فصل: تفسير الآيات رقم (160- 162)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 162‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

ولما أخبر أن أمرهم ليس إلا إليه، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا يفعل بهم حينئذ‏؟‏ فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏من جاء‏}‏ أي منهم أو من غيرهم ‏{‏بالحسنة‏}‏ أي الكاملة بكونها على أساس الإيمان ‏{‏فله‏}‏ من الحسنات ‏{‏عشر أمثالها‏}‏ كرماً وإحساناً وجوداً وامتناناً، يجازيه بذلك في الدنيا أو في الآخرة، وهذا المحقق لكل أحد ويزداد البعض وضوحاً بحسب النيات، وذكر العشر، لأنه بمعنى الحسنة، وهو مضاف إلى ضميرها‏.‏ ولما تضمن قوله ‏{‏وأوفوا الكيل والميزان بالقسط‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ مع تعقيبه بقوله ‏{‏لا نكلف نفساً إلاّ وسعها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ الإشارة إلى أن المساواة في الجزاء مما ينقطع دونه أعناق الخلق، أخبر أن ذلك عليه هين لأن عمله شامل وقدرته كاملة بقوله‏:‏ ‏{‏ومن جاء بالسيئة‏}‏ أي أيّ شيء كان من هذا الجنس ‏{‏فلا يجزى‏}‏ أي في الدارين ‏{‏إلا مثلها‏}‏ إذا جوزي، ويعفو عن كثير‏.‏

ولما كانت المماثلة لا يلزم كونها من كل وجه وإن كانت ظاهرة في ذلك لا سيما في هذه العبارة، صرح بما هو ظاهره لأنه أطيب للنفس وأسكن للروع فقال‏:‏ ‏{‏وهم لا يظلمون *‏}‏ أي بكونها مثلها في الوحدة وإن كانت أكبر أو من جنس أشد من جنسها ونحو ذلك، بل المماثلة موجودة في الكم والكيف، فلا ينقص أحد في ثواب ولا يزاد في عقاب‏.‏

ولما تضمن ما مضى تصحيح التوحيد بالأدلة القاطعة وتحقيق أمر القضاء والقدرة وإبطال جميع أديان الضلال ووصفها بتفرق أهلها الدال على بطلانها واعوجاجها، وختم بهذا التحذير الذي لا شيء أقوم منه ولا أعدل، أمره صلى الله عليه وسلم بالإعلان بأمره وأن يصف دينه الذي شرعه له وهداه إليه بما فيه من المحاسن تحبيباً فيه وحثاً عليه ولأن ذلك من نتيجة هذه السورة فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ وأكد بالإتيان بالنونين فقال‏:‏ ‏{‏إنني هداني‏}‏ أي بياناً وتوفيقاً ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بكل خير لا سيما هذا الذي أوحاه إليّ وأنزله عليّ ‏{‏إلى صراط مستقيم *‏}‏ أي طريق واسع بين، ثم مدحه بقوله‏:‏ ‏{‏ديناً قيماً‏}‏ أي بالغ الاعتدال والاستقامة ثابتها، هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بفتح القاف وتشديد الياء المكسورة، وهو في قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الياء الخفيفة مصدر بمعنى القيام وصف به للمبالغة، وزاده مدحاً بقوله مذكراً لهم- لتقليدهم الآباء- بأنه دين أبيهم الأعظم‏:‏ ‏{‏ملة إبراهيم‏}‏ والملة ما أظهره نور العقل من الهدى في ظُلَم ما التزمه الناس من عوائد أمر الدنيا- أفاده الحرالي‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏حنيفاً‏}‏ أي ليناً هيناً سهلاً قابلاً للاستقامة لكونه ميالاً مع الدليل غير جاف ولا كز واقف مع التقليد عمى عن نور الدليل- كما تقدم ذلك في البقرة، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏كان من المشركين *‏}‏ أي الجامدين مع أوهامهم في ادعاء شريك لله مع رؤيتهم له في كونه لا يضر ولا ينفع ولا يصلح لشركة آدمي فضلاً عن غيره بوجه، لا ينقادون لدليل ولا يصغون إلى قيل، فكان هذا مدحاً لهذا الدين الذي هدى إليه صلى الله عليه وسلم وبياناً لأنه الذي اختاره سبحانه لخليله إبراهيم عليه السلام رجوعاً إلى

‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ الذي بنيت السورة في الحقيقة عليه، وألقيت أزمة أطرافها إليه، وترغيباً في هذا الدين لأن جميع المخالفين يتشبثون بأذيال إبراهيم عليه السلام‏:‏ العرب وأهل الكتابين بنسبة الأبوة، والمجوس بنسبة البلد والأخوة، وأشار بذلك إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم فهم ما حاج به أبوه إبراهيم عليه السلام قومه وقبله، فلم ينسب كغيره إلى جمود ولا عناد‏.‏

ولما كان كأن سائلاً قال‏:‏ وما هذه الملة التي تكرر مدحها والدعاء إليها‏؟‏ أجاب بقوله ليتأسى به أهل الإيمان، فليلتزموا جميع ما يدعو إليه على وجه الإخلاص‏:‏ ‏{‏قل إن صلاتي‏}‏ أي التي هي لباب الدين وصفاوته ‏{‏ونسكي‏}‏ أي جميع عبادتي من الذبائح وغيرها ‏{‏ومحياي‏}‏ أي حياتي وكل ما تجمعه من زمان ومكان وفعل ‏{‏ومماتي لله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا يخرج شيء عن أمره؛ ولما علم بالاسم الأعظم أنه يستحق ذلك لذاته، أعلم أنه يستحقه من كل أحد لإحسانه إليه وإنعامه عليه فقال‏:‏ ‏{‏رب العالمين *‏}‏ الموجد والمدبر والموعي لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 165‏]‏

‏{‏لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

ولما أعلم أنه يستحقه لذاته ووصفه، أعلم أنه يستحقه وحده فقال‏:‏ ‏{‏لا شريك له‏}‏ أي ليكون لشريكه على زعمكم شيء من العبادة لما كان له شيء من الربوبية، فأبان بهذا أن وجهه صلى الله عليه وسلم ووجه من تبعه واحد لا افتراق فيه، وهو قصد الله وحده على سبيل الإخلاص كما أنه يوحد بالإحياء والإماتة فينبغي أن يوحد بالعبادة‏.‏

ولما دل على ذلك ببرهان العقل، أتبعه بجازم النقل فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ إلى ذلك أرشدني دليل العقل‏:‏ ‏{‏وبذلك‏}‏ أي الأمر العالي من توجيه أموري إليه على وجه الإخلاص‏.‏

ولما كان له سبحانه في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فكان كل شيء آمراً بالتوحيد بلسان حاله أو ناطق قاله، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أمرت‏}‏ أي يعني أن هذا الدين لو لم يرد به أمر كان ينبغي للعاقل أن يدين به ولا يعدل عنه لشدة ظهوره وانتشار نوره بما قام عليه من الدلائل ودرج على اتباعه من الأفاضل والأماثل، فكيف إذا برزت به الأوامر الإلهية ودعت إليه الدواعي الربانية ‏{‏وأنا أول المسلمين *‏}‏ أي المنقادين لما يدعو إليه داعي الله في هذا الدين، لا اختيار لي أصلاً، بل أنا مسلوب الاختيار فيه منقاد أتم انقياد، وهذه الأولية على سبيل الإطلاق في الزمان والرتبة بالنسبة إلى أمته صلى الله عليه وسلم وفي الرتبة بالنسبة إلى من تقدمه من الأنبياء وغيرهم، وهذا أيضاً من باب الإحسان في الدعاء بالتقدم إلى ما يدعو إليه وأن يحب للمدعو ما يحب لنفسه ليكون أنفى للتهمة وأدل على النصيحة فيكون أدعى للقبول‏.‏

ولما حاجوه في الشرك في هذه السورة غير مرة كما حاج إبراهيم عليه السلام قومه، وكان آخر ذلك أن دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تلاوة ما أنزل عليه سبحانه في تحريم الشرك وشرح دينه القيم، ثم كرر هنا ذمهم بالتفرق الدال على الضلال ولا بد، ومدح دين الرسل الذي تقدم أنهم لم يختلفوا فيه أصلاً، وأيأس الكفار من موافقته صلى الله عليه وسلم لهم نوعاً من الموافقة وميله معهم شيئاً من الميل، أمره سبحانه- بعد أن ثبت بأول السورة وأثنائها وآخرها أنه لا رب غيره- بالإنكار على من يريد منه ميلاً إلى غير من تفرد بمحياه ومماته، فكان له التفرد بما بينهما وما بعد ذلك من غير شبهة، والتوبيخ الشديد فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذي يطمعون أن تطرد أصحابك من أجلهم ‏{‏أغير الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏أبغي‏}‏ أي أطلب وأريد بالإشراك فإن الغنى المطلق لا يقبل ممن أشرك به شيئاً ‏{‏رباً‏}‏ أي منعماً يتولى مصالحي كما بغيتم أنتم، فهو تعريض بهم وتنبيه لهم، والإسناد إليه صلى الله عليه وسلم- والمراد جميع الخلق- من باب الإنصاف في المناظرة للاستعطاف ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه كما ثبت بالقواطع وركز في العقول الثوابت وطبع في أنوار الأفكار اللوامع ‏{‏رب كل شيء‏}‏ أي موجده ومربيه، أفينبغي لأحد أن يدين لغير سيده وذلك الغير مربوب مثله لسيده، هذا ما لا يرضاه عاقل لنفسه‏.‏

ولما أنكر على من يجنح إلى غيره مع عموم بره وخيره، أتبعه الترويع من قويم عدله في عظيم ضره فقال‏:‏ ‏{‏ولا‏}‏ أي والحال أنه لا ‏{‏تكسب كل نفس‏}‏ أي ذنباً وإن قل مع التصميم والعزم القوي الذي هو بحيث يصدقه العمل- كما مضى في آية البقرة ‏{‏إلا عليها‏}‏ أي لا يمكن أن يكون باطلاً لا عليها ولا على غيرها، وإذا كان عليها لا يمكن أن يحاسب به سبحانه سواها لأنه عدل حكيم فكيف أدعو غيره دعاء جلياً أو خفياً وذلك أعظم الذنوب‏!‏ وللتنفير من الشرك الخفي بالرياء وكل معصية وإن صغرت، جرد الفعل عن الافتعال لئلا يتوهم أنه لا يكون عليها إلا ما بالغت فيه، والسياق هنا واضح في أن الكسب مقيد بالذنب فإنه في دعاء غير الله وآية البقرة للإيماء إلى الذنب الذي لا يقع إلا بشهوة شديدة من النفس له لطبعها على النقائص، فهي لا تنافي هذه لأن ما كسبته من الذنوب قد علم من ثَمَّ أنه اكتساب، وأحسن من هذا أن يقال‏:‏ ولما كان المعنى أني إن بغيت رباً غيره وكلني إلى ما توليته، وأنا إنسان والإنسان مطبوع على النقائص فهلكت، عبر عنه بقوله مجرداً للفعل لقصد العموم‏:‏ ‏{‏ولا تكسب كل نفس‏}‏ بما هي نفس ناظرة في نفاستها معرضة عن ربها موكولة إلى حولها وقوتها ‏{‏إلا عليها‏}‏ ولا يحمل عنها غيرها شيئاً من وزرها؛ ولما كان ربما حمل أحد عن غيره شيئاً من أثقاله مساعدة له، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة‏}‏ أي تحمل حاملة ولو كانت والداً أو ولداً ‏{‏وزر‏}‏ أي إثم ‏{‏أخرى‏}‏ ‏{‏وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 18‏]‏ فإذا كان الأمر كذلك فلا يجعل بعاقل أن يعرض نفسه بحمل شيء من غضب هذا الملك الذي لا شريك له وإليه المرجع وإن طال المدى‏.‏

ولما عم في الكسب وحمل الوزر لئلا يقول متعنت أن خص هذا لك لا لنا، عم في المرجع أيضاً لمثل ذلك، فقال مهدداً لهم بعد كمال الإيضاح عاطفاً على ما أرشد إليه الإنكار من النفي في نحو أن يقال‏:‏ إني لا أفعل شيئاً من ذلك، لا أبغي رباً غير ربي أصلاً، وأما أنتم فافعلوا ما أنتم فاعلون فإن ربكم عالم به‏:‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد طول الإمهال لكم لطفاً منه بكم ‏{‏إلى ربكم‏}‏ أي الذي أحسن إليكم بكل نعمة، لا إلى غيره ‏{‏مرجعكم‏}‏ أي بالحشر وإن عمرتم كثيراً أو بقيتم طويلاً ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي يخبركم إخباراً جليلاً عظيماً مستوفى‏.‏

ولما كان قد تقدم أنهم فرقوا دينهم، قال‏:‏ ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً، ولذلك قدم الجار ليفيد الاهتمام به لقوة داعيتهم إليه من غير إكراه ولا ذهول ولا نسيان فقال‏:‏ ‏{‏فيه تختلفون *‏}‏ أي مع رسول وغيره، ويدينكم على جميع ذلك بما تستحقونه، وحالكم جدير بأن يعظم عقابكم لأنكم كفرتم نعمته؛ قال أبو حيان‏:‏ حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع يا محمد إلى ديننا واعبد آلهتنا واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية- انتهى‏.‏

ولما قدم أنه المحسن إلى كل شيء بالربوبية، وختم بالتهديد بالحشر، أتبعه التذكير بتخصيصهم بالإحسان، فقال عاطفاً على ‏{‏وهو رب كل شيء‏}‏ مستعطفاً لهم إليه بالتذكير بنعمته‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي جعلكم‏}‏ أي أيها الإنس ‏{‏خلائف الأرض‏}‏ أي تفعلون فيها فعل الخليفة متمكنين من كل ما تريدونه، ويجوز أن يراد بذلك العرب، ويكون ظاهر الكلام أن المراد بالأرض ما هم فيه من جزيرة العرب، وباطنه البشارة بإعلاء دينهم الإسلام على الدين كله وغلبتهم على أكثر أهل الأرض في هذه الأزمان وعلى جميع أهل الأرض في آخر الزمان ‏{‏ورفع بعضكم‏}‏ في مراقي العقل والعلم والدين المال والجاه والقوة الحسية والمعنوية ‏{‏فوق بعض درجات‏}‏ أي مع كونكم من نفس واحدة، وربما كان الوضيع أعقل من الرفيع ولم ينفعه عقله فيدل ذلك دلالة واضحة على أن ذلك كله إنما هو فعل الواحد القهار، لا بعجز ولا جهل ولا بخل؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ليبلوكم‏}‏ أي يفعل معكم فعل المختبر ليقيم الحجة عليكم وهو أعلم بكم منكم ‏{‏في ما آتاكم‏}‏ فينظر هل يرحم الجليل الحقير ويرضى الفقير بعطائه اليسير، ويشكر القوي ويصبر الضعيف‏!‏‏.‏

ولما ذكر علو بعضهم على بعض، وكان من طبع الآدمي التجبر، أتبعه التهديد للظالم والاستعطاف للتائب بما يشير- بما له سبحانه من علو الشأن وعظيم القدرة- إلى ضعف العالي منهم وعجزه عن عقاب السافل بمن يحول بينه وبينه من شفيع وناصر وبما يحتاج إليه من تمهيد الأسباب، محذراً من البغي والعصيان فقال موجهاً الخطاب إلى أكمل الخلق تطييباً لقلبه إعلاماً بأنه رباه سبحانه أجمل تربية وأدبه أحسن تأديب‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏سريع الحساب‏}‏ أي لمن يريد عقابه ممن يكفر نعمته لكونه لا حائل بينه وبين من يريد عقابه ولا يحتاج إلى استحضار آلات العقاب، بل كل ما يريد حاضر لديه عتيد

‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، وفي ذلك تهديد شديد لمن لا يتعظ‏.‏

ولما هدد وخوف، رجّى من أراد التوبة واستعطف فقال‏:‏ ‏{‏وإنه لغفور رحيم *‏}‏ معلماً بأنه- على تمام قدرته عليهم وانهماكهم فيما يوجب الإهلاك- بليغ المغفرة لهم عظيم الرحمة ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏، حثاً على عفو الرفيع من الوضيع، وتأكيده الثاني دون الأول ناظر إلى قوله ‏{‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏، «إن رحمتي سبقت غضبي» لأنه في سياق التأديب لهذه الأمة والتذكير بالإنعام عليهم بالاستخلاف، وسيأتي في الأعراف بتأكيد الاثنين لأنه في حكاية ما وقع لبني إسرائيل من إسراعهم في الكفر ومبادرتهم إليه واستحقاقهم على ذلك العقوبة، وجاء ذلك على طريق الاستئناف على تقدير أن قائلاً قال‏:‏ حينئذ يسرع العالي إلى عقوبة السافل‏!‏ فأجيب بأن الله فوق الكل وهو أسرع عقوبة، فهو قادر على أن يسلط الوضيع أو أحقر منه على الرفيع فيهلكه؛ ثم رغب بعد هذا الترهيب في العفو بأنه على غناه عن الكل أسبل ذيل غفرانه ورحمته بإمهاله العصاة وقبوله اليسير من الطاعات بأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور منافع لهم ثم هم به يعدلون‏!‏ ولولا غفرانه ورحمته لأسرع عقابه لمن عدل به غيره فأسقط عليهم السماوات وخسف بهم الأرضين التي أنعم عليهم بالخلافة فيها وأذهب عنهم النور وأدام الظلام، فقد ختم السورة بما به ابتدأها، فإن قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ هو معنى قوله‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏،- والله الموفق‏.‏

سورة الأعراف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة وميدان البراعة، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم واستمر فيها لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به، فاشتد اعتناقه له حتى صارا كشيء واحد؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه، فقال مخبراً عن مبتدإ تقديره‏:‏ هو ‏{‏كتاب‏}‏ أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، فإنزاله من عظيم رحمته؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله‏:‏ ‏{‏أنزل إليك‏}‏ أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم إصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستصى‏.‏

ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة‏:‏ ‏{‏فلا يكن‏}‏ وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال‏:‏ ‏{‏في صدرك حرج‏}‏ أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك ‏{‏منه‏}‏ على ما تعلق ب «أنزل» من قوله‏:‏ ‏{‏لتنذر به‏}‏ أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة- كما أشار إليه آخر الأنعام، وسيقص من أخبارهم من هذه السورة ‏{‏و‏}‏ لتنذر به ‏{‏ذكرى‏}‏ أي عظيمة ‏{‏للمؤمنين*‏}‏ أي بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام، وحذف المفعول يدل على عموم الرسالة لكل من أمكن إنذاره وتذكيره من العقلاء، ويجوز أن تتعلق لام «لتنذر» بمعنى النهي، أي انف الحرج لكذا، فإن من كان منشرح الصدر أقدم على ما يريد أو يحرج، أي لا يكن الحرج الواقع لأجل أن تنذر، أي لأجل إنذارك به، والنهي للنبي صلى الله عليه وسلم، حُوّل إلى الحرج مبالغة وأدباً، ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ لتنذر به وتذكر به، فإنه نذرى للكافرين وذكرى للمؤمنين، والآية على كل تقدير من الاحتباك‏:‏ إثباته «لتنذر» أولاً، دال على حذف «لتذكر» ثانياً، وإثبات المؤمنين ثانياً دال على حذف المخالفين أولاً، فإن النفوس على قسمين‏:‏ نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الحيوانية فبعثة الرسل في حقهم إنذار وتخويف، ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حقهم تذكير لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية وجبلتها الخلقية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الأجساد فيعرض لها نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصلت بها أنوار أرواح رسل الله تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، فاشتاقت إلى ما حصل هناك من الروح والريحان فطارت نحوهم كل مطار فتمحضت لديها تلك الأنوار؛ وقال أبو حيان‏:‏ واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه لما ذكر تعالى قوله‏:‏

‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏ واستطرد ممنه لما بعده إلى قوله في آخر السورة ‏{‏وهو الذي جعلكم خلائف الأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 165‏]‏ وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما يكون به التكاليف، وهو الكتاب الإلهي، وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 155‏]‏- انتهى‏.‏ وقال شيخه الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما قال تعالى ابتداء بالاعتبار ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 6‏]‏ ثم قال تعالى ‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 10‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 11‏]‏ ثم قال تعالى ‏{‏ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 34‏]‏ وقال تعالى ‏{‏ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42‏]‏، وقال تعالى ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 13‏]‏ فوقعت الإحالة في هذه الآي على الاعتبار بالأمم السالفة وما كان منهم حين حين كذبوا أنبياءهم وهلاك تلك القرون بتكذيبهم وعتوهم وتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم بجريان ما جرى له بمن تقدمه مت الرسل ‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 33‏]‏ فاستدعت الإحالة والتسلية بسط أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، والإعلام بصبر الرسل- عليهم السلام- عليهم وتلطفهم في دعائهم، ولم يقع في السور الأربع قبل سورة الأنعام مثل هذه الإحالة والتسلية وقد تكررت في سورة الأنعام كما تبين بعد انقضاء ما قصد من بيان طريق المتقين أخذاً وتركاً وحال من حاد عن سننهم ممن رامه أو قصده فلم يوفق له ولا أتم له أمله من الفرقتين‏:‏ المستندة للسمع والمعتمدة للنظر، فحاد الأولون بطارئ التغيير والتبديل، وتنكب الآخرون بسوء التناول وقصور الأفهام وعلة حيد الفريقين السابقة الأزلية؛ فلما انقضى أمر هؤلاء وصرف الخطاب إلى تسليته عليه السلام وتثبيت فؤاده بذكر أحوال الأنبياء مع أممهم وأمر الخلق بالاعتبار بالأمم السالفة، وقد كان قدّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر الأنبياء

‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ بسط تعالى حال من وقعت الإحالة عليه، واستوفى الكثير من قصصهم إلى آخر سورة هود إلى قوله سبحانه ‏{‏وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏ فتأمل بما افتتحت به السورة المقصودة بها قصص الأمم وبما اختتمت يَلُح لك ما أشرت إليه- والله أعلم بمراده، وتأمل افتتاح سورة الأعراف بقوله ‏{‏فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 7‏]‏ وختم القصص فيها بقوله‏:‏ ‏{‏فاقصص القصص لعلهم يتفكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ بعد تعقيب قصص بني إسرائيل بقصة بلعام ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 175‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏ فتأمل هذا الإيماء بعد ذكر القصص، وكيف ألحق مَنْ كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم بمن قص ذكره من المكذبين، وتأمل افتتاح ذكر الأشقياء بقصة إبليس وختمها بقصة بلعام وكلاهما ممن كفر على علم، وفي ذلك أعظم موعظة، قال الله تعالى إثر ذلك ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 178‏]‏، فبدأ الاستجابة بنبيه صلى الله عليه وسلم بذكر ما أنعم عليه وعلى من استجاب له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏المص كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1-2‏]‏ فأشار إلى نعمته بإنزال الكتاب الذي جعله هدى للمتقين، وأشار هنا ما يحمله عليه من التسلية وشرح الصدور بما جرى من العجائب والقصص مع كونه هدى ونوراً، فقال ‏{‏فلا يكن في صدرك حرج منه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم، وليتذكر المؤمنون؛ ثم أمر عباده بالاتباع لما أنزله فقال‏:‏ ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ فإنة هلاك من نقص عليكم خبره من الأمم إنما كان لعدم الاتباع والركون إلى أوليائهم من شياطين الجن والإنس، ثم أتبع ذلك بقصة آدم عليه السلام ليبين لعباده ما جرت سنته فيهم من تسلط الشياطين وكيده وأنه عدو لهم ‏{‏يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ ووقع في قصة آدم هنا ما لم يقع في قصة البقرة من بسط ما أجمل هناك كتصريح اللعين بالحسد وتصور خيريته بخلقه من النار وطلبة الإنظار والتسلط على ذرية آدم والإذن له في ذلك ووعيده ووعيد متبعيه ثم أخذ في الوسوسة إلى آدم عليه السلام وحلفه له ‏{‏وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ وكل هذا مما أجمل في سورة البقرة ولم تتكرر قصة إلا وهذا شأنها، أعني أنها تفيد مهما تكررت ما لم يكن حصل منها أولاً؛ ثم انجزت الآي إلى ابتداء قصة نوح عليه السلام واستمرت القصص إلى قصص بني إسرائيل، فبسط هنا من حالهم وأخبارهم شبيه ما بسط في قصة آدم وما جرى من محنة إبليس، وفصل هنا الكثير وذكر ما لم يذكر في البقرة حتى لم يتكرر بالحقيقة ولا التعرض لقصص طائفة معينة فقط، ومن عجيب الحكمة أن الواقع في السورتين من كلتا القصتين مستقل شاف، وإذا ضم بعض ذلك إلى بعض ارتفع إجماله ووضح كماله، فتبارك من هذا كلامه ومن جعله حجة قاطعة وآية باهرة‏.‏

ولما أعقب تعالى قصصهم في البقرة بأمره نبيه والمؤمنين بالعفو والصفح فقال تعالى ‏{‏فاعفوا واصفحوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ أعقب تعالى أيضاً هنا بقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام ‏{‏خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ وقد خرجنا عن المقصود فلنخرج إليه- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

ولما تقدم سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم في أمر الإنذار والإذكار بالكتاب تقدم إلى اتباعه فأمرهم باتباعه ونهاهم عن اتباع أهل الضلال وما يوحي إليهم أولياؤهم من زخارفهم بعد أن أخبر بكونه ذكرى أنه سبب لعلو شأنهم وعز سلطانهم، فقال ملتفتاً إليهم مقبلاً بعز جلاله عليهم ‏{‏اتبعوا‏}‏ أي حملوا أنفسكم حملاً عظيماً بجد ونشاط على اتباع ‏{‏ما أنزل إليكم‏}‏ أي قد خصصتم به دون غيركم فاشكروا هذه النعمة ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لم يزل محسناً إليكم ‏{‏ولاتتبعوا‏}‏ ولعله عبر بالافتعال إيماء إلى أن ما كان دون علاج- بل هفوة وبنوع غفلة- في محل العفو ‏{‏من دونه‏}‏ أي دون ربكم ‏{‏أولياء‏}‏ أي من الذين نهيناكم عنهم في الأنعام وبينا ضررهم لكم من شياطين الإنس والجن وعدم إغنائهم وأن الأمر كله لربكم‏.‏

ولما كانوا قد خالفوا في اتباعهم صريح العقل وسليم الطبع، وعندهم أمثلة ذلك لو تذكروا، قال منبهاً لهم على تذكر ما يعرفون من تصرفاتهم‏:‏ ‏{‏قليلاً‏}‏ وأكد التقليل ب «ما» النافي وبإدغام تاء التفعيل فقال‏:‏ ‏{‏ما تذكرون*‏}‏ أي تعالجون أنفسكم على ذكر ما هو مركوز في فطركم الأولى فإنكم مقرون بأن ربكم رب كل شيء، فكل من تدعون من دونه مربوب، وأنتم لا تجدون في عقولكم ولا طباعكم ولا استعمالاتكم ما يدل بنوع دلالة على أن مربوباً يكون شريكاً لربه‏.‏

ولما كان من أعظم ما يتذكر سار النعم وضار النقم للإقبال على الله والإعراض عما سواه وعدم الأغترار باسباب الأمن والراحة، قال‏:‏ ‏{‏وكم‏}‏ أي قلّ تذكركم وخوفكم من سطواتنا والحال أنه كم ‏{‏من قرية‏}‏ وإن جلت؛ ولما كان المراد المبالغة في الإهلاك، أسنده إلى القرية والمراد أهلها فقال‏:‏ ‏{‏أهلكناها‏}‏ أي بما لنا من العظمة لظلمها باتباع من دون الله، فلا تغتروا بأوليائكم من دونه وأنتم عالمون بأنهم لم ينفعوا من ضل من الأمم السالفة وقت إنزالنا بهم السطوة وإحلالنا بهم النقمة وتحقق المهلكون إذ ذاك- مع أنهم كانوا أشد بطشاً واكثر عدداً وأمتن كيداً- عدم إغنائهم فلم يوجهوا آمالهم نحوهم‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ أردنا إهلاكها وحكمنا به، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فجاءها بأسنا‏}‏ أي عذابنا بما لنا من القوة والعظمة، أو الإهلاك على حقيقته وهذا تفصيل له وتفسير؛ ولما كان لا فرق في إتيان عذابه سبحانه بين كونه ليلاً أو نهاراً، وكان أفحش البأس وأشده ما كان في وقت الراحة والدعة والغفلة قال‏:‏ ‏{‏بياتاً‏}‏ أي وقت الاستكنان في البيوت ليلاً كما أهلك قوم لوط عليه السلام وقت السحر‏.‏

ولما كان المراد بالقرية اهلها، بينه بقوله لأنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران بحسب ما يحسن من المعنى‏:‏ أن لا يلتفت إليه- كما في اول الآية، وإن يلتفت إليه- كما في هذا الأخير لبيان أن الأهل هم المقصودون بالذات لأنه موضع التهديد‏:‏ ‏{‏أو هم قائلون*‏}‏ أي نائمون وقت القائلة أو مستريحون من غير نوم كما أهلك قوم شعيب عليه السلام، يعني أنهم كانوا في كل من الوقتين غافلين بسبب أنهم كانوا آمنين، لم يظنوا أن شيئاً من أعمالهم موجب للعذاب ولا كانوا مترقبين لشيء منه، فالتقدير‏:‏ بياتاً هم فيه بائتون أي نائمون، أو قائلة هم فيها قائلون أي نائمون، فالآية من الاحتباك‏:‏ دل إثبات «بياتاً» أولاً على حذف «قائلة» ثانياً، وإثبات «هم قائلون» ثانياً على حذف «هم نائمون» أولاً، والذي أرشدنا إلى هذا المعنى الحسن سوق «هم» من غير واو، وهذا قريب من قوله تعالى فيما يأتي

‏{‏أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 97‏]‏ فالأقرب أن يكون المحذوف أولاً نائمون، وثانياً نهاراً، فيكون التقدير‏:‏ بياتاً هم فيه نائمون، أو نهاراً هم فيه قائلون، وبين عظمة ما جاءهم وهوله بأنهم في كل من الوقتين لم يقع في فكر أحد منهم التصويب إلى مدافعته بما سبب عن ذلك من قوله‏:‏ ‏{‏فما كان دعواهم‏}‏ أي قولهم الذي استدعوه ‏{‏إذ جاءهم بأسنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إلا أن قالوا‏}‏ أي إلا قولهم ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي بما لنا من الجبلة ‏{‏ظالمين*‏}‏ أي في أنا لم نتبع من أنزل إلينا من ربنا، فلم يفدهم ذلك شيئاً غير شدة التحسر؛ ثم سبب عما مضى من أمر الرسول والأمم قوله دفعاً لوهم من يظن أن الأمر انقضى بما عذبوا به في الدنيا‏:‏ ‏{‏فلنسئلن‏}‏ أي بما لنا من العظمة على جهة التوبيخ والتقريع للعصاة والتشريف والتعظيم للمطيعين، وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏‏.‏

ولما كانت الملامة على تكذيب الرسول لا بقيد كونه معيناً بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أرسل إليهم‏}‏ أي وهم الأمم، هل امتثلوا أوامرنا وأحجموا عند زواجرنا كما أمرتهم الرسل أم لا ‏{‏ولنسئلن‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏المرسلين*‏}‏ أي هل كان في صدورهم حرج مما أرسلناهم به وهل بلغوه أم لا يوم تكونون شهداء على الناس بما علمتم من شهادتي في هذا القرآن ويكون الرسول عليكم شهيداً فإنا لا بد أن نحييكم بعد الموت ثم نسألكم في يوم تظهر فيه السرائر وتنكشف- وإن اشتد خفاؤها- الضمائر، ولنرين الأفعال والأقوال، ولا نترك شيئاً من الأحوال‏.‏

ولما كان السؤال يفهم خفاء المسؤول عنه على السائل، سبب عن ذلك ما يزيل هذا الوهم بقوله مؤذناً بأنه أعلم من المسؤولين عما سألهم عن‏:‏ ‏{‏فلنقصن‏}‏ أي بما لنا من صفات العظمة المستلزمة لكل كمال ‏{‏عليهم‏}‏ أي المسؤولين من الرسل وأممهم، جميع أحوالهم وما يستحقون من جزائها ‏{‏بعلم‏}‏ أي مقطوع به لا مظنون، فقد كنا معهم في جميع تقلباتهم ‏{‏وما كنا‏}‏ أي في وقت من الأوقات كما هو مقتضى ما لنا من العظمة ‏{‏غائبين*‏}‏ أي مطلقاً ولا عن أحد من الخلق بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ما لنا من صفات الكمال، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى ‏{‏وأوفوا الكيل والميزان بالقسط‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152‏]‏ الآية إلى المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي، والنص في قوله تعالى ‏{‏ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏ على قدرة القدير على ذلك، وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه، أكد الأمر أيضاً وقصره على علمه هنا فقال‏:‏ ‏{‏والوزن‏}‏ بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للاعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به، ولعله حال من نون العظمة في الاية التي قبلها، أي إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي؛ قال أبو حيان وعلي بن الحسين النحوي الأصفهاني في إعرابه‏:‏ «الوزن» مبتدأ ‏{‏يومئذ‏}‏ ظرف منصوب به ‏{‏الحق‏}‏ خبر المبتدأ، زاد الأصفهاني فقال‏:‏ واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل ‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 148‏]‏- انتهى‏.‏ أي والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق، يطابقه الواقع مطابقة حقيقية لا فضل فيها أصلاً ولا يتجاوز الوزن في ذلك اليوم الحق إلى شيء من الباطل بزيادة ذرة ولا نقصها ولا ما دون ذلك، فتحرر أن مقصود السورة الحث على اتباع الكتاب، وهو يتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد- من إنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع، لما قام من الأدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله- أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار اثر الغضب‏.‏

ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فمن ثقلت‏}‏ أي دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا ‏{‏موازينه‏}‏ أي موزونات أعماله، أي أعماله الموزونة، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى ان كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الهمم ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المفلحون*‏}‏ أي الظاهرون بجميع مآربهم ‏{‏ومن خفت‏}‏ أي طاشت ‏{‏موازينه‏}‏ أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة ‏{‏فأولئك‏}‏ المبعدون ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها ‏{‏بما كانوا بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة ‏{‏يظلمون*‏}‏ أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام؛ قال الحسن، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف‏.‏

ولما أمر الخلق بمتابعة الرسل وحذرهم من مخالفتهم، فأبلغ في تحذيرهم بعذاب الدنيا ثم بعذاب الآخرة، التفت إلى تذكيرهم ترغيباً في ذلك بإسباغ نعمه وتحذيراً من سلبها، لأن المواجهة أردع للمخاطب، فقال في موضع الحال من ‏{‏خسروا انفسهم‏}‏‏:‏ ‏{‏ولقد مكناهم‏}‏ أي خسروها والحال أنا مكناكم من إنجائها بخلق القوى والقدر وإدرار النعم، وجعلنا مكاناً يحصل التمكن فيه ‏{‏في الأرض‏}‏ أي كلها، ما منها من بقعة إلا وهي صالحة لا نتفاعهم بها ولو بالاعتبار ‏{‏وجعلنا لكم‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏فيها معايش‏}‏ أي جميع معيشة، وهي أشياء يحصل بها العيش، وهو تصرف أيام الحياة بما ينفع، والياء أصلية فلذا لا تهمز، وكذا ما ولي ألف جمعه حرف علة أصلي وليس قبل ألفه واو كأوائل ولا ياء كخيائر جمع أول وخير فإنه لا يهمز إلا شاذًا كمنائر ومصائب جمع منارة ومصيبة‏.‏

ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه أوجدهم وقوّاهم وخلق لهم ما يديم قواهم، فأكلوا خيره وعبدوا غيره، أنتج قوله على وجه التاكيد‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون*‏}‏ أي لمن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة بما تنجون به أنفسكم؛ وقال أبو حيان‏:‏ إنه راجع للذين خوطبوا ب ‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة- انتهى‏.‏

ولما ذكر سبحانه ما منحهم به من التمكين، ذكّرهم ما كانو عليه قبل هذه المكنة من العدم تذكيراً بالنعم في سياق دال على البعث الذي فرغ من تقريره، وعلى ما خص به أباهم آدم عليه السلام من التمكين في الجنة بالخلق والتصوير وإفاضة روح الحياة وروح العلم وأمر أهل سماواته بالسجود له والغضب على من عاداه وطرده عن محل كرامته ومعدن سعادته وإسكانه هو بذلك المحل الأعلى والموطن الأسنى مأذوناً له في كل ما فيه إلا شجرة واحدة، فلما خالف الأمر أزاله عنه وأخرجه منه؛ وفي ذلك تحذير لأهل المكنة من إزالة المنة في استدرار النعمة وإحلال النقمة فقال‏:‏ ‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏ أي بما لنا من صفات العظمة ‏{‏ثم صورناكم‏}‏ أي قدرنا خلقكم ثم تصويركم بأن جعلنا فيكم قابلية قريبة من ذلك بتخصيص كل جزء من المادة بمقداره المعين بتخمير طينة آدم عليه السلام على حالة تقبل ذلك كما يهيأ التراب بتخميره بإنزال المطر لأن يكون منه شجرة، وقد تكون تلك الشجرة مهيأة لقبول صورة الثمرة وقد لا تكون كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر‏}‏

‏[‏المؤمنون‏:‏ 12-14‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏:‏ «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» وعنه أيضاً رضي الله عنه عند مسلم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال‏:‏ يا رب‏!‏ أذكر أم أنثى‏؟‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك» الحديث‏.‏ فظاهر هذا الحديث مخالف للفظ الذي قبله وللآية، فيحمل على أن معنى صورها‏:‏ هيأها في مدة الأربعين الثانية لقبول الصورة تهيئة قريبة من الفعل، وسهل أولها بالتخمير على هيئة مخصوصة بخلاف ما قبل ذلك، فإنها كانت نطفة فكانت بعيدة عن قبول الصورة، ولذلك اختلفوا في احترامها وهل يباح إفسادها والتسبب في إخراجها، ومعنى «خلق»‏:‏ قدر أي جعل لكل شيء من ذلك حداً لا يتجاوزه في الجملة، والدليل على هذا المجاز شكه في كونها ذكراً أو أنثى، ولو كان ذلك على ظاهره لما حصل شك في كونها ذكراً أو أنثى إذ آلة الذكر والأنثى من جملة الصورة، وبهذا تلتئم هذه الاية مع قوله تعالى ‏{‏إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 71‏]‏ فهذا خلق بالفعل، والذي في هذه السورة بإيداعه القوة المقربة منه، والمراد من الآية التذكير بالنعم استعطافاً إلى المؤالفة وتفظيعاً بحال المخالفة، أي خسروا أنفسهم والحال أنا أنعمنا عليهم بنعمة التمكين بعد أن أنشأناهم على الصورة المذكورة بعد أن كانوا عدماً وأسجدنا ملائكتنا لأبيهم وطردنا من تكبر عليه طرداً لا طرد مثله، وأبعدناه عن محل قدسنا بعداً لا قرب معه، وأسكنا أباهم الجنة دار رحمتنا وقربنا، فقال تعال مترجماً عن ذلك‏:‏ ‏{‏ثم قلنا‏}‏ أي على ما لنا من الاختصاص بالعظمة ‏{‏للملائكة‏}‏ أي الموجودين في ذلك الوقت من أهل السماوات والأرض كلهم، بما دلت عليه «ال» سواء قلنا‏:‏ إنها للاستغراق أو الجنس ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ أي بعد كونه رجلاً قائماً سوياً ذا روح كما هو معروف من التسمية؛ ثم سبب عن هذا الأمر قوله‏:‏ ‏{‏فسجدوا‏}‏ أي كلهم بما دل عليه الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا إبليس‏}‏ ولما كان معنى ذلك لإخراجه ممن سجد أنه لم يسجد، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏لم يكن من الساجدين*‏}‏ أي لآدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما كان مخالف الملك في محل العقاب، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده ‏{‏ما منعك‏}‏ ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده، فكان المعنى لا يلبس بإدخال «لا» في قوله‏:‏ ‏{‏ألا تسجد‏}‏ أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك، فيكون كأنه قيل‏:‏ ما منعك من السجود وحملك على تركه ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أمرتك‏}‏ أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به ‏{‏قال‏}‏ أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق ‏{‏أنا خير منه‏}‏ أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله‏:‏ ‏{‏خلقتني من نار‏}‏ أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة ‏{‏وخلقته من طين*‏}‏ أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادئ وليس كذلك، بل هو باعتبار الغايات‏.‏

ولما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله ‏{‏قال‏}‏ مسبباً عن إبائه قوله‏:‏ ‏{‏فاهبط منها‏}‏ مضمراً للدار التي كان فيها وهي الجنة‏.‏ فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله‏:‏ ‏{‏فما يكون‏}‏ أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه ‏{‏لك أن تتكبر‏}‏ أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله ‏{‏لك‏}‏ ولا لقوله ‏{‏فيها‏}‏ لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 23‏]‏، ‏{‏كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ ‏{‏قال الذين استكبروا إنا كل فيها‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 48‏]‏، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل‏:‏ لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر» رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله‏:‏ ‏{‏فاخرج‏}‏ أي من الجنة دار الرضوان، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار‏:‏ ‏{‏إنك من الصاغرين*‏}‏ أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان‏.‏

ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن ‏{‏قال‏}‏ أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق- ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد- يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال ‏{‏أنظرني‏}‏ أي بالإمهال، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد ‏{‏إلى يوم يبعثون*‏}‏ أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله‏:‏ ‏{‏قال إنك من المنظرين*‏}‏ أي في الجملة، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص ‏{‏إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 38، ص‏:‏ 81‏]‏، وهووقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار، وإبهام الأمر اشد في ذلك، وأجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب‏.‏

ولما كان قد حكم عليه بالشقاء، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبره عن نفسه بذلك بأن ‏{‏قال‏}‏ مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين ‏{‏فبما أغويتني‏}‏ أي فبسبب إغوائك لي، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله ‏{‏لأقعدن لهم‏}‏ أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف ‏{‏صراطك‏}‏ أي في جميع صراطك، بما دل عليه نزع الخافض ‏{‏المستقيم*‏}‏ وهو الإسلام بجميع شعبه، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه، فقد وقع في شر مما فر منه، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً‏:‏ ‏{‏ثم لآتينهم‏}‏ أي إتياناً لا بد لي منه كائناً ابتداؤه ‏{‏من بين أيديهم‏}‏ أي مواجهة، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ ‏{‏و‏}‏ كائناً ‏{‏من خلفهم‏}‏ أي مغافلة، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون ‏{‏وعن‏}‏ أي ومجاوزاً للجهة التي عن ‏{‏أيمانهم‏}‏ إليهم ‏{‏وعن‏}‏ أي ومجاوزاً لما عن ‏{‏شمائلهم‏}‏ أي مخايلة، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها، ولعل فائدة «عن» المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه‏.‏

ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته، فقال عاطفاً على تقديره‏:‏ فلأغوينهم وليتبعنني‏:‏ ‏{‏ولا تجد أكثرهم‏}‏ كما هي عادة الأكثر في الخبث ‏{‏شاكرين*‏}‏ فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ماذا قال له‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه ‏{‏اخرج منها‏}‏ أي الجنة ‏{‏مذءوماً‏}‏ أي محقوراً مخزياً بما تفعل، قال القطاع‏:‏ ذأمت الرجل‏:‏ خزيته، وقال ابن فارس‏:‏ ذأمته، أي حقرته ‏{‏مدحوراً‏}‏ أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده‏.‏

ولما علم بعض حاله، تشوفت النفس إلى حال من تبعه، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة‏:‏ ‏{‏لمن تبعك منهم‏}‏ أي بني آدم، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم منكم‏}‏ أي منك ومن قبيلك ومنهم ‏{‏أجمعين*‏}‏ أي لا يفوتني منكم أحد، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء‏.‏

ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفاً على ‏{‏اخرج منها‏}‏‏:‏ ‏{‏ويا آدم اسكن‏}‏ ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل‏:‏ ‏{‏أنت وزوجك الجنة‏}‏‏.‏

ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله‏:‏ ‏{‏فكلا‏}‏ العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتاخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، وقوله‏:‏ ‏{‏من حيث شئتما‏}‏ بمعنى رغداً أي واسعاً، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربا‏}‏ أي فضلاً عن أن تتناولا ‏{‏هذه الشجرة‏}‏ مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال‏:‏ ‏{‏فتكونا‏}‏ أي بسبب قربها ‏{‏من الظالمين*‏}‏ أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، فقال‏:‏ ‏{‏فوسوس‏}‏ أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء ‏{‏لهما الشيطان‏}‏ أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله‏:‏ ‏{‏ليبدي‏}‏ أي يظهر ‏{‏لهما ما روي‏}‏ أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه ‏{‏عنهما‏}‏ والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله

‏{‏ينزع عنهما لباسهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ و‏{‏من سوءاتهما‏}‏ أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين‏.‏

ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع طويل، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ اي في وسوسته أيضاً، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول‏:‏ ‏{‏ما نهاكما‏}‏ وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال‏:‏ ‏{‏ربكما‏}‏ أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه ‏{‏عن‏}‏ أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن ‏{‏هذه الشجرة‏}‏ جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص ‏{‏إلا أن‏}‏ أي كراهية أن ‏{‏تكونا ملكين‏}‏ أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم ‏{‏أو تكونا‏}‏ أي بما يصير لكما من الجبلة ‏{‏من الخالدين*‏}‏ أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما أوصل إليهما هذا المعنى، أخبر أنه أكده تأكيداً عظيماً كما يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال‏:‏ ‏{‏وقاسمهما‏}‏ أي أقسم لهما، لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية- ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏إني لكما‏}‏ فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول‏:‏ إني خصصتكما بجميع نصيحتي ‏{‏لمن الناصحين*‏}‏ وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه، ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب‏.‏

ولما أخبر ببعض وسوسته لهما، سبب عنها ترجمتها بأنها إهباط من أوج شرف إلى حضيض أذى وسرف فقال‏:‏ ‏{‏فدلاَّهما‏}‏ أي أنزلهما عما كانا فيه من علو الطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة ‏{‏بغرور‏}‏ أي بخداع وحيلة حتى نسى آدم عهد ربه، وقوله ‏{‏فلما ذاقا‏}‏ مشير إلى الإسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل ‏{‏الشجرة‏}‏ أي وجدا طعمها ‏{‏بدت‏}‏ أي ظهرت ‏{‏لهما سوءاتهما‏}‏ أي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها، وتهافت عنهما لباسهما فأبصر كل واحد ما كان مستوراً عنه من عورة آلاخر، وذلك قصد الحسود فاستحييا عند ذلك ‏{‏وطفقا‏}‏ أي شرعا وأقبلا ‏{‏يخصفان عليهما‏}‏ أي يصلان بالخياطة ‏{‏من ورق الجنة‏}‏ ورقة الى أخرى ‏{‏وناداهما ربهما‏}‏ أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما، ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بمرأى منه، فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً‏:‏ يا عبديَّ ‏{‏ألم أنهكما‏}‏ أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة ‏{‏عن تلكما الشجرة‏}‏ أي التي كان حقها البعد منها، الموجبة للقربة من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما ‏{‏وأقل لكما إن الشيطان‏}‏ أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا آدم ونفاسه عليك، فاحترق بغضبي فطرد وأبعد عن رحمتي ‏{‏لكما‏}‏ أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما ‏{‏عدو مبين*‏}‏ ظاهر العداوة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عداوته دقيق المكر بما أقدرته عليه من إقامة الأسباب، فإني أعطيته قوة على الكيد، وأعطيتكم قوة على الكيد وأعطيتكم قوة على الخلاص وقلت لكم‏:‏ تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي، وإن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم من العداوة، فالآيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه‏.‏

ولما كان هذا، تشوف السامع إلى جوابهما، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قالا‏}‏ أي آدم وحواء- عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام- قول الخواص بإسراعهما في التوبة ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا ‏{‏ظلمنا أنفسنا‏}‏ أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية، فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين ‏{‏وإن لم تغفر لنا‏}‏ أي تمحو ما عملناه عيناً واثراً ‏{‏وترحمنا‏}‏ فتعلي درجاتنا ‏{‏لنكونن من الخاسرين*‏}‏ فأعربت الآية عن أنهما فزعا إلى الانتصاب بالاعتراف، وسيما ذنبهما- وإن كان إنما هو خلاف الأولى لأنه بطريق النسيان كما في طه- ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغير منهم، ولم يجادلا كما فعل إبليس، وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق، وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد‏.‏

ولما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه، أجيبت بقوله ‏{‏قال اهبطوا‏}‏ أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد، وبعض أولادكم أعداء لبعض، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة ‏{‏ولكم في الأرض‏}‏ أي جنسها ‏{‏مستقر‏}‏ أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها ‏{‏ومتاع إلى حين*‏}‏ أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً، وكان من الفلاسفة التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول‏:‏ إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هلك الجسد اتصلت بالعلويات إما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فلا تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث- عند من قال منهم بالبعث، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا يكون بعد ذلك‏؟‏ فأجيب بقوله ‏{‏قال‏}‏ أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً ‏{‏فيها‏}‏ أي الأرض لا في غيرها ‏{‏تحيون‏}‏ أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم أبداناً وأرواحاً ‏{‏وفيها‏}‏ أي كذلك، لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون ‏{‏تموتون‏}‏ أي من الحياة الأولى بجملتكم، فيكون للأرواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يقعد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها، فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الأرض، وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله‏:‏ ‏{‏ومنها‏}‏ أي لا من غيرها بإخبار الصادق ‏{‏تخرجون*‏}‏ أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً، للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفعل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي أقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده، وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة القصة، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قوله ‏{‏فلنسئلن الذين أرسل إليهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى ‏{‏يا بني آدم‏}‏‏.‏

ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع‏:‏ ‏{‏قد أنزلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏عليكم‏}‏ من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه ‏{‏لباساً‏}‏ أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة ‏{‏يواري سوءاتكم‏}‏ إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال‏:‏ ‏{‏وريشاً‏}‏ إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب‏.‏

ولما ذكر اللباس الحسي، وقسمه على ساتر ومزين، أتبعه المعنوي فقال مشيراً- بقطعه في قراءة الجمهور عما قبله- إلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه‏:‏ ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي، فالحسي لباس الثياب، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات، ولوكان متقياً وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صلى الله عليه وسلم «ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء‏:‏ بسم الله اللهم‏!‏ إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضى الله عنه، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام‏:‏ كل من جميع أشجار الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً تتهيأ للموت حساً، ويقضى عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته- والله أعلم‏.‏

ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم، قال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي إنزال اللباس ‏{‏من آيات الله‏}‏ أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ‏{‏لعلهم يذكرون*‏}‏- لو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام- لئلا يقول المتعنت‏:‏ إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره‏.‏

ولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها، فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العدواة مقتضياً للتحذير من الشيطان، وكان المقام خطراً والتخلص عسراً، أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاً من الحول والقوة، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف‏:‏ ‏{‏يا بني آدم‏}‏ أي الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي ‏{‏لا يفتننكم‏}‏ أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال ‏{‏الشيطان‏}‏ أي البعيد المحترق بالذنوب، يصدكم عما يكون سبباً لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار ‏{‏كما أخرج أبويكم من الجنة‏}‏ بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم‏!‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الفتنة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، والإخراج ثانياً دليلاً على حذف ضده أو نظيره أولاً‏.‏

ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما، فسر الإخراج- مشيراً إلى ذلك- بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير «الشيطان»‏:‏ ‏{‏ينزع عنهما‏}‏ أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن ‏{‏لباسهما‏}‏ أي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله‏:‏ ‏{‏ليريهما سوءاتهما‏}‏ فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و«الحياء والإيمان في قرن»- كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما، و«الحياء لا يأتي إلا بخير»- كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما‏.‏

ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتله؛ علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه يراكم‏}‏ أي الشيطان ‏{‏هو وقبيله‏}‏ أي جنوده ‏{‏من حيث لا ترونهم‏}‏ عن مالك بن دينار أن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد، قال مخففاً لأمرهم موهياً في الحقيقة لكيدهم‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة ‏{‏جعلنا الشياطين‏}‏ أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة ‏{‏أولياء‏}‏ أي قرباء وقرناء ‏{‏للذين لا يؤمنون*‏}‏ أي يجددون الإيمان، لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيراً بهم، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل- الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى- من غير فخذوا حذركم فإن الأمر خطر والخلاص عسر، وبعبارة أخرى‏:‏ إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم، وأقدرناهم على بعضكم، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه، فكلما دنا منه تمكن من أسره، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريره رضى الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الصدقة، وكذا أبي بن كعب رضي الله عنه، وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في شيطان العزي معروف في السير، وكذا حديث سواد بن قارب رضى الله عنه في إرشاد رئيه من الجن له، وكذا خطر ابن مالك رضي الله عنه في مثل ذلك وغيرهما، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم

«لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مربوطاً بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل المدينة» قال أبو حيان‏:‏ إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة عليهم السلام تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 31‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما جعل أمارتهم في ولاية الشيطان عدم الإيمان، عطف على ذلك أمارة أخرى فقال‏:‏ ‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ أي أمراً بالغاً في القبح كالشرك وكشف العورة في الطواف ‏{‏قالوا‏}‏ معللين لارتكابهم إياها ‏{‏وجدنا عليها‏}‏ أي فاحشة ‏{‏آباءنا‏}‏ ولما كانت هذه العلة ظاهراً عارها بيناً عوارها، ضموا إليها افتراء ما يصلح للعلية، فقالوا معبرين بالاسم الأعظم غير محتشمين من جلاله وعظمته وكماله‏:‏ ‏{‏والله أمرنا بها‏}‏‏.‏

ولما كانت العلة الأولى ملغاة، وكان العلم ببطلانها بديهياً، لأن من المعلوم أنهم لو وجدوهم على سفه في تحصيل المال ما تابعوهم؛ أعرض عنها إشارة إلى ذلك، وأمر بالجواب عن الثانية التي هي افتراء على الملك الأعلى مع ادعائهم أنهم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأشدهم تحرياً بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لا يأمر بالفحشاء‏}‏ أي بشيء من هذا الجنس‏.‏

ولما كان الكذب قبيحاً في نفسه وهو عندهم أقبح القبيح مطلقاً، فكيف به على كبير منهم فكيف إذا كان على أعظم العظماء‏!‏ قال منكراً عليهم موبخاً لهم مهدداً‏:‏ ‏{‏أتقولون على الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏ما لا تعلمون*‏}‏ لأنكم لم تسمعوا ذلك عن الله بلا واسطة ولا نقل إليكم بطريق صحيح عن نبي من الأنبياء عليهم السلام، وفيه تهديد شديد على الجهل والقول على الله بالظن‏.‏

لما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياً لأنه إذا أمر بشيء أتبع، أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف ‏{‏أمر ربي‏}‏ المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال، التي تدعو إليها الهمم العوال ‏{‏بالقسط‏}‏ وهو الأمر الوسط بين ما فحش في الإفراط صاعداً عن الحد، وفي التفريط هابطاً منه؛ ولما كان التقدير‏:‏ فأقسطوا اتباعاً لما أمر به، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى‏:‏ أن أقسطوا، عطف عليه ‏{‏وأقيموا وجوهكم‏}‏ مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور ‏{‏عند كل مسجد‏}‏ أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه، ولا يتقيدن أحد بمكان ولا زمان بأن يقول وقد أدركته الصلاة‏:‏ أذهب فأصلي في مسجدي ‏{‏وادعوه‏}‏ عند ذلك كله دعاء عبادة ‏{‏مخلصين له الدين*‏}‏ أي لا تشركوا به شيئاً‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ فإن من لم يفعل ذلك عذبه بعد إعادته له بعد الموت، ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً‏:‏ ‏{‏كما بدأكم‏}‏ أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم ‏{‏تعودون*‏}‏ حال كونكم فريقين‏:‏ ‏{‏فريقاً هدى‏}‏ أي خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية ‏{‏وفريقاً‏}‏ أضل، ثم فسر أضل- لأنه واجب التقدير بالنصب- بقوله‏:‏ ‏{‏حق‏}‏ أي ثبت ووجب ‏{‏عليهم الضلالة‏}‏ أي لأنه أضلهم فيحشرون على ما كانو عليه في الدنيا من الأديان، والأبدان، وقد تبين أن ههنا احتباكين‏:‏ أثبت في أولهما بدا دليلاً على حذف يعيد وذكر تعودون دليلاً على حذف تبتدئون، وأثبت في الثاني هدى دليلاً على حذف أضل وذكر حقوق الضلالة دليلاً على حذف حقوق الهدى‏.‏

ولما كرر سبحانه ذكر البعث كما تدعو إليه الحكمة في تقرير ما ينكره المخاطب تأنيساً له به وكسراً لشوكته وإيهاناً لقوته وقمعاً لسورته إلى أن ختم بما هو أدل عليه مما قبل من قوله ومنها تخرجون ‏{‏فلنسئلن الذين أرسل إليهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏ علل ما ختم به هذا الدليل من حقوق الضلالة أي وجوبها أي وجوب وبالها عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم اتخذوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم ضد ما دعتهم إليه الفطرة الأولى بأن أخذوا ‏{‏الشياطين أولياء‏}‏ أي أقرباء وأنصاراً ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا مثل له ‏{‏ويحسبون‏}‏ أي والحال أنهم يظنون بقلة عقولهم ‏{‏أنهم مهتدون*‏}‏ فأشار بذلك إلى أنهم استحقوا النكال لأنهم قنعوا في الأصول- التي يجب فيها الابتهال ألى القطع- بالظنون‏.‏

ولما أمر سبحانه بالقسط وبإقامة الوجه عند كل مسجد، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبراً عنه بلفظ الزينة ترغيباً فيه وإذناً في الزينة وبياناً لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه» رواه أحمد والترمذي وابن منيع عن أبي هريرة رضى الله عنه، وأتبع ذلك أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من المأكل والمشرب فقال مكرراً النداء استعطافاً وإظهاراً لعظيم الإشفاق وتذكيراً بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليشتد الحذر‏:‏ ‏{‏يا بني آدم‏}‏ أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة ‏{‏خذوا زينتكم‏}‏ أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة ‏{‏عند كل مسجد‏}‏ وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة‏.‏

ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك‏.‏

ولما أمر بالملبس والمطعم، نهى عن الاعتداء فيهما فقال‏:‏ ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه، ولذلك نهى عن النفس في الإناء لأنه ربما أنتن فعافته النفس، وأما الطعام فليحسن إناءه والأصابع لنيل البركة وهو أنظف، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المسرفين*‏}‏ أي لا يكرمهم، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر، ومن جملة السرف الأكل في جميع البطن، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

«حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و«وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن» و«الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» أخرجه البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال الأطباء، الأمعاء سبعة، فالمعنى حينئذ أن الكافر يأكل شعباً فيملأ الأمعاء السبعة، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معى واحد، وذلك سبع بطنه، وإليه الإشارة بلقيمات، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث- والله أعلم- وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف، يقولون‏:‏ لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون‏:‏ يارسول الله‏!‏ فنحن أحق أن نفعل ذلك- فأنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا، والتوسع فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ منكراً موبخاً ‏{‏من حرم زينة الله‏}‏ أ ي الملك الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏التي أخرج لعباده‏}‏ أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها‏.‏

ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها، أتبعها المآكل والمشارب فقال‏:‏ ‏{‏والطيبات‏}‏ أي من الحلال المستلذ ‏{‏من الرزق‏}‏ كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار‏:‏ لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق، قال مستأنفاً لجواب من يقول‏:‏ لمن‏؟‏‏:‏ ‏{‏قل هي‏}‏ أي الزينة والطيبات ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ وعبر بهذه العبارة ولم يقل‏:‏ ولغيرهم، تنبيهاً على أنها لهم بالاصالة ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا ‏{‏خالصة‏}‏ أي لا يشاركهم فيها أحد، هذا على قراءة نافع بالرفع، والتقدير على قراءة غيره‏:‏ حال كونها خالصة ‏{‏يوم القيامة‏}‏ وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن‏.‏

ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول‏:‏ إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا‏؟‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا التفصيل البديع ‏{‏نفصل الآيات‏}‏ أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض ‏{‏لقوم يعلمون*‏}‏ أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح‏.‏

ولما بين أن ما حرموه ليس بحرام فتقرر ذلك تقرراً نزع من النفوس ما كانت ألفته من خلافه، ومحا من القلوب ما كانت أشربته من ضده؛ كان كأنه قيل‏:‏ فماذا حرم الله الذي ليس التحريم إلا إليه‏؟‏ فأمره تعالى بأن يجيبهم عن ذلك ويزيدهم بأنه لم يحرم غيره فقال‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بجعل ديني أحسن الأديان ‏{‏الفواحش‏}‏ أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن الإسرار بها غير مراد بالنهي قال‏:‏ ‏{‏ما ظهر منها‏}‏ بين الناس ‏{‏وما بطن‏}‏‏.‏

ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال‏:‏ ‏{‏والإثم‏}‏ أي مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء، فإن الإثم الذنب والجزاء؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بأنه من أسرع الذنوب عقوبة، خصة بالذكر فقال‏:‏ ‏{‏والبغي‏}‏ وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب، حقق معناه العرفي الشرعي فقال‏:‏ ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل، فمتى كان فيه شائة باطل كان بغياً، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقية، وتكون تسميته بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً- بإدخاله تحت اسم البغي- من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في ‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 148‏]‏ ويمكن أن يكون تقييده تأكيداً لمنعه بأنه لا يتصور إلا موصوفاً بأنه بغير الحق كما قال تخصيصاً وتنصيصاً تنبيهاً على شدة الشناعة‏:‏ ‏{‏وأن تشركوا بالله‏}‏ أي الذي اختص بصفات الكمال ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ فإنه لا يوجد ما يسميه أحد شريكاً إلا وهو مما لم ينزل به الله سلطاناً بل ولا حجة به في الواقع ولا برهان، ولعله إنما قيده بذلك إرشاداً إلى أن أصول الدين لا يجوز اعتمادها إلا بقاطع فكيف بأعظمها وهو التوحيد‏!‏ ولذلك عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي وحرم أن ‏{‏تقولوا على الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه ولا كفوء له و‏{‏ما لا تعلمون*‏}‏ أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من الأصول أو لا‏.‏

ولما تقدم أن الناس فريقان‏:‏ مهتد وضال، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل‏:‏ فلم يهلك من يخالفه‏؟‏ فقيل وعظاً وتحذيراً‏:‏ إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، ولا يفعلون شيئاً منه إلا بإرادته، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر، ولهم أجل لا بد من استيفائه، وليس ذلك خاصاً بهم بل ‏{‏ولكل أمة أجل‏}‏ وهو عطف على ‏{‏فيها تحيون وفيها تموتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏فإذا جاء أجلهم‏}‏‏.‏

ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏لا يستأخرون‏}‏ أي عن الأجل ‏{‏ساعة‏}‏ عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله‏:‏ ‏{‏ولا يستقدمون*‏}‏ أي على الأجل المحتوم، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم، لم يتجدد له علم، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏ وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمماً، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه، فهو أبعد من خطوره في البال؛ قدم قوله‏:‏ ‏{‏قال فيها تحيون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم ‏{‏أنزلنا عليكم لباساً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 26‏]‏ ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه‏.‏

ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى ‏{‏كتاب أنزل إليك‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ و‏{‏لتنذر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ و‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ وقوله ‏{‏فلنسئلن الذين أرسل إليهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 6‏]‏ وقوله ‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 29‏]‏، ‏{‏إنما حرم ربي الفواحش‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ والتحذير من الشياطين بقوله ‏{‏ولا تتبعوا من دونه أولياء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ وبقوله ‏{‏لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏، ‏{‏لا يفتننكم الشيطان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 27‏]‏ وغيره، فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الاتباع في الدارين ‏{‏يا بني آدم‏}‏‏.‏

ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ لا يوجب عليه، أشار إلى ذلك بحرف الشك فقال‏:‏ ‏{‏إما‏}‏ هي إن، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً ‏{‏يأتينكم رسل‏}‏ ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر وأقوى في الحجة قال‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ أي من نوعكم من عند ربكم‏.‏

ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في ‏{‏فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 7‏]‏ ويأتي في ‏{‏ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 52‏]‏ وغيرها، كان التعبير بالقص- الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام- أليق فقال‏:‏ ‏{‏يقصون عليكم آياتي‏}‏ أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول‏.‏

ولما كان لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل، ربط الجزاء بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فمن اتقى‏}‏ أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم ‏{‏وأصلح‏}‏ أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم ‏{‏فلا خوف‏}‏ أي غالب ‏{‏عليهم‏}‏ أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه ‏{‏ولا هم‏}‏ أي بضمائرهم ‏{‏يحزنون*‏}‏ أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف‏.‏

ولما ذكر المصدق، أتبعه المكذب فقال ‏{‏والذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏واستكبروا عنها‏}‏ أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه‏.‏

ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه، أعري عن الفاء قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏أصحاب النار‏}‏ ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به، قال مصرحاً بذلك‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ليخرج العاصي من غير تكذيب ولا استكبار ‏{‏فيها‏}‏ أي النار خاصة، وهي تصدق بكل طبقة من طبقاتها ‏{‏خالدون*‏}‏ فقد تبين أن إثبات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع، وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع، فالمقام في الموضعين خطر، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير أمره، فإذا بان له صدقه تبعه، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً- الله الموفق‏.‏

ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه، وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً، وأخبر أن المكذبين أهل النار، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فمن أظلم‏}‏ أي أشنع ظلماً ‏{‏ممن افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏كذباً‏}‏ أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد ‏{‏أو كذب بآياته‏}‏ أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد‏.‏

ولما كان الجواب‏:‏ لا أحد أظلم من هذا، بل هو أظلم الناس، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من الحضرات الربانية ‏{‏ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها، تأكيداً لرد اعتراض من قال‏:‏ إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا‏؟‏ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم رسلنا‏}‏ أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم ‏{‏يتوفونهم‏}‏ أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم ‏{‏قالوا أين ما كنتم‏}‏ عناداً كمن هو في جبلته ‏{‏تدعون‏}‏ أي دعاء عبادة ‏{‏من دون الله‏}‏ أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم ‏{‏قالوا ضلوا‏}‏ أي غابوا ‏{‏عنا‏}‏ فلا ناصر لنا‏.‏

ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم، قال مترجماً عن ذلك‏:‏ ‏{‏وشهدوا على أنفسهم‏}‏ أي بالغوا في الاعتراف ‏{‏أنهم كانوا كافرين*‏}‏ أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 39‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ لقد اعترفوا، والاعتراف- كما قيل- إنصاف، فهل ينفعهم‏؟‏ قيل‏:‏ هيهات‏!‏ فات محله بفوات دار العمل لا جرم‏!‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الذي جعل الله إليه أمرهم ‏{‏ادخلوا‏}‏ كائنين ‏{‏في أمم‏}‏ أي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التأنيث على ضعف عقولهم فقال‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ ولما كان في الزمن الماضي من آمن، أدخل الجار فقال ‏{‏من قبلكم‏}‏ ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال‏:‏ ‏{‏من الجن والإنس‏}‏ ثم ذكر محل الدخول فقال‏:‏ ‏{‏في النار‏}‏‏.‏

ولما جرت عادة الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له‏:‏ ‏{‏كلما دخلت أمة‏}‏ أي منهم في النار ‏{‏لعنت أختها‏}‏ أي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت آثارها واتبعت منارها، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى- وهكذا، واستمر ذلك منهم ‏{‏حتى إذا اداركوا‏}‏ اي تداركوا وتلاحقوا، يركب بعضهم بعضاً- بما يشير إليه الإدغام ‏{‏فيها جميعاً‏}‏ لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة ‏{‏قالت أخراهم‏}‏ أي في الزمن والمنزلة، وهم الأتباع والسفل ‏{‏لأولاهم‏}‏ أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين ‏{‏ربنا‏}‏ أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الأولون ‏{‏أضلونا‏}‏ أي لكونهم أول من سن الضلال ‏{‏فآتهم‏}‏ أي أذقهم بسبب ذلك ‏{‏عذاباً ضعفاً‏}‏ أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال، «ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ومنه «لا تقتل نفس ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها» لأنه أول من سن القتل، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم‏:‏ ‏{‏من النار*‏}‏‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ لقد قالوا ما له وجه، فبم أجيبوا‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي جواباً لهم ‏{‏لكل‏}‏ أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع ‏{‏ضعف‏}‏ وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتأييده بالمناضله عنه والدفاع؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم الضعف لسبب هذه الدقيقة قال‏:‏ ‏{‏ولكن لا تعلمون*‏}‏ أي بذلك‏.‏

ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين، عطف عليه جواب الأولين فقال‏:‏ ‏{‏وقالت أولاهم‏}‏ أي أولى الفرق والأمم ‏{‏لأخراهم‏}‏ مسببين عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه ‏{‏فما كان لكم علينا‏}‏ أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال ‏{‏من فضل‏}‏ أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي بسبب ذلك ‏{‏العذاب‏}‏ في سجين ‏{‏بما‏}‏ اي بسبب ما ‏{‏كنتم تكسبون*‏}‏ لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 42‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

ولما جرت العادة بأن أهل الشدائد يتوقعون الخلاص، أخبر أن هؤلاء ليسوا كذلك، لأنهم أنجاس فليسوا أهلاً لمواطن الأقداس، فقال مستأنفاً لجواب من كأنه قال‏:‏ أما لهؤلاء خلاص‏؟‏ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف‏:‏ ‏{‏إن الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي وهي المعروفة بالعظمة بالنسبة إلينا ‏{‏واستكبروا عنها‏}‏ أي وأوجدوا الكبر متجاوزين عن اتباعها ‏{‏لا تفتح لهم‏}‏ أي لصعود أعمالهم ولا دعائهم ولا أرواحهم ولا لنزول البركات عليهم ‏{‏أبواب السماء‏}‏ لأنها طاهرة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين ‏{‏ولا يدخلون الجنة‏}‏ أي التي هي أطهر المنازل وأشرفها ‏{‏حتى‏}‏ يكون ما لا يكون بأن ‏{‏يلج‏}‏ أي يدخل ويجوز ‏{‏الجمل‏}‏ على كبره ‏{‏في سم‏}‏ أي في خرق ‏{‏الخياط‏}‏ أي الإبرة اي حتى يكون ما لا يكون، إذاً فهو تعليق على محال، فإن الجمل مثل في عظم الجرم عند العرب، وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال‏:‏ أضيق من خرق الإبرة، ومنه الماهر الخريت للدليل الذي يهتدي في المضايق المشبهة بأخراق الإبر؛ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل فقال‏:‏ زوج الناقة- استجهالاً للسائل وإشارة إلى طلب معنى آخر غير هذا الظاهر تكلف‏.‏

ولما كان هذا للمكذبين المستكبرين أخبر أنه لمطلق القاطعين أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أن دخولهم الجنة محال عادة ‏{‏نجزي المجرمين*‏}‏ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل وإن كانوا أذناباً مقلدين للمستكبرين المكذبين؛ ثم فسر جزاء الكل فقال‏:‏ ‏{‏لهم من جهنم مهاد‏}‏ أي فرش من تحتهم، جمع مهد، ولعله لم يذكره لأن المهاد كالصريخ فيه ‏{‏ومن فوقهم غواش‏}‏ أي أغطية- جمع غاشية- تغشيهم من جهنم؛ وصرح في هذا بالفوقية لأن الغاشية ربما كانت عن يمين أو شمال، أو كانت بمعنى مجرد الوصول والإدراك، ولعله إنما حذف الأول لأن الآية من الاحتباك، فذكر جهنم أولاً دليلاً على إرادتها ثانياً، وذكر الفوق ثانياً دليلاً على إرادة التحت أولاً‏.‏

ولما كان بعضهم ربما لا تكون له أهلية قطع ولا وصل، قال عاماً لجميع أنواع الضلال‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الجزاء ‏{‏نجزي الظالمين*‏}‏ ليعرف أن المدار على الوصف، والمجرم‏:‏ المذنب ومادته ترجع إلى القطع، والظالم‏:‏ الواضع للشيء في غير موضعه كفعل من يمشي في الظلام، يجوز أن يكون نبه سبحانه بتغاير الأوصاف على تلازمها، فمن كان ظالماً لزمه الإجرام والتكذيب والاستكبار وبالعكس‏.‏

ولما أخبر عن أحوالهم ترهيباً، أتبعه الإخبار عن أحوال المؤمنين ترغيباً فقال ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ في مقابلة ‏{‏الذين كذبوا‏}‏‏.‏

ولما قال‏:‏ ‏{‏وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لإيمانهم في مقابلة ‏{‏الذين استكبروا‏}‏ ‏{‏الصالحات‏}‏ وكان ذلك مظنة لتوهم أن عمل جميع الصالحات- لأنه جمع محلى بالألف واللام- شرط في دخول الجنة؛ خلل ذلك بجملة اعتراضية تدل على التخفيف فقال‏:‏ ‏{‏لا نكلف نفساً إلا وسعها‏}‏ وترغيباً في اكتساب مالا يوصف من النعيم بما هو في الوسع ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ولما كانت الصحبة تدل على الدوام، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏