فصل: تفسير الآيات رقم (58- 66)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 66‏]‏

‏{‏وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

ولما كان المعنى- كما تقدم‏:‏ فجعل إليه خزائن الأرض، فجاءت السنون المخصبة، فدبرها بما علمه الله، ثم جاءت السنون المجدبة فأجدبت جميع أرض مصر وما والاها من بلاد الشام وغيرها، فأخرج ما كان ادخره من غلال سبع سنين بالتدريج أولاً فأولاً- كما حد له ‏{‏العليم الحكيم‏}‏ فتسامع به الناس فجاؤوا للامتيار منه من كل أوب ‏{‏وجاء إخوة يوسف‏}‏ العشرة لذلك، وحلف أبوهم بنيامين أخا يوسف عليه السلام لأمه عنده، ودل على تسهيله إذنهم بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فدخلوا عليه‏}‏ أي لأنه كان يباشر الأمور بنفسه كما هو فعل الكفاة الحزمة، لا يثق فيه بغيره ‏{‏فعرفهم‏}‏ لأنه كان مرتقباً لحضورهم لعلمه بجدب بلادهم وعقد همته بهم‏.‏ مع كونه يعرف هيئاتهم في لباسهم وغيره، ولم يتغير عليه كبير من حالهم‏.‏ لمفارقته إياهم رجالاً ‏{‏وهم له منكرون *‏}‏ ثابت إنكارهم عريق فيهم وصفهم به، لعدم خطوره ببالهم لطول العهد، مع ما تغير عليهم من هيئته بالسن وانضاف إليه من الحشم والخدم واللباس وهيئة البلد وهيبة الملك وعز السلطان، وغير ذلك مما ينكر معه المعروف، ويستوحش لأجله من المألوف، وفق ما قال تعالى ‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 15‏]‏ والدخول‏:‏ الانتقال إلى محيط، والمعرفة‏:‏ تبين الشيء بالقلب بما لو شوهد لفرق بينه وبين غيره مما ليس على خاص صفته‏.‏

ولما كان المعنى في قوة أن يقال‏:‏ فطلبوا منه الميرة فباعهم بعد أن استخبرهم عن أمرهم، وقال لهم‏:‏ لعلكم جواسيس‏؟‏ وسألهم عن جميع حالهم‏.‏ فأخبروه بأبيهم وأخيهم منه، ليعلم صلاحهم ولا يظن أنهم جواسيس، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولما جهزهم‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏بجهازهم‏}‏ الذي جاؤوا له وقد أحسن إليهم؛ والجهاز‏:‏ فاخر المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد ‏{‏قال‏}‏ أي لهم ‏{‏ائتوني‏}‏ أيها العصابة ‏{‏بأخ لكم‏}‏ كائن ‏{‏من أبيكم‏}‏ يأتي برسالة من أبيكم الرجل الصالح حتى أصدقكم، أو أنهم طلبوا منه لأخيهم حملاً، فأظهر أنه لم يصدقهم، وطلب إحضاره ليعطيه، فإنه كان يوزع الطعام على قدر الكفاية؛ ثم رغبهم بإطماعهم في مثل ما فعل بهم من الإحسان، وكان قد أحسن نزلهم، فقال مقرراً لهم بما رأوا منه‏:‏ ‏{‏ألا ترون‏}‏ أي تعلمون علماً هو كالرؤية ‏{‏أني أوفي الكيل‏}‏ أي أتمه دائماً على ما يوجبه الحق ‏{‏وأنا خير المنزلين *‏}‏ أضع الشيء في أولى منازله‏.‏

ولما رغبهم، رهبهم فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم تأتوني به‏}‏ أي بأخيكم أول قدمة تقدمونها ‏{‏فلا كيل لكم‏}‏ وعرفهم أنه لا يمنعهم من غيره فقال‏:‏ ‏{‏عندي ولا تقربون *‏}‏ ومع ذلك فلم يخطر ببالهم أنه يوسف، فكأنه قيل‏:‏ فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا سنراود‏}‏ أي بوعد لا خلف فيه حين نصل ‏{‏عن أباه‏}‏ أي نكلمه فيه وننازعه الكلام ونحتال عليه فيه، ونتلطف في ذلك، ولا ندع جهداً؛ ثم أكدوا ذلك- بعد الجملة الفعلية المصدرة بالسين- بالجملة الاسمية المؤكدة بحرفي التأكيد، فقالوا‏:‏ ‏{‏وإنا لفاعلون *‏}‏ أي ما أمرتنا به والتزامناه، وقد مضى عند ‏{‏وراودته‏}‏ أن المادة- يائية وواوية بهمز وبغير همز- تدور على الدوران، ومن لوازمه القصد والإقبال والإدبار والرفق والمهلة، وقد مضى بيان غير المهموز، وأما المهموز فمنه درأه، أي دفعه- لأن المدفوع يرد إلى الموضع الذي أتى منه، والمدارأة‏:‏ المدافعة والمنازعة مطلقاً، أي سواء كانت برفق أو بعنف، ثم كثرت فقصرت على الملاينة، ويلزم من الدفع حلول المدفوع في موضع لا يريده بغتة، ومنه‏:‏ درأ علينا، أي خرج مفاجأة، قال القزاز‏:‏ وأصله من قولهم‏:‏ جاء السيل درأ، أي يدرأ بعضه بعضاً، وهو الذي يأتي من مكان لا يعلم به، واندرأ فلان علينا بالشر- إذا أتى به من حيث لم ندر، والدرء‏:‏ النشوز، وهو من الدفع، وكوكب دريء‏:‏ متوقد متلألئ- كان نوره يدفع بعضه بعضاً، ومنه درأت النار‏:‏ أضاءت، واندرأ الحريق‏:‏ انتشر، ودرأ الشيء‏:‏ بسطه- لأن المبسوط لا يخلو عن دفع، وتدارؤوا‏:‏ تدافعوا في الخصومة‏.‏

ودرأ البعير‏:‏ أغد، ومع الغدة ورم في ظهره، وناقة دارئ‏:‏ مغدة، وذلك لأن الغدة ملزومة للدفع، لا تنفك عنه بالقتب والركب وغيرهما، وكل ناتئ في الجسد هذا شأنه، ومنه الدرء‏:‏ لقطعة من الجبل مشرقة، وناقة مدرئ‏:‏ أنزلت اللبن وأرخت ضرعها عند النتاج- كأنها دفعتهما، وادرأت الصيد- على «افتعلت»‏:‏ اتخذت له دريئة، وقد تقدمت «الدرية» في الواوي، ومنه‏:‏ ادرأت فلاناً- ذا اعتمدته، والدرء‏:‏ الميل والعوج- لأنه أهل لأن يدفع ليقوم، وطريق ذو دروء، أي كور وأخاقيق أي شقوق- فكأنها تدفع صاحبها عن القصد، وتدرؤوا عليهم‏:‏ تطاولوا- لأن ذلك لا يخلو عن مدافعة كالنشوز، ويلزم الدفع القوة، ومنه رجل ذو تدرا، أي منعه وقوة، ورادته بكذا- بتقديم الراء‏:‏ جعلته قوة له وعماداً يدافع عنه، والردء‏:‏ العون والمادة والعدل الثقيل- لأنه يدافع ليعتدل، وردأ الحائط‏:‏ دعمه، وردأه بحجر‏:‏ رماه به، لأنه إذا أصابه دفعه، والإبل‏:‏ أحسن القيام عليها، لأن ذلك لا يكون إلا بمدافعة، وأردأ الستر‏:‏ أرخاه، بدفعه له من المكان الذي كان به، وأردأ الولد‏:‏ سكنه وأنسه، فدفع الهم عنه، وأردأ الشيء‏:‏ أقره- كأنه لسلب الدفع، وكذا أردأه أي أفسده، إما بأنه لم يدافعه بإحسان القيام عليه فأفسده، أو أنه زاد في الدفع حتى فسد، ومن ذلك أردأ- إذا فعل رديئاً، أي فعلا فاسداً ليس بجيد، وكأن من ذلك الأدرة- بالضم ساكنة وتحرك- وهي عظم الخصيتين في الناس والخيل؛ ومن التدافع‏:‏ ترأدت الحية‏:‏ اهتزت في انسيابها ورفعت رأسها، والريح‏:‏ اضطربت- فكأن بعضها يدفع بعضاً، ومنه رأد الضحى‏:‏ ارتفاعه، وترأد الضحى‏:‏ ارتفع، وكذلك الجارية الرأدة والرؤد- بالضم، أي الناعمة، وقال القزاز‏:‏ السريعة الشباب مع حسن غذاء، وقال ابن دريد‏:‏ جارية رأدة- غير مهموز‏:‏ كثيرة المجيء والذهاب، فإذا قلت‏:‏ جارية رؤدة فهي الناعمة‏.‏

فإذا فسرت بالذهاب والمجيء فهو من الدوران الذي هو المدار، وإذا فسرت بالناعمة فهو من الاضطراب اللازم له، وغصن رؤد- بالضم‏:‏ رطب- من ذلك، قال القزاز‏:‏ وأحسب الجارية الناعمة إنما سميت رؤداً من هذا، وترأد‏:‏ اهتز نعمة، وزيد‏:‏ قام فأخذته رعدة، والغصن‏:‏ تفيأ، والعنق‏:‏ التوى- كله من الدوران وما يلزمه من الاضطراب، ورئد الإنسان‏:‏ صديقه، لأنه يراوده ويداوره، والرأدة‏:‏ أصل اللحى، وهو أصول منبت الأسنان، وهو العظم الذي يدور فيه طرفا اللحيين مما يلي الصدغين؛ ومن الرفق والمهلة‏:‏ الرؤدة- بالضم، وهي التؤدة‏.‏

ولما أعلمنا سبحانه أنه رغبهم في شأن أخيه، ورهبهم بالقول، أعلمنا بأنه رغبهم فيه بالفعل، فقال عاطفاً على قوله الماضي لهم‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام شفقة على إخوته وإرادة لنصحهم فيما سألهم فيه‏:‏ ‏{‏لفتيانه‏}‏ أي غلمانه، وأصل الفتى‏:‏ الشاب القوي، وسيأتي شرحه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تفتؤا تذكر يوسف‏}‏ ‏{‏اجعلوا بضاعتهم‏}‏ أي ما بضعوه أي قطعوه من مالهم للتجارة وأخذناه منهم ثمناً لطعامهم الذي دفعناه لهم ‏{‏في رحالهم‏}‏ أي عدولهم؛ والرحل‏:‏ ما أعد للرحيل من وعاء أو مركب ‏{‏لعلهم يعرفونها‏}‏ أي بضاعتهم؛ وعبر بأداة التحقق تفاؤلاً لهم بالسلامة، أو ظناً، أو علماً بالوحي، فقال‏:‏ ‏{‏إذا انقلبوا‏}‏ راجعين ‏{‏إلى أهلهم‏}‏ أي يعرفون أنها هي بعينها، رددتها عليهم إحساناً إليهم، ويجزمون بذلك، ولا يظنون أن الله أخلف عليهم مثلها نظراً إلى حالهم وكرامة لأبيهم، ويعرفون هذه النعمة لي ‏{‏ولعلهم يرجعون *‏}‏ أي ليكون حالهم وحال من يرجع إلينا إذا عرفوها، لردها تورعاً، أو للميرة بها إن لم يكن عندهم غيرها، أو طمعاً في مثل هذا، وإنما لم يبادر إلى تعريفهم بنفسه والتعجيل بإدخال السرور على أبيه، لأن ذلك غير ممكن عادة- لما يأتي من الحكم البالغة والتدبير المتين، ودل على إسراعهم في الرجوع بالفاء فقال‏:‏ ‏{‏فلما رجعوا‏}‏ أي إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام ‏{‏إلى أبيهم‏}‏ حملهم ما رأوا- من إحسان الصديق وحاجتهم إليه وتبرئتهم لأنفسهم عن أن يكونوا جواسيس- على أن ‏{‏قالوا ياأبانا‏}‏‏.‏

ولما كان المضار لهم مطلق المنع، بنوا للمفعول قولهم‏:‏ ‏{‏منع منا الكيل‏}‏ لأخينا بنيامين على بعيره لغيبته، ولنا كلنا بعد هذه المرة إن لم نذهب به معنا ليظهر صدقنا؛ والمنع‏:‏ إيجاد ما يتعذر به على القادر الفعل‏.‏

وضده‏:‏ التسليط، وأما العجز فضده القدرة ‏{‏فأرسل‏}‏ أي بسبب إزالة هذا المنع ‏{‏معنا أخانا‏}‏ إنك إن ترسله معنا ‏{‏نكتل‏}‏ أي لنفسه كما يكتال كل واحد منا لنفسه- هذا على قراءة حمزة والكسائي بالتحانية، ولنؤوله على قراءة الجماعة بالنون- من الميرة ما وظفه العزيز، وهو لكل واحد حمل، وأكدوا لما تقدم من فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام مما يوجب الارتياب بهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏وإنا له‏}‏ أي خاصة ‏{‏لحافظون *‏}‏ أي عن أن يناله مكروه حتى نرده إليك، عريقون في هذا الوصف، فكأنه قيل‏:‏ ما فعل في هذا بعد ما فعلوا إذ أرسل معهم يوسف عليه الصلاة والسلام‏؟‏ قيل‏:‏ عزم على إرساله معهم، ولكنه أظهر اللجاء إلى الله تعالى في أمره غير قانع بوعدهم المؤكد في حفظه، لما سبق منهم من مثله في يوسف عليه الصلاة والسلام بأن ‏{‏قال هل آمنكم‏}‏ أي أقبل منكم الآن وفي مستقبل الزمان تأمينكم لي فيه مما يسوءني تأميناً مستعلياً ‏{‏عليه‏}‏ أي بنيامين ‏{‏إلا كما آمنتكم‏}‏ أي في الماضي ‏{‏على أخيه‏}‏ أي يوسف عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان لم يطلع يوسف عليه الصلاة والسلام على خيانة قبل ما فعلوا به، وكان ائتمانه لهم عليه إنما هو زمان يسير، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ فإنكم أكدتم غاية التأكيد فلم تحفظوه لي ولم تردوه إليّ- والأمن‏:‏ اطمئنان القلب إلى سلامة النفس- فأنا في هذا لا آمن عليه إلا الله ‏{‏فالله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏خير حافظاً‏}‏ منكم ومن كل أحد ‏{‏وهو‏}‏ أي باطناً وظاهراً ‏{‏أرحم الراحمين *‏}‏ فهو أرحم بي من أن يفجعني به بعد مصيبتي بأخيه؛ فأرادوا تفريغ ما قدموا به من الميرة ‏{‏ولما فتحوا‏}‏ أي أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏متاعهم‏}‏ أي أوعيتهم التي حملوها من مصر ‏{‏وجدوا بضاعتهم‏}‏ أي ما كان معهم من كنعان بشراء القوت‏.‏

ولما كان المفرح مطلق الرد‏.‏ بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ردت إليهم‏}‏ والوجدان‏:‏ ظهور الشيء للنفس بحاسة أو ما يغني عنها، فكأنه قيل‏:‏ ما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي لأبيهم ‏{‏ياأبانا ما‏}‏ أي أي شيء ‏{‏نبغي‏}‏ أي نريد، فكأنه قال لهم‏:‏ ما الخبر‏؟‏ فقالوا بياناً لذلك وتأكيداً للسؤال في استصحاب أخيهم‏:‏ ‏{‏هذه بضاعتنا‏}‏ ثم بينوا مضمون الإشارة بقولهم‏:‏ ‏{‏ردت إلينا‏}‏ هل فوق هذا من إكرام‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فنرجع بها إليه بأخينا، فيظهر له نصحنا وصدقنا، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏ونمير أهلنا‏}‏ أي نجلب إليهم الميرة برجوعنا إليه؛ والميرة‏:‏ الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد ‏{‏ونحفظ أخانا‏}‏ فلا يصيبه شيء مما يخشى عليه، تأكيداً للوعد بحفظه وبياناً لعدم ضرر في سفره، ويدل على ما في التوراة- من أنه كان سجن أحدهم ليأتوا بأخيهم الأصغر- قوله‏:‏ ‏{‏ونزداد كيل بعير‏}‏ أي فيكون جملة ما نأتي به بعد الرجوع إليه اثني عشر حملاً، لكل منا حمل، وللمسجون حملان- لكرّته الأولى والثانية، وذلك أنه كان لا يعطي إلا حملاً لكل رأس، فكأنه ما أعطاهم لما جهزهم غير تسعة أحمال، فكأنه قيل‏:‏ وهل يجيبكم إلى ذلك في هذه الأزمة‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم، لأن ‏{‏ذلك كيل يسير *‏}‏ بالنسبة إلى ما رأينا من كرم شمائله وضخامه ملكه وفخامة همته، فكأنه قيل‏:‏ فما قال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏لن أرسله‏}‏ أي بنيامين كائناً ‏{‏معكم‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏حتى تؤتون‏}‏ من الإيتاء وهو الإعطاء، أي إيصال الشيء إلى الأخذ ‏{‏موثقاً‏}‏ وهو العقد المؤكد‏.‏

ولما كان مراده موثقاً ربانياً، وكان الموثق الرباني- وهو ما كان بأسمائه تعالى لكونه أذن سبحانه فيه وأمر بالوثوق به- كأنه منه، قال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعظم بأيمان عظيمة‏:‏ والله ‏{‏لتأتنَّني‏}‏ كلكم ‏{‏به‏}‏ من الإيتان، وهو المجيء في كل حال ‏{‏إلا‏}‏ في حال ‏{‏أي يحاط‏}‏ أي تحصل الإحاطة بمصيبة من المصائب، لا طاقة لكم بها ‏{‏بكم‏}‏ فتهلكوا من عند آخركم، كل ذلك زيادة في التوثيق، لما حصل له من المصيبة بيوسف عليه الصلاة والسلام وإن كان الاعتماد في حفظه إنما هو على الله، وهذا من باب «اعقلها وتوكل» فأجابوه إلى جميع ما سأل ‏{‏فلما آتوه‏}‏ أي أعطاه بنوه ‏{‏موثقهم قال الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏على ما نقول وكيل *‏}‏ هو القادر على الوفاء به المرجو للتصرف فيه بالغبطة، لا أنتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ولما سمح لهم بخروجه معهم، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة، وكانوا قد شهروا عند المصريين بعض الشهرة، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى، فكانوا مظنة لأن ترمقهم الأبصار ويشار إليهم بالأصابع، فيصابوا بالعين، ولم يوصهم في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط، فقال حكاية عنه‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر‏:‏ ‏{‏يابني‏}‏ محذراً لهم من شر الحسد والعين- ‏{‏لا تدخلوا‏}‏ إذا قدمتم إلى مصر ‏{‏من باب واحد‏}‏ من أبوابها؛ والواحد على الإطلاق‏:‏ الذي لا ينقسم، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف ‏{‏وادخلوا من أبواب‏}‏ واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً، فقال‏:‏ ‏{‏متفرقة‏}‏ أي تفرقاً كبيراً، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين- كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي، فإن العين حق، وهي من قدر الله، وقد ورد شرعنا بذلك، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجه‏:‏ «يحضرها الشيطان وحسد بن آدم» ولمسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «العين حق، ولو شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال‏:‏ «إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «وإنما لتدرك الفارس فتدعثره» ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» قال الإمام الرازي‏:‏ ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه‏.‏ وقد تقدم معنى ذلك في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها، لأنها من القدر، لا من من باب التحرز من القدر، كما روى مسلم وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن» لو «تفتح عمل الشيطان»

معناه- والله أعلم‏:‏ افعل فعل الأقوياء، ولا تفعل فعل العجزة، وذلك بأن تنعم النظر، تمعن في التأمل وتتأنى، حتى تعلم المصادر والموارد، فلا تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا يضرك إلا فعلته، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت منه جهدك، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك‏:‏ لو أني فعلت كذا، فإنك لم تترك شيئاً، وأما إذا فعلت فعل العجزة، وتركت الجزم فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من «لو»‏.‏

ولما خاف أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أن الحذر يغني من القدر، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه‏:‏ إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور، فقال‏:‏ ‏{‏وما أغني‏}‏ أي أجزي وأسد وأنوب ‏{‏عنكم من الله‏}‏ أي بعض أمر الملك الأعظم، وعمم النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي إن أراد بكم، سواء كنتم مفترقين أو مجتمعين، وهذا حكم التقدير، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏الحكم‏}‏ وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة ‏{‏إلا الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره، ولهذا المعنى- وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله- أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه، وأمر بها أول كل شيء؛ وروى أبو نعيم في الحلية في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً فقال في خطبته‏:‏ وأعجب ما في الإنسان قلبه، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع‏.‏ وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر‏.‏ وكل إفراط له مفسد‏.‏ قال‏:‏ فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏؟‏ أخبرنا عن القدر، فقال‏:‏ بحر عميق فلا تلجه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أخبرنا عن القدر، فقال‏:‏ سر الله فلا تتكلفه، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ أخبرنا عن القدر، فقال‏:‏ أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏!‏ إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال‏:‏ عليّ به‏!‏ فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال‏:‏ الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله‏؟‏ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك‏!‏ فقال‏:‏ فما أقول يا أمير المؤمنين‏؟‏ قال‏:‏ قل‏:‏ أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند ‏{‏إن الله يفعل ما يشاء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 18‏]‏ ما يتصل بهذا‏.‏

ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهاً على ذلك‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له ‏{‏توكلت‏}‏ أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله ‏{‏وعليه‏}‏ أي وحده ‏{‏فليتوكل المتوكلون *‏}‏ أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكداً لما أشار إلى اعتقاده، فقال‏:‏ ‏{‏ولما‏}‏ وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفاً من أن يقول لهم‏:‏ لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط ‏{‏دخلوا‏}‏ أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر ‏{‏من حيث أمرهم‏}‏ أي به ‏{‏أبوهم‏}‏ من أبواب متفرقة، قالوا‏:‏ وكان لمصر أربعة أبواب ‏{‏ما كان‏}‏ ذلك الدخول ‏{‏يغني‏}‏ أي يدفع ويجزي ‏{‏عنهم من الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏إلا حاجة‏}‏ أي شيئاً غير أتم حاجة ‏{‏في نفس يعقوب‏}‏ وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم ‏{‏قضاها‏}‏ يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصاً، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان‏:‏ وفيه حجة لمن زعم أن «لما» حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى «حين»، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولاً لما «بعد» ما النافية- انتهى‏.‏

ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثاً على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك ‏{‏لذو علم‏}‏ أي معرفة بالحكمين‏:‏ حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم ‏{‏لما‏}‏ أي للذي ‏{‏علمناه‏}‏ إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ لذو علم لأجل تعليمنا أياه‏.‏

فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه- في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعاً- الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنياً، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت «يغنى» ب «يدفع» لأن مادة «غنى»- بأي ترتيب كان- تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار‏:‏ موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول، لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني- كإلى‏:‏ التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية- بالضم، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة، والغانية‏:‏ المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان‏:‏ ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلاً‏:‏ فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى‏:‏ أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزاً، ولا شك أن معنى ذلك‏:‏ دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضاً- من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها- الغناءُ- بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضاً‏:‏ الرمل- لإقامته، وغنى بالمرأة‏:‏ تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد‏:‏ مدحه أو هجاه- من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام‏:‏ صوت؛ ونغى- كرمى‏:‏ تكلم بكلام يفهم- لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة- وهي تكليم الصبي بما يهوى، ونغيت إليه نغية، أي ألقيت إليه كلمة، والنغية- كالنغمة‏:‏ أول الخبر قبل أن تستثبته، من تسمية الجزء باسم الكل، وناغاه‏:‏ داناه، ومنه الموج يناغي السماء- إذا ارتفع، وناغاه‏:‏ باراه أي عارضه، والمرأة‏:‏ غازلها، أي حادثها- كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين‏:‏ حرف هجاء مجهور مستعل- كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها، والغين‏:‏ العطش- لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث، والغين‏:‏ الغيم- لإقامته في الهواء، والغينة‏:‏ أرض- لأنها موضع الإقامة، والأشجار الملتفة بلا ماء، هي أيضاً موضع لذلك، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها، والغيناء‏:‏ الخضراء من الشجر، وبئر، وبالقصر‏:‏ قنة ثبير من الأثبرة السبعة- لأن ذلك كله موضع للإقامة، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة، والأغين‏:‏ الطويل- إما تشبيه بقنة الجبل، أو بالشجرة، والغانة‏:‏ حلقة رأس الوتر في القوس، وغين على قلبه‏:‏ غطى عليه أي أقام عليه ساتراً له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم، ومنه غين عليه- إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس، والغينة- بالكسر‏:‏ الصديد وما سل من الميت- كأنه من سلب الإقامة، وكذا الغين بالكسر- لموضع كثير الحمى، وغانت نفسي تغين‏:‏ غثت، والإبل‏:‏ غامت، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل- انتهى‏.‏

ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي لأجل ما لهم من الاضطراب ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد، أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليه الصلاة والسلام فقاتل‏:‏ ‏{‏ولما دخلوا‏}‏ أي بنوه عليه الصلاة والسلام ‏{‏على يوسف‏}‏ في هذه القدمة الثانية ‏{‏آوى إليه أخاه‏}‏ شقيقه بنيامين بعد أن قالوا له‏:‏ هذا أخونا الذي أمرتنا به قد أحضرناه، فقال‏:‏ أصبتم، وستجدون ذلك عندي؛ والإيواء‏:‏ ضم النفس بالتصيير إلى موضع الراحة، وسبب إيوائه إليه أنه أمر كل اثنين منهم أن يأكلوا على حدة، فبقي بنيامين بلا ثان، فقال‏:‏ هذا يأكل معي، ثم قال ليا‏:‏ وكل اثنين منكم في بيت من خمسة أبيات أفردها لهم، وهذا الوحيد يكون معي في بيتي، وهذا التفريق موافق لما أمرهم به أبوهم في تفريق الدخول، فكأنه قيل‏:‏ ماذا قال له، هل أعلمه بنفسه أو كتم ذلك عنه كما فعل بسائر إخوته‏؟‏ فقيل‏:‏ بل ‏{‏قال‏}‏ معلماً له، لأنه لا سبب يقتضي الكتم عنه- كما سيأتي بيانه، مؤكداً لما للأخ من إنكاره لطول غيبته وتغير أحواله وقطع الرجاء منه‏:‏ ‏{‏إني أنا أخوك‏}‏ يوسف‏:‏ ثم سبب عن ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فلا تبتئس‏}‏ أي تجتلب البؤس‏.‏ وهو الكراهة والحزن ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي سائر الإخوة، كوناً هم راسخون فيه ‏{‏يعملون *‏}‏ مما يسوءنا وإن زعموا أنهم بنوا ذلك العمل على علم، وقد جمعنا له خير ما يكون عليه الاجتماع، ولا تعلمهم بشيء من ذلك، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا‏.‏ وكأنه في المرة الأولى أيضاً في تجهيزهم ليتعرف أخبارهم في طول المدة من حيث لا يشعرون، ولذلك لم يعطف بالفاء، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبرها‏.‏ فلذلك أتت الفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جهزهم‏}‏ أي أعجل جهاز وأحسنه ‏{‏بجهازهم‏}‏ ويؤيده ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66 و82‏]‏ في قصتي صالح ولوط عليهما الصلاة والسلام- كما مضى في سورة هود عليه الصلاة والسلام ‏{‏جعل‏}‏ أي بنفسه أو بمن أمره ‏{‏السقاية‏}‏ التي له‏.‏ وهي إناء يسقي به ‏{‏في رحل أخيه‏}‏ شقيقه، ليحتال بذلك على إبقائه عنده مع علمه بأن البصير لا يقضي بسرقته بذلك، مع احتمال أن يكون الصواع دس في رحله بغير علمه كما فعل ببضاعتهم في المرة الأولى، وأما غير البصير فضرر ثبوت ذلك في ذهنه مفتقر لأنه يسير بالنسبة إلى ما يترتب عليه من النفع من ألف إخوته بيوسف عليه الصلاة والسلام وزوال وحشتهم منه بإقامته عنده- كما سيأتي مع مزيد بيان- هذا مع تحقق البراءة عن قرب، فهو من باب ارتكاب أخف الضررين، ثم أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أرسل إليهم فحبسوا ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد انطلاقهم وإمعانهم في السير ‏{‏أذن‏}‏ أي أعلم فيهم بالنداء ‏{‏مؤذن‏}‏ قائلاً برفيع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه- بما يدل عليه إسقاط الأداة‏:‏ ‏{‏أيتها العير‏}‏ أي أهلها، وأكد لما لهم من الإنكار ‏{‏إنكم لسارقون *‏}‏ أي ثابت لكم ذلك لا محالة حقيقة بما فعلتم في حق يوسف عليه الصلاة والسلام، أو مجازاً بأنكم فاعلون فعل السارق- كما سيأتي بيانه آنفاً، مع أن هذا النداء ليس من قول يوسف عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن لا يكون بأمره حتى يحتاج إلى تصحيحه، بل يكون قائله فهم ذلك من قوله عليه السلام‏:‏ صواعي مع الركب، أو كأنهم أخذوا صواعي فاذهب فآتني به أو بهم- ونحو ذلك مما هو حق في نفسه؛ والعير‏:‏ القافلة التي فيها الأحمال، والأصل فيها الحمير، ثم كثر حتى أطلق على كل قافلة تشبيهاً بها، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التلطف في بلوغ المراد من إيقاع الأسباب التي تؤدي إليه وتبعث عليه بظاهر جميل وباطن حق مما يخفى على كثير من الناس موقعه، ويشكل عليه وجهه، لأنه أنفذ له وأنجح للمطلوب منه، فكأنه قيل‏:‏ إن هذه لتهمة عظيمة، فما قالوا في جوابها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ في جواب الذين لحقوهم ‏{‏و‏}‏ الحال أن آل إسرائيل ‏{‏أقبلوا‏}‏ ودل- على أن الذين لحقوهم كانوا جماعة المؤذن أحدهم، كما كما هو شأن ذوي الرئاسة إذا أرسلوا في مهم- بالجمع في قوله‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ أي على جماعة الملك‏:‏ المنادي وغيره ‏{‏ماذا تفقدون *‏}‏ مما يمكننا أخذه ‏{‏قالوا نفقد‏}‏ وكأن السقاية كان لها اسمان، فعبروا هنا بقولهم‏:‏ ‏{‏صواع الملك‏}‏ والصواع‏:‏ الجام يشرب فيه ‏{‏ولمن جاء به‏}‏ أي أظهره ورده من غير تفتيش ولا عناء ‏{‏حمل بعير‏}‏ وهو بالكسر‏:‏ قدر من المتاع مهيأ لأن يحمل على الظهر، وأما الحمل في البطن فبالفتح ‏{‏وأنا به زعيم *‏}‏ أي ضامن وكفيل أوديه إليه، وإفراد الضمير تارة وجمعه أخرى دليل على أن القاتل واحد، وأنه نسب إلى الكل لرضاهم به، وفي الآية البيان عما يوجبه حال بهت الإنسان للتثبت في الأمر وترك الإسراع إلى ما لا يجوز من القول، فكأنه قيل‏:‏ فما قال إخوة يوسف‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ قول البريء ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك اوعظم فأقسموا قسماً مقروناً بالتاء، لأنها يكون فيها التعجب غالباً، قال الرماني‏:‏ لأنها لما كانت نادرة في أدوات القسم جعلت للنادر من المعاني، والنادر من المعاني يتعجب منه، وقال‏:‏ إنها بدل من الواو، والواو بدل من الباء، فهي بدل من بدل، فلذلك ضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، ثم أكدوا براءتهم بقولهم‏:‏ ‏{‏لقد علمتم‏}‏ أي بما جربتم من أمانتنا قبل هذا في كرتي مجيئنا ‏{‏ما جئنا‏}‏ وأكدوا النفي باللام فقالوا‏:‏ ‏{‏لنفسد‏}‏ أي نوقع الفساد ‏{‏في الأرض و‏}‏ لقد علمتم ‏{‏ما كنا‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏سارقين *‏}‏ أي موصوفين بهذا الوصف قط، بما رأيتم من أحوالنا‏:‏ من ردنا بضاعتنا التي وجدناها في رحالنا وغير ذلك مما عاينتم من شرف فعالنا مع علمنا بأنها خَلق لنا لا تصنّع يظهر لبعض الأذكياء بأدنى تأمل، فكأنه قيل‏:‏ فما قال الذين من جهة العزيز‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ قول واثق بأنه في رحالهم‏:‏ ‏{‏فما جزاؤه‏}‏ أي الصواع ‏{‏إن كنتم كاذبين *‏}‏ في تبرئكم من السرقة؛ والجزاء‏:‏ مقابلة العمل بما يستحق عليه من خير أو شر ‏{‏قالوا‏}‏ وثوقاً منهم بالبراءة وإخباراً بالحكم عندهم ‏{‏جزاؤه‏}‏ أي الصواع ‏{‏من‏}‏‏.‏

ولما كان العبرة بنفس الوجدان، بنوا للمفعول قولهم‏:‏ ‏{‏وجد في رحله‏}‏ ولتحققهم البراءة علقوا الحكم على مجرد الوجدان لا السرقة؛ ثم أكدوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏فهو جزاءه‏}‏ أي ليس غير، فكأنه قيل‏:‏ هل هذا أمر أحدثتموه الآن أو هو مشروع لكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي بل هو سنة لنا، مثل ذلك الجزاء الشديد ‏{‏نجزي الظالمين *‏}‏ أي بالظلم دائماً، نرقّه في سرقته؛ فحينئذ فتش أوعيتهم ‏{‏فبدأ‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه بدأ المؤذن أو غيره ممن أمر بذلك ‏{‏بأوعيتهم‏}‏‏.‏

ولما لم يكن- بين فتح أوعيتهم وفتح وعاء أخيه- فاصل يعد فاصلاً، فكانت بداءته بأوعيتهم مستغرقة لما بينهما من الزمان، لم يأت بجار، فقال ‏{‏قبل وعاء أخيه‏}‏ أي أخي يوسف عليه الصلاة والسلام شقيقه، إبعاداً عن التهمة ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد تفتيش أوعيتهم والتأني في ذلك ‏{‏استخرجها‏}‏ أي أوجد إخراج السقاية التي تقدم أنه جعلها في وعاء أخيه ‏{‏من وعاء أخيه‏}‏‏.‏

ولما كان هذا كيداً عظيماً في أخذ أخيه بحكمهم، مع ما توثق منهم أبوهم، عظمه تعالى بالإشارة إليه بأداة البعد والإسناد إليه قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الكيد العظيم ‏{‏كدنا ليوسف‏}‏ خاصة بأن علمناه إياه جزاء لهم على كيدهم بيوسف عليه الصلاة والسلام، ولذلك صنعنا جميع الصنائع التي أعلت يوسف عليه الصلاة والسلام وألجأت إخوته الذين كادوه بما ظنوا أنه أبطل أمره إلى المجيء إليه إلى أن كان آخرها حكمهم على أنفسهم بما حكموا، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ما كان‏}‏ أو هو استئناف تفسير للكيد، وأكد النفي باللام فقال‏:‏ ‏{‏ليأخذ أخاه‏}‏‏.‏

ولما كان الأخذ على جهات مختلفة، قيده بقوله‏:‏ ‏{‏في دين الملك‏}‏ يعني ملك مصر، على حالة من الحالات، لأن جزاء السارق عندهم غير هذا ‏{‏إلا أن يشاء الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، ذلك بسبب يقيمه كهذا السبب الذي هو حكم السارق وأهله على أنفسهم، فلا يكون حينئذ من الملك إلا تخليتهم وما حكموا به على نفوسهم‏.‏

ومادة «سرق» بتراكيبها الأربعة‏:‏ سرق، وسقر، وقسر، وقرس- تدور على الغلبة المحرقة والموجعة، وتارة تكون بحر، وتارة ببرد، وتارة بغير ذلك، وتلازمها القوة والضعف والكثرة والقلة والمخادعة، فيأتي الخفاء والليل، فمن مطلق الغلبة‏:‏ القسر، وهو الغلبة والقهر، وقال ابن دريد‏:‏ القسر‏:‏ الأخذ بالغلبة والاضطهاد، والقسورة‏:‏ الأسد، والعزيز كالقسور، والرماة من الصيادين، واحده قسور، ونبات سهلي- كأنه يكثر فيه الصيد، فتنتابه القساورة، وقسور النبت‏:‏ كثر، وركز الناس، أي صوتهم الخفي وحسهم- لأن الصيادين يتخافتون؛ والسقر لغة في الصقر- لطير يصيد؛ وقسر‏:‏ جبل السراة- كأنه موضع الصيد والقسر والغلبة، والقيسري‏:‏ الكثير- لأنه ملزوم للغلبة، وضرب من الجعلان- كأنه سمي لمطلق الكثرة ولأذاه بما يعانيه من النجاسات، والقيسري- أيضاً من الإبل‏:‏ العظيم أو الصلب أو الضخم الشديد‏:‏ وجمل قراسية- بالضم وتخفيف الياء‏:‏ ضخم، والقرس- بالكسر‏:‏ صغار البعوض؛ والقسورة أيضاً من الغلمان‏:‏ الشاب القوي، والرامي- لأنه أهل لأن يغلب، ولقسور أيضاً‏:‏ الصياد مطلقاً؛ ويلزمه المخادعة والاستخفاء، ومنه القسورة‏:‏ نصف الليل أو أوله أو معظمه- لأنه محل الاستخفاء والمقاهرة؛ ومنه السرق، وهو الأخذ في خفية، وعبارة القزاز‏:‏ في ختل وغفلة، وسرق- كفرح‏:‏ خفي، والسوارق‏:‏ الزوائد في فراش القفل- لغرابتها وخفاء أمرها، أو لسلبها السرقة بمنعها السارق من فتح القفل، والمسترق‏:‏ المستمع مختفياً، وانسرق عنهم‏:‏ خنس ليذهب، ويلزم المخادعة والاختفاء نوع ضعف، ومنه‏:‏ سرقت مفاصله- كفرح‏:‏ ضعفت، والمسترق‏:‏ الناقص الضعيف الخلق؛ وانسرق‏:‏ فتر وضعف- إما منه وإما من السلب، لأن من فتر أو ضعف يكف عن السرقة والأذى؛ وقسور الرجل‏:‏ أسن، وكان منه القارس والقريس أي القديم، ومسترق العنق‏:‏ قصيرها- كأنه سرق منها شيء، وهو يسارق النظر إليه، أي يطلب غفلته لينظر إليه، وتسرق‏:‏ سرق شيئاً فشيئاً، وسُرَّق- كسكر- كان اسمه الحباب فابتاع من بدوي راحلتين، ثم أجلسه على باب دار ليخرج إليه بثمنهما فخرج من الباب الآخر فهرب بهما، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم سرقاً، وكان لا يحب أن يسمى بغيره، والسرق- محركاً‏:‏ أجود الحرير أو الحرير الأبيض، أو الحرير عامة، فارسي معرب أصله سره، قال القزاز‏:‏ ومعناه‏:‏ جيد، لأنه أهل لأن يقصد بالسرقة لخفة محمله وكثرة تمنه، والسرقين معرب سركين يمكن أن يكون من الضعف، ولعل المعرب يكون خارجاً عن أصل المادة، لأنه لا أصل له في العربية؛ ومن الأذى بالحر السفر‏:‏ حر الشمس وأذاه، يقال‏:‏ سقرته الشمس- بالسين والصاد- إذا آلمت دماغه، ومنه اشتقاق سقر، وهو اسم إحدى طبقات النار، والسقر‏:‏ القيادة على الحرم، والسقر‏:‏ ما يسيل من الرطب- من التسمية باسم السبب، لأن الحر سببه، والقوسرة‏:‏ القوصرة- ويخففان- لأنه يوضع فيه التمر الذي قد يكون منه السقر، والساقر‏:‏ الكافر واللعان لغير المستحقين- لكثرة الأذى، أو لاستحقاق الكون في سقر، والساقور‏:‏ الحر والحديدة يكوى بها الحمار؛ ومن الأذى بالبرد‏:‏ القرس- وهو البرد الشديد والبارد، والقرس- ويحرك‏:‏ أبرد الصقيع وأكثفه، والقرس- بالتحريك‏:‏ الجامد، وأقرس العود جمد ماءه، ومنه القريس- لسمك طبخ وترك حتى جمد، وقرس الماء‏:‏ جمد، والبرد‏:‏ اشتد كقرس كفرح، وآل قرايس ويقال‏:‏ نبات قراس- كسحاب‏:‏ أجبل باردة أو هضاب بناحية السراة، وقرسنا الماء‏:‏ بردناه‏.‏

إذا تقرر ذلك فتصحيح قول المؤذن «إنكم لسارقون» إن نظر إلى الغلبة في خفاء فلا شك أنهم متصفون بذلك لأخذهم يوسف من أبيه عليهما السلام على هذه الحالة، وإن نظر إلى مطلق الأخذ في خفاء فيكون إطلاق ذلك عليهم مجازاً، لأن معهم- في حال ندائه لهم وهم سائرون- شيئاً ليس هو لهم هم ذاهبون به في خفاء، أي أنتم في هذه الحالة فاعلون فعل السارق، ويقوي إرادة الأول قوله تعالى ‏{‏لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من وجدنا متاعنا عنده‏}‏ كما سيأتي‏.‏

ولما كان يوسف عليه الصلاة والسلام إنما تمكن من ذلك بعلو درجته وتمكنه ورفعته، بعد ما كان فيه عندهم من الصغار، كان ذلك محل عجب، فقال تعالى- التفاتاً إلى مقام التكلم تقوية للكلام بمقام الغيبة والتكلم، وزاده إشعاراً بعظمة، هذا الفعل بصوغه في مظهر العظمة منبهاً لمن قد يغفل‏:‏ ‏{‏نرفع‏}‏ أي لنا من العظمة، وكان الأصل‏:‏ درجاته، ولكنه عمم لأنه أدل على العظمة، فكان أليق بمظهرها، فقال منبهاً على أنه كان حصل ليوسف عليه الصلاة والسلام من الهضم ما ظن كما ظن أنه لا يرتفع بعده‏:‏ ‏{‏درجات من نشاء‏}‏ أي بالعلم‏.‏

ولما كان سبب الرفعة هو الأعلمية بالأسباب، وذلك أن الخلق لو اجتهدوا في خفض أحد فنصبوا له كل سبب علموه وقدروا عليه، وأراد الله ضد ذلك، لقيّض بعلمه سبباً واحداً إن شاء فأبطل جميع تلك الأسباب وقضى برفعته، نبه تعالى على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وفوق كل ذي علم‏}‏ أي من الخلق ‏{‏عليم‏}‏ عظيم العلم، لا تكتنه عظمة علمه العقول، ولا تتخيلها الفهوم، فهو يسبب من الأسباب ما تطيح له أسباب العلماء وتحير له ألباب العقلاء البصراء، وهو الله تعالى- كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وسعيد بن جبير، فالتنوين للتعظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما تم ذلك، كان كأنه قيل‏:‏ إن انتزاع أخيهم منهم- بعد تلك المواثيق التي أكدوها لأبيهم- لداهية تطيش لها الحلوم، فماذا كان فعلهم عندها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ تسلية لأنفسهم ودفعاً للعار عن خاصتهم ‏{‏إن يسرق‏}‏ فلم يجزموا بسرقته، لعلمهم بأمانته، وظنهم هذا الصواع دس في رحله وهو لا يشعر، كما دست بضاعتهم في رحالهم وإنما أوهى ظنهم هذا سكوت أخيهم عن الاعتذار به، على أنه قد ورد أنهم لاموه فقال لهم‏:‏ وضعه في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالهم ‏{‏فقد سرق أخ‏}‏ أي شقيق ‏{‏له‏}‏ ولما كان ما ظنوه كذلك في زمن يسير، أدخلوا الجار فقالوا‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ يعنون يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قيل‏:‏ إن عمته كانت لا تصبر عنه، وكان أبوه لا يسمح بمكثه عندها، لأنه لا يصبرعنه، فحزمته من تحت ثيابه بمنطقة أبيها إسحاق عليه السلام وكانت عندها، ثم قالت‏:‏ فقدت منطقة أبي، فاكشفوا أهل البيت، فوجدوها مع يوسف عليه الصلاة والسلام، فسمح يعقوب عليه الصلاة والسلام حينئذ لها ببقائه عندها ‏{‏فأسرها‏}‏ أي إجابتهم عن هذه القولة القبيحة ‏{‏يوسف في نفسه‏}‏ على تمكنه مما يريد بهم من الانتقام‏.‏

ولما كان ربما ظن ظان أنه بكتهم بها بعد ذلك، نفى هذا الظن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يبدها‏}‏ أي أصلاً ‏{‏لهم‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فما قولته التي أسرها في نفسه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال أنتم شر مكاناً‏}‏ أي من يوسف وأخيه، لأن ما نسب إليهما من الشر إنما هو ظاهراً لأمر خير اقتضاه، وأما أنتم ففعلتكم بيوسف شر مقصود منكم ظاهراً وباطناً، ونسبة الشر إلى مكانهم أعظم من نسبته إليهم، وإنما قدم الإخبار بالإسرار مع اقترانه بالإضمار قبل الذكر، لئلا يظن بادئ بدء أنهم سمعوا ما وصفهم به من الشر ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏أعلم بما تصفون *‏}‏ منكم، وأنه ليس كما قلتم؛ والوصف‏:‏ كلمة مشتقة من أصل من الأصول لتجري على مذكور فتفرق بينه وبين غيره بطريق النقيض كالفرق بين العالم والجاهل ونحوهما، فكأنه قيل‏:‏ إن ذلك القول على فحشه ليس مغنياً عنهم ولا عن أبيهم شيئاً، فهل اقتصروا عليه‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، بل ‏{‏قالوا‏}‏ التماساً لما يغنيهم‏:‏ ‏{‏ياأيها العزيز‏}‏ فخاطبوه بما يليق بالأكابر ليرق لهم ‏{‏إن له‏}‏ أي هذا الذي وجد الصواع في رحله ‏{‏أباً شيخاً كبيراً‏}‏ أي في سنه وقدره وهو مغرم به، لا يقدر على فراقه ولا يصبر عنه ‏{‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ وأحسن إلى أبيه بإرساله إليه ‏{‏إنا نراك‏}‏ أي نعلمك علماً هو كالرؤية أو بحسب ما رأيناه ‏{‏من المحسنين *‏}‏ أي العريقين في صفة الإحسان، فأجر في أمرنا على عادة إحسانك، فكأنه قيل‏:‏ فما أجابهم‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله‏}‏ أي نعوذ بالذي لا مثل معاذاً عظيماً ‏{‏أن نأخذ‏}‏ أي لأجل هذا الأمر ‏{‏إلا من‏}‏ أي الشخص الذي ‏{‏وجدنا متاعنا عنده‏}‏ ولم يقل‏:‏ سرق متاعنا، لأنه- كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق- لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه؛ علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنا إذاً‏}‏ أي إذا أخذنا أحداً مكانه ‏{‏لظالمون *‏}‏ أي عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم‏.‏

ذكر ما بعد ما سلف من هذه القصة من التوراة

قال‏:‏ وكان القهم- وفي نسخة‏:‏ الجوع- والإرجاف على جميع وجه الأرض، ففتح يوسف الأهراء، وأقبل يبيع المصريين، واشتد الجوع بأرض مصر، وأقبل جميع أهل الأرض يأتون للامتيار من يوسف‏.‏

فبلغ يعقوب عليه الصلاة والسلام أن بمصر طعام ميرة، فقال يعقوب عليه السلام لبنيه‏:‏ لا خوف عليكم، لأنه قد بلغني أن بمصر ميرة فاهبطوا إلى هناك، فامتاروا لنا فنحيى ولا نموت‏.‏ فهبط بنو يعقوب عليه الصلاة والسلام العشرة ليمتاروا ميرة من مصر، فأما بنيامين أخو يوسف فلم يرسله يعقوب مع إخوته، لأنه قال‏:‏ لعله أن يعرض له عارض، فأتى بنو إسرائيل ليمتاروا مع الذين كانوا ينطلقون، لأن الجوع اشتد في أرض كنعان، وكان يوسف هو المسلط على الأرض، وكان يميز جميع شعب الأرض، فأتى إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام فخروا له سجداً على الأرض، فرأى يوسف إخوته فأثبتهم وتناكر عليهم وكلمهم بفظاظة وقساوة، وقال لهم‏:‏ من أين أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ أتينا من أرض كنعان لنمتار ميرة، فذكر يوسف عليه الصلاة والسلام الرؤيا التي قصها عليهم وقال لهم‏:‏ إنكم جواسيس، وإنما أتيتم لتفحصوا وتطلعوا الأرض‏.‏ فقالوا‏:‏ كلا يا سيدنا‏!‏ إن عبيدك إنما أتوا ليمتاروا، نحن أجمعون بنو رجل واحد، ونحن أبرياء، وليس عبيدك بطلائع، فقال لهم يوسف‏:‏ ليس الأمر كما تقولون، بل إنما أتيتم لتجسسوا أرضنا‏.‏ فقالوا له‏:‏ نحن اثنا عشر رجلاً إخوة عبيدك بنو رجل واحد بأرض كنعان، والآخر هو عند أبينا يومنا هذا، والآخر فقدناه، فقال لهم يوسف‏:‏ إني إنما قلت لكم‏:‏ إنكم جواسيس، من أجل هذا بهذه تمتحنون، وحق فرعون‏!‏ لا أخرجنكم من هاهنا حتى يأتي أخوكم الأصغر إلى هاهنا‏.‏ فنفحص عن أقاويلكم إن كنتم نطقتم بالحق والقسط، وإلا وحق فرعون‏!‏ إنكم طلائع، فقذفهم في الحبس ثلاثة أيام، ودعا بهم يوسف عليه الصلاة والسلام في اليوم الثالث، وقال لهم‏:‏ افعلوا ما آمركم به فتحيوا، فإني أراقب الله فيكم، إن كنتم أبرياء فليحبس أحدكم في محبسكم وانطلقوا أنتم بالميرة للجوع الذي في بيوتكم، فأتوني بأخيكم الأصغر فأصدق قولكم ولا تموتوا، ففعلوا كما أمرهم، فقال كل امرئ منهم لصاحبه‏:‏ حقاً إنا قد استوجبنا السجن على أخينا إذ رأينا كرب نفسه إذا كان يتضرع إلينا فلم نرحمه ولم نتراءف عليه، فمن أجل ذلك نزلت بنا هذه البلية والشر، فأجاب روبيل وقال لهم‏:‏ ألم أقل لكم‏:‏ لا تأثموا بالغلام، فلم تقبلوا، وهو ذا الآن نحن مطالبون بدمه‏.‏

ولم يعلموا أن يوسف يفهم كلامهم، لأنه أوقف ترجماناً بينه وبينهم، فتنحى عنهم فبكى، ثم رجع إليهم يكلمهم، ثم أخذ منهم شمعون فأوثقه تجاههم‏.‏

وأمر يوسف بملء أوعيتهم ميرة، وأمر برد ورق كل امرئ منهم في وعائه، وأن يزودوا زاداً للطريق، ففعل ذلك بهم كما أمر يوسف عليه السلام، فحملوا ميرتهم على حميرهم وانطلقوا، ففتح بعضهم وعاءه ليلقي قضيماً لحماره في مبيتهم‏.‏ فرأى ورقه موضوعاً على طرف حمولته‏.‏ فقال لإخوته‏:‏ ورقي رد إليّ وهو ذا على طرف حمولتي، فارتجفت قلوبهم وفزعت نفوسهم، وتعجب كل امرئ منهم، فقالوا‏:‏ يا ليت شعري ما هذا الذي صنعه الله بنا‏!‏ فأتوا يعقوب أباهم إلى أرض كنعان، فأخبروه بجميع ما عرض لهم وقالوا‏:‏ إن الرجل سيد الأرض كلمنا بفظاظة وقساوة‏.‏ وحسبنا بمنزلة الجواسيس أتينا لنطالع الأرض، فقلنا‏:‏ إنا أبرياء عدول، فلسنا بطلائع، فنحن اثنا عشر أخاً بنو أب واحد، فقد واحد منا والآخر عند أبينا يومنا هذا بأرض كنعان، فقال لنا الرجل سيد الأرض ورئيسها‏:‏ بهذا أعلم بأنكم أبرار عدول، خلفوا عندي أحد إخوتكم، واحملوا ميرة للجوع الذي في بيوتكم‏.‏ وانصرفوا فأتوني بأخيكم الأصغر معكم، فأعلم حينئذ أنكم لستم بطلائع، بل أنتم أبرياء عدول، وآمر بدفع أخيكم إليكم، وتتجرون في الأرض، فبينما هم يفرغون أوعيتهم فإذا هم بصرة كل امرئ منهم على طرف وعائه فرأوا ورقهم مصروراً ففزعوا هم وأبوهم‏.‏ فقال لهم أبوهم‏:‏ إنكم قد أثكلتموني ولدي وأفقدتموني إياهما، لأن يوسف فقدته‏.‏ وشمعان محبوس، وتنطلقون ببنيامين أيضاً وقد كملت علي المصائب كلها، فقال روبيل لأبيه‏:‏ ثكلتُ ابني جميعاً إن لم آتك به‏!‏ ادفعه إليّ وأنا أرده إليك، فقال‏:‏ لا يهبط ابني معكم، لأن أخاه يوسف توفي وهو وحده الباقي لأمه، فتعرض له آفة في الطريق الذي تسلكونه فتنزلون شيبتي إلى الجدث بالشقاء والشحب‏.‏

فاشتد الجوع على الأرض، فلما أكلوا الذي أتوا به من مصر وأفنوه قال لهم يعقوب أبوهم عليه السلام‏:‏ اهبطوا فامتاروا لنا شيئاً من قمح، فقال له يهوذا‏:‏ إن الرجل أنذرنا وتقدم إلينا وقال‏:‏ لا تعاينوا وجهي إلا وأخوكم معكم، فإن أنت أرسلت أخانا معنا فإنا نهبط فنمتار، وإن لم تبعثه لم ننطلق، فقال لهم أبوهم‏:‏ ولم أسأتم إلي فأخبرتم الرجل أن لكم أخاً‏؟‏ فقالوا‏:‏ الرجل سأل عنا وعن رهطنا وقال‏:‏ إن أباكم في الحياة بعد‏؟‏ وهل لكم أخ‏؟‏ فأخبرناه من أجل هذا الكلام، أكنا نعلم أنه يقول‏:‏ اهبطوا معكم بأخيكم‏؟‏ وقال يهوذا لإسرائيل أبيه‏:‏ سرح الغلام فننطلق فنحيى ولا نموت نحن وأنت أيضاً وحشمنا، أنا أكفل به‏.‏

فإن لم آتك به فأقيمه بين يديك فأنا مخطئ بين يدي أبي جميع الأيام‏.‏

فقال أبوهم إسرائيل‏:‏ إذا كان الأمر هكذا فافعلوا ما آمركم به‏:‏ احملوا في أوعيتكم من ثمار هذه الأرض شيئاً من صنوبر وعسل وعلك البطم وخروب وحب السرو وبطم ولوز، وخذوا من الورق ضعف الذي في أوعيتكم، لعل ذلك أن يكون وهماً منهم، وانطلقوا بأخيكم إلى الرجل، وارجعوا إليّ كلكم، وإله المواعيد يظفركم من الرجل برحمة ورأفة، فيرسل بأخيكم الآخر معكم وبنيامين أيضاً، فأخذ القوم هذه الهدية وضعفاً من الفضة، وانطلقوا معهم ببنيامين وأتوا يوسف فوقفوا بين يديه‏.‏ فرأى يوسف بنيامين معهم فقال لحاجبه‏:‏ أدخل القوم إلى المنزل، واذبح ذبيحاً، وهيئ الغداء، لأن القوم يتغدون معي ظهراً، ففعل العبد كما أمره يوسف عليه السلام، وأدخل القوم إلى منزل يوسف عليه السلام وقالوا‏:‏ إنهم إنما يدخلوننا لسبب الورق الذي وجدنا في أعدالنا من قبل، فيريدون أن يتطاولوا علينا ويمكروا بنا، فيجعلونا عبيداً ودوابنا ملكاً، فدنوا من الرجل حاجب- وفي نسخة‏:‏ خازن- يوسف عليه السلام‏.‏ فكلموه على باب المنزل، وقالوا له‏:‏ إنا نطلب إليك يا سيدنا أنا هبطنا أولاً إلى هاهنا فامترنا قمحاً، فلما طلعنا وصرنا في البيت إذا نحن بورق كل واحد منا في عدله، فقد رددنا أوراقنا بوزنها معنا وأتينا معها بأوراق أخر لنمتار بها، ولا نعلم من الذي صيّر أوراقنا في أوعيتنا‏؟‏ فقال لهم‏:‏ السلام لكم، لا تخافوا ولا تستوفضوا، إلهكم إله المواعيد إله أبيكم ذخر لكم هذه الذخيرة في أوعيتكم، لأن ورقكم قد صار في قبضتي، وأخرج إليهم شمعون، فأدخل العبد القوم إلى منزل يوسف عليه السلام، وأتاهم بماء فغسلوا أيديهم وأقدامهم، وألقى قضمياً لدوابهم، فأعد القوم هديتهم قبل دخول يوسف عليه السلام وقت القائلة لأنه بلغهم أن غداءهم يكون هناك، فدخل يوسف إلى منزله، فأدخلوا هديتهم فوضعوها بين يديه في منزله، وخروا له سجداً على الأرض، فسألهم عن سلامتهم وقال‏:‏ أسالم هو‏؟‏ أبوكم الذي أخبرتموني عنه أنه الحياة هو بعد‏؟‏ فقالوا‏:‏ إن أبانا عبدك سالم، ثم جثوا فسجدوا فرفع بصره فأبصر بنيامين أخاه ابن أمه فقال لهم‏:‏ هذا أخوكم الذي أخبرتموني عنه‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم‏؟‏ فقال له‏:‏ الله يترأف عليكم يا بني، فاستعجل يوسف عليه السلام لأنه رق له وتحنن عليه فأراد البكاء، فدخل إلى مكانه فبكى هناك، ثم غسل وجهه وخرج فصبر نفسه، فأمر أن يأتوهم بالغداء، فوضعوا بين يديه وحده، وقربوا إليهم وحدهم، لأنه لا يستطيع أهل مصر أن يأكلوا مع العبرانيين، لأن هذه نجاسة عند المصريين، فأمر فاتكأ الأكبر على قدر سنه والأصغر على قدر سنه، فتعجب القوم ومكثوا محيرين مشدوهين، فأعطى كل واحد منهم من بين يديه جزءاً، وأعطى بنيامين أكثر منهم‏:‏ خمسة أنصبة، فشربوا‏.‏

فأمر خازنه وقال له‏:‏ أوقر أوعية القوم من البر ما أمكنهم حمله، وصير ورق كل امرئ منهم على طرف وعائه، وخذ طاسي طاس الفضة وصيره في وعاء الأصغر مع ورق ميرته، ففعل العبد كما أمر يوسف عليه السلام، فلما كان من الغد سرح القوم لينطلقوا هم وحميرهم، فخرجوا من القرية، وقبل أن يخرجوا منها قال يوسف لخازنه‏:‏ قم فامض في طلب القوم وألحقهم وقل لهم‏:‏ لم كافيتم الشر بدل الخير، فأخذتم الطاس الذي يشرب فيه سيدي ويعتاف فيه اعتيافاً، فأسأتم فيما جاء منكم، فلحقهم وقال لهم هذه الأقاويل، فقالوا له‏:‏ لا تقولن يا سيدنا هذه الأقاويل، معاذ الله أن يفعل عبيدك هذه الفعال‏!‏ نحن رددنا أوراقنا التي وجدنا في أوعيتنا من أرض كنعان، فكيف نسرق من بيت سيدك ذهباً أو فضة، من وجد عنده من عبيدك فليمت ونكن نحن عبيداً لسيدنا‏!‏ قال لهم‏:‏ هو على ما تقولون، من وجد عنده فهو يكون لي عبداً، وأنتم تكونون فلحين طاهين، فاستعجل كل منهم وعاءه، ففتشوا ابتداء بالأكبر وانتهاء إلى الأصغر، فوجدوا الطاس في وعاء بنيامين، فمزقوا ثيابهم وخرقوها‏.‏ وحمل كل امرئ منهم وعاءه على حماره، ورجعوا إلى القرية، فدخل يهوذا وإخوته على يوسف وكان في منزله بعد، فخرجوا بين يديه على الأرض، فقال لهم يوسف‏:‏ ما هذا الفعل الذي جاء منكم‏؟‏ أما تعلمون أن رجلاً مثلي يعتاف- وفي نسخة‏:‏ يمتحن- بكأس اعتيافاً‏؟‏ لم تتعدون عليه وتأخذونه‏؟‏ فقال يهوذا‏:‏ بماذا نكلم سيدنا‏!‏ وبماذا ننطق‏!‏ وبماذا نفلح- وفي نسخة‏:‏ نحتج- من عند الله نزلت هذه الخطيئة بعبيدك، هوذا نحن عبيد لسيدنا نحن ومن أصيب الكأس عنده، فقال‏:‏ معاذ الله أن أفعل هذا‏!‏ بل الرجل الذي وجد الكأس عنده يكون لي عبداً، وأنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم‏.‏

فدنا منه يهوذا فقال‏:‏ أنا أطلب إليك يا سيدي أن تأذن لعبدك بالكلام بين يديك، يا سيد‏!‏ ولا تشعل غضبك على عبيدك، لأنك مثل فرعون، سأل سيدي عبيده فقال لهم‏:‏ هل لكم أب أو أخ‏؟‏ فقلنا لسيدنا‏:‏ إن لنا أباً شيخاً وابناً له صغيراً ولد على كبر سنه، وإن أخاه مات، وهو الباقي وحده لأمه، وأبوه يحبه، وأمرت عبيدك وقلت‏:‏ اهبطوا به إليّ حتى أعرفه وأعاينه، فقلنا لسيدنا‏:‏ لا يقدر الغلام على مفارقة أبيه، لأنه إن فارقه أبوه توفي، فقلت لعبيدك‏:‏ إنه لم يهبط أخوكم الأصغر معكم فلا تعودوا أن تعاينوا وجهي، فلما صعدنا إلى عبدك أبينا أخبرناه بقول سيدنا فقال لنا عبدك أبونا‏:‏ ارجعوا فامتاروا شيئاً من بر، فقلنا لأبينا‏:‏ لا نقدر على الهبوط إلى أن نهبط بأخينا الأصغر معنا، لأنا لا نقدر على معاينة وجه الرجل إن لم يكن أخونا معنا، فقال لنا عبدك أبونا‏:‏ أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت لي ابنين، فخرج واحد من عندي فقلتم‏:‏ إنه قتل قتلاً، فلم أعاينه إلى يوم الناس هذا، فتحملون أيضاً هذا من عندي فيعرض له صيد فتهبطون بشيخوختي بحزن وشر القبر، والآن إذا نحن انطلقنا إلى عبدك أبينا وليس الغلام معنا ونفسه حبيبة إليه، فإذا علم أن الغلام ليس هو معنا يموت فيهبط عبدك شيبة أبينا بالشقاء والتشحيب، لأن عبدك ضمن الغلام لأبينا، وقلت‏:‏ إني إذا لم آتك به أخطئ باقي جميع الأيام، والآن فليبق عبدك بدل الغلام عبداً لسيدي، وليصعد الغلام مع إخوته، لأني أفكر كيف أصعد إلى أبي وليس الغلام معي كيلا أعاين الشر الذي ينزل بأبي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏‏}‏

ولما أياسهم بما قال عن إطلاق بنيامين، حكى الله تعالى ما أثمر لهم ذلك من الرأي فقال‏:‏ ‏{‏فلما‏}‏ دالاً بالفاء على قرب زمن تلك المراجعات ‏{‏استيئسوا منه‏}‏ أي تحول رجاءهم لتخلية سبيله لما رأوا من إحسانه ولطفه ورحمته يأساً شديداً بما رأوا من ثباته على أخذه بعينه وعدم استبداله ‏{‏خلصوا‏}‏ أي انفردوا من غيرهم حال كونهم ‏{‏نجياً‏}‏ أي ذوي نجوى يناجي بعضهم بعضاً، من المناجاة وهي رفع المعنى من كل واحد إلى صاحبه في خفاء، من النجو وهو الارتفاع عن الأرض- قاله الرماني، أو تمحضوا تناجياً لإفاضتهم فيه بجد كأنهم صورة التناجي، فكأنه قيل‏:‏ فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال كبيرهم‏}‏ في السن وهو روبيل‏:‏ ‏{‏ألم تعلموا‏}‏ مقرراً لهم بما يعرفونه مع قرب الزمان ليشتد توجههم في بذل الجهد في الخلاص من غضب أبيهم ‏{‏أن أباكم‏}‏ أي الشيخ الكبير الذي فجعتموه في أحب ولده إليه‏.‏

ولما كان المقام بالتقرير ومعرفة صورة الحال لتوقع ما يأتي من الكلام، قال‏:‏ ‏{‏قد أخذ عليكم‏}‏ أي قبل أن يعطيكم هذا الولد الآخر ‏{‏موثقاً‏}‏ ولما كان الله تعالى هو الذي شرعه- كما مضى- كان كأنه منه، فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي أيمان الملك الأعظم‏:‏ لتأتنه به إلا أن يحاط بكم ‏{‏ومن قبل‏}‏ أي قبل هذا ‏{‏ما فرطتم‏}‏ أي قصرتم بترك التقدم بما يحق لكم في ظن أبيكم أو فيما ادعيتم لأبيكم تفريطاً عظيماً، فإن زيادة «ما» تدل على إرادته لذلك ‏{‏في‏}‏ ضياع ‏{‏يوسف‏}‏ فلا يصدقكم أبوكم أصلاً، بل يضم هذه إلى تلك فيعلم بها خيانتكم قطعاً، وأصل معنى التفريط،‏:‏ التقدم، من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا فرطكم على الحوض»‏.‏

ولما كان الموضع موضع التأسف والتفجع والتلهف، أكده ب «ما» النافية لنقيض المثبت كما سلف غير مرة، أي أن فعلكم في يوسف ما كان إلا تفريطاً لا شك فيه ‏{‏فلن أبرح‏}‏ أي أفارق هذه ‏{‏الأرض‏}‏ بسبب هذا، وإيصاله الفعل بدون حرف دليل على أنه صار شديد الالتصاق بها ‏{‏حتى يأذن لي أبي‏}‏ في الذهاب منها ‏{‏أو يحكم الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ووثقنا به ‏{‏لي‏}‏ بخلاص أخي أو بالذهاب منها بوجه من الوجوه التي يعلمها ويقدر على التسبب لها ‏{‏وهو‏}‏ أي ظاهراً وباطناً ‏{‏خير الحاكمين *‏}‏ إذا أراد أمراً بلغه بإحاطة علمه وشمول قدرته، وجعله على أحسن الوجود وأتقنها، فكأنه قيل‏:‏ هذا ما رأى أن يفعل في نفسه، فماذا رأى لإخوته‏؟‏ فقيل‏:‏ أمرهم بالرجوع ليعلموا أباهم لإمكان أن يريد القدوم إلى مصر ليرى ابنه أو يكون عنده رأي فيه فرج، فقال‏:‏ ‏{‏ارجعوا إلى أبيكم‏}‏ أي دوني ‏{‏فقولوا‏}‏ أي له متلطفين في خطابكم ‏{‏ياأبانا‏}‏ وأكدوا مقالتكم فإنه ينكرها لكم فقولوا‏:‏ ‏{‏إن ابنك‏}‏ أي شقيق يوسف عليه الصلاة والسلام الذي هو أكملنا في البنوة عندك ‏{‏سرق‏}‏‏.‏

ولما كانوا في غاية الثقة من أن أحداً منهم لا يلم بمثل ذلك، أشاروا إليه بقولهم‏:‏ ‏{‏وما شهدنا‏}‏ أي في ذلك ‏{‏إلا بما علمنا‏}‏ ظاهراً من رؤيتنا الصواع يخرج من وعائه؛ والشهادة‏:‏ الخبر عن إحساس قول أو فعل، وتجوز الشهادة بما أدى إليه الدليل القطعي ‏{‏وما كنا للغيب‏}‏ أي الأمر الذي غاب عنا ‏{‏حافظين *‏}‏ فلعل حيلة دبرت في ذلك غاب عنا علمها كما صنع في رد بضاعتنا ‏{‏واسأل القرية‏}‏ أي أهلها وجدرانها إن كانت تنطق ‏{‏التي كنا فيها‏}‏ وهي مصر، عما أخبرناك به يخبروك بصدقنا، فإن الأمر قد اشتهر عندهم ‏{‏و‏}‏ اسأل ‏{‏العير‏}‏ أي أصحابها وهم قوم من كنعان جيران يعقوب عليه الصلاة والسلام ‏{‏التي أقبلنا فيها‏}‏ والسؤال‏:‏ طلب الإخبار بأداته من الهمزة وهل ونحوهما، والقرية‏:‏ الأرض الجامعة لحدود فاصلة، وأصلها من قريت الماء، أي جمعته، وسيأتي شرح لفظها آخر السورة، والعير‏:‏ قافلة الحمير، من العير- بالفتح، وهو الحمار، هذا الأصل- كما تقدم ثم كثر حتى استعمل في غير الحمير‏.‏

ولما كان ذلك جديراً بالإنكار لما يتحقق من كرم أخيهم، أكدوه بقولهم‏:‏ ‏{‏وإنا‏}‏ أي والله ‏{‏لصادقون *‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فرجعوا إلى أبيهم وقالوا ما قال لهم كبيرهم، فكأنه قيل‏:‏ فما قال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال بل‏}‏ أي ليس الأمر كذلك، لم تصح نسبة ابني إلى السرقة ظاهراً ولا باطناً، أي لم يأخذ شيئاً من صاحبه في خفاء بل ‏{‏سولت‏}‏ أي زينت تزييناً فيه غي ‏{‏لكم أنفسكم أمراً‏}‏ أي حدثتكم بأمر ترتب عليه ذلك، والأمر‏:‏ الشيء الذي من شأنه أن تأمر النفس به، وكلا الأمرين صحيح، أما النفي فواضح، لأن بنيامين لم يسرق الصواع ولا همّ بذلك، ولذلك لم ينسبه يوسف عليه الصلاة والسلام ولا مناديه إلى ذلك بمفرده، وأما الإثبات فأوضح، لأنه لولا فعلهم بيوسف عليه الصلاة والسلام لما سولت لهم فيه أنفسهم لم يقع هذا الأمر لبنيامين عليه السلام ‏{‏فصبر جميل‏}‏ مني، لأن ظني في الله جميل، وفي قوله‏:‏ ‏{‏عسى الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏أن يأتيني بهم‏}‏ أي بيوسف وشقيقه بنيامين وروبيل ‏{‏جميعاً‏}‏ ما يدل الفطن على أنه تفرس أن هذه الأفعال نشأت عن يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن الأمر إلى سلامة واجتماع؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏العليم‏}‏ أي البليغ العلم بما خفي علينا من ذلك، فيعلم أسبابه الموصلة إلى المقاصد ‏{‏الحكيم *‏}‏ أي البليغ في إحكام الأمور في ترتيب الأسباب بحيث لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه منها، وترتيب الوصفين على غاية الإحكام- كما ترى- لأن الحال داع إلى العلم بما غاب من الأسباب أكثر من دعائه إلى معرفة حكمتها؛ قال هذه المقالة ‏{‏وتولى‏}‏ أي انصرف بوجهه ‏{‏عنهم‏}‏ لما تفاقم عليه من الحزن، وبلغ به من الجهد، وهاج به باجتماع حزن إلى حزن من الحرق كراهية لما جاؤوا به وإقبالاً على من إليه الأمر ‏{‏وقال‏}‏ مشتكياً إلى الله لا غيره، فهو تعريض بأشد التصريح والدعاء‏:‏ ‏{‏ياأسفي‏}‏ أي يا أشد حزني، والألف بدل عن ياء الإضافة لتدل على بلوغ الأسف إلى ما لا حد له، وجناس «الأسف» مع «يوسف» مما لم يتعمد، فيكون مطبوعاً، فيصل إلى نهاية الإبداع، وأمثاله في القرآن كثير ‏{‏على يوسف‏}‏ هذا أوانك الذي ملأني بك فنادمني كما أنادمك، وخصه لأنه قاعدة إخوانه، انبنى عليها وتفرع منها ما بعدها ‏{‏وابيضت عينه‏}‏ أي انقلب سوادهما إلى حال البياض كثرة الاستعبار، فعمى البصر ‏{‏من الحزن‏}‏ الذي هو سبب البكاء الدائم الذي هو سبب البياض، فذكر السبب الأول، يقال‏:‏ بلغ حزنه عليه السلام حزن سبعين ثكلى وما ساء ظنه قط‏.‏

ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فهو‏}‏ أي بسبب الحزن ‏{‏كظيم *‏}‏ أي شديد الكظم لامتلائه من الكرب، مانع نفسه من عمل ما يقتضيه ذلك من الرعونات بما آتاه الله من العلم والحكمة، وذلك أشد ما يكون على النفس وأقوى ما يكون للحزن، فهو فعيل بمعنى مفعول، وهو أبلغ منه، من كظم السقاء- إذا شده على ملئه‏.‏

ومادة «كظم» تدور على المنع من الإظهار، يلزمه الكرب- لأنه من شأن الممنوع مما قد امتلأ منه، ويلزمه الامتلاء، لأن ما دونه ليس فيه قوة الظهور، كظم غيظه-إذا سكت بعد امتلائه منه، وكظمت السقاء- إذا ملأته وسددته، وكظم البعير جرته- إذا ردها وكف، والكظم‏:‏ مخرج النفس، لأنه به يمنع من الجري في هواه؛ والكظامة‏:‏ حبل يشد به خرطوم البعير، لمنعه مما يريد، وأيضاً يوصل بوتر القوس العربية ثم يدار بطرف السية العليا، منعاً له من الانحلال وأيضاً قناة في باطن الأرض يجري فيهما الماء، لأنه يمنع الماء من أن يأخذ في هواه فيرتفع في موضع النبع فيظهر على وجه الأرض، وخرق يجري فيه الماء من بئر إلى بئر، لأنه لا يصنع إلا عند ضعف إحدى البئرين، فلولاه لفاضت القوية، فهو تصريف لمائها في غير وجهه، وكظامة الميزان‏:‏ المسمار الذي يدور فيه اللسان، لأنه يربطه فيمنعه من الانفكاك، ويقال‏:‏ ما زلت كاظماً يومي كله، أي ممسكاً عن الأكل وقد امتلأت جوعاً، وقد يطلق على مطلق النبع، ومنه كاظمة- لقرية على شاطئ البحر، لأن البحر قد كظمها عن الانفساح وكذا هي منعته عن الانسياح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 88‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

فلما رأوا أنه قد فاتهم ما ظنوا أنه يكون بعد ذهاب يوسف من صلاح الحال مع أبيهم بقصر الإقبال عليهم، ووقع لأبيهم هذا الفادح العظيم، تشوف السامع إلى قولهم له، فاستأنف الإخبار عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي حنقاً من ذلك ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك الأعظم، يميناً فيها تعجب ‏{‏تفتئوا‏}‏ أي ما تزال ‏{‏تذكر يوسف‏}‏ حريصاً على ذكره قوياً عليه حرص الفتى الشاب الجلد الصبور على مراده ‏{‏حتى‏}‏ أي إلى أن ‏{‏تكون حرضاً‏}‏ أي حاضر الهلاك مشرفاً عليه متهيئاً له بدنف الجسم وخبل العقل- كما مضى بيانه في الأنفال عند ‏{‏حرض المؤمنين على القتال‏}‏ ‏{‏أو تكون‏}‏ أي كوناً لازماً هو كالجبلة ‏{‏من الهالكين *‏}‏‏.‏

ولما تشوفت النفس إلى ما كان عنه بعد ما رأى من غلطة بنيه، شفى عيّها بقوله‏:‏ ‏{‏قال إنما‏}‏ أي نعم لا أزال كذلك لأنه من صفات الكمال للإنسان، لدلالته على الرقة والوفاء، وإنما يكون مذموماً إذا كان على وجه الشكاية إلى الخلق وأنا لا أشكو إلى مخلوق، إنما ‏{‏أشكوا بثي‏}‏ والبث أشد الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطاق حمله فيباح به وينشر ‏{‏وحزني‏}‏ مطلقاً وإن كان سببه خفيفاً يقدر الخلق على إزالته ‏{‏إلى الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة تعرضاً لنفحات كرمه، لا إلى أحد غيره، وهذا- الذي سمعتوه مني فقلقتم له- قليل من كثير‏.‏

ولما كان يجوز أن يكونوا صادقين في أنهم لم يجدوا إلا قميص يوسف ملطخاً دماً، وأن يكون قطعهم بأكل الذئب له مستنداً إلى ذلك، وكان يعقوب عليه السلام يغلب على ظنه أن يوسف عليه السلام حي ويظن في الله أن يجمع شمله به، قال‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله‏}‏ أي الملك الأعلى من اللطف بنا أهل هذا البيت ومن التفريج عن المكروبين والتفريح للمغمومين ‏{‏ما لا تعلمون *‏}‏ ومادة «فتا» يائية وواوية مهموزة وغير ومهموزة بكل ترتيب وهي فتأ، وفأت وتفأ وأفت، وفتى وفوت وتوف وتفو تدور على الشباب، وتلزمه القوة وشدة العزيمة وسلامة الانقياد‏:‏ ما فتأ يفعل كذا- مثلثة العين‏:‏ ما زال كما أفتا، أي إنه ما زال فاعلاً في ذلك فعل الشاب الجلد الماضي العزم، وما فتئ أن فعل، ما برح أي أنه بادر إلى ذلك بسهولة انقياد وشدة عزيمة، وحقيقته‏:‏ ما فتئ عن فعل كذا، أي ما تجاوزه إلى غيره وما نسيه بل قصر فتاءه وهمته وجلده عليه، وعن ابن مالك في جمع اللغات المشكلة وعزاه للفراء- وصححه في القاموس‏:‏ فتأ- كمنع‏:‏ كسر وأطفأ، وهو واضح في القوة، وفتئ عنه- كسمع‏:‏ نسيه وانقذع عنه، أي انكف أو خاص بالجحد، أي بأن يكون قبله حرف نفي، ومعناه أن قوته تجاوزته فلم تخالطه؛ ومن يائيه‏:‏ الفتاء- كسماء‏:‏ الشباب، وكأنه أصل المادة، والفتي- بالقصر؛ السخي والكريم، أي الجواد الشريف النفس، والفتى‏:‏ السيد الشجاع- لأن ذلك يلزم الشباب، والفتى‏:‏ المملوك وإن كان بخيلاً أو شيخاً- لأنه غالباً لا يشتري إلا الشباب، والفتى‏:‏ التلميذ، والتابع كذلك، والفتى- كغنى‏:‏ الشاب أيضاً، والفتوة‏:‏ الكرم، وقد تفتى وتفاتى، وفتوتهم‏:‏ غلبتهم فيها، وأفتاه في الأمر‏:‏ أبانه له، والفتيا- بالضم والفتوى- ويفتح‏:‏ ما أفتى به الفقيه، وهو يرجع إلى الجود وحسن الخلق، والفتيان‏:‏ الليل والنهار، ولذلك يسميان الجديدين، وفتيت البنت تفتية‏:‏ منعت اللعب مع الصبيان، فهو من سلب الشباب، أي فعله ومن مقلوبه مهموزاً‏:‏ افتأت عليّ الباطل‏:‏ اختلقه، وبرأيه‏:‏ استبد، وكلاهما يدل على جرأة وطيش، وهو بالشاب الذي لم يحنكه الدهر أجدر، وافتئت- على البناء للمفعول‏:‏ مات فجأة- كأن ذلك أشد الموت؛ ومن واوية‏:‏ فات الشيء فوتاً وفواتاً‏:‏ ذهب فسبق فلم يدرك، وفاته وافتاته‏:‏ ذهب عنه فسبقه، وذلك يدل على قوة السابق، وبينهما فوت، أي بون- كأن كلاً منهما سابق للآخر، وتفاوت الشيئان وتفوتا‏:‏ تباعد ما بينهما، ويلزم ذلك الاختلاف والاضطراب، ويلزمه العيب ‏{‏فما ترى في خلق الرحمن من تفوت‏}‏‏:‏ من عيب، يقول الناظر‏:‏ لو كان كذا كان أحسن، وموت الفوات‏:‏ الفجأة، وهو فوت رمحه ويده، أي حيث يراه ولا يصل إليه، والفوت‏:‏ الفرجة بين إصبعين، وافتأت عليه برأيه‏:‏ سبقه به، وفاته به وعليه‏:‏ غلبه، ولا يفتات عليه أي لا يعمل دون أمره، أي لا أحد أشد منه فيسبقه، وافتات الكلام‏:‏ ابتدعه- كما تقدم في المهموز، وافتات عليه‏:‏ حكم- لقوته، والفويت- كزبير‏:‏ المنفرد برأيه- للمذكر والمؤنث، وذلك لعدة نفسه شديداً، وتفوت عليه في ماله‏:‏ فاته به؛ ومن مقلوبه مهموزاً‏:‏ تفئ كفرح‏:‏ احتد وغضب- وذلك لشدته، وتفيئة الشيء‏:‏ حينه وزمانه، وذلك أحسن أحواله، ودخل على تفيئته أي أثره أي لم يسبقه بكثير، وذلك أشد له؛ ومن واوية‏:‏ التفة كقفة‏:‏ عناق الأرض وهي تصيد، وفيها خلاف يبين إن شاء الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏جزاء موفوراً‏}‏ من سورة سبحان؛ ومن مقلوبه واوياً‏:‏ تاف بصره يتوف‏:‏ تاه- كأنه لسلب الشدة أو المعنى أنه وقع في توقة، أي شدة، وما فيه توفة- بالضم- ولا تافة‏:‏ عيب أو مزيد أو حاجة وأبطأ وكل ذلك يدل على شدته، وطلب علي توفة بالفتح،‏:‏ عثرة وذنباً- من ذلك لأن العثرة والذنب لا يصيبان شيئاً إلا عن شدتهما وضعفه؛ ومن مقلوبه مهموزاً‏:‏ الأفت- بالفتح‏:‏ النافة التي عندها من الصبر والبقاء ما ليس عند غيرها، والسريع الذي يغلب الإبل على السير، والكريم من الإبل- ويكسر- والداهية والعجب، وكل ذلك واضح في القوة، والإفت- بالكسر‏:‏ الأول- لأنه أصل كل معدود، وأفته عن كذا‏:‏ صرفه‏.‏

ولما أخبرهم عليه السلام أن علمه فوق علمهم، أتبعه استئنافاً ما يدل عليه فقال‏:‏ ‏{‏يابني اذهبوا‏}‏ ثم سبب عن هذا الذهاب وعقب به قوله‏:‏ ‏{‏فتحسسوا‏}‏ أي بجميع جهدكم ‏{‏من يوسف وأخيه‏}‏ أي اطلبوا من أخبارهما بحواسكم لعلكم تظفرون بهما، وهذا يؤكد ما تقدم من احتمال ظنه أن فاعل ذلك يوسف- عليهم الصلاة والسلام‏.‏

ولما لم يكن عندهم من العلم ما عنده، قال‏:‏ ‏{‏ولا تيأسوا‏}‏ أي تقنطوا ‏{‏من روح الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله؛ والروح- قال الرماني- يقع بريح تلذ، وكأن هذا أصله فالمراد‏:‏ من رحمته وفرجه وتيسيره ولطفه في جمع الشتات وتيسير المراد؛ ثم علل هذا النهي بقوله‏:‏ ‏{‏إنه لا يبأس‏}‏ أي لا يقنط ‏{‏من روح الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام ‏{‏إلا القوم‏}‏ أي الذين لهم قوة المحاولة ‏{‏الكافرون *‏}‏ أي العريقون في الكفر، فأجابوه إلى ما أراد، قتوجهوا إلى مصر لذلك ولقصد الميرة لما كان اشتد بهم من القحط، وقصدوا العزيز؛ وقوله‏:‏ ‏{‏فلما دخلوا عليه‏}‏ بالفاء يدل على أنهم أسرعوا الكرة في هذه المرة ‏{‏قالوا‏}‏ منادين بالأداة التي تنبه على أن ما بعدها له وقع عظيم ‏{‏يا أيها العزيز‏}‏‏.‏

ولما تلطفوا بتعظيمه، ترققوا بقولهم‏:‏ ‏{‏مسنا‏}‏ أي أيتها العصابة التي تراها ‏{‏وأهلنا‏}‏ أي الذين تركناهم في بلادنا ‏{‏الضر‏}‏ أي لابسنا ملابسة نحسها ‏{‏وجئنا ببضاعة مزجاة‏}‏ أي تافهة غير مرغوب فيها بوجه، ثم سببوا عن هذا الاعتراف- لأنه أقرب إلى رحمة أهل الكرم- قولهم‏:‏ ‏{‏فأوف لنا‏}‏ أي شفقة علينا بسبب ضعفنا ‏{‏الكيل وتصدق‏}‏ أي تفضيل ‏{‏علينا‏}‏ زيادة على الوفاء كما عودتنا بفضل ترجو ثوابه‏.‏

ولما رأوا أفعاله تدل على تمسكه بدين الله، عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏يجزي المتصدقين *‏}‏ أي مطلقاً وإن أظهرت- بما أفاد الإظهار- وإن كانت على غني قوي، فكيف إذا كانت على أهل الحاجة والضعف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 92‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

فلما رأى أن الأمر بلغ الغاية ولم يبق شيء يتخوفه، عرفهم بنفسه فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله حكاية‏:‏ ‏{‏قال هل علمتم‏}‏ مقرراً لهم بعد أن اجترؤوا عليه واستأنسوا به، والظاهر أن هذا كان بغير ترجمان ‏{‏ما‏}‏ أي قبح الذي ‏{‏فعلتم بيوسف‏}‏ أي أخيكم الذي حلتم بينه وبين أبيه ‏{‏وأخيه‏}‏ في جعلكم إياه فريداً منه ذليلاً بينكم، ثم في قولكم له لما وجدوا الصواع في رحله‏:‏ لا يزال يأتينا البلاء من قبلكم يا بني راحيل‏!‏ وأعلمهم بأن ظنه فيهم الآن جميل تسكيناً لهم فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أنتم جاهلون *‏}‏ أي فاعلون فعلهم- تلويحاً لهم إلى معرفته وتذكيراً بالذنب ليتوبوا، وتلطفاً معهم في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث فيه المصدور، ويشتفي فيه المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، بتخصيص جهلهم- بمقتضى «إذا»- بذلك الزمان إفهاماً لهم أنهم الآن على خلاف ذلك، فكأنه قيل‏:‏ إنه قد قرب لهم الكشف عن أمره، لأنه لا يستفهم ملك مثله- لم ينشأ بينهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم- هذا الاستفهام ولا سيما وقد روى أنه لما قال هذا تبسم، وكان في تبسمه أمر من الحسن لا يجهله معه من رآه ولو مرة واحدة، فهل عرفوه‏؟‏ فقيل‏:‏ ظنوه ظناً غالباً، ولذلك ‏{‏قالوا‏}‏ مستفهمين ‏{‏أإنك‏}‏ وأكدوا بقولهم‏:‏ ‏{‏لأنت يوسف‏}‏‏.‏

ولما كان المتوقع من مثله فيما هو فيه من العظمة أن يجازيهم على سوء صنيعهم إليه، استأنف بيان كرمه فقال‏:‏ ‏{‏قال أنا يوسف‏}‏ وزادهم قوله‏:‏ ‏{‏وهذا أخي‏}‏ أي بنيامين شقيقي لذكره لهم في قوله ‏{‏وأخيه‏}‏ وليزيدهم ذلك معرفة له، وثبتها في أمره بتصديقه له مع مكثه عنده مدة ذهابهم وإيابهم، وليبني عليه قوله‏:‏ ‏{‏قد منَّ الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام ‏{‏علينا‏}‏ بأن جمع بيننا على خير حال تكون؛ ثم تعليله بقوله‏:‏ ‏{‏إنه من يتق‏}‏ وهو مجزوم لأنه فعل الشرط، وأثبت قنبل- بخلافه عنه- ياءه في الحالين معاملاً له معاملة الصحيح إشارة إلى وصف التقوى بالصحة الكاملة والمكنة الزائدة والملازمة لها في كل حال ‏{‏ويصبر‏}‏ أي يوفه الله أجره لإحسانه ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ‏{‏لا يضيع‏}‏ أي أدنى إضاعة- أجره، هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يعرف أن التقوى والصبر من الإحسان، فقال‏:‏ ‏{‏أجر المحسنين *‏}‏ والتقوى‏:‏ دفع البلاء بسلوك طريق الهدى؛ والصبر‏:‏ حبس النفس بتجرع مرارة المنع عما يشتهي، ولعله إنما ستر أمره عنهم إلى هذا الحد لأنه لو أرسل إلى أبيه يخبره قبل الملك لم يأمن كيد إخوته، ولو تعرف إليهم بعده أو أول ما رآهم لم يأمن من أن تقطع أفئدتهم عند مفاجأتهم بانكشاف الأمر وهو فيما هو فيه من العز، فإنهم فعلوا به فعل القاتل من غير ذنب قدمه إليهم، فهم لا يشكون في أنه إذا قدر عليهم يهلكهم لما تقدم لهم إليه من سوء الصنيعة، وعلى تقدير سلامتهم لا يأمنونه وإن بالغ في إكرامهم، فإن الأمور العظام- إن لم تكن بالتدريج- عظم خطرها، وتعدى ضررها، فإن أرسلهم ليأتوا بأبيهم خيف أن يختلوا أباهما من ملك مصر ويحسنوا له الإبعاد عن بلاده، فيذهبوا إلى حيث لا يعلمه، وإن أرسل معهم ثقات من عنده لم يؤمن أن يكون بينهم شر، وإن سجنهم وأرسل إلى أبيه من يأتي به لم يحسن موقع ذلك من أبيه، ويحصل له وحشة بحبس أولاده، وتعظم القاله بين الناس من أهل مصر وغيرهم في ذلك، ففعل معهم ما تقدم ليظهر لهم إحسانه وعدله ودينه وخيره، وكفه عنهم وعفوه عن فعلهم بالتدريج، ويقفوا على ذلك منه قولاً وفعلاً من أخيه الذي ربى معهم وهم به آنسون وله ألفون، فتسكن روعتهم، وتهون زلتهم، ومما يدل على ذلك أنه لما انتفى عن أخيه بنيامين ما اتصفوا به مما ذكر، تعرف إليه حين قدم عليه ونهاه أن يخبرهم بحقيقة الأمر، وشرع يمد في ذلك لتستحكم الأسباب التي أرادها، فلما ظن أن الأمر قد بلغ مداه، لوح لهم فعرفوه وقد أنسهم حسن عقله وبديع جماله وشكله ورائع قوله وفعله، فكان موضع الوجل والخجل، وموضع اليأس الرجاء، فحصل المراد على وفق السداد- والله الموفق؛ وذلك تنبيه لمن قيل لهم أول السورة

‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 2‏]‏ على الاقتداء بأفعال الهداة المهديين في التأني والاتئاد وتفويض الأمور إلى الحكيم، وأن لا يستعجلوه في أمر، وأن يعلموا أن سنته الإلهية جرت بأن الأمور الصعاب لا تنفذ إلا بالمطاولة لترتب الأسباب شيئاً فشيئاً على وجه الإحكام، وفي ذلك فوائد من أجلها امتحان أولى الطاعة والعصيان- كما ستأتي الإشارة إليه آخر السورة بقوله؛ ‏{‏حتى إذا استيئس الرسل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏ الآية والله أعلم‏.‏

ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل‏:‏ لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ متعجبين غاية التعجب‏.‏ ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك‏:‏ ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لقد آثرك الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏علينا‏}‏ أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى‏:‏ فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك ‏{‏وإن‏}‏ خففوها من الثقيلة تأكيداً بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت ‏{‏كنا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لنا ‏{‏لخاطئين *‏}‏ أي عريقين في الخطأ، وهو تعمد الإثم، فكأنه قيل‏:‏ ما قال لهم على قدرته وتمكنه مع ما سلف من إساءتهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ قول الكرام اقتداء بإخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ‏{‏لا تثريب‏}‏ أي لا لوم ولا تعنيف ولا هلاك ‏{‏عليكم اليوم‏}‏ وإن كان هذا الوقت مظنة اللوم والتأنيب، فإذا انتفى ذلك فيه فما الظن بما بعده‏!‏

ومادة «ثرب» تدور على البرث- بتقديم الموحدة، وهو أسهل الأرض وأحسنها؛ ولثبرة- بتقديم المثلثة‏:‏ أرض ذات حجارة بيض، فإنه يلزمه الإخلاد، والدعة، ومنه‏:‏ ثابر على الأمر‏:‏ دوام، والمثبر- كمنزل‏:‏ لمسقط الولد أي موضع ولادته، والمقطع والمفصل، فيأتي الكسل واللين فيأتي الفساد، ومنه الثبور للهلاك، والبثر بتقديم الموحدة‏:‏ خراج معروف‏:‏ والماء البثر‏:‏ الذي بقى منه على الأرض شيء قليل؛ والربث- بتقديم الموحدة أيضاً‏:‏ حبس الإنسان، وهو يرجع إلى الإقامة والدوام أيضاً؛ والتثريب‏:‏ التقرير بالذنب، فهو إزالة ما على الإنسان من ساتر العفو، من الثرب وهو شحم يغشى الكرش والأمعاء ويسترهما، وهو من لوازم الأرض السهلة لما يلزم من خصبها، فالتثريب إزالته، وذلك للقحط الناشئ عنه الهلاك، فأغلب مدار المادة الهلاك‏.‏

ولما أعفاهم من الترثيب، كانوا في مظنة السؤال عن كمال العفو المزيل للعقاب من الله، فأتبعه الجواب عن ذلك بالدعاء لهم بقوله‏:‏ ‏{‏يغفر الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏لكم‏}‏ أي ما فرط منكم وما لعله يكون بعد هذا؛ ولعله عبر في هذا الدعاء بالمضارع إرشاداً لهم إلى إخلاص التوبه، ورغبهم في ذلك ورجاهم بالصفة التي هي سبب الغفران، فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏أرحم الراحمين *‏}‏ أي لجميع العباد ولا سيما التائب، فهو جدير بإدرار النعم بعد الإعاذة من النقم، وروى أنهم أرسلوا إليه أنك لتدعونا إلى طعامك وكرامتك بكرة وعشياً ونحن نستحي لما فرط منا، فقال‏:‏ إن أهل مصر ينظرونني- وإن ملكت فيهم- بعين العبودية فيقولون‏:‏ سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي، وأني من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏