فصل: سورة يونس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وأمالها ورش عن نافع بين بين، والباقون بالإمالة المحضة، والأصل في ذلك الفتح، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً- نقل ذلك عن الواحدي‏.‏

لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيئ لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته‏.‏ وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه‏.‏ والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال‏:‏ ‏{‏تلك‏}‏ أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف ‏{‏آيات الكتاب‏}‏ أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه ‏{‏الحكيم*‏}‏ فكان فيما مضى- أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه- وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية‏:‏ العلامة التي تنبئ عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم‏:‏ الناطق بالحكمة‏.‏ وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى

‏{‏إلا تنصروه فقد نصره الله‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 40‏]‏ وقوله ‏{‏عفا الله عنك لما أذنت لهم‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 43‏]‏ وقوله ‏{‏ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 61‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 128‏]‏ إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام، قال تعالى ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لسحر مبين‏}‏ ثم قال ‏{‏إن ربكم الله‏}‏ الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد ‏{‏ذلكم الله ربكم فاعبدوه‏}‏ ‏{‏ما خلق الله ذلك إلا بالحق‏}‏ ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ وقالوا ‏{‏لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وهذه مقالات الأمم المتقدمة ‏{‏قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 43‏]‏ فقال تعالى متوعداً للغافلين ‏{‏إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا‏}‏، ثم وعد المعتبرين فقال ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام، تناسجت آي السور- انتهى‏.‏

ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً- موجباً لقبوله بادئ بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر، كان ذلك موضع أن يقال‏:‏ ما كان حال من تلي عليهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لم يؤمنوا، فقيل‏:‏ ماشبهتهم‏؟‏ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته‏؟‏ فقيل‏:‏ لا‏!‏ بل تعجبوا من إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم‏.‏ فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك، وهل مثل ذلك محل العجب‏!‏ ‏{‏أكان‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏للناس عجباً‏}‏ أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي، والعجب‏:‏ تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم «كان» فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه‏:‏ ‏{‏أن أوحينا‏}‏ أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين ‏{‏إلى رجل‏}‏ أي هو في غاية الرجولية، وهو مع ذلك ‏{‏منهم‏}‏ بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء‏.‏

ولما كان في الإيحاء معنى القول، فسره بقوله ‏{‏أن أنذر الناس‏}‏ أي عامة، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات ‏{‏وبشر‏}‏ أي خص ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات، أي من الأعمال اللسانية وغيرها، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي، والإنذار‏:‏ الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه، والتبشير‏:‏ التعريف بما فيه السرور، واضاف القدم- الذي هو السابقة بالطاعة- إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر‏:‏ ‏{‏أن لهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏قدم صدق‏}‏ أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام، وزاد في البشارة بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة‏.‏

ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال‏:‏ ما قالوا حين أظهروا العجب‏؟‏ ومن أيّ وجه رأوه عجباً‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال الكافرون‏}‏ أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار ‏{‏إن هذا‏}‏ أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره ‏{‏لسحر‏}‏ أي محمد لساحر- كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏مبين*‏}‏ أي ظاهر في نفسه، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه- مع كونه تمويهاً لا حقيقة له- شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر، وأنهم عاجزون عنه، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه- مع ما تضمنه من البعث- سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال‏:‏ ‏{‏إن ربكم‏}‏ أي الموجد لكم والمربي والمحسن ‏{‏الله‏}‏ أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم ‏{‏الذي‏}‏ بدأ الخلق بأن ‏{‏خلق‏}‏ أي قدر وأوجد ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع ‏{‏في ستة أيام‏}‏ لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء‏.‏

ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي‏:‏ ‏{‏ثم استوى‏}‏ أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك ‏{‏على العرش‏}‏ المتقدم وصفه بالعظمة، وليست «ثم» للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله‏:‏ ‏{‏يدبر‏}‏ لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه ‏{‏الأمر‏}‏ كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه، بل هو متصف بأنه ‏{‏ما من شفيع‏}‏ أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك‏.‏

ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏إلا من بعد إذنه‏}‏ فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن ‏{‏ما من شفيع‏}‏ في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع‏:‏ السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ أي العظيم الشأن العالي المراتب ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏ربكم‏}‏ الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف ‏{‏فاعبدوه‏}‏ أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة‏.‏

ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال‏:‏ ‏{‏أفلا تذكرون*‏}‏ أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع‏!‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال‏:‏ ‏{‏إليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏مرجعكم‏}‏ أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم ‏{‏جميعاً‏}‏ لا يتخلف منكم أحد، تقدم وعده لكم بذلك ‏{‏وعد الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏حقاً‏}‏ فهو تعليل لعبادته لوحدانيته، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره‏:‏ ‏{‏إنه يبدأ الخلق‏}‏ أي ينشئه النشأة الأولى، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار ‏{‏ثم يعيده‏}‏ ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏‏.‏

ولما كان في سياق البعث، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح ‏{‏وعملوا‏}‏ أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا ‏{‏الصالحات‏}‏ جزاء كائناً ‏{‏بالقسط‏}‏، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة، والجزاء‏:‏ الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء، ولو كان ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط‏:‏ العدل ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف ‏{‏لهم‏}‏ أي في الجزاء على جهة الاستحقاق ‏{‏شراب من حميم‏}‏ أي مسخن بالنار أشد الإسخان ‏{‏وعذاب أليم‏}‏ أي بالغ الإيلام ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يكفرون*‏}‏ فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه ‏{‏فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون‏}‏ ‏[‏سورة المطففين‏:‏ 34-36‏]‏ وكأنه قال‏:‏ ‏{‏يبدأ‏}‏ مضارعاً لا كما قال في آية أخرى ‏{‏كما بدأكم تعودون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني‏:‏ وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد- مع التمكين من الحسن والقبيح- من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه- انتهى‏.‏ فقد لاح بما ذكر ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره- أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترئ على عظمته، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه؛ ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي غيره ‏{‏الذي جعل‏}‏ أي بما هيأ من الأسباب ‏{‏الشمس‏}‏‏.‏

ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس‏:‏ ‏{‏ضياء‏}‏ أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل، هكذا التقدير، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال‏:‏ ‏{‏والقمر‏}‏ أي وجعل القمر ‏{‏نوراً‏}‏ أي ذا نور من نورها ‏{‏وقدره‏}‏ أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة ‏{‏منازل‏}‏ سريعاً يقلبه فيها، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود- إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار ‏{‏لتعلموا‏}‏ بذلك علماً سهلاً ‏{‏عدد السنين‏}‏ أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها ‏{‏والحساب‏}‏ أي غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه‏.‏

ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه، وصل به قوله‏:‏ ‏{‏ما خلق الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم جداً ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشئ عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانئ، والجعل‏:‏ وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها، والشمس‏:‏ جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر‏:‏ جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور‏:‏ شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب‏:‏ عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره‏.‏

ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم، ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏يفصل‏}‏ أي الله في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون ‏{‏الآيات‏}‏ أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً‏.‏ ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم، قال‏:‏ ‏{‏لقوم‏}‏ أي لهم قوة المحاولة لما يريدون ‏{‏يعلمون‏}‏ أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله- مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة‏:‏ ‏{‏إن في اختلاف الليل‏}‏ أي على تباين أوصافه ‏{‏والنهار‏}‏ أي كذلك ‏{‏وما‏}‏ أي وفيما ‏{‏خلق الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله‏:‏ ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلالات بينة جداً ‏{‏لقوم يتقون*‏}‏ أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين، فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب؛ والاختلاف‏:‏ ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الملوين‏:‏ ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام؛ والليل‏:‏ ظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، هو جمع ليلة كتمر وتمرة؛ والنهار‏:‏ اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ والخلق‏:‏ فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة، وأصله التقدير؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات‏.‏ لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم أمره أو غير ذلك‏.‏

ولما أُشير بالآية إلى أنقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له، وقام الدليل القطعي على المعاد، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كانت ختم تلك ب ‏{‏يتقون‏}‏ لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان الغرور أكثر، بدأ به تنفيراً عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف‏:‏ ‏{‏لا يرجون لقاءنا‏}‏ بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة ‏{‏ورضوا‏}‏ أي عوضاً عن الاخرة ‏{‏بالحياة الدنيا‏}‏ أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها ‏{‏واطمأنوا‏}‏ إليها مع الرضى ‏{‏بها‏}‏ طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها ‏{‏والذين هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏عن آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية ‏{‏غافلون‏}‏ أي غريقون في الغفلة، وتضمن قوله تعالى استئنافاً‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏مأواهم النار بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏يكسبون*‏}‏ فإن كسبهم كله ضلال- أنه لا يعاجلهم بالعقاب على تأخير المتاب، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله ملاقاة الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله‏:‏

‏{‏إلا أن يأتيهم الله في ظِلل من الغمام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 210‏]‏ ونحوه، والاطمئنان‏:‏ الركون إلى الشيء على تمكن فيه، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيا فصار فرحهم وسخطهم لها؛ والغفلة‏:‏ ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه، واليقظة نقيضها‏.‏

ولما أنقضى هذا القسم حالاً ومآلاً، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى ‏{‏وعملوا‏}‏ أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا ‏{‏الصالحات‏}‏ بالقوة العملية التي سلطانها عبودية الله تعالى، والصالح‏:‏ ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام ‏{‏يهديهم‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم ‏{‏بإيمانهم‏}‏ أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء، فقادتهم إلى دار السلام، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام، وكما ترى أنك تخنق على بعض الكملة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة، ثم أنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن‏.‏

ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار، ذكر مآل هذا القسم في معرض سؤال من يقول‏:‏ ماذا تورثهم هدايتهم‏؟‏ فقيل له‏:‏ ‏{‏تجري‏}‏ وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من تحتهم‏}‏ أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى ‏{‏قد جعل ربك تحتك سرياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 14‏]‏ وكذا قول فرعون ‏{‏وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏الأنهار‏}‏ كائنين ‏{‏في جنّات النعيم‏}‏ أي التي ليس فيها من غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التي أعظمها الإشراك‏.‏ وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة أوصاف الكمال، أشار التسليك في ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏دعواهم‏}‏ أي دعاؤهم العظيم الثابت الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا ‏{‏فيها‏}‏ وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال‏:‏ ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ إشارة إلى الأمر الأول هو الأساس وهو المعراج في الآخرة ‏{‏وتحيتهم‏}‏ أي لله وفيما بينهم ‏{‏فيها سلام‏}‏ إشارة إلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق ‏{‏وآخر دعواهم‏}‏ أي دعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي ‏{‏أن الحمد‏}‏ أي الكمال ‏{‏لله‏}‏ أي المحيط بجميع أوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال؛ والدعوى‏:‏ قول يدعى به إلى أمر؛ والتحية‏:‏ التكرمة بالحال الجليلة، وأصله من قولهم‏:‏ أحياك الله حياة طيبة، وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏رب العالمين‏}‏ إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان‏.‏

ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج‏.‏ بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التأني من الله والعجلة من الشيطان» قال شيخنا ابن حجر‏:‏ وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها‏:‏ ‏{‏ولو يعجل الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏للناس‏}‏ أي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب ‏{‏الشر استعجالهم‏}‏ أي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة ‏{‏بالخير لقضي‏}‏ أي حُتم وبت وأدى، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين‏.‏

وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل ‏{‏إليهم‏}‏ أي الناس خاصة ‏{‏أجلهم‏}‏ أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة‏.‏ وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله‏.‏ ولعل التعبير بنون العظمة في ‏{‏فنذر‏}‏ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله ‏{‏أولئك مأواهم النار‏}‏ لأن معناه‏:‏ أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض‏.‏ ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر ‏{‏ولو يعجل الله للناس الشر‏}‏ أي ولو يريد عجلة الشر للناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم ‏{‏فأمطر علينا حجارة من السماء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ودعاء الإنسان على ولده وعبده، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير‏.‏ وعدل عن أن يقال‏:‏ ولو يستعجل الله للناس الشر ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏ أي يعجل، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده ‏{‏لقضي إليهم أجلهم‏}‏ فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً‏.‏

ولما كان التقدير لأن «لو» امتناعية‏:‏ ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته شيء بل يمهل الظالمين ويدر لهم النعم ويضربهم بشيء من النقم حتى يقولوا‏:‏ هذه عادة الدهر، قد مس آباءنا الضراء والسراء، سبب عن قوله‏:‏ ‏{‏فنذر‏}‏ أي على أيّ حالة كانت، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال‏:‏ ‏{‏لا يرجون لقآءنا‏}‏ أي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام ‏{‏في طغيانهم‏}‏ أي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له أدنى روية ‏{‏يعمهون‏}‏ أي يحكم مشيئتنا السابقة في الأزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات؛ والتعجيل‏:‏ تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به؛ والشر‏:‏ ظهور ما فيه الضر، وأصله الإظهار من قولهم‏:‏ شررت الثوب- إذا أظهرته للشمس، ومنه شرر النار-لظهوره بانتشاره؛ والطغيان‏:‏ الغلو في ظلم العباد؛ والعمه، شدةُ الحيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير، وكان منه استكشاف الضر، بينَ أن حالهم عنده الاعتراف، وشكرهم على النجاة منه الإنكار فدأبهم الطغيان والعمه، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وإصالة الآراء وسلامة الطباع، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير صابر، وعند الرجاء غير شاكر، فكأنه قيل‏:‏ فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح ‏{‏وإذا مسَّ الإنسان‏}‏ منهم ‏{‏الضر‏}‏ وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله ‏{‏دعانا‏}‏ مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً ‏{‏لجنبه‏}‏ أي مضطجعاً حال إرادته للراحة، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه ‏{‏أو قاعداً‏}‏ أي متوسطاً في أحواله ‏{‏أو قآئماً‏}‏ أي في غاية السعي في مهماته، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال، بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر، وقال‏:‏ لجنبه، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال‏:‏ فلان لما به، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال‏:‏ ‏{‏فلما كشفنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عنه ضره‏}‏ أي الذي دعانا لأجله ‏{‏مرّ‏}‏ أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنه ‏{‏لم يدعنآ‏}‏ أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ أي كشف ‏{‏ضر مسه‏}‏ أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلاً فضلاً عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته؛ والمسُ‏:‏ لقاء من غير فصل؛ والدعاء‏:‏ طلب الفعل من القادر عليه؛ والضر‏:‏ إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه‏.‏

ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب‏.‏ كان كأنه قيل‏:‏ لم يفعل ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه‏.‏ وهذا دأبنا أبداً ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة؛ ولما كان الضار مطلق التزيين، بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏زين للمسرفين‏}‏ أي كلهم العريقين في هذا الوصف ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يعملون‏}‏ أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره؛ والإسراف‏:‏ الإكثار من الخروج عن العدل‏.‏

ولما كان محط نظرهم الدنيا، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏القرون‏}‏ أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم لما ظلموا‏}‏ أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك، وقال تعالى عطفاً على ‏{‏أهلكنا‏}‏‏:‏ ‏{‏وجآءتهم رسلهم‏}‏ أي إلى كل أمة رسولها ‏{‏بالبينات‏}‏ أي التي بينت بمثلها الرسالة ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنهم ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال‏:‏ ‏{‏ليؤمنوا‏}‏ ولو جاءتهم كل آية، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه‏.‏

فكأنه قيل‏:‏ هل يختص ذلك بالأمم الماضية‏؟‏ فقيل‏:‏ بل ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء العظيم ‏{‏نجزي القوم‏}‏ أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه ‏{‏المجرمين‏}‏ لأن السبب هو العراقة الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك‏:‏ الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن‏:‏ أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض‏.‏

ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏ثم جعلناكم‏}‏ أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا ‏{‏خلائف في الأرض‏}‏ أي لا في خصوص ما كانوا فيه‏:‏ ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال ‏{‏لننظر‏}‏ ونحن- بما لنا من العظمة- أعلم بكم من أنفسكم، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة ‏{‏كيف تعملون‏}‏ فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته‏.‏ وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى‏.‏ أتبع ذلك عطفاً على قوله ‏{‏قال الكافرون إن هذا لسحر مبين‏}‏ بقوله بياناً لذلك‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى‏}‏ بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان‏.‏ وأبداه مضارعاً إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة ‏{‏عليهم‏}‏ أي على هؤلاء الناس ‏{‏آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا ‏{‏بينات‏}‏ فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على ‏{‏ثم جعلناكم خلائف‏}‏- الآية- والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله‏:‏ ‏{‏قال الذين لا يرجون لقآءنا‏}‏ في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير‏.‏ فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال ‏{‏ائت‏}‏ أي من عندك ‏{‏بقرآن‏}‏ أي كلام مجموع جامع لما تريد ‏{‏غير هذا‏}‏ في نظمه ومعناه ‏{‏أو بدله‏}‏ أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فماذا أقول لهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏قل ما يكون‏}‏ أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه ‏{‏لي‏}‏ ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال‏:‏ ‏{‏أن أبدله‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏من تلقاء‏}‏ أي عند وقِبَل ‏{‏نفسي‏}‏ إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعاً قوله‏:‏ ‏{‏إن أتبع‏}‏ أي بغاية جهدي ‏{‏إلاّ ما‏}‏ ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال ‏{‏يوحى إلي‏}‏ أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه‏:‏ ‏{‏إني أخاف‏}‏ أي على سبيل التجدد والاستمرار ‏{‏إن عصيت ربي‏}‏ أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي ‏{‏عذاب يوم عظيم‏}‏ فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته- مع استحضار صفة الإحسان- هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال‏.‏ ولما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم، اتبعه بعذره صلى الله عليه وسلم في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً ‏{‏لو شآء الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم ‏{‏ما تلوته‏}‏ أي تابعت قراءته ‏{‏عليكم ولآ أدراكم‏}‏ أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه ‏{‏به‏}‏ على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال‏:‏ ‏{‏فقد لبثت فيكم عمراً‏}‏ ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال‏:‏ ‏{‏من قبله‏}‏ مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم- وأنتم أفصح الناس وأبلغهم- عن معارضة آية منها، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ إشارة إلى أنه يكفي- في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه- كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم وقد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر، فأنا وحدي- مع كوني أمياً- أعجز، ومن أنه تعالى لو شاء ما بلغكم، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله، وكل من ذلك أظلم الظلم ‏{‏فمن‏}‏ أي فهو سبب لأن يقال‏:‏ من ‏{‏أظلم ممن افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي حاز جميع العظمة ‏{‏كذباً‏}‏ أي أيّ كذب كان، وكان الأصل‏:‏ مني، على تقدير أن لا يكون هذا القرآن من عند الله كما زعمتم، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ‏{‏أو كذب بآياته‏}‏ كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏المجرمون‏}‏ فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه صلى الله عليه وسلم وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد أظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا بآياته، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه؛ والتلقاء‏:‏ جهة مقابلة الشيء، أتبعه بمجيئه بعده؛والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه، والإرادة نظيرها؛ والعقل‏:‏ العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب، ويجوز أن يكون ‏{‏ويعبدون‏}‏ حالاً من ‏{‏الذين لا يرجون لقاءنا‏}‏ أي قالوا ذلك عابدين ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع‏.‏

ولما كان السياق للتهديد والتخويف، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال‏:‏ ‏{‏ما لا يضرهم‏}‏ أي أصلاً من الأصنام وغيرها ‏{‏ولا ينفعهم‏}‏ في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة‏:‏ خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الأصنام أو غيرهم ‏{‏شفعاؤنا‏}‏ أي ثابته شفاعتهم لنا ‏{‏عند الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى ‏{‏ما من شفيع إلا من بعد إذنه‏}‏ وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم، وضل عنهم شفعاءهم، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه من بعد، فكأنه قال‏:‏ بماذا أجيبهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ منكراً عليهم هذا العلم ‏{‏أتنبئون‏}‏ أي تخبرون إخباراً عظيماً ‏{‏الله‏}‏ وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال ‏{‏بما لا يعلم‏}‏ أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات ‏{‏في السماوات‏}‏ ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح، كرر النافي تصريحاً فقال‏:‏ ‏{‏ولا في الأرض‏}‏ وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول‏:‏ هذا شيء ما عمله الله مني‏.‏

ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به ‏{‏وتعالى‏}‏ أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه ‏{‏عما يشركون*‏}‏ أي يوجدون الإشراك به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله، بين أن هذا الدين الباطل حادث، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولاً مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان الناس‏}‏ أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب ‏{‏إلا أُمة‏}‏ ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ أي حنفاء متفقين على طاعة الله ‏{‏فاختلفوا‏}‏ في ذلك على عهد نوح عليه السلام- كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما- عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب ‏{‏ولولا كلمة‏}‏ أي عظيمة ‏{‏سبقت‏}‏ أي في الأزل ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏لقضي بينهم‏}‏ أي عاجلاً بأيسر أمر ‏{‏فيما‏}‏ ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه‏:‏ ‏{‏يختلفون*‏}‏ وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده، بل هو- مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه- أصل ما كان العباد عليه، وما هم فيه الآن هو الطارئ الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه، وهو ناظر إلى قوله تعالى ‏{‏أكان للناس عجباً‏}‏ لأن قوله ‏{‏قال الكافرون إن هذا لسحر مبين‏}‏ دال على أنهم قسمان‏:‏ كافر ومؤمن؛ والأمة‏:‏ الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم- أي تقصد- شيئاً واحداً؛ ثم قال تعالى عطفاً على قوله ‏{‏ويعبدون‏}‏‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي أنهم لما أتتهم البينات قالوا‏:‏ ائت بقرآن غير هذا، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏أنزل‏}‏ أي بأيّ وجه كان ‏{‏عليه آية‏}‏ أي واحدة كائنة وآتية ‏{‏من ربه‏}‏ أي المحسن إليه غير ماجاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلاً عن كونها بينات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا‏.‏

ولما كان في ذلك شوب من الاستفهام، قال مسبباً عن قولهم‏:‏ ‏{‏فقل‏}‏ قاصراً قصراً حقيقياً ‏{‏إنما الغيب‏}‏ أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله

‏{‏ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلاً ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده، لا علم لي بعلة عدم إنزال ما تريدون، وهل تجابون إليه أو لا‏.‏

ولما خصه سبحانه بالعلم‏.‏ وكان إنزال الآيات من الممكنات‏.‏ سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ ثم أجاب من كأنه يقول له‏:‏ فما تعمل أنت‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إني معكم‏}‏ أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم، ثم حقق المعنى وأكده فقال‏:‏ ‏{‏من المنتظرين*‏}‏ أي لما يرد علي من آية وغيرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 23‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت‏.‏ فقال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏قال الكافرون إن هذا لسحر مبين‏}‏ أو ‏{‏وإذا مسَّ الإنسان الضر‏}‏ مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب «إذا» ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا، لم يختلف حالهم في هذا قط، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر‏.‏ والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها- والله الهادي‏:‏ ‏{‏وإذا أذقنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏الناس‏}‏ أي الذين لهم وصف الاضطراب ‏{‏رحمة‏}‏ أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق‏.‏

ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ضراء‏}‏ أي قحط وغيره ‏{‏مستهم‏}‏ فاجأوا المكر وهو معنى ‏{‏إذا لهم مكر‏}‏ أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر ‏{‏في آياتنا‏}‏ إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها‏.‏

ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه‏:‏ التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ «من» التي هي للابتداء و«إذا» الفجائية، كان كأنه قيل‏:‏ أسرعوا جهدهم في المكر، فقيل‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء ‏{‏أسرع مكراً‏}‏ ومعنى اوصف بالأسرعية أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم- نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه، لأنه عالم بالسر وأخفى، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه‏!‏ فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏إن رسلنا‏}‏ أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا ‏{‏يكتبون‏}‏ أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب ‏{‏ما تمكرون*‏}‏ لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم‏!‏ وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم؛ والمكر‏:‏ فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه؛ والسرعة؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد الوبال على الماكر فيها، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي يسيركم‏}‏ أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه ‏{‏في البر والبحر‏}‏ أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه‏.‏

ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال‏:‏ ‏{‏حتى إذا كنتم‏}‏ أي كوناً لا براح لكم منه ‏{‏في الفلك‏}‏ أي السفن، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال‏:‏ ‏{‏وجرين‏}‏ أي الفلك؛ ‏{‏بهم‏}‏ ولما ذكر جريها وهم فيها، ذكر سببه فقال‏:‏ ‏{‏بريح طيبة‏}‏ ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله‏:‏ ‏{‏وفرحوا بها‏}‏ أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها ‏{‏جاءتها ريح عاصف‏}‏ فأزعجت سفنهم وساءتهم ‏{‏وجاءهم الموج‏}‏ أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف ‏{‏من كل مكان‏}‏ أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم ‏{‏وظنوا أنهم‏}‏ ولما كان المخوف الهلاك، لا كونه من معين، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال‏:‏ ‏{‏أحيط بهم‏}‏‏.‏

ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى- مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته، وعبارة لرماني‏:‏ اتصال دعوى الأجوبة، كأنه قيل‏:‏ لما ظنوا أنهم أحيط بهم ‏{‏دعوا الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص ‏{‏مخلصين‏}‏ أي عن كل شرك ‏{‏له الدين *‏}‏ أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر‏:‏ ‏{‏لئن أنجيتنا‏}‏ أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره ‏{‏من هذه‏}‏ أي الفادحه ‏{‏لنكونن‏}‏ أي كوناً لا ننفك عنه ‏{‏من الشاكرين*‏}‏ أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به‏.‏

ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال‏:‏ ‏{‏فلما أنجاهم‏}‏ ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إذا هم يبغون‏}‏ أي يتجاوزون الحدود ‏{‏في الأرض‏}‏ أي جنسها ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي الكامل، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولاً في ‏{‏يسيركم‏}‏ ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم- نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال‏:‏ إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم- بما هيأ فيهم من القوى- أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير‏:‏ التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر‏:‏ الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر‏:‏ مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك‏:‏ السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة‏:‏ التخليص من الهلاك؛ والبغي‏:‏ قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق‏:‏ وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛ ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب ‏{‏إنما بغيكم‏}‏ أي كل بغي يكون منكم ‏{‏على أنفسكم‏}‏ لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل ‏{‏متاع الحياة الدنيا‏}‏ ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت ‏{‏ثم إلينا‏}‏ أي خاصة ‏{‏مرجعكم‏}‏ بعد البعث ‏{‏فننبئكم‏}‏ على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة ‏{‏تعملون*‏}‏ ونجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث‏:‏ ‏{‏إنما‏}‏ فهو قصر قلب ‏{‏مثل الحياة الدنيا‏}‏ التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله ‏{‏كماء أنزلناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذيرعظيم ‏{‏فاختلط‏}‏ أي بسبب إنزالنا له ‏{‏به‏}‏ أي بسبب تليينه ولطافته ‏{‏نبات الأرض‏}‏ عموماً في بطنها ‏{‏مما يأكل الناس‏}‏ أي كافة ‏{‏والأنعام‏}‏ من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها ‏{‏حتى‏}‏ ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏ ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال‏:‏ ‏{‏أخذت الأرض‏}‏ أي التي لها أهلية النبات ‏{‏زخرفها وازينت‏}‏ بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي- بما يفهمه الإدغام ‏{‏وظن أهلها‏}‏ أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن «قدرتهم» إلى ‏{‏أنهم قادرون‏}‏ أي ثابته قدرتهم ‏{‏عليها‏}‏ باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك ‏{‏أتاها أمرنا‏}‏ أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين ‏{‏ليلاً أو نهاراً فجعلناها‏}‏ أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك ‏{‏حصيداً‏}‏ وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله‏:‏ ‏{‏كأن‏}‏ أي كأنها ‏{‏لم تغن‏}‏ أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها ‏{‏بالأمس‏}‏ فكان حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته‏.‏

ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا التفصيل الباهر ‏{‏نفصل‏}‏ أي تفصيلاً عظيماً ‏{‏الآيات لقوم‏}‏ أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون ‏{‏يتفكرون*‏}‏ أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل‏:‏ قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط‏:‏ تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف‏:‏ حسن الألوان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابته بلا زوال، فقال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏يدعوا‏}‏ أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين ‏{‏إلى دار السلام‏}‏ عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً، والسلامة فيها دائمة، والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء‏:‏ طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه‏.‏

ولما أعلم- بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ويهدي من يشاء‏}‏ أي بما يخلق في قلبه من الهداية ‏{‏إلى صراط مستقيم*‏}‏ أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله‏.‏ وأن الكل فاعلون لما يشاء- كان موضع أن يقال‏:‏ هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، بل هم فريقان‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه ‏{‏الحسنى‏}‏ أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء ‏{‏وزيادة‏}‏ أي عظيمة من فضل الله فالناس‏:‏ مزيد خرجت هدايته من الجهاد ‏{‏والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏، ومراد خرجت هدايته من المشيئة، فالدعوة إلى الجنة بالبيان عامة، والهداية إلى الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم‏.‏

ولما كان النعيم لا يتم إلاّ بالدوام بالأمن من المضار قال‏:‏ ‏{‏ولا يرهق‏}‏ أي يغشي ويلحق ‏{‏وجوههم قتر‏}‏ أي غبرة كغبره الموت وكربة، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركبهما غلبة ‏{‏ولا ذلة‏}‏ أي كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان‏.‏

ولما كان هذا واضحاً في أنهم أهل السعادة، وصل به قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة، صرح بها في قوله‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ أي لا غيرهم ‏{‏فيها‏}‏ أي خاصة ‏{‏خالدون‏}‏ أي مقيمون لا يبرحون، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم‏.‏

ولما بين حال الفضل فيمن أحسن، بين حال العدل فيمن أساء فقال‏:‏ ‏{‏والذين كسبوا‏}‏ أي منهم ‏{‏السيئات‏}‏ أي المحيطة بهم ‏{‏جزآء سيئة‏}‏ أي منهم ‏{‏بمثلها‏}‏ بعدل الله من غير زيادة ‏{‏وترهقهم ذلة‏}‏ أي من جملة جزائهم، فكأنه قيل‏:‏ أما لهم انفكاك عن ذلك‏؟‏ فقيل جواباً‏:‏ ‏{‏ما لهم من الله‏}‏ أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من عاصم‏}‏ أي يمنعهم من شيء يريده بهم‏.‏

ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم، وصل به قوله‏:‏ ‏{‏كأنما‏}‏ ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيئ، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أغشيت وجوههم‏}‏ أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء ‏{‏قطعاً‏}‏ ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل وجمع القطعة من الشيء‏.‏ بين وأكد فقال‏:‏ ‏{‏من الليل‏}‏ أي هذا الجنس حال كونه ‏{‏مظلماً‏}‏ ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة، وصل به قوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏أصحاب النار‏}‏ ولما كانت الصحبة الملازمة، بينها بقوله‏:‏ ‏{‏هم فيها‏}‏ أي خاصة ‏{‏خالدون‏}‏ أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق‏:‏ لحق الأمر، ومنه‏:‏ راهق الغلام- إذا لحق حال الرجال؛ والقتر‏:‏ الغبار، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله؛ والذلة‏:‏ صغر النفس بالإهانة؛ والكسب‏:‏ الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر‏.‏

ولما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم ‏{‏نحشرهم‏}‏ أي الفريقين‏:‏ الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم ‏{‏جميعاً‏}‏ ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى ‏{‏إنه يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 4‏]‏ وإلى قوله ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ والحشر‏:‏ الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله‏:‏ ‏{‏ثم نقول للذين أشركوا‏}‏ أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛وقوله‏:‏ ‏{‏مكانكم‏}‏ نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا، ورد على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب أن يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم، أي نقول لهم‏:‏ قفوا وقوف الذل ‏{‏أنتم وشركآؤكم‏}‏ حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله‏:‏ ‏{‏فزيلنا‏}‏ أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان ‏{‏بينهم‏}‏ في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار‏:‏ ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك ‏{‏وقال شركاؤهم‏}‏ لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق ‏{‏ما كنتم‏}‏ أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم ‏{‏إيانا تعبدون‏}‏ أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك‏.‏

ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم‏:‏ ‏{‏فكفى بالله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏شهيداً‏}‏ أي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلاً ‏{‏بيننا وبينكم‏}‏ في ذلك يشهد لنا وعلينا؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي إنا ‏{‏كنا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لنا ‏{‏عن عبادتكم‏}‏ لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة؛ ولما كانت «إن» هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل‏:‏ ‏{‏لغافلين‏}‏ لأنه لا أرواح فينا، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق‏:‏ ‏{‏فزيلنا بينهم‏}‏ أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم‏:‏ إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم ‏{‏وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون‏}‏ أي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان ‏{‏ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ ‏{‏فكفى‏}‏ أي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول‏:‏ كفى ‏{‏بالله شهيداً بيننا وبينكم‏}‏ في ذلك، يشهد أنكم لم تخصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع؛ ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنا عن عبادتكم‏}‏ في تلك الأزمان ‏{‏لغافلين‏}‏ فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان، أو يقال‏:‏ فقال المشركون لشركائهم‏:‏ إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه ‏{‏وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا‏}‏ وحدنا ‏{‏تعبدون‏}‏ أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علماً ‏{‏فكفى‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه كفى ‏{‏بالله شهيداً بيننا وبينكم‏}‏ في ذلك، فكأن المشركين قالوا‏:‏ قد تضمن كلامكم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص، أفليس قد عبدناكم‏؟‏ أفلا تغنون عنا شيئاً‏؟‏ فأجاب الشركاء بقولهم‏:‏ ‏{‏إن كنا عن عبادتكم‏}‏ خالصة كانت أو مشوبة ‏{‏لغافلين‏}‏ فلا نقر لكم بعبادة أصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير؛ أو يقال- وهو أحسن مما مضى-‏:‏ ‏{‏وقال شركاؤهم‏}‏ لما تحققوا العذاب طلباً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم ‏{‏ما كنتم‏}‏ أيها العابدون لنا ‏{‏إيانا‏}‏ أي خاصة ‏{‏تعبدون‏}‏ بل كنتم تعبدون أيضاً غيرنا، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه؛ ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره، سببوا عن ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن‏}‏ أي في أنا ‏{‏كنا عن عبادتكم‏}‏ أي في الجملة ‏{‏لغافلين‏}‏ والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشئ منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق، فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ، فالإعجاز في نظمه، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم، فهو من وادي قوله تعالى

‏{‏فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 21‏]‏، ‏{‏فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 47‏]‏ ‏{‏فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ونحوه ‏{‏فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 39‏]‏- والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما أخبر عن حال المشركين، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏ أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال ‏{‏تبلوا‏}‏ أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية ‏{‏كل نفس‏}‏ طائعة وعاصية ‏{‏مآ أسلفت‏}‏ أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة‏.‏

ولما كان مطلق الرد- وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه- كافياً في الرهبة لمن له اب، بُني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏وردوآ‏}‏ أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏مولاهم الحق‏}‏ فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه في الدنيا، وهو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وضَلَّ عنهم‏}‏ أي بطل وذهب وضاع ‏{‏ما كانوا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لهم ‏{‏يفترون‏}‏ أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق؛ والتزييل‏:‏ تفريق يزول به كل واحد عن مكانه، وهو من تفريق الجثث، وليس من الواوي، بل من اليائي، يقال‏:‏ زلته عن الشيء أزيله- إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية‏:‏ بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف‏:‏ تقديم أمر لما بعده؛ والرد‏:‏ الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى‏:‏ من يملك تولى أمر مولاه‏.‏

ولما قدم سبحانه أن شركاءهم مربوبون مقهورون، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه، وأنه وحده المولى الحق، وبانت بذلك فضائحهم، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد ‏{‏من يرزقكم‏}‏ أي يجلب لكم الخيرات أيها المنكرون للبعث المدعون للشركة ‏{‏من السمآء‏}‏ أي بالمطر وغيره من المنافع ‏{‏والأرض‏}‏ بالنبات وغيره لتعيشوا ‏{‏أمّن يملك السمع‏}‏ أي الذي تسمعون به الآيات، ووحده للتساوي فيه في الغالب ‏{‏والأبصار‏}‏ التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حياتكم الحسية ببقاء الروح، والمعنوية بوجود العلم؛ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم‏.‏

فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وأقربه، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال‏:‏ ‏{‏ومن يخرج الحي‏}‏ من الحيوان والنبات ‏{‏من الميت‏}‏ أي من النطفة ونحوها ‏{‏ويخرج الميت‏}‏ أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو ‏{‏من الحي‏}‏ أي فينقل من النقص إلى الكمال؛ ثم عم فقال‏:‏ ‏{‏ومن يدبر الأمر‏}‏ أي كله التدبير العام‏.‏

ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون الله‏}‏ أي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادة والهداية ‏{‏فقل‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك‏:‏ قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى‏:‏ ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله‏:‏ ‏{‏فذلكم‏}‏ أي العظيم الشأن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام، فكانت هذه قدرته وأفعاله ‏{‏ربكم‏}‏ أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان عندكم لغيره ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم‏:‏ ما ‏{‏ذا بعد الحق‏}‏ أي الذي له أكمل الثبات ‏{‏إلاّ الضلال‏}‏ فإنه لا واسطة بينهما- بما أنبأ عنه إسقاط الجار، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأنى‏}‏ أي فكيف ومن أيّ جهة ‏{‏تصرفون‏}‏ أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان، عن الحق إلى الضلال‏.‏

ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا‏:‏ سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً، فلم يقولوا، كانوا حقيقين بأن يقال لهم‏:‏ حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق‏.‏ فقيل‏:‏ هل خصوا بذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ بل ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الحقوق العظيم ‏{‏حقت كلمت ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك‏:‏ الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ ‏{‏على‏}‏ كل ‏{‏الذين‏}‏ فعلوا فعلهم لأنهم ‏{‏فسقوا‏}‏ أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛ثم علل ذلك الحقوق بقوله‏:‏ ‏{‏أنهم لا يؤمنون*‏}‏ أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله ‏{‏وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا‏}‏ وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم‏:‏ فسقت الرطبة عن قشرها- أي خرجت، أو يكون المعنى‏:‏ حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادراً، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا ‏{‏كذلك حقت‏}‏ أي ثبتت ثباتاً عظيماً ‏{‏كلمت ربك على‏}‏ كل ‏{‏الذين‏}‏ قضى بفسقهم منهم‏.‏ و‏{‏أنهم لا يؤمنون‏}‏ تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق‏:‏ جعل العطاء الجاري‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏34‏)‏ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏35‏)‏ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد، وإنكار المسلمات كلها هكذا، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي على سبيل الإنكار عليهم والتوبيخ لهم ‏{‏هل من شركائكم‏}‏ أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم ‏{‏من يبدأ الخلق‏}‏ كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة ‏{‏ثم يعيده‏}‏‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف‏.‏ ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق، أمره بجوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يبدأ الخلق‏}‏ أي مهما أراد ‏{‏ثم يعيده‏}‏ وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله ‏{‏فسيقولون الله‏}‏ ولم يقل‏:‏ يرزقنا- إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله‏:‏ ‏{‏فأنى تؤفكون*‏}‏ أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما، وقد استنارت جميع الجهات، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود ‏{‏هل من شركائكم‏}‏ أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم ‏{‏من يهدي‏}‏ أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين ‏{‏إلى الحق‏}‏ فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً‏.‏

ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال‏:‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏يهدي‏}‏ ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال‏:‏ ‏{‏للحق‏}‏ إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر ‏{‏إلى الحق‏}‏ أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و‏{‏للحق‏}‏ ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال‏:‏ ‏{‏أفمن يهدي‏}‏ أي منتهياً في هداه ولو على بعد ‏{‏إلى الحق‏}‏ أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه ‏{‏أحق أن يتبع‏}‏ أي بغاية الجهد ‏{‏أم من لا يهدي‏}‏ أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه ‏{‏إلا أن يهدى‏}‏ أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل‏:‏ أتجيبون أم تسكتون‏؟‏ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ اي أيّ شيء ثبت ‏{‏لكم‏}‏ في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال‏:‏ ‏{‏كيف تحكمون*‏}‏ فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق‏؟‏ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء‏:‏ العقل الأول؛ والإعادة‏:‏ إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية‏:‏ التعريف بطريق الرشد من الغي‏.‏

ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم، عطف على ما صرح به من قولهم ‏{‏فسيقولون‏}‏ وما لوح إليه من «فسينكرون» أو «فسيسكتون» قوله‏:‏ ‏{‏وما يتبع‏}‏ أي بغاية الجهد ‏{‏أكثرهم‏}‏ أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله‏:‏ إنها شفعاء، وغير ذلك ‏{‏إلا ظناً‏}‏ تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء‏.‏

ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول‏:‏ أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام‏؟‏‏:‏ ‏{‏إن الظن لا يغني‏}‏ أي أصلاً ‏{‏من الحق‏}‏ أي الكامل ‏{‏شيئاً‏}‏ أي بدله، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله‏.‏

ولما صار ظهور الفرق ضرورياً، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال‏:‏ إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون، فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم ‏{‏بما يفعلون*‏}‏ فاصبر فلسوف يعملون‏.‏