏أن نأكل منها‏}‏ فإنا جياع؛ ولما كان التقدير‏:‏ فتحصل لنا بركتها، عطف عليه‏:‏ ‏{‏وتطمئن قلوبنا‏}‏ أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه ‏{‏ونعلم‏}‏ أي بعين اليقين وحقه أن قد صدقتنا‏}‏ أي في كل ما أخبرتنا به ‏{‏ونكون عليها‏}‏ وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا‏:‏ ‏{‏من الشاهدين *‏}‏ أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع ‏{‏قال عيسى‏}‏ ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال‏:‏ ‏{‏ابن مريم اللهم‏}‏ فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏أنزل علينا‏}‏ وقدم المقصود فقال‏:‏ ‏{‏مائدة‏}‏ وحقق موضع الإنزال بقوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال‏:‏ ‏{‏تكون‏}‏ أي هي أو يوم نزولها ‏{‏لنا عيداً‏}‏ وأصل العيد كل يوم فيه جمع، ثم قيد بالسرور فالمعنى‏:‏ نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام- كما في الأحاديث الصادقة، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من «لنا»‏:‏ ‏{‏لأولنا وآخرنا‏}‏‏.‏

ولما ذكر الأمر الدنيوي، أتبعه الأمر الديني فقال‏:‏ ‏{‏وآية منك‏}‏ أي علامة على صدقي ‏{‏وارزقنا‏}‏ أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير‏:‏ فأنت خير المسؤولين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأنت خير الرّازقين *‏}‏ أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق ‏{‏قال الله‏}‏ أي الملك المحيط علماً وقدرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏115‏)‏ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏116‏)‏ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب، أكد الجواب فقال‏:‏ ‏{‏إني منزلها عليكم‏}‏ أي الآن بقدرتي الخاصة بي ‏{‏فمن يكفر بعد‏}‏ أي بعد إنزالها ‏{‏منكم‏}‏ وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام، فألقى شبهه عليه، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال‏:‏ ‏{‏فإني أعذبه‏}‏ أي على سبيل البتّ والقطع ‏{‏عذاباً لا أعذبه‏}‏ أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان ‏{‏أحداً من العالمين *‏}‏ وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها؛ قال أبو حيان‏:‏ وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير» انتهى‏.‏ قلت‏:‏ ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال‏:‏ لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي، ولا أعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب، فهو مرفوع حكماً، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه، فيدفع قول من قال‏:‏ إنها لم تنزل، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا‏:‏ لا حاجة لنا بها، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال‏:‏ كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت رجلاً من اليهود فقال‏:‏ ما لك يا أم شريك‏؟‏ قالت‏:‏ أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فتعالي فأنا أصحبك، قالت‏:‏ فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً، قال‏:‏ معي ماء ما لا تريدين ماءً، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال‏:‏ يا أم شريك‏!‏ تعالي إلى العشاء‏!‏ فقالت‏:‏ اسقني من الماء فإني عطشى، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال لها‏:‏ لا أسقيك حتى تهودي‏!‏ فقالت‏:‏ لا جزاك الله خيراً‏!‏ غربتني ومنعتني أن أحمل ماء، فقال‏:‏ لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي، فقالت‏:‏ لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت‏:‏ فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال‏:‏ يا أم شريك‏!‏ قلت‏:‏ والله قد سقاني الله، قال‏:‏ من أين أنزل عليك‏؟‏ من السماء‏؟‏ قلت‏:‏ نعم، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نفسها فقالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال‏:‏ كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لجارية لها‏:‏ بلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولي‏:‏ أم شريك تقرئك السلام، وقولي‏:‏ هذه عكة سمن أهديناها لك، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ علقوها ولا توكوها، فعلقوها في مكانها، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً، فقالت‏:‏ يا فلانة‏!‏ أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏!‏ فقالت‏:‏ قد والله انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال‏:‏ علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء، قال‏:‏ وروي ذلك من وجه آخر، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه‏.‏

وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً، قالت‏:‏ فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض، فتناولته بيدي حتى استمسكت به، قالت‏:‏ فشربت منه حتى رويت، قالت‏:‏ فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة‏.‏ قال‏:‏ وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال‏:‏ «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم- فذكر الحديث حتى قال‏:‏ فابتاع خبيباً- يعني ابن عدي الأنصاري- بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيراً، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت‏:‏ والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول‏:‏ إنه لرزق من الله رزق خبيباً»

الحديث‏.‏ ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله- وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر- عما كفر به النصارى، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 110‏]‏ ‏{‏وإذ قال الله‏}‏ أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء‏:‏ ‏{‏يا عيسى بن مريم‏}‏ وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم ‏{‏أأنت قلت للناس‏}‏ أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب، فكأنه لا ناس غيرهم ‏{‏اتخذوني‏}‏ أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني ‏{‏وأمي إلهين‏}‏‏.‏

ولما كانت عبادة غير الله- ولو كانت على سبيل الشرك- مبطلة لعبادة الله، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء، ولا يرضى الشرك إلا فقير، قال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، فيكون المعنى‏:‏ اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة، ولا دخل حينئذ للمشاركة‏.‏

ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه، وتأكيداً لما عندنا من العلم، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه، ذكره سبحانه قائلاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مفتتحاً بالتنزيه ‏{‏سبحانك‏}‏ أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال‏:‏ ‏{‏ما يكون لي‏}‏ أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً ‏{‏أن أقول‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏ما ليس لي‏}‏ وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال‏:‏ ‏{‏بحق‏}‏‏.‏

ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه‏:‏ أنت أعلم، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع‏:‏ ‏{‏إن كنت قلته‏}‏ أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي ‏{‏فقد علمته‏}‏ وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال‏:‏ ‏{‏تعلم‏}‏ ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات، وكان القول يطلق على النفس، فإذا انتفى انتفى اللساني، قالك ‏{‏ما في نفسي‏}‏ أي وإن اجتهدت في إخفائه، فإنه خلقك، وما أنا له إلا آلة ووعاء، فكيف به إن كنت أظهرته‏.‏

ولما أثبت له سبحانه ذلك، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة‏:‏ ‏{‏ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ أي ما أخفيته عني من الأشياء؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله‏:‏ ‏{‏إنك أنت‏}‏ أي وحدك لا شريك لك ‏{‏علام الغيوب *‏}‏‏.‏

ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين‏:‏ إشارة وعبارة، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها، يعبد الله تعالى بذلك‏:‏ ‏{‏ما قلت لهم‏}‏ أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء ‏{‏إلا ما أمرتني به‏}‏ ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا‏}‏ أي ما أمرتهم إلا بعبادة ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال‏:‏ ‏{‏ربي وربكم‏}‏ أي أنا وأنتم في عبوديته سواء، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة، وهو من بدائع الأمثلة‏.‏

ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال‏:‏ ‏{‏وكنت عليهم‏}‏ أي خاصة لا على غيرهم‏.‏

ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال معبراً بصيغة المبالغة‏:‏ ‏{‏شهيداً‏}‏ أي بالغ الشهادة، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته ‏{‏ما دمت فيهم‏}‏ وأشار إلى الثناء على الله بقوله‏:‏ ‏{‏فلما توفيتني‏}‏ أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي ‏{‏كنت أنت‏}‏ أي وحدك ‏{‏الرقيب‏}‏ أي الحفيظ القدير ‏{‏عليهم‏}‏ لا يغيب عليك شيء من أحوالهم، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات ‏{‏وأنت على كل شيء‏}‏ أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد ‏{‏شهيد *‏}‏ أي مطلع غاية الاطلاع، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏118‏)‏ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏119‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الذي سلف كله سؤالاً وجواباً وإخباراً حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيراً إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل مطلقاً، وغفران الشرك ليس ممتنعاً بالذات، قال‏:‏ ‏{‏إن تعذبهم‏}‏ أي القائلين بهذا القول ‏{‏فإنهم عبادك‏}‏ أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل ‏{‏وإن تغفر لهم‏}‏ أي تمح ذنوبهم عيناً وأثراً ‏{‏فإنك أنت‏}‏ أي خاصة أنت ‏{‏العزيز‏}‏ فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن ‏{‏الحكيم *‏}‏ فلا تفعل شيئاً إلا في أعلى درج الإحكام، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه‏.‏

ولما انقضى جوابه عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه الجليل، تشوف السامع إلى جواب الله له، فقال تعالى مشيراً إلى كون جوابه حقاً ومضمونه صدقاً، منبهاً على مدحه حاثاً على ما بنيت عليه السورة من الوفاء بالعقود‏:‏ ‏{‏قال الله‏}‏ أي الملك المحيط بالجلال والإكرام جواباً لكلامه ‏{‏هذا‏}‏ أي مجموع يوم القيامة؛ ولما كان ظهور الجزاء النافع هو المقصود قال‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وقراءة نافع بالنصب غير منون أيضاً لإضافته إلى متمكن بمعنى‏:‏ هذا الذي ذكر واقع؛ أو قال الله هذا الذي تقدم يوم ‏{‏ينفع الصادقين‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف نفعاً لا يضرهم معه شيء ‏{‏صدقهم‏}‏ أي الذي كان لهم في الدنيا وصفاً ثابتاً، فحداهم على الوفاء بما عاهدوا عليه، فكأنه قيل‏:‏ ينفعهم بأيّ شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏لهم جنات‏}‏ أي هي من ريّ الأرض الذي يستلزم زكاء الشجر وطيب الثمر بحيث ‏{‏تجري‏}‏ ولما كان تفرق المياه في الأراضي أبهج، بعض فقال‏:‏ ‏{‏من تحتها الأنهار‏}‏ ولما كان مثل هذا لا يريح إلا إذا دام قال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ وأكد معنى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك لا يتم إلا برضى المالك قال‏:‏ ‏{‏رضي الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏عنهم‏}‏ أي بجميع ما له من الصفات، وهو كناية عن أنه أثابهم بما يكون من الراضي ثواباً متنوعاً بتنوع ما له من جميع صفات الكمال والجمال؛ ولما كان ذلك لا يكمل ويبسط ويجمل إلا برضاهم قال‏:‏ ‏{‏ورضوا عنه‏}‏ يعني أنه لم يدع لهم شهوة إلا أنالهم إياها، وقال ابن الزبير بعدما أسلفته عنه‏:‏ فلما طلب تعالى المؤمنين بالوفاء فيما نقض به غيرهم، وذكّرهم ببعض ما وقع فيه النقض وما أعقب ذلك فاعله، وأعلمهم بثمرة التزام التسليم والامتثال، أراهم جل وتعالى ثمرة الوفاء وعاقبته، فقال تعالى

‏{‏وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أنت قلت للناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ إلى قوله- ‏{‏هذا يوم ينفع الصادقين‏}‏- إلى آخرها‏.‏ فيحصل من جملتها الأمر بالوفاء فيما تقدمها وحالُ من حاد ونقض، وعاقبة من وفى، وأنهم الصادقون، وقد أمرنا أن نكون معهم ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 119‏]‏- انتهى‏.‏

ولما كان سبحانه قد أمرهم أول السورة بالوفاء شكراً على ما أحل لهم في دنياهم، ثم أخبر أنه زاد الشاكرين منهم ورقاهم إلى أن أباحهم أجلّ النفائس في أخراهم، ووصف سبحانه هذا الذي أباحه لهم إلى أن بلغ في وصفه ما لا مزيد عليه، أخذ يغبطهم به فقال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي لا غيره ‏{‏الفوز العظيم *‏}‏‏.‏

ولما كان هذا الذي أباحه لهم وأباحهم إياه لا يكون إلا بأسباب لا تسعها العقول، ولا تكتنه بفروع ولا أصول، علل إعطاءه إياه وسهولته لديه بقوله مشيراً إلى أن كل ما ادعيت فيه الإلهية مما تقدم في هذه السورة وغيرها بعيد عن ذلك، لأنه ملكه وفي ملكه وتحت قهره‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الذي لا تكتنه عظمته ولا تضعف قدرته، لا لغيره ‏{‏ملك السماوات‏}‏ بدأ بها لأنها أشرف وأكبر، وآياتها أدل وأكثر ‏{‏والأرض‏}‏ على اتساعهما وعظمهما وتباعد ما بينهما ‏{‏وما فيهن‏}‏ أي من جوهر وعرض‏.‏

ولما كان ذلك أنهى ما نعلمه، عمم بقوله‏:‏ ‏{‏وهو على كل شيء‏}‏ أي من ذلك وغيره من كل ما يريد ‏{‏قدير *‏}‏ فلذلك هو يحكم ما يريد لأنه هو الإله وحده، وهو قادر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء، وإحلال ما شاء وتحريم ما شاء، والحكم بما يريد ونفع الصادقين الموفين بالعقود الثابتين على العهود، لأن له ملك هذه العوالم وما فيها مما ادعى فيه الإلهية من عيسى وغيره، والكل بالنسبة إليه أموات، بل موات جديرون بأن يعبر عنهم ب «ما» لا ب «من»، فمن يستحق معه شيئاً ومن يملك معه ضراً أو نفعاً‏!‏ وقد انطبق آخر السورة على أولها كما ترى أي انطباق، واتسقت جميع آياتها أخذاً بعضها بحجز بعض أيّ اتساق؛ فسبحان من أنزل هذا القرآن على أعظم البيان‏!‏ مخجلاً لمن أباه من الأمم، معجزاً لأصحاب السيف والقلم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏