فصل: تفسير الآيات رقم (21- 26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ خسروا ففاتهم الإيمان، لأنهم ظلموا بكتمان الشهادة، فكان الظلم سبب خسرانهم، فمن أظلم منهم‏!‏ عطف عليه ما يؤذن بأنهم بدلوا كتابهم، أو نسبوا إليه ما ليس فيه، فقال واضعاً للظاهر موضع ضميرهم لذلك‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله كذباً‏}‏ كهؤلاء الذين حرفوا كتابهم ونسبوا إلى الله ما لم يقله، زيادة كتبوها بأيديهم لا أصل ها، إضلالاً منهم لعباده ‏{‏أو كذب بآياته‏}‏ أي الآتي بها الرسل كالقرآن وغيره من المعجزات كالمشركين، لا أحد أظلم منهم فهم لا يفلحون ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ أي فكيف بالأظلمين‏!‏‏.‏

ولما كان معنى هذا أنهم أكذب الناس، دل عليه بكذبهم يوم الحشر بعد انكشاف الغطاء فقال‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي اذكر كذبهم على الله وتكذيبهم في هذه الدار، واذكر أعجب من ذلك، وهو كذبهم في عالم الشهادة عند كشف الغطاء وارتفاع الحجب يوم ‏{‏نحشرهم‏}‏ أي نجمعهم بما لنا من العظمة وهم كارهون صاغرون ‏{‏جميعاً‏}‏ أي أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ومعبوداتهم، وأشار إلى عظمة ذلك اليوم وطوله ومشقته وهوله بقوله بأداة التراخي‏:‏ ‏{‏ثم نقول‏}‏ أى بما لنا من العظمة التي انكشفت لهم أستارها وتبدت لهم بحورها وأغوارها توبيخاً وتنديماً ‏{‏للذين أشركوا‏}‏ أي سموا شيئاً من دوننا إلهاً وعبدوه بالفعل من الأصنام أو عزير أو المسيح أو الظلمة أو النور أو غير ذلك، أو بالرضى بالشرك، فإن الرضى بالشيء فعل له لا سيما إن انضم إليه تكذيب المحق والشهادة للمبطل بأن دينه خير ‏{‏أين شركاؤكم‏}‏ أضافهم إلى ضميرهم لتسميتهم لهم بذلك ‏{‏الذين كنتم تزعمون‏}‏ أي أنهم شركاؤنا بالعبادة أو الشهادة بما يؤدي إليها، ادعوهم اليوم لينقصوكم مما نريد من ضركم، أو يرفعوكم مما نريد من وضعكم، وسؤالهم هذا يجوز أن يكون مع غيبة الشركاء عنهم وأن يكون عند إحضارهم لهم، فيكون الاستفهام عما كانوا يظنون من نفعهم، فكأن غيبته غيبتهم‏.‏

ولما كان إخبارهم بغير الواقع في ذلك اليوم مستبعداً بعد رفع الحجاب عن الأهوال وإظهار الزلازل والأوجال‏.‏ أشار إليه بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ أي عاقبة مخالطتنا لهم بهذا السؤال وأمثاله من البلايا التي من شأنها أن يميل ما خالطته فتحيله- ولو أنه جبل- عن حاله بما ناله من قوارعه وزلزاله إلاّ كذبهم في ذلك الجمع، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إلاّ أن قالوا‏}‏ ثباتاً منهم فيما هم عريقون فيه من وصف الكذب‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ فذكروا الاسم الأعظم الذي تندك لعظمته الجبال الشم، وتنطق بأمره الأحجار الصم، الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى التي ظهر لهم كثير منها في ذلك اليوم، وأكدوا ذلك بذكر الوصف المذكر بتربيتهم ودوام الإحسان إليهم فقالوا‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ فلم يقنعوا بمجرد الكذب حتى أقسموا، ولا بمجرد القسم حتى ذكروا الاسم الجامع والوصف المحسن ‏{‏ما كنا مشركين‏}‏ أي إن تكذيبهم لك أوصلهم إلى حد يكذبون فيه في ذلك اليوم بعد كشف الغطاء تطمعاً بما لا ينفعهم، كما ترى الحائر المدهوش في الدنيا يفعل مثل ذلك فهو إيئاس من فلاح الجميع‏:‏ المشركين وأهل الكتاب، أو يكون المعنى تنديماً لهم وتأسيفاً‏:‏ أنه لم يكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به في لزومه والافتخار به والقتال عليه- لكونه دين الآباء- إلاّ جحوده والبراءة منه والحلف على الانتفاء من التدين به، والمعنى على قراءتي النصب والرفع في «فتنة» على جعلها خبراً أو اسماً واحداً، فمعنى قراء النصب‏:‏ لم يكن شيء إلاّ قولهم- أي غير قولهم الكذب- فتنتهم، أي لم يكن شيء فتنتهم إلاّ هذا القول، فهذا القول وحده فتنتهم، فنفى عن فتنتهم وسلب عنها كل شيء غير قولهم هذا، فالفتنة مقصورة على قولهم الكذب، والكذب قد يكون ثابتاً لغيرها، أي إنهم يكذبون من غير فتنة، بل في حال الرخاء، وهذا بعينه معنى قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص برفع فتنة، أي لم تكن فتنتهم شيئاً غير كذبهم، فقد نفيت فتنتهم عن كل شيء غير الكذب، فانحصرت فيه، ويجوز أن يكون ثابتاً في حال غيرها- على ما مر، وهذا التقدير نفيس عزيز الوجود دقيق المسلك- يأتي إن شاء الله تعالى عند

‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏ في الأنفال ما ينفع هنا فراجعه‏.‏

ولما كان هذا من أعجب العجب، أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏انظر‏}‏ وبالاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏كيف كذبوا‏}‏ وبالإشارة إلى أنهم فعلوه مع علمهم بما انكشف لهم من الغطاء أنه لا يجديهم بقوله‏:‏ ‏{‏على أنفسهم‏}‏ وهو نحو قوله ‏{‏فيحلفون له كما يحلفون لكم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 18‏]‏- الآية‏.‏

ولما كان قولهم هذا مرشداً إلى أن شركاءهم غابوا عنهم، فلم ينفعوهم بنافعة، وكان الإعلام بفوات ما أنهم مقبل عليه فرح به، ساراً لخصمه جالباً لغمه، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏وضل‏}‏ أي غاب ‏{‏عنهم‏}‏ إما حقيقة أو مجازاً، أو هما بالنظر إلى وقتين، ليكون إنكاراً ‏{‏ما كانوا يفترون‏}‏ أي يتعمدون الكذب في ادعاء شركته عناداً لما على ضده من الدلائل الواضحة‏.‏

ولما علم أن هذه الآيات قد ترابطت حتى كانت آية واحدة، وختم بأن مضمون قوله ‏{‏فقد كذبوا بالحق لما جاءهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 5‏]‏- الآية، قد صار وصفاً لهم ثابتاً حتى ظهر في يوم الجمع، قسم الموسومين بما كانت تلك الآية سبباً له، وهو الإعراض عن الآيات المذكور في قوله ‏{‏إلاّ كانوا عنها معرضين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏، فكان كأنه قيل‏:‏ فمنهم من أعرض بكليته، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏ أي يصغي بجهده كما في السيرة عن أبي جهل بن هشام وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق أن كلاًّ منهم جلس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يستمع القرآن‏.‏

لا يعلم أحد منهم بمجلس صاحبه، فلما طلع الفجر انصرفوا فضمهم الطريق فتلاوموا وقالوا‏:‏ لو رآكم ضعفاؤكم لسارعوا إليه، وتعاهدوا على أن لا يعودوا، ثم عادوا تمام ثلاث ليال، ثم سأل الأخنس أبا سفيان عما سمع فقال‏:‏ سمعت أشياء عرفتها وعرفت المراد منها، وأشياء لم أعرفها ولم أعرف المراد منها، فقال‏:‏ وأنا كذلك، ثم سأل أبا جهل فأجاب بما يعرف منه أنه علم صدقه وترك تصديقه حسداً وعناداً، وذلك هو المراد من قوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي والحال أنا قد جعلنا ‏{‏على قلوبهم أكنة‏}‏ أي أغطية، جمع كنان أي غطاء ‏{‏أن‏}‏ أي كراهة أن ‏{‏يفقهوه‏}‏ أي القرآن ‏{‏وفي آذانهم وقراً‏}‏ أي ثقلاً يمنع من سمعه حق السمع، لأنه يمنع من وعيه الذي هو غاية السماع، فهم لا يؤمنون بما يسمع منك لذلك‏.‏

ولما ذكر ما يتعلق بالسمع، ذكر ما يظهر للعين، معبراً بما يعم السمع وغيره من أسباب العلم فقال‏:‏ ‏{‏وإن يروا‏}‏ أي بالبصر أو البصيرة ‏{‏كل آية‏}‏ أي من آياتنا سواه ‏{‏لا يؤمنوا بها‏}‏ لما عندهم من العناد والنخوة في تقليد الآباء والأجداد ‏{‏حتى‏}‏ كانت غايتهم في هذا الطبع على قلوبهم أنهم مع عدم فقههم ‏{‏إذا جاءوك يجادلونك‏}‏ أي بالفعل أو بالقوة، والغاية داخلة، وكأنه قيل تعجباً‏:‏ ماذا يقولون في جدالهم‏؟‏ فقال مظهراً للوصف الذي أداهم إلى ذلك‏:‏ ‏{‏يقول الذين كفروا‏}‏ أي غطوا لما هو ظاهر لعقولهم وهو معنى الطبع ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي وصل إلينا ‏{‏إلا أساطير‏}‏ جمع سطور وأسطر جمع سطر وهي أيضاً جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأسطور، وبالهاء في الكل ‏{‏الأولين‏}‏ وقد قال ذلك النضر بن الحارث، فصدق قوله إخبار هذه الآية ‏{‏وهم‏}‏ حال من فاعل ‏{‏يستمع‏}‏ أي يستمعون إليك والحال أنهم ‏{‏ينهون عنه‏}‏ أي عن الاستماع أو عن اتباع القرآن ‏{‏وينأون‏}‏ أي يبعدون ‏{‏عنه‏}‏ أي كما وقع لأبي جهل وصاحبيه في المعاهدة على ترك المعاودة للسماع وما يتبعه ‏{‏وإن‏}‏ أي وما ‏{‏يهلكون‏}‏ أي بعبادتهم ومكابدتهم ‏{‏إلاّ أنفسهم‏}‏ أي وما هم بضاريك ولا بضاري أحد من أتباعك فيما يقدح في المقصود من إرسالك من إظهار الدين ومحو الشرك وإذلال المفسدين ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أي وما لهم نوع شعور بما يؤديهم إليه الحال، بل هم كالبهائم، بل هي أصلح حالاً منهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما جعل عدم إيمانهم في هذه بشيء من الآيات موصلاً لهم إلى غاية من الجهل عظيمة موئسة من ادعائهم في هذه الدار، وهي مجادلتهم له صلى الله عليه وسلم، وختم الآية بما رأيت من عظيم التهديد استشرفت النفس إلى معرفة حالهم عند ردهم إلى الله تعالى والكشف لهم عما هددوا به، فأعلم نبيهم صلى الله عليه وسلم أن حالهم إذ ذاك الإيمان، حيث يسر غاية السرور تصديقهم له، وتمنيهم متابعته لما يركبهم من الذل ويحيط بهم من الصغار، ولا يزيدهم ذلك إلاّ ضرراً وعمى وندماً وحسرة، فكأنه قيل‏:‏ فلو رأيت حالهم عند كشف الغطاء- وهو المطلع- لرأيتهم يؤمنون‏:‏ ‏{‏ولو ترى إذ‏}‏ أي حين ‏{‏وقفوا‏}‏ في الحشر، وبني للمجهول لأن المنكىّ الإيقاف، لا كونه من معين ‏{‏على النار‏}‏ أي عندها ليدخلوها مشرفين على كل ما فيها من أنواع النكال، وذلك أعظم في النكاية أو على الجسر وهو على الصراط وهي تحتهم، أو عرفوا حقيقتها ومقدار عذابها من قولك‏:‏ أوقفته على كذا- إذا عرفته إياه ‏{‏فقالوا‏}‏ تمنياً للمحال ‏{‏يا ليتنا نرد‏}‏ أي إلى الدنيا‏.‏

ولما كان التقدير بشهادة قراءة من نصب الفعلين- جواباً للتمني- أو أحدهما‏:‏ فنطيع، عطف على الجملة قوله‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنا لا، أو ونحن لا ‏{‏نكذب‏}‏ إن رددنا ‏{‏بآيات ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا ‏{‏ونكون من المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان، والتقدير عند ابن عامر في نصب الثالث‏:‏ ليتنا نرد، وليتنا لا نكذب فنسعد وأن نكون، وعلى قراءة حمزة والكسائي وحفص بنصب الفعلين‏:‏ ليتنا نرد فنسعد، وأن لا نكذب وأن نكون، والمعنى‏:‏ لو رأيت إيقافهم ووقوفهم في ذلك الذل والانكسار والخزي والعار وسؤالهم وجوابهم لرأيت أمراً هائلاً فظيعاً ومنظراً كريهاً شنيعاً، ولكنه حذف تفخيماً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، وجاز حذفه للعلم به في الجملة‏.‏

ولما أخبرنا- في قراءة الرفع- عن أنفسهم بما تمنوا لأجله الرد، وتضمنت قراءة النصب الوعد، فإنه كما لو قال قائل‏:‏ ليت الله يرزقني مالاً فأكافئك على صنيعك، فإنه ينجر إلى‏:‏ إن رزقني الله مالاً كافأتك، فصار لذلك مما يقبل التكذيب، أضرب عنه سبحانه تكذيباً لهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أي ليس الأمر كما قالوا، لأن هذا التمني ليس عن حقيقة ثابتة في أنفسهم من محبة مضمونه وثمرته، بل ‏{‏بدا‏}‏ أي ظهر ‏{‏لهم‏}‏ من العذاب الذي لا طاقة لهم به ‏{‏ما كانوا يخفون‏}‏ أي من أحوال الآخرة ومرائهم على باطل‏!‏ ولما كان إخفاؤهم ذلك في بعض الزمان قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي يدعون أنه خفي، بل لا حقيقة له، ويسترون ما تبديه الرسل من دلائله عناداً منهم مع أنه أوضح من شمس النهار بما يلبسون من الهيبة فلذلك تمنوا ما ذكروا ‏{‏ولو ردوا‏}‏ أي إلى الدنيا ‏{‏لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ أي من الكفر والفضائح التي كانوا عليها وستر ما اتضح لعقولهم من الدلائل ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ أي فيما أخبروا به عن أنفسهم من مضمون تمنيهم أنهم يفعلونه لو ردوا، وأكد طبعهم على الكفر بقوله عطفاً على قوله ‏{‏لعادوا‏}‏‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي بعد الرد ما كانوا يقولونه قبل الموت في إنكار البعث ‏{‏إن هي أي ما هذه الحياة التي نحن ملابسوها ‏{‏إلاّ حياتنا الدنيا‏}‏ أي التي كنا عليها قبل ذلك ‏{‏وما نحن‏}‏ وأغرقوا في النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏بمبعوثين‏}‏ أي بعد أن نموت، وما رؤيتنا لما رأينا قبل هذا من البعث إلاّ سحر لا حقيقة له، ولم ينفعهم مشاهدة البعث بل ضرتهم، هذا محتمل وظاهر، ولكن الأنسب لسياق الآيات قبل وبعد أن يكون هذا حكاية لقولهم له صلى الله عليه وسلم في هذه الدار عطفاً على قوله

‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ على الوجه الأول، وقوله‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ متصل بذلك، أي قالوا هذا القول لما أخبرتهم بالبعث، فساءك ذلك من قولهم والحال أنك لو رأيت اعترافهم به إذا سألهم خالقهم لسرك ذلك من ذلهم وما يؤول إليه أمرهم، وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم ذلك، وقولُه‏:‏ ‏{‏إذ وقفوا على ربهم‏}‏ مجازاً عن الحبس في مقام من مقامات الجلال بما اقتضاه إضافة الرب إليهم، أي الذي طال إحسانه إليهم وحلمه عنهم، فأظهر لهم ما أظهر في ذلك المقام من تبكيتهم وتوبيخهم وتقريعهم، وأطلعهم بما يقتضيه أداة الاستعلاء- على ما له سبحانه من صفات العظمة من الكبرياء والانتقام من التربية إذ لم يشكروا إحسانه في تربيتهم، وسياق الآية يقتضي أن يكون الجواب‏:‏ لرأيتهم قد منعتهم الهيبة وعدم الناصر وشدة الوجل من الكلام، فكأن سائلاً قال‏:‏ المقام يرشد إلى ذلك حتى كأنه مشاهد فهل يكلمهم الله لما يشعر به التعبير بوصف الربوبية؛ قيل‏:‏ نعم، لكن كلام إنكار وإخزاء وإذلال ‏{‏قال أليس هذا‏}‏ أي الذي أتاكم به رسولي من أمر البعث وغيره مما ترونه الآن من دلائل كبريائي ‏{‏بالحق‏}‏ أي الأمر الثابت الكامل في الحقية الذي لا خيال فيه ولا سحر ‏{‏قالوا‏}‏ أي حين إيقافهم عليه، فكان ما أراد‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏، وزادوا على ما أمروا به في الدنيا القسم فقالوا‏:‏ ‏{‏وربنا‏}‏ أي الذي أحسن إلينا بأنواع الإحسان، وكأن كلامهم هذا منزل على حالات تنكشف لهم فيها أمور بعد أخرى، كل أمر أهول مما قبله، ويوم القيامة- كما قال ابن عباس رضي الله عنهما- ذو ألوان‏:‏ تارة لا يكلمهم الله، وتارة يكلمهم فيكذبون، وتارة يسألهم عن شيء فينكرون، فتشهد جوارحهم، وتارة يصدقون كهذا الموقف ويحلفون على الصدق‏.‏

ولما أقروا قهراً بعد كشف الغطاء وفوات الإيمان بالغيب بما كانوا به يكذبون، تسبب عنه إهانتهم، فلذا قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الله مسبباً عن اعترافهم حيث لا ينفع، وتركهم في الدنيا حيث كان ينفع ‏{‏فذوقوا العذاب‏}‏ أي الذي كنتم به توعدون ‏{‏بما كنتم تكفرون‏}‏ أي بسبب دوامكم على ستر ما دلتكم عليه عقولكم من صدق رسولكم، ولا شك أن الكلام- وإن كان على هذه الصورة- فيه نوع إحسان، لأنه أهون من التعذيب مع الإعراض في مقام ‏{‏اخسؤوا فيها ولا تكلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ ولذلك كان ذلك آخر المقامات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 34‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره، فقال تحقيقاً لذلك، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب‏:‏ ‏{‏قد خسر‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة‏}‏ أي الحقيقة، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته، وحذرهم منها بقوله‏:‏ ‏{‏بغتة‏}‏ أي باغتة، أو ذات بغتة، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور ‏{‏قالوا يا حسرتنا‏}‏ أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام‏!‏ فإنه لا نديم لنا سواك، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه، لينتهي الإنسان عن أسبابها ‏{‏على ما فرطنا‏}‏ أي قصرنا ‏{‏فيها‏}‏ أي بسبب الساعة، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا، فأعرضوا عما دعوا إليه من تزكية النفس، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء، فلا رأس مال ولا ربح، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة، ولا خسران أعظم من هذا‏.‏

ولما كان هذا أمراً مفظعاً، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي وقالوا ذلك والحال أنهم ‏{‏يحملون أوزارهم‏}‏ أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل، وحقق الأمر وصوره بقوله‏:‏ ‏{‏على ظهورهم‏}‏ لاعتقاد الحمل عليه، كما يقال‏:‏ ثقل عليك كلام فلان، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً، فيكلفوا حملها؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام‏:‏ ‏{‏ألا ساء ما يزرون *‏}‏‏.‏

فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد، ولم يبق فيه لذي لب وقفة، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال، عكس ما كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏وما الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

ولما كان السياق للخسارة، وكانت أكثر ما تكون من اللعب- وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع، ويسرع انقضاؤه- قدمه فقال‏:‏ ‏{‏إلا لعب ولهو‏}‏ أي للأشقياء، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه، فيكون سبباً للغفلة عما ينفع، فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس أثاروا الشهوات بالملاهي، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا، فتحققت سرعته، لأن كل آتٍ قريب، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب، يندم الإنسان على ما فرط فيها، كما يندم اللاعب- إن كان له عقل- على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم‏.‏

ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى‏:‏ وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء، أتبعه قوله مؤكداً‏:‏ ‏{‏وللدار الآخرة خير‏}‏ ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة، خصص فقال‏:‏ ‏{‏للذين يتقون‏}‏ أي يوجدون التقوى، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه، فهو احتباك؛ ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره، تسبب عن إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكراً‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون *‏}‏‏.‏

ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم، وأطال في الحث على مجادلتهم، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما هو دأب المعاند المغلوب، وأن ذلك يحزنه صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة، كان الحال محتاجاً إلى التسلية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قد نعلم‏}‏ والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال ‏{‏إنه ليحزنك‏}‏ أي يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها ‏{‏الذي يقولون‏}‏ أي من تكذيبك، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك، وعلمنا أنه يبلغ منك، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له ويجزي عاصيه، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر، وهو كقوله تعالى في سورة يس

‏{‏فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 76‏]‏ ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه، فالنهي عنه إنما هو نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين، ومن المعلوم أنهما ضدان، فلا تنال إحداهما إلاّ بضد ما للأخرى، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي»‏.‏

ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فإنهم‏}‏ أي فلا يحزنك ذلك فإنهم ‏{‏لا يكذبونك‏}‏ بل أنت عندهم الأمين، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك، والآية من الاحتباك‏:‏ حذف من الجملة الأولى- إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم وأدباً معه- سبب الحزن، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سمي «الأخنس»، وكان اسمه «أبي»، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس به فقال‏:‏ يا أبا الحكم‏!‏ أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل‏:‏ ويحك‏!‏ والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش‏!‏ وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏الظالمين‏}‏ في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، اي الذين كانوا في مثل الظلام ‏{‏بآيات‏}‏ أي بسبب آيات ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله ‏{‏يجحدون *‏}‏ قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة‏:‏ أي يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله

‏{‏وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ ونحوها، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال‏:‏ جحد الشيء جحداً وجحوداً‏:‏ أنكره وهو عالم به‏.‏ هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب، أو ما يؤول إليه، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك‏.‏

ولما سلاه بوعده النصرة المسببة عن علم المرسل القادر، وبأن تكذيبهم إنما هو له سبحانه، وهو مع ذلك يصبر عليهم ويحلم عنهم، بل ويحسن إليهم بالرزق والمنافع، زاده أن ذلك سنة في إخوانه من الرسل فقال‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ ولما كان المنكي هو التكذيب لا كونه من معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏كذبت رسل‏}‏‏.‏

ولما كان تكذيبهم لم يستغرق الزمان، وكان الاشتراك في شيء يهوّنه، وكلما قرب الزمان كان أجدر بذلك أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ بأن جحد قومهم ما يعرفون من صدقهم وأمانتهم كما فعل بك ‏{‏فصبروا‏}‏ أي فتسبب عن تكذيب قومهم لهم أنهم صبروا ‏{‏على ما كذبوا وأوذوا‏}‏ أي فصبروا أيضاً على ما أوذوا، ثم أشار إلى الوعد بالنصر بشرط الصبر فقال‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ أي وامتد صبرهم حتى ‏{‏آتاهم نصرنا‏}‏ أي فليكن لك بهم أسوة، وفيهم مسلاة، فاصبر حتى يأتيك النصر كما أتاهم، فقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون في قولنا ‏{‏فإن حزب الله هم الغالبون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏ولا مبدل لكلمات الله‏}‏ أي لأن له جميع العظمة فلا كفوء له، ودل سبحانه على صعوبة مقام الصبر جداً بالتأكيد فقال‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك‏}‏ ودل على عظيم ما تحملوا بقوله‏:‏ ‏{‏من نبإى المرسلين *‏}‏ أي خبرهم العظيم في صبرهم واحتمالهم وطاعتهم وامتثالهم ورفقهم بمن أرسلوا إليهم ونصرنا لهم على من بغى عليهم، ومجيء نبأهم تقدم إجمالاً وتفصيلاً، أما إجمالاً ففي مثل قوله ‏{‏وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏، ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ وأما تفصيلاً ففي ذكر موسى وعيسى وغيرهما؛ وفي قوله ‏{‏فصبروا‏}‏ أدل دليل على ما تقدم من أن النهي عن الحزن نهي عن تابعه المؤدي إلى عدم الصبر، والتعبير بمن التبعيضية تهويل لما لقوا، فهو أبلغ في التعزية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما سلاه بما هو في غاية الكفاية في التسلية، أخبره بأنه لا حيلة له غير الصبر، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فتسلّ واصبر كما صبروا، وليصغر عندك ما تلاقي منهم في جنب الله‏:‏ ‏{‏وإن كان كبر‏}‏ أي عظم جداً ‏{‏عليك إعراضهم‏}‏ أي عما يأتيهم به من الآيات الذي قدمنا الإخبار عنه بقولنا ‏{‏وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ وأردت أن تنتقل- في إخبارنا لك بأنه لا ينفعهم الآيات المقترحات- من علم اليقين إلى عين اليقين ‏{‏فإن استطعت أن تبتغي‏}‏ أي تطلب بجهدك وغاية طاقتك ‏{‏نفقاً‏}‏ أي منفذاً ‏{‏في الأرض‏}‏ تنفذ فيه إلى ما عساك تقدر على الانتهاء إليه ‏{‏أو سلماً في السماء‏}‏ أي جهة العلو لترتقي فيه إلى ما تقدر عليه ‏{‏فتأتيهم بآية‏}‏ أي ما اقترحوا عليك فافعل لتشاهد أنهم لا يزدادون عند إتيانك بها إلا إعراضاً كما أخبرناك، لأن الله قد شاء ضلال بعضهم، والمراد بهذا بيان شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم بأنه لو قدر على أن يتكلف النزول إلى تحت الأرض أو فوق السماء فيأتيهم بما يؤمنون به لفعل‏.‏

ولما كان هذا السياق ربما أوهم شيئاً في القدرة، نفاه إرشاداً إلى تقدير ما قدرته فقال‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله‏}‏ أي الذي له العظمة الباهرة والقدرة الكاملة القاهرة ‏{‏لجمعهم على الهدى‏}‏ أي لأن قدرته شاملة، وإيمانهم في حد ذاته ممكن، ولكنه قد شاء افتراقهم بإضلال بعضهم؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم- بعد إعلام الله له بما أعلم من حكمه بأن الآيات لا تنفع من حتم بكفره- حريصاً على إجابتهم إلى ما يقترحونه رجاء جمعهم على الهدى لما طبع عليه من مزيد الشفقة على الغريب فضلاً عن القريب، مع ما أوصاه الله به ليلة الإسراء من غير واسطة- كما أفاده الحرالي- من إدامة الشفقة على عباده والرحمة لهم والإحسان إليهم واللين لهم وإدخال السرور عليهم، فتظافر على ذلك الطبع والإيصاء حتى كان لا يكف عنه إلا لأمر جازم أو نهي مؤكد صارم، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلا تكونن‏}‏ فأكد الكلام سبحانه ليعلم صلى الله عليه وسلم أنه قد حتم بافتراقهم، فيسكن إلى ذلك ويخالف ما جبل عليه من شدة الشفقة عليهم ‏{‏من الجاهلين *‏}‏ أي إنك أعلم الناس مطلقاً ولك الفراسة التامة والبصر النافذ والفكرة الصافية بمن لم تعاشره، فكيف بمن بلوتهم ناشئاً وكهلاً ويافعاً‏!‏ فلا تعمل بحجة ما أوصاك الله به من الصبر والصفح، وجبلك عليه من الأناة والحلم في ابتغاء إيمانهم بخلاف ما يعلم من خسرانهم، فلا تطمع نفسك فيما لا مطمع فيه، فإن ما شاءه لا يكون غيره، فهذه الآية وأمثالها- مما في ظاهره غلظة- من الدلالة على عظيم رتبته صلى الله عليه وسلم ومن لطيف أمداح القرآن له- كما يبين إن شاء الله تعالى في سورة التوبة عند قوله تعالى

‏{‏عفا الله عنك‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏‏.‏

ولما أفهم هذا القضاء الحتم أنه قد صار حالهم حال من حتم بالموت، فلا يمكن إسماعه إلا الله، ولا يمكن أن يستجيب عادة، قال‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب‏}‏ أي في مجاري عاداتكم ‏{‏الذين يسمعون‏}‏ أي فيهم قابلية السمع لأنهم أحياء فيتدبرون حينئذ ما يلقى إليهم فينتفعون به، وهؤلاء قد ساووا الموتى في عدم قابلية السماع للختم على مشاعرهم ‏{‏والموتى‏}‏ أي كلهم حساً ومعنى ‏{‏يبعثهم الله‏}‏ أي الملك المحيط علماً وقدرة، فهو قادر على بعثهم بإفاضة الإيمان على الكافر وإعادة الروح إلى الهالك فيسمعون حينئذ، فالآية من الاحتباك‏:‏ حذف من الأول الحياة لدلالة ‏{‏الموتى‏}‏ عليها، ومن الثاني السماع لدلالة ‏{‏يسمعون‏}‏ عليه‏.‏

ولما قرر أن من لا يؤمن كالميت، حثاً على الإيمان وترغيباً فيه، وقدر قدرته على البعث، خوَّفَ من سطواته بقوله‏:‏ ‏{‏ثم إليه‏}‏ أي وحده ‏{‏يرجعون *‏}‏ أي معنى في الدنيا فإنه قادر على كل ما يشاء منهم، لا يخرج شيء من أحوالهم عن مراده أصلاً وحساً بعد الموت، فيساقون قهراً إلى موقف يفصل فيه بين كل مظلوم وظالمه‏.‏

ولما سلاه صلى الله عليه وسلم فيما أخبرته من أقوالهم بما شرح صدره وسر خاطره، وأعلمه تخفيفاً عليه أن أمرهم إنما هو بيده، ذكَّره بعضَ كلامهم الآئل إلى التكذيب عقب إخباره بالحشر الذي يجازي فيه كلاًّ بما يفعل، فقال عطفاً على قوله ‏{‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏ وقوله ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه الملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ يعجب منه تعجيباً آخر‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي مغالطة أو عناداً أو مكابرة ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ‏{‏نزل‏}‏ أي بالتدريج ‏{‏عليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏آية‏}‏ أي واحدة تكون ثابتة بالتدريج لا تنقطع، وهذا منهم إشارة إلى أنهم لا يعدون القرآن آية ولا شيئاً مما رأوه منه صلى الله عليه وسلم من غير ذلك نحو انشقاق القمر ‏{‏من ربه‏}‏ أي المحسن إليه على حس ما يدعيه لنستدل بها على ما يقول من التوحيد والبعث‏.‏

ولما كان في هذا- كما تقدم- إشارة منهم إلى أنه لم يأت بآية على هذه الصفة إما مكابرة وإما مغالطة، أمره بالجواب بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر ‏{‏قادر على أن‏}‏ وأشار بتشديد الفعل إلى آية القرآن المتكررة عليهم كل حين تدعوهم إلى المبارزة وتتحداهم بالمبالغة والمعاجزة فقال‏:‏ ‏{‏ينزل‏}‏ وقراءة ابن كثير بالتخفيف مشيرة إلى أنهم بلغوا في الوقاحة الغاية، وأنهم لو قالوا‏:‏ لولا أنزل، أي مرة واحدة، لكان أخف في الوقاحة، أو إلى أنه أنزل عليهم أيّ آية، كانت تلجئهم وتضطرهم إليه في آن واحد كما قال تعالى

‏{‏إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 4‏]‏ ولكنه لا يسأل ذلك إلا بالتدريج كما يشير إليه صيغة التفعيل في قراءة غيره المذكرة بأن آية القرآن لا تنقضي، بل كلما سمعها أحد منهم أو من غيرهم طول الدهر كانت منزلة عليه لكونها واصلة إليه، فهو أبلغ من مطلوبهم آية ينزل عليه وحده، والحاصل أنهم طلبوا آية باقية محضة، فلوح لهم إلى آية هي- مع كونها خاصة به فيما حصل له من الشرف- عامة لكل من بلغته، باقية طول المدى ‏{‏آية‏}‏ أي مما اقترحوه ومن غيره، لا يعجزه شيء، وفي كل شيء له من الآيات ما يعجز الوصف، وكفى بالقرآن العظيم مثالاً لذلك ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون *‏}‏ أي ليس فيهم قابلية العلم، فهم لا يتفكرون في شيء من ذلك الذي يحدثه من مصنوعاته ليدلهم على أنه على كل شيء قدير، فلا فائدة لهم في إنزال ما طلبوه، وأما غير الأكثر فهو سبحانه يردهم بآية القرآن أو غيرها مما لم يقترحوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما عجب منهم في قولهم هذا الذي يقتضي أنهم لم يروا له آية قط بعد ما جاءهم من الآيات الخاصة به ما ملأ الأقطار، ورد إلى الصم الأسماع، وأنار من العمى الأبصار؛ ذكرهم بآية غير آية القرآن تشتمل على آيات مستكثرة كافية لصلاحهم، رتبها سبحانه قبل سؤالهم تفضلاً منه عليهم دالة على باهر قدرته على البعث وغيره من الآيات التي طلبوها وغيرها وعلى تفرده بجميع الأمر، إذا تأملوها حق تأملها كفتهم في جميع ما يراد منهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي قالوا ذلك والحال أنه ما، وهي ناظرة أتم نظر إلى قوله ‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ أي فعل ذلك بكم وما ‏{‏من دابة في الأرض‏}‏ أي تدب أي تنتقل برجل وغير رجل ‏{‏ولا طائر يطير‏}‏ وقرر الحقيقة بقوله‏:‏ ‏{‏بجناحيه‏}‏ وشمل ذلك جميع الحيوان حتى ما في البحر، لأن سيرها في الماء إما أن يكون دبيباً أو طيراناً مجازاً‏.‏

ولما كان المراد بالدابة والطائر الاستغراق قال‏:‏ ‏{‏إلا أمم‏}‏ أي يقصد منها في نفسه، ويقصد هو نوعه وينضم إلى شكله ‏{‏أمثالكم‏}‏ أي في ذلك وفي أنا خلقناكم ولم يكونوا شيئاً وحفظنا جميع أحوالهم، وقدرنا كل أرزاقهم وآجالهم، وجعلنا لكم فيهم أحكاماً جددناها لكم، وجعلنا لكل منهم أجلاً للموت لا يتعداه بعد أن فاوتنا بينهم في الحياة، وللكل أجل في علمنا في البرزخ مثبت قبل أن نخلقهم، لا ينقص ذرة ولا يزيد خردلة، وجعلنا في هذه الحيوانات ما هو أقوى منكم وما هو أضعف، وجعلناكم أقوى من الجميع بالعقل، ولو شئنا لجعلنا له بين قوة البدن والعقل، وربما سلطنا الأضعف عليكم كالجراد والفأر والدود بما تعجز عنه عقولكم، ولو شئنا لسلطنا عليكم من أضعفها خلقاً- البعوض- ما أخذ بأنفاسكم ومنعكم القرار وأخرجكم عن حركات الاختيار إلى أن أهلككم جميعاً هلاك نفس واحدة- إلى غير ذلك من أمور تكل عنها العقول وتقف دونها نوافذ الفكر، وهذا كله معنى قوله‏:‏ ‏{‏ما فرطنا‏}‏ أي تركنا وأغفلنا لما لنا من القدرة الكاملة والعلم الشامل ‏{‏في الكتاب‏}‏ أي اللوح المحفوظ والقرآن، وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي ليذهب ذكره كما يذهب العقد الذي ينقطع سلكه فيتفرط، بل ذكرنا جميع أحوال خلقنا من الجن والإنس والملائكة وغيرهم من كل ناطق وصامت، فصارت في غاية الضبط حتى أن الحفظة يعرضون ما يحدث من عمل المكلفين وغيره آخر النهار على ما كان مثبتاً في أم الكتاب فيجدونه كما هو، لا يزيد شيئاً ولا ينقص، فيزدادون إيماناً، وأثبتنا في هذا القرآن مجامع الأمور، فهو تبيان لكل شيء من الأحكام الأصلية والفرعية والدلالات على كل ذلك وأخبار الأولين والآخرين وكل علم يمكن أن يحتاجه المخلوق، فمن أراد الهداية هداه بدقيق أسراره، ومن أعرض أوقعه في الردى، وعمي حتى عن واضح أنواره، والآية كما قال تعالى ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض‏}‏ إلى أن قال‏:‏

‏{‏وبث فيها من كل دابة- لآيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

أفلا يكون لكم في ذلك آيات تغنيكم عن إرسال الرسل فضلاً عن أن تتوقفوا بعد إرسالهم ولا ترضوا منهم من خوارق العادات إلا بما تقترحونه‏.‏

ولما أشار إلى ما شارك فيه سائر الحيوان للآدميين من أحوال الحياة وغيرها، نص على الحشر الذي هو محط الحكمة فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد طول الحياة والإقامة في البرزخ ‏{‏إلى ربهم‏}‏ أي خاصة، وبني للمفعول على طريق كلام القادرين قوله‏:‏ ‏{‏يحشرون *‏}‏ أي يجمعون كرهاً بعد أن يعيدهم كلهم كما بدأهم، وينصف كل مظلوم منهم من ظالمه، كل ذلك عليه هيّن ‏{‏ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏ والكل محفوظون في كتاب مبين على اختلاف أنواعهم وتباين حقائقهم وأشخاصهم وزيادتهم في الجد على أن يوجه نحوهم العد- سبحان من أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، إن ذلك على الله يسير، وهو على كل شيء قدير‏.‏

ولما كان التقدير بعد التذكير بهذه الآية التي تنوعت فيها الآيات وتكررت وتكثرت فيها الدلالات‏:‏ فالذين آمنوا أحياء سامعون لأقوالنا، ناطقون بمحامدنا راؤون لأفعالنا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا‏}‏ أي أوقعوا التكذيب ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة المقتضية لإضافتها إلينا، مرئية كانت أو مسموعة، تكذيباً متكرراً على عدد الآيات بالفعل أو بالقوة ولو بالإعراض عنها ‏{‏صم‏}‏ أي أموات فهم لا يسمعون ‏{‏وبكم‏}‏ لا ينطقون ‏{‏في الظلمات‏}‏ أي عمي لا يبصرون، فلذلك لا يزالون خابطين خبط العشواء ساعين غاية السعي إلى الردى، لأن ذلك شأن من في الظلمة، فكيف بمن هو في جميع الظلمات‏!‏ ولعله جمعها إشارة إلى أن المكذب لا ينتفع ببصر ولا ببصيرة، وذلك أنهم لما لم ينتفعوا بحياتهم ولا بأسماعهم ولا نطقهم ولا أبصارهم ولا عقولهم كان كل ذلك منهم عدماً‏.‏

ولما بين أن الأصم الأبكم الأعمى لا يتمكن هدايته، بين أن ذلك إنما هو بالنسبة لغيره سبحانه فطماً عن طلب إجابتهم إلى ما يقترحون من الآيات وأما هو سبحانه ففعال لما يريد، فقال في جواب من كأنه قال‏:‏ إنما تمكن هدايتهم‏:‏ ‏{‏من يشإ الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه إضلاله ‏{‏يضلله ومن يشأ‏}‏ هدايته ‏{‏يجعله‏}‏ وأشار إلى تمكينه بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على صراط مستقيم *‏}‏ بأن يخلق الهداية في قلبه- ومن يهد الله فما له من مضل ومن يضلل الله فما له من هاد، مع أن الكل عباده وخلقه، متقلبون في نعمه، غادون رائحون في بره وكرمه- إن في ذلك على وحدانيته وتمام قدرته لآيات بينات لقوم يعقلون‏.‏

ولما كانت هذه الآية- بما فيها من التصريح بالتكذيب- شديدة الاعتناق لقوله ‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 21 و39‏]‏ وقوله ‏{‏كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباؤا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 5‏]‏ الآيتين رجع بالذي بعدها إلى فذلكة التفاصيل الماضية وواسطة عقدها وفريدة درها، وهو التوحيد الذي أبانته الأدلة قبل الآيتين، فقال دالاً على اعتقادهم القدرة التي استلزم نعتُهم بطلب الآية نفيها، واعتقادهم للتوحيد في الجملة وهم يكذبون به، بياناً لأنهم في الظلمات مقهورون بيد المشيئة لعدم تحاشيهم من التناقض معجباً منهم‏:‏ ‏{‏قل أرءيتكم‏}‏ أي أخبروني يا من كذب بالآيات والقدرة عناداً وشهد أن مع الله آلهة أخرى، وعدل بالله الذي يعلم السر والجهر، وهو مع من يدعوه في كل سماء وكل أرض بعنايته ونصره‏.‏

ولما كانت حقيقة ‏{‏أرءيتكم‏}‏‏:‏ هل رأيتم أنفسكم، وكان هذا لكونه سؤالاً عن معلوم لا يجهله أحد- مشيراً إلى أن السؤال عن غيره مما قد يخفى من أحوال النفس، كان كأنه قيل‏:‏ عن أيّ أحوال نفوسنا نُسأل‏؟‏ فقيل تنبيهاً لهم على حالة تلزمهم بالتوحيد أو العناد الذي يصير في العلم به كالسؤال عن رؤية النفس سواء‏:‏ ‏{‏إن أتاكم‏}‏ أي قبل مجيء الساعة كما آتى من قبلكم ‏{‏عذاب الله‏}‏ أي المستجمع لمجامع العظمة، فلا يقدر أحد على كشف ما يأتي به ‏{‏أو أتتكم الساعة‏}‏ أي القيامة بما فيها من الأهوال‏.‏

ولما عجب منهم بما مضى- كما مضى، قال مجيباً للشرط موبخاً لهم منكراً عليهم عدم استمرارهم على دعائه ولزوم سؤاله وندائه، ويجوز أن يكون جواب الشرط محذوفاً تقديره‏:‏ من تدعون‏؟‏ ثم زادهم توبيخاً وتبكيتاً بقوله‏:‏ ‏{‏أغير الله‏}‏ أي الملك الذي له العظمة كلها ‏{‏تدعون‏}‏ أي لشدة من تلك الشدائد، ولا تدعون الله مع ذلك الغير ‏{‏إن كنتم صادقين *‏}‏ أي في أن غير الله يغني شيئاً حى يستحق الإلهية، وجواب الشرط محذوف تقديره‏:‏ فادعوا ذلك الغير، وهذه حجة لا يسعهم معها غيرُ التسليم، فإن عادتهم كانت مستمرة أنهم إذا اشتد الأمر وضاق الخناق لا يدعون غير الله ولا يوجهون الهمم إلا إليه، فإن سلكوا سبيل الصدق الذي له ينتحلون وبه يتفاخرون فقالوا‏:‏ لا ندعو غيره، فقد لزمتهم الحجة في أنه لا يعدل به شيء ولا شريك له، وإن عاندوا نطق لسان الحال أنهم على محض الضلال، وإن سكتوا أثبت عليك الخطاب، وهي مع ذلك- كما ترى- دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله، أي إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد، هذا ونقل أبو حيان عن الفراء أنه قال‏:‏ للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان‏:‏ أحدهما أن تسأل الرجل‏:‏ أرأيت زيداً، أي بعينك، فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول‏:‏ أرأيت، وأنت تريد‏:‏ أخبرني، فهاهنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين؛ ثم قال أبو حيان‏:‏ وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العرب، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأن أخبرني يتعدى بعن، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني؛ وقال في سورة يونس عليه السلام‏:‏ تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر، يقول العرب‏:‏ أرأيت زيداً ما صنع‏؟‏ المعنى‏:‏ أخبرني عن زيد ما صنع‏!‏ وقبل دخول أرأيت كان الكلام‏:‏ زيد ما صنع- انتهى‏.‏

قلت‏:‏ وحقيقة المعنى كما مر‏:‏ هل رأيت زيداً‏؟‏ فلما استفهم عن رؤيته- والمراد الخبر لا البصر- عُلم أن السؤال عن بعض أحواله، فكأنه قيل‏:‏ ما له‏؟‏ فقيل‏:‏ ما صنع‏؟‏‏.‏

ولما كان استفهام الإنكار بمعنى النفي، كان كأنه قيل‏:‏ لا تدعون غيره، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏بل إياه‏}‏ أي خاصة ‏{‏تدعون‏}‏ أي حينئذ؛ ولما كان يتسبب عن دعائهم تارة الإجابة وأخرى غيرها قال‏:‏ ‏{‏فيكشف‏}‏ أي الله في الدنيا أو في الآخرة، فإنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء ‏{‏ما تدعون إليه‏}‏ أي إلى كشفه ‏{‏إن شاء‏}‏ أي ذلك تفضلاً عليكم كما هي عادته معكم في وقت شدائدكم، ولكنه لا يشاء كشفه في الآخرة، لأنه لا يبدل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء، ولو كان يجيبكم دائماً وأنتم لا تدعون غيره، لكان ذلك كافياً في الدلالة على اعتقادكم أنه لا قادر إلا هو، فكيف وهو يجيبكم في الدنيا إذا دعوتموه تارة ويجيبكم أخرى، ومع ذلك فلا يردكم عدم إجابته عن اعتقاد قدرته ودوام الإقبال عليه في مثل تلك الحال لما ركز في العقول السليمة والفطر الأولى من أنه الفاعل المختار، وعلى ذلك دل قوله عطفاً على «تدعون»‏:‏ ‏{‏وتنسون‏}‏ أي تتركون في تلك الأوقات دائماً ‏{‏ما تشركون *‏}‏ أي من معبوداتكم الباطلة لعلمكم أنها لا تغني شيئاً، كما هي عادتكم دائماً في أوقات الشدائد رجوعاً إلى حال الاستقامة‏.‏ أفلا يكون لكم هذا زاجراً عن الشرك في وقت الرخاء خوفاً من إعادة الضراء‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

ولما أقام لهم بهذه الآية على توحيده الدليل حتى استنارت السبل في تذكيرهم أن التضرع قد يكشف به البلاء، أخبرهم أن تركه يوجب الشقاء، ترغيباً في إدامته وترهيباً من مجانبته فقال‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إلى أمم‏}‏ أي أناس يؤم بعضهم بعضاً، وهم أهل لأن يقصدهم الناس، لما لهم من الكثرة والعظمة‏.‏

ولما كان المراد بعض الأمم، وهم الذين أراد الله إشهادهم وقص أخبارهم، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ أي رسلاً فخالفوهم، وحسّن هذا الحذف كونه مفهوماً ‏{‏فأخذناهم‏}‏ أي فكان إرسالنا إليهم سبباً لأن أخذناهم بعظمتنا، ليرجعوا عما زين لهم الشيطان إلى ما تدعوهم إليه الرسل ‏{‏بالبأساء‏}‏ من تسليط القتل عليهم ‏{‏والضراء‏}‏ بتسليط الفقر والأوجاع ‏{‏لعلهم يتضرعون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى خضوعه وتذلله على وجه بليغ، بما يرشد إليه- مع صيغة التفعيل- الإظهار، ولأن مقصودها الاستدلال على التوحيد، وعند الكشف للأصول ينبغي الإبلاغ في العبادة، بخلاف ما يأتي في الأعراف‏.‏

ولما لم يقع منهم ما أوجبت الحال رجاءه، تسبب عنه الإنكار عليهم، فقال معبراً بأداة التخصيص ليفيد مع النفي أنهم ما كان لهم عذر في ترك التضرع‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ أي فهلا ‏{‏إذ جاءهم بأسنا تضرعوا‏}‏ ولما كان معنى الإنكار أنهم ما تضرعوا قال‏:‏ ‏{‏ولكن قست قلوبهم‏}‏ أي فلم يذكروا ربهم أصلاً ‏{‏وزين لهم الشيطان‏}‏ أي بما دخل عليهم به من باب الشهوات ‏{‏ما كانوا يعملون *‏}‏ من العظائم والمناكر التي أوجبها النكس بالرد أسفل سافلين ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ أي فتسبب- عن تركهم التذكير والأخذ بفائدته التي هي التخشع والتسكن، كما هو اللائق بهم لا سيما في تلك الحالة- أنا ‏{‏فتحنا‏}‏ أي بما يليق بعظمتنا ‏{‏عليهم أبواب كل شيء‏}‏ أي من الخيرات والأرزاق والملاّد التي كانت مغلقة عنهم ونقلناهم من الشدة إلى الرخاء، وذلك استدراجاً لهم، ومددنا زمانه وطوّلنا أيامه ‏{‏حتى إذا فرحوا‏}‏ أي تناهى بهم الفرح ‏{‏بما أوتوا‏}‏ أي معرضين عمن آتاهم هذا الرخاء بعد أن كان ابتلاهم بذلك، فعلم أنهم في غاية من الغباوة، لا يرتدعون بالتأديب بسياط البلاء، ولا ينتفعون ببساط المنة والرخاء، بل ظنوا أن البلاء عادة الزمان، والرخاء باستحقاقهم الامتنان، فعلم أن قلوبهم لا يرجى لها انتباه بحار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ‏{‏أخذناهم‏}‏ بعظمتنا، وإنما أخذناهم في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم ‏{‏بغتة‏}‏ فلم نمكنهم من التضرع عند خفوق الأمر، ولا أمهلناهم أصلاً بل نزل عليهم من أثقال العذاب، وأباح بهم من أحمال الشدائد وصروف البلايا ما أذهلهم وشغلهم عن كل شيء حتى بهتوا ‏{‏فإذا هم مبلسون *‏}‏ أي تسبب عن ذلك البغت أن فاجؤوا السكوتَ على ما في أنفسهم واليأس تحسراً وتحيراً، واستمروا بعد أن سكتوا إلى أن همدوا وخفتوا، ففي نفي التضرع عن المتقدمين بعد أن أثبته لمشركي هذه الأمة استعطاف لطيف، وفي ذكر استدراج أولئك بالنعم عند نسيان ما ذكروا به إلى ما أخذهم بغتة من قواصم النقم غاية التحذير‏.‏

ولما كان من عادة الغالب من أهل الدنيا أن يفوته آخر الجيوش وشُذّابهم لملل أصحابه من الطلب وضجرهم من النصب والتعب وقصورهم عن الإحاطة بجميع الأرب، أخبر تعالى أن أخذه على غير ذلك، وأن نيله للآخر كنيله للأول على حد سواء، فقال مسبباً عن الأخذ الموصوف مشيراً بالبناء للمفعول إلى تمام القدرة، وبالدابر إلى الاستئصال‏:‏ ‏{‏فقطع دابر‏}‏ أي آخر ‏{‏القوم الذين ظلموا‏}‏ أي بوضع الشيء في غير موضعه دأب الماشي في الظلام، وضعوا لقسوة موضع الرقة التي تدعو إليها الشدة، ووضعوا الفرح بالنعمة موضع الخشية من الرد إلى الشدة، كما ظلمتم أنتم بدعاء الأصنام وقت الرخاء وكان ذلك موضع دعاء من أفاض تلك النعم، ودعوتم الله وقت الشدة وكان ذلك موضع دعاء من عبدتموه وقت الرخاء، لئلا تقعوا فيما جرت عادتكم بالذم به‏.‏

وإن تكون كريهة أدعى لها *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

ولما كان استئصالهم من أجل النعم على من عادوهم فيه من الرسل عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم، نبه على ذلك بالجملة مع ما يشير إليه من ظهور الاستغناء المطلق فقال‏:‏ ‏{‏والحمد‏}‏ أي قطع أمرهم كله والحال أن الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لله‏}‏ المتفرد بنعوت الجلال والجمال ‏{‏رب العالمين *‏}‏ الموجد لهم أجمعين، أي له ذلك كله بعد فناء الخلق على أيّ صفة كانوا من إيمان أو كفر، كما كان له ذلك قبل وجودهم وعند خلقهم على كل من حالتيهم- كما أشير إليه بأول السورة، فكأنه قيل‏:‏ الكمال لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، فقطع دابرهم، والكمال له لم يتغير، لأنه لا يزيده وجود موجود، ولا ينقصه فقد مفقود، فهو محمود حال الإعدام والمحق كما كان محموداً حال الإيجاد والخلق، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإنه لا يخرج شيء عن إيمانهم ولا كفرانهم عن إرادته سبحانه، فلا عليك منهم اقترحوا الآيات أولا، فإنه ليس عليك إلا البلاغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما قدم التنبيه بإتيان مطلق العذاب في مطلق الأحوال، وكان الإتيان بالكاف ثَمَّ مشيراً مع إفادة التأكيد إلى أن ثَمَّ نوع مهلة، وأتبعه أن أخذ الأمم كان بغتة، أعقبه التنبيه بعذاب خاص تصورُ شناعته يهذأ الأركان ويقطع الكبود ويملأ الجنان، فإنه لا أشنع حالاً من أصم أعمى مجنون، فقال مشيراً- بإسقاط كاف الخطاب مع التعبير بالأخذ الذي عهد أنه للبغث بالسطوة والقهر- إلى غاية التحذير من سرعة أيّ الأخذ‏:‏ ‏{‏قل أرءيتم‏}‏ فكانت حقيقة المقترن بالكاف‏:‏ هل رأيتم أنفسكم، وهذا هل رأيتم مطلق رؤية، لما تقدمت الإشارة إليه من الإيماء إلى طلب الإسراع بالجواب خوف المفاجأة بالعذاب وإن كان المراد في الموضعين‏:‏ أخبروني ‏{‏إن أخذ الله‏}‏ أي القادر على كل شيء العالم بكل شيء ‏{‏سمعكم‏}‏ وأفرده لقلة المفاوتة فيه، لأنه أعظم الطرق لإدراك القلب الذي لا أعظم من المفاوتة فيه حتى للإنسان الواحد بالنسبة إلى الأحوال المختلفة، ليكون ذلك أدل على الفعل بالاختيار ‏{‏وأبصاركم‏}‏ أي فأصمكم وأعماكم عمى وصمماً ظاهرين وباطنين بسلب المنفعة ‏{‏وختم على قلوبكم‏}‏ فجعلها لا تعي أصلاً أو لا ينتفع بالوعي ‏{‏من إله‏}‏ أي معبود بحق، لأن له إحاطة العلم والقدرة؛ ثم وصف هذا الخبر بقوله‏:‏ ‏{‏غير الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏يأتيكم به‏}‏ أي بذلك الذي هو أشرف معاني أشرف أعضائكم، أو بشيء منه‏.‏

ولما بلغت هذه الآيات- من الإبلاغ في البيان في وحدانيته وبطلان كل معبود سواه- أعلى المقامات، نبه على أنه على ذلك، بالأمر بالنظر فيها وفي حالهم بعدها، دالاً على ما تقدم من أن المقترحات لا تنفع من أراد سبحانه شقاوته فقال‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرف‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏الآيات‏}‏ أي نوحيها لهم ولغيرهم في كل وجه من وجوه البيان بالغ من الإحسان ما يأخذ بالعقول ويدهش الألباب، ويكون كافياً في الإيصال إلى المطلوب؛ ولما كان الإعراض عن مثل هذا في غاية البعد عبر بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم هم‏}‏ أي بعد هذا البيان بصميم ضمائرهم ‏{‏يصدفون *‏}‏ أي يعرضون إعراضاً لازماً لهم لزوم الصفة‏.‏

ولما قرن الأخذ بالبغت تارة صريحاً وتارة بإسقاط الكاف؛ كان ربما وقع في وهم السؤالُ عن حالة الجهر، أتبع ذلك ذكره مفصلاً لما أجمل من الأحوال في الآيتين قبل فقال‏:‏ ‏{‏قل أرءيتكم‏}‏ ولما كان المعنى‏:‏ أخبروني، وكان كأنه قيل‏:‏ عما ذا‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏إن أتاكم عذاب الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال فلا يعجزه شيء ‏{‏بغتة‏}‏ أي بحيث لا يرى إلا ملتبساً بكم من غير أن يشعر به ويظهر شيء من أماراته، ‏{‏أو جهرة‏}‏ أي بحيث ترونه مقبلاً إليكم مقدماً عليكم ‏{‏هل‏}‏‏.‏

ولما كان المخوف بالذات هو الهلاك من غير نظر إلى تعيين الفاعل، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏يهلك‏}‏ أي في واحدة من الحالتين هلاكاً هو الهلاك، وهو هلاك السخط ‏{‏إلا القوم‏}‏ أي الذين لهم قوة المدافعة وشدة المقاتلة في زعمكم والمقاومة ‏{‏الظالمون *‏}‏ أي بوضع الأشياء في غير مواضعها من إعطاء الشيء لمن لا يستحقه ومنع المستحق ما له، وأما المصلح فإنه ناج إما في الدارين وإما في الآخرة التي من فاز فيها فلا توى عليه؛ وذكر أبو حيان أنه لما كان مطلق العذاب صالحاً لكل ما يعلم من تفاصيل أهواله وما لا يعلم، كان التوعد به أهول، فلذلك أكد فيه في الآيتين الخطاب بالضمير بحرف الخطاب، والتوعد بأخذ السمع وما معه من جملة الأنواع التي اشتمل عليها ذلك المطلق فأعري من حرف الخطاب‏.‏

ولما كان ذلك كله في مناضلة من كذب الرسل، وأعرض عما أرسلهم به ربهم من الآيات التي ما منها إلا ما آمن على مثله البشر، وطلبه منهم ما لا يقدر عليه إلا مرسلهم من الإتيان بغير ما أتوا به من الآيات؛ بين لهم حقيقة الرسالة إشارة إلى ظلمهم في طلبهم من الرسل ما لا يطلب إلا من الإله، فقال عاطفاً على ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏ ‏{‏وما نرسل‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏المرسلين‏}‏ أي نوجد هذا الأمر في هذا الزمان وكل زمان من الماضي وغيره ‏{‏إلا مبشرين‏}‏ لمن أطاع ‏{‏ومنذرين‏}‏ لمن عصى، عريقين في كل من الوصفين، لا مجيبين إلى ما يقترح الأمم، ولا معذبين لمن يعاندهم؛ ثم سبب عن ذلك غاية الرسالة من النفع والضر فقال‏:‏ ‏{‏فمن آمن وأصلح‏}‏ أي تصديقاً لإيمانه ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ أي في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا الفانية فلأن خوفهم فيها يزيد أمنهم في الآخرة الباقية، فهو إلى فناء ثم إلى سرور دائم، فهو عدم ‏{‏ولا هم يحزنون*‏}‏ أي حزناً يضر بحياتهم الأبدية‏.‏

ولما بين حال المصلحين، أتبعه حال المفسدين فقال‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي على ما لها بنسبتها إلينا من العظمة ‏{‏يمسهم العذاب‏}‏ أي الدائم المتجدد، وكني عن قربه بأن جعل له قوة المس، كأنه حي مريد فقال‏:‏ ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يفسقون *‏}‏ أي يديمون الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه من الإيمان وما يقتضيه، وأما الفسق العارض فإن صاحبه يصدر التوبة منه فيعفى عنه‏.‏

ولما بين وظيفة الرسل، وقسم المرسل إليهم، أمره بنفي ما يتسبب عنه قولهم من أن البشر لا يكون رسولاً، واقتراحهم عليه الآيات من ظن قدرته على ما يريد، أو أن كل ما يقدر عليه يبديه لهم، أو إلزامه بذلك، منها لهم على وجه ظلمهم بغلظهم أو عنادهم فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي في جواب قولهم

‏{‏لولا أنزل عليه آية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 20‏]‏ ونحوه‏.‏

ولما لم يكن لهم عهد بأن بشراً يكون عنده الخزائن، يتصرف فيها بما يريد، وكان يأتيهم من الآيات من انشقاق القمر ومشي الشجر وكلام الضب والحجر ونبع الماء والحراسة بشواظ النار وفحل الجمال ونحو ذلك مما هو معلوم في دلائل النبوة بما ربما أوقع في ظنهم أن لازمه دعواه لأنه يملك الخزائن، فكانوا يقترحون عليه الآيات الدالة إلزاماً له بذلك لقصد التكذيب‏.‏ نفى ما ظنوا أنه يلزمه دعواه فقال‏:‏ ‏{‏لا أقول لكم‏}‏ أي الآن ولا فيما يستقبل من الزمان، ولما كان تعالى قد أعطاه مفاتيح خزائن الأرض، فأباها تواضعاً لله سبحانه، قيد بقوله «لكم» إفهاماً لما يخبر به المؤمنين من ذلك ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، وأما الكفرة فإن إخبارهم بذلك مما يغريهم على الاقتراحات استهزاء فلا فائدة له ‏{‏عندي خزائن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الغنى المطلق والعزة البالغة، فلا كفوء له أي فآتيكم ما تقترحون من الآيات وما تشتهونه من الكنوز وما تستهزئون به من العذاب، وإنما الخزائن بيده، يفعل فيها ما يشاء‏.‏

ولما كانوا يعهدون أن بعض البشر من الكهان يخبرون بشيء من المغيبات، وكان الكهان يخلطون الصدق بالكذب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم بمغيبات كثيرة فيكون كما قال دائماً لا خلف في شيء منها ولا زيادة ولا نقص، فصاروا يظنون أنه يعلم الغيب، ولكنهم يظنونه من آيات الكهان حتى أطلقوا عليه أنه كاهن، فكانوا يسألونه عن وقت العذاب الذي يتوعدهم به وعن غيره، لعلهم يظفرون عليه بشيء مما يقوله الكهان ولا يكون، فيعدونه عليه؛ نفى ما ظنوه غيره على هذا المقام أن ينسب إلى غير مالكه الذي لا يجوز أن يكون لغيره، فقال نافياً له من أصله، لا للقول فقط كما في سابقه ولاحقه، عاطفاً على ‏{‏لا أقول‏}‏ لا على ‏{‏عندي‏}‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ أي فأخبركم بوقت الفصل بيني وبينكم من مطلق العذاب أو قيام الساعة، فإن هاتين الحالتين- ملك الخزائن وعلم الغيب- ليستا إلا لمرتبة الألوهية، وإنما لم أدّع الأول كما ألزمتموني به، ولا اتصفت بالثاني بما ظننتم‏.‏

ولما كانوا يظنون أن الرسول لا يكون إلا ملكاً، فكانوا يلزمونه بدعواه الرسالة دعوى الملائكة ليلزموه بذلك ادعاء ما هو ظاهر البطلان، قال‏:‏ ‏{‏ولا أقول‏}‏ أي بدعوى الرسالة؛ ولما كان صلى الله عليه وسلم أعلى الأنبياء صفاء وأنورهم قلباً وأشدهم في كل هدى إضاءة وأنقاهم من نقائص البشر، وكان هذا أمراً من الله له‏.‏ قيد بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ إفهاماً لأنه لا يمتنع عليه أن يقول ذلك، بل لو قاله كان صادقاً، ومثله كثير في مجازاتهم ومجاري عاداتهم في محاوراتهم، وأما إسقاط «لكم» في قصة نوح من سورة هود عليهما السلام فتواضعاً منه لكونه من قوله، من غير تصريح بإسناد الأمر فيه إلى الله تعالى ‏{‏إني ملك‏}‏ فأقوى على الأفعال التي تقوى عليها الملائكة من التحرز عن المأكل والمشرب وغيرهما من أفعال الملائكة‏.‏

فلما انتفى عنه ما ألزموه به وما ظنوه فيه من كونه إلهاً أو ملكاً، انحصر الأمر في أنه رسول واقف عندما حده له مرسله، فقال على وجه النتيجة‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أتبع‏}‏ أي بغاية جهدي ‏{‏إلا ما يوحى إلي‏}‏ أي ما رتبتي إلا امتثال ما يأمرني به ربي في هذا القرآن الذي هو- بعجزكم عن معارضته- أعظم شاهد لي، ولم يوح إلي فيه أن أقول شيئاً مما تقدم نفيه، وأوحى إلي لأنذركم به خصوصاً، وأنذر به كل من بلغه عموماً، وذلك غير منكر في العقل ولا مستبعد بل قد وقع الإرسال لكثير من البشر، وقد قام على ثبوته لي واضح الدلائل وثابت الحجج وقاطع البراهين، فإن كان فيه الإذن لي بإبراز خارق أبرزته، وإن كان فيه الإعلام بمغيب أبديته، وإلا اقتصرت على الإبلاغ مع التحدي، وهو مخبر بأن الله- الذي ثبت بعجزكم عن معارضته أنه قوله- شاهد لي بصحة الرسالة وصدق المقالة‏.‏

ولما ثبت بهذا أنهم عمي الأبصار والبصائر، لا يهتدون إلى ما ينفعهم، ولا يقدرون على إفحام خصم ولا التفصي عن وهم ولا وصم، بل هم كالسالك بين المهالك، يتبين بادئ بدئه في دعواه الحكمة زوره وكذبه وفجوره لأتباع الهوى الذي هو أدوأ أدواء، وأنه صلى الله عليه وسلم أبصر البصراء وأحكم الحكماء لأتباعه علام الغيوب، وكان موضع أن يقال‏:‏ ما يوحى إليك في هذا المقام‏؟‏ قال على وجه التبكيت لهم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لكل من يسمع قولك بعد هذا البيان الفائت لقوى الإنسان ‏{‏هل يستوي‏}‏ أي يكون سواء من غير مرية ‏{‏الأعمى والبصير‏}‏ فإن قالوا‏:‏ نعم، كابروا الحس، وإن قالوا‏:‏ لا، قيل‏:‏ فمن تبع هذه الآيات الجليات فهو البصير، ومن أعرض عنها فهو العمى، ومن سوى بين الخالق وبين شيء من خلقه فهو أعمى العمى؛ ثم أمره بعد الإنكار للتسوية بينهما بأن ينكر عليهم فساد نظرهم وعمى فكرهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تتفكرون *‏}‏ أي فيردكم فكركم عن هذه الضلالات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما أمره بتوبيخهم، أمره- عاطفاً على قوله «قل»- بالإنذار على وجه مخز لهم أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏وأنذر به‏}‏ أي بما يوحى إليك، وليس المراد تخصيص الإنذار بالخائف، بل الإشارة إلى جلافتهم وعظيم بلادتهم وكثافتهم في عدم تجويز الجائز الذي هو أهل لأن يخافه كل واحد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يخافون‏}‏ أي تجويزاً للجائز عقلاً وعادة‏.‏

ولما كان المرهوب الحشر نفسه، لا بقيد كونه من معين؛ بني للمفعول قوله ‏{‏أن يحشروا‏}‏ أي يجمعوا وهم كارهون ‏{‏إلى ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بالإيجاد والتربية مع التقصير في الشكر، حال كونهم ‏{‏ليس لهم‏}‏ وأشار إلى تحقير ما سواه وسفوله بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي من المنزلة التي هي تحت منزلته، ومن المعلوم أن كل شيء تحت قهر عظمته ومتضائل عن رتبته، ليس لهم ذلك، أي على وجه الانفراد أو التوسل ‏{‏ولي‏}‏ يتولى أمورهم فينقذهم قهراً مما يخافون ‏{‏ولا شفيع‏}‏ ينقذهم بحسن سفارته وعظيم رتبته وترتيبه ‏{‏لعلهم يتقون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى أن يجعل بينه وبين عذاب الله وقاية‏.‏

ولما أمره بدعاء من أعرض عنه ومجاهرته، أمره بحفظ من تبعه وملاطفته، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون‏}‏ وهم الفقراء من المسلمين ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليه عكس ما عليه الكفار في دعاء من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً؛ ثم بين من حالهم من الملازمة ما يقتضي الإخلاص فقال‏:‏ ‏{‏بالغداة والعشي‏}‏ أي في طرفي النهار مطلقاً أو بصلاتيهما أو يكون كناية عن الدوام؛ ثم أتبع ذلك نتيجته فقال معبراً عن الذات بالوجه، لأنه أشرف- على ما نتعارفه- وتذكّره يوجب التعظيم ويورث الخجل من التقصير‏:‏ ‏{‏يريدون وجهه‏}‏ أي لأنه لو كان رياء لاضمحل على طول الزمان وتناوب الحدثان باختلاف الشأن‏.‏

ولما كان أكابر المشركين وأغنياؤهم قد وعدوه صلى الله عليه وسلم الاتباع إن طرد من تبعه ممن يأنفون من مجالستهم، وزهدوه فيهم بفقرهم وبأنهم غير مخلصين في اتباعه، إنما دعاهم إلى ذلك الحاجة؛ بين له تعالى أنه لا حظ له في طردهم ولا في اتباع أولئك بهذا الطريق إلا من جهة الدنيا التي هو مبعوث للتنفير عنها، فقال معللاً لما مضى أو مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ما عليك‏}‏ قدم الأهم عنده وهو تحمله ‏{‏من حسابهم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي ليس لك إلا ظاهرهم، وليس عليك شيء من حسابهم، حتى تعاملهم بما يستحقون في الباطن من الطرد إن كانوا غير مخلصين ‏{‏وما من حسابك‏}‏ قدم أهم ما إليه أيضاً ‏{‏عليهم من شيء‏}‏ أي وليس عليهم شيء من حسابك فتخشى أن يحيفوا عليك فيه على تقدير غشهم، أو ليس عليك من رزقهم شيء فيثقلوا به عليك، وما من رزقك عليهم من شيء فيضعفوا عنه لفقرهم، بل الرازق لك ولهم الله؛ ثم أجاب النفي مسبباً عنه فقال‏:‏ ‏{‏فتطردهم‏}‏ أي فتسبب عن أحد الشيئين طردك لهم ليقبل عليك الأغنياء فلا يكلفوك ما كان أولئك يكلفونك، وإن كلفتهم ما كان أولئك عاجزين عنه أطاقوه؛ والحاصل أنه يجوز أن يكون معنى جملتي ‏{‏ما عليك من حسابهم‏}‏- إلى آخرهما راجعاً إلى آية الكهف

‏{‏ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ فيكون المعنى ناظراً إلى الرزق، يعني أن دعاءك إلى الله إنما مداره الأمر الأخروي، فليس شيء من رزق هؤلاء عليك حتى تستنفر بهم وترغب في الآغنياء، ولا شيء من رزقك عليهم فيعجزوا عنه، وفي اللفظ من كلام أهل اللغة ما يقبل هذا المعنى؛ قال صاحب القاموس وغيره‏:‏ الحساب‏:‏ الكافي ومنه ‏{‏عطاء حساباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 36‏]‏ وحسّب فلان فلاناً‏:‏ أطعمه وسقاه حتى شبع وروي‏.‏ وقال أبو عبيد الهروي‏:‏ يقال‏:‏ أعطيته فأحسبته، أي أعطيته الكفاية حتى قال‏:‏ حسبي، وقوله ‏{‏يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 212‏]‏ أي بغير تقتير وتضييق، وفي حديث سماك‏:‏ ما حسبوا ضيفهم، أي ما أكرموه، وقال ابن فارس في المجمل‏:‏ وأحسبته‏:‏ أعطيته ما يرضيه، وحسّبته أيضاً، وأحسبني الشيء‏:‏ كفاني‏.‏

ولما نهاه عن طردهم مبيناً أنه ضرر لغير فائدة، سبب عن هذا النهي قوله ‏{‏فتكون من الظالمين *‏}‏ أي بوضعك الشيء في غير محله، فإن طردك هؤلاء ليس سبباً لإيمان أولئك، وليس هدايتهم إلا إلينا، وقد طلبوا منا فيك لما فتناهم بتخصيصك بالرسالة ما لم يخف عليك من قولهم ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ ونحوه مما أرادوا به الصرف عنك، فكما لم تقبلهم فيك فلا تقبلهم أنت في أوليائنا، فإنا فتناهم بك حتى سألوا فيك ما سألوا وتمنوا ما تمنوا ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ما فتناهم بإرسالك ‏{‏فتنا‏}‏ أي فعلنا فعل المختبر قسراً بما لنا من العظمة ‏{‏بعضهم ببعض‏}‏ بالتخصيص بالإيمان والغنى والفقر ونحو ذلك ‏{‏ليقولوا‏}‏ أي إنكاراً لأن تفضل غيرهم عليهم احتقاراً لهم واستصغاراً ‏{‏أهؤلاء‏}‏ أي الذين لا يساووننا بل لا يقاربوننا في خصلة من خصال الدنيا ‏{‏منَّ الله‏}‏ أي على جلاله وعظمه ‏{‏عليهم‏}‏ أي وفقهم لإصابة الحق وما يسعدهم عنده وهم فيما نرى من الحقارة ‏{‏من بيننا‏}‏ فالآية ناظرة إلى ما يأتي في هذه السورة من قوله تعالى ‏{‏حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏‏.‏

ولما كان الإنكار لا يسوغ إلاّ مع نهاية العلم بمراتب المفضلين، وأن المفضل لا يستحق التفضيل من الوجه المفضل به، أنكر إنكارهم بقوله‏:‏ ‏{‏أليس الله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر، فلا اعتراض عليه ‏{‏بأعلم بالشاكرين *‏}‏ أي الذين يستحقون أن يفضلوا لشكرهم على غيرهم لكفرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، علمه كيف يلاطفهم فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ وإذا جاءك الذين يحتقرون الضعفاء من عبادي فلا تحفل بهم‏:‏ ‏{‏وإذا جاءك‏}‏ وأظهر موضع الإضمار دلالة على الوصف الموجب لإكرامهم وتعميماً لغيرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين يؤمنون‏}‏ أي هم أو غيرهم أغنياء كانوا أو فقراء، وأشار بمظهر العظمة إلى أنهم آمنوا بما هو جدير بالإيمان به فقال‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة بالنسبة إلينا ‏{‏فقل‏}‏ أي لهم بادئاً بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لخواطرهم ‏{‏سلام عليكم‏}‏ أي سلامة مني ومن الله، ونكره لما يلحقهم في الدنيا من المصائب؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏كتب ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم ‏{‏على نفسه الرحمة‏}‏ ثم علل ذلك بقوله واستأنف بما حاصله أنه علم من الإنسان النقصان، لأنه طبعه على طبائع الخسران إلا من جعله موضع الامتنان فقال‏:‏ ‏{‏أنه من عمل منكم سوءاً‏}‏ أي أيّ سوء كان ملتبساً ‏{‏بجهالة‏}‏ أي بسفه أو بخفة وحركة أخرجته عن الحق والعلم حتى كان كأنه لا يعلم شيئاً ‏{‏ثم تاب‏}‏ أي رجع بالندم والإقلاع وإن طال الزمان، ولذا أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي بعد ذلك العمل ‏{‏وأصلح‏}‏ بالاستمرار على الخير ‏{‏فإنه‏}‏ أي ربكم بسبب هذه التوبة يغفر له لأنه دائماً ‏{‏غفور‏}‏ أي بالغ الستر والمحو لما كان من ذلك ‏{‏رحيم *‏}‏ يكرم من تاب هذه التوبة بأن يجعله كمن أحسن بعد أن جعله بالغفر كمن لم يذنب، ومن أصر وأفسد فإنه يعاقبه، لأنه عزيز حكيم، وربما كانت الآية ناظرة إلى ما قذفهم به المشركون من عدم الإخلاص، ويكون حينئذ مرشحاً لأن المراد بالحساب المحاسبة على الذنوب‏.‏

ولما أتى في هذه السورة وما قبلها بما أتى من عجائب التفاصيل لجميع الأحوال متضمنة واضح الدلالات وباهر الآيات البينات، قال عاطفاً على ‏{‏وكذلك فتنا‏}‏ عطفاً للضد على ضده، فإن في الاختبار نوع خفاء‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل الفتن بإيراد بعض ما فيه دقة وخفاء من بعض الوجوه لنضل من نشاء، فيتميز الضال من المهتدي ‏{‏نفصل الآيات‏}‏ التي نريد بيانها ليتضح سبيل المصلحين فيتبع ‏{‏ولتستبين‏}‏ أي تظهر ظهوراً بيناً ‏{‏سبيل المجرمين *‏}‏ فتجتنب، وخص هذا بالذكر وإن كان يلزم منه بيان الأول، لأن دفع المفاسد أهم‏.‏

ولما كان محط حالهم في السؤال طرد الضعفاء قصد اتباع أهوائهم، أمره تعالى بأن يخبرهم أنه مباين لهم- لما بين له بالبيان الواضح من سوء عاقبة سبيلهم- مباينة لا يمكن معها اتباع أهوائهم، وهي المباينة في الدين فقال‏:‏ ‏{‏قل إني نهيت‏}‏ أي ممن له الأمر كله ‏{‏أن أعبد الذين تدعون‏}‏ أي تعبدون بناء منكم على محض الهوى والتقليد في أعظم أصول الدين، وحقر أمرهم وبين سفول رتبتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه، فقد وقعتم في ترك الأعظم ولزوم الدون الذي هو دونكم في أعظم الجهل المؤذن بعمى القلب مع الكفر بالمحسن، فمباينتي مبناها على المقاطعة، فكيف تطمع في متابعة‏!‏ ثم أكد ذلك بأمر آخر دال على أنه لا شبهة لهم في عبادتهم فقال‏:‏ ‏{‏قل لا أتبع أهواءكم‏}‏ أي عوضاً عما أنا عليه من الحكمة البالغة المؤيدة بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة‏.‏

ولما كان من المعلوم أن الهوى لا يدعو إلى هدى، بل إلى غاية الردى، حقق ما أفهمته هذه الجملة بقوله‏:‏ ‏{‏قد ضللت إذاً‏}‏ أي إذا اتبعت أهواءكم؛ ولما كان الضال قد يرجع، بين أن هذا ليس كذلك، لعراقتهم في الضلال، فقال معبراً بالجملة الاسمية الدالة على الثبات‏:‏ ‏{‏وما أنا‏}‏ أي إذ ذاك على شيء من الهداية لأعد ‏{‏من المهتدين *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

ولما كان طلبهم للآيات- أي العلامات الدالة على الصدق تارة بالرحمة في إنزال الأنهار والكنوز وإراحة الحياة، وتارة بالعذاب من إيقاع السماء عليهم كسفاً ونحو ذلك- ليس في يده ولا عنده تعين وقت نزوله، وأمره هنا أن يصرح لهم بالمباينة ويؤيسهم من الملاينة ما داموا على المداهنة، أمره بأن يخبرهم بما هو متمكن فيه من النور وما هم فيه من العمى بقوله‏:‏ ‏{‏قل إني‏}‏ وأشار إلى تمكنه في الأدلة الظاهرة والحجج القاهرة بحرف الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على بينة‏}‏ أي إن العدو إنما يصانع عدوه إما لعدم الثقة بالنصرة عليه وتعذيبه بعداوته، وإما العدم وثوقه بأنه على الحق، وأما أنا فواثق بكلا الأمرين ‏{‏من ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بإرسالي بعد الكشف التام لي عن سر الملك والملكوت ‏{‏و‏}‏ الحال أنكم ‏{‏كذبتم به‏}‏ أي ربي حيث رددتم رسالته فهو منتقم منكم لا محالة‏.‏

ولما قيل ذلك، فرض أن لسان حالهم قال‏:‏ فائتنا بهذه البينة‏!‏ فقال‏:‏ إن ربي تام القدرة، فلا يخاف الفوت فلا يعجل، وأما أنا فعبد ‏{‏ما عندي‏}‏ أي في قدرتي وإمكاني ‏{‏ما تستعجلون به‏}‏ أي في قولكم «امطر علنيا حجارة من السماء» ونحوه حتى أحكم فيكم بما يقتضيه طبع البشر من العجلة ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏الحكم‏}‏ في شيء من الأشياء هذا وغيره ‏{‏إلا الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فلا كفوء له، ثم استأنف قوله مبيناً أنه سبحانه يأتي بالأمر في الوقت الذي حده له على ما هو الأليق به من غير قدرة لأحد غيره على تقديم ولا تأخير فقال‏:‏ ‏{‏يقضُّ‏}‏ أي يفصل وينفذ بالتقديم والتأخير، وهو معنى قراءة الحرميين وعاصم «يقص» أي يقطع القضاء أو القصص ‏{‏لحق‏}‏ ويظهره فيفصله من الباطل ويوضحه، ليتبعه من قضى بسعادته، ويتنكب عنه من حكم بشقاوته ‏{‏وهو خير الفاصلين *‏}‏ لأنه إذا أراد ذلك لم يدع لبساً لمن يريد هدايته، وجعل في ذلك الظاهر سبباً لمن يريد ضلالته؛ ثم أكد ذلك لمن زاد قلبه في الجلافة مبيناً ما في غيره من وخيم العاقبة فقال‏:‏ ‏{‏قل لو أن عندي‏}‏ أي على سبيل الفرض ‏{‏ما تستعجلون به‏}‏ أي من العذاب ‏{‏لقضي‏}‏ وبناه للمفعول لأن المخوف إنما هو الإهلاك، لا كونه من معين ‏{‏الأمر بيني وبينكم‏}‏ أي فكنت أهلك من خالفني غضباً لربي بما ظهر لي منه من التكبر عليه، وقد يكون فيهم مَنْ كُتِبَ في ديوان السعداء، لكنه لم يكن الأمر إليّ لأني لا أعلم الظالم عند الله من غيره، فليس الأمر إلا إلى الله، لأنه أعلم بالمنصفين فينجيهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏أعلم بالظالمين *‏}‏ أي المكتوبين في ديوان الظلمة فيهلكهم‏.‏

ولما كانت هذه الآيات مثبتة لجزئيات من علمه تعالى وقدرته، وكان ختامها العلم بالظالم وغيره، أتبعها الاختصاص بما هو أعم من ذلك، وهو علم مفاتح الغيب الذي لا يصل إليه إلا من حازها، إذ لا يطلع على الخزائن إلا من فتحها، ولا يفتحها إلا من حاز مفاتيحها وعلم كيف يفتح بها، فإثبات ذلك في هذا الأسلوب من باب الترقية في مراقي الاعتقاد من درجة كاملة إلى أكمل منها، فقال عاطفاً على معنى ما سبق، وهو‏:‏ فعنده خاصة جميع ذلك‏:‏ ‏{‏وعنده‏}‏ أي وحده ‏{‏مفاتح الغيب‏}‏ أي التي لا يدرك الغيب إلا من علمها‏.‏

ولما كان معنى ذلك الاختصاص، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏لا يعلمها إلا هو‏}‏ وتخصيصها بالنفي دون الخزائن دال على ما فهمته من أن التقييد فيها ب «لكم» يفهم أنه يجوز أن نقول ذلك للمؤمنين‏.‏

ولما ذكر علم الغيب، أتبعه علم الشهادة، لأن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام إلا للكُمَّل من الأنام الذين تجردوا فتعودوا استحضار المعقولات المجردة، والقرآن إنما أنزل لنفع جميع الخلق‏:‏ الذكي منهم والغبي، فكان ذكر المحسوسات الداخلة تحت القضية العقلية الكلية معيناً على تصور ذلك المعقول ورسوخه في القلب، فقال مؤكداً لهذا المعقول الكلي المجرد بمثال داخل تحته يجري مجرى المحسوس، وعطفُه بالواو عطفَ الخاص على العام إشارة إلى تعظيمه فقال‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في البر‏}‏ وقدمه لأن الإنسان أكثر ملابسة له بما فيه من القرى والمدن والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما بها من الحيوان والنبات النجم وذي الساق والمعادن ‏{‏والبحر‏}‏ وأخره لأن إحاطة العقل بأحواله أقل وإن كان الحس يدل على أن عجائبها أكثر، وطولها وعرضها أعظم، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب، فكان هذا الأمر المحسوس مقوياً لعظمة ذلك الأمر المعقول‏.‏

ولما ذكر ما يعم الثابت والمنتقل‏:‏ خص المنتقل تنصيصاً على الجزئيات وتعظيماً للعلم بتعظيم المعلومات فقال‏:‏ ‏{‏وما تسقط‏}‏ وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من ورقة‏}‏ ونكرها إتماماً للتعميم ‏{‏إلا يعلمها‏}‏ ولما كان هذا مع عظمه ظاهراً، ذكر ما هو أدق منه فقال‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي وما من ‏{‏حبة‏}‏ ودل على أن الأرض ليس لها من نفسها نور تنبيهاً على ما أودع هذا الآدمي المكوّن منها من الغرائب بقوله‏:‏ ‏{‏في ظلمات الأرض‏}‏ أي ولو كان في أقصى بطنها، فكيف بماهو في النور وهو أكبر من الحبة‏.‏

ولما خص، رجع إلى التعميم رداً للآخر على الأول فقال‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس‏}‏ أي وجد أو لم يوجد أو سيوجد ‏{‏إلا في كتاب مبين *‏}‏ أي موضح لأحواله وأعيانه وكل أموره وأحيانه، فثبت أنه فاعل لجميع العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان، لأنه وحده عالم بجميع المعلومات، ومن اختص بعلم جميع المعلومات كان مختصاً بصنع جميع المصنوعات قادراً على جميع المقدورات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

ولما كان من مفاتح الغيب الموت والبعث الذي ينكرونه، وكان من أدلته العظمة النوم والإيقاظ منه مع ما فيه من الإحسان المتكرر، وكان فيه مع ذلك تقرير لكمال القدرة بعد تقريره لكمال العلم، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي يتوفاكم‏}‏ أي يقبض أرواحكم كاملة بحيث لا يبقى عندكم شعور أصلاً، فيمنعكم التصرف بالنوم كما يمنعكم بالموت، وذكر الأصل في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏بالّيل ويعلم‏}‏ أي والحال أنه يعلم ‏{‏ما جرحتم‏}‏ أي كسبتم ‏{‏بالنهار‏}‏ أي الذي تعقبه النوم، من الذنوب الموجبة للإهلاك، ويعاملكم فيها بالحلم بعد العلم ولا يعجل عليكم، وهو معنى ‏{‏ثم يبعثكم‏}‏ أي يوقظكم بعد ذلك النوم المستغرق، فيصرفكم فيما يشاء ‏{‏فيه‏}‏ أي في النهار الذي تعقب ذلك النوم بعد استحقاقكم للانتقام ‏{‏ليقضى‏}‏ أي يتم ‏{‏أجل مسمى‏}‏ كتبه للموتة الكبرى‏.‏

ولما تمهد بهذا النشر بعد ذاك الطي في الموتة الصغرى القدرة على مثل ذلك في الموتة الكبرى، وكان فيه تقريب عظيم له قال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ يبعثكم من تلك الموتة كما بعثكم من هذه، ويكون ‏{‏إليه‏}‏ أي وحده ‏{‏مرجعكم‏}‏ أي حساً بالحشر إلى دار الجزاء، ومعنى بانقطاع الأسباب على ما عهد في الدنيا ‏{‏ثم‏}‏ بعد تلك المواقف الطوال والزلازل والأهوال، ويمكن أن تشير أداة التراخي إلى عظمة العلم بذلك، وإليه يرشد أكثر ما قبله من السياق ‏{‏ينبئكم‏}‏ أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستقصى ‏{‏بما كنتم تعملون *‏}‏ أي فيجازيكم عليه، ولعلمه عبر بالعمل لأن الحساب يكون على المكلفين الذين لهم أهلية العلم، فتقرر- مع كمال قدرته سبحانه على اختراع هذه الأشياء والعلم بها- استقلالُه بحفظها في كل حال وتدبيرها على أحسن وجه‏.‏

ولما أخبر بتمام العلم والقدرة، أخبر بغالب سلطنته وعظيم جبروته وأن أفعاله هذه على سبيل القهر لا يستطاع مخالفتها، فلو بالغ أحد في الاجتهاد في أن ينام في غير وقته ما قدر، أو أن يقوم وقت النوم لعجز، أو أن يحيي وقت الموت لم يستطع إلى غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي يفعل ذلك والحال أنه وحده بما له من غيب الغيب وحجب الكبرياء ‏{‏القاهر‏}‏ وصور ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فوق عباده‏}‏ أي في الإحاطة بالعلم والفعل، أما قهره للعدم فبالتكوين والإيجاد، وأما قهره للوجود فبالإفناء والإفساد بنقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى، فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور، والنهار بالليل والليل بالنهار- إلى غير ذلك من ضروب الكائنات وصروف الممكنات ‏{‏ويرسل‏}‏ ورجع إلى الخطاب لأنه أصرح فقال‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ من ملائكته ‏{‏حفظة‏}‏ أي يحفظون عليكم كل حركة وسكون لتستحيوا منهم وتخافوا عاقبة كتابتهم‏.‏ ويقوم عليكم بشهادتهم الحجة على مجاري عاداتكم، وإلا فهو سبحانه غني عنهم، لأنه العالم القادر فيحفظونكم على حسب مراده فيكم ‏{‏حتى إذا جاء‏}‏‏.‏

ولما كان تقديم المفعول أخوف قال‏:‏ ‏{‏أحدكم الموت‏}‏ أي الذي لا محيد له عنه ولا محيص ‏{‏توفته‏}‏ أي أخذت روحه كاملة ‏{‏رسلنا‏}‏ من ملك الموت وأعوانه على ما لهم من العظمة بالإضافة إلينا ‏{‏وهم لا يفرطون *‏}‏ في نفس واحد ولا ما دونه ولا ما فوقه بالتواني عنه ليتقدم ذلك عن وقته أو يتأخر؛ ولما أشار سبحانه إلى قوته بالجنود التي تفوت الحصر- وإن كان عنهم غنياً بصفة القهر- نبه بصيغة المجهول إلى استحضار عظمته وشامل جبروته وقدرته فقال‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد حبسهم في قيد البرزخ ‏{‏ردوا‏}‏ أي ردهم راد منه لا يستطيعون دفاعه أصلاً ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي لا تحد عظمته ولا تعد جنوده وخدمته ‏{‏مولاهم‏}‏ أي مبدعهم ومدبر أمورهم كلها ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت الولاية، وكل ولاية غير ولايته من الحفظة وغيرهم عدم، لأن الحفظة لا يعلمون إلا ما ظهر لهم، وهو سبحانه يعلم السر وأخفى‏.‏

ولما استحضر المخاطب عزته وقهره، وتصور جبروته وكبره، فتأهل قلبه وسمعه لما يلقى إليه ويتلى عليه، قال‏:‏ ‏{‏ألا له‏}‏ أي وحده حقاً ‏{‏الحكم‏}‏ ولما كان الانفراد بالحكم بين جميع الخلق أمراً يحير الفكر، ولا يكاد يدخل تحت الوهم، قال محقراً في جنب قدرته‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أ يوحده ‏{‏أسرع الحاسبين *‏}‏ يفصل بين الخلائق كلهم في أسرع من اللمح كما أنه يقسم أرزاقهم في الدنيا في مثل ذلك، لا يقدر أحد أن ينفك عن عقابه بمطاولة في الحساب ولا مغالطة في ثواب ولا عقاب، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى فكر وروية ولا عقد ولا كتابة، فلا يشغله حساب عن حساب ولا شيء عن شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏‏}‏

ولما تعرف بأفعاله وشؤونه حتى اتضحت وحدانيته وثبتت فردانيته، ذكرهم أحوالهم في إقرار توحيده وقت الشدائد والرجوع عن ذلك عند الإنجاء منها، فكانوا كمن طلب من شخص شيئاً وأكد له الميثاق على الشكر، فلما أحسن إليه بإعطائه سؤله نقض عهده وبالغ في الكفر، وذلك عندهم في غاية من القبائح لا توصف فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين يدعون محاسن الأعمال ‏{‏من ينجيكم‏}‏ أي كثيراً وعظيماً ‏{‏من ظلمات البر والبحر‏}‏ أي حيث لا هداية لكم بنجم ولا جبل ولا غيرهما، أإو عبر بالظلمات عن الكروب التي بلغت شدتها إلى أن صاحبها يكون كأنه في أشد ظلام، فهو بحيث إنه لا يهتدي فيها إلى وجه حيلة بنوع وسيلة ‏{‏تدعونه‏}‏ أي على وجه الإخلاص له والتوحيد والإعراض عن كل شرك وشريك لزوال الحظوظ عند إحاطة الرعب واستيلائه على مجامع القلب، فلا يبقى إلا الفطرة السليمة؛ قال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي‏:‏ ‏{‏تضرعاً‏}‏ أي مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر، وحقيقته الخشوع ‏{‏و‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏خفية‏}‏ أي تخفون في أنفسكم مثل ما تظهرون؛ قال شمر‏:‏ يقال‏:‏ ضرع له وهو ضارع بيّن الضراعة، وهؤلاء قوم ضرع، أي أذلاء، وهم ضرعة أي متضرعون، والتضرع إلى الله‏:‏ التخشع إليه والتذلل، وإذا كان الرجل مختل الجسم قلت‏:‏ إنه لضارع الجسم بيّن الضروع، وفي الذل بين الضراعة- انتهى‏.‏

ولما بين وصفهم وقت الدعاء، بين قولهم إذ ذاك فقال‏:‏ ‏{‏لئن أنجانا من هذه‏}‏ فأكدوا وخصوا وبينوا غاية البيان ‏{‏لنكونن من الشاكرين *‏}‏ أي العريقين في الشكر؛ ولما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله، ولكنهم يكفرون نعمته، عدوا منكرين فأمره بالجواب غير منتظر لجوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏ينجيكم منها‏}‏ أي من تلك الشدة ‏{‏ومن كل كرب‏}‏ أي وقعتم فيه، وما أعظم موقع قولُه‏:‏ ‏{‏ثم أنتم‏}‏ مع التزام الإخلاص في وقت الكرب ومع التزام الشكر ‏{‏تشركون *‏}‏ مشيراً إلى استبعاد نقضهم بأداة التراخي مع ما فيه من الجِناس لما كان ينبغي لهم من أنهم يشكرون‏.‏

ولما كانوا بإشراكهم كأنهم يظنون أن الشدة زالت عنهم زوالاً لا يعود، وكان اللائق بهم دوام التذلل إما وفاء وإما خوفاً، أخبرهم ترهيباً لهم من سطوته وتحذيراً من بالغ قدرته أن شدتهم تلك التي أذلتهم لم تزل في الحقيقة، فإن قدرة الملك عليها حالة الرخاء كقدرته عليها في وقتها سواء، فإنه خالق الحالتين وأسبابهما وما فيهما، ولكنهم عمي الأبصار أجلاف الطبائع فقال‏:‏ ‏{‏قل هو‏}‏ أي وحده ‏{‏القادر‏}‏ ولم يصغه صيغة مبالغة لأنهم لم يكونوا ينكرون قدرته إنما كانوا يدعون المشاركة التي نفاها بالتخصيص، على أن التعريف يفيد به المبالغة ‏{‏على أن يبعث‏}‏ أي في أيّ وقت يريده ‏{‏عليكم‏}‏ أي في كل حالة ‏{‏عذاباً من فوقكم‏}‏ بإسقاط السماء قطعاً أو شيء منها كالحجارة التي حصب بها قوم لوط وأصحاب الفيل أو بتسليط أكابركم ‏{‏أو من تحت أرجلكم‏}‏ أي بالخسف أو إثارة الحيات أو غيرها من الأرض كما وقع لبعض من سلف، أو بتسليط سفلتكم وعبيدكم عليكم ‏{‏أو يلبسكم‏}‏ أي يخلط بينكم حال كونكم ‏{‏شيعاً‏}‏ أي متفرقين، كل شيعة على هوى، فيكون ذلك سبباً للسيف ‏{‏ويذيق بعضكم‏}‏ أي بعض تلك الشيع ‏{‏بأس بعض‏}‏ فيساوي في ذلك بين الحرم وغيره، ويصير التخطف بالنهب والغارات عاماً، وسوق هذا الكلام هكذا يفهم إيقاعه في وقت ما لناس ما، لأن كلام الملوك يصان عن أن لا يكون له صورة توجد وإن كان على سبيل الشرط ونحوه، فكيف بملك الملوك علام الغيوب‏!‏ وللتدريب على مثل هذا الفهم في كلام الله تعالى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي في التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه‏:‏ أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد‏.‏

وقال‏:‏ حسن غريب، وسيأتي لهذا مزيد بسط وتحقيق في قوله تعالى في الفرقان ‏{‏تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏‏.‏

ولما كان هذا بياناً عظيماً، أشار إلى عظمه بقوله‏:‏ ‏{‏انظر‏}‏ وعظمه تعظيماً آخر بالاستفهام فقال ‏{‏كيف نصرف الآيات‏}‏ أي أي نكررها موجهة في جميع الوجوه البديعة النافعة البليغة ‏{‏لعلهم يفقهون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى فهمه وانتفاعه به، كان هذا ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏كذب به‏}‏ أي هذا العذاب أو القرآن المشتمل على الوعد والوعيد والأسباب المبينة للخلق جميع ما ينفعهم ليلزموه وما يضرهم ليحذروه ‏{‏قومك‏}‏ أي الذين من حقهم أن يقوموا بجميع أمرك ويسروا بسيادتك، فإن القبيلة إذا ساد أحدها عزت به، فإن عزه عزها وشرفه شرفها، ولا سيما إذا كان من بيت الشرف ومعدن السيادة، وإذا سفل أحدها اهتمت به غاية الاهتمام وسترت عيوبه مهما أمكنها فإن عاره لاحق بها، فهو من عظيم التوبيخ لهم ودقيق التقريع، وزاد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت الذي لا يضره التكذيب به ولا يمكن زواله‏.‏

ولما كان الإنسان ربما حصل له اللوم بسبب قومه كان صلى الله عليه وسلم في هذا المقام بمعرض أن يخاف عاقبة ذلك ويقول‏:‏ فماذا أصنع بهم‏؟‏ فقال تعالى معلماً أنه ليس عليه بأس من تكذيبهم‏:‏ ‏{‏قل لست‏}‏ وقدم الجار والمجرور للاهتمام به معبراً بالأداة الدالة على القهر والغلبة فقال‏:‏ ‏{‏عليكم بوكيل *‏}‏ أي حفيظ ورقيب لأقهركم على الرد عما أنتم فيه‏.‏