فصل: تفسير الآيات رقم (3- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

ولما أنزل البراءة، أمر بالإعلام بها في المجمع الأعظم ليقطع الحجج، فقال عاطفاً ظهرة الجملة إلى مضمونها‏:‏ الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة‏:‏ ‏{‏وأذان‏}‏ أي وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل ‏{‏من الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات العظمة ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي عظمته من عظمته، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه؛ ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول، عداه بحرف الانتهاء فقال‏:‏ ‏{‏إلى الناس‏}‏ أي كلهم من أهل البراءة وغيرهم ‏{‏يوم الحج الأكبر‏}‏ قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ماهذا الإعلام‏؟‏ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، لا معمول لأذان‏:‏ ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة ‏{‏بريء من المشركين*‏}‏ أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم، قيل‏:‏ والذين وقعت البراءة منهم صنفان‏:‏ أحدهما كانت مدته دون أربعة أشهر فرفع إليها، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها، ومن لم يكن له عهد فهو أولى، ومن كان عهده محدوداً بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شراً أمر بإتمام عهده إلى مدته ‏{‏ورسوله‏}‏ أي بريء منهم، فهو موفوع عطفاً على المنوي في «بريء» أو على محل ‏{‏أن‏}‏ المكسورة واسمها عند من كسرها، وقرئ بالنصب عطفاً على اسم ‏{‏أن‏}‏ أو لأن الواو بمعنى مع، وبالجر على الجوار، وقيل‏:‏ على القسم- قال في الكشاف، قال‏:‏ ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال‏:‏ إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندما أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية، وروى الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي ملكية قال‏:‏ قدم أعرابي في زمان عمر رضي الله عنه فقال‏:‏ من يقرئني مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأقرأه رجل براءة فقال‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ بالجر، فقال‏:‏ أوقد بريء الله من رسوله‏؟‏ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه- يعني فسأله فأخبره- فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ليس هكذا يا أعرابي‏!‏ قال‏:‏ فكيف هي يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسولُه‏}‏ فقال الأعرابي‏:‏ وأنا والله أبرأ مما برئ الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة‏.‏

وأمر أبا الأسود فوضع النحو، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة أبي الأسود الدؤلي بسنده إليه أنه قال‏:‏ دخلت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت‏:‏ فيم تفكر يا أمير المؤمنين‏؟‏ فقال‏:‏ إني سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت له‏:‏ إن فعلت هذا بقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليّ صحيفة فيها‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، الفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل‏:‏ ثم قال‏:‏ تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة‏:‏ ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر، قال أبو الأسود الدؤلي‏:‏ فجمعت أشياء فعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن، فقال لي‏:‏ لم تركتها‏؟‏ فقلت‏:‏ لم أحسبها فيها، فقال بل هي منها فزدها فيها، وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين‏:‏ وقال أبو العباس محمد بن يزيد‏:‏ سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال‏:‏ تلقنته من علي بن أبي طالب، وفي حديث آخر‏:‏ ألقى إليّ أصولاً احتذيت عليها؛ وفي مختصر طباتهم للحافظ محمد بن عمران المرزباني‏:‏ كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضناً به بعد علي رضي الله عنه، فلما كان زياد وجه إليه أن عمل شيئاً تكون فيه إماماً وينتفع به الناس فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس، فدافع بذلك حتى مر يوماً بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ وحتى سمع رجلاً قال‏:‏ سقطت عصاتي، فقال‏:‏ لا يحل لي بعد هذا أن أترك الناس‏!‏ فجاء إلى زياد فقال‏:‏ أنا أفعل ما أمر به الأمير فليبتغ لي كاتباً حصيفاً ذكياً يعقل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر من ثقيف؛ وقال ابن الأنباري في كتاب الوقف‏:‏ حدثني أبي قال‏:‏ حدثنا أبو عكرمه قال‏:‏ قال العتبي‏:‏ كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول‏:‏ أمثل عبيد الله يضيع‏؟‏ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال‏:‏ يا أبا الأسود‏!‏ إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً فقال له‏:‏ اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه، ففعل ذلك‏.‏

فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسولِه‏}‏ فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال‏:‏ عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال‏:‏ يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليّ ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال‏:‏ خذ المصحف وصبغاً يخالف لون المداد، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك- انتهى‏.‏ ويوم الحج المذكور هنا للجنس، أي في جميع أيام الحج- قاله سفيان الثوري- كيوم صفين والجمل وبعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك، ولذلك نادى علي رضى الله عنه بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام، وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أنه يوم واحد فقال عمر رضي الله عنه وجماعة‏:‏ هو يوم عرفة، وروي مرفوعاً الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أبو موسى رضي الله عنه وجماعة‏:‏ هو يوم النحر، وقيل‏:‏ أيام الحج كلها- قاله سفيان بن عيينة قال ابن عطية‏:‏ والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها أيضاً يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا ايضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره؛ وبهذا يترجح قول سفيان- انتهى‏.‏ وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن يوم النحر، وقال في تفسيره أيضاً‏:‏ أخبرنا معمر عن الحسن قال‏:‏ إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر رضي الله عنه الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، ووافق أيضاً ذلك عيد اليهود والنصارى-‏.‏

ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب‏:‏ ‏{‏فإن تبتم‏}‏ أي عن الكفر والغدر ‏{‏فهو‏}‏ أي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب ‏{‏خير لكم‏}‏ أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين‏.‏

ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال‏:‏ ‏{‏وإن توليتم‏}‏ أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتهم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل ‏{‏فاعلموا‏}‏ أي علماً لا شبهة فيه ‏{‏أنكم غير معجزي الله‏}‏ أي لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال، والالتفات هنا مثله في ‏{‏فسيحوا‏}‏ والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك‏.‏

ولما واجههم بالتهديد، أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيراً لهم مخاطباً لأعلى خلقه مبشراً له في أسلوب التهكم بهم، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فبشر الغادرين بالخدلان، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم‏:‏ ‏{‏وبشر الذين كفروا‏}‏ أي أوقعوا هذا الوصف ‏{‏بعذاب أليم*‏}‏ أي في الدنيا والآخرة أو فيهما‏.‏

ولما أعلمهم بالبراءة وبالوقت الذي يؤذن بها فيه، وكان معنى البراءة منهم أنه لا عهد لهم، استثنى بعض المعاهدين فقال‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم‏}‏ أي أوقعتم بينكم وبينهم عهداً ‏{‏من المشركين ثم‏}‏ أي بعد طول المدة اتصفوا بأنهم ‏{‏لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ أي من الأمارات الدالة على الوفاء في أنفسهم كما نقض بنو الديل من بني بكر في قتالهم لخزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولم يظاهروا‏}‏ أي يعاونوا معاونة تظهر ‏{‏عليكم أحداً‏}‏ أي من أعدائكم كما ظاهرت قريش حلفاءهم من بني الدليل على حلفائكم من خزاعة ‏{‏فأتموا‏}‏ واشار إلى بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ أي وإن طالت؛ قال البغوي‏:‏ وهم بنو ضمرة حي من كنانة، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا؛ وقال النحاس‏:‏ ويقال‏:‏ إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة؛ وقال أبو محمد البستي‏:‏ حدثنا قتيبة قال‏:‏ ثنا الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال‏:‏ كان بين بني مدلج وخزاعة عهد، وهم الذين قال الله ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏‏.‏

ولما كانت محافظتهم على عهدهم من أفراد التقوى، وكان الأمر بالإحسان إلى شخص من أفعال المحب، قال تعالى معللاً‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يحب المتقين*‏}‏ أي يفعل بهم وبكم افعال المحب، فهو قول حاث للكل على التقوى، وكل ينزله على ما يفهم، فهو من الإعجاز الباهر‏.‏

ولما قرر أمر البراءة إثباتاً ونفياً، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال‏:‏ ‏{‏فإذا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه إذا ‏{‏انسلخ‏}‏ أي انقضى وانجرد وخرج ومضى ‏{‏الأشهر الحرم‏}‏ أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلاً لسياحتهم، والتعريف فيها مثله ‏{‏كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 15-16‏]‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً؛ قال البغوي‏:‏ قال الحسن بن الفضل‏:‏ هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء- انتهى‏.‏

ومعنى ‏{‏حيث وجدتموهم‏}‏ أي في حل أو حرم في شهر حرام أو غيره ‏{‏وخذوهم‏}‏ أي بالأسر ‏{‏واحصروهم‏}‏ أي بالحبس عن إتيان المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد ‏{‏واقعدوا لهم‏}‏ أي لأجلهم خاصة فإن ذلك من أفضل العبادات ‏{‏كل مرصد‏}‏ أي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو اغتيالاً من غير دعوة، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم‏:‏ ارصدوهم، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة «في» فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف- ذكره أبو حيان، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر ب «في» فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان‏.‏

ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم، بين ما يوجب الكف عنهم فقال‏:‏ ‏{‏فإن تابوا‏}‏ أي عن الكفر ‏{‏وأقاموا‏}‏ أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا ‏{‏الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ أي فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعاً لله تعالى وتركاً للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان ‏{‏فخلوا‏}‏ أي بسبب ذلك ‏{‏سبيلهم‏}‏ أي بأن لا تعرضوا لشيء مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف ‏{‏إن‏}‏ أي لأن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏غفور رحيم*‏}‏ أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين‏}‏ أي الذين أمرناكم بقتالهم ‏{‏استجارك‏}‏ أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة ‏{‏فأجره‏}‏ أي فآمنه ودافع عنه من يقصده بسوء ‏{‏حتى يسمع كلام الله‏}‏ أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس كلام الخلق‏.‏ ولما ذكر إجارته، وكان له بعدها توبة وإصرار‏.‏ وكان حال التائب قد ذكر، بين ما يفعل به إن أصر فقال‏:‏ ‏{‏ثم أبلغه‏}‏ أي إن أراد الانصراف ولم يسلم ‏{‏مأمنه‏}‏ أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير غدر ولا خيانه؛ قال الحسن‏:‏ هي محكمة إلى يوم القيامة؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم‏}‏ أي الأمر بالإجارة للغرض المذكور بسبب أنهم ‏{‏قوم لا يعلمون*‏}‏ أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم‏.‏

ولما كان الأمر بالنبذ مظنة لأن يعجب منه، عجب فقال‏:‏ فمن يتعجب منه‏؟‏ وأنكر عليه فقال‏:‏ ‏{‏كيف يكون للمشركين‏}‏ أي أهل العراقة في الشرك الذين توجب عراقتهم فيه ومحبتهم لظهوره نكثَ العهد الذي لا أقبح منه عند العرب ولا أشنع ‏{‏عهد عند الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال، فهو لا يحب النقض من أوليائه فكيف به من أعدائه ‏{‏وعند رسوله‏}‏ أي الذي هو أكمل الخلق وأوفاهم وأحفظهم للعهود وأرعاهم فهم أضداده فأعمالهم أضداد أعماله، وقد بدا منهم الغدر‏.‏

ولما كان استفهام الإنكار في معنى النفي، صح الاستثناء منه، فكأنه قيل‏:‏ لا يكون للمشركين عهد ‏{‏إلا الذين عاهدتم‏}‏ أي منهم كما تقدم ‏{‏عند المسجد الحرام‏}‏ أي الحرم يوم الحديبية، وهذا مما يدل على أن الاستثناء المتقدم من ‏{‏الذين‏}‏ في قوله ‏{‏براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏؛ قال البغوي؛ قال السدي والكلبي وابن اسحاق‏:‏ هم من قبائل بكر‏:‏ بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض، ولما استثنى، بين حكم المستثني فقال‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم‏}‏ أي ركبوا الطريق الأقوم في الوفاء بعهدهم ‏{‏فاستقيموا لهم‏}‏ والقول في ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بالجلال والجمال ‏{‏يحب المتقين*‏}‏ كما سبق‏.‏

ولما أنكر سبحانه ان يكون للمشركين غير المستثنين عهد، بين السبب الموجب للانكار مكرراً أداة الإنكار تأكيداً للمعنى فقال‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ أي يكون لهم عهد ثابت ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة فهم إن ‏{‏يظهروا عليكم‏}‏ أي إن يعل أمر لهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق ‏{‏لا يرقبوا‏}‏ أي لا ينظروا ويرعوا ‏{‏فيكم‏}‏ أي في أذاكم بكل جليل وحقير ‏{‏إلاًّ‏}‏ أي قرابة محققة ‏{‏ولا ذمة‏}‏ أي عهداً، يعني أن الأمر المبيح للنبذ خوف الخيانة، وعلام الغيوب يخبركم أنهم في غاية الخيانة لكم، والإل هذا‏:‏ القرابة- وهو قول ابن عباس، والمادة تدور على الألة وهي حربة في نصلها عرض، ويلزمها الصفاء والرقة والبريق، ويشبه به الإسراع في العدو، والثبات في نفسها، ومنه القرابة والعهد والتغير في وصفها، ومنه تغير رائحة الإناء وفساد الأسنان والصوت، ومنه الأنين والجؤار في الدعاء مع البكاء وخرير الماء والطعن والقهر-، ومنه‏:‏ إن هذا- أي كلام مسيلمة- ما يخرخ من إل، أي من ربوبية، وفي إل الله، أي قدرته وإلهيته‏.‏

ولما كان ذلك مظنة لأن يقال‏:‏ قد أكدوا لنا الأيمان وأوثقوا العهود، ولم يدعوا باباً من أبواب الاستعطاف، قال معللاً لما مضى مجيباً لمن استبعده‏:‏ ‏{‏يرضونكم‏}‏ وعبر بأقصى ما يمكن الكلام به من القلوب تحقيقاً لأنهم ليس في قلوبهم شيء منه فقال‏:‏ ‏{‏بأفواههم‏}‏ أي بذلك التأكيد، وصرح بالمقصود بقوله‏:‏ ‏{‏وتأبى قلوبهم‏}‏ أي العمل بما أبدته ألسنتهم، وقليل منهم من يحمله الخوف ونحوه على الثبات أو يرجع عن الفسق ويؤمن ‏{‏وأكثرهم فاسقون*‏}‏ أي راسخو الأقدام في الفسق خارجون- لمخالفة الفعل للقول- عما تريدونه، وإذا نقض الأكثر اضطر الأقل إلى موافقتهم‏.‏

ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم بتذكيرهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى أنهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض، فقال معبراً بما يفيد أنهم تمكنوا من ضد الإيمان تمكناً صار به كأنه في حوزتهم‏:‏ ‏{‏اشتروا‏}‏ أي لجوا في أهويتهم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فأخذوا ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي الذي لا شيء مثله في جلال ولا جمال على ما لها من العظم في أنفسها وبإضافتها إليه ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ من أعراض الدنيا فرضوا بها مع مصاحبة الكفر، وذلك أن أبا سفيان أطعمهم أكلة فنقضوا بها عهودهم ‏{‏فصدوا‏}‏ أي فسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا ‏{‏عن سبيله‏}‏ أي من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الدين أنفسهم ومن قدروا على منعه‏.‏

ولما دل على ما أخبر به من فساد قلوبهم، استأنف بيان ما استحقوه من عظيم الذم بقوله معجباً منهم‏:‏ ‏{‏إنهم ساء ما‏}‏ وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال‏:‏ ‏{‏كانوا يعملون*‏}‏ أي يجددون عمله في كل وقت، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عاصم بن عمر رضي الله عنه- والبخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه-، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام فبعث معهم نفراً ستة- وقال البخاري‏:‏ عشرة- وأمر عليهم عاصم بن ثابت فخرج معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع ماء لهذيل غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا‏:‏ إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحداً، فأما عاصم فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو ناس من أصحابه، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال رجل منهم‏:‏ هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة- يريد القتلى، فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه؛ فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما‏.‏

وقصة العرنيين الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقتلهم؛ وفي تاريخ ابن الفرات عن القتبي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لهم‏!‏ أذهب الله عقولهم، فهم أهل رعدة وكلام مختلط؛ ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم صلى الله عليه وسلم بغاية الإحسان أعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره، بل هم الذين انهزموا بالناس- كما نقله البغوي عن قتادة؛ وقال أبو حيان ويقال‏:‏ إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة-انتهى‏.‏ وقال الواقدي‏:‏ وخرج رجال مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتغادر منهم أحد على غير دين ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه، وقال هو وغيره‏:‏ فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش، وذكروا أنه عزم ناس منهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الله منعه منهم‏.‏

هذا بعض ما غدر فيه كفار العرب، وأما اليهود فكلهم نقض‏:‏ بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعاً ما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم كانوا قد اشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وهو التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان، فمدار خيانتهم على الوصف، فقال‏:‏ ‏{‏لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ‏}‏ أي قرابة وأصلاً جيداً ثابتاً ‏{‏ولا ذمة‏}‏ أي عهداً أكيداً ‏{‏وأولئك‏}‏ أي البعداء من كل خير ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة لتناهي عدوانهم ‏{‏المعتدون*‏}‏ أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على أن يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء‏:‏ أنا لهم جار‏.‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، فما نزلوا بئر معونه بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا وقالوا‏:‏ لن نخفر أبا براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم‏:‏ عصية ورعلاً وذكوان فقتلوهم فلم يفلت منهم إلا ثلاثة نفر عمرو بن أمية الضمري أحدهم، فعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ودعا على قتلتهم شهراً؛ قال البغوي‏:‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن أهل الطائف أمدوهم- يعني قريشاً- بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي أحكمه تعالى من نبذ العهد نظر للدين، لأنه نظر لجميع أهله الذين لا يوجد إلا بهم‏.‏

ولما بين ما أوجب بعدهم منهم ومعاداتهم لهم، بين ما يصيرون به أهلاً فقال ‏{‏فإن تابوا‏}‏ أي بالإيمان بسبب ما أبديتم لهم من الغلظة ‏{‏وأقاموا‏}‏ أي أيدوا ذلك بأن أقاموا ‏{‏الصلاة‏}‏ أي بجميع حدودها ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ أي كما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فإخوانكم‏}‏ أي هم، وبين أنها ليست أخوة النسب فقال‏:‏ ‏{‏في الدين‏}‏ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلا تعرضوا لهم بما يكرهونه‏.‏

ولما كان كأنه قيل بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل‏:‏ قد فصلنا لكم أمرهم في هذه الآيات تفصيلاً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ونفصل‏}‏ أي في كل أمر يحتاجون جميع ‏{‏الآيات‏}‏ وعظم هذه الآيات وحثم على تدبرها بقوله‏:‏ ‏{‏لقوم يعلمون*‏}‏ أي صار العلم لهم صفة فلهم ملكة يتصرفون بها في أصوله وفروعه، لا يغترون بمجرد كلام من شأنه الرداءة والمخالفة بين القول والعمل، والاعتراض بهذا بين هذه الجمل المتلاحمة إشارة إلى عظم الأمر الذي نبه عليه وتحريض على إنعام النظر فيه ليعلم أن مدخوله جليل الأمر عظيم القدر لئلا يظن أنه تكرار‏.‏

ولما بين السبب الموجب لمجازاتهم بجنس عملهم، وهو البراءة منهم وما يتبع ذلك إلى أن ختم بتقدير توبتهم، رجع إلى قسيم قوله ‏{‏فما استقاموا لكم‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ أي التي حلفوها لكم؛ ولما كان النقض ضاراً وإن قصر زمنه، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد عهدهم‏}‏ أي الذي عقدوه ‏{‏وطعنوا‏}‏ أي أوقعوا الطعن ‏{‏في دينكم‏}‏ أي بقول أو فعل‏.‏

ولما كان هذا الفعل لا يستقل به في الأغلب إلا الرؤساء، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فقاتلوا‏}‏ ووضع موضع ضميرهم تحريضاً على قتالهم وإشارة إلى أنهم ما نكثوا وأقدموا على هجنة الكذب ولم يستهجنوا الخروج عن عادات الكرام إلا وقد رسخوا في الكفر فقال‏:‏ ‏{‏أئمة الكفر‏}‏ ثم أشار- بقوله معللاً لجواز المقاتله‏:‏ ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ إلى أن ذلك ولو فعله الأتباع ولم يكفهم الرؤساء فهو عن تمال منهم فابدؤوا بالرؤوس فاقطعوها تنقطع الأذناب، وقراءة ابن عامر بالكسر معناها‏:‏ لا أمان لهم لأنهم قد نقضوا العهد الموجب له بما وقع منهم، ومن طعن من أهل الذمة في الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله، فإن العهد مأخوذ عليه أن لا يطعن، ثم علل المقاتله بقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم ينتهون*‏}‏ أي اجعلوا قصدكم لقتالهم أن يكون حالهم حال من ينتهي عن غيه بما يرى منكم من صادق الجد بماضي الحد، روى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله عنه قال‏:‏ ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده‏.‏

ولما نفى أيمانهم بنفي إيمانهم، شرع يقيم الدليل على ذلك بأمور ارتكبوها، كل منها بسبب باعث على الإقدام عليهم، ويحث على قتالهم في صورة تعجيب ممن يتواني فيه فقال‏:‏ ‏{‏ألا‏}‏ وهو حرف عرض، ومعناه هنا الحض لدخول همزة الإنكار على النافي فنفته فصار مدخولها مثبتاً على سبيل الحث عليه فهو ابلغ مما لو أثبت بغير هذا الأسلوب ‏{‏تقاتلون قوماً‏}‏ أي وإن كانوا ذوي منعة عظيمة ‏{‏نكثوا أيمانهم‏}‏ أي في قصة عاصم وأصحابه والمنذر وأصحابه والإعانة على خزاعة وغير ذلك، فكان النكث لهم عادة وخلقاً، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم ليكون ذلك زاجراً عن النقض، وكانت قصة خزاعة أنه كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة قتل في الجاهلية، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لما كان لهم فيه من المحبة من مسلمهم وكافرهم لما بينهم من الحلف- كما تقدم آخر الأنفال، ودخلت بنو بكر في عهد قريش فمرت على ذلك مدة، ثم إن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها، فكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، فخرج نوفل بن معاوية الديلي وهو يومئذ قائدهم؛ قال ابن إسحاق‏:‏ وليس كل بني بكر بايعه- وقال الواقدي‏:‏ واعتزلت بنو مدلج فلم ينقضوا العهد- حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتجاوزوا واقتتلوا وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً متنكرين منتقبين‏:‏ صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وأجلبوا معهم أرقاءهم، وكانت خزاعة آمنة لمكان العهد والموادعة‏.‏

ولما ذكرهم بمطلق نكثهم في حقهم عامة، وذكرهم بما خصوا به سيدهم بل سيد الخلق كلهم فقال‏:‏ ‏{‏وهموا بإخراج الرسول‏}‏ أي من مكة في عمرة القضاء، بل أمروه بالخروج عند انقضاء الثلاثة الأيام وألحو في ذلك وهو وإن كان قاضاهم على ذلك، لكن قد نقل ابن إسحاق وغيره في قصة النداء بسورة براءة أنه كان في القضية والعهد الذي كان بينه وبينهم أن لا يمنع من البيت أحد جاءه زائراً، ولعلهم هموا بإخراجه قبل الثلاثة الأيام لما داخلهم من الحسد عند ما عاينوا من نشاط أصحابه وكثرتهم وحسن حالهم، وذلك غير بعيد من أفعالهم، وإظهارهم التبرؤ به صلى الله عليه وسلم حتى اجترؤوا- وهو أعلى الخلق مقداراً، وأظهرهم هيئة وأنواراً وأطهرهم رسوماً وآثاراً- على الإلحاح عليه في الخروج من بلد آبائه وأجداده الذين هم أحقهم بها ومسقط رأسه وموضع مرباه، ولكن لم أراه مصرحاً به، وهوعندي على ما فيه أولى مما ذكروه من الهم بإخراجه عند الهجرة على ما لا يخفى، أو يكون المراد ما همّ به ابن أبي المنافق ومن تابعه من أصحابه من إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حيث قال في غزوة المريسيع‏:‏ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل بعد إعطائهم العهود على الإيواء والنصرة والإسلام، وذلك لتذكير المؤمنين بمسارعتهم إلى النقض بعد أن أثبت أنهم في الالتحام في كيد الإسلام كالجسد الواحد، فكأنه يقول‏:‏ إذا ترك هؤلاء إيمانهم فاولئك أحرى أن ينقضوا أيمانهم، وهو بعث للمؤمنين على التبرؤ من الكافرين منافقين كانوا أو مجاهرين مقاربين أو مباعدين‏.‏

ولما ذكرهم بالخيانة عامة وخاصة، أتبعها ما حققها بالقتال فقال‏:‏ ‏{‏وهم بدءوكم‏}‏ أي بتطابق من ضمائرهم وظواهرهم ‏{‏أول مرة‏}‏ أي بالقتال والصد في الحديبية بعد إخباركم إياهم بأنكم لم تجيئوا للقتال وأنكم ما جئتم إلا زواراً للبيت الحرام الذي الناس فيه سواء وأنتم أحق به منهم، وذلك أول بالنسبة إلى هذا الثاني مثل قوله ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ المراد بأول مرة قتالهم خزاعة، وهو واضح لأنه بعد عقد الصلح، وقيل‏:‏ في بدر بعد ما سلمت عيرهم وقالوا‏:‏ لا نرجع حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وقيل‏:‏ المراد به مطلق القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بالكتاب المنير ودعاهم بغاية اللين، وتحداهم به عند التكذيب، فعدلوا عن ذلك إلى القتال فهم البادئون البادئ أظلم‏.‏

ولما أمرهم بالقتال وكان مكرهاً إلى النفوس على كل حال‏.‏ شرع يبين الأسباب الحاملة على التواني عن قتالهم، وحصرها في في الخشية والعاطفة، وقسم العاطفة إلى ما سببه القرب في محاسن الأفعال وإلى ما سببه القرب في النسب والصهر، ونقض الكل وبين أنه لا شيء منها يصلح للسببية، فقال بادئاً بالخشية لأنها السبب الأعظم في ترك المصادمة منكراً عليهم موبخاً لهم ليكون أبلغ في الحث على قتالهم منبهاً على أن التواني عنهم مصحح للوصف بالجبن ورقة الدين‏:‏ ‏{‏أتخشونهم‏}‏ أي أتخافون أن يظفرون بكم في القتال بأن يكونوا على باطلهم أشد منكم على حقكم ‏{‏فالله‏}‏ أي الذي له مجامع العظمة ‏{‏أحق‏}‏ أي منهم ‏{‏أن تخشوة‏}‏ أي بأن يكون مخشياً لكم لما تعلمون من قدرته في أخذه لمن خالفه ولو بعد طول الأناة ‏{‏إن كنتم مؤمنين*‏}‏ أي فإن من صدق بانه الواحد الذي تفرد بصفات العظمة لم ينظر إلى غير هيبته‏.‏

ولما بكت في التواني عنهم، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم، فقال مصرحاً فيهم، فقال مصرحاً بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في ‏{‏ألا تقاتلون‏}‏ من الأمر‏:‏ ‏{‏قاتلوهم‏}‏ أي لله لا لغرض غيره ‏{‏يعذبهم الله‏}‏ أي الذي أنتم مؤمنون بأنه المتفرد بصفات الجلال والجمال ‏{‏بأيديكم‏}‏ أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم ‏{‏ويخزهم‏}‏ أي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى‏.‏

ولما كان ذلك قولاً لا يقتضي النصر الذي هو علو العاقبة قال‏:‏ ‏{‏وينصركم عليهم‏}‏ أي فترضوا ربكم بذلك لإذلالة من يعاديه بكم؛ ولما كان نكالهم بما ذكر يثمر لبعض المؤمنين سروراً لهم فيه حظ، بين تعالى أنه لا يؤثر في العمل بعد ثباته على أساس الإخلاص فقال‏:‏ ‏{‏ويشف‏}‏ أي بذلك ‏{‏صدور قوم مؤمنين*‏}‏ أي راسخين في الإيمان، أسلفوا إليهم مساوئ أوجبت ضغائن وإحناً كخزاعة وغيرهم ممن أعانوا عليه أو أساؤوا إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما كان الشفاء قد لا يراد به الكمال، أتبعه تحقيقاً لكماله قوله‏:‏ ‏{‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ أي يثبت بها من اللذة ضد ما لقوة منهم من المكروه، وينفي عنها من الألم بفعل من يريد سبحانه من أعدائهم وذل الباقين ما كان قد برح بها، ولقد وفى سبحانه بما وعد به، فكانت الآية ظواهر الدلائل‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ قاتلوهم فإنكم إن قاتلتموهم كان كذا، عطف سبحانه على أصل هذه الجملة قوله‏:‏ ‏{‏ويتوب الله‏}‏ أي الملك الذي له صفات الكمال ‏{‏على من يشاء‏}‏ أي منهم فيصيروا إخواناً لكم أولياء، والمعنى قاتلوهم يكن القتال سبباً لهذه الخمسة الأشياء، وأما التوبة فتارة تسبب عنه وتارة عن غيره، ولأجل احتمال تسببها عنه قرئ شاذاً بالنصب على أن الواو للصرف؛ ولما كان ما تضمنه هذا الوعد الصادق يدور على القدرة والعلم، وكان- العلم يستلزم القدرة، فكان التقدير‏:‏ فالله على كل شيء قدير، عطف عليه قوله ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة ‏{‏عليم‏}‏ أي بكل شيء وبمن يصلح للتوبة ومن لا يصلح وما في قلوبكم من الإقدام والإحجام لو برز إلى الخارج كيف كان يكون ‏{‏حكيم*‏}‏ أي أحكم جميع أموره، ولم يعلق الأحكام الشرعية من أفعالكم الكسبية إلا بما تعلق العلم به في حال ظهوره‏.‏

ولما كان التقدير- لما أرشد إليه تقاعدهم عن القتال وإدخال «أم» المرشد إلى أن مدخوله وسط الكلام فإن الابتداء له الألف وحدها‏:‏ وهل حسبتم أنه تعالى لا يعلم ذلك أو لا يقدر على نصركم‏؟‏ بنى عليه قوله موبخاً لمن تثاقل عن ذلك بنوع تثاقل‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ أي لنقص في العقل انه يبني الأمر فيه على غير الحكمة، وذلك هو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏أن تتركوا‏}‏ أي قارين على ما أنتم عليه من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن من المنافق ‏{‏ولما‏}‏ عبر بها لدلالتها- مع استغراق الزمان الماضي- على أن يتبين ما بعدها متوقع كائن ‏{‏يعلم الله‏}‏ أي المحيط بجميع صفات الكمال ‏{‏الذين جاهدوا منكم‏}‏ أي علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ جاهدوا مخلصين، ترجمه وبسطه بقوله ‏{‏ولم‏}‏ أي ولما يعلم الذين لم ‏{‏يتخذوا‏}‏ ويجوز أن يكون حالاً، ودل على تراخي الرتب عن مكانته سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي لا يعدل عنه ويرغب في غيره من له أدنى بصيرة- كما دل عليه الافتعال- لأنه المنفرد بالكمال، وأكد النفي بتكرير ‏{‏لا‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏ولا رسوله‏}‏ أي الذي هو خلاصة خلقه ‏{‏ولا المؤمنين‏}‏ أي الذين اصطفاهم من عباده ‏{‏وليجة‏}‏ أي بطانة تباطنونها وتسكنون إليها فتلج أسراركم إليها وأسرارها إليكم، فإن الوليجة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه، والرجل يكون في قوم وليس منهم وليجة، فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس، يقال‏:‏ هو وليجتي وهم وليجتي- للواحد والجمع- نقل ذلك البغوي عن أبي عبيدة، قال ابن هشام وليجة‏:‏ دخيلاً وجمعها ولائج، يقول‏:‏ لم يتخذوا دخيلاً من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون، يظهرون الإيمان للذين آمنوا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا‏:‏ إنا معكم‏.‏

والحاصل أنه لا يكون الترك بدون علم الأمرين حاصلين، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، فالمعنى‏:‏ ولما يكن مجاهدون مخلصون‏.‏

ولما كان ظاهر ذلك مظنه أن يتمسك به من لم يرسخ قدمه في المعارف، ختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏خبير بما تعملون*‏}‏ أي سواء برز إلى الخارج أو لا‏.‏

ولما حذرهم من اتخاذ وليجة من دونه، شرع يبين أن الوليجة التي يتخذها بعضهم لا تصلح للعاطفة بما اتصفت به من محاسن الأعمال مالم توضع تلك المحاسن على الأساس الذي هو الإيمان المبين بدلائلة، فقال سائقاً له مساق جواب قائل قال‏:‏ إن فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته وتعظيمه‏!‏ ‏{‏ما كان للمشركين‏}‏ عبر بالوصف دون الفعل لأن جماعة ممن أشرك أسلم بعد ذلك فصار أهلاً لما نفى عنهم ‏{‏أن يعمروا مساجد الله‏}‏ أي وهو المنزه بإحاطته بصفات الكمال؛ قال البغوي‏:‏ قال الحسن‏:‏ ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام، ثم قال في توجيه قراءة الجمع‏:‏ قال الحسن‏:‏ إنما قال‏:‏ مساجد الله، لأنه قبلة المساجد كلها- يعني فعامره عامر جميع المساجد، ويجوز أن يراد الجنس، وإذا لم يصلحوا لعمارة الجنس دخل المسجد الحرام لأنه صدر الجنس، وذلك آكد لأنه بطريق الكناية- قال الفراء‏:‏ وربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول‏:‏ أخذت في ركوب البراذين، ويقال‏:‏ فلان كثير الدرهم والدينار- انتهى‏.‏

فتحرر أن المعنى‏:‏ منعهم من إقامة شعائره بطواف أو زيارة أو غير ذلك لأنهم نجس- كما يأتي ‏{‏شاهدين على أنفسهم‏}‏ أي التي هي معدن الأرجاس والأهوية ‏{‏بالكفر‏}‏ أي بإقرارهم، لأنه بيت الله وهم يعبدون غير الله وقد نصبوا فيه الأصنام بغير إذنه وادعوا أنها شركاؤه، فإذن عمارتهم تخريب لتنافي عقدهم وفعلهم، قال البغوي‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ شهادتهم سجودهم للأصنام، وذلك أنهم كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطاً سجدوا لأصنامهم‏.‏

ولما نفي قبيحُ ما يفعلون حسن ما يعتقدون، أشار إلى بعدهم عن الخير بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ أي من العمارة والحجابة والسقاية وغير ذلك، فسدت ببطلان معانيها لبنائها على غير أساس ‏{‏وفي النار هم‏}‏ أي خاصة ومن فعل كفعلهم فهو منهم ‏{‏خالدون*‏}‏ أي بجعلهم الكفر مكان الإيمان‏.‏

ولما نفى عنهم أهلية العمارة، بين من يصلح لها فقال ‏{‏إنما يعمر مساجد الله‏}‏ أي إنما يؤهل لذلك القرب ممن له الأسماء الحسنى والصفات العلى حساً بإصلاح الذات ومعنى بالتعظيم بالقربات من قمها وتنظيفها ورمّ ما تهدم وتنويرها بالمصابيح الحسية وبالمعنوية من الذكر والقراءة- ودرس العلم أجلّ ذلك- وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث الدنيا ‏{‏من آمن بالله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي فكان من أهل المعرفة الذين تصح عبادتهم وتفيدهم، فإنها إنما تفيد في ذلك اليوم، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن هذه البراءة عن لسانه أخذت، فالإيمان بها إيمان به لا محالة، فعدم ذكره أقعد في إيجاب الإيمان به ‏{‏وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏ أي وأيد دعواه الإيمان بهذين الشاهدين، وذلك أن عمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها، بل الدلالة على رسوخ الإيمان، والصلاة أعظم عمارتها، والزكاة هي المعين لعمدتها على عمارتها‏.‏

ولما كان ربما فهم من قوله‏:‏ ‏{‏آمن‏}‏ أنه يكفي في الإيمان مجرد الإقرار باللسان، أعلم أنه لابد في ذلك من إيجاد التصديق حقيقة المثمر لخشية الله فلذلك قال‏:‏ ‏{‏ولم يخش‏}‏ أي في الأعمال الدينية ‏{‏إلا الله‏}‏ أي ولم يعمل بمقتضى خشية غير الملك الأعظم من كف عما يرضي الله بما فيه سخطه، بل تقدم على ما انحصر رضى الله فيه ولو أن فيه تلفه، وحاصله أنه يقدم خشيته من الله على خشيته من غيره، فهو يرجع إلى قوله ‏{‏فالله أحق أن تخشوه‏}‏ ولكن هذا أبلغ لكونه نفى نفس الخشية وإن كان المراد نفي لازمها عادة، وفيه تعرض لهم بأنهم لا يصلحون لخدمته لأنهم يخافون الأصنام ويفعلون معها بعبادتها فعل من يخافها؛ ولما سبب عما مضى نفياً وإثباتاً أن المتصف بهذه الأصاف يكون جديراً بالهداية وحقيقاً بها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فعسى أولئك‏}‏ أي العالو الهمم ‏{‏أن يكونوا‏}‏ أي جبلة ورسوخاً ‏{‏من المهتدين*‏}‏ فأقامهم- مع ما قدم لهم من الكمال بالمعارف والأفعال- بين الرجاء والخوف مع الإشارة بإفراد الخشية إلى ترجيح الخوف على الرجاء إيذاناً بعلو أمره وعظيم كبره إشارة إلى أنه لا حق لأحد عليه وأنه إن شاء أثاب، وإن أراد حكم- وهو الحكم العدل- بالعقاب، لا يسأل عما يفعل، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وعزة المرام، ومادة عسى بجميع تصاريفها تدور على الحركة، وهذه بخصوصها للأطماع، والحاصل أن من اتصف بالأوصاف الأربعة كان صالحاً وخليقاً وجديراً وحقيقاً بان يتحرك طمعه ويمتد أمله إلى أن يكون من جملة أهل الهدى، فكيف توجبون أنتم لمن لم يتصف بواحد منها ما يختص به المهتدون من الموالاة، هكذا كان ظهر لي أولاً في مدار المادة، ثم ظهر لي أن ذلك في أكثر تقاليبها، مع إمكان أن يكون غيره للإزالة، وأن الشامل لها- يائية وواوية بتقاليبها العشر‏:‏ عسى، عيس، سعى يسع، عسو، عوس، سعو، سوع، وسع، وعس- أنها لما يمكن أن يكون، وهو جدير وخليق بأن يكون، من قولهم‏:‏ أعس به- أي أخلق‏.‏

وبالعسى أن يفعل- أي بالحري، وإنه لمعساة بكذا- أي مخلقه، وبهذا فسرها سيبويه‏:‏ قال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح لأبي علي‏:‏ وقال سيبويه‏:‏ إن عسى بمنزلة اخلولق، والمعساء كمكسال‏:‏ الجارية المراهقة لأنها جديرة بقبول النكاح، ومن ثمَّ اتت للطمع والإشفاق، وقد يزيد الرجاء فيطلق على القرب فيكون مثل كاد، وقد يشتد فيصل إلى اليقين فنستعمله حينئذ في معنى كان، ومنه‏:‏ عسى الغوير ابؤساً لكن قال الرضى‏:‏ وأنا لا أعرف عسى في غير كلامه تعالى لليقين‏.‏ وقد يضعف الرجاء فيصير شكاً، ومنه المعسية كمحسنة للناقة، قد شك أبها لبن أم لا، وعسى النبات- كفرح ودعا‏:‏ غلظ ويبس، أي صار خليقاً لأن يرعى وأن يقطع، واليد من العمل مثله، أي فصارت جديرة بالصبر على المشاق، والعاسي، والنخل‏:‏ لأنه جدير بكمال ما يطلب منه من المنافع، وعسي الشيخ كرضي عساء وعسا كدعا يعسو‏:‏ كبر، أي صار خليقاً بالموت وبأن لا يتعلم ما لم يكن في غريزته، وكذا عسى وعسا الإنسان عن الأدب، أي كبر عنه، والعود يبس وصلب واشتد أي فصار خليقاً لما يراد منه، والليل‏:‏ اشتدت ظلمته، فصار جديراً بمطابقة اسمه لمسماه وبتغطية الأمور، والعسو‏:‏ الشمع، كأنه لإزالته ظلمة الليل بنوره إذا أحرق، وعسي بالشيء كفرح‏:‏ لزمه، أي فصار جديراً بإضافته إليه؛ والعيس- بالفتح‏:‏ ضراب الفحل ويقال‏:‏ ماؤه لأنه جدير بالإنتاج، والعيس- بالكسر؛ الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، وجمل وظبي أعيس وناقة عيساء، لأنها خليقة بكل محمدة لحسن لونها، وتعيست الإبل صارت بياضاً في سواد كذلك أيضاً وعيساء‏:‏ امرأة والأنثى من الجراد، لشبهها بلون العيس، وأعيس الزرع إذا لم يكن فيه رطب، لأنه صار حقيقاً بالحصاد، والعوس- بالفتح- والعوسان‏:‏ الطوفان بالليل، لأنه جدير ببلوغ المقاصد، وبالضم‏:‏ ضرب من الغنم وهو كبش عوسي، إلحاقاً لها بالعيس لكنها لصغرها اختير لها الضم جبراً لها وتقوية وتفاؤلاً بالكبر، واختير للإبل الكسر تفاؤلاً بسهولة القياد، وبالتحريك‏:‏ دخول الشدقين عند الضحك وغيره‏:‏ تشبيهاً بالغنم، فكأنه جدير بأن يترك ما يحدث منه ذلك من الضحك وغيره، والنعت أعوس وعوساء، وعاس على عياله‏:‏ كد عليهم وكدح، وعياله‏:‏ قاتهم، وماله عوساً وعياسة‏:‏ أحسن القيام عليه فعمل بما هو الأليق به في كل ذلك والعواسة- بالضم‏:‏ الشربة من اللبن وغيره، لأنها جديرة بالري، والأعوس‏:‏ الصقيل والوصّاف للشيء، لأنه جدير بإظهار الخبء، والعوساء كبراكاء‏:‏ الحامل من الخنافس، لأنها في تلك الحالة أجدر بما تفهمه مادتها من الكراهة فإنه يقال‏:‏ خنفس عن القوم‏:‏ كرههم وعدل عنهم، والخنافس- بالضم‏:‏ الأسد، لأنه جدير بأن يكره ويعدل عنه؛ والسعي‏:‏ عدو دون الشد وكل عمل سعي؛ قال في القاموس‏:‏ سعى كرعى‏:‏ قصد وعلم ومشى وعدا ونمّ وكسب، وكل ذلك يكون جديراً بدرك حاجته، والسعاية‏:‏ مباشرة عمل الصدقات التي بها يدرك الإمام أخذ الحقوق، فيكون خليقاً بإغناء الفقراء، وسعت الأمة‏:‏ بغت، فكانت خليقة بعمل الإماء عند العرب، وساعاها‏:‏ طلبها للبغاء، وأسعاه‏:‏ جعله يسعى، والمسعاة‏:‏ المكرمة والمعلاة في أنواع المجد، لأنها جديرة بأن يسعى لها، واستسعى العبد‏:‏ كلفه من العمل ما يؤدي به عن نفسه إذا عتق بعضه ليعتق به ما بقي لأنه جدير بذلك، والسعاية- بالكسر‏:‏ ما كلف من ذلك؛ والسيع‏:‏ الماء الجاري على وجه الأرض، وقد انساع- إذا جرى، لأن الماء خليق بالجري والحركة، وساع الماء والشراب‏:‏ اضطرب على وجه الأرض، وسيعاء من الليل وكسيراء‏:‏ قطع منه، كأنه ينظر إلى الساعة وهي جزء، هو لنفاسته خليق بأن يحفظ ولا يضيع وأن يتدارك إن ضيع، والسياع- بالفتح‏:‏ ما يطين به، والشحم تطلى به المزادة، كأنه يمنع ما هو خليق بالجري، وقد سيعت الجب- إذا طينته بطين أو جص؛ وكذلك الزق والسفن إذا طليت بالقار، والمسيعة‏:‏ خشبة مملسة يطين بها تكون مع حذاق الطيانين، والتسييع، التطيين بها تكون مع حذاق التدهين، وقال القزاز‏:‏ والسياع‏:‏ تطيينك بالجص أو الطين أو القير، تسيع به السفن، والسياع‏:‏ شجر العضاه له ثمر كهيئة الفستق وشجر اللبان، وكل منها خليق بالرغبة فيه، والمسياع؛ الناقة تذهب في المرعى، كأنها شبهت بالماء الجاري، وهي أيضاً خليقة بالسمن، والتي تحمل الضيعة، وسوء القيام عليها، والتي يسافر عليها ويعاد، لأنها خليقة بأن يرغب فيها فيها وأساعة‏:‏ أهمله، أي أزال ما هو خليق به من الحفظ فصار خليقاً بالهلاك، والسعوة- بالكسر‏:‏ الساعة كالسعواء بالكسر والضم- وقد تقدم تخريجها- والمرأة البذية الخالعة، كأنها جديرة بسرعة الفراق كالساعة، والساعي‏:‏ الوالي على أي أمر وقوم كان، ولليهود والنصارى‏:‏ رئيسهم، لأنه خليق بأن يسعى عليهم ويذب عنهم، والسعاة‏:‏ التصرف، لأن الإنسان جدير به، وسعيه علم للعنز، لأنها خليقة بالسعي، والسعاوي- بالضم‏:‏ الصبور على السهر والسفر، نسبة إلى السعي على وجه بليغ وهو خليق بأن يرغب فبه، وأسعوا به، أي طلبوه بقطع همزتها، والساعة‏:‏ جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والقيامة، لأن كل ذلك جدير وحقيق بالاحتفاظ من إضاعته، والهالكون كالجاعة للجياع، كأنهم أضاعوا ساعتهم فكانوا جديرين بما حصل لهم، وساعة سوعاء‏:‏ شديدة، وساعت الإبل تسوع‏:‏ بقيت بلا راع، فصارت جديرة بالهلاك والضياع، وأساعه‏:‏ أهمله وضيعه، فصار كذلك، ومنه ناقة مسياع‏:‏ تدع ولدها حتى يأكله السباع، وبعد سوع من الليل وسواع، أي هدوئه، وأسوع‏:‏ انتقل من ساعة إلى ساعة فصار جديراً بأن يتحفظ فيتدارك في الثانية ما فاته في الأولى، وأسوع الحمار‏:‏ أرسل غرموله، فصار جديراً بالنزوان، وسواع‏:‏ اسم صنم عبد في عهد نوح عليه السلام، غرقه الطوفان فاستثاره إبليس حتى عبد أيضاً، لأنه كان خليقاً- عندهم وفي زعمهم- بما أهّلوه له- تعالى الله عن ذلك‏!‏ والوسع مثلثة‏:‏ الجدة والطاقة كالسعة، ومعناها الخلاقة بالاحتمال، وسعه الشيء- بالكسر- يسعه كيضعه سعة كدعة وزنة‏:‏ كان جديراً باحتماله، واللهم سع علينا، أي وسع، وليسعك بيتك، أمراً بالقرار فيه، وهذا الإناء يسع عشرين كيلاً، أي يتسع لها، والواسع‏:‏ ضد الضيق- كالوسيع، وفي الأسماء الحسنى‏:‏ الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل، أو المحيط بكل شيء أو الذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته كل شيء، والوساع كسحاب‏:‏ الندب، وهو الخفيف في الحاجة الظريف النجيب، لأنه جدير بما يندب له، ومن الخيل‏:‏ الجواد أو الواسع الخطو والدرع- كالوسيع، وقد وسع ككرم وساعة وسعة وأوسع‏:‏ صار ذا سعة، والله عليه‏:‏ أغناه، وتوسعوا في المجلس‏:‏ تفسحوا، فصاروا جديرين باحتمال الداخل بينهم، ووسعه توسيعاً ضد ضيقه، ورحمة والله وسعت كل شيء، اي أحاطت به، ووسع كل شيء علماً، أي أحاط به وأحصاه؛ والوعس كالوعد‏:‏ شجر تعمل منه البرابط والعيدان، لأنه أحق الأشجار بذلك، والرمل السهل يصعب فيه المشي، لأنه يرى لسهولته خليقاً بأن يمشى فيه، وإذا حقق النظر كان خليقاً بصعوبة المشي لكونه رملاً، وأوعس ركبه، والوعساء‏:‏ رابية من رمل لينة تنبت أحرار البقول، لأنها للينها حقيقة من بين روابي الرمل بالنبت، ومكان أوعس وأمكنه وعس، والميعاس‏:‏ ما تنكب عن الغلظ، فهو جدير بالمشي فيه، والأرض؛ لم توطأ، فهي جديرة بالكف عن سلوكها، والطريق، لأنه جدير بأن يسلك، قال في القاموس‏:‏ كأنه ضد، والمواعسة‏:‏ ضرب من سير الإبل، كأنه وسط فهو جدير بالخير والمباراة في السير، أو لا تكون إلا ليلاً؛ وقال القزاز‏:‏ توعست في وجهه حمرة أو صفرة، أي كانت خليقة بالظهور، قال‏:‏ وإذا ذكروا الرملة قالوا‏:‏ وعساء، وإذا ذكروا الرمل قالوا‏:‏ أوعس- هذا ما في تنزيل الجزيئات من اللغة على مدار هذه المادة، وأما كلام أهل العربية في قواعد «عسى» الكلية فقال أبو عبد الله القزاز‏:‏ هو فعل لا ينصرف فلا تقول؛ يعسى، ولا هو عاسٍ، وقال عبد الحق الإشبيلي‏:‏ ولا يأتي منه مستقبل ولا فاعل ولا مفعول ولا مصدر قال القزاز‏:‏ ويصحبه «أن» ويجوز حذفها، و«أن» وما بعدها بمعنى المصدر وهي في موضع نصب، ولا يقع بعدها المصدر ولا اسم الفاعل، وإنما جاء هذا في مثل العرب‏:‏ عسى الغوير أبؤساً، وأبؤس جمع بأس، وهذا يدل على أن خبر عسى في موضع نصب، وقال في القاموس‏:‏ والأبؤس‏:‏ الداهية، ومنه عسى الغوير أبؤساً، أي داهية، قال أبو عبيد في الغريب‏:‏ كأنه أراد‏:‏ عسى الغوير أن يحدث أبؤساً وأن يأتي بأبؤس، فهذا طريق النصب، ومما يبينه قول الكميت‏:‏

قالوا أساء بنو كرز فقلت لهم *** عسى الغوير بإبآس وإغوار

وقال شارح الجزولية أبو محمد بن الموفق‏:‏ لما كانت للرجاء دخلها معنى الإنشاء فلم تتصرف، لأن تصرفها ينافي الإنشاء لأنها إذا تصرفت دلت على الخبر فيما مضى والحال والاستقبال، وذلك ينافي معنى الإنشاء الذي لا يصلح لماض ولا مستقبل، وقال بعض المتأخرين‏:‏ عسى موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال وهو على لفظ الماضي فاحتيج إلى «أن» بعده إذ لا مستقبل له، وذهب بعضهم إلىأن عسى حرف لعدم تصرفها ولا معناها في غيرها، والصحيح أنها فعل لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر، أي للحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة، وأما معنى فلأنه إخبار عن طمع وقع للمتكلم، وجعل لفظها بلفظ الماضي لأن الطمع قد وقع، وإنما المطموع هو الذي يتوقع وينتظر، وأدخل «أن» على المطموع فيه لأنه لم يقع بعد، وجردت أخواتها عن «أن» لأن خبرها محقق في الحال إذ قد شرع فيه إلا «كاد» فإنها للمقاربة في الجملة؛ وقال ابن هشام المصري في توضيحه‏:‏ ويجب كون خبرها جملة، وشذ كونه مفرداً نحو عسى الغوير أبؤساً، ويكون الاسم مرفوعاً بعسى وأن، والفعل في موضع نصب على الخبر، وقال الرضى‏:‏ إنما لم يتصرف في عسى لتضمنها معنى الحرف، أي إنشاء الطمع والرجاء، وقوله‏:‏ أبؤساً وصائماً، لتضمن عسى معنى كان فأجري مجراه ومذهب المتأخرين أن عسى ترفع الاسم وتنصب الخبر ككان، وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي‏:‏ الأفعال موضوعة للتصرف من حيث كانت مقسمة بأقسام الزمان، ولولا ذلك لأغنيت المصادر عنها، ولهذا قال سيبوبة فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم ينقطع، ولما خالفت هذه الأفعال- يعني عسى ونعم وبئس وفعل التعجب- سائر الأفعال في الدلالة ترك تصرفها أبداً بما أريدت له من المبالغة فيما جعلت دالة عليه، فمعنى عسى الطمع والإشقاق- كذا قال سيبوية، ولما اختصت بهذا المعنى ترك تصرفها، قال الرماني‏:‏ منعت ذلك حملاً على «لعل» كما حملت «ما» على «ليس» والأول أولى لأنه ليس ينبغي أن يحمل باب الأفعال على الحروف، ولأن الأفعال في بابها بمنزلة الحروف في بابها في لزوم البناء، وإنما الأسماء تحمل عليها كما تقول في قطام وحزام‏:‏ إنه بني لوقوعه موقع الفعل، وأن أسماء الاستفهام بنيت لوقوعها موقع الحرف ولا تقول في الأفعال إنها بنيت حملاً على الحروف ولا الحروف بنيت حملاً على الأفعال، بل كل منهما أصل فكذلك التصرف، ليس امتناعه لحمله على الحرف وجريه مجراه، وعسى من أخوات «كان» وإنما لم تذكر معها للمخالفة بترك التصرف وبلزوم «أن» الخبر وبكون فعلاً، ويدل على أنها من أخوات «كان» عسى الغوير أبؤساً، فقد انكشف الأصل كما انكشف أصل أقام وأطال ونحوه بقوله‏:‏

صددت وأطولت الصدود وقلما *** وصل على طول الصدود يدوم

ولزوم الفعل بخبرها لجعله عوضاً من التصرف الذي كان ينبغي أن يكون لها، وأما لزوم «أن» فلما أريد من صرف الكلام إلى تأويل الاستقبال لأن «أن» تخلص إليه، والبيت الممثل به فيه شيء طريف، وهو مصدر مجموع واقع موقع مصدر واقع موقع فعل، والمصادر في أصلها لا تجمع ولكنه ضرورة ومثل، فالأصل أن «بأس» ثم أبؤساً- انتهى كلام العبدي، وعندي أنه عند ما يقوى المعنى الذي سقيت له من طمع أو إشفاق يجعل خبرها اسماً تنبيهاً على أنها الآن بمنزلة كان لما اشتد من شبهها لها بذلك؛ قال أبو طالب‏:‏ وإذا وليها «أن» والفعل كان في موضع رفع، وسد طول الكلام مسد الخبر، ومعناها الذي هو الإشفاق والطمع قريب من المقاربة في كاد، فلذلك حذف «أن» من خبرها حملاً لها على كاد كما جوزوا دخول «أن» في خبر كاد حملاً لها على عسى؛ وقال شارح الجزولية‏:‏ وحذف «أن» من خبر عسى أكثر من إلحاق «أن» في خبر «كاد» لمقاربة كاد ذات الفعل، و«أن» تنافي ذلك، قال‏:‏ ومن الفرق بينهما أن عسى لا يضمر فيها ضمير الشأن والقصة لشبهها بالحرف لعدم تصرفها، وتضمر في كاد لتصرفها، ثم رجح أنه يضمر فيها وإن لن تتصرف كما أضمر في نعم وبئس وقال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح أيضاً‏:‏ إن سيبويه قدر عسى بقارب، أي فترفع وتنصب لأن قارب متعد، وقدرها بقرب، أي فلا تنصب لعدم تعديه، قال‏:‏ ولا تدخل عسى على الماضي؛ قال أبو علي‏:‏ لأنها للاستقبال المحض ولذلك وقع بعدها «أن» فلا تصلح للماضي بوجه؛ وقال شارح الجزولية‏:‏ عسى لها مع الظاهر مذهبان‏:‏ أحدهما أن تكون ناقصة بمعنى كان الناقصة، تحتاج إلى اسم وخبر إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون فعلاً، وأصله أن يكون اسماً مثل خبر كان إلا أنه عدل عنه إلى الفعل تنبيهاً على الدلالة على ما هو المقصود من الرجاء وتقوية لما يفيده الرجاء من الاستقبال، وشبهت في هذا الوجه ب «قارب زيد الخروج» تحقيقاً لبيان الإعراب، لا في المعنى، لأن «قارب زيد الخروج» ليس فيه إنشاء رجاء ولا غيره، وإنما هو تمثيل لتقدير الإعراب اللفظي لأنه أصلها أن تكون كذلك، وإنما طرأ عليها إنشاء الرجاء كما كان ذلك في التعجب ونعم وبئس وغيرهما؛ والمذهب الثاني أن تأتي تامة فتستعمل استعمال «قرب» فتدخل على «أن» مع الفعل فتقول‏:‏ عسى أن يقوم زيد، واستغنى فيها- بأن والفعل- عن الخبرين كما استغنى في «ظننت أن يقوم زيد» عن المفعولين، وذلك لاشتماله على مسند ومسند إليه، وهو المقصود بهذه الأفعال، فإذا قلت‏:‏ زيد عسى أن يقوم، احتمل أن تكون الناقصة فيكون فيها ضمير يعود على زيد هو اسمها و«أن» مع الفعل خبرها، ويحتمل أن تكون التامة فلا يكون فيها ضمير وكون «أن» مع الفعل فاعلها؛ وقال ابن الخباز الموصلي في كتابه النهاية في شرح كفاية الكفاية‏:‏ عسى للطمع للمبالغة في الطمع، فلا يكون خبرها ماضياً لأن معناها الرجاء والطمع، والماضي لا يطمع فيه ولا يرجى لحصوله، واستدل على أنها لا تستعمل إلا في المستقبل بقول بعض شعراء الحماسة‏:‏

عسى طيئ من طيئ بعد هذه *** ستطفئ غلات الكلى والجوانح

فأتى بالسين لأنه لم يمكنه الإتيان ب «أن» في الشعر؛ وقال شارح الجزولية ما معناه‏:‏ إنه التزم في خبرها الفعل للدلالة على الاستقبال وألزم «أن» تقوية لذلك، ولهذا لم يكن خبرها اسماً وإن كان أصله أن يكون اسماً إذ لا دلالة للاسم على الزمان، ولم يوضع مكانها السين وسوف لأنهما يدلان على تنفيس في الزمان والغرض هنا تقريبه، وقد يجيء في الشعر قليلاً- وأنشد البيت المذكور؛ وقال ابن الخباز‏:‏ ودخول الاستفهام عليها يؤذن بأنها ليست للطمع لأن الاستفهام لا يدخل على الطمع ولا على ما ليس بخبر، فدخول هل عليها مما يؤذن بأنها خبر- انتهى‏.‏ فتفسيرها بما ذكرته- من أنها لما يمكن أن يكون وهو خليق بأن يكون- أول، ويكون الطمع لازماً لمضمون الكلام لا أنه مدلولها بالمطابقة- والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره، أنكر على من لم يفرق بين الصنفين فقال‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ أي مجردة عن الإيمان ‏{‏وعمارة المسجد الحرام‏}‏ أي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معاداتهم ‏{‏كمن آمن بالله‏}‏ أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ أي الحاث خوفه على كل خير ‏{‏وجاهد في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء، فالآية على قراءة الجماعة من الاحتباك‏:‏ حذف أولاً المشبه به لدلالة المشبه عليه وثانياً المشبه لدلالة المشبه به عليه، وأما على رواية نسي بن وردان عن أبي جعفر شاذاً‏:‏ سقاة وعمرة- بالجمع فلا يحتاج إلى تقدير‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ كنا نظن ذلك فما حالهم‏؟‏قال‏:‏ ‏{‏لا يستوون عند الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمان ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ‏{‏لا يهدي القوم الظالمين*‏}‏ أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها، والكفر أعظم الظلم، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن باشروا جميع أفعال المهتدين ما عدا الإيمان، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية‏.‏

ولما نفى عنهم المساواة من غير تصريح بأهل الترجيح ليشتد التشوف إلى التصريح فيكون اثبت في النفس وأوقر في القلب، كان كأنه قيل‏:‏ فمن الراجح‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوقعوا هذا الفعل، وهو إيمان المخاطب من أن يكذبوه بشيء مما يخبر به عن الله، وقصر الفعل وهو في الأصل متعد ليفيد أنه لا إيمان غير هذا، وإن وجد غيره فهو عدم بالنسبة إليه، وكذا كل فعل قصر فهو على هذا المنوال ليشار به إلى أنه لعظيم نفعه لا فعل من جنسه غيره ‏{‏وهاجروا وجاهدوا‏}‏‏.‏

ولما كان المحدث عنه فيما قبل المجاهد في سبيل الله، اقتضى المقام تقديمه على الآلة بخلاف ما في آخر الأنفال فإن المقام اقتضى هناك تقديم المال والنفس لما تقدم من موجبه في غير آية- كما سلف بيانه، وأيضاً ففي هذا الوقت كان المال قد كثر، ومواضع الجهاد قد بعدت، فناسب الاهتمام بالسبيل فلذا قدم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي مخلصين له لأنه الملك الذي لا كفؤ له، ثم أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ فصرح بالنفس ترغيباً في المباشرة بها ‏{‏أعظم درجة‏}‏ أي من جهة ارتفاع الدرجة، وهي الفضيلة المقربة إلى الله‏.‏

ولما لم يكن العبرة إلا بما عنده سبحانه، لا بما عند الناس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أي الملك الأعظم من أهل السقاية وما معها من غير إيمان مدلول عليه بشواهده، وإنما لم يذكر المفضل عليه ليفيد أن فضيلتهم على الإطلاق، فيكون المفضل عليه من جملة المدلول عليه، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وصعوبة المرام؛ وأفهم هذا أن تلك الأفعال شريفة في نفسها، فمن باشرها كان على درجة عظيمة بالنسبة إلى من لم يباشرها، ومن بناها على الأساس كان أعظم؛ ثم بين ما يخص أهل حزبه فقال‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي العالو التربة ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة لا أنتم أيها المفاخرون مع الشرك ‏{‏الفائزون*‏}‏ أي بالخير الباقي في الدارين دون من عداهم وإن فعل من الخيرات ما فعل، لأنهم ترقوا من العبدية إلى العندية‏.‏

ولما بين أن جزاء أولئك الخلود في النار، بين ما لهؤلاء، فقال مفسراً لفوزهم‏:‏ ‏{‏يبشرهم ربهم‏}‏ أي المحسن إليم بهدايتهم واجتبائهم‏.‏ وناهيك بهذه البشارة الدالة على علو مقامهم لأنها بلا واسطة، وكون البشارة على قدر المبشر دال أن هذه البشارة بشارة عظيمة لا نهاية لها ولا يحاط بمعرفة مقدارها ‏{‏برحمة‏}‏ أي عظيمة، وزادها عظماً بقوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ وذلك إشارة إلى أنه لا نجاة بدون العفو؛ ثم أخبر بأن الرحمة كما أثمرت العفو الذي هو أدنى المنازل أسعدت بأعلاها فقال‏:‏ ‏{‏ورضوان‏}‏ أي بأن يكون راضياً عن الله للرضى بقضاء الله وذلك يكون إذا قصر نظره على الله فإنه لا يتغير أبداً بقضاء من أقضيته كما أن الله- الذي هو راحمه- لا يتغير، ومن كان نظره لطلب حظ له كان أبداً في تغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الراحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا للراضي بقضاء الله ويكون الله راضياً عنه فتكون نفسه راضية مرضية، ولهذا لم يقيده ب «منه» وهذان في الدنيا والآخرة‏.‏

ولما ذكر هذه الجنة الروحانية المنعم بها في الدنيا، أتبعه بيان الجنة الروحانية البدنية الخاصة بالدار التي فيها القرار فقال‏:‏ ‏{‏وجنّات‏}‏ أي بساتين كثيرة الأشجار والثمار ‏{‏لهم فيها نعيم‏}‏ أي عظيم جداً خالص عن كدر ما، ودل على الخلود بقوله‏:‏ ‏{‏مقيم*‏}‏ ثم صرح بخلودهم فيها بلفظ الخلود ليكون أقر للنفس فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ وحقق أمره بقوله‏:‏ ‏{‏أبداً‏}‏ ثم استأنف المدح لذلك مؤذناً بالمزيد بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الغنى المطلق والقدرة الكاملة ‏{‏عنده أجر عظيم*‏}‏ وناهيك بما يصفه العظيم دالاًّ بالعظم، وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونه بالتعظيم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب، لأن إيمانهم أعظم الإيمان‏.‏

ولما فرغ من العاطفة بمحاسن الأعمال، شرع في العاطفة بالأنساب والأموال، وقدم الأول إشارة إلى أن المجانسة في الأفعال مقدمة على جميع الأحوال، ولما كان محط الموالاة المناصرة، وكانت النصرة بالآباء والإخوان أعظم من النصرة بغيرهم، لأن مرجعها إلى كثرة الأعوان والأخدان، اقتصر عليها فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بألسنتهم بالإيمان بربهم معرضين عما سواه من الأنداد الظاهرة‏!‏ صدقوا ادعاءكم ذلك بأن ‏{‏لا تتخذوا‏}‏ أي تتعمدوا وتتكلفوا أن تأخذوا ‏{‏آباءكم وإخوانكم أولياء‏}‏ أي على ما يدعو إليه الطباع وتقوية الأطماع فتلقوا إليهم أسراركم وتؤثروا رضاهم والمقام عندهم ‏{‏إن استحبوا‏}‏ أي طلبوا وأوجدوا أن أحبوا ‏{‏الكفر‏}‏ وهو تغطية الحق والتكذيب ‏{‏على الإيمان‏}‏ نبه بصيغة الاستفعال على أن الإيمان لكثرة محاسنه وظهور دلائله معشوق بالطبع، فلا يتركه أحد إلا بنوع معالجة ومكابرة لعقله ومجاهدة‏.‏

ولما كان أعز الأشياء الدين، وكان لا ينال إلا بالهداية، وكان قد تقدم سلبها عن الظالم، ورهبهم من انتزاعه بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتولهم‏}‏ أي يتكلف أن يفعل في أمرهم ما يفعل القريب مع قريبه ‏{‏منكم‏}‏ أي بعد ما أعلمكم الله في أمرهم مما أعلم ‏{‏فأولئك‏}‏ أي المبعدون عن الحضرات الربانية ‏{‏هم الظالمون*‏}‏ أي لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعد أن تقدم إليهم سبحانه بمثل هذه الزواجر، وهذا رجوع بالاحتراس إلى ‏{‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏- الآية الوالية لبيان المؤمنين حقاً وإشارة إلى أنه يضلهم ولا يهديهم لما تقدم من الخبر بأنه لا يهدي الظالمين‏.‏

ولما كانت الأنفس مختلفة الهمم متباينة السجايا والشيم، كان هذا غير كافٍ في التهديد لكلها، فأتبعه تهديداً أشد منه بالنسبة إلى تلك النفوس فقال منتقلاً من أسلوب الإقبال إلى مقام الإعراض المؤذن بزواجر الغضب‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أعظم الخلق شفقة ورفقاً ونصيحة لمن لم يُزعمه ما تقدم من الزواجر أنه يجب تحمل جميع هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سالماً ولا ينثلم ‏{‏إن كان آباؤكم‏}‏ أي الذين أنتم أشد شيء توقيراً لهم ‏{‏وأبناؤكم‏}‏ أي الذين هم أعز الناس لديكم وأحبهم إليكم ‏{‏وإخوانكم‏}‏ أي الذين هم من أصولكم فهم كأنفسكم ‏{‏وأزواجكم‏}‏ أي اللاتي هن سكن لكم ‏{‏وعشيرتكم‏}‏ أي التي بها تمام الراحة وقيام العز والمنعة وهم أهل الإنسان الأدنون الذين يعاشرونه‏.‏

ولما قدم سبحانه ما هو مقدم على المال عند أولي الهمم العوال قال‏:‏ ‏{‏وأموال اقترفتموها‏}‏ أي اكتسبتموها بالمعالجة من الأسفار وغيرها لمعاشكم ‏{‏وتجارة تخشون كسادها‏}‏ أي لفوات أوقات نفاقها بسبب اشتغالكم بما ندب الله سبحانه إليه فيفوت- على ما تتوهمون- ما به قوامكم ‏{‏ومساكن ترضونها‏}‏ أي لأنها مجمع لذلك كله، ولقد رتبها سبحانه أحسن ترتيب، فإن الأب أحب المذكورين لما هنا من شائبة النصرة، وبعده الابن ثم الأخ ثم الزوج ثم العشير الجامع للذكور والإناث ثم المال الموجود في اليد ثم المتوقع ربحه بالمتجر، وختم بالمسكن لأنه الغاية التي كل ما تقدم أسباب للاسترواح فيه والتجمل به ‏{‏أحب إليكم من الله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال الذي أنعم عليكم بجميع ما ذكر، ومتى شاء سلبكموه ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي أتاكم بما به حفظ هذه النعم في الدارين ‏{‏وجهاد في سبيله‏}‏ أي الرد الشارد من عباده إليه وجمعهم عليه، وفي قوله-‏:‏ ‏{‏فتربصوا‏}‏ أي انتظروا متربصين- تهديد بليغ ‏{‏حتى يأتي الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏بأمره‏}‏ أي الذي لا تبلغه أوصافكم ولا تحتمله قواكم‏.‏

ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى، كان مارقاً من دينه راجعاً إلى دين من آثره، وكان التقدير‏:‏ فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حلية، لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏لا يهدي القوم‏}‏ أي لا يخلق الهداية في قلوب ‏{‏الفاسقين*‏}‏ أي الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار الفسق- وهو الخروج مما حقه المكث فيه والتقيد به وهو هنا الطاعة- خلقاً من أخلاقهم ولازماً من لوازمهم، بل يكلهم إلى نفوسهم فيخسروا الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال‏:‏ ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه‏؟‏ فقيل‏:‏ الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل‏:‏ وكيف يكون ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ بأن يسلط القدير عليكم- وإن كنتم كثيراً- أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم- وقد كنتم كذلك- حتى صرتم إلى ما صرتم إليه‏:‏ ‏{‏لقد نصركم الله‏}‏ أي الملك الأعلى مع شدة ضعفكم ‏{‏في مواطن‏}‏ أي مقامات ومواقف وأماكن توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم ‏{‏كثيرة‏}‏ أي من الغزوات التي تقدمت لكم كبدر وقريظة والنضير وقينقاع والحديبية وخيبر وغيرها من مخاصمات الكفار، وكنتم من الذلة والقلة والانكسار بحال لا يتخيل معها نصركم وظهوركم على جميع الكفار وأنتم فيهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وما وكلكم إلى مناصرة من تقدم أمره لكم بمقاطعتهم، فدل ذلك على أن من أطاع الله ورجع الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه وإن عاداه الناس أجمعون، ودل بما بعدها من قصة حنين على أن من اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا إلا أن يتداركه الله برحمته منه فيرجع به‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم ‏{‏حنين‏}‏ وهو واد بين مكة والطائف إلى جانب ذي المجاز، وهو إلى مكة أقرب، وراء عرفات إلى الشمال‏.‏

ولما كان سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه قد قال حين التقى الجمعان وأعجبته كثرة الناس‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة‏!‏ فساء النبي صلى الله عليه وسلم كلامه وأن يعتمد إلا على الله، وكان الإعجاب سمّاً قاتلاً للأسباب، أدبنا الله سبحانه في هذه الغزوة بذكر سوء أثره لنحذره، ثم عاد سبحانه بالإنعام لكون الذي قاله شخصاً واحداً كره غيره مقاتله‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أعجبتكم كثرتكم‏}‏ أي فقطعتم لذلك أنه لا يغلبها غالب، وأسند سبحانه الفعل للجمع إشارة إلى أنهم لعلو مقامهم ينبغي أن لا يكون منهم من يقول مثل ذلك ‏{‏فلم تغن عنكم شيئاً‏}‏ أي من الإغناء ‏{‏وضاقت عليكم الأرض‏}‏ أي الواسعة ‏{‏بما رحبت‏}‏ أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال، ولعل عطفه- لتوليهم بأداة التراخي في قوله‏:‏ ‏{‏ثم وليتم‏}‏ أي تولية كثيرة ظهوركم الكفار، وحقق ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏مدبرين*‏}‏ أي انهزاماً مع أن الفرار كان حين اللقاء لم يتأخر- إشارة إلى ما كان عندهم من استعباده اعتماداً على القوة والكثرة ‏{‏ثم أنزل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏سكينته‏}‏ أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره‏.‏

ولما كان المقام للرسالة، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول، وأن مرسله قادر على ما يريد لا سيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة، عبر به دون وصف النبوة فقال‏:‏ ‏{‏على رسوله‏}‏ أي زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد، ثبت بها الثلاثين ألفاً أو عشرين ألفاً أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة- على الاختلاف أيضاً، لم يكن ثباتهم إلا به، ثم لم يزده ذلك إلا تقدماً حتى أن كان العباس عمه وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه رضي الله عنهما ليكفان بغلته عن بعض التقدم، ولعل العطف ب «ثم» إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات ‏{‏وعلى المؤمنين‏}‏ أي أما من كان منهم ثابتاً فزيادة على ما كان له من ذلك، وأما غيره فأعطي ما لم يكن في ذلك الوقت له، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه العباس رضي الله بعدما فر الناس‏:‏ ناد فيهم يا عباس‏!‏ فنادى وكان صيتاً‏:‏ ياعباد الله‏!‏ يا أصحاب الشجرة‏!‏ يا أصحاب سورة البقرة‏!‏ فكروا عنقاً واحداً يقولون‏:‏ لبيك لبيك‏!‏ ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله‏:‏ ‏{‏فإن لله خمسه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له أقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله ‏{‏وأنزل‏}‏ أي من السماء ‏{‏جنوداً لم تروها‏}‏ أي من الملائكة عليهم السلام ‏{‏وعذب‏}‏ أي بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك‏.‏

ولما كان ما عذب به من أوجد مطلق هذا الوصف عظيماً، أتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيباً لمن آثر حب شيء مما مضى على حب الله فقال‏:‏ ‏{‏وذلك‏}‏ أي العذاب الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره ‏{‏جزاء الكافرين*‏}‏ أي الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الآباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئاً من لبس، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخاً فكان ذلك صلاحاً لهم لأنه قادهم إلى الإسلام، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلاً كان أو كثيراً، وأن القلة والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء، فلا تغتروا بما ألزمكم من النعم فإنه قادر على نزعها، لا يستحق أحد عليه شيئاً، ولا يقدر أحد على رد قضائه، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقاً في الكفر، وفيه أبلغ تهديد لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتاً ما فكيف بمن رسخ فيه‏!‏

ولما بين أن العذاب جزاء الكافرين، بين أنه يتوب على من يريد منهم، وهم كل من علم منه قابلية للإيمان وإن كان شديداً وصف الكفران، فقال عاطفاً على ‏{‏وعذب‏}‏‏:‏ ‏{‏ثم يتوب الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة، ولما لم يكن احد تستغرق توبته زمان البعد أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي العذاب العظيم ‏{‏على من يشاء‏}‏ أي فيهديه إلى الإسلام ويغفر له جميع ما سلف من الآثام ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏غفور رحيم *‏}‏ أي محاء للخطايا عظيم الإكرام لمن تاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه جعل هذه الوقعة‏.‏

لحكمته التي اقتضت ربط المسببات بأسبابها- سبباً لإسلام من حضرها من كفار قريش وغيرهم من المؤلفة بما قسم فيهم صلى الله عليه وسلم من غنائم هوزان وبما رأوا من عز الإسلام وعلوه، فكان في ذلك ترغيب لهم بالمال، وترهيب بسطوات القتال، ولإسلام وفد هوزان بما حصل لهم من القهر وما شاهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم من عظيم النصر، ولإسلام غيرهم من العرب بسبب علم كل منهم بهذه الوقعة أنهم أضعف ناصراً وأقل عدداً، كل ذلك رحمة منه سبحانه لهم ورفقاً لهم، وقد كان جميع ذلك كما أشار إليه سبحانه، فأسلم الطلقاء وحسن إسلامهم، وقدم وفد هوزان وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم جبرهم برد ما أخذ لهم فقال لهم‏:‏ إني استأنيت بكم، فلما أبطأتم قسمت بين الناس فيئهم، فاختاروا المال أو السبي‏!‏ فاختاروا السبي فشفع لهم عند الناس فأجابوه فرد إليهم أبناءهم ونساءهم رحمة منه لهم، وذل العرب لذلك فدخلوا في الدين أفواجاً‏.‏ وختم هذه الآية بالمغفرة والرحمة على ما هو الأنسب لسياق التوبة بذلك على انه ما عدل إلى ختم الأولى ب «عليم حكيم» إلا لما قررته من جعل أم في ‏{‏أم حسبتم‏}‏ معادلة للهمزة‏.‏ والله أعلم‏.‏