فصل: تفسير الآيات رقم (43- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 46‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما كانت الدار لا تطيب إلا بحسن الجوار قال‏:‏ ‏{‏ونزعنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ‏{‏ما‏}‏ كان في الدنيا ‏{‏في صدورهم من غل‏}‏ أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل، أي يدخل بلطف إلى صميم القلب، ومن الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال‏:‏ غل في الشيء وتغلغل فيه- إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد، حتى أن صاحب الدرجة السافلة لا يحسد صاحب العالية‏.‏

ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار باحكام الدار، وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل، وكان الجاري منه أعم نفعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى ‏{‏تجري من‏}‏ وأشار إلى علوهم بقوله‏:‏ ‏{‏تحتهم الأنهار‏}‏ فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والأشجار وكل ما به حسن الدار، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيادة بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا الحمد‏}‏ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لله‏}‏ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة لذاته لا لشيء آخر؛ ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له لأوصافه أيضاً، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى والأخرى‏:‏ ‏{‏الذي هدانا‏}‏ أي بالبيان والتوفيق، وأوقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب ‏{‏لهذا‏}‏ أي للعمل الذي أوصلنا إليه ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنا ما ‏{‏كنا لنهتدي‏}‏ أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك ‏{‏لولا أن هدانا الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها، والقراءتان دامغتان للقدرية‏.‏

ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين، أخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبججاً لا تعبداً، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله‏:‏ ‏{‏لقد جاءت رسل ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا ‏{‏بالحق‏}‏ أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له‏.‏

ولما غبطوا أنفسهم وحقروها وأثبتوا الفضل لأهله، عطف على قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول أعمالهم، ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ونودوا‏}‏ أي إتماماً لنعيمهم ‏{‏أن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة ‏{‏تلكم الجنة‏}‏ العالية ‏{‏أورثتموها‏}‏ أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كنتم تعملون*‏}‏ لأنه سبحانه جعله سبباً ظاهرياً بكرمه، والسبب الحقيقي هو ما ذكروه هم من توفيقه‏.‏

ولما استقرت بهم الدار، ونودوا بدوام الاستقرار، أخبر سبحانه أنهم أقبلوا متبججين على أهل النار شامتين بهم في إحلالهم دار البوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب الجنة‏}‏ أي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره ‏{‏أصحاب النار‏}‏ يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم، ويقررونهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أو هي مخففة من الثقيلة، وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال‏:‏ ‏{‏قد وجدنا‏}‏ أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان ‏{‏ما وعدنا ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا في الدارين من الثواب ‏{‏حقاً‏}‏ أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد ‏{‏فهل وجدتم‏}‏ أي كذلك ‏{‏ما وعد‏}‏ وأثبت المفعول الأول تلذيذاً، وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين، وليشمل ما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى، وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم ‏{‏ربكم‏}‏ أي الذي أحسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب ‏{‏حقاً‏}‏ لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً ‏{‏قالوا نعم‏}‏ أي قد وجدنا ذلك كله حقاً؛ قال سيبويه‏:‏ نعم عِدَة، أي في جواب‏:‏ أتعطيني كذا، وتصديق في مثل قد كان كذا، والآية من الاحتباك‏:‏ أثبت المفعول الثاني أولاً دليلاً على حذف مثله ثانياً، وحذفه ثانياً دليلاً على إثبات مثله أولاً- والله أعلم‏.‏

ولما حبوا من النعم بما تقدم، وكان منه الجار الحسن، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء، أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله‏:‏ ‏{‏فأذن‏}‏ أي بسبب ما أقر به أهل النار على انفسهم ‏{‏مؤذن بينهم‏}‏ أي بين الفريقين ‏{‏أن‏}‏ مخففه أو مفسرة في قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم، وشددها الباقون ونصبوا ‏{‏لعنة الله‏}‏ أي طرد الملك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب ‏{‏على الظالمين*‏}‏ أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً أصلاً ‏{‏الذين يصدون‏}‏ أي لهم فعل الصد لمن أراد الإيمان ولمن آمن ولغيرهما بالإضلال بالإرغاب والإرهاب والمكر والخداع ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له الواضح الواسع ‏{‏ويبغونها‏}‏ أي يطلبون لها ‏{‏عوجاً‏}‏ بإلقاء الشكوك والشيهات، وقد تقدم ما فيه في آل عمران ‏{‏وهم بالآخرة كافرون*‏}‏ أي ساترون ما ظهر لعقولهم من دلائلها؛ فمتى وجدت هذه الصفات الأربع حقت اللعنة ‏{‏وبينهما‏}‏ أي وحال الفريقين عند هذه المناداة أنه بينهما أو بين الدارين ‏{‏حجاب‏}‏ أي سور لئلا يجد أهل النعيم في دارهم ما يكدر نعيمها ‏{‏وعلى الأعراف‏}‏ جمع عرف وهو كل عال مرتفع لأنه يكون أعرف مما انخفض، وهي المشرفات من ذلك الحجاب ‏{‏رجال‏}‏ استوت حسناتهم وسيئاتهم فوفقوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته كما جاء مفسراً في مسند ابن أبي خثيمة من حديث جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يعرفون كلاًّ‏}‏ أي من أصحاب الجنة وأصحاب النار قبل دخول كل منهم داره ‏{‏بسيماهم‏}‏ أي علامتهم ‏{‏ونادوا‏}‏ أي أصحاب الأعراف ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ أي بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها ‏{‏أن سلام عليكم‏}‏ أي سلامة وأمن من كل ضار‏.‏

ولما كان هذا السلام ربما أشعر أنه بعد دخول أهل الأعراف الجنة، فكأنه قيل أكان نداؤهم بعد مفارقتهم الأعراف ودخولها‏؟‏ فقيل لا، ‏{‏لم يدخلوها‏}‏ أي الجنة بعد ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏يطمعون*‏}‏ في دخولها، وعبر بالطمع لأنه لا سبب للعباد إلى الله من أنفسهم وإن كانت لهم أعمال فضلاً عن هؤلاء الذين لا أعمال لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 51‏]‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما دل ما تقدم على أنهم مقبلون على الجنة وأهلها، قال مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏وإذا صرفت‏}‏ بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين ‏{‏أبصارهم‏}‏ أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم ‏{‏تلقاء‏}‏ أي وجاه ‏{‏أصحاب النار‏}‏ أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب ‏{‏قالوا‏}‏ أي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها وهم يخافون مستعيذين منها ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار ‏{‏لا تجعلنا مع القوم الظالمين*‏}‏ بأن تدخلنا مدخلهم‏.‏

ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام، أخبر أنهم يكلمون أهل النار بالتوبيخ والملام فقال‏:‏ ‏{‏ونادى‏}‏ وأظهر الفاعل لئلا يلبس بأهل الجنة فقال ‏{‏أصحاب الأعراف‏}‏ أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار ‏{‏رجالاً‏}‏ أي من أهل النار ‏{‏يعرفونهم‏}‏ أي بأعيانهم، وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم، وإنما قال هنا‏:‏ ‏{‏بسيماهم‏}‏ لأن النار قد أكلتهم وغيرت معالمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه ‏{‏قالوا‏}‏ نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً ‏{‏ما أغنى عنكم جمعكم‏}‏ أي للمال والرجال ‏{‏وما كنتم تستكبرون*‏}‏ أي تجددون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين أنه لا غالب لكم؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم‏:‏ ‏{‏أهؤلاء‏}‏ وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم ‏{‏الذين أقسمتم‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏لا ينالهم الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏برحمة‏}‏ فكيف بكمال الرحمة‏.‏

ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى لما أقسموا عليه، قالوا‏:‏ ‏{‏ادخلوا‏}‏ أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا ‏{‏الجنة لا خوف عليكم‏}‏ أي من شيء يمكن توقع أذاه ‏{‏ولا أنتم تحزنون*‏}‏ أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف‏.‏

ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها، لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الأية السالفة من الخوف والحزن‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار‏}‏ أي بعد الاستقرار ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ بعد أن عرفهم إياهم وأمر الجنة فتزخزفت فكان ذلك زيادة في عذابهم؛ ثم فسر المنادى به فقال ‏{‏أن أفيضوا علينا من الماء‏}‏ أي لأنكم أعلى منا، فإذا أفضتموه وصل إلينا، وهذا من فرط ما هم فيه من البلاء، فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الأخرى معها‏.‏

ولما كانت الإفاضة تتضمن الإنزال قالوا‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ أي أو أنزلوا علينا ‏{‏مما رزقكم الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق، من أيّ شيء هان عليكم إنزاله ‏{‏قالوا‏}‏ أي أصحاب الجنة ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي حاز جميع العظمة ‏{‏حرمهما‏}‏ أي منعهما بتلك الأهوية وغيرها من الموانع ‏{‏على الكافرين*‏}‏ أي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل ‏{‏الذين اتخذوا‏}‏ أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا ‏{‏دينهم‏}‏ بعد ما محقوا صورته وحقيقته كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين ‏{‏لهواً‏}‏ أي اشتغالاً بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة، فجوزوا من جنس عملهم بأن لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة‏.‏

ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هو ضد مقصود السورة من الاجتماع على الجد وأدعى إلى الغفلة، وكان من شأن الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى، حقق ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ولعباً‏}‏ أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور، ولذلك أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وغرتهم‏}‏ أي في فعل ذلك ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ أي بما فيها من الأعراض الزائلة من تأميل طول العمر والبسط في الرزق ورغد العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها‏.‏ ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداً، أسقط الجار ‏{‏فاليوم‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن في هذا اليوم ‏{‏ننساهم‏}‏ أي نتركهم ترك المنسي ‏{‏كما‏}‏ فعلوا هم بأنفسهم بأن ‏{‏نسوا‏}‏ أي تركوا ‏{‏لقاء يومهم هذا‏}‏ فلم يعدوا له عدته ‏{‏وما‏}‏ أي وكما ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏بآياتنا‏}‏ على ما لها من العظمة بنسبها إلينا ‏{‏يجحدون*‏}‏ أي ينكرون وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ولما ذكر نسيانهم وجحودهم، ذكر حالهم عند ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي فعلوا ذلك والحال أنا وعزتنا قد ‏{‏جئناهم‏}‏ أي على عظمتنا بإتيان رسولنا إليهم عنا ‏{‏بكتاب‏}‏ ليس هو موضعاً للجحد أصلاً؛ ثم بين ذلك في سياق مرغب للمؤالف مرهب للمخالف فقال‏:‏ ‏{‏فصلناه‏}‏ أي بينا معاينة لم ندع فيها لبساً، وجعلنا لآياته فواصل حال كون ذلك التفصيل ‏{‏على علم‏}‏ أي عظيم، فجاء معجزاً في نظمه ومعناه وسائر علمه ومغزاه، وحال كونه ‏{‏هدى‏}‏ أي بياناً ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكراماً، ثم خص المنتفعين به لأن من لا ينتفع بالشيء فهو كالمعدوم في حقه فقال‏:‏ ‏{‏لقوم يؤمنون*‏}‏ أي فيهم قابلية ذلك، وفيه رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو أحد مقاصد السورة على أبداع وجه في أحسن أسلوب‏.‏

ولما وصف الكتاب وذكر المنتفع به، تشوفت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون، فقال مشيراً إلى أن حالهم في وقوفهم عن المتابعه بعد العلم بصدقه بعجزهم عنه كحال من ينتظر أن يأتي مضمون وعيده‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي ينتظرون، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال، جرد الفعل ولإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم ‏{‏إلا تأويله‏}‏ أي تصيير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبر أنه يصير إليها‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما يكون حالهم حينئذ‏؟‏ قال‏:‏ التحسر والإذغان حيث لا ينفع، والتصديق والإيمان حين لا يقبل، وعبر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في الدنيا أو في الآخرة؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به، أتبعه العامل فيه فقال‏:‏ ‏{‏يقول الذين نسوه‏}‏ أي تركوه ترك المنسي، ويجوز أن يكون عد ذلك نسياناً لأنه ركز في الطباع أن كل ملك لا بد له من عرض جنده ومحاسبتهم، فلما أعرضوا عن ذلك فيما هو من جانب الله عده نسياناً منهم لما ركز في طباعهم‏.‏

ولما كان نسيانهم في بعض الزمان السابق، أدخل الجار فقال ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل كشف الغطاء محققين للتصديق ‏{‏قد جاءت‏}‏ أي فيما سبق من الدنيا ‏{‏رسل ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا ‏{‏بالحق‏}‏ أي المطايق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا به، فما صدقوا حتى رأوا فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم‏.‏

ولما وصفوه سبحانه بالإحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول أناته، سببوا عن ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏فهل لنا من شفعاء‏}‏ أي في هذا اليوم، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا ‏{‏فيشفعوا لنا‏}‏ أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع أو من غيرهم ليغفر لنا ما قدمنا من الجرائم ‏{‏أو نرد‏}‏ أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين؛ ثم سببوا عن جواب هذا الاستفهام الثاني قولهم‏:‏ ‏{‏فنعمل‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏غير الذي كنا‏}‏ أي بجبلاتنا من غير نظر عقلي ‏{‏نعمل‏}‏‏.‏

ولما كان من المعلوم عند من صدق القرآن وعلم مواقع ما فيه من الأخبار أنه لا يكون لهم شيء من ذلك، كانت نتيجته قوله‏:‏ ‏{‏قد خسروا أنفسهم‏}‏ أي فلا احد أخسر منهم ‏{‏وضل‏}‏ أي غاب وبطل ‏{‏عنهم ما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً، لا يمكنهم الرجوع عنه إلا عند عند رؤية البأس ‏{‏يفترون*‏}‏ أي يتعمدون في الدنيا من الكذب في أمره لقصد العناد للرسل من ادعاء أن الأصنام تشفع لهم ومن غير ذلك من أكاذيبهم‏.‏

ولما كان مدار القرآن على تقرير الأصول الأربع‏:‏ التوحيد والنبوة والمعاد والعلم، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأوليائه وأعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم، وختم بأن شركاءهم تغني عنهم، علل ذلك بأنه الرب لا غيره، في سياق دال على الوحدانية التي هي أعظم مقاصد السورة، كفيل بإظهار الحجج عليها، وعلى المقصد الثاني- وهو الإعادة التي فرغ من تقرير أحوالها بالإبداء الذي تقرر في العقول أنه أشد من الإعادة- بأدلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال‏:‏ ‏{‏إن ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالإيجاد من العدم وتدبير المصالح هو ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الذي لا كفوء له وحده لا صنم ولا غيره؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ أي على اتساعهما وعظمتهما‏.‏

ولما كان ربما قال الكفار‏:‏ ما له إذا كان قادراً وأنت محق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان بتأويله، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده، فقال‏:‏ ‏{‏في ستة أيام‏}‏ أي في مقدارها؛ ولما كان تدبير هذا الخلق أمراً باهراً لا تسعه العقول، ولهذا كانت قريش تقول‏:‏ كيف يسع الخلق إله واحد‏!‏ أشار إلى عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذاً مستوفى مستقصى مستقلاً به لأن هذا شأن من يملك ملكاً ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه، ويقال‏:‏ فلان جلس على سرير الملك، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس، وكما يقال في ضد ذلك‏:‏ فلان ثل عرشه، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره، فيكون هذا كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل‏:‏ طويل النجاد، وللكريم‏:‏ عظيم الرماد‏.‏

ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن، ابتدأ من التدبير هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد، فقال دالاً على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود‏:‏ ‏{‏يغشي‏}‏ أي استوى حال كونه يغشي ‏{‏الليل النهار‏}‏ وقال أبو حيان‏:‏ وقرأ حميد بن قيس‏:‏ يغشى الليل- بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع النهار، وقال ابن عطية‏:‏ وأبو الفتح أثبت، وهذا الذي قاله- من أن أبا الفتح أثبت- كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءة ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءة فضلاً عن النجاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاً على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ ‏{‏اليّل‏}‏ في قراءتهم- وإن كان منصوباً- هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولاً، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى، فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في‏:‏ ملكت زيداً عمراً، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى- انتهى‏.‏

ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار، دل على أن النهار كذلك بقوله مبيناً لحال الليل ‏{‏يطلبه‏}‏ أي الليل يجر ويطلب النهار دائماً طلباً ‏{‏حثيثاً‏}‏ أي سريعاً جداً لتغطية الليل، وذلك لأن الشيء لا يكون مطلوباً إلا بعد وجوده، وإذا وجد النهار كان مغطياً لليل، لأنهما ضدان، وجود أحدهما ماح لوجود الآخر، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق، وحركتهما بواسطة حركة العرش، ولذا ربطهما به، وهي أشد الحركات سرعة وأكملها شدة، وللشمس نوعان من الحركة‏:‏ أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع الدرج كلها في جميع الفلك، وبسببه تحصل السنة، والثاني بحسب حركة الفلك الأعظم تتم في اليوم بليلته، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين، وأجاز ابن جني أن يكون ‏{‏يطلبه‏}‏ حالاً من النهار في قراءة الجماعة وإن كان مفعولاً، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثاً ليغطيه، وأن يكون حالاً منهما معاً لأن كلاًّ منهما طالب للآخر، وبهذا ينتظم ما قاله في قراءة حميد، فإن كلاً منهما يكون غاشياً للآخر، قال في كتابه المحتسب في القراءات الشواذ‏:‏ ووجه صحة القراءتين والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضاً مزيل له، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولاً ومفعول وإن كان فاعلاً، على أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثراً في الاستحثاث من الليل‏.‏

ولما ذكر الملوين، أتبعهما آية كل فقال‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم‏}‏ أي خلقها، أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آيته خال كون الكل ‏{‏مسخرات‏}‏ أي للسير وغيره ‏{‏بأمره‏}‏ وهو إرداته وكلامه، تقودها الملائكة كما روي أن لله ملائكة يجرون الشمس والقمر‏.‏

ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعاً قوله ‏{‏ألا له‏}‏ أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية- كما هو مقتضى الحكم- من المحسوس إلى المعقول فقال‏:‏ ‏{‏الخلق‏}‏ وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي‏:‏ فكل ما كان جسماً او جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره ‏{‏والأمر‏}‏ وهو ما كان من ذلك إخراجاً من العدم من غير تسبب كالروح، وما كان حفظاً وتدبيراً بالكلام كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية؛ وقال الرازي‏:‏ كل ما كان بريئاً من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر، وعد الملائكة من عالم الأمر، فأتنج ذلك قطعاً قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري الآفاق‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ أي ثبت ثبوتاً لا ثبوت في الحقيقة غيره اليمن والبركة وكثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة ‏{‏الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام‏.‏

ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال‏:‏ ‏{‏رب العالمين*‏}‏ أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقاً وتصريفاً بأمره، وفي الجزء السادس من فوائد المخلص عن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ ما يقول هذه الدوبية- يعني بشراً المريسي‏؟‏ قالوا‏:‏ يا أبا محمد‏!‏ يزعم أن القرآن مخلوق، فقال‏:‏ كذب، قال الله عزّ وجلّ ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ فالخلق خلق الله، والأمر القرآن- انتهى‏.‏ وهذا الذي فسر به مما تحتمله الآية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله ‏{‏بأمره‏}‏ وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والأمر المقتضي لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال‏:‏ ‏{‏ادعوا ربكم‏}‏ أي الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع ‏{‏تضرعاً‏}‏ أي تذللاً ظاهراً ‏{‏وخفية‏}‏ أي وتذللاً باطناً، وقد أثنى على عبده زكريا عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏إذ نادى ربه نداء خفياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 3‏]‏ أي اجمعوا إلى خضوع الظاهر خضوع الباطن، أي أخلصوا له العبادة، إنه يحب المخلصين لأن تفرده بأن يدعى هو اللائق بمقام عز الربوبية، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام ذل العبودية، وهذا هو المقصود من الدعاء لا تحويل العلم الأزلي، وهو المقصود من جميع العبادات، فإن العبد لا يدعو إلا وقد استحضر من نفسه الذل والصعب والحاجة، ومن ربه العلم والقدرة والكفاية، وهذا هو المقصود من جميع العبادات، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة، وقد جمع هذا الكلام على وجازته كل ما يراد تحقيقه وتحصيله من شرائط الدعاء بحيث إنه لا مزيد عليه، ومن فعل خلاف ذلك فقد تجاوز الحد، وإلى ذلك أوماً بتعليله بقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يحب المعتدين*‏}‏ أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وغيره، قالوا فالمعنى أن من ترك هذا لا يحبه الله، أي لا يثيبه البتة ولا يحسن إليه، فالآية من الاحتباك آخرها يدل على حذف ضده من صدرها، وصدرها يدل على أنه حذف قبل الآخر‏:‏ ولا تتركوا الإخلاص تكونوا معتدين‏.‏

ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا‏}‏ أي لا تدفعوا فساداً ‏{‏في الأرض‏}‏ أي بالشرك والظلم، فهو منع من إيقاع ماهية الإفساد في الوجود، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل، وهي الأديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ والظاهر أن الإضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله ‏{‏يغشي الليل النهار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان، وأمر بما أنزل من كتبه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول‏.‏

ولما كان ذلك ربما اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف، نفى ذلك بقوله ‏{‏وادعوه خوفاً‏}‏ أي من عدله؛ ولما كان لا سبب للعباد من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه، عبر بالطمع فقال‏:‏ ‏{‏وطمعاً‏}‏ أي في فضله، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رأفته، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة ‏{‏إن رحمت الله‏}‏ أي إكرام ذي الجلال والإكرام لمن يدعوه على هذه الصفة، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية، فقال‏:‏ ‏{‏قريب‏}‏ وكان الأصل منكم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏من المحسنين*‏}‏‏.‏

ولما كان دوام الصلاح لا يكون إلا يكون بالغيث، وهو من أجلّ أنواع الرحمة، وهو لا يكون إلا بالسحاب، وهو لا يكون إلا بالريح، قال تعالى عاطفاً على ‏{‏إن ربكم الله‏}‏ تنبيهاً بعد تحقيق المبدإ على تحقيق المعاد‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي يرسل‏}‏ أي بالتحريك ‏{‏الرياح‏}‏ هذا في قراءة الجماعة، وأنواعها خمس‏:‏ جنوب وشمال وصبا ودبور ونكباء، وهي كل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين، ووحد ابن كثير وحمزة والكسائي على إرادة الجنس ‏{‏بشرا‏}‏ بضمتين في قراءة أهل الحجاز والبصرة، أي منتشرة جمع نشور من النشر، وهو بسط ما كان مطوياً وتفريقه في كل وجه لا لذات الريح وإلا لدام ذلك منها ولا بقوة فلك أو نجم لأن نسبتهما إلى الهواء واحدة ‏{‏بين يدي‏}‏ أي قبل ‏{‏رحمته‏}‏ أي المطر، ولعله عبر فيه باليدين‏:‏ اليمنى واليسرى، لدلالته- مع ما فيه من الفخامة- على انه تارة يكون رحمة وتارة يكون عذاباً كما كان على قوم نوح عليه السلام وإن كانت الرحمة فيه أغلب وهي ذات اليمين، وتارة تكون الرياح جامعة لها لحفظ الماء، وتارة مفرقة مبطلة لها، وتارة تكون مقومة للزروع والأشجار مكملة لها وهي اللواقح، وتارة تكون منمية لها أو مهلكة كما يكون في الخريف، وتارة تكون طبية وتارة مهلكة إما بشدة الحرارة والبرودة؛ ثم غيّ الإرسال بقوله ‏{‏حتى إذا أقلت سحاباً‏}‏ أي حملتها لقلتها عندها لخفتها عليها ‏{‏ثقالاً‏}‏ أي بالماء؛ ولما دل على العظمة بالجمع وحقق الأمر بالوصف، أفرد اللفظ دلالة على غاية العظمة بسوقه مجتمعاً كأنه قطعة واحدة، لا يفترق جزء منه عن سائره إذ لو تفرق لاختل أمره، فقال‏:‏ ‏{‏سقناه لبلد‏}‏ أي لأجله وإليه ‏{‏ميت‏}‏ أي بعدم النبات ‏{‏فأنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏به‏}‏ أي البلد، أو بسبب ذلك السحاب ‏{‏الماء‏}‏ أي هذا الجنس، وأشار إلى عظمة الإنبات بالنون فقال ‏{‏فأخرجنا به‏}‏ أي بالماء ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ أي الحقيقية على الأشجار، والمجازية من النبات وحبوبه، ولما كان هذا- مع ما فيه من التذكير بالنعمة المقتضية لتوحيده بالدعوة- دليلاً ثانياً في غاية الدلالة على القدرة على البعث، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ما أخرجنا هذا النبات من الأرض بعد أن لم يكن ‏{‏نخرج الموتى‏}‏ أي من الأرض بعد أن صاروا تراباً ‏{‏لعلكم تذكرون*‏}‏ أي قلنا هذا لتكون حالكم حال من يرجي تذكر هذه الآية المشاهدة القريبة المأخذ ولو على أدنى وجوه التذكر بما أشار إليه الإدغام، لأنه سبحانه كما قدر على إعادة النبات بجمع الماء له من جوف الأرض بعد أن كان تغيب في الأرض وصار تراباً، وأحيى الشجرة بعد أن كانت لا روح لها بإيداع الثمرة التي هي روحها، فهو قادر على إعادة الأشباح وإيداعها الأرواح كما كانت أول مرة، لأنه لا فرق بين الإخراجين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما كانت الموت موتين‏:‏ حسياً ومعنوياً- كما أشير في الأنعام في آية ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ كان كأنه قيل‏:‏ لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة ‏{‏يخرج نباته‏}‏ أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً ‏{‏بإذن‏}‏ أي بتمكين ‏{‏ربه‏}‏ أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له ‏{‏والذي خبث‏}‏ أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لا يهيئه الله تعالى للإنبات ‏{‏لا يخرج‏}‏ أي نباته ‏{‏إلا‏}‏ أي حال كونه ‏{‏نكداً‏}‏ أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو- مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار- مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك‏.‏

ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول‏:‏ هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر‏:‏ ‏{‏نصرف الآيات‏}‏ أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد‏:‏ ‏{‏لقوم يشكرون*‏}‏ أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان‏.‏

ولما طال تهديده سبحانه لمن أصر على إفساده، ولم يرجع عن غيّه وعناده بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين، ونوَّع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة- بتفصيل أحوال من سلفت الإشارة إلى إهلاكهم وبيأن مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى

‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ وقوله ‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏ الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لصالحي أتباعه بالتنبيه على أن الإعراض عن الآيات ليس من خواص هذه الأمة بلف هي عادة الأمم السالفة، وعلى أن النعم خاصة بالشاكرين، ولذا كانت النقم مقصورة على الكافرين، فقال تعالى ‏{‏لقد أرسلنا‏}‏ أي بعظمتنا، وافتتحه بحرف التوقع لما للسامع الفطن من التشوف إلى ذكر ما تكرر من الإشارة إليه، ولأن اللام المجاب بها القسم المحذوف لا ينطقون بها غالباً إلا مقترنة بقد، لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تاكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة بمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم ‏{‏نوحاً‏}‏ يعني ابن لمك بم متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام، وكان عند الإرسال ابن خمسين سنة‏.‏

ولما كان إرساله صلى الله عليه وسلم قبل القبائل باختلاف اللغات قال‏:‏ ‏{‏إلى قومه‏}‏ أي الذين كانوا ملء الأرض كما في حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله عنه، ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض‏.‏ وفيهم من القوة على القيام بما يريدون ما لا يخفي على من تأمل آثارهم وعرف أخبارهم، فإن كانت آثارهم فقد حصل المراد، وإن كانت لمن بعدهم علم- بحكم قياس الاستقرار- أنهم أقوى على مثلها وأعلى منها، ولسوق ذلك دليلاً على ما ذكر جاء مجرداً عن أدوات العطف، وهو مع ذلك كله منبه على أن جميع الرسل متطابقون على الدعوة إلى ما دل عليه برهان ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ من التوحيد والصلاح إلى غير ذلك من بحور الدلائل والحجاج المتلاطمة الأمواج- والله الهادي إلى سبيل الرشاد، وكون نوح عليه السلام رسولاً إلى جميع أهل الأرض- لأنهم قومه لوحده لسانهم- لا يقدح في تخصيص نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة، لأن معنى العموم إرساله إلى جميع الأقوام المختلفة باختلاف الألسن وإلى جميع من ينوس من الإنس والجن والملائكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات لهذا مزيد بيان‏.‏

ولما كان من المقاصد العظيمة الإعلام بأن الذي دعا إليه هذا الرسول لم تزل الرسل- على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام- تدعو إليه، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله ‏{‏فقال يا قوم‏}‏ أي فتحبب إليهم بهذه الإضافة ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة من الخلق والأمر، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به‏.‏

ولما كان المقصود إفراده بذلك، علله بقوله مؤكداً له بإثبات الجار ‏{‏ما لكم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏ ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إني أخاف عليكم‏}‏ في الدنيا والآخرة، ولعلة قال هنا‏:‏ ‏{‏عذاب يوم عظيم*‏}‏ وفي هود ‏{‏أليم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 26‏]‏ وقال في المؤمنون ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 23‏]‏ لأن ترتيب السور الثلاث- وإن كان الصحيح أنه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم- فلعله جاء على ترتيبها في النزول، لأنها مكيات، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فألان لهم أولاً المقال من حيث إنه أوهم أن العظم الموصوف به ‏{‏اليوم‏}‏ لا بسبب العذاب بل الأمر آخر، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان ولو قل، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه، فلما لجوا في عتوهم قال لهم قول القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له‏:‏ ألا تفعل ما أقول لك‏؟‏ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي‏.‏

ولما تم ذلك، وكان الحال مقتضياً- مع ما نصب من الأدلة الواضحة على الوحدانية- لأن يجيبوا بالتصديق، كان كأنه قيل‏:‏ فبماذا كان جوابهم‏؟‏ فقال ‏{‏قال الملأ‏}‏ أي الأشراف الذين يملأ العيون مرآهم عظمة، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، ولم يصفهم في هذه السورة بالكفر لأن ذلك أدخل في التسلية، لأنها أول سورة قص فيها مثل هذا في ترييب الكتاب، ولأن من آمن به مطلقاً كانوا في جنب من لم يؤمن في غاية القلة، فكيف عند تقييدهم بالشرف‏!‏ وأكد ذمهم تسلية لهذا النبي الكريم بالتعريف بقربهم منه في النسب بقوله‏:‏ ‏{‏من قومه‏}‏ وقابلوا رقته وأدبه بغلطة مؤكداً ما تضمنته من البهتان لأن حالهم مكذب لهم فقالوا‏:‏ ‏{‏إنا لنراك‏}‏ أي كل واحد منا يعتقد اعتقاداً هو في الثقة به كالرؤية أنك ‏{‏في ضلال‏}‏ أي خطأ وذهاب عن الصواب، هو ظرف لك محيط بك ‏{‏مبين*‏}‏ أي ظاهر في نفسه حتى كأنه يظهر ذلك لغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 68‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال، فقال تعالى مخبراً عنه ‏{‏قال ياقوم‏}‏ مجدداً لا ستعطافهم ‏{‏ليس بي ضلالة‏}‏ فنفى وحدة غير معينة، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد، فهو أنص من نفي المصدر، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين‏:‏ إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم، والثانية بعد أن أسلم بعضهم‏.‏

ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق، فقال مستدركاً- بعد نفي الضلال- إثبات ملزوم ضده‏:‏ ‏{‏ولكني رسول‏}‏ أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق ‏{‏من رب العالمين*‏}‏ أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة؛ ثم استأنف الإخبار عن وظيفته بياناً لرسالته فقال‏:‏ ‏{‏أبلغكم‏}‏ وكأن أبواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها أو باعتبار تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة، أو أنه جمع له ما أرسل به من قبله كإدريس جده وهو ثلاثون صحيفة وشيث وهو خمسون صحيفة عليهما السلام فقال‏:‏ ‏{‏رسالات ربي‏}‏ أي المحسن إليّ من الأوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من أحوال الآخرة وغيرها، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع‏.‏

ولما كان الضلال من صفات الفعل، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله‏:‏ ‏{‏وأنصح‏}‏ وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ والنصيحة‏:‏ الإرشاد إلى المصلحة مح خلوص النية من شوائب المكروه، ولما كان الضلال من الجهل قال‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله‏}‏ أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه ‏{‏ما لا تعلمون*‏}‏ أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالاً‏.‏

ولما كان الحامل لهم على هذا مجرد استبعاد أن يختص عنهم بفضيلة وهو منهم كما سيأتي في غير هذه السورة، أنكر ذلك عليهم بقولة‏:‏ ‏{‏أو عجبتم‏}‏ أي أكذبتم وعجبتم ‏{‏أن جاءكم‏}‏ وضمن جاء معنى أنزل، فلذلك جعلت صلته «على» فقال‏:‏ ‏{‏ذكر‏}‏ رسالة ‏{‏من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالإيجاد والتربية منزلاً ‏{‏على الرجل‏}‏ أي كامل في الرجولية وهو مع ذلك بحيث لا تتهمونه فإنه ‏{‏منكم‏}‏ لقولكم‏:‏ ‏{‏ما سمعنا بهذا‏}‏ أي إرسال البشر ‏{‏في آبائنا الأولين‏}‏

‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏لينذركم‏}‏ لتحذروا ما ينذركموه ‏{‏ولتتقوا‏}‏ أي تجعلوا بينكم وبين ما تحذرونه وقاية لعلكم تنجون ‏{‏ولعلكم ترحمون*‏}‏ أي وليكون حالكم إذا لقيتم الله حال من ترجى رحمته بأن يرفعه الله في الدارين‏.‏

ولما نسبوه أولاً إلى الضلال وهو قد يكون خطأ عن ذهول ونحوه، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب، أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بما لوحوا إليه أولاً بالضلال من التكذيب فقال‏:‏ ‏{‏فكذبوه‏}‏ أي الملأ وتبعهم من دونهم؛ ولما تسبب عن تكذيبهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به، قال مقدماً لإنجائه اهتماماً به‏:‏ ‏{‏فأنجيناه‏}‏ بما لنا من العظمة من أهل الأرض كلهم ومن عذابنا الذي أخذناهم به‏:‏ ‏{‏والذين معه‏}‏ أي بصحبة الأعمال الدينية ‏{‏في الفلك‏}‏ وهو السفينة التي منّ الله على الناس بتعليمه عملها لتقيه من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم ‏{‏وأغرقنا‏}‏ أي بالطوفان، وهو الماء الذي طبق ظهر الأرض فلم يبق منها موضعاً حتى أحاط به، وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للفعل بالوصف إشارة إلى أن من فعل مع الرسول شيئاً فإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه فقال‏:‏ ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية، وقرنت ب ‏{‏الذين‏}‏ لأنه أخلص الموصولات واصرحها‏.‏

ولما أعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد التفويض في قوله ‏{‏فأجمعوا أمركم وشركاءكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏، وتلا ب ‏{‏من‏}‏ ضماً للفرع إلى الفرع فإن ‏{‏من‏}‏ مشترك بين الوصل والشرط، وهي أيضاً قد تطلق على ما لا يعقل، فناسب ذلك الحال، وزيد هناك في وصف الناجين ‏{‏وجعلناهم خلائف‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 73‏]‏ نظراً إلى قوله تعالى في في أول السورة ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 14‏]‏ فلوح لهم بالإهلاك إن ظلموا، ثم أشار لهم- في قصة نوح عليه السلام بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم- إلى أنه تفضل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم- عليه أفضل الصلاة والتسليم- فقضى أنهم غير مهلكين‏.‏

ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلاً، وهو ناشئ عن عمى البصيرة أو البصر، ناسب أن يقلب الأمر عليهم على وجه الحق فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي لما جبلتهم من العوج ‏{‏قوماً عمين*‏}‏ أي مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم يحاولون، ثابت لهم ذلك، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل، وختمت القصة في يونس بقوله

‏{‏فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 73‏]‏ لقوله أولها ‏{‏إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏ أي إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيراً لما عز عليهم‏.‏

ولما كان عاد بعدهم، ولم يكن هنا ما يقتضي تشويش الترتيب، اتبعهم بهم مقدماً المرسل إليه ليفيد تخصيص رسالته بهم وهم بعض أهل الأرض فقال‏:‏ ‏{‏وإلى عاد‏}‏ خاصة أرسلنا ‏{‏أخاهم‏}‏ أي في النسب لأنهم عنه أفهم وبحاله في الثقة والأمانة أعرف؛ ولما عطفه على نوح عليهما السلام بعد تقديم المرسل إليهم، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏هوداً‏}‏ بخلاف قوم نوح فإنهم كانوا جميع أهل الأرض، لأن القبائل لم تكن فرقت الناس ولا الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً، ولم تفرق الألسنة إلا بعد الصرح، ولهذا عم الغرق جميع أهل الأرض، فكان المعنى حينئذ لا يختلف في قصته بتقديم ولا تأخير، فناسب تقديم الرسالة أو المرسل لأنه أهم‏.‏

ولما وكانت قصة نوح عليه السلام أول قصص الأنبياء مع قومهم، ولم يكن للعرب عهد بمجاورات الأنبياء ومن يرسلون إليه، فأتى فيها بالأصل «أرسلناه» فقال سياقاً واحداً إخباراً لمن هو فارغ الذهن من كل جزء من أجزائها؛ أتت قصة هود عليه السلام بعد علم السامعين بقصة نوح عليه السلام مما وقع من تبليغه لهم وردهم عليه، فلما ذكر إرساله تشوف السامع إلى انه هل قال لهم كما قال نوح وهل ردوا عليه كرد قومه أو كان الأمر بخلاف ذلك‏؟‏ فأجيب سؤال المتشوف بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ كقوله نوح عليه السلام سواء ‏{‏يا قوم‏}‏ مذكراً لهم بأنه أحدهم يهمه ما يهمهم ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي لا ستحقاقه ذلك لذاته؛ ثم علل أو استأنف بقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏ ولما كانوا عارفين بما أصاب قوم نوح قال‏:‏ ‏{‏أفلا تتقون*‏}‏ أي أفلا تجعلون بينكم وبين عذاب هذا الواحد الجبار وقاية‏.‏

ولما تشوف السامع إلى جوابهم بعد هذا الترغيب الممزوج بالترهيب، أجيب بقوله ‏{‏قال الملأ‏}‏ أي الأشراف الذين يملؤون العيون بهجة والصدور هيبة، ولما كانت عاد قليلاً بالنسبة إلى قوم نوح عليه السلام، وكان قد أسلم من أشرافهم من له غنى في الجملة، قيد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي ستروا ما من حقه الظهور من أدلة الوحدانية، ووصفوا تسلية لهذا النبي الكريم فيما يرى من جفاء قومه بأن مثل ذلك كان لإخوانه من الأنبياء بقوله ‏{‏من قومه‏}‏ وأكدوا ما واجهوه به من الجفاء لأنهم عالمون بأن حاله في علمه وحكمه يكذبهم بقولهم‏:‏ ‏{‏إنا لنراك‏}‏ أي لنعلمك علماً متيقناً حتى كأنه محسوس ‏{‏في سفاهة‏}‏ أي مظروفاً لخفة العقل، فهي محيطة بك من جميع الجوانب، لا خلاص لك منها، فلذا أدتك إلى قول لا حقيقة له، فالتنوين للتعظيم، فإن قيل‏:‏ بل للتحقير، كأنهم توقفوا في وصفه بذلك كما توقفوا في الجزم بالكذب فقالوا‏:‏ ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين*‏}‏ أي المتعمدين للكذب، وذلك لأنه كان عندهم علم من الرسل وما يأتي مخالفهم من العذاب من قصة نوح عليه السلام ولم يكن العهد بعيداً، وأما قوم نوح فجزموا بالضلال وأكدوه بكونه مبيناً، لأنه لم يكن عندهم شعور بأحوال الرسل وعذاب الأمم قبل ذلك، ولهذا قالوا

‏{‏ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏، قيل‏:‏ ليس كذلك، فقد ورد في جواب قوم نوح في سورة هود مثل هذا، وهو قوله ‏{‏بل نظنكم كاذبين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏؛ فإن قيل‏:‏ إنما كان هذا في ثاني الحال بعد أن نصب لهم الأدلة وأقام البراهين على صحة مدعاه وثارت حظوظ الأنفس بالجدال، فإنه يبعد أن يكون قومه أجابوه بذلك أول ما دعاهم، قيل‏:‏ والأمر كذلك في قصة هود عليه السلام سواء فإنه لم يقل له ذلك إلا الكفار من قومه، فتقييدهم بالوصف يدل على أنه كان فيهم من اتبعه، بل وإن متبعه كان من أشرافهم هم بالظن، وتعبير في الكذب لإرادتهم أنه يكفي في وصفه بالسفاهة التي زعموها إقدامه على ما يحتمل معه ظنهم لكذبه، أو يكون قوله غير الحق في زعمهم مردداً بين أن يكون قاله عن تعمد أو حمله عليه ما رموه به من السفه من غير تأمل‏.‏ ولما قابلوا لينته لهم وشفقته عليهم بهذه الغلطة، أعرض عن ذلك وعاملهم من الحلم بضده ما سموه به بأن ‏{‏قال‏}‏ معلماً الأدب في مخاطبة السفهاء ‏{‏يا قوم‏}‏ مذكراً بما بينهم من النسب الداعي إلى الود والمناصحة والعطف والملاطفة ‏{‏ليس بي سفاهة‏}‏ فنفى أن يكون به شيء من خفة حلم، فانتقى أن يكون كاذباً لأن الداعي إلى الكذب الخفة والطيش فلم يحتج إلى تخصيصه بنفي‏.‏

ولما نفى السفاهة، أثبت ما يلزم منه ضدها بقوله‏:‏ ‏{‏ولكني رسول‏}‏ وبين المرسل تعظيماً للأمر بقوله ‏{‏من رب العالمين*‏}‏ أي المحسن إليهم بعد نعمة الإيجاد والأرزاق بإرسال الرسل إليهم ليكسبوهم معالي الأخلاق التي بها انتظام نعمة الإبقاء ‏{‏أبلغكم‏}‏ وجمع الرسالة لما تقدم في قصة نوح عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏رسالات ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بتعليمي ما لم أكن أعلم وتأهيلي لما لم يكن في حسابي‏.‏

ولما كانوا قد رموه بالسفه الذي هو من غرائز النفس لأنه ضد الحلم والرزانة، عبر عن مضمون الجملة النافية له بما يقتضي الثبات فقال‏:‏ ‏{‏وأنا لكم ناصح‏}‏ أي لم يزل النصح من صفتي، وليس هو تكسبته بل غريزة فيّ، وقد بلوتموني فيه قبل الرسالة وإظهار هذه المقالة دهراً دهيراً وزماناً طويلاً؛ ولما قالوا إنهم يظنون كذبه، زادهم صفة الأمانة فقال‏:‏ ‏{‏أمين*‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال‏:‏ ‏{‏أو عجبتم‏}‏ أي أكذبتم وعجبتم ‏{‏أن جاءكم ذكر‏}‏ أي شرف وتذكير ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط، منزلاً ‏{‏على رجل منكم‏}‏ أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء ‏{‏لينذركم‏}‏ أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فاحذروا، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ‏}‏ أي حين ‏{‏جعلكم خلفاء‏}‏ أي فيما أنتم فيه من الأرض، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد قوم نوح‏}‏ أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله ‏{‏أو عجبتم‏}‏ من طلب الجواب، أي أجيبوا واذكروا، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في ‏{‏أفلا تتقون‏}‏، ‏{‏أو عجبتم‏}‏ أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا، أو يكون العطف- وهو أحسن على ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ وقوله ‏{‏خلفاء‏}‏ قيل‏:‏ إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن، فقيل‏:‏ إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض، فكأنه قيل‏:‏ جعل جدكم خليفة في جميع الأرض، فلو حصل الشكر لتمت النعمة، فأطيعوا يزدكم من فضله، وقيل‏:‏ إن قصة ثمود مثل ذلك، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد، فأجيب بما طرد، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً، كان سائر الناس لهم تبعاً، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا‏:‏ فلان خليفة فلان، وفلان خليفة من بعد فلان- من الفرق ما لا يخفي، فالمخلوف في الثاني لم يذكر، فكأنه قيل‏:‏ جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار، ومعلوم أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏

‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وفي قصة هود في سورة الأحقاف ‏{‏وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم‏.‏

ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام، أتبعه التذكير بالزيادة فقال‏:‏ ‏{‏وزادكم‏}‏ أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم ‏{‏في الخلق‏}‏ أي الخاص بكم ‏{‏بسطة‏}‏ أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان، قيل‏:‏ كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً، وقيل‏:‏ أكثر‏.‏

ولما عظمت النعمة، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة ‏{‏لعلكم تفلحون*‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحه وهو ظفره بجميع مراده، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة‏.‏

ولما كان هذا منه موجباً ولا بد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم، فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ منكرين عليه معتمدين على محض التقليد ‏{‏أجئتنا‏}‏ أي من عند من ادعيت أنك رسوله ‏{‏لنعبد الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏وحده‏}‏ ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا‏:‏ ‏{‏ونذر‏}‏ أي نترك على غير صفة حسنة ‏{‏ما كان يعبد آباؤنا‏}‏ أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب «كان» وصيغة المضارع- مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك- ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم‏.‏

ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ إلى الأخذ إن أصروا، سببوا عن ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏فأتنا‏}‏ أي عاجلاً ‏{‏بما تعدنا‏}‏ أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم‏:‏ ‏{‏إن كنت من الصادقين*‏}‏ وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء‏.‏

ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول، وكان قد علم من محاورته صلى الله عليه وسلم لهم الحلم عنهم، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له، فشفى غليل هذا التشوف بقوله‏:‏ ‏{‏قال قد وقع‏}‏ أي حق ووجب وقرب أن يقع ‏{‏عليكم من ربكم‏}‏ أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم ‏{‏رجس‏}‏ أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم ‏{‏وغضب‏}‏ أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها‏.‏

ولما أخبرهم بذلك، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال‏:‏ ‏{‏أتجادلونني‏}‏ ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى، قال‏:‏ ‏{‏في أسماء‏}‏ ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال‏:‏ ‏{‏سميتموها انتم وآباؤكم‏}‏ ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال‏:‏ ‏{‏ما نزل الله‏}‏ أي الذي ليس الأمر إلا له ‏{‏بها‏}‏ أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها، وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من سلطان‏}‏ ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد- لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج- النفي بكل اعتبار، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا معناه، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً‏.‏

ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في الإنجاز، وإنما معناه الوجوب الذي لا بد من فقال‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏معكم‏}‏ إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها ‏{‏من المنتظرين*‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله‏:‏ ‏{‏فأنجيناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين ‏{‏والذين معه‏}‏ أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله‏:‏ ‏{‏برحمة‏}‏ أي بإكرام وحياطة ‏{‏منا‏}‏ أي لا بعمل ولا غيره‏.‏

ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع ‏{‏وقطعنا‏}‏ دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال‏:‏ ‏{‏دابر‏}‏ أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله‏:‏ ‏{‏وما كانوا‏}‏ أي خلقاً وجبلة ‏{‏مؤمنين*‏}‏ عطف على صلة ‏{‏الذين‏}‏ وهي ‏{‏كذبوا بآياتنا‏}‏ وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول ‏{‏إنهم كانوا قوماً عمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 64‏]‏ تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى‏:‏ وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب، ويحتمل أن تكون الجملة حالاً، والمعنى على كل تقدير‏:‏ قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم‏.‏

ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة عاد، أتبعهم ثمود فقال ‏{‏وإلى ثمود‏}‏ أي خاصة، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة، وهو مشتق من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، أرسلنا ‏{‏أخاهم صالحاً‏}‏ ثم استأنف الإخبار عن قوله- كما مضى في هود عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الذي لا كمال إلا له ‏{‏ما لكم‏}‏ وأكد النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏‏.‏

ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجبهم، ودعا هو صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة، علل صحة ما دعا إليه بقوله‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم بينة‏}‏ أي آية ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما أمرتكم به، وزادهم رغبة بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لم يزل محسناً إليكم؛ ثم استأنف بيانها بقوله‏:‏ ‏{‏هذه‏}‏ مشيراً إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشأنه في عظيم خلقها وسرعة تكوينها لأجله‏.‏

ولما أشار إليها، سماها فقال‏:‏ ‏{‏ناقة الله‏}‏ شرفها بالإضافة إلى الاسم الأعظم، ودل على تخصيصها بهم بقوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ حال كونها ‏{‏آية‏}‏ أي لمن شاهدها ولمن سمع بها وصح عنده أمرها؛ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فذروها‏}‏ أي اتركوها ولو على أدنى وجوه الترك ‏{‏تأكل‏}‏ أي من النبات و‏{‏في أرض الله‏}‏ أي مما أنبت الله الذي له كل شيء وهي ناقته كما أن الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بأرض دون أخرى‏.‏

ولما أمرهم بتركها لذلك، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال‏:‏ ‏{‏ولا تمسوها بسوء‏}‏ فضلاً عما بعد المس ‏{‏فيأخذكم‏}‏ أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه ‏{‏عذاب أليم*‏}‏ أي مؤلم‏.‏

ولما أمرهم ونهاهم، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال‏:‏ ‏{‏واذكروا‏}‏ أي نعمة الله عليكم ‏{‏إذ جعلكم خلفاء‏}‏ أي فيما أنتم فيه ‏{‏من بعد عاد‏}‏ أي إهلاكهم ‏{‏وبوأكم في الأرض‏}‏ أي جعل لكم في جنسها مساكن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردتم ما لم يسهله على غيركم، ولهذا فسر المراد بقوله‏:‏ ‏{‏تتخذون‏}‏ أي بما لكم من الصنائع ‏{‏من سهولها قصوراً‏}‏ أي أبنية بالطين واللبن والآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن ‏{‏وتنحتون الجبال‏}‏ أي أيّ جبل أرتم تقدرونها ‏{‏بيوتاً‏}‏‏.‏

ولما ذكرهم بهذه النعم مرغباً مرهباً، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به‏:‏ ‏{‏فاذكروا‏}‏ أي ذكر إذعان ورغبة ورهبة ‏{‏آلاء‏}‏ أي نعم ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال فلا حاجة به إلى أحد، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة ‏{‏ولا تعثوا في الأرض‏}‏ من العثي وهو الفساد، وهو مقلوب عن العيث- قاله ابن القطاع، وحينئذ يكون قوله‏:‏ ‏{‏مفسدين*‏}‏ بمعنى معتمدين للفساد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما حصل الالتفات إلى جوابهم، قيل‏:‏ ‏{‏قال الملأ‏}‏ أي الأشراف، وبينه بقول‏:‏ ‏{‏الذين استكبروا‏}‏ أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا؛ ونبه على التأسية بقوله‏:‏ ‏{‏من قومه‏}‏ ولما قال‏:‏ ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ كان ربما فهم أنهم آمنوا كلهم، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه‏:‏ ‏{‏لمن آمن منهم‏}‏ أي المستضعفين، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء، وأنه لم يؤمن إلا بعضهم، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإذعان للحق، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد ‏{‏أتعلمون‏}‏ أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن الإيمان ‏{‏أن صالحاً‏}‏ سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم ‏{‏مرسل من ربه‏}‏ وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين‏.‏

ولما عملوا ذلك منهم، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع أمره بأن ‏{‏قالوا‏}‏ منبهين لهم على غلظتهم وغلطهم في توسمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له ‏{‏إنا بما أرسل به‏}‏ وبني للمفعول إشارة إلى تعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين ‏{‏مؤمنون*‏}‏ أي غريقون في الإيمان به، ولذلك ‏{‏قال الذين استكبروا‏}‏ أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة ‏{‏إنا بالذي‏}‏ ووضعوا موضع «أرسل به»- رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً ‏{‏آمنتم به‏}‏ أي كائناً ما كان ‏{‏كافرون*‏}‏ ثم سبب عن قولهم قوله ‏{‏فعقروا الناقة‏}‏ أي التي جعلها الله لهم آية، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب، ولكن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏ وقوله ‏{‏إذا انبعث أشقاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 91‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه» قالوا‏:‏ هو قدار بن سالف، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها، ففعل فكان أشقى الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله، فالمناسبة بينهما أن كلاًّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة، وقوله صلى الله عليه وسلم «أشقى الأولين عاقر الناقة»

يدل على أن عاقرها رجل واحد، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي‏:‏ قال الأزهري‏:‏ العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره- انتهى‏.‏ وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع، ومادته تدور على ذلك، عقر النخلة‏.‏ إذا قطع رأسها فيبست، والفرس‏:‏ ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد، وأما النحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر- ان يشتركوا فيما نشأ عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم ‏{‏وعتوا‏}‏ أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر ‏{‏عن أمر‏}‏ أي امتثال أمر ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها ‏{‏وقالوا‏}‏ زيادة في العتو ‏{‏يا صالح ائتنا‏}‏‏.‏

ولما نزلوا وعيدهم له- حيث لم يؤمنوا به- منزلة الوعد والبشارة، قالوا‏:‏ ‏{‏بما تعدنا‏}‏ استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب، كأنهم يقولون‏:‏ نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة علينا، فإنا لا نتأذى بذلك، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك‏:‏ ‏{‏إن كنت من المرسلين*‏}‏ أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى؛ ثم سبب عن عتوهم قوله‏:‏ ‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ أي التي كانت عنها أو منها الصيحة، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏ أي مساكنهم، وجمعها في القصتين مع الصيحة، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن، فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار، فإذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت جماعتها وفرقت شملها، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب، وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعهاً، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهو أقرب، وخصت الأعراف بما ذكر فيها، لأن مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها- والله اعلم ‏{‏جاثمين*‏}‏ أي باركين على ركبهم لازمين أماكنهم لا حراك بأحد منهم، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال، ومسافة الحرم عن أرضهم تزيد على مسيرة عشرة أيام، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال أرواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً، وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب، وأنالتهم أشد العذاب، ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها كبير أذى، وكفها الله عن حذيفة، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليتعرف له أخبارهم‏.‏

ولما أصابهم ذلك، سبب لهم الهجرة عن ديارهم ديار السوء والغضب واللعنة فقال تعالى إعلاماً لنا بذلك‏:‏ ‏{‏فتولى‏}‏ أي كلف نفسه الإعراض ‏{‏عنهم وقال‏}‏ أي لما أدركه من أحوال البشر من الرقة على فوات إيمانهم وهم أصله وعشيرته ‏{‏يا قوم‏}‏ أي الذين يعز عليّ ما يؤذيهم ‏{‏لقد أبلغتكم‏}‏ ولعله وحد قوله‏:‏ ‏{‏رسالة ربي‏}‏ لكون آيته واحدة ‏{‏ونصحت‏}‏ وقصر الفعل وعداه باللام فقال‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ دلالة على أنه خاص بهم، روي أنه خرج عنهم في مائة وعشرة من المسلمين وهويبكي، وكان قومه ألفاً وخمسمائه دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ففعلت معكم ما هو مقتض لأن تحبوني لأجله، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ لم تحبوني، هكذا كان الأصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال‏:‏ ‏{‏لا تحبون‏}‏ أي حاكياً لحالهم الماضية ‏{‏الناصحين‏}‏ أي كل من فعل فعلي من النصح التام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 85‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

ولما أتم سبحانه ما وفى بمقصد هذه السورة في هذا السياق من قصتهم، أتبعه من بعده ممن تعرفه العرب كما فعل فيما قبل فقال‏:‏ ‏{‏ولوطاً إذ قال‏}‏ ولما كانت رسالته إلى مدن شتى، وكأنهم كانوا قبائل شتى، قيل‏:‏ كانوا خمسة وهي المؤتفكات، وقيل‏:‏ كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة الشريفة، قال‏:‏ ‏{‏لقومه‏}‏ وقد جوزوا أن يكون العامل فيه ‏{‏أرسلنا‏}‏ و‏{‏اذكر‏}‏ ولا يلزم من تقدير ‏{‏أرسلنا‏}‏ أن يكون إرساله في وقت تفوهه لهم بهذا القول غير سابق عليه، لأنه كما أن ذلك الزمن- المنطبق على أول قوله وآخره- وقت له فكذلك اليوم- الذي وقع فيه هذا القول- وقت له، بل وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فإن من شأن العرب تسمية الأيام المشتركة في الفعل الواحد يوماً، قالوا‏:‏ يوم القادسية، وهو أربعة أيام إن اعتبرنا مدة القتال فقط، وعدة شهور إن اعتبرنا بالاجتماع له، وكذا يوم صفين، وقال تعالى في قصة بدر ‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إذ تستغيثون ربكم‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏إذ يغشيكم النعاس أمنة منه‏}‏ ‏{‏إذ يوحي ربك إلى الملائكة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 7‏]‏ وكلها إبدال من قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين‏}‏ ولا ريب في أن زمان الكل يكن متحداً إلا بتأويل جميع الأيام المتعلقة بالوقعة من سير وقتال وغير ذلك- والله أعلم، وعبر في قصة نوح عليه السلام ب ‏{‏أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ ثم نسق من بعده عليه فقيل‏:‏ ‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 85‏]‏ وعدل عن هذا الأسلوب في قصة لوط فلم يقل‏:‏ وإلى أهل أدوماً أخاهم لوطاً، أو إلى أهل سدوم لوطاً أو وأرسلنا لوطاً إلى قومه ونحو ذلك كما سيأتي في قصة موسىعليه السلام، لأن من أعظم المقاصد بسياق هذه القصص تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، في مخالفة قومه لهوعدم استجابتهم وشدة أذاهم وإنذار قومه أن يحل بهم ما حل بهذه الأمم من العذاب، وقصص من عدا قوم لوط مشابهة لقصة قريش في الشرك بالله والأذى لعباده المؤمنين، وأما قصة قوم لوط فزائدة عن ذلك بأمر فظيع عظيم الشناعة شديد العار والفحش فعدل عن ذلك النسق تنبيهاً عليه تهويلاً للامر وتبشيعاً له، ليكون في التسلية أشد، وفي استدعاء الحمد والشكر أتم، وحينئذ يترجح أن يكون العامل ‏{‏اذكر‏}‏ لا ‏{‏أرسلنا‏}‏ أي واذكر لوطاً وما حصل عليه من قومه زيادة على شركهم من رؤيته فيهم هذا الأمر الذي لم يبق للشناعة موضعاً، فالقصة في الحقيقة تسلية وتذكير بنعمة معافاة العرب من مثل هذا الحال وإنذار لهم سوء المآل مع ما شاركت فيه أخواتها من الدلالة على سوء جبلة هؤلاء القوم وشرارة جوهرهم المقتضي لتفردهم عن أهل الأرض بذلك الأمر الفاحش، والدليل على أنه أشنع الشنع بعد الشرك- مع ما جعل الله تعالى في كل طبع سليم من النفرة عنه- اختصاصه بمشاركته للشرك في أنه لم يحل في ملة من الملل في وقت من الأوقات ولا مع وصف من الأوصاف، وبقية المحرمات ليست كذلك، فأما قتل النفوس فقد حل في القصاص والجهاد وغير ذلك، والوطء في القبل لم يحرم إلا بقيد كونه زنى، ولولا الوصف لحل، وأكل المال الأصل فيه الحل، وما حرم إلا بقيد كونه بالباطل- وكذا غير ذلك؛ قال أبو حيان‏:‏ ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه، أتى معرفاً- أي في قوله بعد إنكاره عليهم وتقريعه وتوبيخه لهم‏:‏ ‏{‏أتأتون الفاحشة‏}‏ أي أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وإن كان بينكم وبينها مسافة بعيدة- أو تكون «أل» فيه للجنس على سبيل المبالغة، كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام، وذلك بخلاف الزنى فإنه قال فيه

‏{‏ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏‏.‏

ولما كان غير مستبعد على صفاقة وجوههم ووقاحتهم أن يقولوا‏:‏ لم تكون فعلتنا منكراً موبخاً عليها‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏ما سبقكم بها‏}‏ وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من أحد‏}‏ وعظم ذلك بتعميمه في قوله‏:‏ ‏{‏من العالمين*‏}‏ فقد اخترعتم شيئاً لا يكون مثل فحشه لتذكروا به أسوأ ذكر، كما أن ذوي الهمم العوال والفضل والكمال يستنبطون من المحاسن والمنافع ما يبقى لهم ذكره وينفعهم أجره، وفي ذلك أعظم إشارة إلى تقبيح البدع والتشنيع على فاعليها، لأن العقول لا تستقل بمعرفة المحاسن‏.‏

ولما أبهم الفاحشة ليحصل التشوف إلى معرفتها، عينها في استفهام آخر كالأول في إنكاره وتوبيخه ليكون أدل على تناهي الزجر عنها فقال‏:‏ ‏{‏إنكم لتأتون الرجال‏}‏ أي تغشونهم غشيان النساء؛ ولما أبقى للتشوف مجالاً، عين بقوله‏:‏ ‏{‏شهوة‏}‏ أي مشتهين، أو لأجل الشهوة، لا حامل لكم على ذلك إلا الشهوة كالبهائم التي لا داعي لها من جهة العقل وصرح بقوله‏:‏ ‏{‏من دون النساء‏}‏ فلما لم يدع لبساً، وكان هذا ربما أوهم إقامة عذر لهم في عدم وجدان النساء أو عدم كفايتهن لهم، أضرب عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم‏}‏‏.‏

ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار كان الأليق به الإسراف الذي هو غاية الجهل المذكور في سورة النمل فقال ‏{‏مسرفون*‏}‏ أي لم يحملكم على ذلك ضرورة لشهوة تدعونها، بل اعتياد المجاوزة للحدود، ولم يسم قوم لوط في سورة من السور كما سميت عاد وثمود وغيرهم صوناً للكلام عن تسميتهم، وأما قوم نوح فإنما لم يسموا لعدم تفرق القبائل إذ ذاك، فكانوا لذلك جميع أهل الأرض ولذا عمهم الغرق- والله أعلم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ هذا التقريع يوجب غاية الاستحياء، بل إنه يذهب كل من سمعه منهم إلى مكان لا يعرف فيه ستراً لحاله، فيا ليت شعري ما كان حالهم عنده‏!‏ فقيل‏:‏ كان كأنهم أجابوه بوقاحة عظيمة وفجور زائد على الحد، فما كان جوابهم إلا أذى لوط عليه السلام وآله بما استحقوا منهم به شديد الإنذار الذي هو مقصود السورة، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما كان جواب قومه‏}‏ أي الذين هم أهل قوة شديدة وعزم عظيم وقدرة على القيام بما يحاولونه ‏{‏إلا أن قالوا‏}‏‏.‏

ولما كان المقصود بيان أنهم أسرعوا إجابته بما ينكيه أضمر ما لا يشكل بالإضمار، أو أنه لما كان السياق لبيان الخبيث بين أنه لا أخبث من هؤلاء الذين بلغ من رذالتهم أنهم عدوا الطاهرين المتطهرين مما يصان اللسان عن ذكره فقال تعالى مشيراً إلى ذلك في حكاية قولهم‏:‏ ‏{‏أخرجوهم‏}‏ أي المحدث عنهم، وهم لوط ومن انضم إليه ‏{‏من قريتكم‏}‏ والمراد ببيان الإسراع في هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من رد قومه لكلامه لئلا يكون في صدره حرج من إنذارهم، ثم عللوا إخراجهم بقولهم‏:‏ ‏{‏إنهم أناس‏}‏ أي ضعفاء ‏{‏يتطهرون*‏}‏ وكأنهم قصدوا بالتفعل نسبتهم إلى محبة هذا الفعل القبيح، وأن تركهم له إنما هو تصنع وتكليف لنفوسهم بردها عما هي مائلة إليه، وإقبال على الطهر من غير وجهة وإظهار له رياء بما أشار إليه إظهار تاء التفعيل، وفيه مع ذلك حرف من السخرية، وحصر جوابهم في هذا المعنى المؤدي بهذا اللفظ لا ينافي آية العنكبوت القائلة ‏{‏فما كان جواب قومه إلا قالوا ائتنا بعذاب الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏، لأن إطلاق الجواب على هذا يجوز، والمعنى‏:‏ فما كان قولهم في جوابه إلا إتيانهم بما لا يصلح جواباً، وذلك مضمون هذا القول وغيره مما لا يتعلق بالجواب، أو أن هذا الجواب لما كان- لما فيه من التكذيب والإيذان بالإصرار والإغلاظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم- مستلزماً للعذب، كانوا كأنهم نطقوا به فقالوا ‏{‏ائتنا بعذاب الله‏}‏، جعل نطقهم بالسبب نطقاً بالمسبب، أو أنهم استعملوا لكل مقام مقالاً، ويؤيده أن المعنى لما اتحد هنا وفي النمل حصر الجواب في هذا، أي فما كان جوابهم لهذا القول إلا هذا؛ ولما زادهم في العنكبوت في التقريع فقال‏:‏ ‏{‏أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 29‏]‏ أتوه بأبلغ من هذا تكذيباً واستهزاء فقالوا ‏{‏ائتنا بعذاب الله‏}‏- الآية‏.‏

ولما تسبب عن عنادهم إهلاكهم وإنجاؤه، وكان الإعلام بإنجائه- مع كونه يفهم إهلاكهم- أهم، قال‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وأهله‏}‏ أي من أطاعه ‏{‏إلا امرأته‏}‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما لها‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏كانت من الغابرين*‏}‏ أي الباقين الذين لحقتهم بالعذاب العبرة والتذكير إشارة إلى أنها أصابها مثل عذاب الرجال سواء، لم تنقص عنهم لأنها كانت كافرة مثلهم‏.‏

ولما أفهم هذا إهلاكهم، بينه دالاً على نوعه بقوله‏:‏ ‏{‏وأمطرنا‏}‏ أي حجارة الكبريت بعد أن قلعت مدائنهم ورفعت وقلبت حتى رجم بها مسافروهم وشذابهم لأنه عذاب الاستئصال عمن لا يعجزه شيء؛ وأوضحه بقصره الفعل وتعديته بحرف الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ وأكد كونه من السماء لا من سطح أو جبل ونحوه بقوله‏:‏ ‏{‏مطراً‏}‏ وأشار إلى عظمه مزيلاً للبس أصلاً بما سبب عنه من قوله‏:‏ ‏{‏فانظر كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المجرمين-*‏}‏ وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للحكم بوصف القطع لما حقه الوصل بوصل ما حقه القطع من فاحش المعصية دليلاً على أن الرجم جزاء من فعل هذا الفعل بشرطه، لأن الحكم يدور مع العلة، وسياتي في سورة هود عليه السلام سياق قصتهم من التوراة بعد أن مضى في البقرة عند ‏{‏إذ قال له ربه أسلم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏ أوائل أمرهم، وهذا كما سومت الحجارة لقريش- لما أجمعوا أن يرجعوا بعد توجههم عن غزوة أحد من الطريق- ليفزعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على زعمهم، كما قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده‏!‏ لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» ولكنه صلى الله عليه وسلم لما كان رسول رحمة لم يقض الله برجوعهم فمضوا حتى أسلم بعد ذلك كثير منهم، وكما أمطر الله الحجارة على أصحاب الفيل سنة مولده صلى الله عليه وسلم حماية لبلده ببركته‏.‏

ولما انقضت هذه القصة العجيبة في القصص، أعاد النسق الأول فقال ‏{‏وإلى مدين‏}‏ أي أرسلنا، وهي بلد، وقيل قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام ‏{‏أخاهم‏}‏ أي من النسب، وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏شعيباً‏}‏ وهوموصوف بأنه خطيب الأنبياء عليهم السلام لحسن مراجعة قومه؛ ثم استأنف قوله على ذلك النسق‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ دالاً على النصيحة والشفقة بالتذكير بالقرابة، وبدأ بالأصل المعتبر في جميع الشرائع المأثورة عن الأنبياء عليهم السلام فقال‏:‏ ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الذي يستحق العبادة لذاته بما له من السماء الحسنى والصفات العلى‏.‏

ولما كان المراد إفراد بالعبادة لأنه لا يقبل الشرك لأنه غني، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ وأغرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏ ثم استأنف التذكير بما دل على صحة دعواه في نفسها وصدقه في دعوى الرسالة بقوله‏:‏ ‏{‏قد جاءتكم‏}‏ أي على يدي ‏{‏بينة‏}‏ ولما كنا عالمين من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه «ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أن هذه البينة معجزة، مثلها كاف في صحة الدعوى ولم تدع ضرورة إلى ذكرها لنا، لم تعن؛ ثم زادهم ترغيباً بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ أي الذي لم تروا إحساناً إلا منه‏.‏

ولما كان إتيانه بالبينات سبباً لوجوب امتثال أمره، قال مسبباً عنه‏:‏ ‏{‏فأوفوا الكيل‏}‏ أي والمكيال والوزن ‏{‏والميزان‏}‏ أي ابذلوا ما تعطون بهما وافياً، فالآية من الاحتباك، وكان المحكي عنه هنا من أوائل قوله لهم فترك التأكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط‏.‏

ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس، صريح به على وجه يعم غيره فقال‏:‏ ‏{‏ولا تبخسوا‏}‏ أي تنقصوا وتفسدوا كما أفسد البخسة ‏{‏الناس أشياءهم‏}‏ أي شيئاً من البخس في كيل ولا وزن ولا غيرهما، والناس- قال في القاموس- يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه «أل»، وقال أبو عبد الله القزاز‏:‏ الناس أصله عند البصريين أناس، ثم أدخلوا الألف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس، وكان أصله فعال من‏:‏ أنست به، فكأنه قيل‏:‏ أناس- يعني على القلب، قال‏:‏ لأنه يؤنس إليهم- انتهى‏.‏ إذا علم هذا علم أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه‏.‏

ولما نهى عن الفساد بالبخس، عم كل فساد فقال‏:‏ ‏{‏ولا تفسدوا‏}‏ أي توقعوا الفساد ‏{‏في الأرض‏}‏ بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غير موضعه؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل، ذكر بنعمة الله تاكيداً للنهي بما في ذلك من التخويف وحثاً على التخلق بوصف السيد فقال‏:‏ ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الأول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الأول بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة‏.‏

ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثاً لهم على امتثاله فقال‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه القصة ‏{‏خير لكم‏}‏ ولما كان الكافر ناقص المدارك كامل المهالك، أشارإلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين*‏}‏ أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته، وإذ عرفتم صحته عملتم به، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون التقدير‏:‏ فهو خير لكم، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيراً له من جهة إسعادة في الآخرة لأنه لا ثواب له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 87‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس ما لا يخفى، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهى عن كل فساد، خصه بالذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقعدوا‏}‏ أي تفعلوا فعل المترصد المقبل بكليته ‏{‏بكل صراط‏}‏ أي طريق من طرق الدنيا والدين من الحلال والحرام والأوامر والنواهي والمحكم والمتشابه والأمثال ‏{‏توعدون‏}‏ أي تتهددون من يسلكه بكل شر إن لم يوافقكم على ما تريدون‏.‏

ولما كان طريق الدين أهم، خصه بالذكر فقال‏:‏ ‏{‏وتصدون‏}‏ أي توقعون الصد على سبيل الاستمرار ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي طريق من له الأمر كله؛ ولما ذكر الصدود عنه، ذكر المصدود فقال‏:‏ ‏{‏من آمن به‏}‏ آي بالله فسلك سبيله التي لا أقوم منها؛ولما كانوا لا يقنعون بمطلق الصد بالتهديد ونحوه، بل يبدون للمصدود شبهاً توهمه أنه على ضلال، قال عاطفاً‏:‏ ‏{‏وتبغونها عوجاً‏}‏ أي وتطلبون السبيل حال كونها ذات عوج، أي تطلبون اعوجاجها بإلقاء الشبهات والشكوك كما تقول‏:‏ أريد فلاناً ملكاً، أي أريد ملكه، وقد تقدم في آل عمران أن نصبه على الحال أرجح، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بها» يرجح نصبه على المفعولية- والله اعلم‏.‏

ولما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضد ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الأرض وخصهم فضلاً عن تقليلهم ونقصهم، فقال عطفاً على قوله ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ وما بعده من الأوامر والنواهي‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ‏}‏ أي حين ‏{‏كنتم قليلاً‏}‏ أي في العدد والمدد ‏{‏فكثركم‏}‏ أي كثر عددكم وأموالكم وكل شيء ينسب إليكم، فلا تقابلوا النعمة بضدها، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر‏.‏

ولما رغبهم بالتذكير بالنعمة، حذرهم بالتذكير بأهل النقمة فقال‏:‏ ‏{‏وانظروا كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المفسدين*‏}‏ أي في عموم الإهلاك بأنواع العذاب لتحذروا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم كما صرح به في سورة هود لكون الحال هناك مقتضياً للبسط كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما حذرهم وخامة الفساد الذي نهاهم عنه، وعلق انتهاءهم عنه بوصف الإيمان، رجع إلى قسم ما شرط به الانتهاء عن الإفساد فقال‏:‏ ‏{‏وإن كان طائفة منكم‏}‏ أي جماعة فيهم كثرة بحيث يتحلقون بمن يريدون ‏{‏آمنوا بالذي أرسلت به‏}‏ وبناه للمفعول إشارة إلى أن الفاعل معروف بما تقدم من السياق، وأنه صار بحيث لا يتطرق إليه شك لما نصب من الدلالات ‏{‏وطائفة‏}‏ أي منكم ‏{‏لم يؤمنوا‏}‏ أي بالذي أرسلني به من أيدني بما عملتم من البينات، وحذرهم سطوته بقوله‏:‏ ‏{‏فاصبروا‏}‏ أي أيها الفريقان ‏{‏حتى يحكم الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏بيننا‏}‏ أي بين فريقنا بإعزاز المصلح وإهلاك المفسد كما أجرى بذلك عادته ‏{‏وهو‏}‏ أي الحال أنه ‏{‏خير الحاكمين*‏}‏ لأنه يفصل النزاع على أتم وجه وأحكمه‏.‏