فصل: تفسير الآيات رقم (158- 159)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 159‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

ولما تم ما نظمه تعالى في أثناء هذه القصص من جواهر أوصاف هذا النبي الكريم حثاً على الإيمان به وإيجاباً له على وجه علم منه أنه رسول الله إلى كل مكلف تقدم زمانه أو تأخر؛ أمره سبحانه أن يصرح بما تقدم التلويح إليه، ويصرّح بما أخذ ميثاق الرسل عليه تحقيقاً لعموم رسالته وشمول دعوته فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ وأتى بأداة البعد لأنه محلها ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ وقد مضى في الأنعام أن اشتقاقهم من النوس، وأن الإمام السبكي قال‏:‏ إن ذلك يقتضي دخول الجن والكملائكة فيهم‏.‏ وتقدم عند ‏{‏ولا تبخسوا الناس أشياءهم‏}‏ في هذه السورة ما ينفع هنا ‏{‏إني رسول الله‏}‏ أي الذي له جميع الملك ‏{‏إليكم جميعاً‏}‏ أي لا فرق بين أدركني ومن تأخر عني أو تقدم عليّ في أن الكل يشترط عليهم الإيمان بي والاتباع لي؛ وهذا المراد بقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه حين رفع إليه الذراع فنهش منها فقال‏:‏ «أنا سيد الناس يوم القيامة» وللدرامي في أوائل مسنده عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر» وللترمذي في المناقب عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ «أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وأنا مستشفعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» وقال‏:‏ حديث حسن غريب، وله في المناقب أيضاً عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر» وقال‏:‏ حسن صحيح غريب؛ وللترمذي والدارمي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألا‏!‏ وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامه تحته آدم فمن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامه ولا فخر، وانا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر» وللترمذي وقال‏:‏ حسن- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنا سيد ولد آدم يوم القيامه ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» الفخر‏:‏ ادعاء العظمة والكبر والشرف، أي لا أقوله تبجحاً، ولكن شكراً وتحديثاً بالنعمة؛ وما اجتمع بهم في مجمع إلا كان إمامهم قبل موته وبعده، اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس فصلى بهم إماماً، ثم اجتمع بهم في السماء فصلى بجميع أهل السماء إماماً، وأما يوم الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه ويؤمنون بالرسالة، وما أحال بعض الكابر على بعض إلا علماً منهم بأن الختام يكون به‏.‏

ليكون أظهر للاعتراف بأمانته والانقياد لطاعته، لأن المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك الشيء، ولو أحال أحد ممن قبل عيسى عليه السلام لطرقه احتمال، والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم يظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى الخلق كافة، فيظهر سر هذه الآية ‏{‏الذين يتبعون الرسول‏}‏ والله الموفق‏.‏

ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات الدال على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجن والملائكة، أيد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏الذي له‏}‏ أي وحده ‏{‏ملك السماوات والأرض‏}‏ أي فلا بدع أن يرسله إلى جميع من فيهما، بل وما فيهما‏.‏

ولما كان مما بالغه في الدنيا أنه ربما في مملكة الملك من يناظره أو يقرب منه من ولي عهد أو نحوه، فربما رد بعض أمره في صورة نصح أو غيره؛ نفى ذلك بقوله مبيناً تمام ملكه‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي فالكل منقادون لأمره خاضعون له، لأنه لا موجود بالفعل ولا بالإمكان من يصلح للإلهية سواه؛ ثم علل ذلك بقوله ‏{‏يحيي ويميت‏}‏ أي له هاتان الصفتان مختصاً بهما، ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أول الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام، لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة‏.‏

ولما تقرر أنه لا منازع له، تسبب عن ذلك توجيه الأمر بالانقياد لرسوله فقال‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله‏}‏ أي لما ثبت له من العظمة والإحاطة بأوصاف الكمال وبكل شيء فإن الإيمان به أساس لا ينبني شيء من الذين إلا عليه‏.‏

ولما كان أقرب الفروع الأصلية إليه الرسالة قال‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏ أي لأنه رسوله؛ ثم وصفه بما دل على قربه فقال‏:‏ ‏{‏النبي‏}‏ أي الذي يخبره بما يريد من الأمور العظيمة غيباً وشهادة، ويعليه عن كل مخلوق بإخباره بإرساله؛ ولما كان علوه على كل عالم- مع أنه ثم يتعلم من آدمي- أدل شيء على صدقه قال‏:‏ ‏{‏الأمي‏}‏ أي الذي هو- مع كونه لا يحسن كتابة ولا قراءة، بل هو على الفطرة الأولى السليمة التي لم يخالطها هوى، ولا دنسها حظ ولا شهوة- بحيث يؤم ويقصد للاقتداء به، لما حوى من علوم الدنيا والآخرة والتخلق باوصاف الكمال‏.‏

ولما أشارة بهذه الصفة إلى أن سبب الإيمان الخلاص من الهوى بالكون على الفطره الأولى، قال منبهاً على وجوب الإيمان به، لكونه أول فاعل لما يدعو إليه‏:‏ ‏{‏الذي يؤمن بالله‏}‏ أي لأجل ما يقتضية ذاته سبحانه من التعبد له لما له من العظمة، فكلما تجدد له علم من علوم الذات بحسب ترقيه في رتب الكمال من رتبة كاملة إلى أكمل منها إلى ما لا نهاية له، جدد له إيماناً بحسبه، لا تعتريه غفلة ولا يخالطه سهو ولا شائبة فتور ‏{‏وكلماته‏}‏ كذلك أيضاً، كلما تجدد له علم بصفة منها جدد لها إيماناً، ومنها المعجزات التي جرت على يديه، كل واحدة منها كلمة لأن ظهوره بالكلمة، كما سمى عيسى عليه السلام كلمة لذلك‏.‏

ولما تقرر أنه امتثل ما أمر به، فثبتت بذلك رسالته، استحق أن يكون قدوة فقال‏:‏ ‏{‏واتبعوه‏}‏ أي في كل ما يقول ويفعل مما ينهى عنه أو يأمر به أو يأذن فيه ‏{‏لعلكم تهتدون*‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى له حصول ما سأل في الفاتحة من الاهتداء، أي خلق الهداية في القلب مع دوامه‏.‏

ولما كثر عد مثالب إسرائيل، وختم بتخصيص المتبع لهذا النبي الكريم بالهداية والرحمة المسببة عنها، وكان فيهم المستقيم على ما شرعه له ربه، المتمسك بما لزمه أهل طاعته وحزبه، سواء كان من صفات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها، مع الإذعان لذلك كله؛ نبه عليه عائداً إلى تتميم أخبارهم، ثم ما وقع في أيام موسى عليه السلام وبعدها من شرارهم، تعزية لهذا النبي الكريم وتسلية، وتطييباً لنفسه الزكية وتأسية، وهو مع ما بعده من أدله ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏ فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ ‏{‏ومن قوم موسى أمة‏}‏ أي قوم يستحقون أن يؤموا لأنهم لا يتكبرون في الأرض بغير الحق، بل ‏{‏يهدون‏}‏ أي يوقعون الهداية وهي البيان ‏{‏بالحق وبه‏}‏ أي خاصه ‏{‏يعدلون*‏}‏ أي يجعلون القضايا المختلفة المتنازع فيها معادلة ليقع الرضى بها، لا يقع منهم جور في شيء منها، ومنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 163‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

ولما مدحهم، شرع يذكرهم شيئاً مما أسبغ عليهم من النعم لأجل هؤلاء المهتدين من التكثير بعد القلة والإعزاز بعد الذلة بجعلهم ممن يؤم استعطافاً لغيرهم، ويذكر بعض عقوباتهم ترهيباً فقال‏:‏ ‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي فرقنا بينهم بالأشخاص بعد أن كانوا ماء واحداً من شخص واحد، وهو إسرائيل عليه السلام؛ وصرح بالكثرة بعد أن لوح بها بالتقطيع بقوله‏:‏ ‏{‏اثنتي عشرة‏}‏ وميزه- موضع المفرد الذي هو مميز العشرة- بالجمع للإشارة إلى أن كل سبط يشتمل لكثرته على عدة قبائل بقوله‏:‏ ‏{‏أسباطاً‏}‏ والسبط- بالكسر‏:‏ ولد الولد، والقبيلة من اليهود، وهذه المادة تدور على الكثرة والبسط؛ وبين عظمتهم وكثرة انتشارهم وتشعبهم بقوله‏:‏ ‏{‏أمماً‏}‏ أي هم أهل لأن يقصدهم الناس لما لهم من الكثرة والقوة والدين، أو أن كل أمة منهم تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى من غيرهم ديناً‏.‏

ولما وصفهم بهذه الكثرة، وكان ذلك مجرى لذكر الإنعام عليهم بالكفاية في الأكل والشرب، ذكر نعمة خارقة للعادة في الماء، وبدأ به لأنه الأصل في الحياة، وهي من نوع تقسيمهم من نفس واحدة مشيرة إلى ظلمهم وإسراعهم في المروق فقال‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى موسى إذ‏}‏ أي حين ‏{‏استسقاه قومه‏}‏ أي طلبوا منه برية لا ماء بها أن يسقيهم، وذلك في التيه، والتعبير بالقوم إشارة إلى تبكيتهم بكونهم أهل قوة ولم يتأسوا بموسى عليه السلام في الصبر إلى أن يأتي الله الذي أمرهم بهذا المسير بالفرج، بل طلبوا منه ذلك على الوجه المذكور في البقرة من إظهار القلق والدمدمة ‏{‏أن اضرب بعصاك‏}‏ أي التي جعلناها لك آية وضربت بها البحر فانفلق ‏{‏الحجر‏}‏ أي أيّ حجر أردته من هذا الجنس؛ وبين سبحانه سرعة امتثال موسى عليه السلام وسرعة التأثير عن ضربه بحذف‏:‏ فضربه، وقوله مشيراً إليه‏:‏ ‏{‏فانبجست‏}‏ أي فانشقت وظهرت ونبعت، وذلك كاف في تعنيفهم وذمهم على كفرهم بعد المن به، وهذا السياق الذي هو لبيان إسراعهم في المروق هو لا ينافي أن يكون على وجه الانفجار، ويكون التعنيف حينئذ أشد ‏{‏منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ على عدد الأسباط، وأشار إلى شدة تمايزها بقوله؛ ‏{‏قد علم كل أناس‏}‏ أي من الأسباط ‏{‏مشربهم‏}‏ ولما لم يتقدم للأكل ذكر ولا كان هذا سياق الامتنان، لم يذكر ما أتم هذه الاية به في البقرة‏.‏

ولما ذكر تبريد الأكباد بالماء، أتبعه تبريدها بالظل فقال‏:‏ ‏{‏وظللنا‏}‏ أي في التيه ‏{‏عليهم الغمام‏}‏ أي لئلا يتأذوا بالشمس؛ ولما أتم تبريد الأكباد، أتبعه غذاء الأجساد فقال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا عليهم المن‏}‏ أي خبراً ‏{‏والسلوى‏}‏ أي إداماً؛ وقال السمؤال بن يحيى‏:‏ وهو طائر صغير يشبه السماني، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية، يموت إذا سمع صوت الرعد كما أن الخطاف يقتله البرد، فيلهمه الله عز وجل أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون بها مطر ولا رعد إلى انفصال أوان المطر والرعد، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض‏.‏

ولما ذكر عظمته في ذلك، ذكر نتيجته فقال‏:‏ ‏{‏كلوا من طيبات ما رزقناكم‏}‏ أي بصفة العظمة القاهرة لما نريد مما لم تعالجوه نوع معالجة، ودل على أنهم قابلوا هذا الإحسان بالطغيان والظلم والعدوان بقوله عطفاً على ما تقديره‏:‏ فعدلوا عن الطبيات المأذون فيها، وأكلوا الخبائث التي حرمناها عليهم بالاصطياد يوم السبت- كما يأتي- وفعلوا غير ذلك من المحرمات، فظلملوا أنفسهم بذلك‏:‏ ‏{‏وما ظلمونا‏}‏ أي بشيء مما قابلوا فيه الإحسان بالكفران ‏{‏ولكن كانوا‏}‏ أي دائماً جبلة وطبعاً ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يظلمون*‏}‏ وهو- مع كونه من أدلة ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ الآية- دليل على صحة وصف هذا الرسول بالنبي، فإن من علم هذه الدقائق من أخبارهم مع كونه أمياً ولم يخالط أحداً من أحبارهم، كان صادقاً عن علام الغيوب من غير مؤيد وكذا ما بعده‏.‏

ولما ذكر ما حباهم في القفار، أتبعه إنعامه عليهم عند الوصول إلى الدار فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر لهم هذا ليصدقوك أو يصيروا في غاية الظلم كأصحاب السبت فيتوقعوا مثل عذابهم، واذكر لهم ما لم تكن حاضره ولا أخذته عنهم، وهو وقت إذ، وعدل عن الإكرام بالخطاب ونو العظمة، لأن السياق للأسراع في الكفر فقال‏:‏ ‏{‏قيل لهم اسكنوا‏}‏ أي ادخلوا مطمئنين على وجه الإقامة، ولا يسمى ساكناً إلا بعد التوطن بخلاف الدخول، فإنه يكون بمجرد الولوج في الشيء على أيّ وجه كان ‏{‏هذه القرية‏}‏‏.‏ فهو دليل آخر على الأمرين‏:‏ الصرف والصدق؛ وعبر هنا بالمجهول في ‏{‏قيل‏}‏ إعراضاً عن تلذيذهم بالخطاب إيذاناً بأن هذا السياق للغضب عليهم بتساقطهم في الكفر وإعراضهم عن الشكر، من أيّ قائل كان وبأيّ صيغة ورد القول وعلى أيّ حالة كان، وإظهاراً للعظمة حيث كانت، أدنى إشارة منه كافية في سكناهم في البلاد واستقرارهم فيها قاهرين لأهلها الذين ملؤوا قلوبهم هيبة حتى قالوا ‏{‏إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ولما خلت نعمة الأكل في هذا السياق عما دعا إليه سياق البقرة من التعقيب وهو الاستعطاف، ذكرت بالواو الدالة على مطلق الجمع، وهي لا تنافي تلك، فقال‏:‏ ‏{‏وكلوا منها‏}‏ أي القرية ‏{‏حيث شئتم‏}‏ وأسقط الرغد لذلك، وقدم ‏{‏وقولوا حطة‏}‏ ليكون أول قارع للسمع مما أمروا به من العبادة مشعراً بعظيم ما تحملوه من الآثام، إيذاناً بما سيقت له هذه القصص في هذه السورة المقام‏.‏

ولما أمروا بالحطة قولاً، أمروا أن يشفعوها بفعل، لتحط عنهم ذنوبهم، ولا ينافي التقديم هنا التأخير في البقرة، لأن الواو لا ترتب، فقال‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب‏}‏ أي باب بيت المقدس حال كونكم ‏{‏سجداً نغفر لكم‏}‏ ولما كان السياق هنا لبيان إسراعهم في الكفر، ناسب ذلك جمع الكثرة في قوله‏:‏ ‏{‏خطاياكم‏}‏ في قراءة أبي عمرو، وأما قراءة ابن عامر ‏{‏خطيتكم‏}‏ بالإفراد وقراءة غيرهما ‏{‏خطياتكم‏}‏ جمع قلة فللإشارة إلى أنها قليل في جنب عفوة تعالى، وكذا بناء ‏{‏نغفر‏}‏ للمجهول تأنيثاً وتذكيراً، كل ذلك ترجيه لهم واستعطافاً إلى التوبة، ولذلك ساق سبحانه ما بعده مساق السؤال لمن كأنه قال‏:‏ هذا الرجاء قد حصل، فهل مع مع المغفرة من كرامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏سنزيد‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه عن قريب، وهو لا ينافي إثبات الواو في البقرة ‏{‏المحسنين*‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف، وللسياق الذي وصفت قيد قوله‏:‏ ‏{‏فبدل الذين ظلموا‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ لئلا يتوهم أنهم من الدخلاء فيهم ‏{‏قولاً غير الذي‏}‏‏.‏

ولما كان من المعلوم أن القائل من له إلزامهم، بناه للمجهول فقال‏:‏ ‏{‏قيل لهم‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏فأرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عليهم‏}‏ بالإضمار تهويلاً لاحتمال العموم بالعذاب ‏{‏رجزاً من السماء‏}‏ ولفظُ الظلم- في قوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يظلمون*‏}‏ بما يقتضيه من أنهم لا ينفكون عن الكون في الظلام إما مطلقاً وإما مع تجديد فعل فعل من هو فيه- أهول من لفظ الفسق المقتضي لتجديد الخروج مما ينبغي الاستقرار فيه، كما أن لفظ الإرسال المعدي ب ‏{‏على‏}‏ كذلك بالنسبة إلى لفظ الإنزال‏.‏

ولما فرغ من هتك أستارهم فيما عملوه أيام موسى عليه السلام وما يليها، أتبعه خزياً آخر أشد مما قبله، كان بعد ذلك بمدة لا يعلمه أحد إلا من جهتهم أو من الله، وإذا انتفى الأول ثبت الثاني، فقال‏:‏ ‏{‏وسئلهم‏}‏ أي بني إسرائيل مبكتاً لهم ومقرراً ‏{‏عن القرية‏}‏ أي البلد الجامع ‏{‏التي كانت حاضرة البحر‏}‏ أي على شاطئه وهي أيلة، ولعله عبر بالسؤال، ولم يقل‏:‏ وإذ تعدو القرية التي- إلى آخره، ونحو ذلك، لأن كراهتهم للإطلاع على هذه الفضيحة أشد مما مضى، وهي دليل على الصرف والصدق‏.‏ ولما كان السؤال عن خبر أهل القرية قال مبدلاً بدل اشتمال من القرية ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏يعدون‏}‏ أي يجوزون الحد الذي أمرهم الله به ‏{‏في السبت إذ‏}‏ أي العدو حين ‏{‏تأتيهم‏}‏ وزاد في التبكيت بالإشارة إلى المسارعة في الكفر بالإضافة في قوله‏:‏ ‏{‏حيتانهم‏}‏ إيماء إلى أنها مخلوقة لهم، فلو صبروا نالوها وهم مطيعون، كما في حديث جابر رضي الله عنه رفعه «بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن صبر خرج إليه، وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدر له» ‏{‏يوم سبتهم‏}‏ أي الذي يعظمونه بترك الاشتغال فيه بشيء غير العبادة ‏{‏شرعاً‏}‏ أي قريبة مشرفة لهم ظاهرة على وجه الماء بكثرة، جمع شارعة وشارع أي دان ‏{‏ويوم لا يسبتون‏}‏ أي لا يكون سبت، ولعله عبربهذا إشارة إلى أنهم لو عظموا الأحد على أنه سبت جاءتهم فيه، وهو من‏:‏ سبتت اليهود- إذا عظمت سبتها ‏{‏لا تأتيهم‏}‏ أي ابتلاء من الله لهم، ولو أنهم صبروا أزال الله هذه العادة فأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏.‏

ولما كان هذا بلاء عظيماً، قال مجيباً لسؤال من كأنه قال لشدة ما بهره من هذا الأمر‏:‏ هل وقع مثل هذا‏؟‏ مشيراً إلى أنه وقع، ولم يكتف به، بل وقع لهم أمثاله لإظهار ما في عالم الغيب منهم إلى عالم الشهادة‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البلاء العظيم ‏{‏نبلوهم‏}‏ أي نجدد اختبارهم كل قليل ‏{‏بما‏}‏ أي سبب ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يفسقون*‏}‏ أي يجددون في علمنا من الفسق، وهو الخروج مما هو أهل للتوطن من الطاعات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 167‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏‏}‏

ولما أخبر أن الفسق ديدنهم، أكده بقوله عطفاً على ‏{‏إذ يعدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واسألهم عن خبرهم حين ‏{‏قالت أمة منهم‏}‏ أي جماعة ممن يعتبر ويقصد من الواعظين الصالحين الذين وعظوا حتى أيسوا لأمة أخرى منهم لا يقلعون عن الوعظ تخويفاً للموعوظين بما يتجاوزون به ‏{‏لم تعظون قوماً‏}‏ أي معتمدين على قوتهم ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الملك كله ‏{‏مهلكهم‏}‏ أي لا محالة لأنهم لا ينتهون عن الفساد ولا يتعظون بالمواعظ ‏{‏أو معذبهم عذاباً شديداً‏}‏ أي بعظيم ما يرتكبونه وتماديهم فيه ‏{‏قالوا‏}‏ أي الأمة الأخرى من الواعظين‏:‏ وعظنا ‏{‏معذرة إلى ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالحفظ عما وقعوا فيه من الذنب والإقبال على الوعظ حتى إذا سئلنا عن أمرنا في عصيانهم نقول‏:‏ فعلنا في أمرهم جهدنا، هذا إن لم يرجعوا ‏{‏ولعلهم يتقون*‏}‏ أي وليكون حالهم حال من يرجى خوفه لله فيرجع عن غيه‏.‏

ولما تراجعوا بهذا الكلام ليكون زاجراً للعاصين فلم يرجعوا، أخبر أنه صدق ظنهم بإيقاع الأمرين معاً‏:‏ العذاب الشديد والإهلاك فقال‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ أي فعلوا في إعراضهم عنه فعل الناسي وتركوه ترك المنسيّ، وهو أن الله لا يهملهم كما أن الإنسان لا يمكن أن يهمل أحداً تحت يده، ليفعل ما يشاء من غير اعتراض ‏{‏أنجينا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏الذين ينهون‏}‏ أي استمروا على النهي ‏{‏عن السوء‏}‏ أي الحرام ‏{‏وأخذنا‏}‏ أي أخذ غلبة وقهر ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ أي بالعدو في السبت ‏{‏بعذاب بئيس*‏}‏ أي شديد جداً ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يفسقون*‏}‏ أي بسبب استمرارهم على تجديد الفسق‏.‏

ولما ذكر ما هددهم بهمن العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال‏:‏ ‏{‏فلما عتوا‏}‏ أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء ‏{‏عن ما نهوا عنه‏}‏ أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً- إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي‏:‏ وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل‏:‏ العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل‏:‏ المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه ‏{‏فعتوا عن أمر ربهم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 44‏]‏ أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر- انتهى‏.‏ وحقيقته‏:‏ جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة ‏{‏قلنا لهم‏}‏ أي بما لنا من القدرة العظيمة ‏{‏كونوا قردة‏}‏ أي في صورة القردة حال كونكم ‏{‏خاسئين*‏}‏ أي صاغرين مطرودين بعدين عن الرحمة كما يبعد الكلب‏.‏ ولما تبين بما مضى من جرأتهم على المعاصي وإسراعهم فيها استحقاقهم لدوام الخزي والصغار، أخبر أنه فعل بهم ذلك على وجه موجب للقطع بأنهم مرتبكون في الضلال، مرتكبون سيئ الأعمال، ما دام عليهم ذلك النكال، فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ وهو عطف على ‏{‏وسئلهم‏}‏ أي واذكر لهم حين ‏{‏تأذن‏}‏ أي أعلم إعلاماً عظيماً جهراً معتنى به ‏{‏ربك‏}‏ أي المربي لك والممهد لأدلة شريعتك والناصر لك على من خالفك‏.‏

ولما كان ما قيل جارياً مجرى القسم، تلقى بلامه، فكان كأنه قيل‏:‏ تاذن مقسماً بعزته وعظمته وعلمه وقدرته‏:‏ ‏{‏ليبعثن‏}‏ أي من مكان بعيد، وأفهم أنه بعث عذاب بأداة الاستعلاء المفهمة لأن المعنى‏:‏ ليسلطن ‏{‏عليهم‏}‏ أي اليهود، ومد زمان التسليط فقال‏:‏ ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ الذي هو الفيصل الأعظم ‏{‏من يسومهم‏}‏ أي ينزل بهم دائماً ‏{‏سوء العذاب‏}‏ بالإذلال والاستصغار وضرب الجزية والاحتقار، وكذا فعل سبحانه فقد سلط عليهم الأمم ومزقهم في الأرض كل ممزق من حين أنكروا رسالة المسيح عليه السلام، كما أتاهم به الوعد الصادق في التوارة، وترجمة ذلك موجودة بين أيديهم الآن في قوله في آخر السفر الأول‏:‏ لا يزول القضيب من آل يهودا، لا يعدم سبط يهودا ملكاً مسلطاً واتخاذه نبياً مرسلاً ختى يأتي الذي له الملك- وفي نسخة‏:‏ الكل- وإياه تنتظر الشعوب، يربط بالحلبة جحشه؛ وقال السمؤال في أوائل كتابه غاية المقصود‏:‏ نقول لهم‏:‏ فليس في التوارة التي في أيديكم ما تفسيره‏:‏ لا يزول الملك من آل يهودا والراسم بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح فلا يقدرون على جحده، فنقول لهم‏:‏ إذاً علمتم أنكم كنتم أصحاب دولة وملك إلى ظهور المسيح ثم انقضى ملككم- انتهى‏.‏ ومن أيام رسالة المسيح سلط الله عليهم الأمم ومزقهم في الأرض، فكانوا مرة تحت حكم البابليين، وأخرى تحت أيدي المجوس، وكرة تحت قهر الروم من بني العيص، وأخرى في أسر غيرهم إلى أن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فضرب عليهم الجزية هو وأمته من بعده‏.‏

ولما كان السياق للعذاب وموجباته، علل ذلك مؤكداً بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإذلال أعدائك الذين هم أشد الأمم لك ولمن آمن بك عداوة ‏{‏لسريع العقاب‏}‏ أي يعذب عقب الذنب بالانتقام باطناً بالنكته السوداء في القلب، وظاهراً- إن أراد- بما يريد، وهذا بخلاف ما في الأنعام فإنه في سياق الإنعام بجعلهم خلائف‏.‏

ولما رهب، رغب بقوله‏:‏ ‏{‏وإنه لغفور‏}‏ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً لمن تاب وآمن ‏{‏رحيم*‏}‏ أي مكرم منعم بالتوفيق لما يرضاه ثم بما يكون سبباً له من الإعلاء في الدينا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 169‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

ذكر شيء مما هددوا به التوارة على العصيان والبغي والعدوان غير ما تقدم في المائدة عند ‏{‏من لعنه الله وغضب عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 60‏]‏ وغيرها من الايات- قال في السفر الخامس‏:‏ وإن لم تحفظ وتعمل بجميع الوصايا والسنن التي كتبت في هذا الكتاب وتتق الله ربك وتهب اسمه المحمود المرهوب، يخصك الرب بضربات موجعة ويبتليك بها، ويبتلي نسلك من بعدك وتدوم عليك، ويبقى من نسلك عدد قليل من بعد كثرتهم التي كانت قد صارت مثل نجوم السماء، وتجلون عن الأرض التي تدخلونها لترثوها، ويفرقكم الرب بين الشعوب، وتعبدون هنالك الآلهة الأخرى التي عملت من الحجارة والخشب، ولا تسكنون أيضاً بين تلك الشعوب، ولكن يصير الله قلوبكم هناك فزعة مرتجفة بالغداة تقولون‏:‏ متى نمسي‏؟‏ وبالعشيّ تقولون‏:‏ متى نصبح‏؟‏ وذلك من فزع قلوبكم وخوفكم وقلة حيلتكم، ويردكم الله إلى ارض مصر في الوف في الطريق الذي قال الرب‏:‏ لا تعودوا أن تروه، وتباعون هناك عبيداً وإماء، ولا يكون من يشتريكم- هذه أقوال العهد التي أمر الله بها موسى أن يعاهد بني إسرائيل في أرض مؤاب سوى العهد الذي عاهدهم بحوريب؛ ثم دعا موسى جميع بني إسرائيل وقال لهم‏:‏ قد رأيتم ما صنع الله بأرض مصر بفرعون وجميع عبيده وكل شعبه والبلايا العظيمه التي رأت أعينكم والآيات والأعاجيب التي شهدتموها، ولم يعطكم الرب قلوباً تفهم وتعلم، ولا أعيناً تبصر ولا آذاناً تسمع إلى يومنا هذا، ودبركم في البرية أربعين سنة، لم تبل ثيابكم عليكم ولم تخلق خفافكم أيضاً ولم تأكلوا خبزاً، لتعلموا أني أنا الله ربكم، وأنا الذي أتيت بكم إلى هذه البلاد، فاحفظوا وصايا هذه التوارة واعملوا بها وأتموا جميع الأعمال في طاعة الله وأكملوها، لأنكم قد عرفتم جميعاً أن كنا سكاناً بأرض مصر وجزنا بين الشعوب، ورأيتم نجاستهم وأصنامهم، لعل فيكم اليوم رجلاً أو امرأة أو قبيلة أو سبطاً يميل قلبه عن عبادة الله ربنا ويطلب عبادة آلهة تلك الشعوب، فيسمع هذا العهد فيقول‏:‏ يكون لي السلام فاتبع مسرة قلبي، هذا لا يريد الرب أن يغفر له، ولكن هناك يشتد غضب الرب وزجره عليه وينزل به كل اللعن الذي في هذا الكتاب، ويستأصل الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب من جميع أسباط بني إسرائيل للشر والبلايا ويقول الحقب الآخر بنوكم الذين يقومون من بعدكم والغرباء، وينظرون إلى ضربات تلك الأرض والأوجاع أنزل الله بها ويقول الشعب‏:‏ لماذا صنع الرب هكذا‏؟‏ ولماذا اشتد غصبة على هذا الشعب العظيم‏؟‏ ويقولون‏:‏ لأنهم تركوا عهد الله إله آبائهم، فاشتد غضب الرب على هذه الأمة وأمر أن ينزل بها كل اللعن الذي كتب في هذا الكتاب، ويجليهم الرب عن بلادهم بغضب وزجر شديد ويبعدهم إلى أرض غريبة كما ترى اليوم، فأما الخفايا والسرائر فهي لله ربنا، والأمور الظاهرة المكشوفة هي لنا‏.‏

ولما أخبر سبحانه بالتأذن، كان كأنه قيل‏:‏ فأسرعنا في عقابهم بذنوبهم وبعثنا عليهم من سامهم سوء العذاب بالقتل والسبي، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي بسبب ما حصل لهم من السبي المترتب على العذاب بما لنا من العظمة تقطيعاً كثيراً بأن أكثرناًُ تفريقهم ‏{‏في الأرض‏}‏ حال كونهم ‏{‏أمماً‏}‏ يتبع بعضهم بعضاً، فصار في كل بلدة قليل منهم ليست لهم شوكة ولا يدفعون عن أنفسهم ظلماً‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فهل أطبقوا بعد هذا العذاب على الخير‏؟‏ قيل‏:‏ لا، بل فرقتهم الأديان نحو فرقة الأبدان ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ أي الذين ثبتوا على دينهم إلى أن جاء الناسخ له فتبعوه امتثالاً لدعوة كتابهم ‏{‏ومنهم دون ذلك‏}‏ أي بالفسق تارة وبالكفر أخرى ‏{‏وبلوناهم‏}‏ أي عاملناهم معاملة المبتلى ليظهر للناس ما نحن به منهم عالمون ‏{‏بالحسنات‏}‏ أي النعم ‏{‏والسيئات‏}‏ أي النقم ‏{‏لعلهم يرجعون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن غيه رغبة أو رهبة‏.‏

ولما كان العذاب الذي وقع التأذن بسببه ممتداً إلى يوم القيامه، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فخلف‏}‏ أي نشأ، ولما كانوا غير مستغرقين لزمان البعد، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم خلف‏}‏ أي قوم هم أسوأ حالاً منهم ‏{‏ورثوا الكتاب‏}‏ أي الذي هو نعمة، وهو التوراة، فكان لهم نقمة لشهادته عليهم بقبح أفعالهم، لأنه بقي في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونه ولا يعملون بما فيه؛ قال ابن فارس‏:‏ والخلف ما جاء من بعد، أي سواء كان محركاً أو ساكناً، وقال أبو عبيد الهروي في الغريبين‏:‏ ويقال‏:‏؛ خلف سوء- أي بالسكون- وخلَف صدق، وقال الزبيدي في مختصر العين‏:‏ والخلف‏:‏ خلف السوء بعد أبيه، والخلَف‏:‏ الصالح، وقال ابن القطاع في الأفعال‏:‏ وخَلَفَ خَلَفُ سوء‏:‏ صاروا بعد قوم صالحين، وخَلَف سوء، قال الأخفش‏:‏ هما سواء، أي بالسكون، منهم من يسكن ومنهم من يحرك فيهما جميعاً، ومنهم من يقول‏:‏ خلف صدق- أي بالتحريك- وخلف سوء- أي بالسكون- يريد بذلك الفرق بينهما، وكل إذا أضاف، يعني فإذا لم يضف كان السكون- للفساد، والتحريك للصلاح؛ وقال في القاموس‏:‏ خلف نقيض قدام، والقرن بعد القرن، ومنه‏:‏ هؤلاء خلف سوء، والرديء من القول، وبالتحريك الولد الصالح، فإذا كان فاسداً أسكنت اللام، وربما استعمل كل منهما مكان الآخر، يقال‏:‏ هو خلف صدق من أبيه- إذا قام مقامه، أو الخلف بالسكون وبالتحريك سواء، الليث‏:‏ خلف للاشرار خاصة، وبالتحريك ضده‏.‏ والمادة ترجع إلى الخلف الذي هو نقيض قدام، كما بنيت ذلك في فن المضطرب من حاشيتي على شرح ألفية العراقي‏.‏

ولما كان المظنون بمن يرث الكتاب الخير، فكان كأنه قيل‏:‏ ما فعلوه من الخير فيما ورثوه‏؟‏ قال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏يأخذون‏}‏ أو يجددون الأخذ دائماً، وحقر ما أخذوه بالإعلام بأنه مما يعرض ولا يثبت بل هو زائل فقال‏:‏ ‏{‏عرض‏}‏ وزاده حقارة بإشارة الحاضر فقال ‏{‏هذا‏}‏ وصرح بالمراد بقوله‏:‏ ‏{‏الأدنى‏}‏ أي من الوجودين، وهو الدنيا ‏{‏ويقولون‏}‏ أي دائماً من غير توبة‏.‏

ولما كان النافع الغفران من غير نظر إلى معين، بنوا للمفعول قولهم‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ أي من غير شك، فأقدموا على السوء وقطعوا بوقوع ما يبعد وقوعه في المستقبل حكماً على من يحكم ولا يحكم عليه، وصرح بما افهمه ذلك من إصرارهم معجباً منهم في جزمهم بالمغفرة مع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أنه إن ‏{‏يأتهم عرض مثله‏}‏ أي في الدناءة والخسة- والحرمة كالرشى ‏{‏يأخذوه‏}‏‏.‏

ولما كان هذا عظيماً، أنكر عليهم مشدداً- للنكير بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ألم يؤخذ عليهم‏}‏ بناه للمفعول إشارة إلى أن العهد يجب الوفاء به على كل حال، ثم عظمه بقوله‏:‏ ‏{‏ميثاق الكتاب‏}‏ أي الميثاق المؤكد في التوارة ‏{‏أن لا يقولوا‏}‏ أي قولاً من الأقوال وإن قل ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له الكمال العظمة ‏{‏إلا الحق‏}‏ أي المعلوم ثباته، وليس من المعلوم ثباته إثبات المغفرة على القطع بغير توبة، بل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب‏.‏

ولما كان ربما وقع في الوهم أنه أخذ على أسلافهم ولم يعلم هؤلاء به، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ودرسوا ما فيه‏}‏ أي ما في ذلك الميثاق بتكرير القراءة للحفظ ‏{‏والدار الأخرة‏}‏ أي فعلوا ما تقدم من مجانبة التقوى والحال أن الآخرة ‏{‏خير‏}‏ أي مما يأخذون ‏{‏للذين يتقون‏}‏ أي وهم يعلمون ذلك بإخبار كتابهم، ولذلك أنكر عليهم بقولة‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون*‏}‏ أي حين أخذوا ما يشقيهم ويفنى بدلاً مما يسعدهم ويبقى، وعلى قراءة نافع وابن عامر وحفص بالخطاب يكون المراد الإعلام بتناهي الغضب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 173‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏‏}‏

ولما بين ما للمفسدين من كونهم قالوا على الله غير الحق فلا يغفر لهم، بين ما للصالحين المذكورين في قوله ‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏ فقال عاطفاً على تقديره‏:‏ أولئك حبطت أعمالهم فيما درسوا من الكتاب، ولا يغفر لهم ما أتوا من الفساد‏:‏ ‏{‏والذين يمسكون‏}‏ أي يمسكون إمساكاً شديداً يتجدد على كل وجه الا ستمرار، وهو إشارة إلى إن التمسك بالسنة في غاية الصعوبة لا سيما عند ظهور الفساد ‏{‏بالكتاب‏}‏ أي فلا يقولون على الله إلا الحق، ومن جملة تمسيكهم المتجدد انتقالهم عن ذلك الكتاب عند إتيان الناسخ لأنه ناطق بذلك- والله الموفق‏.‏

ولما كان من تمسيكهم بالكتاب عند نزول هذا الكلام انتقالهم عن دينهم إلى الإسلام كما وقع الأمر به في المواضع التي تقدم بيانها، عبر عن إقامة الصلاة المعهودة لهم بلفظ الماضي دون المضارع لئلا يجعلوه حجة في الثبات على دينهم‏.‏ فيفيد ضد المراد فقال‏:‏ ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ وخصها إشارة إلى أن الأولين توكوها كما صرح به في آية مريم، وتنويهاً بشأنها بياناً لأنها من أعظم شعائر الدين، ولما كان التقدير إخباراً عن المبتدإ‏:‏ سنؤتيهم أجورهم لإصلاحهم، وضع موضعه للتعميم قوله‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏أجر المصلحين*‏}‏‏.‏

ولما ذكر الكتاب أنه رهبهم من مخالفته ورغبهم في مؤالفته، وكان عذاب الآخرة مستقبلاً وغائباً، وكان ما هذا شأنه يؤثر في الجامدين، أمره أن يذكرهم بترهيب دنيوي مضى إيقاعه بهم، ليأخذوا مواثيق الكتاب لغاية الجد مع أنه لا يعلمه إلا علماؤهم، فيكون علم الأمي له من أعلام نبوته الظاهرة فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي اذكر لهم هذا، فإن لمن يتعظوا اذكر لهم إذ ‏{‏نتقنا‏}‏ أي قلعنا ورفعنا، وأتى بنون العظمة لزيادة الترهيب ‏{‏الجبل‏}‏ عرفه لمعرفتهم به، وعبر لدلالة لفظه على الصعوبة والشدة دون الطور- كما في البقرة- لأن السياق لبيان نكدهم بإسراعهم في المعاصي الدالة على غلظ القلب‏.‏

ولما كان مستغرقاً لجميع الجهة الموازية لعساكرهم، حذف الجار فقال‏:‏ ‏{‏فوقهم‏}‏ ثم بين أنه كان أكبر منهم بقوله‏:‏ ‏{‏كأنه ظلة‏}‏ أي سقف، وحقق أنه صار عليهم موازياً لهم من جهة الفوق كالسقف بقوله‏:‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ هو على حقيقته ‏{‏أنه واقع‏}‏ ولما كان ما تقدم قد حقق العلو، لم يحتج إلى حرف الاستعلاء، فقال مشيراً إلى السرعة واللصوق‏:‏ ‏{‏بهم‏}‏ أي إن لم يأخذوا عهود التوارة، قالوا‏:‏ ولما رأوا ذلك خر كل منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وصار ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فزعاً من سقوطه، وهي سنة لهم في سجودهم إلى الآن، يقولون‏:‏ هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فقالوا‏:‏ أخذنا يارب عهودك، قال مشيراً إلى عظمته ليشتد إقبالهم عليه إشارة إلى أنه علة رفع الجبل‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم‏}‏ أي بعظمتنا، فهو جدير بالإقبال عليه وإن يعتقد فيه الكمال، وأكد ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بقوة‏}‏ أي عزم عظيم على احتمال مشاقه؛ ولما كان الأخذ للشيء بقوة ربما نسيه في وقت، قال‏:‏ ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ أي من الأوامر والنواهي وغيرهما- فلا تنسوه ‏{‏لعلكم تتقون*‏}‏ أي ليكون حالكم حال من يرجى تقواه، فدل سبحانه بهذا على تأكيد المواثيق عليهم في أخذ جميع ما في الكتاب الذي من جملته ألا تقولوا على الله إلا الحق ولا تكتموا شيئاً منه، قالوا‏:‏ ولما قرأ موسى عليه السلام الألواح وفيها كتاب الله لم يبق على الأرض شجر ولا جبل ولا حجر إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً يسمع التوارة إلا اهتز وأنقض رأسه‏.‏

ولما ذكر أنه ألزمهم أحكام الكتاب على هذه الهيئة القاهرة الملجئة القاسرة التي هي من أعظم المواثيق عند أهل الأخذ وأنه أكد عليهم المواثيق في كثير من فصول الكتاب، وكان ذلك كله خاصاً بهم؛ أمره أن يذكر لهم أنه ركب لهم في عموم هذا النوع الآدمي من العقول ونصب من الأدلة الموضحة للأمر إيضاح المشهود للشاهد ما لو عذب تاركه والمتهاون به لكان تعذيبه جارياً على المناهج ملائماً للعقول، ولكنه لسبق رحمته وغلبة رأفته لم يؤاخذ بذلك حتى ضم إليه الرسل، وأنزل معهم الكتب، وأكثر فيها من المواثيق، وزاد في الكشف والبيان، وإلى ذلك الإشارة باسم الرب، فكأن من عنده علم أشد ملامة من الجاهل، فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكر لهم إذ ‏{‏أخذ‏}‏ أي خلق بقوله وقدرته ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالتمهيد لرسالتك كما يؤخذ القمل بالمشط من الرأس‏.‏

ولما كان السياق لأخذ المواثيق والأخذ بقوة، ذكر أخذ الذرية من أقوى نوعي الآدمي، وهم الذكور فقال‏:‏ ‏{‏من بني آدم‏}‏ وذكر أنه جعلها من أمتن الأعضاء فقال‏:‏ ‏{‏من ظهورهم‏}‏ كل واحد من ظهر أبيه ‏{‏ذريتهم‏}‏ إشارة إلى أنه أكد عليهم المواثيق وشددها لهم وأمرهم- بالقوة في أمرها، أعطاهم من القوة في التركيب والمزاج ما يكونون به مطيعين لذلك، فهو تكليف بما في الوسع، وجعل لهم عقولاً عند من قال‏:‏ هو على حقيقته كنملة سليمان عليه الصلاة والسلام ‏{‏وأشهدهم على أنفسهم‏}‏ أي أوضح لهم من البراهين من الإنعام بالعقول مع خلق السماوات والأرض وما فيهما على هذا المنوال الشاهد له بالوحدانية وتمام العلم والقدرة، ومن إرسال الرسل المؤيدين بالمعجزات ما كانوا كالشهود بأنه لا رب غيره؛ وقد ذكر معنى هذا الإمام حجة الإسلام الغزالي في الكلام على العقل من باب العلم من الإحياء فإنه قال معنى هذه الآية‏:‏ والمراد إقرار نفوسهم، لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص؛ ثم ذكر أن النفوس فطرت على معرفة الأشياء على ما هي عليه لقرب الاستعداد للإدراك‏.‏

ولما تبين أنه فرد لا شريك له فلا راد لأمره، وأنه رب فلا أرأف منه ولا أرحم، كان ذلك أدعى إلى طاعته خوفاً من سطوته ورجاء لرحمته، فكانوا بذلك بمنزلة من سئل عن الحق فأقر به، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏ألست بربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بالخلق والتربية بالرزق وغيره ‏{‏قالوا بلى شهدنا‏}‏ أي كان علمنا بذلك علماً شهودياً، وذلك لأنهم وصلوا بعد البيان إلى حد لا يكون فيه الجواب إلا ذلك فكأنهم قالوه؛ فهو- والله أعلم- من وادي قوله تعالى ‏{‏ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏- الآية و‏{‏لله يسجد ما في السماوات والأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ لم فعل ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ دلالة على أن المتقدم إنما هو على طريق التمثيل يجعل تمكينهم من الاستدلال كالإشهاد، فعله كراهة ‏{‏أن تقولوا يوم القيامة‏}‏ أي إن لم ينصب لهم الأدلة ‏{‏إنا كنا عن هذا‏}‏ أي وحدانيتك وربوبيتك ‏{‏غافلين*‏}‏ أي لعدم الأدلة فلذلك أشركنا ‏{‏أو تقولوا‏}‏ أي لو لم نرسل إليهم الرسل ‏{‏إنما أشرك آباؤنا من قبل‏}‏ أي من قبل أن نوجد ‏{‏وكنا ذرية من بعدهم‏}‏ فلم نعرف لنا مربياً غيرهم فكنا لهم تبعاً فشغلنا اتباعهم عن النظر ولم يأتنا رسول منبه، فيتسبب عن ذلك إنكارهم في قولهم‏:‏ ‏{‏أفتهلكنا بما فعل المبطلون*‏}‏ أي من آبائنا؛ قال أبو حيان‏:‏ والمعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان‏:‏ إحدهما «كنا غافلين» والأخرى «كنا تبعاً لأسلافنا» فكيف والذنب إنما هو لمن طرّق لنا وأضلنا- انتهى‏.‏ ومما يؤيد معنى التمثيل حديث أنس في الصحيح «يقول الله لأهون أهل النار عذاباً‏:‏ لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك شيئاً، فأبيت إلا الشرك» وذلك لأن التصريح بالآباء ينافي كون الإقرار على حقيقته، والأخذ وهو في الصلب إنما هو بنصب الأدلة وتقرير الحق على وجه مهيئ للاستدلال بتركيب العقل على القانون الموصل إلى المقصود عند التخلي من الحظوظ والشوائب، وهذا الذي وقع تأويل الآية به لا يعارضه حديث الاستنطاق في عالم الذر على تقدير صحته، فإنه روي من طرق كثيرة جداً ذكرتها في كتابي سر الروح، منها في الموطأ ومسند أحمد وإسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي وأبي يعلى الموصلي ومستدرك الحاكم وكتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني عن صحابة وتابعين مرفوعاً وموقوفاً- منهم عمر وأبيّ بن كعب وأبو هريرة وحكيم بن حزام وعبدالله بن سلام وعبد الله بن عمرو وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وأبي العالية رحمهم الله، وإنما كان لا يعارضه لأن في بعض طرقه عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه سبحانه قال بعد أن استنطقهم‏:‏

«فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة‏:‏ إنا كنا عن هذا غافلين، فلا تشركوا بي شيئاً، فإني أرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، فقالوا‏:‏ نشهد أنك ربنا وإلهنا، لا رب لنا غيرك» فالاستنطاق في الحديث على بابه، عبرة لأبينا آدم عليه السلام ومن حضر ذلك من الخلق، وإيقافاً لهم على بديع قدرته وعظيم علمه، وإشهاد ما أشهد من المخلوقات بمعنى أنه نصب فيها من الأدلة ما يكون إقامة الحجة به عليهم بالنقض إن أشركوا كشهادة الشاهد الذي لا يرد، وليس في شيء من الروايات ما ينافي هذا؛ والحاصل أنه أخذ علينا عهدان‏:‏ أحدهما حالي تهدى إليه العقول، وهو نصب الأدلة، والآخر مقالي أخبرت به الرسل، كل ذلك للإعلام بمزيد الاعتناء بهذا النوع البشري لما له من الشرف الكريم ويراد به من الأمر العظيم- والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 178‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات‏:‏ انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة، قال‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع ‏{‏نفصل الآيات‏}‏ أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل ‏{‏ولعلهم يرجعون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه، وذلك من أدلة ‏{‏والذي خبث لا يخرج إلا نكداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ و‏{‏ما وجدنا لأكثرهم من عهد‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 102‏]‏ و‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 146‏]‏‏.‏

ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار، أتبعهما بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات، فأسقطه الله من ديوان السعداء، فأمره صلىلله عليه وسلم أن يتلو عليهم، لأنه- مع الوفاء بتبكيتهم- من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏ أي اقرأ شيئاً بعد شيء ‏{‏عليهم‏}‏ أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم ‏{‏نبأ الذي‏}‏ وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال‏:‏ ‏{‏آتيناه‏}‏‏.‏

ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏آياتنا‏}‏ وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق، وقيل‏:‏ وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس، وقيل‏:‏ هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «آمن شعره وكفر قلبه» قاله عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم، وقيل‏:‏ هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقيل‏:‏ نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروه‏.‏

ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال‏:‏ ‏{‏فانسلخ منها‏}‏ أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد، فأشقاه الله، وهذا معنى ‏{‏فأتبعه الشيطان‏}‏ أي فأدركه مكره فصار قريناً له ‏{‏فكان‏}‏ أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان ‏{‏من الغاوين*‏}‏ أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم، وعبر في هذه القصة بقوله‏:‏ ‏{‏اتل‏}‏ دون

‏{‏وأسألهم عن‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ نحو ما مضى في القرية، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم، فهو شرف لهم، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 169‏]‏ بما هم قائلون به، فيكون من باب الإلزام، وكأنه قيل‏:‏ أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ لذلك، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام‏؟‏ ما ذلك إلا مجرد هوى، فإن قلتم‏:‏ الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه، قيل لكم؛ أليس المعبود قد حرم الجميع‏؟‏ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل، وقد كان أعظم من أحباركم، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول، وكان سبب هلاكه- كما تعلمون- وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال، فقد بحتم كذبكم في قولكم ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به‏.‏

ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقل في الإغواء، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ولو شئنا‏}‏ أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق ‏{‏لرفعناه‏}‏ أي في المنزلة رفعة دائمة ‏{‏بها‏}‏ أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها‏.‏

ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون، وكان التقدير‏:‏ ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه- إلى آخره، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً- لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه‏:‏ ‏{‏ولكنه أخلد‏}‏ أي فعل فعل من أوقع الخلد- وهو الدوام- وأوجده ‏{‏إلى الأرض‏}‏ أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية ‏{‏واتبع‏}‏ أي اتباعاً شديداً ‏{‏هواه‏}‏ فأعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه، لأن القلب الذي هو نتيجتهما في عالم الأمر له وجهان‏:‏ وجه إلى الروح العلوي الروحاني الذي هو الأب، وله الذكورة المناسبة للعلو؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأرض بالأنوثة وبأن أصلها من التراب الذي له الرسوب بوضع الجبلة فالتقدير‏:‏ فحط نفسه حطّاً عظيماً، لأنا لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الآيات، وإنما جعلناه وبالاً عليه، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف، وما حاز من المفاخر واللطائف، فإن العبرة بالخواتيم، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء‏.‏

ولما كان هذا حاله، تسبب عنه أن قال تعالى‏:‏ ‏{‏فمثله‏}‏ أي مع ما أوتي من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى ‏{‏كمثل الكلب‏}‏ أي في حال دوام اللهث‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ مثله في أيّ أحواله‏؟‏ قال‏:‏ في كونه ‏{‏إن تحمل عليه‏}‏ أي لتضربه ‏{‏يلهث أو تتركه يلهث‏}‏ فإن أوجب لك الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى، فقد وضح تشبيه مثله بمثل الكلب، لا تشبيه مثله بالكلب؛ وهذه القصة تدل على أن من كانت نعم الله في حقه أكثر، كان بعده عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر‏.‏

ولما تقرر المثلان، وكان كل منهما منطبقاً على حالة كل مكذب، كانت النتيجة قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي كل من المثلين ‏{‏مثل القوم‏}‏ أي الأقوياء ما يحاولونه ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى، لأن لها من الظهور والعظمة بنسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيرة ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم، وهو مصدر قص الشيء- إذا تبع أثره واستقصى في ذلك ‏{‏لعلهم يتفكرون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلا نبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا‏.‏

ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتسب من ممثوله من السوء والقذارة ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم‏:‏ ‏{‏ساء مثلاً القوم‏}‏ أي مثل القوم ‏{‏الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ أي فلو لم يكن عليهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة، لأنهم نزلوا عما لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏وأنفسهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏كانوا يظلمون*‏}‏ أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم، لا يقدر غير الله على تغييره‏.‏

ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي، قال جواباً لمن كأنه قال‏:‏ فما لهم لا يؤمنون‏؟‏ مفصلاً لقوله ‏{‏ولو شئنا لرفعناه بها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 176‏]‏‏:‏ ‏{‏من يهد الله‏}‏ أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه ‏{‏فهو المهتدي‏}‏ أي لا غيره‏.‏

ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد، وحد ‏{‏المهتدي‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 177‏]‏ نظراً إلى لفظ ‏{‏من‏}‏ وجمع الضال نظراً إلى معناها فقال‏:‏ ‏{‏ومن يضلل فأولئك هم‏}‏ أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم ‏{‏الخاسرون*‏}‏ إذ لا فعل لغيره أصلاً، والآية من فذلكة ما مضى، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا وأعرضها الفانية، ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم‏.‏

ذكر قصة بلعام من التوراة- قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانيين‏:‏ وفرق المؤابيون من الشعب فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل، وقال ملك مؤاب لأشياخ مدين‏:‏ اعلموا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا، ولا يدع أحداً إلا أهلكه، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطئ النهر قريباً من أرض بني عمون ليدعوه إليه فيستعين به‏:‏ أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر، فغشى وجه الأرض كلها، وقد نزلوا جبالنا، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك، والذي تلعنه هو ملعون، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز، فأتوا بلعام فقالوا له قول بالاق، فقال لهم‏:‏ بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام، فأتى ملك الله بلعام وقال له‏:‏ من القوم الذين أتوك‏؟‏ قال بلعام للملاك‏:‏ بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال‏:‏ قد خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض، فأقبل إلينا حتى تلعنه، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه، وقال الملاك لبلعام‏:‏ لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك، فقال بلعام بكرة لعظماء بالاق‏:‏ انطلقوا إلى صاحبكم، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له‏:‏ لم يهو بلعام إتيانك معنا، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين، فأتوا بلعام وقالوا له‏:‏ هكذا يقول بالاق بن صفور‏:‏ لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً، وما قلت لي من شيء فعلت، وأقبل إلينا لتلعن لي- هذا الشعب، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً‏:‏ لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقواله، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً، وقال له‏:‏ إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم، ولكن إياك أن تعمل إلا ما أقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً، فرأت الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانة ملك الرب فزحمت الحائط وضغطت رجل بلعام في الحائط، فعاد يضربها أيضاً، ثم عاد ملاك الرب وقام في موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره، فبصرت بملاك الرب وربضت تحت بلعام، فاشتد غضب بلعام وضرب الأتان بالعصا، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام‏:‏ ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثلاث مرات‏؟‏ قال بلعام‏:‏ لأنك زريت بي، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قتلتك الآن، فقالت‏:‏ ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم‏؟‏ هل صنعت مثل هذا الصنع قط‏؟‏ قال لها‏:‏ لا وجلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فجثا وخر على وجهه ساجداً، فقال له ملاك الرب‏:‏ ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً، لأنك أخذت في طريق خلافاً لأمري، فلما رأتني الأتان حادت عني ثلاث مرات، ولو أنها لم تحد عني كنت قتلتك وأبقيت عليها، قال بلعام لملاك الرب‏:‏ أسأت وأجرمت، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت، قال ملاك الرب لبلعام‏:‏ انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك‏!‏ فانطلق بلعام، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق‏:‏ لم تأتني‏؟‏ قال‏:‏ قد أتيتك الآن، لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي يجريه اللهعلى لساني به أنطق، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيت بعل الصنم، فرأى من هناك أقاصي منازل شعب إسرائيل، وقال بلعام لبالاق‏:‏ ابني لي هاهنا سبعة مذابح، وهيئ لي سبعة ثيران وسبعة كباش، وفعل بالاق كما قال له بلعام، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً، وقال بلعام لبالاق‏:‏ قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه، وأنا مظهر لك ما يوحي به، فانطلق فظهر الله وألهمه قولاً وقال له‏:‏ انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال‏:‏ ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق، وقال لي‏:‏ أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله، وكيف أهلكه والرب لا يريد هلاكه، رأيته من رؤوس الجبال، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل، تموت نفسي موتاً ويكون آخري إلى آخرهم، قال بالاق لبلعام‏:‏ دعوتك لتلعن أعدائي فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم، فرد بلعام قائلاً‏:‏ الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ، وبه أنطق‏:‏ قال له بالاق‏:‏ مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين، وانطلق به إلى حقل الربية وأقامه على رأس الأكمة، وابتنى هناك سبعى مذابح، وقرب عليها الثيران والكباش، قال بلعام‏:‏ قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن، فانظر ما الذي يقال‏؟‏ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له‏:‏ انطلق إلى بالاق فأخبره بهذا القول، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه أشراف مؤاب، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصغ لشهادتي يا ابن صفور‏!‏ اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب؛ إذا قال الرب قولاً فعله، وكلامه دائم إلى الأبد، ساقني لأعود وأبرك، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمة قوية، ولست أرى في آل يعقوب طيرة، ولا حساب نجوم أو عراف بين بني إسرائيل، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتل، فقال بالاق لبلعام‏:‏ أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له، فرد بلعام على بالاق قائلاً‏:‏ ألست قلت لك‏:‏ إني إنما أنطق بما يقول لي الرب، فقال بالاق‏:‏ انطلق بنا إلى موضع آخر، لعل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله، ورفع صوته بأمثاله وقال‏:‏ قل يا بلعام بن بعور، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهو ملقى وعيناه مفتوحتان، ما أحسن منزلك يا يعقوب ومنازلك يا إسرائيل‏!‏ وخيمك كالأدوية الجارية، ومثل الفراديس التي على شاطئ النهر، ومثل الجنى الذي ركزه الله، ومثل شجر الأرز على شاطى النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير، ويعظم على الملك، وذلك بقوة الله الذي أخرجهم من أرض مصر بغير توقف رثماً، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم، رتع وربض كالأسد ومثل شبل الليث، ومن يقدر أن يبعثه، يبارك مباركوك ويلعن لاعنوك، فاشتد غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال‏:‏ دعوتك للعن أعدائي، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات، انصرف الآن إلى بلادك، قد كنت عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك، فرد بلعام على بالاق قائلاً‏:‏ قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلتهم إليّ أنه لو وهب لي بالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب، فأنا أنطلق الآن إلى أرضي، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام، ثم رفع صوته بأمثاله وقال‏:‏ قل يا بلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره‏!‏ قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه مفتوحتان‏!‏ فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب، يشرق نجم من آل يعقوب، ويقوم رئيس من بني إسرائيل، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث، وتثير أدوم ميراثه، وساعير وراثة أعدائه يصير له، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته- ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات، لكن ذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز، فوقع بهم ذلك، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله‏:‏ لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته- وسيأتي ذلك قريباً، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق؛ ثم قال‏:‏ وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته، وسكن بنو إسرائيل شاطيم، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم، وأكل الشعب- من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم، وكمل بنو إسرائيل لعبادة بعليون الصنم، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم، فقال موسى‏:‏ يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد، فرآه فنحاس بن اليعازر بن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله وأخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنهما بالرمح فقتلهما، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل، وكان عدد الذين ماتوا في الموت البغتة أربعة وعشرين ألفاً، وكلم الرب موسى وقال له‏:‏ فنحاس صرف غضبي عن بين إسرائيل وغار غيرة لله بينهم وطهر بني إسرائيل، وكان اسم القتيل الذي قتل مع المدينية زمري ابن سلو، وكان رئيساً في قبيلة شمعون، وكانت المرأة المدينية كزبى بنت صور، وكان أبوها- من رؤساء أهل مدين، وقال بعض المفسرين‏:‏ أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون‏.‏

ثم كلم الرب موسى وقال له‏:‏ ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم، ثم قال‏:‏ ثم كلم الرب موسى وقال له‏:‏ إني لمنتقم من المدينيين ما صنعوا بين بني إسرائيل، ثم تقتص إلى شعبك، ثم قال موسى للشعب‏:‏ يتسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدينيين، وليكونوا اثنى عشر ألفاً، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط، اثنى عشر أبطالاً متسلحين وأرسلهم، وصير قائدهم فنحاس بن اليعازر الحبر ومعه أوعية القدس وقرون ينفخ بها، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلوا كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتهبوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخربوا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى، وخرج موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم‏:‏ لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور- وفي نسخة السبعين‏:‏ فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور- فواقعت السخطة جماعة الرب- وفي النسخة الأخرى‏:‏ وتسلط الموت على جماعة الرب- بغتة، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان، وكل امرأة أدركت وعقلت وعرفت الرجال فاقتلوها، وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرفن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام- إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 184‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏‏}‏

ولما انقضت هذه القصص فأسفرت عن أن أكثر الخلق هالك، صرح بذلك فقال مقسماً لأنه لا يكاد يصدق أن الإنسان يكون- أضل من البهائم، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ هؤلاء الذين قصصنا عليكم أخباركم ذرأناهم لجهنم‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ وعزتنا وجلالنا ‏{‏ذرأنا‏}‏ أي خلقنا بعظمتنا وأنشأنا وبثثنا ونشرنا ‏{‏لجهنم كثيراً‏}‏ أي وألجأناهم إليها ولم يجعل بينهم وبينها حائلاً‏.‏

ولما كانوا يعظمون الجن ويخافونهم ويضلون بهم، بدأ بهم فقال‏:‏ ‏{‏من الجن‏}‏ أي بنصبهم أنفسهم آلهة بإضلالهم الإنس في تزيين عبادتهم غير الله، فهم في الحقيقة المعبودون لا الحجارة، ونحوها ‏{‏والإنس‏}‏ أي بعبادتهم لمن لا يصلح، وعلم أن الآية صالحة لأن تكون معطوفة على الجملة التي قبلها فهي من فذلكة ما تقدم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما لهم رضوا لأنفسهم بطريق جهنم‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ ولما كان السياق للتفكر، بدأ بالقلوب فقال‏:‏ ‏{‏قلوب لا يفقهون بها‏}‏ أي الفقه الذي كلفوا به، وهو النظر في أدلة التوحيد وثبوت النبوة وما تفرغ عن ذلك، وهو الفقه المسعد، عد غيره عدماً لأنه لم ينفعهم النفع المقصود في الحقيقة، وما أحسن التعبير بالفقه في السياق إقامه الأدلة التي منها إرسال الرسل وإنزال الكتب‏.‏

ولما كان البصر أعم من السمع، لأنه ينتفع به الصغير الذي لا يفهم القول، وكذا كل من في حكمه، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏ولهم أعين‏}‏ ولما لم يترتب عليهما الإبصار النافع في الآخرة الباقية، نفى إبصارهم وإن كانوا أحدّ الناس إبصاراً فقال‏:‏ ‏{‏لا يبصرون بها‏}‏ أي الآيات المرئية إبصار تفكر واعتبار ‏{‏ولهم آذان‏}‏ ولما لم يترتب على سمعها ما ينفعهم، نفاه على نحو ما مضى فقال‏:‏ ‏{‏لا يسمعون بها‏}‏ أي الآيات المسموعة وما يدل عليها سماع ادكار وافتكار، ولما سلبت عنهم هذه المعاني كانت النتيجة‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء من المعاني الإنسانية ‏{‏كالأنعام‏}‏ أي في عدم الفقه، ولما كانوا قد زادوا على ذلك تفقد نفع السمع والبصر قال‏:‏ ‏{‏بل هم أضل‏}‏ لأنهم إما معاند وإما جاهل بما يضره وينفعه، والأنعام تهرب إذا سمعت صوتاً منكراً فرأت بعينها أنه يترتب عليه ضرها، وتنتظر ما ينفعها من الماء والمرعى فتقصده، والأنعام لا قدرة لها على ما يترتب على هذه المدارك من الفقه‏.‏ وهؤلاء مع قدرتهم على ذلك أهملوه فنزلوا عن رتبتها درجة كما أن من طلب الكمال وسعى له سعيه مع نزاع الشهوات علا عن درجة الملائكة بما قاسى من الجهاد‏.‏

ولما تشاركوا الأنعام بهذه في الغفلة وزادوا عليها، أنتج ذلك قطعاً على طريق الحصر‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الغافلون*‏}‏ لا الأنعام، فإنها- وإن كانت غافلة عما يراد بها- غير خالدة في العذاب، فلم تشاركهم في العمى والصمم عما ينفعها ولا في الغفلة عن الخسارة الدائمة، فقد أشارت الآية إلى تفضيل الإنسان على الملك كما اقتضته سورة الزيتون، لأنه جعل في خلقه وسطاً بين الملك الذي هو عقل صرف والحيوان الذي هو شهوة مجردة، فإن غلب عقله كان أعلى بما عالجه من جهاد الشهوات فكان في

‏{‏أحسن تقويم‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 5‏]‏ وإن غلبت شهوته كان اسفل من الحيوان بما أضاع من عقله فكان ‏{‏أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ولما أنتج هذا أن لهم الأسماء السوأى ولمعبوداتهم أسوأ منها، عطف عليه دفعاً لوهم من يتوهم بالحكم بالضلال والذرء لجهنم ما لا يليق، وتنبيهاً على أن الموجب لدخول جهنم الغفلة عن ذكر الله ودعائه- قوله‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال وحده ‏{‏الأسماء‏}‏ ولما كان الاسم إذا لحظت فيه المناسبة كان بمعنى الصفة، أنث في قوله ‏{‏الحسنى‏}‏ أي كلها باتصافه دون غيره بصفات الكمال التي كل واحدة منها أحسن شيء وأجمله وتنزهه عن شوائب النقص وسمات الحدث، فكل أفعاله حكمة وإنما كان مختصاً بذلك لأن الأشياء غيره ممكنه لتغيرها، وكل ممكن محتاج وأدنى ما يحتاج إلى مرجح يرجح وجوده، وبذلك نعلم وجود المرجح ونعلم أن ترجيحه على سبيل الصحة والاختيار لا الوجوب، وإلا لدام العالم بدوامه، وبذلك ثبتت قدرته، وتكون أفعاله محمكه ثبت علمه فثبتت حياته وسمعه وبصره وكلامه وإرادته ووحدانيته، وإلا لوقع التنازع فوقع الخلل، فالعلم بصفاته العلى ليس في درجة واحدة بل مترتباً، وعلم بهذا أن الكمال له لذاته، وأما غيره فكماله به وهو بذاته غرق في بحر الفناء واقع في حضيض النقصان ‏{‏فادعوه‏}‏ أي فصفوه وسموه واسألوه ‏{‏بها‏}‏ لتنجوا من جهنم وتنالوا كل ما تحمد عاقبته، فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله أقبل على الدنيا وشهواتها فوقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال في رغبة إلى رغبة حتى لا يبقى له مخلص، وإذا أقبل على الذكر تخلص عن نيران الآفات واستشعر بمعرفة الله حتى تخلص من رق الشهوات فيصير حراً فيسعد بجميع المرادات، وكثرة الأسماء لا تقدح في التوحيد بل تدل على عظيم المسمى ‏{‏وذروا‏}‏ أي اتركوا على حالة ذرية ‏{‏الذين يلحدون‏}‏ أي يميلون عما حد لهم بزيادة فيشبهوا أو نقص فيعطوا ‏{‏في أسمائه‏}‏ أي فيطلقونها على غيره بأن يسموه إلهاً، فيلزمهم أن يطلقوا عليه جميع أوصاف الإله‏.‏ فقد ألحدوا في البعض بالفعل وفي الباقي باللزوم، أو بأن يسموه بما لم يأذن فيه، وما لم يأذن فيه تارة يكون مأذوناً فيه في الجملة كالضار فلا يجوز ذكره إلا مع النافع، وتارة لا، مثل إطلاق الأب عليه والجسم، وكذا كل ما أوهم نقصاً، فلم يكن أحسن، ولورود إطلاق بعض اشتقاقاته عليه مثل علم لا يجوز أن يقال لأجله‏:‏ معلم، وكذا لحبهم لا يجوز لأجله أن يقال‏:‏ ياخالق الديدان والقردة مثلاً، وكذا لا يجوز أن يذكر اسم لا يعرف الذاكر معناه ولو كان الناس يفهمون منه مدحاً كما يقول البعض البدو‏:‏ يا أبيض الوجه‏!‏ يا أبا المكارم‏!‏ فإن ذلك كله إلحاد، وهذا الفعل يستعمل مجرداً فيقال‏:‏ لحد في كذا وألحد فيه- بمعنى واحد، وهو العدول عن الحق والإدخال فيه ما ليس منه- نقله أبو حيان عن ابن السكيت؛ وقال الإمام أبو القاسم علي بن جعفر بن القطاع في كتاب الأفعال‏:‏ لحد الميت لحداً وألحده‏:‏ شق له القبر، وإلى الشيء وعنه وفي الدين‏:‏ مال، وقرئ بهما كذلك‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فما يفعل بمن ألحد‏؟‏ وكان المرهب إيقاع الجزاء، لا كونه من معين، قال بانياً للمفعول‏:‏ ‏{‏سيجزون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة بوعد لا خلف فيه ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يعملون*‏}‏ أي فيفعل بهم من أنواع الإهانة والعقوبة ما يوجب وصفهم بأقبح الأوصاف ضد ما كانوا يسمعونه في الدنيا ممن يدانيهم‏.‏

ولما أخبر تعالى عن ذرء جهنم من القبلتين، تشوف السامع إلى معرفة حال الباقين منهما، فقال مصرحاً بالخبر عنهم عاطفاً على ‏{‏ولقد ذرأنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ مشيراً بمن التبعيضية إلى قتلهم تصديقاً لقوله ‏{‏وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 102‏]‏ ‏{‏وممن خلقنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏أمة‏}‏ أي جماعة عرفت من هو أهل لأن يؤم ويهتدى به فقصدته فاقتبست من أنواره فصارت هي أهلاً لأن تقصد ويؤتم بها‏.‏

ولما أفهم لفظ الأمه هذا صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏يهدون بالحق‏}‏ أي الثابت الذي يطابقه الواقع ‏{‏وبه‏}‏ أي الحق خاصة ‏{‏يعدلون*‏}‏ أي يجعلون الأمور متعادلة، لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص، لأنا وفقناهم فكشفنا عن بصائرهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، قال أكثر المفسرين‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ورواه بعضهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبهم الأمر بعد تعيين قوم موسى عليه السلام تعظيماً لهم‏.‏

ولما بين حال الهادين المهديين، وكان أصل السياق الضالين المضلين، أتبعه بقية الحديث عنهم على وجه ملوح بأن علة الهداية التوفيق، فقال عاطفاً على تقديره‏:‏ فنحن نعلي أمرهم ونطيب ذكرهم‏:‏ ‏{‏والذين كذبوا‏}‏ أي نسبوا الرسل إلى الكذب بسبب إتيانهم ‏{‏بآياتنا‏}‏ على ما يشاهد من عظمتها ‏{‏سنستدرجهم‏}‏ أي نستنزلهم ونستدنيهم بوعد لا خلف فيه إلى ما نريد بهم من الشر العظيم درجة درجة بسبب أنهم كلما أحدثوا جريمة أسبغنا عليهم نعمة، وإذا عملوا طاعة قصرنا عنهم في الإنعام، أو ضربناهم بسوط الانتقام، فيظنون أن المعاصي سبب النعم فينسلخون من الدين، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏من حيث لا يعلمون‏}‏ أي فيرتكبون ما يتعجب من مداناته فضلاً عن مباشرته ومعاناته من له أدنى بصيرة حتى يكمل ما نريد منهم من المعاصي، وهو من أدلة ‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ وأتى في الاستدراج بأداة العظمة وفي الإملاء بضمير الواحد فقال ‏{‏وأملي لهم‏}‏ أي أمهلهم بوعد جازم زماناً طويلاً وأمد لهم وهم يعصون حتى يظنون أن الله يحبهم حتى يزيدوا في ذلك لأنهم لا يفعلون شيئاً إلا بمرادي ولا يفوتوني ولم يأت بهما على نهج واحد، لأن الاستدراج يكون بواسطة وبغيرها، فكأنه قال‏:‏ سأستدرجهم بنفسي من غير واسطة تارة وبمن أتيح لهم النعم على يده من عبيدي وجنودي أخرى، وأما الإملاء وهو تطويل الأجل- فلا يتصور أن يكون إلا من الله تعالى‏.‏

ولما كان هذا موجباً لهم- ولابد- الإصرار على المعاصي حتى يصلوا إلى ما حكم عليهم به من النار، قال مستأنفاً ‏{‏إن كيدي‏}‏ أي فعلي الذي ظاهرة رفعة وباطنه ضيعة- ظاهره إحسان وباطنه خذلان ‏{‏متين*‏}‏ أي شديد قوي لا يمكن أحداً قطعه، قال الإمام بعد تأويل للمعتزله حملهم عليه إيجابهم رعاية الأصلح‏:‏ وأنا شديد التعجب من المعتزله، يرون القرآن كالبحر الذي لاساحل له مملوءاً من هذه الآيات، والدلائل العقلية القاهرة مطابقة لها، ثم يكتفون في تأويلها- أي عن أنه تعالى يريد الشر- بهذه الوجوه الضعيفة إلا أن علمي بما أراد الله كائن، مزيل هذا التعجب‏.‏

ولما كان السياق من أول السورة لإنذارهم، وكان لا بد في صحة الإنذار من تصحيح الرسالة، وختم بأمر الاستدراج، وكانوا قد واقعوا من المعاصي ما لا يجترئ عليه إلا مطموس البصيرة، وكان عندهم أن من قال‏:‏ إنهم على حال سيئ،- مع ما هم فيه من النعم الظاهر- مجنون، وكان التقدير دلالة على صحة الاستدراج؛ ألم يروا أنهم يقدمون على ما لا يرضاه لنفسه عاقل من عبادتهم للحجر وشماختهم عن أكمل البشر ووصفه بالجنون ووصفهم أفضل الكلام بالسحر والكذب إلى غير ذلك مما يغضب من ليس النفع والضر إلا بيده، وهو مع ذلك يوالي عليهم النعم، ويدفع عنهم النقم، هل ذلك إلا استدراج؛ قال منكراً عليهم عطفاً على ما أرشد السياق والعطف على غير معطوف عليه إلى تقديره‏:‏ ‏{‏أولم يتفكروا‏}‏ أي يعملوا أفكارهم ويمعنوا في ترتيب المقدمات ليعلموا أنه لا يتوجه لهم طعن يورث شبهة بوجه من الوجوه، وبين المراد من هذا التفكر وعينه بقوله‏:‏ ‏{‏ما بصاحبهم‏}‏ أي الذي طالت خبرتهم لأنه أمتنهم عقلاً وأفضلهم شمائل ولم يقل‏:‏ ما برسولي ونحوه، لئلا يقول متعنتهم مالا يخفى، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من جنة‏}‏ أي حالة من حالات الجنون‏.‏

ولما نفى أن يكون به شيء مما نسبوه إليه وافتزوه عليه فثبتت رسالته، حصر أمره في النذارة لأنها النافعة لهم مع أن المقام لها في هذه السورة فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هو إلا نذير‏}‏ أي بالغ في نذارته ‏{‏مبين*‏}‏ أي موضح للطريق إيضاحاً لا يصل إلى غيره، ومن أدلة ذلك عجز الخلق عن معارضة شيء مما يأتي به من أنه أحسن الناس خَلقاً وأعلاهم خُلقاً وأفضلهم عشرة وأرضاهم طريقة وأعدلهم سيرة وأطهرهم سريرة وأشرفهم عملاً وأحكمهم علماً وأرصنهم رأياً وأعظمهم عقلاً وأشدهم أمانة وأظهرهم نبلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 188‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير أدلة التوحيد، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد، قال منكراً عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيئ‏:‏ ‏{‏أولم‏}‏ ولما كان الأمر واضحاً قال‏:‏ ‏{‏ينظروا‏}‏ أي نظر تأمل واعتبار، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة ‏{‏في ملكوت‏}‏ وعظم الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ أي ملكهما البالغ من حد العظمة أمراً باهراً بظاهره الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه‏.‏

ولما كانت أدلة التوحيد تفوت الحصر، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر، قال؛ ‏{‏وما‏}‏ أي وفيما ‏{‏خلق الله‏}‏ أي على ما له من الجلال والجمال ‏{‏من شيء‏}‏ أي غيرهما، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلاً عن ذلك غيره، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه، فلا يلحدوا في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء إلى غير ذلك حتى يعلموا بعضامة هذا الكون أنه سبحانه عظيم، وبقهره لك شيء أنه قهار شديد، وبعجزه كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال ‏{‏وأن عسى‏}‏ أي وينظروا في الإشفاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير ‏{‏أن يكون قد اقترب‏}‏ أي دنا دنوّاً عظيماً ‏{‏أجلهم‏}‏ أي الذي لا شك عندهم في كونه بموته من موتات هذه الأمم التي أسلفنا أخبارهم كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل، فإن كل عاقل إذا جوز خطراً ينبغي له أن ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه‏.‏

ولما كان قد تقدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب، وبان بهذه الآيات أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بالإنذار به حق الاتصاف، وبان أن القرآن مباين لجميع المخلوقات، فثبت أنه كلام الله؛ تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به، والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال‏:‏ ‏{‏فبأي حديث‏}‏ أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها ‏{‏بعده‏}‏ أي بعد هذه الرتبة العظيمة ‏{‏يؤمنون*‏}‏ فقد دلت هذه الآية على أن للإيمان طريقين‏:‏ أحدهما سمعي، والآخر عقلي، قال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه‏:‏ الحكم إنما يتلقى من خطاب الله البالغ على ألسنة رسله، وقد اتضح واشتهر أن السمع من طرق تفهم خطاب الله الذي تبلغه الرسل، وكذلك أيضاً قد تحقق لقوم من أولي الألباب أن الرؤية وسائر الحواس طريق من طرق تفهم خطاب الله أيضاً، يعي منه اللب العقلي معنى الإرسال في كتابه المخلوق كما يعي العقل معنى الإرسال من مفهوم كلامه المنطوق، وقوم ممن فهم من مرئي كتاب الله المشهود إرسالاً ولقن أحكاماً يسمون الحنيفيين كقس ابن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل، وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل واحد منهم «يبعث أمه واحدة» لاهتدائه من نفسه من غير رسالة هاد خارج عنه، بل من رسول موجدته وإحساسه للعالم، ولأنه إنما أخذ بكلية حكم الإيمان ووجوب المناصفة مع الخلق من شهود خلق الله، وصار مع ذلك يترقب تأكيد ما يحصل له عقلاً من مسموع خطاب الله، وعلى نحو هذه الحال- وأتم هي- حال الأنبياء والصديقين قبل مورد الوحي على النبي وقبل سماع صديقه وارد وحيه، وهؤلاء هم- الذين لا يتوقفون عن الإيمان بالنبي عند ابتداء دعوته، وكما أن النبي لا يلزم ويحكم بل يبلغ عن الله فكذلك نظر العقل لا يلزم ولا يحكم بل يبلغ عن الله فيكون الحكم الذي هو تصرف الحق في أفعال الخلق بهذا على ضربين، شرعي أي مأخوذ من الإرسال الشرعي، وعقلي أي مأخوذ من الإرسال العقلي، وحاصل ذلك أن العالم المشهود مبين عن أمر الله، وكل مبين مبلغ، فالعلم مبلغ أي بما يفهمه الفاهم من كلامه عن الله، فإن النحاة قالوا- كما ذكره ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي وكذا غيره‏:‏ إن الكلام في الإصطلاح لا يقع الإ على اللفظ المركب وجوداً أو تقديراً المفيد بالوضع، قال‏:‏ واحترزوا باللفظ عما يقال له كلام لغة وليس بلفظ كالخط والإشارة وما في النفس وما يفهم من حال الشيء، وقال الحرالي‏:‏ نحو حال الخجل والغضبان، وبالفعل نحو الإشارة باليد والعقد بالأنامل وبآثار الفعل كالصنائع والأعمال، وباللفظ الذي يلفظ به القلب إلى ظاهر اللسان، وبآثار رقوم يحاذي بها حذو مفهوم اللفظ وهو الخط- انتهى‏.‏

ولما كان ذلك كله من أعجب العجب، كانت فذلكته قطعاً تعليلاً لما قبله من إعراضهم عما لا ينبغي الإعراض عنه دليلاً على أن الأمر ليس إلا بيد منزله سبحانه قوله‏:‏ ‏{‏من يضلل الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏فلا هادي‏}‏ أصلاً ‏{‏له‏}‏ بوجه من الوجوه؛ ولما دل بالإفراد على أن كل فرد في قبضته، وكان التقدير‏:‏ بل يستمر على ضلاله، وعطف عليه بضمير الجمع دلالة علىأن جمعهم لا يغني من الله شيئاً فقال‏:‏ ‏{‏ويذرهم‏}‏ أي يتركهم على حالة قبيحة، وعبر بالظرف إشارة إلى إحاطة حكمه بهم فقال‏:‏ ‏{‏في طغيانهم‏}‏ أي تجاوزهم للحدود حال كونهم ‏{‏يعمهون‏}‏ أي يتحيرون ويترددون في الضلال لا يعرفونه طريقاً ولا يفهمون حجة‏.‏

ولما بين التوحيد والنبوة والقضاء والقدر، أتبعه المعاد لتكمل المطالب الأربعة التي هي أمهات مطالب القرآن، مبيناً ما اشتمل عليه هذا الكلام من تبلدهم في العمه وتلددهم في إشراك الشبه بقوله‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏ أي مكررين لذلك ‏{‏عن الساعة‏}‏ أي عن وقتها سؤال استهزاء ‏{‏أيان مرساها‏}‏ أي أيّ وقت ثبات ثقلها واستقراره، والمرسى يكون مصدراً وزماناً ومكاناً، من رست السفينة- إذا ثبتت بالحديدة المتشعبة، وإنما كان هذا بياناً لعمههم فإنهم وقعوا بذلك في الضلال من وجهين‏:‏ السؤال عما غيره لهم أهم، وجعله على طريق الاستهزاء مع ما قام عليه من الأدلة، وسيكرره في هذه السورة، وكان اللائق بهم أن يجعلوا بدل السؤال عنها اتقاءها بالأعمال الصالحة‏.‏

ولما كان السؤال عن الساعة عاماً ثم خاصاً بالسؤال عن وقتها، جاء الجواب عموماً عنها بقوله‏:‏ ‏{‏قل إنما علمها‏}‏ أي علم وقت إرسائها وغيره ‏{‏عند ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بإقامتها لينعم على تبعني وينتقم ممن تركني، لم يطلع على ذلك أحداً من خلقه، ولا يقيمها إلا في أحسن الأوقات وأنفعها لي، وإخفاؤها أنفع للخلق لأنه أعظم لشأنها وأهيب، فيكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية وأقرب إلى التوبة، ثم خصصت من حيث الوقت بقوله مشيراً إلى أن لها أشرطاً تتقدمها‏:‏ ‏{‏لا يجليها‏}‏ أي يبينها غاية البيان ‏{‏لوقتها إلا هو‏}‏‏.‏

ولما كان قد أشار إلى ثقل الساعة بالإرساء، وكان الشيء إذا جهل من بعض الوجوه أشكل وإذا أشكل ثقل، قال‏:‏ ‏{‏ثقلت‏}‏ أي الساعة فغاصت إلى حيث لم يتغلغل إليها علم العباد فأهمهم كلهم عليّ شأنها، ولذلك عبر بالظرف فقال‏:‏ ‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ أي نسبة أهلهما إلى خفائها والخوف منها على حد سواء لأن مالكها قادر على ما يشاء، وله أن يفعل ما يشاء- ثم قرر خفاءها على الكل فقال‏:‏ ‏{‏لا تأتيكم‏}‏ أي في حالة من الحالات ‏{‏إلا بغتة‏}‏ أي على حين غفلة‏.‏

ولما كانوا قد ألحفوا في سؤاله صلى الله عليه وسلم عنها، وكانت صفة الربوبية المذكورة في الجملة الأولى ربما حملت على سؤاله طمعاً في تعرفها من المحسن إليه، قطع الأطماع بقوله مؤكداً للمعنى‏:‏ ‏{‏يسئلونك‏}‏ أي عن الساعة مطلقاً في وقت وقوعها وما يحصل من أمورها ويحدث من شدائدها، أي ويلحفون في سؤالك كلما أخبرتهم أنه لا يعلمها إلا الله ‏{‏كأنك حفيٌّ‏}‏ أي عالم بأمرها مستقص مبالغ في السؤال ‏{‏عنها قل‏}‏ أي قطعاً لسؤالهم ‏{‏إنما علمها عند الله‏}‏ أي الذي له جميع العزة والعظمة والكبرياء فلا يستطاع علم شيء مما عنده إلا بإذنه، ولم يأذن في علمها لأحد من الخلق ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي الذين غلبت عليهم صفة الاضطراب ‏{‏لا يعلمون‏}‏ أي ليسوا من أهل العلم فهم بالسؤال عنها يستهزئون، ولو كانوا من أهله ما كذبوك، فوقعوا ما لا يعنيهم من السؤال عنها وغيره من أنواع التعنت، وتركوا ما ينجيهم ويغنيهم من المبادرة إلى الإيمان بهذا القرآن خوف انخرام الآجال وهم يهيمون في أدوية الضلال‏.‏

ولما كان علم الغيب ملزوماً لجلب الخير ودفع الضير، وكانت الساعة أدق علم الغيب، أمره بنفي هذا اللازم فينتفي الأعم فينتفي بانتفائه الأخص، وقدم النفع لأنه أهم إلى النفس، وليس في السياق ما يوجب تأخيره بخلاف ما في سورة يونس عليه السلام، فقال آمراً بإظهار ذل العبودية‏:‏ ‏{‏قل لا أملك‏}‏ أي في وقت من الأوقات أصلاً ‏{‏لنفسي نفعاً‏}‏ أي شيئاً من جلب النفع قليلاً ولا كثيراً ‏{‏ولا ضراً‏}‏ كذلك، فإن قدرتي قاصرة وعلمي قليل، وكل من كان عبداً كان كذلك‏.‏

ولما كان من المعلوم بل المشاهد أن كل حيوان يضر وينفع، أعلم أن ذلك إنما هو بالله فقال‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد سواه أن يقدرني عليه‏.‏

ولما بين لهم بهذا أن سؤالهم عن الساعة وغيرها من المغيبات جهل منهم، لأن حاله واضح في أنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله الذي اختص بعلم الغيب، دل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏ولو كنت‏}‏ أي من ذاتي ‏{‏أعلم الغيب‏}‏ أي جنسه ‏{‏لا ستكثرت‏}‏ أي أوجدت لنفسي كثيراً ‏{‏من الخير‏}‏ باستجلاب المنافع بنصب أسبابها‏.‏

ولما كان الضر لا يحتمل منه شيء قال‏:‏ ‏{‏وما مسني السوء‏}‏ أي هذه الجنس بإقامة الموانع له عني لأن لازم إحاطة العلم شمول القدرة كما سيقرر إن شاء الله تعالى في سورة طه، ولما بين أن علم الغيب رتبة الإله، ختم الآيه ببيان رتبته، فقال قالباً ما أدعوه فيه من الجنون لما بان بقوله‏:‏ «يا بني عبد مناف‏!‏ اتقوا الله، يا بني فلان يا بني فلان» وكذا ما لزم عن إلزامهم له بعلم الساعة من أنه يكون إلهاً‏:‏ ‏{‏إن أنا إلا‏}‏ ولما كانت السورة للإنذار، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏نذير‏}‏ أي مطلقاً للكافر ليرجع عن كفره، والمؤمن ليثبت على إيمانه ‏{‏وبشير لقوم يؤمنون*‏}‏ أي خاصة، أو الصفتان لهم خاصة بالنظر إلى النفع، وأما ما لا نفع فيه فعدم‏.‏