فصل: تفسير الآيات رقم (70- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏70‏)‏ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة، فقال مقرراً لخسارتهم‏:‏ ‏{‏ألم يأتهم‏}‏ أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق ‏{‏نبأ الذين من قبلهم‏}‏ أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله‏:‏ ‏{‏قوم نوح‏}‏ أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم، أهلكهم بالطوفان، لم يبق عن عصاتهم إنسان، وعطف على قوم القبيلة فقال؛ ‏{‏وعاد‏}‏ أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم، أهلكهم بالريح الصرصر، لم يبق ممن كفر منهم بشر ‏{‏وثمود*‏}‏ أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها، جبالها وسهولها، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار ‏{‏وقوم إبراهيم‏}‏ أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك ‏{‏وأصحاب مدين‏}‏ أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال ‏{‏والمؤتفكات‏}‏ أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما نبأهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏أتتهم رسلهم‏}‏ أي أتى كل أمة منهم رسولها ‏{‏بالبينات‏}‏ أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه ‏{‏ما‏}‏ ‏{‏كان الله‏}‏ أي مع ما له من صفات الكمال مريداً ‏{‏ليظلمهم‏}‏ أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول‏:‏ ما ظلمهم الله ‏{‏ولكن كانوا‏}‏ أي دائماً في طول أعمارهم ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي لاغيرها ‏{‏يظلمون*‏}‏ أي بفعل ما يسبب هلاكها، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء- نبه على ذلك أبو حيان‏.‏ ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي هددوا به إن كان ماء، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً، وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم- إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه، ومادة «إفك» بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك- والله أعلم‏.‏

ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ ‏{‏والمؤمنات‏}‏ أي بما جاءهم عن ربهم ‏{‏بعضهم أولياء‏}‏ ولم يقل‏:‏ من، كما قال في المنافقين‏:‏ من ‏{‏بعض‏}‏ دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال‏:‏ ‏{‏يأمرون‏}‏ أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر ‏{‏بالمعروف‏}‏ وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه ‏{‏وينهون‏}‏ أي كذلك ‏{‏عن المنكر‏}‏ لا يحابون أحداً‏.‏

ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان، أتبعه أفضل العبادات فقال‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق، وذلك مواز لقوله في المنافقين ‏{‏ويقبضون أيديهم‏}‏ ولما خص أمهات الدين، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله‏:‏ ‏{‏ويطيعون الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه ‏{‏ورسوله‏}‏ إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم‏.‏

ولما ذكر مكارم أفعالهم، أتبعه حسن مآلهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العظماء الشأن ‏{‏سيرحمهم الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين ‏{‏نسوا الله فنسيهم‏}‏ وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها، ولا وصول له أصلاً من غير سببها‏.‏

ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏عزيز‏}‏ أي غالب غير مغلوب بوجه، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك ‏{‏حكيم*‏}‏ أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏72‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏73‏)‏ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

ولما ختم الآية بوصف العزة والحكمة المناسب لافتتاحها بالموالاة وتعقيبها بآية الجهاد، وذلك بعد الوعد بالرحمة إجمالاً، أتبعها بما هو أشد التئاماً بها بياناً للرحمة وتفصيلاً لها ترغيباً للمؤمنين بالإنعام عليهم بكل ما رامه المنافقون بنفاقهم في الحياة الدنيا، وزادهم بأنه دائم، وأخبر بأن ذلك هو الفوز لا غيره فقال‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ أي الصادق الوعد الذي له الكمال كله ‏{‏المؤمنين والمؤمنات‏}‏ أي الراسخين في التصديق بكل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي فهى لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة؛ ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام، قال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ كانت الجنان لا تروق إلا بالمنازل والدور الفسيحة والمعازل قال‏:‏ ‏{‏ومساكن طيبة‏}‏ ولما كان بعض الجنان أعلى من بعض، وكان أعلاها ما شرف بوصف العندية المؤذن بالقرب من بنائه مما يؤكد معنى الدوام، قال‏:‏ ‏{‏في جنات عدن‏}‏ أي إقامة دائمة وهناء وصحة جسم وطيب مقر وموطن ومنبت، وذلك كما قال في حق أضدادهم ‏{‏عذاب مقيم‏}‏ وما أنسب ذكر هذه الجنة في سياق التعبير بالوصف المؤذن بالرسوخ فإنه ورد في الحديث أنها خاصة بالنبيين والصديقين والشهداء‏.‏ ولما كان ذلك لا يصفو عن الكدر مع تجويز نوع من الغضب قال مبتدئاً إشارة إلى أنهى التعظيم-‏:‏ ‏{‏ورضوان‏}‏ أي رضى لا يبلغه وصف واصف بما تشير إليه صيغة المبالغة ولو كان على أدنى الوجوه بما أفاده التنوين- ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه عندهم ‏{‏أكبر‏}‏ أي مطلقاً، فهو أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز، ولا يقع السرور الذي هو أعظم النعيم إلا برضى السيد، وإذا كان القليل منه أكبر فما ظنك بالكثير‏.‏

ولما تم ذلك على أحسن مقابلة بما وصف به أضدادهم، قال يصفه زيادة في الترغيب فيه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة لا غيره ‏{‏الفوز العظيم*‏}‏ أي الذي يستصغر دونه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وفي كون ذلك وعداً لمن اتصف لأجل ما اتصف به ترغيب في الجهاد المأمور به بعدها لكونه من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي الأعظم إلى الموالاة‏.‏

ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنانة، وكان من لم يرجع بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً لأعظم المتصفين بالأوصاف المذكروة مفخماً لمقداره بأجل أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي‏}‏ أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال؛ ‏{‏جاهد الكفار‏}‏ أي المجاهرين ‏{‏والمنافقين‏}‏ أي المسائرين كلاًّ بما يليق به من السيف واللسان‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم مطبوعاً على الرفق موصى به، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واغلظ عليهم‏}‏ أي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ملا عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في العقود، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال ‏{‏المنافقين والمنافقات والكفار‏}‏ فقدم في كل سياق الأليق به؛ ولما كان المعنى‏:‏ فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومأواهم‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏جهنم وبئس المصير*‏}‏‏.‏

ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضاً دليل على دليل فقال‏:‏ ‏{‏يحلفون بالله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدراً ‏{‏ما قالوا‏}‏ أي ما وقع منهم قول، فقصر الفعل تعميماً للمفعول إعلاماً بأنهم مهما عنفوا على قول كائناً ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذباً لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب ومرنوا على سيئ الأخلاق، فصار حاصل هذا أنهم أطعموا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفاً من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله ‏{‏المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض‏}‏- الآية، من كبائر آثامهم، ويجوز أن تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذباً على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافاً بالله وبأسمائه ‏{‏اتخذوا أيمانهم جنة‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 6‏]‏ فتكون جواباً لمن كأنه قال‏:‏ أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال‏:‏ لأنهم يحلفون ‏{‏ولقد‏}‏ أي والحال أنهم كاذبون لقد ‏{‏قالوا كلمة الكفر‏}‏ أي الذي لا أكبر في الكفر منه، وهي تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى- بما دل عليه المضارع كل وقت، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها، فعبر بالإسلام فقال‏:‏ ‏{‏وكفروا‏}‏ أي اظهروا الكفر ‏{‏بعد إسلامهم‏}‏ أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم، وذلك غاية الفجور؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه، فيكون ذلك ضرباً من الهوس قال‏:‏ ‏{‏وهموا بما لم ينالوا‏}‏ أي من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو إخراجه من المدينة، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في ‏{‏مأواهم‏}‏ والتقدير على هذا‏:‏ يدخلون جهنم حالفين بالله‏:‏ ما قالوا كلمة الكفر، ولقد قالوها، فيكون كقوله

‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم، قال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما ‏{‏نقموا‏}‏ أي كرهوا شيئاً من الأشياء التي أتتهم من الله ‏{‏إلا أن أغناهم الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه، وكان أذاهم هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ فهو من باب‏:‏ ولا عيب فيهم‏.‏

ولما نبه على أن هذه المساوئ قابلوا بها المحسن إليهم، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏فإن يتوبوا‏}‏ ولما كان المقام جديراً بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه، حذف نون الكون اختصاراً تنبيهاً على ذلك فقال ‏{‏يك‏}‏ أي ذلك ‏{‏خيراً لهم‏}‏ من إصرارهم‏.‏

ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب، وكان القرآن في وعظه زاجراً مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال‏:‏ ‏{‏وإن يتولوا‏}‏ أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب ‏{‏يعذبهم الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بحوله وقوته ‏{‏عذاباً أليماً‏}‏ أي لا صبر لهم عليه ‏{‏في الدنيا‏}‏ أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها ‏{‏والآخرة‏}‏ أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه ‏{‏وما لهم في الأرض‏}‏ أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم ‏{‏من وليّ‏}‏ أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم ‏{‏ولا نصير*‏}‏ أي ينقذهم؛ وأما السماء فهم أقل من أن يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً في ظل شجرة فقال‏:‏ سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ علام تشتمني أنت وأصحابك‏؟‏ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله‏.‏ ما قالوا، فأنزل الله الآية؛ وقال الكلبي‏:‏ نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس‏:‏ لئن كان محمداً صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال‏:‏ أجل، إن محمداً لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس، فقال الجلاس‏:‏ كذب عليّ يا رسول الله‏!‏ فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال‏:‏ اللهم‏!‏ أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون‏:‏ آمين‏!‏ فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ ‏{‏فإن يتوبوا يك‏}‏ أي التوب ‏{‏خيراً لهم‏}‏ فقام الجلاس فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وانا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته‏.‏

ولا مانع من أن يكون كل ذلك سبباً لها كما تقدم ويأتي، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر ب «أل» المؤذنة بالكمال، ومن شتم نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ارتكب كل كفر، وفي الاية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للايمان- كما قال أبو حيان وقال‏:‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك‏:‏ لا تقبل، فإن جاء تائباً من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 80‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏75‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

ولما أقام سبحانه الدليل على ما ذكر بهذه الآية التي ختمها بأنه أغناهم من فضله، أتبها بإقامة الدليل عليها وعلى أنهم يقبضون أيديهم وعلى اجترائهم على اقبح الكذب فقال‏:‏ ‏{‏ومنهم من عاهد الله‏}‏ أي الذي لا أعظم منه ‏{‏لئن آتانا‏}‏ أي من خير ما عنده، واعتراف بأنه لا حق لأحد عليه بقوله‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ أي بأي طريق كان من تجارة أو غنيمة أو زراعة أو غيرها، وأكد لأنه كاذب يظن أن الناس يكذبونه، وهكذا كل كاذب فقال‏:‏ ‏{‏لنصدقن‏}‏ أي مما آتانا من غير رياء- بما يشير إليه الإدغام ‏{‏ولنكونن‏}‏ أي كوناً هو الدال على أنا مجبولون على الخير ‏{‏من الصالحين*‏}‏ أي لكل خير نندب إليه ‏{‏فلما آتاهم‏}‏ وكرر قوله‏:‏ ‏{‏من فضله‏}‏ تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه ‏{‏بخلوا به‏}‏ أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر ‏{‏وتولوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال‏:‏ ‏{‏وهم معرضون*‏}‏ أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد؛ قال أبو حيان‏:‏ قال الضحاك‏:‏ هم نبتل ابن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير وثعلبة بن حاطب وفيهم نزلت الآية- انتهى‏.‏ وحسن تعقيبها بها أيضاً أن في الأولى كفران نعمة الغني من غير عهد، وفي هذه كفرانها مع العهد فهو ترق من الأدنى إلى الأعلى، ودل عظيم شأن العهد بتعظيم الجزاء على خيانته بقوله‏:‏ ‏{‏فأعقبهم‏}‏ أي الله أو التمادي على البخل جزاء على ذلك ‏{‏نفاقاً‏}‏ متمكناً ‏{‏في قلوبهم‏}‏ أي بأن لا يزالوا يقولون ما لا يفعلون ‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ أي بالموت عند فوت الفوت ‏{‏بما أخلفوا الله‏}‏ أي وهو الملك الأعظم ‏{‏ما وعدوه‏}‏ لأن الجزاء من جنس العمل؛ ولما كان إخلاف الوعد شديد القباحة، وكان مرتكبه غير متحاش من مطلق الكذب، قال‏:‏ ‏{‏وبما كانوا يكذبون*‏}‏ أي يجددون الكذب دائماً مع الوعدد ومنفكاً عنه، فقد استكملوا النفاق‏:‏ عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدثوا فكذبوا‏.‏

ولما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يعلم سرهم‏}‏ وهو ما أخفته صدورهم ‏{‏ونجواهم‏}‏ أي ما فاوض فيه بعضهم بعضاً، لا يخفى عليه شيء منه ‏{‏وأن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏علام الغيوب*‏}‏ أي كلها، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة؛ قال أبو حيان‏:‏ وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن ‏{‏ألم تعلموا‏}‏ بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير- انتهى‏.‏

وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيئ للإيمان‏.‏

ولما أخبر تعالى أنه لم يكفهم كفران نعمة الغنى من غير معاهدة حتى ارتكبوا الكفران بمنع الواجب مع المعاهدة، أخبر أنه لم يكفهم أيضاً ذلك حتى تعدوه إلى عيب الكرماء الباذلين بصفة حبهم لربهم ما لم يوجبه عليهم، فقال تعالى معبراً بصيغة تصليح لجميع ما مضى من أقسامهم إفهاماً لأنهم كلهم كانوا متخلقين بذلك وإن لم يقله إلا بعضهم‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون‏}‏ أي يعيبون في خفاء ‏{‏المطوعين‏}‏ أي الذين ليس عليهم واجب في أموالهم فهم يتصدقون ويحبون إخفاء صدقاتهم- بما يشير إليه الإدغام ‏{‏من المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان ‏{‏في الصدقات‏}‏ ولما كان ما مضى شاملاً للموسر والمعسر، نص على المعسر لزيادة فضله وإشارة إلى أن الحث على قليل الخير كالحث على كثيره فقال عاطفاً على ‏{‏المطوعين‏}‏‏:‏ ‏{‏والذين لا يجدون‏}‏ أي من المال ‏{‏إلا جهدهم‏}‏ أي طاقتهم التي أجهدوا أنفسهم فيها حتى بلغوها‏.‏

ولما كان اللمز هو العيب، وهو ينظر إلى الخفاء كالغمز، ومادته بكل ترتيب تدور على اللزوم، والمعنى‏:‏ يلزمون المطوعين عيباً ولا يظهرون ذلك لكل أحد وإنما يتخافتون به فيما بينهم، وهو يرجع إلى الهزء والسخرية، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فيسخرون منهم‏}‏ ولما كان لا شيء أعظم للشخص من أن يتولى العظيم الانتقام له من ظالمه، قال‏:‏ ‏{‏سخر الله‏}‏ أي وهو الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره ‏{‏منهم‏}‏ أي جازاهم على فعلهم بأهل حزبه، وزادهم قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم*‏}‏ أي بما كانوا يؤلمون القلوب من ذلك وإذا حوققوا عليه دفعوا عن أنفسهم ما يردعهم عنه بالأيمان الكاذبة، روى البخاري في التفسير عن أبي مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون‏:‏ إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت ‏{‏الذين يلمزون‏}‏- الآية‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم معروفاً بكثرة الاحتمال وشدة اللين المشير إليه ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفاً بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين، أخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده فيهم ليعرض عنهم أصلاً ورأساً، لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صلى الله عليه وسلم في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال‏:‏ ‏{‏استغفر‏}‏ أي اطلب الغفران ‏{‏لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ أي استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه ‏{‏إن تستغفر‏}‏ أي تسأل الغفران ‏{‏لهم سبعين مرة‏}‏ أي على سبيل الحقيقة أو المبالغة؛ ولما كان الإخبار باستواء الأمرين‏:‏ الاستغفار وتركه ربما كان مسبباً عن الغفران وربما كان مسبباً عن الخسران، عينه في هذا الثاني فقال‏:‏ ‏{‏فلن يغفر الله‏}‏ أي الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره ‏{‏لهم‏}‏ وهو يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة لأنها غاية مستقصاة جامعه لأكثر أقسام العدد، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على رشدهم ونفعهم، وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين، جعل صلى الله عليه وسلم الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد، واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صلى الله عليه وسلم وشرع يمسكه بثوبه ويقول‏:‏ أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك‏!‏ لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح‏:‏ فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ لما توفى عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه؛ وفي رواية في اللباس، فأعطاه قميصه وقال‏:‏ إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ آذنه فجاء، وفي رواية‏:‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما خيرني الله فقال‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة‏}‏ وسأزيده على السبعين؛ وفي رواية؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال‏:‏ إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فأنزل الله عز وجل ‏{‏ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره‏}‏ إلى ‏{‏وهم فاسقون‏}‏ فترك الصلاة عليهم، قال‏:‏ فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم‏:‏ وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه، قال ابن عيينة‏:‏ كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد فأحب أن يكافئه، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه- انتهى‏.‏

فكأن ابنه رضي الله عنه استحى من أن يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم به لما كان يعلم من نفاقه، أو آذنه صلى الله عليه وسلم به فصادف منه شغلاً فدفنه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييباً لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعاً لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفاً لغيره، فقد روي أنه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في قميصه، وتعطفه عليه، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض، وقوله‏:‏ وألبسه قميصه- بالواو لا ينافي الرواية الأولى، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر- والله أعلم؛ ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكاً لحرمة الله أو لحق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق، فكان يكفي فيه استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم‏؟‏ فكأنه قيل‏:‏ استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم ‏{‏بأنهم كفروا بالله‏}‏ أي وهو الملك الأعظم ‏{‏ورسوله‏}‏ أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره، فهو تمهيد لعذر النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 85‏]‏

‏{‏فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

ولما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون‏}‏ أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم ‏{‏بمقعدهم‏}‏ أي قعودهم عن غزوة تبوك، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضوع، وهو مروي عن ابن عباس رضى الله عنهما، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏خلاف‏}‏ أي بعد وخلف أو لأجل خلاف ‏{‏رسول الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي من تخلف عن حزبه هلك ‏{‏وكرهوا أن يجاهدوا‏}‏‏.‏

ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها، وتارة بقبض اليد عن بذلها، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله‏:‏ ‏{‏بأموالهم وأنفسهم‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي طريق الملك الذي له صفات الكمال، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم، ففعلوا ذلك كله ‏{‏وقالوا‏}‏ أي لغيرهم ‏{‏لا تنفروا في الحر‏}‏ بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر‏.‏

ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم ‏{‏نار جهنم‏}‏ أي التي أعدها الله لمن خالف أمره ‏{‏أشد حرّاً‏}‏ ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لو كانوا‏}‏ أي المنافقون ‏{‏يفقهون*‏}‏ أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال، وقال أبو حيان‏:‏ لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه، يعني في قوله ‏{‏فرح المخلفون‏}‏- انتهى‏.‏

فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال‏:‏ هذه أحوال من خرج فما حال من قعد‏؟‏ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم‏.‏

ولما كان غاية السرور الضحك، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه‏:‏ ‏{‏فليضحكوا قليلاً‏}‏ أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك- يسيراً، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال ‏{‏وليبكوا كثيراً‏}‏ أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير ‏{‏جزاء بما كانوا يكسبون*‏}‏ أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات‏.‏

ولما كان المسرور بشيء الكاره لضده الناهي عنه لا يفعل الضد إلا تكلفاً ولا قلب له، إليه وكان هذا الدين مبنياً على العزة والغنى، أتبع ذلك بقوله مسبباً عن فرحهم بالتخلف‏:‏ ‏{‏فإن رجعك الله‏}‏ أي الملك الذي له العظمة كلها فله الغنى المطلق عن سفرك هذا ‏{‏إلى طائفة منهم‏}‏ أي وهم الذين يمد الله في أعمارهم إلى أن ترجع إليهم، وهذا يدل على أنه أهلك سبحانه في غيبته بعضهم، فأردت الخروج إلى سفر آخر ‏{‏فاستأذنوك‏}‏ أي طلبوا أن تأذن لهم ‏{‏للخروج‏}‏ أي معك في سفرك ذلك ‏{‏فقل‏}‏ عقوبة لهم وغنى عنهم وعزة عليهم ناهياً لهم بصيغة الخبر ليكون صدقك فيه علماً من أعلام النبوة وبرهاناً من براهين الرسالة ‏{‏لن تخرجوا معي أبداً‏}‏ أي في سفر من الأسفار لأن الله قد أغناني عنكم وأحوجكم إليّ ‏{‏ولن تقاتلوا معي عدواً‏}‏ لأنكم جعلتم أنفسكم في عداد ربات الحجال ولا تصلحون لقتال؛ والتقييد بالمعية كما يؤذن باستثقالهم يخرج ما كان بعده صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عهنم من سفرهم وقتالهم‏.‏

ولما أخزاهم سبحانه بما أخزوا به أنفسهم، علله بقوله‏:‏ ‏{‏إنكم رضيتم بالقعود‏}‏ أي عن التشرف بمصاحبتي، ولما كانت الأوليات أدل على تمكن الغرائز من الإيمان والكفران وغيرها قال‏:‏ ‏{‏أول مرة‏}‏ أي في غزوة تبوك، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته؛ قال أبو حيان‏:‏ فعلل بالمسبب وهو الرضى الناشئ عن السبب وهو النفاق- انتهى‏.‏

ولما أنهى الحكم والعلة، سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين*‏}‏ أي الذين رضوا لأنفسهم بهذا الوصف الذي من جملة معانيه‏:‏ الفاسد فهم لا يصلحون لجهاد ولا يلفون أبداً في مواطن الامجاد، وقال بعضهم‏:‏ المراد بهم الذين تخلفوا بغير عذر في غزوة تبوك، أو النساء والصبيان أو أدنياء الناس أو المخالفون أو المرضى والزمنى أو أهل الفساد، والأولى الحمل على جميع، أي لأن المراد تبكيتهم وتوبيخهم، ولما أتم سبحانه الكلام في الاستغفار وتعليله إلى أن ختم بإهانة المتخلفين، وكان القتل المسبب عن الجهاد سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد، فقال عاطفاً على ما أفهمت جملة‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم‏}‏ الآية، من نحو‏:‏ فلا تستغفر لهم أصلاً‏:‏ ‏{‏ولا تصلِّ‏}‏ أي الصلاة التي شرعت لتشريف المصلى عليه والشفاعه فيه ‏{‏على أحد منهم‏}‏ ثم وصف الأحد بقوله‏:‏ ‏{‏مات‏}‏ وقوله ‏{‏أبداً‏}‏ متعلق بالنهي لا بالموت ‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم كفروا بالله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكيد باعادة الجار فقيل-‏:‏ ‏{‏ورسوله‏}‏ أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة، والمعنى أنهم لعظم ما ارتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستمروا على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ وذلك المراد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة‏:‏ ‏{‏وماتوا وهم‏}‏ أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم ‏{‏فاسقون*‏}‏ أي غريقون في الفسق‏.‏

ولما كان ابن ابيّ سبب النهي عن الاستغفار لهم، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله من خيار المؤمنين وخلص المحسنين وكان لبعض المنافقين أبناء مثله، وكان من طبع البشر أن يذكر في كثير من مقاله غلطاً ما يندم عليه، وكان شديد الوقوف لما حف به من العلائق البدنية وشمله من العوائق بالأوهام النفسانية مع أوهامه وعوائقه قاصراً على قيوده وعلائقه، فكان لإعادة الكلام وتكريره وترديده ومزيد تقريره تأكيد في النفوس وتعزية وتثبيت في القلوب، كرر آية الإعجاب لهذه الأسباب لأن يكون حكمها على بال من المخاطب لا ينساه لاعتقاد أن العمل به مهم جداً يفتقر إلى فضل عناية، وأن ذلك شبيه بما أوهم صاحبه فهو يتكلم فيه ثم ينتقل إلى غيره لغرض صحيح ثم يرجع إليه في أثناء حديثة لشدة اهتمامه به تنبيهاً على ذلك، ولا يرجع إليه إلا على غاية ما يكون من حسن الربط وبراعة التناسب، وعطفها بالواو دون الفاء لأن ذلك ليس مسبباً عما قبله كما سبق في الآية الأولى، أي لا تستغفر لهم ولا تصل عليهم ولا تعجبك قولهم‏:‏ مستعطفين لك في طلب محبتك وإن زخرفوه وأكدوه بالأيمان التي اتخذوها جنة ‏{‏ولا تعجبك أموالهم‏}‏ وأسند النهي إليها إبلاغاً فيه‏.‏

ولما لم يكن هنا ما اقتضى تأكيد النفي مما مضى في الآية الأولى، لم يعد النافي ولا أثبت اللام ولا الحياة فقال‏:‏ ‏{‏وأولادهم‏}‏ أي وإن أظهروا أنهم يجاهدون بها معك ويتقربون بها إلى الله فإن الله لا يريد بهم ذلك فلا ييسره لهم لما علم من مباعدتهم للخير وعدم قابليتهم له فلا يحملك الإعجاب بشيء من ذلك على فعل شيء مما تقدم النهي عنه تأليفاً لأمثالهم للمساعدة بأولادهم وأموالهم وتطييباً لقلوب المؤمنين من أولادهم، فإنهم إن كانوا مؤمنين لم يضرهم ترك ذلك وإلا فبعداً لهم وسحقاً ‏{‏إنما يريد الله‏}‏ أي بعزه وعظمته وعلمه وإحاطته ‏{‏أن يعذبهم‏}‏ أي تعذيبهم ‏{‏بها‏}‏ فالفعل واقع بخلافة في الآية السابقة ‏{‏في الدنيا‏}‏ أي بجمعها ومحبة الإخلاد إليها وإلى الأولاد إن كانوا مثلهم في الاعتقاد وإلا كانوا زيادة عذاب لهم في الدارين ‏{‏وتزهق‏}‏ أي تخرج بغاية العسر ‏{‏أنفسهم وهم‏}‏ لاغترارهم بها ‏{‏كافرون*‏}‏ ولا شك أن خطاب الرأس بغاية العسر ‏{‏أنفسهم وهم‏}‏ لاغترارهم بها ‏{‏كافرون*‏}‏ ولا شك أن خطاب الرأس بشيء أوقع في قلوب أصحابه فلذلك وقع الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره من أتباعه وجماعته وأشياعه ممن قد يجنح إلى الأسباب ويقف عنده كما هو طبع النفوس في تأمل ما شهد ونسيان ما غاب وعهد تدريباً لهم على الحب في الله والبغض فيه لأنه من أدق أبواب الدين فهماً وأجلها قدراً، وعليه تبتنى غالب أبوابه، ومنه تجتنى أكثر ثمراته وآدابه، وذلك أنه ربما ظن الناظر فيمن بسطت عليه الدنيا أنه من الناجين فيوادّه لحسن قوله غافلاً عن سوء فعله، أو يظن أن أهل الدين فقراء إلى مساعدته لهم في جهاد أو غيره بما له وذويه روية فيداريه، فأعلمهم تعالى أن ما هذا سبيله مقطوع البركة نهياً عن النظر إلى الصور وتنبيهاً على قصر الأنظار على المعاني ‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏- الآية ‏{‏وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 41‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 93‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم، ولمحنتهم لا لمنحتهم، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد، ولا يتوسلون إلى دار المعاد، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً، أو بانياً حالاً من الكاف في «تعجبك»‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة‏}‏ أي وقع إنزال قطعة من القرآن‏.‏

ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً، فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أن آمنوا بالله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏وجاهدوا‏}‏ أي أوقعوا الجهاد ‏{‏مع رسوله استأذنك‏}‏ أي في التخلف من لا عذر له وهم ‏{‏أولوا الطول‏}‏ أي أهل الفضل من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال ‏{‏منهم‏}‏ وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر ‏{‏أن‏}‏ في قوله ‏{‏ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله‏:‏ ‏{‏وقالوا ذرنا‏}‏ أي اتركنا ولو على حالة سيئة ‏{‏نكن‏}‏ أي بما يوافق جبلاتنا ‏{‏مع القاعدين*‏}‏ أي بالعذر المتضمن- لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون «دعنا»- لما استأنف به أو بين من قوله‏:‏ ‏{‏رضوا بأن يكونوا‏}‏ أي كوناً كأنه جبلة لهم ‏{‏مع الخوالف‏}‏ أي النساء ‏{‏وطبع‏}‏ أي وقع الطبع المانع ‏{‏على قلوبهم‏}‏ أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى‏.‏

ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال‏:‏ ‏{‏فهم‏}‏ أي بسبب هذا الطبع ‏{‏لا يفقهون*‏}‏ أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها‏.‏

ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً‏:‏ ‏{‏لكن الرسول‏}‏ أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين ‏{‏معه‏}‏ أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به ‏{‏جاهدوا بأموالهم وأنفسهم‏}‏ أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صلى الله عليه وسلم فتحققوا بشرط الإيمان و«لكن» واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا‏.‏

ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ دالاً على أنه معطوف على ما تقديره‏:‏ فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون، وقوله‏:‏ ‏{‏لهم‏}‏ أي لا لغيرهم ‏{‏الخيرات‏}‏ تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته ب «ال» على استغراقه لجميع منافع الدارين، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى، وكذا التعريض بهم بقوله‏:‏ ‏{‏وأولئك هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏المفلحون*‏}‏ أي الفائزون بجميع مرادهم، لا غيرهم؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله‏:‏ ‏{‏أعد الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏لهم‏}‏ أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار ‏{‏جنات تجري‏}‏ أي دائماً ‏{‏من تحتها‏}‏ أي مع قربها ‏{‏الأنهار‏}‏ ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ ثم رغب فيها بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة ‏{‏الفوز العظيم*‏}‏ أي لا غيره‏.‏

ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك، تلاهم بهم فقال‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون‏}‏ أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد- بما أشار إليه الإدغام، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له، والعذر‏:‏ إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير ‏{‏من الأعراب‏}‏ قيل‏:‏ هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر، وقيل‏:‏ اسد وغطفان، قيل‏:‏ رهط من غفار ‏{‏ليؤذن‏}‏ أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو ‏{‏لهم‏}‏ أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك، هكذا كان الأصل فوضع موضعة‏:‏ ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله‏}‏ أي وهو المحيط علماً وقدرة ‏{‏ورسوله‏}‏ تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم‏.‏

ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال‏:‏ ‏{‏سيصيب‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي حتم بكفرهم ‏{‏منهم عذاب أليم*‏}‏ أي في الدارين‏.‏

ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال‏:‏ ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ أي بنحو الهرم ‏{‏ولا على المرضى‏}‏ أي بنحو الحمى والرمد ‏{‏ولا على الذين لا يجدون‏}‏ ولو بدين يؤدونه في المستقبل ‏{‏ما ينفقون‏}‏ أي لحاجتهم وفقرهم ‏{‏حرج‏}‏ أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم‏.‏

ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله‏:‏ ‏{‏إذا نصحوا‏}‏ أي في تخلفهم وجميع أحوالهم ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏ورسوله‏}‏ أي سراً وعلانية، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا، وقوله‏:‏ ‏{‏ما على المحسنين‏}‏ في موضع «ما عليهم» لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم ‏{‏من سبيل‏}‏ أي طريق إلى ذمهم أو لومهم، والجملة كلها بيان ل ‏{‏نصحوا لله ورسوله‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏غفور‏}‏ أي محاء للذنوب ‏{‏رحيم*‏}‏ أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، لا يسعه إلا العفو؛ ثم عطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا‏}‏ وأكد المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ما أتوك‏}‏ أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك ‏{‏لتحملهم‏}‏ وهم لا يجدون محملاً ‏{‏قلت‏}‏ أي أتوك قائلاً أو حال قولك، «وقد» مضمرة كما قالوا في ‏{‏حصرت صدورهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 90‏]‏ ‏{‏لا أجد ما‏}‏ أي شيئاً ‏{‏أحملكم عليه‏}‏ وأجاب ‏{‏إذا‏}‏ بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و«قلت» هو الجواب ‏{‏تولوا‏}‏ أي عن سماع هذا القول منك ‏{‏وأعينهم تفيض‏}‏ أي تمتلئ فتسيل، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً‏:‏ ثم بين الفائض بقوله‏:‏ ‏{‏من الدمع‏}‏ أي دمعاً والأصل‏:‏ يفيض دمعها، ثم علل فيضها بقوله؛ ‏{‏حزناً‏}‏ ثم علل حزنهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألا يجدوا‏}‏ أي لعدم وجدانهم ‏{‏ما ينفقون‏}‏ فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في ‏{‏الذين لا يجدون‏}‏ إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح- وإن اجتهد- لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم- مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم- ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له‏.‏

ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما السبيل‏}‏ أي باللوم وغيره ‏{‏على الذين يستأذنونك‏}‏ أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه ‏{‏وهم أغنياء‏}‏ أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً‏:‏ ‏{‏رضوا بأن يكونوا‏}‏ أي كوناً كأنه جبلة لهم ‏{‏مع الخوالف‏}‏ انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى‏:‏ ولما ذكره، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على «رضوا»‏:‏ ‏{‏وطبع الله‏}‏ أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط ‏{‏على قلوبهم‏}‏ ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله‏:‏ ‏{‏فهم لا يعلمون*‏}‏ أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم‏.‏