فصل: تفسير الآيات رقم (79- 83)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 83‏]‏

‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏79‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ‏(‏80‏)‏ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏81‏)‏ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏82‏)‏ فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏قالوا أجئتنا‏}‏‏:‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام ‏{‏ائتوني بكل ساحر عليم*‏}‏ أي بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض، وقراءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فامتثلوا أمره وجمعوهم، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جاء السحرة‏}‏ أي كل من في أرض مصر منهم ‏{‏قال لهم موسى‏}‏ مزيلاً لهذا الإيهام ‏{‏ألقوا‏}‏ جميع ‏{‏ما أنتم ملقون*‏}‏ أي راسخون في صنعة إلقائه، إشارة إلى أن ما جاؤوا به ليس أهلاً لأن يلقى إليه بال ‏{‏فلما ألقوا‏}‏ أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم ‏{‏قال موسى‏}‏ منكراً عليهم ‏{‏ما جئتم به‏}‏ ثم بين أنه ما استفهم عنه جهلاً بل احتقاراً وإنكاراً، وزاد في بيان كل من الأمرين بقوله‏:‏ ‏{‏السحر‏}‏ لأنه استفهام أيضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقين، فإن همزة الاستفهام مقدرة، والتعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر، أي هو السحر لا ما نسبتموه إليّ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له إحاطة العلم والقدرة ‏{‏سيبطله‏}‏ أي عن قريب بوعد لا خلف فيه؛ ثم علل ذلك بما بين أنه فساد فقال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لا يصلح‏}‏ أي وفي وقت من الأوقات ‏{‏عمل المفسدين*‏}‏ أي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال‏:‏ ‏{‏ويحق‏}‏ أي يثبت إثباتاً عظيماً ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏الحق‏}‏ أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم‏.‏ وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله‏:‏ ‏{‏بكلماته‏}‏ أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم، وزاد في العظمة بقوله‏:‏ ‏{‏ولو كره المجرمون‏}‏ أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم، واضمحل مكرهم، وحق الحق- كما بين في سورة الأعراف‏.‏

ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى- تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات- أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فما آمن‏}‏ أي متبعاً ‏{‏لموسى‏}‏ أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله‏:‏ ‏{‏إلا ذرية‏}‏ أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة ‏{‏من قومه‏}‏ أي قوم موسى الذين لهم القدرة على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم- كما قاله مجاهد ‏{‏على خوف‏}‏ أي عظيم ‏{‏من فرعون وملئهم‏}‏ أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال‏:‏ ‏{‏أن يفتنهم‏}‏ وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لعلوهم‏:‏ ‏{‏وإن فرعون لعال‏}‏ أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض ‏{‏وإنه لمن المسرفين*‏}‏ أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإن المسرفين هم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 43‏]‏ كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم‏:‏ إنه آمن، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 87‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ‏(‏84‏)‏ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏85‏)‏ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏86‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

ولما ذكر خوفهم وعذرهم، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم، فقال‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ أي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة «يبتلى الناس على قدر إيمانهم» ‏{‏يا قوم‏}‏ فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول ‏{‏آمنتم بالله‏}‏ وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات، وأجاب الشرط بقوله‏:‏ ‏{‏فعليه‏}‏ أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه ‏{‏توكلوا‏}‏ وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي كوناً ثابتاً ‏{‏مسلمين*‏}‏ جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله‏:‏ ‏{‏فعليه توكلوا‏}‏ ‏{‏فقالوا‏}‏ أي على الفور كما يقتضيه الفاء ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها وحده ‏{‏توكلنا‏}‏ أي فوضنا أمورنا كلها إليه ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا ‏{‏لا تجعلنا فتنة‏}‏ أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل ‏{‏للقوم الظالمين*‏}‏ أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق ‏{‏ونجنا برحمتك‏}‏ أي إكرامك لنا ‏{‏من القوم‏}‏ أي الأقوياء ‏{‏الكافرين*‏}‏ أي العريقين في تغطية الأدلة، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس‏.‏

ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه، أتبعه ما يزيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ ‏{‏وأوحينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة البالغة ‏{‏إلى موسى وأخيه‏}‏ أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته ‏{‏أن تبوءا‏}‏ أي اتخذا ‏{‏لقومكما بمصر‏}‏ وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها ‏{‏بيوتاً‏}‏ تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه ‏{‏واجعلوا‏}‏ أي أنتما ومن معكما من قومكما ‏{‏بيوتكم قبلة‏}‏ أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر‏:‏ الصبر والصلاة، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب‏.‏

ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم، أفرد في قوله‏:‏ ‏{‏وبشر المؤمنين*‏}‏ أي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو، وكان هلاك المشانئ من أعظم البشائر، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره، فقال تعالى حاكياً عنه‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر الله وتجبره على المستضعفين من عباده، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء، أسقط الأداة تسنناً بهم، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏إنك‏}‏ أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة ‏{‏آتيت فرعون وملأه‏}‏ أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر ‏{‏زينة‏}‏ أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما ‏{‏وأموالاً‏}‏ أي كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت؛ ثم بين غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا ‏{‏ليضلوا‏}‏ في أنفسهم ويضلوا غيرهم ‏{‏عن سبيلك‏}‏ أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك‏.‏

ولما بين أن مآلهم الضلال، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها‏:‏ ‏{‏ربنا اطمس‏}‏ أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه ‏{‏على أموالهم‏}‏‏.‏

ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال، قال‏:‏ ‏{‏واشدد‏}‏ أي شداً ظاهراً لكل أحد- بما أشار إليه الفك مستعلياً ‏{‏على قلوبهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اطبع عليها وامنعها من الإيمان، وأجاب الدعاء بقوله‏:‏ ‏{‏فلا يؤمنوا‏}‏ أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادئ العذاب الطمس ‏{‏حتى يروا‏}‏ أي بأعينهم ‏{‏العذاب الأليم*‏}‏ حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج‏:‏ وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين‏:‏ أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه- فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياً له، ونقل عنه أيضاً أنه قال‏:‏ ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل يأثم ‏!‏ إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم، وإن فرح بكونه خلص من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح- انتهى‏.‏

ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال‏:‏ «اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً‏!‏» فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب‏:‏ إن ذلك إفراط، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد، والمسألة في أصل الروضة‏.‏ فإنه قال‏:‏ لو قال لمسلم‏:‏ سلبه الله الإيمان، أو لكافر‏:‏ رزقه الله الإيمان، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت‏:‏ ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم‏:‏ سلبه الله الإيمان، كفر- والله أعلم، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال‏:‏ إن الدعاء بذلك معصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏90‏)‏ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏91‏)‏ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال‏:‏ ‏{‏قد أجيبت دعوتكما‏}‏ والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً، وذلك كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً‏.‏

ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فاستقيما‏}‏ أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً‏.‏ أكد قوله‏:‏ ‏{‏ولا تتبِّعان‏}‏ بالاستعجال أو الفترة عن الشكر ‏{‏سبيل الذين لا يعلمون*‏}‏ ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله‏:‏ ‏{‏وجاوزنا‏}‏ أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال‏:‏ ‏{‏ببني إسراءيل‏}‏ أي عبدنا المخلص لنا ‏{‏البحر‏}‏ إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة‏:‏ ‏{‏فأتبعهم‏}‏ أي بني إسرائيل ‏{‏فرعون وجنوده‏}‏ أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم، وهو السير في أثرهم، واتبعه- إذا سبقه فلحقه، ويقال‏:‏ تبعه في الخير واتبعه في الشر‏.‏ ولما أفهم ذلك، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏بغياً‏}‏ أي تعدياً للحق واستهانة بهم ‏{‏وعدواً‏}‏ أي ظلماً وتجاوزاً للحد‏.‏

ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة، عجب منه في تماديه فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ واستمر يتمادى في ذلك-‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق، عبر بأداة التحقق فقال‏:‏ ‏{‏إذا أدركه‏}‏ أي قهره وأحاط به ‏{‏الغرق‏}‏ أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم ‏{‏قال آمنت‏}‏ أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من ‏{‏آمنت‏}‏ في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع‏:‏ ‏{‏أنه‏}‏ وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه ‏{‏لا إله إلا الذي‏}‏ ويجوز أن يكون أوقع ‏{‏آمنت‏}‏ على ‏{‏أنه‏}‏ وما بعدها- أي ‏{‏آمنت‏}‏ نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه‏.‏

ولما كان قد تحقق الهالك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق، اراد الإعلام بغاية صدقه فقال‏:‏ ‏{‏آمنت‏}‏ أي أوقعت التصديق معترفة ‏{‏به بنو إسراءيل‏}‏ فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏وأنا من المسلمين*‏}‏ فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام‏:‏ ‏{‏آلآن‏}‏ أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه ‏{‏وقد‏}‏ أي والحال أنك قد ‏{‏عصيت‏}‏ أي بالكفر ‏{‏قبل‏}‏ أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر‏!‏ ‏{‏وكنت‏}‏ أي كوناً جبلياً ‏{‏من المفسدين*‏}‏ أي العريقين في الفساد والإفساد؛ ثم أكده- بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره- بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ‏:‏ ‏{‏فاليوم ننجيك‏}‏ أي تنجية عظيمة‏.‏ ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه‏:‏ ‏{‏ببدنك‏}‏ أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس ‏{‏لتكون‏}‏ أي كوناً هو في غاية الثبات ‏{‏لمن خلفك‏}‏ أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم ‏{‏آية‏}‏ في أنك عبد ضعيف حقير، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس وأكثرهم جنوداً، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماع أهل الملل ليهون للناس الاجتراء على المعاصي، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه من أهل النار وضل عن الصرائح التي في القرآن في ذلك في غير موضع وعن أن قوله تعالى‏:‏

‏{‏وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن المسرفين هم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 43‏]‏ قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار، والآية- كما ترى- دليل على قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً‏}‏- الآية، لو كان فرعون مثل قريش، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه‏.‏

ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات، كان حكمهم حكم الغافلين عنها، فكان التقدير‏:‏ ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات ‏{‏وإن كثيراً‏}‏ أكده لأن مثله ينبغي- لبعده عن الصواب- أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه ‏{‏من الناس‏}‏ أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس- وهو الاضطراب- والأنس بأنفسهم ‏{‏عن آياتنا‏}‏ أي على ما لها من العظمة ‏{‏لغافلون‏}‏ والإصلاح‏:‏ تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر؛ وإحقاق الحق‏:‏ إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً؛ والإسراف‏:‏ الإبعاد في مجاوزة الحق؛ والفتنة‏:‏ البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة؛ والنجاة‏:‏ الخلاص مما فيه المخافة، ونظيرها السلامة، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد، فهو على أوكد ما يكون من الدعاء إلى الصلاح؛ والوحي‏:‏ إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي؛ وتبوأ‏:‏ اتخذ، وأصله الرجوع، فالمتبوأ‏:‏ المنزل، لأنه يرجع إليه للمقام فيه‏:‏ والطمس‏:‏ محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس؛ والإجابة‏:‏ موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة؛ والدعوة‏:‏ طلب الفعل بصيغة الأمر، وقد تكون بالماضي؛ والمجاوزة‏:‏ الخروج عن الحد من إحدى الجهات؛ والبحر‏:‏ مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه، وهو مأخوذ من الاتساع؛ والاتباع‏:‏ اللحاق بالأول؛ والبغي‏:‏ طلب الاستعلاء بغير حق؛ والآن‏:‏ فصل الزمانين الماضي والمستقبل، ومع أنه إشارة إلى الحاضر، ولهذا بنى كما بنى «ذا»؛ والبدن‏:‏ مسكن روح الحيوان على صورته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته‏.‏ وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك، وأنهم- مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون- آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد، ليس بينهم خلاف، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد، لا لما يأمر به وينهى عنه، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد بوأنا‏}‏ أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها ‏{‏بني إسراءيل‏}‏ مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه، وهو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏مبوأ صدق‏}‏ أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير‏.‏

ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏ورزقناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏من الطيبات‏}‏ أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها‏.‏ والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك‏.‏ ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال‏:‏ ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما ‏{‏اختلفوا‏}‏ أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره‏.‏ واستهان به ‏{‏حتى جاءهم العلم‏}‏ الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ فماذا يفعل بهم‏؟‏ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون‏؟‏ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة ‏{‏يقضي بينهم‏}‏‏.‏

ولما كان هذا تهديداً عظيماً، زاده هولاً وعظمة بقوله‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي الذي هو أعظم الأيام ‏{‏فيما كانوا‏}‏ أي بأفعالهم الجبلية ‏{‏فيه يختلفون*‏}‏ فيميز الحق من الباطل، والصديق من الزنديق، ويسكن كلاًّ داره‏.‏

ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم بالأرض المقدسة‏:‏ قال قي أثناء السفر الخامس‏:‏ قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل‏.‏ لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل أرض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى، وإنما تشرب من مطر السماء‏.‏ يتعاهدها الله ربكم في كل حين، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى آخر السنة‏.‏ فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إليكم، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم، وتأكلون وتشبعون، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها، وتهلكوا سريعاً من الأرض التي يعطيكم الله ربكم، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم، وصيروها ميسماً بين أعينكم، وعلموها بينكم أن يتكلموا بها في حضوركم وفي سفركم، وإذا رقدتم وإذا قمتم، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم‏.‏ وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباً أعظم وأعز منكم، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات‏:‏ النهر الأكبر، وتكون تخومكم عند البحر الآخر، ولا يقدر أحد أن يقاومكم، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب‏:‏ انظروا‏!‏ إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم وتبعتم آلهة أخرى لم تعرفوها، وإذا أدخلكم الله ربكم إلى الأرض التي تدخلونها لترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط- وفي نسخة‏:‏ مرج ممري، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم- انتهى‏.‏

وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام‏:‏ ولما كان بعد موسى عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام‏:‏ موسى عبدي مات، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته، كما قلت لموسى عبدي‏.‏ من البر وهذه للبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك، كما كنت مع موسى أكون معك، لا أدعك ولا أتركك، اشتد وتأيد، فإنك أنت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لهم، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك‏.‏ وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب‏.‏ فحينئذ تنجح طرقك‏.‏ وحينئذ ترشد، أليس قد أوصيتك‏؟‏ اشتد وتأيد، ولا ترهب ولا تنذعر، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً‏:‏ جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم‏:‏ أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيها لكم، اذكروا ذكر القول الذي أمركم به موسى عبد الله قائلاً‏:‏ الله ربكم مريحكم بما أعطاكم هذه الأرض، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخواطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما أراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس، فأجابوا يوشع قائلين‏:‏ جميع ما أوصيتنا به نعمل، كل موضع ترسلنا نمضي كجميع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك‏.‏ إذا كان الله معك كما كان مع موسى، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل‏.‏ فاشتد وتأيد، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً‏:‏ امضيا‏!‏ انظرا الأرض كلها مع أريحا، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجعا ثمَّ، فقيل لملك أريحا‏:‏ هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد‏.‏ فأرسل ملك أريحا إلى راحاب قائلاً‏:‏ أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك‏.‏ فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا‏.‏ فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت‏:‏ كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم أعلم من أين هم‏؟‏ وكان عند إغلاق الباب في الظلام‏.‏

ثم خرج القوم ولم أعلم أين مضوا‏؟‏ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم؛ ثم أصعدتهما إلى السطح وظهرتهما في فش الكتان‏.‏ والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر- وفي نسخة‏:‏ إلى المخاضات- ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما‏.‏ وهما قبل أن يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما‏:‏ قد علمت أن الله سلم إليكم البلد، وأنه قد وقعت هيبتكم علينا‏.‏ وقد ماج جميع سكان البلد من قبلكم‏.‏ وإنا قد سمعنا أن الله أيبس لكم بحر القلزم عقب خروجكم من مصر وما عملتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن‏:‏ سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم، فإن الله ربكم هو إله من في السماوات من فوق ومن على الأرض من تحت، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاً، فتعملاً أيضاً أنتما مع أهل أبي فضلاَ، وتعطياني علامة هي حق‏.‏ لتستبقوا أبي وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهم، وتخلصوا أنفسنا من القتل‏.‏ فقالا لها‏:‏ نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا‏.‏ فيكون عند التسليم الله لنا البلد نعمل معك فضلاً وأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور‏.‏ وفي السور هي ساكنة‏.‏ وقالت لهما‏:‏ سيرا إلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون، وبعد ذلك سيرا‏:‏ لطريقكما، فقالا لها‏:‏ أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خصلة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها‏.‏ وأبوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين إليك المنزل، فيكون كل من يخرج من أبواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن أبرياء، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد‏.‏ وإن أخبرت بخبرنا هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي استقسمتنا، فقالت‏:‏ كما قلتما، فأطلقتهما ومضيا، وعقدت خصلة القرمز في الطاقة، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة أيام إلى أن رجع الطالبون ولم يجدوهما‏.‏ ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وقالا ليوشع‏:‏ إن الله دفع بأيدينا كل الأرض، وقد ماج جميع ساكنها منا؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا‏.‏ فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم‏:‏ عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشون خلفه، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألفي ذارع بالمساحة، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمشون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس‏.‏

و قال يوشع للقوم‏:‏ استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب، وقال يوشع للأئمة‏:‏ احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم‏.‏ فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم، وقال الله ليوشع‏:‏ هذا اليوم ابتدئ بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك؛ وقال يوشع لبني إسرائيل‏:‏ تقدموا هاهنا وأسمعوا الله ربكم؛ قال يوشع‏:‏ بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم‏:‏ الكنعانيين والذاعرين- وفي نسخة‏:‏ الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم- والحويين أي الفصحاء البلغاء- وفي نسخة‏:‏ المجتمعين إلى الحي- والربضيين والفلاحين والأمورانيين- أي الرؤساء- واليبوسيين- أي الجبارين القاهرين، ها هو ذا صندوق العهد، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل‏:‏ رجلاً واحداً من كل سبط، ويكون عند قرار أقدام أرجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة‏.‏

ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب، فلما انتهوا إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل أيام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته، وتباعد عن قرية إدام التي عند صريم جداً، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع، وجاز الشعب حيال أريحا، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع‏:‏ اعمد إلى اثني عشر رجلاً من الشعب‏:‏ من كل سبط رجل واحد، وقل لهم‏:‏ خذوا من هاهنا من جوف الأردن من تحت أقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروها معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل رجل حجره على عاتقه، فأخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك، فمكثت الحجارة- التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت- موضوعة هناك إلى اليوم؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع الأقوال التي أمر الرب يشوع أن يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع، وعجل الشعب على المجاز وجازوا، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب وجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا، وهم متسلخون أمام إخوتهم- كما أمر موسى- أربعون ألفاً ذوو قوة، جازوا أمام الرب إلى قاع أريحا للمحاربة‏.‏

في ذلك اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول أيام حياته، وقال الرب ليشوع‏:‏ مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن، فأمرهم، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت أقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول- قلت‏:‏ وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود- ونزلوا الجلجال أقصى مشارق أريحا، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال، وقال يشوع لبني إسرائيل‏:‏ إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم‏:‏ ما هذه الحجارة‏؟‏ قولوا لهم‏:‏ إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي يبسه أمامنا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية، وتتقوا الله ربكم كل الأيام‏.‏

فلما سمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطئ البحر أن الرب يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع‏:‏ اتخذ سيفاً من طوران واختن بني إسرائيل ثانية، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة الغلف، والذي ختن يشوع جميع الذكورة الذين كانوا ولدوا في البرية حين خرجوا من أرض مصر، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً‏.‏ فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا، وقال الرب ليشوع‏:‏ اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً‏.‏ وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني إسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة‏.‏ وبينا كان يشوع في قاع أريحا قائماً إذ نظر رجلاً قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فاقبل يشوع إليه وقال له‏:‏ أنت منا أم من أعدائنا‏؟‏ قال‏:‏ أنا سيد أجناد الرب، الآن أتيتك، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال‏:‏ ما الذي يقول السيد لعبده‏؟‏ قال‏:‏ اخلع خفيك عن قدميك، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر، ففعل يشوع ذلك؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج، قال الرب ليوشع‏:‏ انظر‏!‏ إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة مرة في اليوم، وافعلوا ذلك ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم‏:‏ احملوا تابوت الرب عهد الرب ويحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وينفخون فيها أمام تابوت الرب، ثم قال للشعب‏:‏ دوروا حول المدينة، والمتسلخون يجوزون أمام تابوت الرب، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت‏.‏

وقال يشوع للشعب‏:‏ لا تهتفوا، ولا تسمعوا أصواتكم، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي آمركم أن تهتفوا‏.‏ فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة كما أمرهم يشوع، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب‏:‏ اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب، لا يمسه إنسان منكم، وأبقوا على راحاب الزانية- يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهم، ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم- وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين أرسلنا، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً، فنفخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلهم واحدة شديدة جداً، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم، قتلوها بالسيف، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع‏:‏ ادخلا إلى بيت المرأة الزانية- يعني الفندقانية كما مضى- فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها، وأقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال‏:‏ ملعوناً يكون أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره، وشاع خبره في الأرض كلها، وأثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها، فقالوا له‏:‏ إنه يجزئ في أخذها ألفان أو ثلاثة لأن أهلها قليل، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير- فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى إياه أن قومه غلّوا، ثم أمره بالقرعة حتى خرج الذي عنده الغلول وهو عاجار، وكان غلوله طنفسة بابلية ومائتي مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له، وقد مضى ذلك في البقرة عند

‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة أخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد ومَر الدهور، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى ‏{‏فعموا وصموا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 71‏]‏- الآية، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس، فتبارك من له الأمر كله، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 97‏]‏

‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

ولما كان ما مضى- من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات- سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم، وكان صلى الله عليه وسلم كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله‏:‏ ‏{‏فإن كنت‏}‏ أي يا أرحم الخلق ‏{‏في شك‏}‏ ولم يرد بهذا الكلام حقيقته- والله أعلم- بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا، وذلك بأحد أمرين‏:‏ إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم- وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية- فالمعنى‏:‏ أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك ‏{‏فإن كنت‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏في شك‏}‏ أي ولو قل ‏{‏ممآ أنزلنآ‏}‏ أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة ‏{‏إليك‏}‏ في ذلك ‏{‏فسئل‏}‏ أي بسبب ذلك الشك ‏{‏الذين يقرءون‏}‏ أي متتابعين لذلك ‏{‏الكتاب‏}‏ أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم‏.‏ ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ وهم عن ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح إلى سؤال غيري، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه‏:‏ ‏{‏لقد جآءك الحق‏}‏ أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك باصطفائك لذلك، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه، فناسب اتباعه بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تكونن‏}‏ أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه ‏{‏من الممترين‏}‏ أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا والله‏!‏ ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم‏.‏

ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ العناد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تكونن‏}‏ أي بوجه من الوجوه، والمراد بهذا أتباعه ‏{‏من الذين كذبوا‏}‏ أي فعلوا فعل المكذب مستهينين ‏{‏بآيات الله‏}‏ أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه ‏{‏فتكون‏}‏ أي كوناً راسخاً ‏{‏من الخاسرين‏}‏ بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى ‏{‏عفا الله عنك‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 43‏]‏- الآية، وتغليظ العبارة فيه تأديب عظيم لتابعيه؛ والشك‏:‏ الوقوف بين النقيضين، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه؛ والإنزال‏:‏ نقل الشيء من علو إلى سفل؛ والامتراء؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل، من مري الضرع وهو مسحه ليدر‏.‏

ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم‏.‏ صرح به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت‏}‏ أي وجبت وثبتت ‏{‏عليهم‏}‏ أي بأنهم أشقياء، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال‏:‏ ‏{‏كلمت ربك‏}‏ أي المحسن إليك في جميع أمرك ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان ‏{‏ولو جآءتهم كل آية‏}‏ ونسبتها إلى قوله ‏{‏لقد جاءك الحق‏}‏ نسبة ‏{‏لقد جاءك الحق‏}‏ إلى ‏{‏فإن كنت في شك‏}‏ الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف، وإذا كان الكلام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها ‏{‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ أي حين لا ينفعهم الإيمان لفوات شرطه كما لم ينفع فرعون لذلك ‏{‏سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 92‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏98‏)‏ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

ولما كان هذا موضع أن يقال‏:‏ إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ أي فهلا ‏{‏كانت قرية‏}‏ أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها ‏{‏آمنت‏}‏ أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب ‏{‏فنفعهآ‏}‏ أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها- ‏{‏إيمانها‏}‏ ولما كان المعنى «لولا» النفي، كان التقدير‏:‏ لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه‏.‏ وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب ‏{‏إلاّ قوم يونس‏}‏ فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم ‏{‏لمآ آمنوا‏}‏ ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله‏:‏ ‏{‏كشفنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏عنهم‏}‏ أي حين إيمانهم، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل ‏{‏عذاب الخزي‏}‏ أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له ‏{‏ومتعناهم‏}‏ أي تمتيعاً عظيماً ‏{‏إلى حين‏}‏ وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال‏:‏ قال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ قال‏:‏ فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما «لولا» فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ‏.‏ ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى «لولا»، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع‏:‏ إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب‏.‏

ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شآء‏}‏ أي إيمان الناس ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير ‏{‏لأمن من في الأرض‏}‏ من الكفار‏.‏

ولما كان هذا ظاهراً في الكل، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال‏:‏ ‏{‏كلهم جميعاً‏}‏ أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك ‏{‏أفأنت تكره الناس‏}‏ أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب ‏{‏حتى يكونوا‏}‏ أي كوناً جبلياً ‏{‏مؤمنين‏}‏ أي راسخين في الإيمان، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل- وهو هنا الإكراه- ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صلى الله عليه وسلم من التحسر للحرص على إيمانهم ‏{‏وما كان‏}‏ أي وما ينبغي ولا يتأتى ‏{‏لنفس‏}‏ أي واحدة فما فوقها ‏{‏أن تؤمن‏}‏ أي يقع منها إيمان في وقت ما ‏{‏إلاّ بإذن الله‏}‏ أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه، فيجعل الثبات والطمأنينة- اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر- على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان ‏{‏ويجعل الرجس‏}‏ أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشئ عنه‏.‏

ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال‏:‏ ‏{‏على الذين لا يعقلون‏}‏ أي لا يوجد لهم عقل، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوئ الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس‏:‏ خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء، ونفسه وذاته واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 105‏]‏

‏{‏قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏101‏)‏ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏104‏)‏ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا يقال لهم إذا طلبوا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار‏.‏

ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو- كما قال الإمام علي رضي الله عنه- أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء‏:‏ ‏{‏انظروا‏}‏ أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام‏:‏ ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد، فلذلك أبهم في قوله‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏ أي الذي ‏{‏في السماوات والأرض‏}‏ أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها- بإلفكم لها- عن عداد الآيات، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات، وقال الإمام‏:‏ فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام‏:‏ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان- انتهى‏.‏

ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ وهي نافية أو استفهامية ‏{‏تغني الآيات‏}‏ أي وإن كانت في غاية الوضوح ‏{‏والنذر‏}‏ أي والإنذارات أو الرسل المنذرون ‏{‏عن قوم‏}‏ أي وإن كانت فيهم قوة ‏{‏لا يؤمنون*‏}‏ أي للحكم بشقائهم، فكان ذلك سبباً لتهديدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون‏}‏ أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان ‏{‏إلا‏}‏ أي أياماً أي وقائع ‏{‏مثل أيام‏}‏ أي وقائع ‏{‏الذين خلوا‏}‏ ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان قبل، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي من مكذبي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم بأسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد‏.‏

ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي هو العقاب، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏قل فانتظروا‏}‏ أي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كان يقع بالماضين في أيام الله، وزاد التحذير استئنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ وأعلمهم بالنصفة بقوله‏:‏ ‏{‏معكم من المنتظرين*‏}‏‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله‏:‏ ‏{‏ثم ننجي‏}‏ أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه رضي الله عنهم، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية ‏{‏ألا إن أولياء الله‏}‏ ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة ‏{‏رسلنا‏}‏ أي الذين عظمتهم من عظمتنا ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم ‏{‏حقاً علينا‏}‏ أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم ‏{‏ننج المؤمنين‏}‏ أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول‏:‏ هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، بل ‏{‏كذلك‏}‏ أي الحقوق ‏{‏حقاً علينا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏ننج المؤمنين‏}‏ في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت، فيكون الكاف مبتدأ «وننج» خبره؛ والنظر‏:‏ طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين؛ والغنى‏:‏ حصول ما ينافي الضر وصفة النقص، ونقيضه الحاجة؛ والنذر‏:‏ جمع نذير، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة؛ والانتظار‏:‏ الثبات لتوقع ما يكون من الحال؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره من الحس، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك‏.‏

ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك، وإن لم يكن على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته صلى الله عليه وسلم وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ أي الذين هم في حيز الاضطراب، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة منغمسين ‏{‏في شك‏}‏ كائن ‏{‏من‏}‏ جهة ‏{‏ديني‏}‏ تطلبون لنزوله- بعد تكفل العقل بالدلالة عليه- إنزال الآيات، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى

‏{‏قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 59‏]‏ ونحوه ‏{‏فلا أعبد‏}‏ أي الآن ولا في المستقبل الزمان ‏{‏الذين تعبدون‏}‏ أي الآن أو بعد الآن ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك لكم، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً‏.‏

ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال‏:‏ ‏{‏ولكن أعبد الله‏}‏ أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته ‏{‏الذي يتوفاكم‏}‏ بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها‏.‏ فلا تطمعون- عند إرادنه لنزعها- في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك‏.‏ وفي هذا الوصف- مع ما فيه من الترهيب- إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة، فكأنه قيل‏:‏ الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف، وقال ‏{‏إن كنتم في شك‏}‏ مع أنهم يصرحون ببطلان دينه، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات، أو لأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز؛ والشك‏:‏ وقوف بين المعنى ونقيضه، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه، وعبر ب «من» إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين، ولو عبر ب «في» لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منها كاف على حياله‏.‏

ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل، أتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله‏:‏ ‏{‏وأمرت‏}‏ أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال‏:‏ ‏{‏أن أكون‏}‏ أي دائماً كوناً جبلياً، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال‏:‏ ‏{‏من المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف ‏{‏وأن أقم‏}‏ أي أيها الرسول ‏{‏وجهك‏}‏ أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه ‏{‏للدين‏}‏ فوصل أولاً كلمه «أن» بمعنى الأمر أي ‏{‏أن أكون‏}‏ دون «أكن» وثانياً بلفظه وهو ‏{‏أقم‏}‏ جمعاً بين الأسلوبين، وكلاهما بمعنى المصدر، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ، وقوله‏:‏ ‏{‏حنيفاً‏}‏ حال من فاعل «أقم» ومعناه‏:‏ مسلماً ميالاً مع الدليل- كما أوضحته في البقرة، أي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح ‏{‏ولا تكونن‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏من المشركين*‏}‏ الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 109‏]‏

‏{‏وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏106‏)‏ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏107‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏108‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

ولما نهاه عن الشرك، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تدع‏}‏ أي في رتبة من الرتب الكائنة ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي بيده كل شيء ‏{‏ما لا ينفعك‏}‏ أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا ‏{‏ولا يضرك‏}‏ أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا ‏{‏فإن فعلت‏}‏ أي شيئاً مما نهيناك عنه ‏{‏فإنك إذاً‏}‏ إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك ‏{‏من الظالمين*‏}‏ أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏فإن فعلت‏}‏‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله‏}‏ أي الذي لا راد لأمره ‏{‏بضر‏}‏ أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار ‏{‏فلا كاشف له‏}‏ أي أصلاً بوجه من الوجوه ‏{‏إلا هو‏}‏ لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف ‏{‏وإن يردك‏}‏ أي مطلق إرادة ‏{‏بخير فلا‏}‏ أي أصابك لا محالة فإنه لا ‏{‏رآد‏}‏ ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله‏:‏ ‏{‏لفضله‏}‏ أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآيه من الاحتباك‏:‏ ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صلى الله عليه وسلم مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل‏:‏ ‏{‏يصيب به‏}‏ أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير ‏{‏من يشاء‏}‏ أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله‏:‏ ‏{‏من عباده‏}‏ وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله‏:‏ ‏{‏وهو الغفور‏}‏ أي البليغ الستر للذنوب ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس‏:‏ اجتماع التباين من غير نقص، ونظيره المطابقة، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف‏:‏ رفع الستار، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له‏.‏

ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب ‏{‏قد جاءكم الحق‏}‏ أي الكامل بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله‏:‏ ‏{‏من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم ‏{‏فمن‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه من ‏{‏اهتدى‏}‏ أي آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب ‏{‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة ‏{‏ومن ضل‏}‏ أي كفر بهما أو بشيء منهما ‏{‏فإنما يضل عليها‏}‏ لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه ‏{‏وما أنا‏}‏ ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال‏:‏ ‏{‏عليكم بوكيل*‏}‏ فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل‏.‏

ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صلى الله عليه وسلم بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفاً على قوله ‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏‏:‏ ‏{‏واتبع‏}‏ أي بجميع جهدك ‏{‏ما يوحى إليك‏}‏ وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى ‏{‏واصبر‏}‏ في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه ‏{‏حتى يحكم الله‏}‏ أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏خير الحاكمين‏}‏ لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري‏:‏ وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار قال‏:‏ «إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه- والله أعلم- أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والسبق في الإسلام حظ وافر‏.‏

هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة‏.‏ والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار‏:‏ حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال‏:‏ سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى‏:‏ والوحي‏:‏ إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء‏.‏ وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر‏:‏ تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق‏.‏