فصل: تفسير الآيات رقم (84- 85)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏*وإلى‏}‏ أي ولقد أرسلنا إلى ‏{‏مدين‏}‏ وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام ‏{‏أخاهم شعيباً‏}‏ فكأن قائلاً قال‏:‏ ما قال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة ‏{‏اعبدوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد ‏{‏ما لكم‏}‏ وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله غيره‏}‏ فلقد اتفقت- كما ترى- كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه «رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» في ذكر الأنبياء‏:‏ اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك‏:‏ إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهم ‏{‏تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 14‏]‏ القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت- انتهى‏.‏

ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال‏:‏ ‏{‏ولا تنقصوا‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏المكيال والميزان‏}‏ لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل‏:‏ تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن‏:‏ تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إني أراكم بخير‏}‏ أي بسعة تغنيكم عن البخس- مرهباً ومرغباً بالإشارة إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم‏:‏ ‏{‏وإني أخاف عليكم‏}‏ به وبالشرك ‏{‏عذاب يوم محيط*‏}‏ بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً، أي مهلك كقوله ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان‏:‏ أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏

«لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا»‏.‏

ولما كان عدم النقص قد يفهم منه التقريب، أتبعه بما ينفي هذا الاحتمال وللتنبيه على أنه لا يكفي الكف عن تعمد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها، ولأن التصريح بالأمر بالشيء بعد النهي عن ضده أوكد، فقال مستعطفاً لهم بالتذكير بأنه منهم يسوءه ما يسوءهم وبأنهم لما أعطاهم الله من القوة جديرون بأن يعرضوا عن تعاطي سفساف الأخلاق ورذائلها‏:‏ ‏{‏ويا قوم‏}‏ أي أيها الذين لهم قوة في القيام فيما ينوبهم ‏{‏أوفوا‏}‏ أي أتموا إتماماً حسناً ‏{‏المكيال والميزان‏}‏ أي، المكيل والموزون وآلتهما؛ وأكده بقوله‏:‏ ‏{‏بالقسط‏}‏ أي العدل السوي، فصار الوفاء مأموراً به في هاتين الجملتين مراراً تأكيداً له وحرصاً عليه وإظهاراً لعموم نفعه وشمول بركته، فزال بالمجموع توهم المجاز على أبلغ وجه، وقد مضى في الأنعام ويأتي في هذه السورة عند ‏{‏غير منقوص‏}‏ أن الشيء يطلق مجازاً على ما قاربه؛ ثم أكده أيضاً بتعميم النهي عن كل نقص بذلك وغيره في جميع الأموال فقال‏:‏ ‏{‏ولا تبخسوا‏}‏ أي تنقصوا على وجه الجحد والإهانة ‏{‏الناس أشياءهم‏}‏ ثم بين أن أفعالهم ثمرة الهجوم عن غير فكر لأنها ليست ناشئة عن شرع فأولها سفه وآخرها فساد فقال‏:‏ ‏{‏ولا تعثوا في الأرض‏}‏ أي تتصرفوا وتضطربوا فيها عن غير بصيرة ولا تأمل حال كونكم ‏{‏مفسدين*‏}‏ أي فاعلين ما يكون فساداً في المعنى كما كان فساداً في الصورة، فهو دعاء إلى تقديم التأمل والتروي على كل فعل وذلك لأن مادة «عثى» بكل ترتيب دائرة على الطلب عن غير بصيرة، من العيث- للأرض السهلة، فإنها لسهولتها يغتر بها فيسلكها الغبي بلا دليل فيأتي الخفاء والجهل، ومنه التعييث- لطلب الأعمى الشيء؛ والأعثى‏:‏ الأحمق الثقيل، واللون إلى السواد، والكثير الشعر، ويلزم ذلك اتباع الهوى فيأتي الإفساد والمسارعة فيه، وذلك هو معنى العثى؛ قال أئمة اللغة‏:‏ عثى وعاث‏:‏ أفسد، وفي مختصر العين للزبيدي‏:‏ عثى في الأرض بمعنى عاث يعيث عيثاً، وهو الإسراع في الفساد، فالمعنى على ما قال الجمهور‏:‏ ولا تفعلوا الفساد عمداً وهو واضح، وعلى ما قدّرته من أصل المعنى الذي هو للمدار أوضح، وعلى ما قال الزبيدي‏:‏ ولا تسرعوا فيه، فلا يظن أنه يكون الإسراع حينئذ قيداً حتى ينصب النهي إليه، بل هو إشارة إلى أنه لا يكون الإقدام بلا تأمل إلا كذلك لملاءمته للشهوة- والله أعلم؛ والوفاء‏:‏ تمام الحق؛ والبخس‏:‏ النقص، فهو أخص من الظلم لأنه وضع الشيء في غير موضعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 88‏]‏

‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏‏}‏

ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا‏:‏ إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏بقيت الله‏}‏ أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره ‏{‏خير لكم‏}‏ مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً- إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون‏:‏ أراك تبقي هذا ببصرك- إذا كان ينظر إليه- قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة‏.‏

ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏مؤمنين‏}‏ أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى‏:‏ فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير ‏{‏وما أنا‏}‏ وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بحفيظ*‏}‏ أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى‏.‏

ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل‏:‏ ما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا يا شعيب‏}‏ سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته ‏{‏أصلواتك تأمرك‏}‏ أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا ‏{‏أن نترك ما يعبد‏}‏ أي على سبيل المواظبة ‏{‏آباؤنا أو‏}‏ نترك ‏{‏أن نفعل‏}‏ أي دائماً ‏{‏في أموالنا ما نشاء‏}‏ من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي‏:‏ فعلك للصلاة؛ ومادة صلا- واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها- تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود‏:‏ كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا‏:‏ وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً، والمصلى من الخيل‏:‏ التابع للسابق، وصال الفحل- إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته‏:‏ عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى ‏{‏بالغدو والآصال‏}‏ في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ‏:‏ أما تعانيه من الصلوات‏:‏ الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه- فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في ألأموال بظن التبذير- فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به ‏{‏إنك‏}‏ إذاً ‏{‏لأنت‏}‏ وحدك ‏{‏الحليم‏}‏ في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام ‏{‏الرشيد*‏}‏ في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا- سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم‏.‏

ولما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ما أجابهم به‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ مستعطفاً لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهاً لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف ‏{‏أرءيتم‏}‏ أي أخبروني ‏{‏إن كنت‏}‏ أي كوناً هو في غاية الثبات ‏{‏على بينة‏}‏ أي برهان ‏{‏من ربي‏}‏ الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ قد ‏{‏رزقني‏}‏ وعظم الرزق بقوله‏:‏ ‏{‏منه رزقاً حسناً‏}‏ جليلاً ومالاً جماً حلالاً لم أظلم فيه أحداً، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، ويمكن أن يقال فيه‏:‏ هل يسع عاقلاً أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفاً من غضبه ورجاء لرضاه، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى ‏{‏وما أريد‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏أن أخالفكم‏}‏ أي بأن أذهب وحدي ‏{‏إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ في المستقبل، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم، فهو إرشاد إلى النظر في باب‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي بمثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم

وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد- حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحاً به فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أريد‏}‏ أي شيئاً من الأشياء ‏{‏إلا الإصلاح‏}‏ وأقر بالعجز فقال‏:‏ ‏{‏ما استطعت‏}‏ أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي- مع اجتنابي ما أنتم عليه- صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو- مع انتفاء التهمة عنى فيه- دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال‏:‏ ‏{‏وما توفيقي‏}‏ إي فيما استطعت من فعل الإصلاح ‏{‏إلا بالله‏}‏ أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيراً إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ ‏{‏عليه‏}‏ أي وحده ‏{‏توكلت‏}‏ ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله ‏{‏ما استطعت‏}‏ إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديداً لهم فقال منبهاً على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر‏:‏ ‏{‏وإليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏أنيب*‏}‏ أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحساً تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق‏:‏ خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله‏:‏ تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 91‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏‏}‏

ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحاً لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال‏:‏ ‏{‏ويا قوم‏}‏ وأعز الناس عليّ ‏{‏لا يجرمنكم‏}‏ أي يحملنكم ‏{‏شقاقي‏}‏ أي شقاقكم لي على ‏{‏أن يصيبكم‏}‏ من العذاب ‏{‏مثل ما‏}‏ أي العذاب الذي ‏{‏أصاب قوم نوح‏}‏ بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم ‏{‏أو قوم هود‏}‏ على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم ‏{‏أو قوم صالح‏}‏ مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور‏.‏

ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيماً للتهويل فقال‏:‏ ‏{‏وما قوم لوط‏}‏ أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم ‏{‏منكم ببعيد*‏}‏ أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال‏:‏ جرمت الرجل‏:‏ حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني‏.‏

ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفاً لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم‏:‏ ‏{‏واستغفروا ربكم‏}‏ أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ ثم علل ذلك مرغباً في الاقبال عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المختص لي بما ترون من الإحسان ديناً ودنيا ‏{‏رحيم ودود*‏}‏ أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله‏:‏ يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عناداً في الفهم لهذا الكلام الواضح جداً إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافاً في جواب من يقول‏:‏ ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن‏؟‏ بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا شعيب‏}‏ منادين له باسمه جفاء وغلظة ‏{‏ما نفقه‏}‏ أي الآن لأن «ما» تخص بالحال ‏{‏كثيراً مما تقول‏}‏ وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون‏:‏ خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاوناً به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان‏:‏ أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصواً عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم- والله أعلم- أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج‏.‏

ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين، أتبعوه قولهم‏:‏ ‏{‏وإنا لنراك‏}‏ أي رؤية مجددة مستمرة ‏{‏فينا ضعيفاً‏}‏ أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم‏:‏ ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ أي قتلناك شر قتلة- فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل‏:‏ إن فخذه أربعون- فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك ‏{‏وما أنت‏}‏ أي خاصة، لأن «ما» لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلاً أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لا سيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص ‏{‏علينا بعزيز*‏}‏ بكريم مودود، تقول‏:‏ أعززت فلاناً- إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد‏:‏ ما عززت علينا، لكان الجواب‏:‏ لم لا أعز وقد شرفني الله- أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولاً على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه‏:‏ فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسماً لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط‏:‏ الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء‏:‏ حجر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 95‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

ولما كان تخصيصهم نفي العزة به يفهم أن رهطه عليهم أعزة، أنكر عليهم ذلك في سياق مهدد لهم فقال تعالى حاكياً عنه استئنافاً‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي شعيب ‏{‏يا قوم‏}‏ ولم يخل الأمر من جذب واستعطاف بذكر الرحم العاطفة ‏{‏أرهطي‏}‏ أي أقاربي الأقربون منكم ‏{‏أعز عليكم من الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرةً حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم ولم تنظروا إلى الله في قربي منه بما ظهر عليّ من كرامته ‏{‏واتخذتموه‏}‏ أي بما كلفتم به أنفسكم مما هو خلاف الفطرة الأولى ‏{‏وراءكم‏}‏ أي أعرضتم عنه إعراض من جعل الشيء وراءه؛ وحقق معنى الوراء بقوله‏:‏ ‏{‏ظهرياً‏}‏ أي جعلتموه كالشيء الغائب عنكم المنسي عندكم الذي لا يعبأ به، ولم تراقبوه فيّ لنسبتي إليه بالرسالة والعبودية‏.‏

ولما كان معنى الكلام لأجل الإنكار‏:‏ إنكم عكستم في الفعل فلم تعرفوا الحق لأهله إذ كان ينبغي لكم أن لا تنسوا الله بل تراقبوه في كل أموركم، حسن تعليل هذا المفهوم بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إليّ؛ ولما كان المراد المبالغة في إحاطة علمه تعالى بأعمالهم قدم قوله‏:‏ ‏{‏بما تعملون محيط*‏}‏ من جليل وحقير، فهو مقتدر في كل فعل من أفعالكم على إنفاذه وإبطاله، فهو محيط بكم لا يرده عن نصرتي منكم والإيقاع بكم مراعاة أحد لعزة ولا قوة، بل لكم عنده أجل هو مؤخركم إليه لأنه لا يخشى الفوت؛ والاتخاذ‏:‏ أخذ الشيء لأمر يستمر في المستأنف كاتخاذ البيت؛ والمحيط‏:‏ المدير على الشيء كالحائط يحصره بحيث لا يفوته منه شيء‏.‏

ولما ختم الآية بتهديدهم بما بين أن تهديدهم له عدم لا يبالي به، أتبعه ما يصدقه من أنه ليس بتارك شيئاً من عمله مما جبلوا به، وزاد في التهديد فقال‏:‏ ‏{‏ويا قوم اعملوا‏}‏ أي أوقعوا العمل لكل ما تريدون قارين مستعلين ‏{‏على مكانتكم‏}‏ أي حالكم الذي تتمكنون به من العمل ‏{‏إني عامل‏}‏ على ما صار لي مكانة، أي حالاً أتمكن به من العمل لا أنفك عنه ما أنا عامل من تحذيري لمن كفر وتبشيري لمن آمن وقيامي بكل ما أوجب عليّ الملك غير هائب لكم ولا خائف منكم ولا طامع في مؤالفتكم ولا معتمد على سواه‏.‏

ولما كانت ملازمتهم لأعمالهم سبباً لوقوع العذاب المتوعد به ووقوعه سبباً للعلم بمن يخزي لمن يعلم أي هذين الأمرين يراد، ذكره بعد هذا التهديد فحسن حذف الفاء من قوله‏:‏ ‏{‏سوف تعلمون*‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه وإن تأخر زمانه، وسوقه مساق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ما المراد بهذا الأمر بالعمل المبالغ قبل في النهي عنه‏؟‏ وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام ما يوضحه‏.‏

وأحسن منه أنهم لما قالوا ‏{‏ما نفقه كثيراً مما تقول‏}‏ كذبهم- في إخراج الكلام على تقدير سؤال من هو منصب الفكر كله إلى كلامه- قائل‏:‏ ماذا يكون إذا عملنا وعملت‏؟‏ فهذا وصل خفي مشير إلى تقدير السؤال ولو ذكر الفاء لكان وصلاً ظاهراً، وقد ظهر الفرق بين كلام الله العالم بالإسباب وما يتصل بها من المسبباب المأمور بها أشرف خلقه صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام والزمر والكلام المحكي عن نبيه شعيب عليه السلام في هذه السورة ‏{‏من‏}‏ أي أينا أو الذي ‏{‏يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ ولما كان من مضمون قولهم ‏{‏ما نفقه كثيراً مما تقول‏}‏ النسبة إلى الكذب لأنه التكلم بما ليس له نسبة في الواقع تطابقه، قال‏:‏ ‏{‏ومن هو كاذب‏}‏ أي مني ومنكم، فالتقدير إن كانت «من» موصولة‏:‏ ستعلمون المخزي بالعذاب والكذب أنا وأنتم، وإن كانت استفهامية‏:‏ أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب، فالزموا مكانتكم لا تتقدموا عنها ‏{‏وارتقبوا‏}‏ أي انتظروا ما يكون من عواقبها‏.‏

ولما كانوا يكذبونه وينكرون قوله، أكد فقال‏:‏ ‏{‏إني معكم رقيب*‏}‏ لمثل ذلك، وإنما قدرت هذا المعطوف عليه لفصل الكلام في قوله ‏{‏سوف‏}‏ ويجوز عطفه على ‏{‏اعملوا‏}‏ وجرد ولم يقل‏:‏ مرتقب، إشارة إلى أن همه الاجتهاد في العمل بما أمره الله لأنه مبالغ في ارتقاب عاقبته معهم استهانة بهم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فأخذوا الكلام على ظاهره ولم ينتفعوا بصادع وعيده وباهره، فاستمروا على ما هم عليه من القبيح إلى أن جاء أمرنا في الأجل المضروب له، قال عاطفاً عليه، وكان العطف بالواو لأنه لم يتقدم وعيد بوقت معين- كما في قصتي صالح ولوط عليهما السلام- يتسبب عنه المجيء ويتعقبه‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ أي تعلق إرادتنا بالعذاب ‏{‏نجينا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏شعيباً‏}‏ أي تنجية عظيمة ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ كائنين ‏{‏معه‏}‏ منهم ومما عذبناهم به، وكان إنجاءنا لهم ‏{‏برحمة منا‏}‏ ولما ذكر نجاة المؤمنين، أتبعه هلاك الكافرين فقال‏:‏ ‏{‏وأخذت الذين ظلموا‏}‏ أي أوقعوا الظلم ولم يتوبوا ‏{‏الصيحة‏}‏ وكأنها كانت دون صيحة ثمود لأنهم كانوا أضعف منهم فلذلك أبرز علامة التأنيث في هذه دون تلك‏.‏

ولما ذكر الصيحة ذكر ما تسبب عنها فقال‏:‏ ‏{‏فأصبحوا‏}‏ أي في الوقت الذي يتوقع الإنسان فيه السرور وكل خير ‏{‏في ديارهم جاثمين*‏}‏ أي ساقطين لازمين لمكانهم‏.‏

ولما كان الجثوم قد لا يكون بالموت، أوضح المراد بقوله‏:‏ ‏{‏كأن لم يغنوا فيها‏}‏ أي لم يقيموا في ديارهم أغنياء متصرفين مترددين مع الغواني لاهين بالغناء؛ ولما كان مضمون ذلك الإبعاد أكده بقوله‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لمدين‏}‏ بعداً مع أنه بمعنى ضد القرب معه هلاك، فهو من بعد بالكسر وأيد ما فهمته من أن أمرهم كان أخف من أمر ثمود بقوله‏:‏ ‏{‏كما بعدت ثمود‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 99‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام، كان ذكر قصته هنا متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته ‏{‏موسى بآياتنا‏}‏ أي المعجزات التي أظهرها ‏{‏وسلطان‏}‏ أي أمر قاهر للقبط، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه ‏{‏مبين*‏}‏ أي بين بنفسه، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع، والسلطان يخص القاطع، والمبين يخص ما فيه جلاء ‏{‏إلى فرعون‏}‏ طاغية القبط ‏{‏وملئه‏}‏ أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل‏.‏

ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة‏:‏ ‏{‏فاتبعوا‏}‏ أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك منهم ‏{‏أمر فرعون‏}‏ أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم ‏{‏وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏أمر فرعون برشيد*‏}‏ أي سديد، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص- كما تقدم- التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم، وهذه حال آل فرعون، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر، ثم أطبق كلهم على الإتباع، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ‏:‏ الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع، طلب، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر‏:‏ الإيجاب بصيغة «أفعل» وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة، وقد لا يراد امتثال عين المأمور؛ والرشيد‏:‏ القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله‏:‏ ‏{‏يقدم قومه‏}‏ أي الذين كان لهم قوة المدافعة ‏{‏يوم القيامة‏}‏ ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار‏}‏ أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فبئس الواردون، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال‏:‏ ‏{‏وبئس الورد المورود*‏}‏ كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، وهذا يفيد ضد ذاك‏.‏

ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال‏:‏ ‏{‏وأتبعوا‏}‏ ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين ‏{‏في هذه‏}‏ أي الحياة الخسيسة ‏{‏لعنة‏}‏ فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أيضاً يلعنهم اللاعنون، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏بئس الرفد المرفود*‏}‏ أي التبع المتبوع والعون المعان، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له، ومادة «رفد» تدور على التبع، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي‏:‏ عذاب أو لعن، متبوعة بلعنة مضافة إليها، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى ‏{‏يقدم‏}‏ أنه يكون قدامهم غير سائق لهم، بل هم على أثره متلاحقين، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة‏:‏ القومة من الموت للحساب؛ والإتباع‏:‏ طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله‏:‏ الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك، ومن العباد‏:‏ الدعاء به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 103‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الأخبار على غاية منا التحذير، لا يعرفه إلا بالغ في العلم، كان من المعلوم قطعاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بها إلا من عند الله للعلم المشاهد بأنه لم يعان علماً ولا ألم بعالم يوماً، هذا مع ما اشتملت عليه من أنواع البلاغة وتضمنته من أنحاء الفصاحة وأومأت إليه بحسن سياقاتها من صروف الحكم وإفادة تفصيلها من فنون المعارف، فلذلك استحقت أن يشار إليها بأداة البعد إيماء إلى بعد المرتبة وعلو الأمر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي النبأ العظيم والخطب الجسيم ‏{‏من أنباء القرى‏}‏ وأكد هذا المعنى بلفظ النبأ لأنه الخبر فيه عظيم الشأن، ومنه النبي، وأشار بالتعبير بالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏نقصه عليك‏}‏ إلى أنا كما قصصناها عليك في هذا الحال للمقصد المتقدم سنقصها عليك لغير ذلك من الأغراض في فنون البلاغة وتصاريف الحكم كما سترى عند قصه؛ ثم أشار- بما أخبر من حلها بقوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ أي القرى ‏{‏قائم وحصيد*‏}‏ إلى أنك مثل ما سمعت ما قصصنا عليك من أمرها بأذنك ووعيته بقلبك تحسها بعينك بمشاهدة أبنيتها وآثارها قائمة ومستحصدة، أي متهدمة لم يبق من بنيانها إلا بعض جدرانها‏.‏

ولما كان فيما تقدم في هذه السورة من القصص أشد تهديد وأعظم وعيد لمن له تبصرة، صرح لغليظي الأكباد بأن الموجب للايقاع بهم إنما هو الظلم، فقال تعالى عاطفاً على نحو أن يقال‏:‏ فعلنا بهم وأنبأناك به‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ في شي منه ‏{‏ولكن ظلموا أنفسهم‏}‏ واعتمدوا على أندادهم معرضين عن جنابنا آمنين من عذابنا فأخذناهم ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن اعتمادهم على غيرنا أنه ما ‏{‏أغنت عنهم‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏آلهتهم التي‏}‏ وصور حالهم الماضية فقال‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ أي دعوها واستمروا على دعائهم لها إلى حين الأخذ، وين خسة رتبتها فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال؛ وذكر مفعول «اغنت» معرقاً في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي وإن قل ‏{‏لما جاء أمر‏}‏ أي عذاب ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بتأخير العذاب المستأصل عن أمتك وجعلك نبي الرحمة ‏{‏وما زادوهم‏}‏ في أحوالهم التي كانت لهم قبل عبادتهم إياها ‏{‏غير تتبيب*‏}‏ أي إهلاك وتخسير، فإنهم كانوا في عداد من يرجى فلاحه، فلما تورطوا في عبادتها ونشبوا في غوايتها وبعدوا عن الاستقامة بضلالتها خسروا أنفسهم التي هي رأس المال فكيف لهم بعد ذلك بالأرباح؛ والقص‏:‏ إتباع الأثر، فهو هنا الإخبار بالأمور التي يتلو بعضها بعضاً؛ والدعاء‏:‏ طلب الطالب الفعل من غيره، ونداء الشيء باسمه بحرف النداء، وكلا الأمرين مرادان؛ و‏{‏من دون الله‏}‏‏:‏ من منزلة أدنى من منزلة عبادة الله لأنه من الأدون، وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والتب‏:‏ الهلك والخسر‏.‏

ولما كان المقصود من ذلك رمي قلوب العرب بما فيه من سهام التهديد ليقلعوا عما تمكنوا فيه من عمى التقليد، قال تعالى معلماً بأن الذي أوقع بأولئك لظلمهم وهو لكل ظالم بالمرصاد سواء ظلم نفسه أو غيره‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل ذلك الأخذ العظيم ‏{‏أخذ ربك‏}‏ ذكّره بوصف الإحسان ما له إليه من البر لئلا يخاف على قومه من مثل هذا الأخذ ‏{‏إذا أخذ القرى‏}‏ أي أهلها وإن كانوا غير من تقدم الإخبار عنهم وإن عظموا وكثروا، ولكن الإخبار عنها أهول لأنه يفهم أنه ربما يعمها الهلاك لأجلهم بشدة الغضب من فعلهم كقرى قوم لوط عليه السلام ‏{‏وهي ظالمة‏}‏ روى البخاري في التفسير عن أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ ‏{‏وكذلك أخذ ربك‏}‏ الآية‏.‏

ولما كان مثل هذا الآخذ لا يداينه مخلوق ولا يقدر عليه ملك، حسن كل الحسن إتباع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏إن أخذه أليم‏}‏ أي مؤلم قاطع للآمال مالئ البدن والروح والنفس بالنكال ‏{‏شديد*‏}‏ أي صعب مفتت للقوى، ولعله عبر هنا باسم الرب مضيفاً له إلى المنبأ بهذه الأنباء مكرراً لذلك في هذا المقام الذي ربما سبق فيه الوهم إلى أنه باسم الجبار والمنتقم مثلاً أليق، إشارة إلى أنه سبحانه يربيك أحسن تربية في إظهارك على الدين كله وانقياد العظماء لأمرك وذل الأعزة لسطوتك وخفض الرؤوس لعلو شأنك، فلا تتكلف أنت شيئاً من قصد إجابتهم إلى إنزال آية أو ترك ما يغيظ من إنذار ونحو ذلك- والله الموفق‏.‏

ولما كان مما جر هذه القصص وهذه المواعظ تكذيبهم لما يوعدون من العذاب الناشئ عن إنكار البعث المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت‏}‏، أشار تعالى إلى تحقق أمر الآخرة وأنه مما ينبغي الاهتمام به رداً للمقطع على المطلع، وإعلاماً بأنه لا فرق بينه وبين ما تحقق إيقاعه من عذاب هذه الأمم في القدرة عليه بقوله مؤكداً لأجل جحودهم أن يكون في شيء مما مضى دلالة عليه بوجه من الوجوه‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي النبأ العظيم والقصص والوعظ بما يذكر ‏{‏لآية‏}‏ أي لعلامة عظيمة ودلالة بتة ولما كان وجود الشيء عدماً بالنسبة إلى ما لا نفع له به، قال‏:‏ ‏{‏لمن خاف عذاب‏}‏ يوم الحياة ‏{‏الآخرة‏}‏ لأنه نفع خاص به، وإنما كان آية له لأنه إذا نظر إلى إهلاكه للظالمين إهلاكاً عاماً بسبب ظلمهم وإنجائه للمؤمنين، علم أنه قادر على ما يريد، وأنه لا بد أن يجازي كلاًّ بما فعل، فإذا رأى أن ظلمه كثيرين يموتون بغير انتقام، علم أنه لا بد من يوم يجازيهم فيه، وهو اليوم الذي أخبرت به عنه رسله، وزاد في الإشارة إلى تهويله بإعادة اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي اليوم العظيم الذي يكون فيه عذاب الآخرة ‏{‏يوم‏}‏ وأشار- إلى يسر البعث وسهولته عليه وأنه أمر ثابت لا بد منه- باسم المفعول من قوله‏:‏ ‏{‏مجموع له‏}‏ أي لإظهار العدل فيه والفضل ‏{‏الناس‏}‏ أي كل من فيه أهلية التحرك والاضطراب وما ثمّ يوم غيره يكون بهذه الصفة أصلاً‏.‏

ولما لم يسبقه يوم اجتمع فيه جميع الخلق من الجن والإنس والملائكة وجميع الحيوانات أحياء، وكان ذلك مسوغاً لأن تعد شهادة غيره عدماً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وذلك‏}‏ أي اليوم العظيم ‏{‏يوم مشهود*‏}‏ أي هو نفسه لهم ولغيرهم من جميع الخلق، فيكون تنوينه للتعظيم بدلالة المقام، أو يكون المعنى أنه أهل لأن يشهد، وتتوفر الدواعي على حضوره لما فيه من عجائب الأمور والأهوال العظام والمواقف الصعبة، فلا يكون ثم شغل إلا نظر ما فيه والإحاطة بحوادثه خوف التلاف ورجاء الخلاص؛ والآية‏:‏ العلامة العظيمة لما فيها من البيان عن الأمر الكبير؛ والخوف‏:‏ انزعاج النفس بتوقع الشر، وضده الأمن وهو سكون النفس بتوقع الخير؛ والعذاب‏:‏ استمرار الألم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏‏}‏

ولما تقدم قولهم ‏{‏ما يحبسه‏}‏ كان كأنه قيل في الرد عليهم‏:‏ نحن قادرون على تعجيله، وهو- كما أشرنا إليه في هذه الآية- عندنا متى شئنا في غاية السهولة‏:‏ ‏{‏وما نؤخره‏}‏ أي اليوم أو الجزاء مع ما لنا من العظمة والقدرة التامة على إيجاده لشيء من الأشياء ‏{‏إلا لأجل‏}‏ أي لأجل انتهاء أجل ‏{‏معدود*‏}‏ سبق في الأزل تقديره ممن لا يبدل القول لديه وكل شيء في حكمه، فهو لا يخشى الفوت؛ ومادة «أجل» بتراكيبها الأربعة‏:‏ أجل وجأل وجلأ ولجأ تدور على المدة المضروبة للشيء، فالأجل- محركة‏:‏ مدة الشيء وغاية الوقت في الموت وحلول الدين من تسمية الجزء باسم الكل، والتأجيل‏:‏ تحديد الأجل، ويلزمه التأخير، ومنه أجل الشيء كفرح- إذا تأخر، والآجلة‏:‏ الآخرة، وأجل الشيء- بالفتح‏:‏ حبسه ومنعه، لأن الأجل حابس ومانع للمؤجل، ومنه أجلى كجمزى، وهو مرعى لهم معروف كأنه لحسنه يحبس الراعي فيه، وأجل الشر عليهم‏:‏ حناه وأثاره وهيجه، ولأهله‏:‏ كسب وجمع واحتال، لأن ذلك كله من لوازم ذي الأجل، أو المعنى أنه أوجد أجل ذلك، وكمقعد ومعظم‏:‏ مستنفع الماء، لأنه محيط به إحاطة الأجل بالمؤجل، وأجله فيه تأجيلاً‏:‏ جمعه فتأجل، والمأجل‏:‏ الحوض يحبس فيه الماء، وأجلوا ما لهم‏:‏ حبسوه في المرعى، والاجل- بالكسر‏:‏ قطيع من بقر الوحش، تشبيهاً له في اجتماعه من حيث إنه أحصن له بالأجل لأنه- كما قيل- حصن حصين، والاجل- بالكسر أيضاً‏:‏ وجع في العنق، لأنه من أسباب حلول الأجل، وأجله‏:‏ داواه منه، وبالضم جمع أجيل للمتأخر وللمجتمع من الطين يجعل حول النخلة، لإحاطته بها إحاطة الأجل وتحصينه لها، وتأجل القوم‏:‏ تجمعوا، لأن التجمع أحصن لهم، وأجل- بفتحتين ثم سكون‏:‏ جواب كنعم وزناً ومعنى إلا أنه أحسن منه في التصديق، ونعم منه في الاستفهام، وحقيقة ذلك الإخبار بأن أجل- أي وقت- ذلك الفعل الموجب أو المستفهم عنه قد حضر، وفعلت ذلك من أجلك- من غير «من»- ومن أجلك، ومن أجلاك ومن أجلالك ويكسر في الكل، أي من جللك- قاله في القاموس، وقال في فصل الجيم‏:‏ وفعلته من جلك- بالضم- وجلالك وجللك- محركة- وتجلتك وإجلالك- بالكسر، ومن أجل إجلالك ومن أجلك بمعنى- انتهى‏.‏ وحقيقته أن فعلي مبتدئ من أجلك- بالتحريك، أو تكون «من» سببية، اي أجلك سبب فيه، ولولا وجودك ما فعلته فهو لتعظيمك؛ والملجأ واللجأ- محركة‏:‏ المعقل والملاذ، كأنه شبه بالأجل، ومنه لجأ إليه- كمنع وفرح‏:‏ لاذ، وألجأ أمره إلى الله‏:‏ أسنده، وألجأ فلاناً إلى كذا‏:‏ اضطره، والتلجئة‏:‏ الإكراه، واللجأ- محركاً‏:‏ الضفدع، لالتجائها إلى الماء؛ ومن ذلك الجيأل- كصقيل، وجيأل وجيألة ممنوعين، وجيل بلا همز كله اسم الضبع لكثرة لجائها إلى وجارها، ومنه جئل- كفرح- جألاناً‏:‏ عرج، كأنه تشبيه بمشيتها، لأن من أسمائها العرجاء، أو تشبيه بمشية الراقي في درج الملجأ، أي الحصن، وكذا الأجل- كقنب وقبر- وهو ذكر الأوعال، لأن قرونه كالحصن له، وجيألة الجرح‏:‏ غثيثه، وهو مرية، لأنه من أسباب قرب الأجل، وكذا الاجئلال- أي الفزع- ربما كان سبباً لذلك، وربما كان سبباً للمبادرة إلى الحصن، وجأل- كمنع‏:‏ ذهب وجاء، والصوف‏:‏ جمعه واجتمع- لازم متعد، كله من لوازم الأجل بمعنى المدة، وجلأ بالرجل- كمنع‏:‏ صرعته، وبثوبه‏:‏ رماه، كأنه جعله في قوة من حضر أجله، وإن شئت قلت في ضبط ذلك‏:‏ إن المادة- مع دورانها على المدة- تارة تنظر إلى نفس المدة، وتارة إلى آخرها، وتارة إلى امتدادها وتأخرها، وتارة إلى ما يدني منه، وتارة إلى منفعتها، وتارة إلى ما يلزم فيها، فمن النظر إلى نفس المدة‏:‏ التأجيل بمعنى تحديد الأجل، وهو مدة الشيء، وفعلت هذا من أجلك، أي لولا وجودك ما فعلته، وأجل بمعنى نعم، أي حضرت مدة الفعل، ومن النظر إلى الآخر‏:‏ دنا الأجل- في الموت والدّين، ومن النظر إلى التأخر‏:‏ أجل الشيء- إذا تأخر، والآجلة‏:‏ الآخرة، ومن النظر إلى السبب المدني‏:‏ الأجل- بالكسر- لوجع في العنق، وجيألة الجرح- لغثيثه أي مريه، وجلأ بالرجل‏:‏ صرعه وبثوبه‏:‏ رماه، وأجل الشر عليهم‏:‏ جناه، أو أثاره وهيجه، والاجئلال‏:‏ الفزع، ومن النظر إلى المنفعة وهي أن التأجيل الذي هو تحديد الأجل للشيء مانع من أخذه دون ما ضرب له من المدة‏:‏ الاجل- بالكسر- للقطيع من بقر الوحش، وأجل الشيء‏:‏ حبسه ومنعه، وأجلى كجمزي‏:‏ مرعي لهم معروف، وتأجل القوم‏:‏ تجمعوا، وجأل الصوف جمعه، واللجأ والملجأ‏:‏ المعقل والملاذ، والضفدع للزومها ملجأها من الماء، والجيأل للضبع للزومها وجارها، ولذلك تسمى أم عامر، وجئل- كفرح‏:‏ عرج، كأنه شبه بمشيتها لأنها تسمى العرجاء، والأجل كقنب وقبر- لذكر الأوعال، لتحصنه بقرونه، والأجل- بالضم‏:‏ المجتمع من الطين يجعل حول النخلة، والمآجل‏:‏ الحوض يحبس فيه الماء، ومستنقع الماء مطلقاً، وأجله تأجيلاً‏:‏ جمعه، ومن النظر إلى ما يلزم في المدة‏:‏ أجل لأهله‏:‏ كسب وجمع وجلب واحتال، وجأل- كمنع‏:‏ جاء وذهب؛ فقد تبين أن المراد بالأجل هنا الحين‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء‏!‏ أجيب بقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأت‏}‏ أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلاً في مقدار ثلثية، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أني يكون المستثنى أقل من المستثنى منه ‏{‏لا تكلم‏}‏ ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء ‏{‏نفس‏}‏ من جميع الخلق في ذلك اليوم الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جداً ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير‏.‏

ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال‏:‏ ‏{‏فمنهم‏}‏ أي الخلائق الحاضرين لأمره ‏{‏شقي‏}‏ ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها ‏{‏وسعيد*‏}‏ ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير‏:‏ الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل‏:‏ الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف «إلى»؛ والشقاء‏:‏ قوة أسباب البلاء‏.‏

ولما كان أكثر الخلق هالكاً مع أن المقام مقام تهديد وتهويل، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيباً للنشر على ترتيب اللف فقال‏:‏ ‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ أي أدركهم العسر والشدة ‏{‏ففي النار‏}‏ أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم ‏{‏لهم فيها زفير‏}‏ أي عظيم جداً ‏{‏وشهيق*‏}‏ من زفر- إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه، وشهيق- إذ تردد البكاء في صدره- قاله في القاموس؛ وقال ابن كثير في تفسير سورة الأنبياء‏:‏ الزفير خروج أنفاسهم، والشهيق‏:‏ ولوج أنفسهم؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الزفير‏:‏ الصوت الشديد، والشهيق‏:‏ الصوت الضعيف، وعن الضحاك ومقاتل‏:‏ الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه، وسيأتي كلام الزماني في ذلك ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي بلا انقطاع، وعبر عنه بقوله جرياً على أساليب العرب‏:‏ ‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏‏.‏

ولما كان له شيء لا يقبح منه شيء وهو قادر على كل شيء، دل على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إلا ما شاء‏}‏ أي مدة شاءها فإنه لا يحكم لهم بذلك فيها فلا يدخلونها‏.‏

ولما كان الحال في هذه السورة مقتضياً- كما تقدم- لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما أخبر به سبحانه في قوله ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏- الآية، من ضيق صدره، ولذلك أتى بهذه القصص كما مضى بيان ذلك، عبر باسم الرب إشارة إلى أنه يحسن إليه بكل ما يسر قلبه ويشرح صدره فقال‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ وقد جرى الناس في هذا الاستثناء على ظاهره ثم أطالوا الاختلاف في تعيين المدة المستثناة، والذي ظهر لي- والله أعلم- أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين وأن الشرك لا يغفر والإيمان موجب للجنة فكان ربما ظن أنه لا يمكن غير ذلك كما ظنه المعتزلة لا سيما إذا تؤمل القطع في مثل قوله ‏{‏أن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ جاء هذا الاستثناء معلماً أن الأمر فيه إلى الله تعالى كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء وإن جزم القول فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبر به، وهذا كما تقول‏:‏ اسكن هذه الدار عمرك إلاّ ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئاً، فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر كذلك الاستثناء لا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة، ثم رأيت الإمام أباً أحمد البغوي قد ذكر معنى هذا آخر ما أورده في تفسيره من الأقوال في الآية وحكي نحوه عن الفراء، ومثله بأن تقول‏:‏ والله لأضربنك إلاّ إن أرى، وعزيمتك أن تضربه، وعزاه الطحاوي في بيان المشكل إلى أهل اللغة منهم الفراء‏.‏

ولما كان تخليد الكفار من الحكم بالقسط بين الفريقين لأنه من أكبر تنعيم المؤمنين الذين عادوهم في الله كما تقدم التنبيه عليه أول سورة يونس عليه السلام عند قوله ‏{‏ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط‏}‏ كان ربما توهم أن الاستثناء لو أُخذ على ظاهره لم يكن إخراجهم من النار حيناً، نفى هذا التوهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏فعال لما يريد‏}‏ أي لا يجوز عليه البدء بالرجوع عما أراد ولا المنع عن مراده ولا يتعذر عليه شيء منه مع كثرة المرادات فلا اعتراض عليه ولا يلزمه لأحد شيء، بل له أن يخلد العاصين في الجنة ويخلد الطائعين في النار، ولكنه كما ثبت ذلك ليعتقد لكونه من صفة الكمال ثبت أنه لا يفعل ذلك سبحانه ولا يبدل القول لديه لأن ذلك من صفات الكمال أيضاً مع أن في ختم الآية بذلك ترجية لأهل النار في إخراجهم منها زيادة في عذابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 112‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏110‏)‏ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏111‏)‏ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

ولما تم أمر الأشقياء، عطف عليه قسيمهم فقال‏:‏ ‏{‏وأما الذين سعدوا‏}‏ أي فازوا بمطالبهم وتيسر أمرهم ‏{‏ففي الجنة‏}‏ أي التي صارت معلومة من الدين بالضرورة ‏{‏خالدين فيها‏}‏ دائماً أبداً ‏{‏ما دامت السماوات والأرض‏}‏ على ما جرت به عادة العرب في إرادة التأبيد بلا آخر بمثل هذا ‏{‏إلاّ ما شآء ربك‏}‏ وأدل دليل على ما قلت في الاستثناء قوله‏:‏ ‏{‏عطاء‏}‏ هو نصب على المصدر ‏{‏غير مجذوذ‏}‏ أي مقطوع ولا مكسور ولا مفصول- لعطاء من الأعطية ولا مفرق ولا مستهان به‏:‏ لأنهم لو انفكوا من النعيم حقيقة أو معنى ولو لحظة لكان مقطوعاً أو منقوصاً؛ وفي الختم بذلك من الجزم بالدوام طمأنينة لأهل الجنة زيادة في نعيمهم عكس ما كان لأهل النار؛ قال أبو الحسن الرماني‏:‏ والزفير‏:‏ ترديد النفس مع الصوت حتى تنتفخ الضلوع، وأصله الشدة من المزفور الخلق، والزفر‏:‏ الحمل على الظهر، لشدته، والزفر‏:‏ السيد لأنه يطيق حمل الشدائد، وزفرت النار- إذا سمعت لها صوتاً في شدة توقدها، والشهيق‏:‏ صوت فظيع يخرج من الجوف بمد النفس، وأصله الطول المفرط من قولهم‏:‏ جبل شاهق أي ممتنع طولاً؛ والخالد‏:‏ الكائن في الشيء أبداً، والدائم‏:‏ الباقي أبداً، ولهذا يوصف الله تعالى بالدائم دون الخالد‏.‏

ولما أخبره تعالى بوقوع القضاء بتمييز الناس في اليوم المشهود إلى القسمين المذكورين على الحكم المشروح مرهباً ومرغباً، كان ذلك كافياً في الثبات على أمر الله والمضيّ لإنفاذ جميع ما أرسل به وإن شق اعتماداً على النصرة في ذلك اليوم بحضرة تلك الجموع، فكان ذلك سبباً للنهي عن القلق في شيء من الأشياء وإن جل وقعه وتعاظم خطبه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا‏}‏ ولما كان ما تضمنه هذا التقسيم أمراً عظيماً وخطباً جسيماً، اقتضى عظيم تشوف النفس وشديد شوقها لعلم ما سبب عنه، فاقتضى ذلك حذف النون من «كان» إيجازاً في الكلام للإسراع بالإيقاف على المراد والإبلاغ في نفي الكون على أعلى الوجوه فقال‏:‏ ‏{‏تك‏}‏ أي في حالة من الأحوال ‏{‏في مرية‏}‏ والمرية‏:‏ الشك مع ظهور الدلالة للتهمة- قاله الرماني ‏{‏مما يعبد هؤلآء‏}‏ أي لا تفعل فعل من هو في مرية بأن تضطرب من أجل ما يعبدون مواظبين على عبادتهم مجددين ذلك في كل حي فتنجع نفسك في إرادة مبادرتهم إلى امتثال الأوامر في النزوع عن ذلك بالكف عن مكاشفتهم بغائظ الإنذار والطلب لإجابة مقترحاتهم رجاء الأزدجار كما مضى في قوله تعالى ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك‏}‏- الآية، وذلك أن مادة مرى- بأيّ ترتيب كان- تدور على الاضطراب، وقد يلزمه الطرح والفصل‏:‏ رمى يرمي رمياً، والمرماة‏:‏ ظلف الشاة لأنه يطرح، والرمي‏:‏ قطع من السحاب رقاق؛ والريم‏:‏ البراح، ما يريم يفعل كذا‏:‏ ما يزال، والريم‏:‏ الدرج للاضطراب فيها، والقبر لنبذه في جانب من الأرض وطرح الميت فيه، وريم فلان بالمكان‏:‏ أقام به مجاوزاً لغيره منفصلاً عنه كأنه رمى بنفسه فيه، وريمت السحابة- إذا دامت فلم تقلع، لأن من شأنها رمي القطر، ومرى الضرع‏:‏ مسحه للحلب، والريح تمري السحاب، والمري‏:‏ المعدة لقذفها ما فيها، والمرية‏:‏ الشك، أي تزلزل الاعتقاد، والميرة‏:‏ جلب الطعام؛ ثم استأنف تعالى خبراً هو بمنزلة العلة لذلك فقال‏:‏ ‏{‏ما يعبدون‏}‏ أي يوقعون العبادة على وجه الاستمرار ‏{‏إلاّ كما يعبد آباؤهم‏}‏ ولما كانت عبادتهم في قليل من الزمن الماضي أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي أنهم لم يفعلوا ذلك لشبهة إذا كشف عنها القناع رجعوا، بل لمحض تقليد الآباء مع استحضارهم لتلبسهم بالعبادة كأنهم حاضرون لديهم يشاهدونهم مع العمى عن النظر في الدلائل والحجج كما كان من قصصنا عليك أخبارهم من الأمم في تقليد الآباء سواء بسواء مع عظيم شكيمتهم وشدة عصبتهم للأجانب فكيف بالأقارب فكيف بالآباء‏!‏ فأقم عليهم الحجة بإبلاغ جميع ما نأمرك به كما فعل من قصصنا عليك أنباءهم من إخوانك من الرسل غير مخطر في البال شيئاً مما قد يترتب عليه إلى أن ينفذ ما نريد من أوامرنا كما سبق في العلم فلا تستعجل فإنا ندبر الأمر في سفول شأنهم وعلو شأنك كما نريد ‏{‏وإنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏لموفوهم نصيبهم‏}‏ من الخير والشر من الآجال وغيرها وما هو ثابت ثباتاً لا يفارق أصلاً؛ ولما كانت التوفية قد تطلق على مجرد الإعطاء وقد يكون ذلك على التقريب، نفى هذا الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏غير منقوص‏}‏ والنصيب‏:‏ القسم المجعول لصاحبه كالحظ؛ والمنقوص‏:‏ المقدار المأخوذ جزء منه؛ والنقص‏:‏ أخذ جزء من المقدار‏.‏

ولما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب، سلاه بأخيه عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي التوراة الجامعة للخير‏.‏

ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏فاختلف فيه‏}‏ فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء، وكان معجباً لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله، وهو لا يكون إلاّ مصحوباً بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه وسمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذاً للعقول، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق‏:‏ ربانيين، وقرابين، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضاً، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئاً فشيئاً ‏{‏ولولا كلمة‏}‏ أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم ‏{‏سبقت من ربك‏}‏ أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين ‏{‏لقُضي‏}‏ أي لوقع القضاء ‏{‏بينهم‏}‏ أي بين من اختلف في كتاب موسى عاجلاً، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس ‏{‏فما اختلفوا حتى جاءهم العلم‏}‏- الآية‏.‏

ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به، فقال مؤكداً لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك‏:‏ ‏{‏وإنهم لفي شك‏}‏ أي عظيم محيط بهم ‏{‏منه‏}‏ أي من القضاء أو الكتاب ‏{‏مريب‏}‏ أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال ‏{‏وإن كلاًّ‏}‏ من المختلفين في الحق من قوم موسى وغيرهم ممن هو على الحق وممن هو على الباطل؛ و‏{‏إن‏}‏ عند نافع وابن كثير وأبي بكر عن عاصم عاملة مع تخفيفها من الثقيلة في قراءة غيرهم اعتباراً بأصلها ‏{‏لما‏}‏ هي في قراءة ابن عامر وحمزة وعاصم بالتشديد الجازمة حذف فعلها- قال ابن الحاجب‏:‏ وهو شائع فصيح، وفي قراءة غيرهم بالتخفيف مركبة من لام الابتداء و‏{‏ما‏}‏ المؤكدة بنفي نقيض ما أثبته الكلام ليكون ثبوته مع نفي نقيضه على أبلغ وجه‏.‏

ولما كان الشرط في حذف الفعل بعد «لما» الجازمة أن يكون مما يتوقع بوقوع فعل قبلها يدل عليه، كان التقدير‏:‏ يقض بينهم، وسيقضي وهو معنى ما قرن بعدها بلام القسم من قوله‏:‏ ‏{‏ليوفينهم ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإقامتك على المنهاج الأعدل والفضل من العباد ‏{‏أعمالهم‏}‏ لا يدع منها شيئاً لأنه لا يخفى عليه منها شيء، والسياق يقتضي أن يكون ‏{‏ما‏}‏ في ‏{‏لما‏}‏ في قراءة التخفيف للتأكيد على النحو الذي مر غير مرة أن النافي إذا زيد في سياق الإثبات كان كأنه نفي النقيض تأكيداً لمثبت ‏{‏إنه بما يعملون‏}‏ قدم الظرف لتأكيد الخبر ‏{‏خبير‏}‏ فإذا علمت أن شأنك في أمتك شأن الرسل في أممهم وأنه لا بد من الاختلاف في شأن الرسول والكتاب كما جرت بذلك السنة الإلهية وأن الجزاء بالأعمال كلها لا يد منه ‏{‏فاستقم‏}‏ أي أوجد القوم بغاية جهدك بسبب أنك لا تكلف إلاّ نفسك وأن الذي أرسلك لا يغفل عن شيء، ومن استقام استقيم له‏.‏

ولما كان من المقطوع به أن الآمر له صلى الله عليه وسلم مَن له الأمر كله، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏كمآ أمرت‏}‏ أي كما استقام إخوانك من الأنبياء في جميع الأصول والفروع سواء كان في نفسك أو في تبليغ غيرك معتدلاً بين الإفراط والتفريط ولا يضيق صدرك من استهزائهم وتعنتهم واقتراحهم للآيات وإرادتهم أن تترك بعض ما يوحى إليك من التشنيع عليهم والعيب لدينهم بل صارحهم بالأمر واتركهم وأهواءهم، نحن ندبر الأمر كما نريد على حسب ما نعلم‏.‏

ولما كان الفاصل بين المعطوف والمعطوف عليه يقوم مقام تأكيد الضمير المستتر، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وليستقم أيضاً من ‏{‏تاب‏}‏ عن الكفر مؤمناً ‏{‏معك‏}‏ على ما أمروا تاركين القلق من استبطائهم للنصرة كما روى البخاري وابو داود والنسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال‏:‏ «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلنا‏:‏ ألا تدعو الله لنا، فقعد وهو محمر وجهه فقال‏:‏ كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين، وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية أشد ولا أشق من هذه الآية‏.‏ والاستقامة‏:‏ الاستمرار في جهة واحدة‏.‏

ولما كانت وسطاً بين إفراط وتفريط وكان التفريط لا يكاد يسلم منه إلا الفرد النادر، وهو في الأغلب يورث انكسار النفس واحتقارها والخوف من الله، وكان الإفراط يورث إعجاباً، وربما أفضى بالإنسان إلى ظن أنه شارع فينسلخ لذلك من الدين، طوى التفريط ونهى عن الإفراط فقال‏:‏ ‏{‏ولا تطغوا‏}‏ أي تتجاوزوا الحد فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزيادة إفراطاً، فإن الله تعالى إنما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك ولن تطيقوا أن تقدروا الله حق قدره، والدين متين لن يشاده أحد إلا غلبه، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ ولا تبطركم النعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة‏.‏

ولما نهي عن الإفراط وهو الزيادة تصريحاً، فأفهم النهي عن التفريط، وهو النقص عن المأمور تلويحاً من باب الأولى، على ذلك مؤكداً تنزيلاً لمن يفرط أو يفرط منزلة المنكر فقال‏:‏ ‏{‏إنه بما تعملون‏}‏ قدم الظرف لما تقدم من تأكيد الإبصار ‏{‏بصير*‏}‏ ومادة «طغى» واوية ويائية بكل ترتيب تدور على مجاوزة الحد مع العلو، فالغطاء‏:‏ ما ستر به الشيء عالياً عليه، ولا يكون ساتراً لجميعه إلا إذا فضل عنه فتجاوز حده، وغطى الليل- إذا غشي، وكل شي ارتفع فهو غاط‏.‏ وطغى السيل- إذا جاء بماء كثير، والبحر‏:‏ هاجت أمواجه، والطغيان‏:‏ مجاوزة الحد في العصيان، والغائط والغيط‏:‏ المطمئن من الأرض، لأن ما كان كذلك وكانت أرضه طيبة كانت لا تزال ريّاً فيعلو ما نبت فيها ويخصب فيتجاوز الحد في ذلك، ومنه الغوطة- لموضع بالشام كثير الماء والشجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 117‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

ولما نهي عن الإفراط في الدين، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال‏:‏ ‏{‏ولا تركنوا‏}‏ أي شيئاً من ركون، وقال‏:‏ ‏{‏إلى الذين ظلموا‏}‏ أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، وحاصل الآيتين‏:‏ لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين، وفسر الزمخشري الركون بالميل اليسير، وهو حسن من جهة المعنى لكني لن أره لغيره من أهل اللغة، وقال الرماني- وهو أقرب‏:‏ الركون‏:‏ السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه، ونقيضه النفور عنه‏.‏ وهو على التفسير الثاني في ‏{‏تطغوا‏}‏ من عطف الخاص على العام، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يُوحى إليك‏}‏ ‏{‏فتمسكم النار‏}‏ أي فتسبب عن ركونكم إليهم مسُّها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم؛ ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر- نبه على ذلك الإمام أبو حيان‏.‏

ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما لكم‏}‏ ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه، أدخل الجار تبعيضاً فقال‏:‏ ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الملك لأعظم، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من أولياء‏}‏ أي يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن ‏{‏دون‏}‏ من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والولي‏:‏ المختص بأن من شأنه تولي المعونة عند الحاجة، وأشار إلى أن نصر مَنْ لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏ثم لا تنصرون*‏}‏ أي ثم إذاً فإنكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة‏!‏

ولما كان العلم حاصلاً بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير، أتبع ذلك بأعلى مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر وأعمه وأجلبه للاستقامة، وذلك يدل على أنها بعد الإيمان أفضل العبادات، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة‏}‏ أي اعملها على استواء ‏{‏طرفي النهار‏}‏ بالصبح والعصر كما كان مفروضاً بمكة في أول الأمر قبل الإسراء، ويمكن أن يراد مع ذلك الظهر لأنها من الطرف الثاني ‏{‏وزُلفاً‏}‏ أي طوائف ودرجات وأوقات، جمع زلفة ‏{‏من الَّيل‏}‏ يمكن أن يكون المراد به التهجد، فقد كان مفروضاً في أول الإسلام، ويمكن أن يراد المغرب والعشاء مع الوتر أو التهجد؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الحسنات‏}‏ أي الطاعات كلها الصلاة وغيرها المبنية على أساس الإيمان ‏{‏يذهبن السيئات‏}‏ أي الصغائر، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله ‏{‏ثم توبوا إليه‏}‏ أنه لا يكفرها إلا التوبة لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله

‏{‏إن تجتنبوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 30‏]‏؛ روى البخاري في التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عليه ‏{‏أقم الصلاة طرفي النهار‏}‏- الآية، قال الرجل‏:‏ ألي هذه‏؟‏ قال‏:‏ لمن عمل بها من أمتي» وهذا الحديث يؤيد قول ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن هذه الآية من هذه السورة المكية المدنية‏.‏

ولما تم هذا على هذا الوجه الأعلى والترتيب الأولى، قال تعالى مادحاً له ليعرف مقداره فيلزم‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي الرتبة الذي تقدم من الترغيب والترهيب والتسلية وتعليم الداء والدواء للخلاص من الشقاء ‏{‏ذكرى‏}‏ أي ذكر عظيم ‏{‏للذاكرين*‏}‏ أي لمن فيه أهلية الذكر والانتباه به بحضور القلب وصفاء الفكر ونفوذ الفهم‏.‏

ولما كان الصبر لله على المكاره أعلى الطاعة، أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ أي ليكن منك صبر على الطاعات وعن المعاصي ولا تترك إنذارهم بما أمرت به مهما كان ولا تخفهم، فإن العاقبة لك إذا فعلت؛ ولما كان المقام الصبر صعباً والاستقامة على المحمود منه خاصة خطراً، وكانت النفس- لما لها من الجزع في كثير من الأحوال- كالمنكرة، أكدَّ قوله‏:‏ ‏{‏فإن‏}‏ الصبر هو الإحسان كل الإحسان وإن ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏لا يضيع‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏أجر المحسنين*‏}‏ أي العريقين في وصف الإحسان بحيث إنهم يعبدون الله كأنهم يرونه، فلذلك يهون عليهم الصبر، ولذلك لأن الطاعة كلفة فلا تكون إلا بالصبر، وكل ما عداها فهو هوى النفس لا صبر فيه، فالدين كله صبر «حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات» ولذا فضل ثواب الصابر ‏{‏إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 10‏]‏ والصبر المحمود‏:‏ حبس النفس عن الخروج إلى ما لا يجوز من ترك الحق، ونقيضه الجزع، قال الشاعر‏:‏

إن تصبر فالصبر خير مغبةً *** وإن تجزعا فالأمر ما تريان

وهو من الصبر الذي هو المر المعروف لأنه تجرع مرارة الحق بحبس النفس عن الخروج إلى المشتهى مع الزاجر المعتبر من الشرع والعقل، فهو أكره شيء إلى النفس، والمعين عليه ما في استشعار لزوم الحق من العز والأجر بالطاعة والعلم بما يعقب من الخير في كل وجه وعادة النفس له، وقد غلب إطلاقه على الحق حتى لا يجوز إطلاقه إلا فيه- قاله الرماني‏.‏

ولما كان ما تقدم كله مشيراً إلى استبعاد إيمان المعاندين بشيء من تدبير آدمي كما تكاد القصص تنطق به، وكذا الإعلام بأن عبادتهم إنما هي للتقليد وباختلاف قوم موسى في كتابه الذي هو هدى ورحمة، وكل ذلك فطماً عن طلب ما قد يهجس في الخاطر من تمني إجابتهم إلى ما يقترحون أو الكف عن بعض ما يغيظ من الإنذار، وكان من طبع البشر البعد عن الانتهاء عن الخواطر إلا بعد التجربة، كان ذلك ربما أوجب أن يقال‏:‏ لو أجيبوا إلى سؤالهم لربما رجعوا عن كثير مما هم فيه، فدعاهم ذلك إلى الرشاد، فتسبب عنه أن يقال دفعاً له‏:‏ ‏{‏فلولا كان‏}‏ ويجوز أن يكون مناسبتها أنه لما ذكر إهلاك القرون الماضية والأمم السالفة بما مضى إلى أن ختم بالأمر بالصبر على الإحسان من الأمر بالمعروف والنهي عن النمكر، كان من الجائز أن يقع في فكر الاعتراض بأن يقال‏:‏ ما الموجب لذلك‏؟‏ فبين أن سبب الهلاك الإعراض عن نهي منتهك الحرمات والمجترئ على هتك الأستار الجليلة والرتع في الحمى مع تمكنهم بما أودع فيهم سبحانه من القوى والقدرة على اختيار جانب الخير والإعراض عن جانب الشر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ بصيغة تحتمل التخصيص، وفيها معنى التفجع والتأسف لاعتبار كل من كان على مثل حالهم ‏{‏من القرون‏}‏ أي المهلكين الأشداء الكائنين في زمان ما‏.‏

ولما كان المراد القرون التي تقدم ذكر إهلاكها، وكانت أزمنتهم بعض الزمان الماضي، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم أولوا‏}‏ أي أصحاب ‏{‏بقية‏}‏ أي حفظ وخير ومراقبة لما يصلحهم، لأن مادة «بقي» تدور على الجمع، ويلزمه القوة والثبات والحفظ، من قولهم‏:‏ ابقه بقوتك مالك- وزن ادعه- أي احفظه حفظك مالك، ويلزمه النظر والمراقبة‏:‏ بقيت الشيء- إذا نظرت إليه ورصدته، ويلزمه الثبات‏:‏ بقي بقاء- إذا دام، والخير والجودة؛ قال الزمخشري‏:‏ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، ويقال‏:‏ فلان من بقية قوم، أي من خيارهم، وسيأتي شرح ذلك مستوفى عند قوله تعالى ‏{‏وجعلنا بينهم موبقاً‏}‏ إن شاء الله تعالى ‏{‏ينهون‏}‏ أي يجددون النهي في كل حين إشارة إلى كثرة المفسدين ‏{‏عن الفساد‏}‏ الكائن ‏{‏في الأرض‏}‏ و«لولا» هنا كالتي في يونس توبيخية أو استفامية كما جوزهما الرماني، ويجوز أن تكون تخصيصية كما قال الزمخشري، ويكون للسامع لا للمهلك، لأن الآية لما تضمنت إهلاك المقر على الفساد كان في ذلك أقوى حث لغيرهم على الأمر والنهي وأوفى تهديد زاجر عن ارتكاب مثل حالهم الموقع في أضعاف نكالهم، وفي تعقيب هذه الآية لآية الصبر إشارة إلى أن الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الذروة العليا، والآية ناظرة إلى قوله تعالى ‏{‏إنما أنت نذير‏}‏‏.‏

ولما كانت المعاني الثلاثة متضمنة للنفي، كان المعنى‏:‏ لم يكن من يفعل ذلك، فاتصل الاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي صالحين ‏{‏ممن أنجينا منهم‏}‏ والظاهر أن «من» بيانية، أي هم الذين أنجينا فإنهم نهوا عن الفساد، عبر بالإنجاء لأنه الدال على الخير الحامل للنهي عن الفساد دون التنجية الدالة على التدريج والإبلاغ في الإنجاء فلو عبر بها فسد المعنى ‏{‏واتبع‏}‏ الأكثر وهم ‏{‏الذين ظلموا‏}‏ أي أوقعوا الظلم بترك النهي عن الفساد، وما أحسن إطلاقها عن التقييد ب ‏{‏منهم‏}‏ ‏{‏ما‏}‏ ولما كان المبطر لهم نفس الترف، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أُترفوا فيه‏}‏ فأبطرتهم النعمة حتى طغوا وتجبروا ‏{‏وكانوا مجرمين*‏}‏ أي متصفين على سبيل الرسوخ بالإجرام، وهو قطع حبل الله على الدوام، فأهلكهم ربك لإجرامهم، ولولا ذلك لما فعل، فإن إهلاكهم على تقدير الانفكاك عن الإجرام يكون ظلماً على ما يتعارفون‏.‏

ولما لاح بما مضى أن العبرة في الإهلاك والإنجاء للاكثر، قرره وأكده وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان ربك‏}‏ ذكر سبحانه بالوصف المفهم للإحسان تثبيتاً له وتأميناً ‏{‏ليهلك القرى‏}‏ أي إهلاكاً عاماً ‏{‏بظلم‏}‏ أي أيّ ظلم كان، صغير أو كبير ‏{‏وأهلها مصلحون*‏}‏ أي في حال ظلم بأن يوقع إهلاكهم في حال إصلاحهم الذي هم عريقون فيه، فيكون الإهلاك في غير موقعه على ما يتعارف العباد مع العلم بأن له أن يفعل ذلك في نفس الأمر لأنه لا يسأل عما يفعل؛ والإهلاك‏:‏ إيجاب ما يبطل الإحساس، والهلاك‏:‏ ضياع الشيء وهو حصوله بحيث لا يدري أين هو؛ والإصلاح‏:‏ إيجاب ما يستقيم به الأمر على ما يدعو إليه العقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 122‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبيناً انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك‏}‏ أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة ‏{‏لجعل الناس‏}‏ أي كلهم ‏{‏أمة واحدة‏}‏ على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا ‏{‏ولا يزالون مختلفين‏}‏ أي ثابتاً اختلافهم لكونهم على أديان شتى ‏{‏إلا من رحم ربك‏}‏ أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق‏.‏ ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال‏:‏ لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادراً‏؟‏ قال تعالى مجيباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏ولذلك‏}‏ أي الاختلاف ‏{‏خلقهم‏}‏ أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة، وليس ذلك مخالفاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ بل هو من شكله، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة، كان ذلك مهيئاً للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون، أي يخضعوا لي فمن كان منهم طائعاً فهو عابد حقيقة، ومن كان عاصياً كان عابداً مجازاً، أي خاضعاً للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى ‏{‏ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد، وبذلك كان الكل عبيد الله، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم‏.‏

ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال‏:‏ ‏{‏وتمت‏}‏ أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم، وتمت حينئذ ‏{‏كلمة ربك‏}‏ أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي ‏{‏لأملأن جهنم‏}‏ أي التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة ‏{‏من الجنة‏}‏ أي قبيل الجن، قدمهم لأنهم أصل في الشر، ثم عم فقال‏:‏ ‏{‏والناس أجمعين*‏}‏ فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد، فمن قال‏:‏ إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله‏.‏

وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه‏.‏

ولما أخبر سبحانه بما فعل بالقرى الظالمة، وحذر كل من فعل أفعالهم بسطواته في الدنيا والآخرة، وأمر باتباع أمره والاعراض عن اختلافهم الذي حكم به وأراده، عطف على قوله ‏{‏نقصه عليك‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وكلاًّ نقص‏}‏ أي ونقص ‏{‏عليك‏}‏ كل نبأ أي خبر عظيم جداً ‏{‏من أنباء الرسل‏}‏ مع أممهم‏:‏ صالحيهم وفاسديهم، فعم تفخيماً للأمر، ولما كان الذي جرّ هذه القصص ما مضى من قوله‏:‏ ‏{‏فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك‏}‏، وكان ساكن الصدر القلب، وهو الفؤاد الذي به قوام الإنسان بل الحيوان، وهو أحرّ ما فيه، ولذا عبر عنه بما اشتق من الفأد وهو الحرف، وكان من لازم الحرارة الاضطراب والتقلب الذي اشتق منه القلب فيضيق به الصدر، أبدل من ‏{‏كلاًّ‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏ما نثبت‏}‏ أي تثبيتاً عظيماً ‏{‏به فؤادك‏}‏ أي فيسكن في موضعه ويطمئن أو يزداد يقينه فلا يضيق الصدر من قولهم ‏{‏لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك‏}‏ ونحوه، وبهذا تبين أن المراد بذلك العام خاص لحصوله المقصود له، وهو التسلية نظراً إلى قوله تعالى ‏{‏وضائق به صدرك‏}‏ لأن المشاركة في الأمور الصعبة تهون على الإنسان ما يلقى من الأذى، والإعلام بعقوبات المكذبين فيها تأنيس للمكروب؛ والتثبيت‏:‏ تمكين إقامة الشيء؛ والفؤاد‏:‏ العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب الحال فيه، من المفتأد وهو المستوي‏.‏

ولما بين أن كل ما قص عليه من أخبارهم يستلزم هذا المقصود، بين أنه ليس كما يعلل به غالباً من الأخبار الفارغة والأحاديث المزخرفة الباطلة ولا مما ينقله المؤرخون مشوباً بالتحريف فقال‏:‏ ‏{‏وجاءك في هذه‏}‏ أي الأخبار ‏{‏الحق‏}‏ أي الكامل في الثبات الذي لا مرية فيه، وفائدة الظرف التأكيد لعظم المقصود من آية ‏{‏فلعلك‏}‏ وصعوبته‏.‏

ولما كان الحق حقاً بالنسبة إلى كل أحد عرفه ونكر ما هو خاص بقوم دون قوم فقال‏:‏ ‏{‏وموعظة‏}‏ أي مرقق للقلوب ‏{‏وذكرى‏}‏ أي تذكير عظيم جداً ‏{‏للمؤمنين*‏}‏ أي الراسخين في الإيمان، وقد تضمنت الآية الاعتبار من قصص الرسل بما فيها من حسن صبرهم على أممهم واجتهادهم على دعائهم إلى عبادة الله بالحق وتذكير الخير والشر وما يدعو إليه كل منهما من عاقبة النفع والضر للثبات على ذلك جميعه اقتداء بهم‏.‏

ولما ذكر نفع هذا الحق، كان كأنه قيل‏:‏ فعظهم بذلك وذكرهم به، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله ‏{‏واصبر‏}‏ أي اصبر على ما أمرناك به من تبليغ وحينا وامتثاله، وقل ‏{‏للذين‏}‏ أي لم تؤثر فيهم هذه الموعظة فهم ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي لا يتجدد لهم إيمان منذراً لهم ‏{‏اعملوا‏}‏ متمكنين ‏{‏على مكانتكم‏}‏ أي طريقتكم التي تتمكنون من العمل عليها‏.‏

ولما كان العمل واجباً عليه صلى الله عليه وسلم وعلى كل من تبعه فهم عاملون لا محالة سواء عمل الكفار أو لا، قال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يدوموا على العمل المخالف لهم مع ما يصل إليهم لأجله من الضر، معرياً له عن فاء السبب لذلك والاستئناف‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي أنا ومن معي ‏{‏عاملون*‏}‏ أي ثابت عملنا لا نحول عنه لأن ما كان لله فهو دائم بدوامه سبحانه، وحذف النون الثانية اكتفاء بمطلق التأكيد لأنه كافٍ في الإعلام بالجزم في النية، وفيه تأدب بالإشارة إلى أن المستقبل أمر لا اطلاع عليه لغير الله فينبغي أن لا يبلغ في التأكيد فيه غيره، وهذا بخلاف ما في سورة فصلت مما هو جارٍ على ألسنة الكفرة ‏{‏وانتظروا‏}‏ أي ما أنتم منتظرون له من قهرنا ‏{‏إنا منتظرون*‏}‏ أي ما وعدنا الله في أمركم، فإن الله مهلكهم ومنجيك لأنه عالم بغيب حالك وحالهم وقادر عليكم؛ والانتظار‏:‏ طلب الإدراك لما يأتي من الأمر الذي يقدر النظر إليه؛ والتوقع‏:‏ طلب ما يقدر أنه يقع، وهما يكونان في الخير والشر ومع العلم والشك، والترجي لا يكون إلا مع الخير والشك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

ولما تضمن هذا التهديد العلم والقدرة، قال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلله كل ما شوهد من أمرنا وأمركم وأمر عالم الغيب والشهادة كله ما كان من ابتداء أمورنا ‏{‏ولله‏}‏ أي المحيط وحده بكل شيء مع ذلك ‏{‏غيب السماوات والأرض‏}‏ أي جميع ما غاب علمه عن العباد فهو تام العلم، ومنه ما ينهى عنه وإن ظن الجهلة أنه خارج عن قدرته لما أظهر من الزجر عنه ومن كراهيته‏.‏

ولما كان السياق هنا لأنه سبحانه خلق الخلق ذواتهم ومعانيهم للاختلاف، وكان تهديدهم على المعاصي ربما أوهم أنه بغير إرادته، فكان ربما قال جاهل‏:‏ أنا بريء من المخالفين لأوليائه كثيراً جداً، وعادة الخلق أن من خالفهم خارج عن أمرهم، كان الجواب على تقدير التسليم لهذا الأمر الظاهر‏:‏ فله كان الأمر كله ظاهراً وباطناً ‏{‏وإليه‏}‏ أي وحده ‏{‏يرجع‏}‏ بعد أن كان ظهر للجاهل أن خرج عنه؛ والرجوع‏:‏ ذهاب الشيء إلى حيث ابتدأ منه ‏{‏الأمر كله‏}‏ في الحال على لبس وخفاء، وفي المال على ظهور واتضاح وجلاء، فهو شامل القدرة كما هو شامل العلم، فلا بد من أن يرجع إليه أمرك وأمر أعدائك، أي يعمل فيه عمل من يرجع إليه الأمر فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك سبب عن إسناد الأمور كلها إليه قوله‏:‏ ‏{‏فاعبده‏}‏ أي وحده عبادة لا شوب فيها ‏{‏وتوكل‏}‏ معتمداً في أمورك كلها ‏{‏عليه‏}‏ فإنه القوي المتين، وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد‏.‏

ولما كانت العادة جارية بأن العالم قد يغفل، نزه عن ذلك سبحانه نفسه فقال مرغباً مرهباً‏:‏ ‏{‏وما ربك‏}‏ أي المحسن إليك بما يعمله بإحاطة عمله إحساناً، وأغرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏بغافل عما تعملون*‏}‏ ولا تهديد أبلغ من العلم، وهذا بعينه مضمون قوله تعالى ‏{‏كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير‏}‏ ‏[‏هود 1- 2‏]‏‏.‏