فصل: سورة إبراهيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


سورة إبراهيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏كتاب‏}‏ أي عظيم في درجات من العظمة‏.‏ لا تحتمل عقولكم الإخبار عنها بغير هذا الوصف، ودل تعليل وصفه بالمبين بأنه عربي على أن التقدير‏:‏ ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليك‏}‏ بلسان قومك لتبين لهم‏.‏

ولما استجمع التعريف بالأوصاف الموجبة للفلاح المذكورة أول السورة المستدل عليها بكل برهان منير وسلطان مبين، فصار بحيث لا يتوقف عن اجتناء ثمرته من وقف على حقائق تلك النعوت، شوق إلى تلك الثمرة بعد تفصيل ما في أول البقرة في التي قبلها كما مضى بما يحث عليه ويقبل بقلب كل عاقل إليه فقال‏:‏ ‏{‏لتخرج الناس‏}‏ أي عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم به وإن كانوا ذوي اضطراب ‏{‏من الظلمات‏}‏ التي هي أنواع كثيرة من الضلالات التي أدت إليها الجهالات ‏{‏إلى النور‏}‏ الذي هو واحد، وهو سبيل الله المدعو بالهداية إليه في الفاتحة، أو لتبين للعرب قومك لأنه بلسانهم بياناً شافياً، فتجعلهم- بما تقيم عليهم من الحجج الساطعة، وتوضح لهم من البراهين القاطعة، وتنصب لهم من الأعلام الظاهرة، وتحكم لهم من الأدلة الباهرة- في مثل ضوء النهار بما فتح من مقفل أبصارهم، وكشف عن أغطية قوبهم، فيكونوا متمكنين من أن يخرجوا من ظلمات الكفر التي هي طرق الشيطان إلى نور الإيمان الذي هو سبيله ‏{‏ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏ وشبه الإيمان وما أرشد إليه بالنور، لأنه عصمة العقل من الخطأ في الطريق إلى الله كما أن النور عصمة البصر من الضلال عن الطريق الحسي، وإذا خرجوا إلى النور كانوا جديرين بأن يخرجوا جميع الناس ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم؛ والإذن‏:‏ الإطلاق في الفعل بقول يسمع بالأذن، هذا أصله- قاله الرماني‏.‏

ولما كان النور مجملاً، بينه على سبيل الاستئناف أو البدل بتكرير العامل فقال‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز‏}‏ الذي تعالى عن صفات النقص فعز عن أن يدخل أحد صراطه الذي هو ربه، أو يتعرض أحد إلى سالكه بغير إذنه ‏{‏الحميد‏}‏ المحيط بجميع الكمال، فهو المستحق لجميع المحامد لذاته وبما يفيض على عباده من النعم التي يربيهم ويتحمد إليهم بها على كل حال، فكيف إذا سلكوا سبيله الواضح الواسع السهل‏!‏‏.‏

ولما أضاف طريق النجاة إلى وصفين يجوز إطلاق كل منهما على الخلق، بينهما باسمه الشريف العَلم على الاستئناف في قراءة نافع وابن عامر بالرفع‏.‏ وعلى أنه عطف بيان في قراءة الباقين بالجر لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لاختصاصه بالمعبود بحق ووصفه بما اقتضى توحيده، فقال‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏الذي له ما في السماوات‏}‏ أي الأجسام العالية من الأراضي وغيرها‏.‏ ولما كان في سياق الدلالة على الخالق وإثبات توحيده، أكد بإعادة الموصول مع صلته فقال‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ أي فويل لمن أشرك به شيئاً منهما أو فيهما، فإنه لا أبين من أن ما كان مملوكاً لا يصلح لأن يكون شريكاً‏.‏ ويجوز أن يكون التقدير‏:‏ فوأل ونجاة وسلامة لمن اهتدى به فخرج من ظلمات الكفر ‏{‏وويل‏}‏ مصدر بمعنى الهلاك، ينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة أن معنى الهلاك- وهو ضد الوأل الذي هو النجاة- ثابت ‏{‏للكافرين‏}‏ الذين ستروا أدلة عقولهم ‏{‏من عذاب شديد‏}‏ تتضاعف آلامه وقوته؛ والشدة‏:‏ تجمع يصعب معه التفكيك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

ولما أشار إلى ما للكافرين، وصفهم بما عاقهم عن قبول الخير وتركهم في أودية الشر فقال‏:‏ ‏{‏الذين يستحبون‏}‏ أي يطلبون أن يحبوا أو يوجدون المحبة بغاية الرغبة متابعة للهوى ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ وهي النشأة الأولى التي هي دار الارتحال، مؤثرين لها ‏{‏على الآخرة‏}‏ أي النشأة الأخرى التي هي دار المقام، وذلك بأن يتابعوا أنفسهم على حبها حتى يكونوا كأنهم طالبون لذلك، وهذا دليل على أن المحبة قد تكون بالإرادة؛ والمحبة‏:‏ ميل الطباع إلى الشيء بالشهوة، فهم يمتنعون خوفاً على دنياهم التي منها رئاستهم عن سلوك الصراط ‏{‏و‏}‏ يضمون إلى ذلك أنهم ‏{‏يصدون‏}‏ أي يعرضون بأنفسهم ويمنعون غيرهم ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ أي طريق الملك الأعظم؛ والسبيل‏:‏ المذهب المهيأ للسلوك ‏{‏و‏}‏ يزيدون على ذلك أنهم ‏{‏يبغونها‏}‏ أي يطلبون لها، حذف الجار وأوصل الفعل تأكيداً له ‏{‏عوجاً‏}‏ والعوج‏:‏ ميل عن الاستقامة، وهو بكسر العين في الدين والأمر والأرض، وبالفتح في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما ‏{‏أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏في ضلال بعيد *‏}‏ أي عن الحق، إسناد مجازي، لأن البعيد أهل الضلال بميلهم عن الباقي إلى الفاني وبطلبهم العوج فيما قومه الله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً‏.‏

ولما قدم ما أفهم أنه أرسله صلى الله عليه وسلم بلسان قومه إلى الناس كافة لأن اللسان العربي أسهل الألسنة وأجمعها وأفصحها وأبينها، فكان في غاية العدالة، وختم بأن السبيل إليه في غاية الاستقامة والاعتدال، دلّ على شرف هذا اللسان لصلاحيته لجميع الأمم وخفته عليهم بخصوص لسان كل من الرسل بقومه، فلذلك أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بما لنا في العظمة، وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من رسول‏}‏ أي في زمن من الأزمان ‏{‏إلا بلسان‏}‏ أي لغة ‏{‏قومه‏}‏ أي الذين فيهم قوة المحاولة لما يريدون ‏{‏ليبين‏}‏ أي بياناً شافياً ‏{‏لهم‏}‏ كما تقدم أنا أرسلناك بكتاب عربي بلسان قومك لتبين لهم ولجميع الخلق، فإن لسانك أسهل الألسنة وأعذبها، فهو معطوف على ‏{‏أنزلناه‏}‏ بالتقدير الذي تقدم، فإذا تقرر ذلك علم أنه لا مانع حينئذ لأمة من الأمم عن الاستقامة على هذا الصراط إلا إذن الله ومشيئته ‏{‏فيضل‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أنه يضل ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏من يشاء‏}‏ إضلاله، وقدم سبحانه هذا اهتماماً بالدلالة على أنه سبحانه خالق الشر كما أنه خالق الخير مع أن السياق لذم الكافرين الذين هم رؤوس أهل الضلال ‏{‏ويهدي من يشاء‏}‏ هدايته فإنه سبحانه هو المضل الهادي، وأما الرسل فمبينون ملزمون للحجة تمييزاً للضال من المهتدي ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يرام ما عنده إلا به، ولا يمتنع عليه شيء أراده ‏{‏الحكيم *‏}‏ الذي لا ينقض ما دبره، فلذلك دبر بحكمته إرساله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الخلق كافة باللسان العربي، لأن المقصود جمع الخلق على الحق، فجمعهم على لسان واحد أنسب ما يكون لذلك، ولو أنزل بألسنة كلها لكان منافياً لهذا المقصود، وإن كان مع الإعجاز بكل لسان كان قريباً من الإلجاء فيفوت الإيمان بالغيب، ويؤدي أيضاً إلى ادعاء أهل كل لسان أن التعبير عنه بلسانهم أعظم، فيؤدي ذلك إلى المفاخرة والعصبية المؤدي إلى أشد الفرقة، وأنسب الألسنة لسان قوم الرسول لأنهم، أقرب إليه، فيكون فهمهم لأسرار شريعته ووقوفهم على حقائقها أسهل، ويكونون عن الغلط والخطأ أبعد، فإذا فهموا عنه دعوا من يليهم بالتراجمة وهلم جرا، فانتشر الأمر وعم وسهل، وكان مع ذلك أبعد من التحريف وأسلم من التنازع‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما كانت سورة الرعد على ما تمهد بأن كانت تلك الآيات والبراهين التي سلفت فيها لا يبقى معها شك لمن اعتبر بها لتعظيم شأنها وإيضاح أمرها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 1‏]‏ أي إذا هم تذكروا به واستبصروا ببراهينه وتدبروا آياته ‏{‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏‏.‏ ولما كان هذا الهدى والضلال كل ذلك موقوف على مشيئته سبحانه وسابق إرادته وقد قال لنبيه عليه السلام ‏{‏إنما أنت منذر ولكل قوم هاد‏}‏ قال تعالى هنا ‏{‏بإذن ربهم‏}‏، إنما عليك البلاغ‏.‏ ولما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من آية من السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 105‏]‏ تم بسطها في سورة الرعد، أعلم هنا أن ذلك كله له وملكه فقال‏:‏ ‏{‏الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 2‏]‏ فالسماوات والأرض بجملتهما وما فيهما من عظيم ما أوضح لكم الاعتبار به، كل ذلك له ملكاً وخلقاً واختراعاً، ‏{‏وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏وويل للكافرين من عذاب شديد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 2‏]‏ لعنادهم مع وضوح الأمر وبيانه ‏{‏ويصدون عن سبيل الله‏}‏ ‏[‏التوبه‏:‏ 34‏]‏ مع وضوح السبيل وانتهاج ذلك الدليل، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ وكأن هذا من تمام قوله سبحانه ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ وذلك أن الكفار لما حملهم الحسد والعناد وبعد الفهم بما جبل على قلوبهم وطبع عليها على أن أنكروا كون الرسل من البشر حتى قالوا‏:‏ ‏{‏أبشر يهدوننا‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏، ‏{‏ما أنتم إلا بشر مثلنا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 15‏]‏ وحتى قالت قريش‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏، ‏{‏ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ فما كثر هذا منهم وتبع خلفهم في هذا سلفهم، رد تعالى أزعامهم وأبطل توهمهم في آيات وردت على التدريج في هذا الغرض شيئاً فشيئاً، فأول الوارد من ذلك في معرض الرد عليهم وعلى ترتيب سور الكتاب قوله تعالى‏:‏

‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 2‏]‏، الآية ثم أتبع ذلك بانفراده تعالى بالخلق والاختراع والتدبير والربوبية، وفي طي ذلك أنه يفعل ما يشاء لأن الكل خلقه وملكه، وأنه العليم بوجه الحكمة في إرسال الرسل وكونهم من البشر، فأرغم الله تعالى بمضمون هذة الآي كل جاحد معاند؛ ثم ذكر تعالى في سورة هود قول قوم نوح ‏{‏ما نراك إلا بشراً مثلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏، الآية وجوابه عليه السلام ‏{‏أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 63‏]‏ أي أني وإن كنت في البشرية مثلكم فقد خصني الله بفضله وآتاني رحمة من عنده وبرهاناً على ما جئتكم به عنه، وفي هذه القصة أعظم عظة، ثم جرى هذا لصالح وشعيب عليهما السلام، وديدن الأمم أبداً مع أنبيائهم ارتكاب هذه المقالات، وفيها من الحيد والعجز عن مقاومتهم ما لا يخفى وما هو شاهد على تعنتهم، ثم زاد سبحانه تعالى نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعريفاً بأحوال من تقدمه من الأنبياء عليهم السلام ليسمع ذلك من جرى له مثل ما جرى لهم فقال مثل مقالتهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ وأعلم سبحانه أن هذا لا يحط شيئاً من مناصبهم، بل هو واقع في قيام الحجة على العباد‏.‏ ثم تلا ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏ أي ليكون أبلغ في الحجة وأقطع للعذر، فربما كانوا يقولون عند اختلاف الألسنة‏:‏ لا نفهم عنهم، إذ قالوا ذلك مع اتفاق اللغات، فقد قال قوم شعيب عليه السلام ‏{‏وما نفقة كثيراً مما تقول‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 91‏]‏ هذا وهو عليه السلام يخاطبهم بلسانهم فكيف لو كان على خلاف ذلك بل لو خالفت الرسل عليهم السلام الأمم في التبتل وعدم اتخاذ الزوجات والأولاد واستعمال الأغذية وغيرها من مألوفات البشر لكان منفراً، فقد بان وجه الحكمة في كونهم من البشر ولو كانوا من الملائكة لوقع النفار والشرود لافتراق الجنسية، وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ أي ليكون أقرب إليهم لئلا يقع تنافر فكونهم من البشر أقرب وأقوم للحجة‏.‏ ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، كان عليه الصلاة والسلام يخاطب كل طائفة من طوائف العرب بلسانها ويكلمها بما تفهم، وتأمل كم بين كتابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنس رضي الله عنه في الصدقة وكتابه إلى وائل بن حجر مع اتحاد الغرض، وللكتابين نظائر يوقف عليها في مظانها، وكل ذلك لتقوم الحجة على الجميع، واستمر باقي سورة إبراهيم عليه السلام على التعريف بحال مكذبي الرسل ووعيد من خالفهم وبيان بعض أهوال الآخرة وعذابها- انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه الرسل بما ذكره، توقع السامع تفصيل شيء من أخبارهم، فابتدأ بذكر من كتابه أجل كتاب بعد القرآن هدى للناس دليلاً على أنه يفعل ما يشاء من الإضلال والهداية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتثبيتاً وتصبيراً على أذى قومه، وإرشاداً إلى ما فيه الصلاح في مكالمتهم، فقال مصدراً بحرف التوقع‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏موسى بآياتنا‏}‏ أي البينات؛ ثم فسر الإرسال بقوله‏:‏ ‏{‏إن أخرج قومك‏}‏ أي الذين فيهم قوة على مغالبة الأمور ‏{‏من الظلمات‏}‏ أي أنواع الجهل ‏{‏إلى النور *‏}‏ بتلك الآيات ‏{‏وذكرهم‏}‏ أي تذكيراً عظيماً ‏{‏بأيام الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام من وقائعه في الأمم السالفة وغير ذلك من المنح لأوليائه والمحن لأعدائه كما أرسلناك لذلك ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي التذكير العظيم ‏{‏لآيات‏}‏ على وحدانية الله وعظمته ‏{‏لكل صبار‏}‏ أي بليغ الصبر بلاء الله، قال في العوارف‏:‏ وقال أبو الحسن بن سالم‏:‏ هم ثلاثة‏:‏ متصبر، وصابر، وصبار، فالمتصبر من صبر في الله، فمرة يصبر ومرة يجزع، والصابر من يصبر في الله ولله ولا يجزع ولكن يتوقع منه الشكوى، وقد يمكن منه الجزع، فأما الصبار فذلك الذي صبّره الله في الله ولله وبالله، فهذا لو وقع عليه جميع البلايا لا يجزع ولا يتغير من جهة الوجوب والحقيقة، لا من جهة الرسم والخليقة، وإشارته في هذا ظهور حكم العلم فيه مع ظهور صفة الطبيعة‏.‏ ‏{‏شكور *‏}‏ أي عظيم الشكر لنعمائه، فإن أيامه عند أوليائه لا تخلو من نعمة أو نقمة، وفي صيغة المبالغة أشارة إلى أن عادته تعالى جرت بأنه إنما ينصر أولياءه بعد طول الامتحان بعظيم البلاء ليتبين الصادق من الكاذب ‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ ‏{‏حتى إذا استيئس الرسل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏، ‏{‏الم أحسب الناس أن يتركوا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 2‏]‏ وذلك أنه لا شيء أشق على النفوس من مفارقة المألوف لا سيما إن كان ديناً ولا سيما إن كان قد درج عليه الأسلاف، فلا يقوم بالدعاء إلى الدين إلا من بلغ الذروة في الصبر‏.‏

ولما ذكر ما أمر به موسى عليه السلام، وكان قد تقدم أمره في الشريف إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاقتداء بالأنبياء الذين هو من رؤوسهم وأولي عزمهم، كان كأنه قيل‏:‏ فبين أنت للناس ما نزل إليهم وذكرهم بأيام الله اقتداء بأخيك موسى عليه السلام ‏{‏و‏}‏ اذكر لهم خبره فإن أيامه من أعظم أيام الله‏:‏ أشدها محنة وأجلها منحة ‏{‏إذ قال موسى‏}‏ امتثالاً لما أمرناه به ‏{‏لقومه‏}‏ مذكراً لهم بأيام الله معهم ثم أيامه مع غيرهم‏.‏

ولما كان المراد بالتذكير بالأيام زيادة الترغيب والترهيب، أشار إلى أن مقام الترهيب هنا أهم للحث على تركهم الضلال بترك عادته في الترفق بمثل ما في البقرة والمائدة من الاستعطاف بعاطفة الرحم بقوله‏:‏ ‏{‏ياقوم‏}‏ فأسقطها هنا إشارة إلى أن المقام يقتضي الإبلاغ في الإيجاز في التذكير للخوف من معاجلتهم بالعذاب فقال‏:‏ ‏{‏اذكروا نعمة الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام، وعبر بالنعمة عن الإنعام حثاً على الاستدلال بالأثر على المؤثر ‏{‏عليكم‏}‏ ثم أبدل من «نعمة» قوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ وهو ظرف النعمة‏.‏

ولما كانوا قد طال صبرهم جداً بما طال من بلائهم من فرعون على وجه لا يمكن في العادة خلاصهم منه، وإن أمكن على بعد لم يكن إلا في أزمنة طوال جداً بتعب شديد، أشار إلى أسراعه بخلاصهم بالنسبة إليه لو جرى على مقتضى العادة جزاء لهم على طول صبرهم، فعبر بالإفعال دون التفعيل الذي اقتضاه سياق البقرة فقال‏:‏ ‏{‏أنجاكم من‏}‏ بلاء ‏{‏آل فرعون‏}‏ أي فرعون نفسه وأتباعه وأوليائه؛ قال في القاموس‏:‏ ولا يستعمل إلا لما فيه شرف غالباً، فكأنهم قالوا‏:‏ من أيّ بلائهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يسومونكم‏}‏ أي يكلفونكم ويولونكم على سبيل الاستهانة والقهر ‏{‏سوء العذاب‏}‏ بالاستعباد‏.‏

ولما كان السياق للصبر البليغ، اقتضى ذلك العطف في قوله‏:‏ ‏{‏ويذبحون‏}‏ أي تذبيحاً كثيراً مميتاً- بما أفاده تعبير الأعراف بالقتل، ومعرفاً بإعادة التعبير بالذبح أن الموت بالسكين ‏{‏أبناءكم ويستحيون‏}‏ أي يطلبوا أن يحيوا ‏{‏نساءكم‏}‏ لإفادة أن ذلك بلاء آخر ‏{‏و‏}‏ الحال أن ‏{‏في ذلكم‏}‏ أي الأمر الشديد المشقة من العذاب المتقدم أو الإنجاء أو هما ‏{‏بلاء من ربكم‏}‏ أي المربي لكم المدبر لأموركم ‏{‏عظيم *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ولما ذكرهم بنعمة الأمن رغبهم فيما يزيدها، ورهبهم مما يزيلها فقال‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكروا إذ ‏{‏تأذن ربكم‏}‏ أي أعلم المحسن إليكم إعلاماً بليغاً ينتفي عنه الشكوك قائلاً‏:‏ ‏{‏لئن شكرتم‏}‏ وأكده لما للأنفس من التكذيب بمثل ذلك لأعتقادها أن الزيادة بالسعي في الرزق والنقص بالتهاون فيه ‏{‏لأزيدنكم‏}‏ من نعمي، فإن الشكر قيد الموجود وصيد المفقود «إن عطائي لعتيد فأرجوه» ‏{‏ولئن كفرتم‏}‏ النعمة فلم تقيدوها بالشكر لأنقصنكم ولأعذبنكم ‏{‏إن عذابي‏}‏ بإزالتها وغيرها ‏{‏لشديد *‏}‏ فخافوه، فالآية- كما ترى- من الاحتباك‏.‏

ولما كان من حث على شيء وأثاب عليه أو نهى عنه وعاقب على فعله يكون لغرض له، بين أن الله سبحانه متعال عن أن يلحقه ضر أو نفع، وأن ضر ذلك ونفعه خاص بالعبد فقال تعالى حاكياً عنه‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ مرهباً لهم معلماً أن وبال الكفران خاص بصاحبه ‏{‏إن تكفروا‏}‏ والكفر‏:‏ تضييع حق النعمة بجحدها أو ما يقوم في العظم مقامه ‏{‏أنتم ومن في الأرض‏}‏ وأكد بقوله‏:‏ ‏{‏جميعاً‏}‏ فضرره لاحق بكم خاصة غير عائد على الله شيء منه ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لغني‏}‏ أي في ذاته وصفاته عن كل أحد، والغنى هنا المختص بما ينفي لحاق الضرر أو النقص، والمختص بأنه قادر لا يعجزه شيء، عالم لا يخفى عليه شيء، وذلك بنفسه لا بشيء سواه، ومن لم يكن كذلك لم يكن غنياً ‏{‏حميد *‏}‏ أي بليغ الاستحقاق للحمد بما له من عظيم النعم وبما له من صفات الكمال، وكل مخلوق يحمده بذاته وأفعاله وجميع أقواله كائنة ما كانت، لأن إيجاده لها ناطق بحمده سبحانه‏.‏

ذكر التأذن بذلك المذكر به من التوراة‏:‏

قال في السفر الخامس‏:‏ واختاركم الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً من جميع الشعوب التي على وجه الأرض، وليس لأنكم أكثر من جميع الشعوب أحبكم الرب واختاركم، ولكن ليثبت الأيمان التي أقسم لآبائكم، لذلك أخرجكم الرب بيد منيعة، وأنقذكم من العبودية، وخلصكم من يدي فرعون ملك مصر، لتعلموا أن الله ربكم هو إله الحق، إله مهيمن يحفظ النعمة والعهد لأوليائه الذين يحفظون وصيته لألف حقب، ويكافئ شنأته في حياتهم ويجزيهم بالهلاك والتلف، احفظوا السنن والأحكام والوصايا التي آمركم بها اليوم فافعلوها يحفظ الله الرب العهد والنعمة التي أقسم لآبائكم، ويحبكم ويبارك عليكم ويكثركم، ويبارك في أولادكم وفي ثمرة أرضكم وفي بركم وخبزكم وزيتكم، وفي أقطاع بقركم وجفرات غنمكم، وتكونوا مباركين من جميع الشعوب، ولا يكون فيكم عاقر ولا عقيم ولا في بهائمكم، ويصرف الله عنكم كل وجع، وجميع الضربات التي أنزل الله بأهل مصر- كما تعلمون- لا ينزلها بكم بل ينزلها بجميع شنأتكم، وتأكلون جميع خيرات الشعوب التي يعطيكم الله ربكم، ولا تشفق أعينكم عليهم، ولا تعبدوا آلهتهم لأنهم فخاخ لكم، وإن قلتم في قلوبكم‏:‏ إن هذه الشعوب أكثر منا فكيف نقدر أن نهلكها‏!‏ فلا تفرقوا منها ولكن اذكروا جميع ما صنع الله ربكم بفرعون ملك مصر وكل أصحابه، والبلايا العظيمة التي رأيتم بأعينكم، والآيات والأعاجيب واليد المنيعة والذراع العظيمة، وكيف أخرجكم الله ربكم‏!‏ كذلك يفعل الله ربكم بجميع الشعوب التي تخافونها‏.‏

ويسلط الله ربكم عليهم عاهات حتى يهلكهم، والذين يبقون ويختفون منكم لا تخافوهم لأن الله ربكم بينكم‏.‏ الإله العظيم المرهوب، فيهلك الله ربكم هذه الشعوب من بين أيديكم رويداً رويداً، لأنكم لا تقوون أن تهلكوهم سريعاً لئلا يكثر السباع، ولكن يدفعهم الله ربكم إليكم وتضربونهم ضربة شديدة حتى تهلكوهم، ويدفع ملوكهم في أيديكم وتهلكون أسماءهم من تحت السماء، لا يقدر أحد أن يقوم بين أيديكم حتى تهلكوهم وتحرقوا آلهتهم المنحوتة بالنار، ولا تشتهوا الفضة والذهب الذي عليها وتأخذوه منها لئلا تتنجسوا بها، لأنها مرذولة عند الله ربكم، فلا تدخلوا نجاسة إلى بيوتكم لئلا تكونوا منفيين مثلها، ولكن أرذلوها ونجسوها وصيروها نفاية بخسة لأنها حرام‏.‏ ثم قال‏:‏ انظروا‏!‏ إني أتلو عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم، وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم- وقد مضى كثير من أمثال هذا عن التوراة، ولا ريب في أن هذا الترغيب والترهيب والتذكير للتحذير كما أنه كان لبني إسرائيل، فهو لكل من سمعه من المكلفين‏.‏

ولما حذرهم انتقام الله إن كفروا، ذكرهم أيامه في الأمم الماضية، وعين منهم الثلاثة الأولى لأنهم كانوا أشدهم أبداناً، وأكثرهم أعواناً، وأقواهم آثاراً، وأطولهم أعماراً، لأن البطش إذا برز إلى الوجود كان أهول، لأن النفس للمحسوس أقبل، فقال دالاً على ما أرشدهم إليه من غناه سبحانه وحمده مخوفاً لهم من سطوات الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ألم يأتكم‏}‏ أي يا بني إسرائيل ‏{‏نبأ الذين‏}‏ ولما كان المراد قوماً مخصوصين لم يستغرقوا الزمان قال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ ثم أبدل منهم فقال‏:‏ ‏{‏قوم‏}‏ أي نبأ قوم ‏{‏نوح‏}‏ وكانوا ملء الأرض ‏{‏و‏}‏ نبأ ‏{‏عاد‏}‏ وكانوا أشد الناس أبداناً وأثبتهم جناناً ‏{‏و‏}‏ نبأ ‏{‏ثمود‏}‏ وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور ‏{‏و‏}‏ نبأ ‏{‏الذين‏}‏ ولما كان المراد البعض، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ أي في الزمن حال كونهم في الكثرة بحيث ‏{‏لا يعلمهم‏}‏ أي حق العلم على التفصيل ‏{‏إلا الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة، كفروا فأهلكهم الله ولم يزل غنياً حميداً عند أخذهم وبعده كما كان قبله، وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ كذب النسابون‏.‏

ثم فصل سبحانه خبرهم، فقال- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ما كان نبأهم‏؟‏ ‏{‏جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ وترك عطفه لشدة التباسه بالمستفهم عنه ‏{‏فردوا‏}‏ أي الأمم عقب مجيء الرسل من غير تأمل جامعين في تكذيبهم بين الفعل والقول ‏{‏أيديهم في أفواههم‏}‏ وهو أشارة إلى السكوت عن ذلك والتسكيت، كأنه لا يليق أن يتفوه ولو على سبيل الرد؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ حكى أبو عبيد‏:‏ كلمته في حاجتي فرد يده في فيه- إذا سكت ولم يجب‏.‏ ‏{‏و‏}‏ بعد أن فعلوا ذلك لهذه الأغراض الفاسدة ‏{‏قالوا‏}‏ أي الأمم ‏{‏إنا كفرنا‏}‏ أي غطينا مرائي عقولنا مستهينين ‏{‏بما‏}‏ ولما كان رد الرسالة جامعاً للكفر، وكانوا غير مسلّمين أن المرسل لهم هو الله، بنوا للمفعول قولهم‏:‏ ‏{‏أرسلتم به‏}‏ أي لأنكم لم تأتونا بما يوجب الظن فضلاً عن القطع، فلذا لا يحتاج رده إلى تأمل‏.‏

ولما كان ما أتى به الرسل يوجب القطع بما يعلمه كل أحد، فكانوا بما قالوه في مظنة الإنكار، أكدوا‏:‏ ‏{‏وإنا لفي شك‏}‏ أي محيط بنا، وهو وقوف بين الضدين من غير ترجيح أحدهما، يتعاقب على حال الذكر ويضاد العلم والجهل‏.‏

ولما كان الدعاء مسنداً إلى جماعة الرسل، أثبت نون الرفع مع ضمير المتكلمين بخلاف ما مضى في هود، فقالوا ‏{‏مما‏}‏ أي شيء ‏{‏تدعوننا‏}‏ أيها الرسل ‏{‏إليه‏}‏ أي من الدين ‏{‏مريب‏}‏ أي موجب للتهمة وموقع في الشك والاضطراب والفزع، من أراب الرجل‏:‏ صار ذا ريبة أي قلق وتزلزل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما كان سامع هذا الكلام يشتد تشوفه إلى جوابه، وكان أصل الدعوة في كل ملة التوحيد، وكان الشاك فيه شاكاً في الله، وكان أمر الله من الظهور بحيث لا يشك فيه عاقل حكّم عقله مجرداً عن الهوى، ساغ الإنكار وإيراد الكلام على تقدير سؤال معرى من التقييد مبهم في قوله‏:‏ ‏{‏* قالت رسلهم‏}‏ ولما كان ما شكوا فيه من الظهور بحيث لا يتطرق إليه ريب، أنكروا أن يكون فيه شك، لأن ذلك يتضمن إنكار شكهم وشك غيرهم فقالوا‏:‏ ‏{‏أفي الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏شك‏}‏‏.‏

ولما كان الجواب عاماً لا يخص ناساً دون ناس، لم يأت بصلة فقال بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏إن نحن إلا بشر‏}‏ ثم نبهوهم بالمصنوع على مقصود الدعوة من وجود الصانع وتفرده وظهوره في قولهم‏:‏ ‏{‏فاطر السماوات‏}‏ ولما كان المقام لادعاء أنه في غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيد بإعادة العامل، فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي على هذا المثال البديع والنمط الغريب المنتظم الأحوال، الجميل العوائد، والمتسق الفصول؛ فلما أوضحوا لهم الأدلة على وحدانيته بينوا لهم بأن ثمرة الدعوة خاصة بهم، إنه لا يأباها من له أدنى بصيرة، فقالوا‏:‏ ‏{‏يدعوكم‏}‏ أي على ألسنتنا ‏{‏ليغفر لكم‏}‏‏.‏

ولما كان الكافر إنما يدعى أولاً إلى الإيمان، وكان الإيمان إنما يجب ما كان قبله من الذنوب التي معهم بينهم وبينه دون المظالم، قال‏:‏ ‏{‏من ذنوبكم‏}‏ ولو عم بالغفران لأفهم ذلك أنهم لا يدعون بعد الإيمان إلى عمل أصلاً ‏{‏و‏}‏ لا يفعل بكم فعل من تعهدون من الملوك في المعاجلة بالإهلاك لمن خالفهم، بل ‏{‏يؤخركم‏}‏ وإن أخطأتم أو تعمدتم وتبتم ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ عنده سبق علمه به، وهو آجالكم على حسب التفريق، ولا يستأصلكم بالعذاب في آن واحد كما فعل بمن ذكر من الأمم‏.‏

فلما بين لهم الأصيل بدليله فروع عليه ما لا ريب فيه في قصر نفعه عليهم، علموا أنه لا يتهيأ لهم عن ذلك جواب فأعرضوا عنه إلى أن ‏{‏قالوا‏}‏ عناداً ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏أنتم‏}‏ أي أيها الرسل ‏{‏إلا بشر‏}‏ وأكدوا ما أرادوا من نفي الاختصاص فقالوا‏:‏ ‏{‏مثلنا‏}‏ يريدون‏:‏ فما وجه تخصيصكم بالرسالة دوننا‏؟‏ ثم كان كأنه قيل‏:‏ فكان ماذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏تريدون أن تصدونا‏}‏ أي تلفتونا وتصرفونا ‏{‏عما كان‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة، وأكدوا هذا المعنى للتذكير بالحال الماضية بالمضارع فقالوا‏:‏ ‏{‏يعبد آباؤنا‏}‏ أي أنكم- لكونكم من البشر الذين يقع بينهم التحاسد- حسدتمونا على اتباع الآباء وقصدتم تركنا له لنكون لكم تبعاً ‏{‏فأتونا‏}‏ أي فتسبب- عن كوننا لم نر لكم فضلاً وإبدائنا من إرادتكم ما يصلح أن يكون مانعاً- أن نقول لكم‏:‏ ائتونا لنتيعكم ‏{‏بسلطان مبين *‏}‏ أي حجة واضحة تلجئنا إلى تصديقكم مما نقترحه عليكم، وهذا تعنت محض فإنهم جديرون بأن يعرضوا عن كل سلطان يأتونهم به كائناً ما كان كما ألغوا ما أتوا هم به من البينات فلم يعتدوا به، فكأنه قيل‏:‏ فما كان جواب الرسل‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏‏.‏

ولما أرادوا تخصيصهم برد ما قالوا، قيد بقوله‏:‏ ‏{‏لهم رسلهم‏}‏ مسلمين أول كلامهم غير فاعلين فعلهم في الحيدة عن الجواب ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ ما لنا عليكم فضل بما يقتضيه ذواتنا غير أن التماثل في البشرية لا يمنع اختصاص بعض البشر عن بعض بفضائل؛ والمثل‏:‏ ما يسد مسد غيره حتى لو شاهده مشاهد ثم شاهد الآخر لم يقع فصل ‏{‏ولكن الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله فضلنا عليكم لأنه ‏{‏يمن على من يشاء‏}‏ أي أن يمن عليه ‏{‏من عباده‏}‏ رحمة منه له، بأن يفضله على أمثاله بما يقسمه له من المزايا كما أنتم به عارفون، فلم يصرحوا بما تميزوا به من وصف النبوة، ولم يخصوا أنفسهم بمنّ الله بل أدرجوها في عموم من شاء الله، كل ذلك تواضعاً منهم واعترافاً بالعبودية؛ والمن‏:‏ نفع يقطع به عن بؤس، وأصله القطع، ومنه ‏{‏غير منون‏}‏، والمنة قاطعة عن الدنيا‏.‏

ولما بينوا وجه المفارقة، عطفوا عليه بيان العذر فيما طلبوه منهم فقالوا‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي فما كان لنا أن نتفضل عليكم بشيء من الأشياء لم يؤذن لنا فيه، وما ‏{‏كان‏}‏ أي صح واستقام ‏{‏لنا أن نأتيكم بسلطان‏}‏ مما تقترحونه تعنتاً، وهو البرهان الذي يتسلط به على إبطال مذهب المخالف للحق غير المعجزة التي يثبت بها النبوة ‏{‏إلا بإذن الله‏}‏ أي بإطلاق الملك الأعظم وتسويفه، فنحن نتوكل على الله في أمركم إن أذن لنا في الإتيان بسلطان أو لم يأذن وافقتم أو خالفتم ‏{‏وعلى الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه وحده ‏{‏فليتوكل‏}‏ أي بأمر حتم ‏{‏المؤمنون *‏}‏ فكيف بالأنبياء؛ ثم بينوا سبب وجوب التوكل بقولهم‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي وأي شيء ‏{‏لنا‏}‏ في ‏{‏ألاّ نتوكل على الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏قد هدانا سبلنا‏}‏ فبين لنا كل ما نأتي وما نذر، فلا محيص لنا عن شيء من ذلك، فلنفعلن جميع أوامره، ولننتهين عن جميع مناهيه ‏{‏ولنصبرن‏}‏ أكدوا لإنكار أن يصبر الرسول- مع وحدته- على أذاهم مع كثرتهم وقوتهم ‏{‏على ما‏}‏ وعبر بالماضي إشارة إلى أنهم عفوا عن أذاهم في الماضي فلا يجازونهم به، فهو استجلاب إلى توبة أولئك المؤذين، وعدلوا عن المضارع لأنهم ينتظرون أمر الله في الاستقبال فقد يأمرهم بالصبر، فقال‏:‏ ‏{‏آذيتمونا‏}‏ أي في ذلك الذي أمرنا به كائناً فيه ما كان لأنا توكلنا على الله ونحن لا نتهمه في قضائه ‏{‏وعلى الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال وحده ‏{‏فليتوكل المتوكلون *‏}‏ الذين علموا من أنفسهم العجز سواء كانوا مؤمنين أو لا، فوكلوا أمراً من أمورهم إلى غيرهم ليكفيهم إياه، فإنه محيط العلم كامل القدرة، وكل من عداه عاجز، والصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات المطلق من الكرب، والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً، والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً وإن طال الابتلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لرسلهم‏}‏ مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم‏:‏ والذي يحلف به‏!‏ ليكونن أحد الأمرين‏:‏ ‏{‏لنخرجنكم من أرضنا‏}‏ أي التي لنا الآن الغلبة عليها ‏{‏أو لتعودن في ملتنا‏}‏ بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل ‏{‏جعلوا أصابعهم في آذانهم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 7‏]‏ وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله ‏{‏فأوحى إليهم‏}‏ أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك ‏{‏ربهم‏}‏ المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما- لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم- من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً‏:‏ ‏{‏لنهلكن‏}‏ بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك‏:‏ إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس ‏{‏الظالمين *‏}‏ أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم ‏{‏ولنسكننكم‏}‏ أي دونهم ‏{‏الأرض‏}‏ أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعدهم‏}‏ بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل‏:‏ هل ذلك خاص بهم‏؟‏ فقيل‏:‏ لا، بل ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي المرام ‏{‏لمن خاف مقامي‏}‏ أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه‏:‏ ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من‏:‏ خافني، ‏{‏وخاف وعيد *‏}‏ لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى ‏{‏واستفتحوا‏}‏ على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا ‏{‏وخاب كل جبار عنيد‏}‏ فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد‏:‏ الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية‏:‏ طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله‏:‏ ‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ أي لا بد أنه يتبوأها‏.‏

ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏ويسقى‏}‏ أي فيها ‏{‏من ماء صديد‏}‏ وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم ‏{‏يتجرعه‏}‏ أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله ‏{‏ولا يكاد يسيغه‏}‏ ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس ‏{‏ويأتيه الموت‏}‏ أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات ‏{‏من كل مكان‏}‏ والمكان‏:‏ جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته ‏{‏وما هو بميت‏}‏ أي بثابت له الموت أصلاً‏.‏

لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت‏:‏ عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية ‏{‏ومن ورائه‏}‏ أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله ‏{‏عذاب غليظ *‏}‏ يأخذه في ذلك اليوم- مع ما قدمته له في الدنيا- وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ‏.‏ فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏مثل‏}‏ وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة ‏{‏الذين كفروا‏}‏ مستهينين ‏{‏بربهم‏}‏ مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً‏.‏

ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ما مثلهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏أعمالهم‏}‏ أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً- كما قال الحوفي وابن عطية‏.‏ وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة ‏{‏كرماد‏}‏ وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار ‏{‏اشتدت به الريح‏}‏ أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح‏:‏ جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس‏:‏ شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء ‏{‏في يوم عاصف‏}‏ أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث ‏{‏لا يقدرون‏}‏ أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله‏:‏ ‏{‏مما كسبوا‏}‏ في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم ‏{‏على شيء‏}‏ بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر الشديد الشناعة ‏{‏هو‏}‏ أي خاصة ‏{‏الضلال البعيد *‏}‏ الذي لا يقدر صاحبه على تداركه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما ذكر الآخرة في أول السورة، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ‏{‏خلق السماوات‏}‏ على عظمها وارتفاعها ‏{‏والأرض‏}‏ على تباعد أقطارها واتساعها ‏{‏بالحق‏}‏ بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة لا بالخيال والتمويه كالسحر، ومن المعلوم أنهما ظرف، ولا يكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه، فكيف يظن أنه يخلق شيئاً فيهما سدى بأن يكون باطلاً فلا يبطله، أو حقاً فلا يحقه، أم كيف يتوهم أنه- مع القدرة على إخراجهما من العدم وهما أكبر خلقاً وأعظم شأناً- لا يقدر على إعادة من فيهما وهم أضعف أمراً وأصغر قدراً، أو خلقهما بسبب الحق وهو إعادة الناس إعادة يثبتون بها ويبقون بقاء لا فناء بعده، فتسبب عن ذلك أنه عظيم القدرة، فهو بحيث ‏{‏أن يشأ يذهبكم‏}‏ أي بنوع من أنواع الإذهاب‏:‏ الموت أو غيره ‏{‏ويأت بخلق جديد‏}‏ غيركم أو يأت بكم بعد أن فنيتم بحيث تعودون- كما أنتم- خلقاً جديداً؛ والجديد‏:‏ المقطوع عنه العمل في الابتداء، وأصله القطع، فالجد أب الأب، انقطع عن الولادة بالأب، والجد ضد الهزل، يقطع به المسافة حساً أو معنى ‏{‏وما ذلك‏}‏ الإذهاب والإتيان على عظمه ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏بعزيز *‏}‏ وهو الممتنع بوجه من وجوه الامتناع لأنه ليس مثل خلق السماوات والأرض فضلاً عن أن يكون أعظم منه، فلا وجه لقولكم ‏{‏هل ندلكم على رجل ينبئكم‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 7‏]‏، الآية لأن من قدر على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فثبت بهذا إبعادهم في الضلال الموجب لهلاك أعمالهم- التي هي أسبابهم- الموجب لهلاكهم‏.‏

ولما ثبت بهذا البرهان قدرته على الإعادة بعد الموت، عطف على قوله‏:‏ ‏{‏لا يقدرون مما كسبوا على شيء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ قوله- بياناً لهو أن البعث عنده وسهولته عليه-‏:‏ ‏{‏وبرزوا‏}‏ أي في ذلك اليوم، عبر بصيغة المضي الذي وجد وتحقق، لأن أخبار الملوك يجب تحققها لقدرتهم وغناهم عن الكذب، فكيف بملك الملوك‏!‏ وفيه من هز النفس وروعتها ما ليس في العبارة بالمضارع لمن تأمل المعنى حق التأمل ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏جميعاً‏}‏ فكانوا بحيث لا يخفى منهم خافية على ما هو متعارفهم، لأنه لا ساتر لهم، فإن البروز خروج لشيء عما كان ملتبساً به إلى حيث يقع عليه الحس في نفسه، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون من العذاب، فتقطعت بهم الأسباب ‏{‏فقال الضعفاء‏}‏ أي الأتباع من أهل الضلال بسبب علمهم أنهم في القبضة لا ملجأ لهم، تبكيتاً لرؤسائهم وتوبيخاً، تصديقاً لقوله تعالى‏:‏

‏{‏الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ ‏{‏للذين استكبروا‏}‏ أي طلبوا الكبر وادعوه فاستتبعوهم به حتى تكبروا على الرسل وأتباعهم ولم يكن لهم ذلك‏.‏ ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة ‏{‏لكم تبعاً‏}‏ أي تابعين أو ذوي تبع فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم ‏{‏فهل أنتم مغنون‏}‏ أي دافعون ‏{‏عنا من عذاب الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها فلا يطاق انتقامه، وأبلغوا بعد التبعيض ب «من» الأولى في التقليل، فقالوا‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ كأن العذاب كان محتاجاً إلى أخذهم فأغنوه بشيء غيرهم حتى يجاوزهم لو دفعوه عنهم، فكأنه قيل‏:‏ إن ذلك لعادة الرؤساء، فماذا قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ علماً منهم بأنه لا طاقة لهم على نوع من أنواع التصرف‏:‏ لا نغني عنكم شيئاً، بل كل مجزي بما فعل، علينا إثم ضلالنا في أنفسنا وإضلالنا لكم، وعليكم ضلالكم وذبكم عنا وتقويتكم لجانبنا حتى استكبرنا فاستغرقنا في الضلال، ولو أن الله هداكم حتى تبعتم الأدلة التي سمعتموها كما سمعناها وتركتمونا، لكسر ذلك من شدتنا وأوهى من شوكتنا، فكان ربما يكون سبباً لهدايتنا كما أنه ‏{‏لو هدانا الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏لهديناكم‏}‏ فكان يكون لنا جزاء اهتدائنا وهدايتنا لكم، ولكم جزاء اهتدائكم وتقويتكم لنا على ذلك، ولكنه لم يهدنا فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم‏.‏

ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع، قالوا‏:‏ ‏{‏سواء علينا‏}‏ أي نحن وأنتم ‏{‏أجزعنا‏}‏ والجزع‏:‏ انزعاج النفس بورود ما يغم ‏{‏أم صبرنا‏}‏ لا فائدة لنا في واحد منهما لأن الأمر أطم من ذلك فإنه ‏{‏ما لنا من محيص‏}‏ يصلح للمصدر والزمان والمكان، أي محيد وزوال عن المكروه على كلا التقديرين، فلم يبق في الجزاء إلا زيادة العذاب بسوء القالة وانتشار السبة، وهذا الاستفهام ليس على بابه، بل المراد به التنبيه على أنه حالهم مما ينبغي السؤال عنه وترديد الأمر فيه لينتهي عن مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ولما كان الشيطان أعظم المستكبرين، خص بالإفراد بالجواب فقيل‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ أول المتبوعين في الضلال ‏{‏الشيطان‏}‏ الذي هو رأس المضلين المستكبرين المقضي ببعده واحتراقه ‏{‏لما قضي الأمر‏}‏ بتعين قوم للجنة وقوم للنار، جواباً لقول الأتباع مذعناً حيث لا ينفع الإذعان، ومؤمناً حيث فات نفع الإيمان‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏وعدكم وعد الحق‏}‏ بأن أرسل إليكم رسلاً وأنزل معهم براهين وكتباً أخبركم فيها بأنه ربكم الواحد القهار، ودعاكم إليه بعد أن أخابتكم الشياطين، وبشر من أجاب، وحذر من أبى، بما هو قادر أتم القدرة، فكل ما قاله طابقه الواقع- كما ترون- فصدقكم فيه ووفى لكم ‏{‏ووعدتكم‏}‏ أنا بما زينت لكم به المعاصي من الوساوس وعد الباطل ‏{‏فأخلفتكم‏}‏ فلم أقل شيئاً إلا كان زيغاً، فاتبعتموني مع كوني عدوكم، وتركتم ربكم وهو ربكم ووليكم؛ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر ‏{‏وعد الحق‏}‏ أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، و‏{‏أخلفتكم‏}‏ ثانياً دليلاً على حذف «صدقكم» أولاً‏.‏

ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ لي إليكم في ذلك من ذنب لأنه ما كان ‏{‏لي عليكم‏}‏ وأبلغ في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من سلطان‏}‏ أي تسلط كبير أو صغير بشيء من الأشياء ‏{‏إلا أن‏}‏ أي بأن ‏{‏دعوتكم‏}‏ بالوسوسة التي كانت سبباً لتقوية دواعيكم إلى الشر ‏{‏فاستجبتم‏}‏ أي أوجدتم الإجابة إيجاد من هو طالب لها، راغب فيها ‏{‏لي‏}‏ محكمين الشهوات، معرضين عن مناهيج العقول ودعاء النصحاء، ولو حكمتم عقولكم لتبعتم الهداة لما في سبيلهم من النور الداعي إليها وما في سبل غيرهم من الظلام السادّ لها، والمهالك الزاجرة عنها دنيا وأخرى، وساقه على صورة الاستثناء- وإن لم يكن دعاءه من السلطان في شيء- لأن السلطان أخص من البرهان إذ معناه برهان يتسلط به على إبطال مذهب الخصم إشارة إلى أنهم تبعوه ولا قدرة له على غير هذا الدعاء الذي لا سلطان فيه، وتركوا دعاء من أنزل إليهم من كل سلطان مبين، مع تهديدهم بما هو قادر على عليه وضربهم ببعضه، وفاعل مثل ذلك لا لوم له على غير نفسه ‏{‏فلا‏}‏ أي فاذ قد تقرر هذا تسبب عنه أني أقول لكم‏:‏ لا ‏{‏تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ لأنكم مؤاخذون بكسبكم، لأنه كانت لكم قدرة واختيار فاخترتم الشر على الخير، وعلم منه قطعاً أن كلاًّ منا مشغول عن صاحبه بما جزي به، فعلم أني ‏{‏ما أنا بمصرخكم‏}‏ أي بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فآتيكم بما يزيل صراخكم منه ‏{‏وما أنتم بمصرخي‏}‏ فيما يخصني منه لتقطع الأسباب، بما دهى من العذاب، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إني كفرت‏}‏ مستهيناً ‏{‏بما أشركتمون‏}‏ أي باتخاذكم لي شريكاً مع الله‏.‏

ولما كان إشراكهم لم يستغرق الزمان، أتى بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ لأن ذلك ظلم عظيم، ثم علل هذه العلة بقوله‏:‏ ‏{‏إن الظالمين‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف ‏{‏لهم عذاب أليم *‏}‏ مكتوب لكم منهم مقداره، لا يغني أحد منهم عن الآخر شيئاً، بل كل مقصور على ما قدر له، وحكاية هذه المحاورة لتنبيه السامعين على النظر في العواقب والاستعداد لذلك اليوم قبل أن لا يكون إلا الندم وقرع السن وعض اليد‏.‏

ولما ذكر الظالمين‏.‏ أتبعه ذكر المؤمنين، فقال بانياً للمفعول لأن الدخول هو المقصود بالذات‏:‏ ‏{‏وأدخل‏}‏ والإدخال‏:‏ النقل إلى محيط- هذا أصله ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا الإيمان ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ أي تصديقاً لدعواهم الإيمان ‏{‏جنات تجري‏}‏ وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال‏:‏ ‏{‏من تحتها الأنهار‏}‏ فهي لا تزال ريّاً، لا يسقط ورقها ولا ثمرها فداخلها لا يبغي بها بدلاً ‏{‏خالدين فيها‏}‏‏.‏

ولما كانت الإقامة لا تطيب إلا بإذن المالك قال‏:‏ ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ الذي أذن لهم- بتربيته وأحسانه- في الخروج من الظلمات إلى النور، وقرئ «وأدخل» على التكلم فيكون عدل عن أن يقول «بإذني» إلى ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ للإعلام بالصفة المقتضية للرحمة كما قال تعالى ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك‏}‏ ‏[‏الكوثر‏:‏ 1‏]‏ ولم يقل‏:‏ لنا- سواء، ومن شكله ‏{‏إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ فلا تنبغي المسارعة إلى إنكار شي يمكن توجيهه، بل يتعين إمعان النظر، فإن الأمر كما قال الإمام أبو الفتح بن جني في كتابه المحتسب في توجيه ‏{‏لما يهبط من خشية الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ أن كلام العرب لمن عرفه- ومن الذي يعرفه‏؟‏- ألطف من السحر، وأنقى ساحى من مشوف الفكر، وأشد تساقطاً بعضاً على بعض، وأمسّ تسانداً نفلاً إلى فرض ‏{‏تحيتهم‏}‏ أي فيما بينهم وتحية الملائكة لهم؛ والتحية‏:‏ التلقي بالكرامة في المخاطبة، فهي إظهار شرف المخاطب ‏{‏فيها سلام *‏}‏ أي عافية وسلامة وبقاء، وقول من كل منهم للآخر‏:‏ أدام الله سلامتك، ونحو هذا من الإخبار بدوام العافية، كما أن حال أهل الباطل في النار عطب وآلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما تقرر بما مضى أن الحق ما قاله الله أو فعله أو أذن فيه، وأن الباطل ما كان على غير أمره مما ينسب إلى الشيطان أو غيره من قول أو فعل، وأنه لا يصلح في الحكمة أن ينفي الحق ولا أن يبقى الباطل ‏{‏إن الله لا يصلح عمل المفسدين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 81‏]‏، ‏{‏ويحق الله الحق بكلماته‏}‏، ‏{‏ليحق الحق ويبطل الباطل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 8‏]‏، وقص سبحانه كلام أوليائه الذي هو من كلامه، فهو أثبت الأشياء وأطيبها وأعظمها ثمرة، وكلام أعدائه الذي هو من كلام الشيطان، فهو أبطل الأشياء وأخبثها، قرب سبحانه ذلك بمثل يتعارفه المخاطبون فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي يا من لا يفهم عنا هذا المثل حق الفهم سواه‏!‏ ‏{‏كيف ضرب الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏مثلاً‏}‏ أي سيره بحيث يعم نفعه؛ والمثل‏:‏ قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأول؛ ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏كلمة طيبة‏}‏ أي جمعت أنواع الكرم فليس فيها شيء من الخبث، وتلك الكلمة ‏{‏كشجرة طيبة‏}‏‏.‏

ولما كانت لا تسر إلا بالثبات، قال‏:‏ ‏{‏أصلها ثابت‏}‏ أي راسخ في الأرض آمن من الاجتثاث بالرياح ونحوها ‏{‏وفرعها‏}‏ عالٍ صاعد مهتز ‏{‏في‏}‏ جهة ‏{‏السماء *‏}‏ لحسن منبتها وطيب عنصرها؛ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر «ثابت» أولاً دال على عال صاعد ثانياً، وذكر «السماء» ثانياً دال على الأرض أولاً‏.‏

ولما ذكر حالها، ذكر ثمرتها فقال‏:‏ ‏{‏تؤتي أكلها‏}‏ أي ثمرتها بحسن أرضها ودوام ريّها ‏{‏كل حين‏}‏ على أحسن ما يكون من الإيتاء، لأن علوها منعها من عفونات الأرض وقاذورات الأبنية، فكانت ثمرتها نقية من شوائب الأدناس‏.‏

ولما كان الشيء لا يكمل إلا بكمال مربيه قال‏:‏ ‏{‏بإذن ربها‏}‏ فهي بحيث لا يستجيز عاقل أن يتسبب في إفسادها، ومن سعى في ذلك منعه أهل العقول ولو وصلوا إلى بذل النفوس؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال‏:‏ أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏، تؤتي أكلها كل حين، قال ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ هي النخلة، فلما قمنا قلت لعمر‏:‏ يا أبتاه‏!‏ والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة، فقال‏:‏ ما منعك أن تكلم‏؟‏ قال‏:‏ لم أركم تكلمون فكرهت أن أتكلم، قال عمر‏:‏ لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا»‏.‏

ثم نبه سبحانه على عظم هذا المثل ليقبل على تدبره ليعلم المراد منه فيلزم، فقال‏:‏ ‏{‏ويضرب الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏الأمثال للناس‏}‏ أي الذين يحتاجون إلى ذلك لاضطراب آرائهم، لأن في ضربها زيادة إفهام وتصوير للمعاني، لأن المعاني الصرفة إذا ذكر مناسبها من المحسوسات ارتسمت في الحس والخيال والوهم، وتصورت فتركت هذه القوى المنازعة فيها، فيحصل الفهم التام والوصول إلى المطلوب ‏{‏لعلهم يتذكرون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى له غاية التذكر- بما أشار إليه الإظهار، فهذا مثل كلام الأولياء، فكلمتهم الطيبة كلمة التوحيد التي لا أطيب منها، وهي أصل كل سعادة راسخة في قلوبهم، معرقة في كل عرق منهم أوجب إعراقها أن بسقت فروعها التي هي الأعمال الدينية من أعمال القلوب والجوارح، فصارت كلما هزت اجتنى الهازّ ثمراتها التي لا نهاية لها، عالماً بأنها من فتح مولاه لا صنع له فيها بوجه، بل له سبحانه المن عليه في جميع ذلك وكما أن الشجر لا تتم إلا بعرق راسخ وأصل قائم وفروع عالية، فكذلك الإيمان لا يتم إلا بمعرفة القلب وقول اللسان وعمل الأركان، ثم أتبعه مثل حال الأعداء فقال‏:‏ ‏{‏ومثل كلمة خبيثة‏}‏ أي عريقة في الخبث لا طيب فيها ‏{‏كشجرة خبيثة‏}‏‏.‏

ولما كان من أنفع الأمور إعدامها والراحة من وجودها على أيّ حالة كانت، بنى للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏اجتثت‏}‏ أي استؤصلت بقلع جثتها من أصلها ‏{‏من فوق الأرض‏}‏ برأي كل من له رأي؛ ثم علل ذلك لقوله‏:‏ ‏{‏ما لها‏}‏ وأعرق في النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من قرار *‏}‏ أي عند من له أدنى لب، لأنه لا نفع لها بل وجودها ضار ولو بشغل الأرض، فكذلك الكلمة الخبيثة الباطلة لا بقاء لها أصلاً وإن علت وقتاً، لأن حجتها داحضة فجنودها منهزمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ‏(‏28‏)‏ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ‏(‏29‏)‏‏}‏

فلما برز الكلام إلى هذين المثالين، حصل التعجب ممن يترك ممثول الأول ويفعل ممثول الثاني، فوقع التنبيه على أن ذلك بفعل القاهر، فقال تعالى- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ إن هذا الصريح الحق، ثم إنا نجد النفوس مائلة إلى الضلال، وطائشة في أرجاء المحال، فكيف لنا بالامتثال‏؟‏ ‏{‏يثبت الله‏}‏ أي الذي له الجلال والجمال ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أقل درجاتها ‏{‏بالقول الثابت‏}‏ أي الذي هو متابعة الدليل ‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ بمثل ما تقدم من محاولات أنبيائه ‏{‏وفي الآخرة‏}‏ ويهديهم عند كل سؤال إلى أحسن الأقوال حيث تطيش العقول وتدهش الأفكار لشدة الأهوال ‏{‏ويضل الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏الظالمين‏}‏ أي العريقين في الظلم، ويزلزلهم لتقلبهم في الظلمات التي من شأن صاحبها الضلال والخبط، فيفعلون ما لا يرضاه عاقل، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الثبات أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والإضلال ثانياً دليلاً على الهدى أولاً ‏{‏ويفعل الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، فلا يسأل عما يفعل ‏{‏ما يشاء‏}‏ لأن الكل بحكمه وقضائه وهو القادر القاهر، فلا يتعجب من شيء، وفي هذا إرشاد إلى الإقبال عليه وإلقاء أزمّة الافتقار إليه؛ روى البخاري في التفسير وغيره ومسلم في أواخر صفة الجنة والنار عن البراء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله»، فذلك قوله تعالى ‏{‏يثبت الله‏}‏ الآية‏.‏

ولما أخبر سبحانه أنه هو الفاعل وحده، أتبعه الدليل عليه إضلال الذين بدلوا الكلمة الطيبة من التوحيد بالإشراك وزلزلتهم واجتثاث كلمتهم فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وأشار إلى بعدهم عن مقامه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقوله‏:‏ ‏{‏إلى الذين بدلوا‏}‏ والتبديل‏:‏ جعل الشيء مكان غيره ‏{‏نعمت الله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال التي أسبغها عليهم من كلمة التوحيد، وما أورثهم من دين أبيهم إسماعيل عليه السلام ومن جميع النعم الدنيوية من أمن البلد وتيسير الرزق وغير ذلك، بأن جعلوا مكان شكرها ‏{‏كفراً‏}‏ وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم همماً في الوفاء، وأبعدهم عن الخناء ‏{‏وأحلوا قومهم‏}‏ بذلك ‏{‏دار البوار *‏}‏ أي الهلاك، مع ادعائهم أنهم أذب الناس عن الجار فضلاً عن الأهل، روى البخاري في التفسير أنهم كفار أهل مكة‏.‏ والبوار‏:‏ الهلاك الزائد، والإحلال‏:‏ جعل الشيء في محل، فإن كان جوهراً فهو إحلال مجاورة‏.‏ وإن كان عرضاً فهو إحلال مداخلة‏.‏

ولما أفاد أنها مهلكة، بينها بما يفهم أنها تلقاهم بالعبوسة كما كانوا يلقون أولياء الله من الرسل وغيرهم بذلك فقال‏:‏ ‏{‏جهنم‏}‏ حال كونهم ‏{‏يصلونها‏}‏ أي يباشرون حرها مع انغماسهم فيها بانعطافها عليهم؛ ولما كان التقدير‏:‏ فبئس الإحلال أحلوه أنفسهم وقومهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وبئس القرار *‏}‏ ذلك المحل الذي أحلوهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 31‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الفعل من لا عقل له، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله‏}‏ الذي يعلمون أنه لا شريك له في خلقهم ولا في رزقهم لان له الكمال كله ‏{‏أنداداً‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ليضلوا‏}‏ أي بأنفسهم على قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ويعموا غيرهم على قراءة الباقين ‏{‏عن سبيله‏}‏ لأنهم إن كانوا عقلاء فإنهم يعلمون أن هذا لازم لفعلهم فهم قاصدون له، وإلا فلا عقول لهم، لأنه لا يقدم على ما لا يعلم عاقبته إلا أبله، وهم يقولون‏:‏ إنهم أبصر الناس قوباً، وأصفاهم عقولاً‏.‏ وأنفذهم أفكاراً، وأمتنهم آراء، فمن ألزم منهم بطريق النجاة ومن أحذر منهم لطرق الهلاك‏؟‏ مع ما أوقعوا أنفسهم فيه من هذا الداء العضال‏.‏

ولما تقرر أنهم على الضد من جميع ما يدعونه فكانوا بذلك أهلاً للإعراض عنهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمعرض أن يقول‏:‏ فماذا أفعل بهم وقد أمرتني بإخراجهم إلى صراطك‏؟‏ أمره أن يدق أعناقهم بإخبارهم أن ما أضلهم من النعم إنما هو استدراج، فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي تهديداً لهم فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا‏:‏ ‏{‏تمتعوا‏}‏ وبالغوا في فعل البهائم مهما قدرتم، فإن ذلك ضائركم غير نافعكم ‏{‏فإن مصيركم‏}‏ أي صيرورتكم ‏{‏إلى النار *‏}‏ بسبب تمتعكم على هذا الوجه‏.‏

ولما ذكر كفرهم وضلالهم عن السبيل وما أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن يقول لهم، وكان ذلك محركاً لنفس السامع إلى الوقوف على ما يقال لمن خلع الأنداد وكان أوثق عرى السبيل بعد الإيمان وأعمها الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، والنفقة الشاملة لوجوه البر، أمره تعالى أن يندب أولياءه إلى الإقبال إلى ما أعرض عنه أعداؤه، والإعراض عما أقبلوا بالتمتع عليه من ذلك، فقال ‏{‏قل لعبادي‏}‏ فوصفهم بأشرف أوصافهم، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيباً لهم فيه، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف‏.‏

ولما كان قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن قول، فهو جالٍ لصدأ القلوب، وموجب لتهذيب النفوس، قال جازماً‏:‏ ‏{‏يقيموا الصلاة‏}‏ التي هي زكاة القوة وصلة العبد بربه ‏{‏وينفقوا‏}‏ وخفف عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏مما رزقناهم‏}‏ أي بعظمتنا، فهو لنا دونهم، من أنواع النفقات المقيمة لشرائعه من الصدقات وغيرها، إتقاناً لما بينهم وبينه من الأسباب لينقذوا أنفسهم من النار، واقتصر على هاتين الخلتين لأنه لم يكن فرض في مكة غيرهما مع ما تقدم من فضلهما وعمومهما، ولعله سيق سياق الشرط تنبيهاً لهم على أن مجرد قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقوى الأسباب فيجب عليهم ألا يتخلفوا عنه أصلاً؛ ثم أشار إلى المداومة على هاتين الخصلتين بقوله‏:‏ ‏{‏سراً وعلانية‏}‏ ويجوز أن يراد بالسر النافلة، وبالعلانية الفرض؛ ثم رهب من تهاون في خدمته من اليوم الذي كان الإعراض عنه سبب الضلال، فقال مشيراً بالجار إلى قصر مدة أعمالهم‏:‏ ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ أي عظيم جداً ليس هو كشيء من الأيام التي تعرفونها ‏{‏إلا بيع فيه‏}‏ لأسير بفداء ‏{‏ولا خلال *‏}‏ أي مخالات وموادات يكون عنها شفاعة أو نصر، جمع خلة كقلة وقلال، أو هو مصدر، وذلك إشارة إلى أنه لا يكون شيء منهما سبباً لخلاص هالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ ‏(‏32‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ‏(‏33‏)‏ وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما نفى جميع الأسباب النافعة في الدنيا في ذلك اليوم، كان كأنه قيل‏:‏ فمن الحكم فيه حتى أنه يسير سيرة لا نعرفها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء؛ ثم أتبعه بصفات تدل على ما دعا إليه الرسل من وحدانيته وما أخبروا به من قدرته على كل شيء فلا يقدر أحد على مغالبته، وعلى المعاد وعلى غناه فلا يبايع، فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ وهما أكبر خلقاً منكم وأعظم شأناً، ثم عقبه بأدل الأمور على الإعادة مع ما فيه من عظيم المنة بأن به الحياة، فقال‏:‏ ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ ولما كان ذلك سبب النمو قال‏:‏ ‏{‏فأخرج به‏}‏ أي بالماء الذي جعل منه كل شيء حي ‏{‏من الثمرات‏}‏ أي الشجرية وغيرهما ‏{‏رزقاً لكم‏}‏ بعد يبس الأرض وجفاف نباتها، وليس ذلك بدون إحياء الموتى؛ ثم أتبعه ما ادخره في الأرض من مياه البحار والأنهار، وذكر أعم ما يظهر من البحار فقال‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الفلك‏}‏ وعلل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لتجري في البحر‏}‏ ولما كان ذلك أمراً باهراً للعقل، بين عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏بأمره‏}‏ ولما كانت الأنهار من النعم الكبار بعد نعمة البحار، قال‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الأنهار *‏}‏ ثم أتبعه ما جعله سبباً لكمال التصرف وإنضاج الثمار المسقيّة بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض فقال‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الشمس والقمر‏}‏ حال كونهما ‏{‏دائبين‏}‏ أي في سيرهما وإنارتهما وما ينشأ عنهما من الإصلاح بالطبخ والإنضاج في المعادن والنبات والحيوان؛ قال الرماني‏:‏ والدؤوب‏:‏ مرور الشيء في العمل على عادة جارية فيه؛ ثم ذكر تعالى ما ينشأ عن وجود الشمس وعدمها فقال‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الّيل‏}‏ أي الذي القمر آيته ‏{‏والنهار *‏}‏ أي الذي الشمس آيته، يوجد كل منهما بعد تصرمه، ولو كان أحدهما سرمداً لاختل الحال بعدم النبات والحيوان كما هو كذلك حيث لا تغرب الشمس في الجنوب وحيث لا تطلع في الشمال؛ ثم عم بعد أن خص فقال‏:‏ ‏{‏وآتاكم‏}‏‏.‏

ولما كان الكمال لا يكون إلا في الجنة قال‏:‏ ‏{‏من كل ما سألتموه‏}‏ أي ما أنتم محتاجون إليه فأنتم سائلوه بالقوة؛ ثم حقق وجه العظم بفرض ما يوجب العجز فقال‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا‏}‏ أيها الناس كلكم ‏{‏نعمت الله‏}‏ أي تروموا عد إنعام الملك الأعلى الذي له الكمال المطلق أو تأخذوا في عدّه، وعبر عنه بالنعمة إرشاداً إلى الاستدلال بالأثر على المؤثر ‏{‏لا تحصوها‏}‏ أي لا تحيطوا بها ولا تعرفوا عد الحصى المقابلة لها إن عددتموها بها كما كانت عادة العرب، أو لا تجدوا من الحصى ما يوفي بعددها، هذا في النعمة الواحدة فكيف بما زاد‏!‏ فهذا شرح قوله أول السورة ‏{‏الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ وقد ظهر به أنه لا يوجد شيء إلا هو ملك الله فضلاً عن أن يوجد شيء يداينه فضلاً عن شيء يماثله، فثبت أنه لا بيع ولا خلال يوم دينونة العباد، وتقريب العجز عن العد للإفهام أن السلامة من كل داء ذكره الأطباء في كتبهم- على كثرتها وطولها- نعمة على العبد، وذلك متعسر الحصر، وكل ما ذكروه صريحاً في جنب ما دخل تحت كلياتهم تلويحاً- قليل، فكيف بما لم يطلعهم الله عليه ولم يهدهم بوجه إليه، هذا في الجسم، وأما في العقل فالسلامة من كل عقد زائغ، ودين باطل وضلال مائل، وذلك لا يحصيه إلا خالق الفكر وفاطر الفطر سبحانه، ما أعزه وأعظم شأنه‏!‏‏.‏

ولما كان أكثر هذه السورة في بيان الكفرة وما لهم، وبيان أن أكثر الخلق هالك معرض عما يأتيه من نعمة الهداية على أيدي الرسل الدعاة إلى من له جميع النعم للحياة الطيبة بسعادة الدارين، ختم الآية ببيان ما اقتضى ذلك من صفات الإنسان فقال‏:‏ ‏{‏إن الإنسان‏}‏ أي هذا النوع لما له من الأنس بنفسه، والنسيان لما ينفعه ويضره، والاضطراب بسبب ما يغمه ويسره ‏{‏لظلوم كفار‏}‏ أي بليغ الظلم والكفر حيث يهمل الشكر، ويتعداه إلى الكفر، وختم مثل ذلك في سورة النحل ب ‏{‏غفور رحيم‏}‏ لأن تلك سورة النعم، بدئت بالنهي عن استعجال العذاب، لأن الرحمة أسبق، ومن الرحمة إمهال الناس وإمتاعهم بالمنافع، فالتقدير إذن هناك‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ ولكن ربه لا يعاجله بالعقوبة لأنه غفور رحيم، وأما هذه السورة فبدئت بأن الناس في الظلمات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 37‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ‏(‏35‏)‏ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏36‏)‏ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما انقضى المأمور به من القول لكافر النعمة وشاكرها وسبب ذلك والدليل عليه، وبان أنه خالق الموجودات كلها وربها، فلا يصح أصلاً أن يكون شيء منها شريكاً‏.‏ أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يذكرهم بأيام الله عند أبيهم إبراهيم عليه السلام للدلالة على تبديلهم النعمة ظلماً منهم وكفراً، في أسلوب دال على البعث، مشير إلى وجوب براءتهم من الأصنام حيث كان محط حالهم فيها تقليد الآباء وهو أعظم آبائهم، وإلى ما سنه لهم من إقامتهم الصلاة وشكرهم لنعمه بالانفاق وغيره، فقال ناعياً عليهم- مع المخالفة لصريح العقل وقاطع النقل عقوق أبيهم الأعظم، عطفاً على ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا‏}‏ أو على ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكر لهم مذكراً بأيام الله خبر إبراهيم إذ ‏{‏قال إبراهيم رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ بإجابة دعائي في جعل القفر الذي وضعت به ولدي بلداً عظيماً‏.‏

ولما كان السياق لإخراج الرسل من محالهم، وكان ذلك مفهماً لأن المحل الذي يقع الإخراج منه بلد يسكن فيه، واتبعه سبحانه بأن المتعرضين بدلوا نعمة الله- بما أسكن فيه من الأمن بعد جعله له بلداً- بما أحدثوا فيه من الإخافة لخير أهله، ومن الإنذار لمن أنعم عليهم بكل ما فيه من الخير، كان الأنسب تعريفه فقال‏:‏ ‏{‏اجعل هذا البلد‏}‏ أي الذي يريدون إخراج الرسول منه ‏{‏آمناً‏}‏ أي ذا أمن بأمان أهله، وكأن هذا الدعاء صدر منه بعد أن سكن الناس مكة وصارت مدينة، والذي في البقرة كان حيث وضع ابنه مع أمه وهي خالية عن ساكن، فدعا أن يجعلها الله بلداً، وأن يجعلها بعد ذلك موصوفة بالأمن، وهو سكون النفس إلى زوال الضر‏.‏

ولما دعا بالأمن من فساد الأموال والأبدان، أتبعه بالدعاء بالأمن من فساد الأديان، فقال‏:‏ ‏{‏واجنبني‏}‏ أي اصرفني ‏{‏وبني‏}‏ أي لصلبي، وأسقط البنات إشارة إلى الاستقلال، وإنما هن تابعات دائماً ‏{‏أن نعبد‏}‏ أي عبادة مستمرة تكون موجبة للنار ‏{‏الأصنام *‏}‏ أي اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها، والصنم‏:‏ المنحوت على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهو وثن- قاله الطبري عن مجاهد؛ تم بين زيادة الاهتمام بأمر الأصنام بإعادة النداء، وأسقط الأداة- زيادة في التملق بكونه من أهل القرب والانقطاع إليه سبحانه معللاً لما قبله- في قوله‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ بإفراد المضاف إليه ليكون الكلام الواحد على نظام واحد ‏{‏إنهن أضللن‏}‏ إسناد مجازي علاقته السببية ‏{‏كثيراً من الناس فمن‏}‏ أي فتسبب عن بغضي لهن أن أقول‏:‏ من ‏{‏تبعني‏}‏ من جميع الناس في تجنبها ‏{‏فإنه مني‏}‏ أي من حزبي لكونه على طريقتي وديني، فأتني ما وعدتني فيه من الفوز ‏{‏ومن عصاني‏}‏ فضل بها فقد استحق النار، فإن عذبته فهو عبادك، وإن غفرت له فأنت لذلك، لأن لك أن تفعل ما تشاء ‏{‏فإنك غفور‏}‏ أي بليغ الستر ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بليغ الإكرام بعد ستر الذنوب؛ وأكد للإعلام بزيادة رغبته في العفو لأنه لا ينقص به شيء من عزته سبحانه ولا حكمته- كما أشار إليه دعاء عيسى عليه السلام في المائدة‏.‏

ولما دعا بدرء المفاسد الناشئة من من نوعي الإنسان والشيطان بأمن البلد وإيمانه ذكر السبب الحامل له على تخصيصه بذلك مستجلباً للمصالح، فقال‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي يا رب وربَّ من قضيت أنه يتبعني بتربيتك لنا أحسن تربية ‏{‏إني أسكنت‏}‏ وكأن الله سبحانه كان قد أخبره أنه يكثر نسله حتى يكونوا كالنجوم، وذلك بعد البشارة بإسحاق عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏من ذريتي‏}‏ وساقه مؤكداً تنبيهاً على أنه- لكونه على وجه لا يسمح به أحد- لا يكاد يصدق، وللإعلام بأنه راغب فيه ‏{‏بواد‏}‏ هو مكة المشرفة لكونها في فضاء منخفض بين جبال تجري به السيول ‏{‏غير ذي زرع‏}‏‏.‏

ولما نفى عنه الرفد الدنيوي، أثبت له الأخروي، إشارة إلى أن الدارين ضرتان لا تجتمعان، وكأن هذا الدعاء كان بعد بنائه البيت- كما تقدمت الإشارة إليه أيضاً بتعريف البلد، فقال‏:‏ ‏{‏عند بيتك المحرم‏}‏ أي الذي حرمت التعرض إليه ومنعته بالهيبة فلم يملكه أحد سواك، وجُعل له حريم يأمن فيه الوحش والطير؛ والكسنى‏:‏ اتخاذ مأوى يسكن إليه متى شاء، والوادي‏:‏ سفح الجبل العظيم، ومنه قيل للأنهار‏:‏ أودية، لأن حافاتها كالجبال لها، والزرع‏:‏ نبات ينفرش من غير ساق؛ ثم بين غرضه من إسكانهم هناك فقال‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏ليقيموا الصلاة‏}‏ ما أسكنتهم في هذا الوادي الموصوف إلا لهذا الغرض المنافي لعبادة غيرك، ولأن أولى الناس بإقامتها حاضرو البيت المتوجه بها إليه‏.‏

ولما كان اشتغالهم بالعبادة وكونهم في ذلك الوادي أمرين بعيدين عن أسباب المعاش، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فاجعل أفئدة‏}‏ أي قلوباً محترقة بالأشواق ‏{‏من الناس‏}‏ أي من أفئدة الذين هم أهل للاضطراب، بكون احتراقها بالشوق مانعاً من اضطرابها ‏{‏تهوي‏}‏ أي تقصدهم فتسرع نحوهم برغبة وشوق إسراع من ينزل من حالق؛ وزاد المعنى وضوحاً وأكده بحرف الغاية الدال على بعد لأن الشيء كلما بعد مدى مرماه اشتد وقعه فقال‏:‏ ‏{‏إليهم‏}‏ ولما دعا لهم بالدين، دعا لهم بالرزق المتضمن للدعاء لجيرانهم فقال‏:‏ ‏{‏وارزقهم‏}‏ أي على يد من يهوي إليهم ‏{‏من الثمرات‏}‏ أي التي أنبتها في بلادهم؛ وبين العلة الصالحة بقوله‏:‏ ‏{‏لعلهم يشكرون *‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى شكرهم لما يرون من نعمك الخارقة للعوائد في ذلك الموضع البعيد عن الفضل لولا عنايتك فيشتغلوا بعبادتك لإغنائك لهم وإحسانك إليهم، وقد أجاب الله دعوته؛ فالآية لتذكير قريش بهذه النعم الجليلة عليهم ببركة أبيهم الأعظم الذي نهى عن عبادة الأوثان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏38‏)‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏39‏)‏ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ولما فرغ من الدعاء بالأهم من الإبقاء على الفطرة الأولى المشوقة للعزائم إلى العكوف في دارة الأنس، ومن الكفاية لهم المعاش، المنتج للشكر بإنفاق الفضل، وتبين من ذلك أنهم خالفوا أعظم آبائهم في جميع ما قصده لهم من المصالح، أتبعه ما يحث على الإخلاص في ذلك وغيره له ولغيره ليكون أنجح للمراد بضمان الإسعاد ولا سيما مع تكرير النداء الدال على مزيد التضرع فقال‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا المالك لجميع أمورنا ‏{‏إنك تعلم ما‏}‏ أي جميع ما ‏{‏نخفي وما نعلن‏}‏ ثم أشار إلى عموم علمه فقال‏:‏ ‏{‏وما يخفى على الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً‏.‏ وبالغ في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ من ذلك ولا غيره ‏{‏في الأرض‏}‏ ولما كان في سياق المبالغة، أعاد النافي تأكيداً فقال‏:‏ ‏{‏ولا في السماء *‏}‏ أي فهو غير محتاج إلى التعريف بالدعاء، فالدعاء إنما هو لإظهار العبودية، واسم الجنس شامل لما فوق الواحد، ومن فوائد التعبير بالإفراد الدلالة على أن من كان محيطاً بكل ما في المتقابلين من غير أن يحجبه أحدهما عن الآخر، كان محيطاً بغيرهما كذلك من غير فرق‏.‏

ولما تم ما دعا به من النزاهة عن رجاسة الشرك وتبين بتقديمه أن أهم المهمات البراءة منه، أتبعه الحمد على ما رزق من النعم وما تبع ذلك من الإشارة إلى وجوب الشكر فقال‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أي المستجمع لصفات الكمال ‏{‏الذي وهب‏}‏ والهبة‏:‏ هبة تمليك من غير عقد، منّاً منه ‏{‏لي‏}‏ حال كوني مستعلياً ‏{‏على الكبر‏}‏ ومتمكناً منه على يأس من الولد ‏{‏إسماعيل‏}‏ الذي أسكنته هنا ‏{‏وإسحاق‏}‏ وهذا يدل على ما تقدم فهمي له من أن هذا الدعاء كان بعد بناء البيت وطمأنينته بإسحاق عليه السلام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سنه كان عند ولادة إسماعيل عليه السلام تسعاً وتسعين سنة، وعند ولادة إسحاق عليه السلام كان مائة سنة واثنتي عشرة سنة‏.‏

ولما كان إتيان الولد له في سن لا يولد فيه لمثله، وجميع ما دعا به من الخوارق فوجوده لا يكاد يصدق، أشار إلى ذلك بتأكيد قوله‏:‏ ‏{‏إن ربي‏}‏ أي المحسن إليّ ‏{‏لسميع الدعاء *‏}‏ أي من شأنه إجابة الدعاء على الوجه الأبلغ تعريضاً بالأنداد وإشارة إلى ما تضمنه تأسفه على العقم، فقد تقدم في سورة البقرة عن التوراة أنه لما خلّص ابن أخيه لوطاً من الأسر قال له الله‏:‏ يا إبراهيم‏!‏ أنا أكانفك وأساعدك لأن ثوابك قد جزل، فقال إبرم‏:‏ اللهم ربي‏!‏ ما الذي تنحلني وأنا خارج من الدنيا بلا نسل ويرثني اليعازر غلامي الدمشقي‏؟‏ فقال له الرب‏:‏ لا يرثك هذا، بل ابنك الذي يخرج من صلبك فهو يرثك، وقال له‏:‏ انظر إلى السماء وأحص النجوم إن كنت تقدر أن تحصيها، فكذلك تكون ذريتك، فآمن إبرم بالله‏.‏

ولما تم الحمد على النعمة بعد الدعاء بالتخلي من منافي السعادة وختمه بالحمد على إجابة الدعاء، انتهز الفرصة في إتباعه الدعاء بالتحلي بحلية العبادة التي أخبر أنها قصده بإسكانه من ذريته ثم إقامتها، إشارة إلى صعوبتها على النفس إلا بمعونة الله فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها الموجد لي المالك لأمري ‏{‏اجعلني مقيم الصلاة‏}‏ أي هذا النوع الدال على غاية الخضوع، دائم الإقامة لها، وكأن الله تعالى أعلمه بأنه يكون من ذريته من يكفر فقال أدباً‏:‏ ‏{‏ومن ذريتي‏}‏‏.‏

ولما كانت أعظم الأركان بعد الإيمان، أفراد الضمير للدعاء بها متملقاً لله تعالى بما عليه من النعم التي لم ينعمها على أحد كان في ذلك الزمان غيره، كما أشار إلى ذلك باسم الرب، ثم زاد في التضرع بقوله‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا، وجمع الضمير المضاف إليه بالنظر إلى من تبعه من ذريته لأن ما بعده كلام آخر، أي رب وربَّ مّن وفقته بتربيتك وإحسانك لإقامة الصلاة من ذريتي ‏{‏وتقبل دعاء *‏}‏ كله بذلك وغيره، بأن تجعله مقبولاً جعلَ من كأنه راغب فيه مفتن به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 46‏]‏

‏{‏رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ‏(‏42‏)‏ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ‏(‏43‏)‏ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ‏(‏44‏)‏ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ ‏(‏45‏)‏ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما كان الإنسان ولو اجتهد كل الاجتهاد- محل العجز الموجب للتقصير المفتقر للستر، قال مشيراً إلى ذلك‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المالك لأمورنا المدبر لنا ‏{‏اغفر لي‏}‏ ثم أشرك معه أقرب الناس إليه وأحقهم بشكره فقال‏:‏ ‏{‏ولوالدي‏}‏ وقد كان استغفاره لهما قبل أن يعلم أن أباه مات كافراً، وقد علم من السياق أنه إذا كان وحده أضاف إلى ضميره، وإذا تقدم ما يحسن جمعه معه جمع إن كان ما بعده مستقلاً، ثم كل من تبعه في الدين من ذريته وغيرهم فقال‏:‏ ‏{‏وللمؤمنين‏}‏ أي العريقين في الوصف ‏{‏يوم يقوم‏}‏ أي يظهر ويتحقق على أعلى وجوهه ‏{‏الحساب *‏}‏‏.‏

ولما ختم دعاءه بيوم الحساب الموجب ذكره لكل سعادة ونسيانه لكل شقاوة، ذكر بعض ما يتفق فيه رجوعاً إلى ما مضى من أحوال يوم القيامة على أحسن وجه، فقال- عاطفاً على قوله ‏{‏قل لعبادي‏}‏ وجل المقصد تهديد أهل الظلم بالإشراك وغيره، وخاطب الرأس الذي لا يمكن ذلك منه ليكون أوقع في قلب غيره-‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي هو أحكم الحاكمين‏.‏

ولما كان اعتقاد ترك الحساب يلزم منه نسبة الحاكم إلى العجز أو السفه أو الغفلة، وكان قد أثبت قدرته وحكمته في هذه السورة وغيرها نزهةً عن الغفلة لينتبه المنكرون للبعث من غفلتهم فقال‏:‏ ‏{‏غافلاً‏}‏ والغفلة‏:‏ ذهاب المعنى عن النفس ‏{‏عما يعمل الظالمون *‏}‏ الذين بدلوا نعمة الله كفراً، فكانوا عريقين في الظلم وإن كان مستند ظلمهم شبهاً علمية يقيمونها، فكأنه قيل‏:‏ فما الذي يفعل بهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏إنما يؤخرهم‏}‏ أي يؤخر حسابهم على النقير والقطمير سواء عذبوا في الدنيا أو لا ‏{‏ليوم تشخص‏}‏ أي تفتح فتكون بحيث لا تطرف ‏{‏فيه‏}‏ منهم ‏{‏الأبصار *‏}‏ أي حال كونهم ‏{‏مهطعين‏}‏ أي مسرعين غاية الإسراع إلى حيث دعوا خوفاً وجزعاً، مع الإقبال بالبصر نحو الداعي لا يلفتونه إلى غيره ‏{‏مقنعي رؤوسهم‏}‏ أي رافعيها وناصبيها ناظرين في ذل وخشوع إلى جهة واحدة، وهي جهة الداعي، لا يلتفتون يميناً ولا شمالاً، وهذا كناية عن أشد الذل والصغار، ثم أتبعه ما يؤكده فقال مصرحاً بمعنى الشخوص‏:‏ ‏{‏لا يرتد إليهم‏}‏ ولما كانوا في هيئة الأعين في الطرف والسكون قريباً من السواء، وحد فقال‏:‏ ‏{‏طرفهم‏}‏ بل أعينهم شاخصة دائمة الفتح لا تطرف كالمحتضر لما بأصحابها من الهول ‏{‏وأفئدتهم‏}‏ جمع فؤاد، وهو العضو الذي من شأنه أن يحمى بالغضب؛ قال في القاموس‏:‏ والتفؤد‏:‏ التحرق والتوقد، ومنه الفؤاد للقلب مذكر، جمعه أفئدة‏.‏ ‏{‏هواء *‏}‏ أي عدم فارغة لا شيء فيها من الجرأة والأنفة التي يظهرونها الآن كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

ألا أبلغ أبا سفيان عني *** فأنت مجوف نخب هواء

والهواء‏:‏ الخلاء الذي لم تشغله الأجرام، والنخب‏:‏ الجبان، وكذا الهواء- قاله في القاموس‏.‏ فأنذرهم أهوال ذلك اليوم فإنه لا يبقى معهم فيه شيء مما هم فيه من الإباء والاستكبار ‏{‏وأنذر‏}‏ أي يا محمد ‏{‏الناس‏}‏ جميعاً، ما يحل بهم ‏{‏يوم يأتيهم العذاب‏}‏ وينكشف عنهم الغطاء بالموت أو البعث‏.‏

ولما كانوا عند إتيان العذاب قبل الموت لا ينكسرون بالكلية، بين أنهم إذ ذاك على غير هذا، فقال عاطفاً على «يأتيهم»‏:‏ ‏{‏فيقول الذين ظلموا‏}‏ أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه منهم ومن غيرهم بسبب إتيانه من غير تمهل، وقد زال عنهم ما يفتخرون به من الأنفة والحمية والشماخة والكبر لما رأوا من الأهوال التي لا قبل لهم بها ولا صبر عليها‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق والتربية ‏{‏أخرنا‏}‏ أي أمهلنا ‏{‏إلى أجل قريب‏}‏ فإنك إن تؤخرنا إليه ‏{‏نجب دعوتك‏}‏ أي استدراكاً لما فرطنا فيه؛ والإجابة‏:‏ القطع على موافقة الداعي بالإرادة ‏{‏ونتبع‏}‏ أي بغاية الرغبة ‏{‏الرسل‏}‏ فيقال لهم‏:‏ إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، أولم تكونوا تقولون‏:‏ إن عرى صبركم لا تنحل، وحد عزائمكم لا يفل‏؟‏ ‏{‏أولم تكونوا‏}‏ أي كوناً أنتم فيه في غاية المكنة ‏{‏أقسمتم‏}‏ أي جهلاً وسفهاً أو أشراً وبطراً‏.‏

ولما لم يكن وقت إقسامهم مستغرقاً للزمان قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ وبين الجواب المقسم عليه بقوله- حاكياً معنى قولهم لا لفظه- ليكون صريحاً في المراد من غير احتمال لتعنت لو قيل‏:‏ ما لنا‏؟‏‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ وأكد النفي فقال‏:‏ ‏{‏من زوال‏}‏ عما أنتم عليه من الكفران وعدم الإذعان للإيمان، أو من هذه الدار إلى الدار الآخرة، أو من منازلكم التي أنتم بها، كناية عن ثبات الأمر وعدم المبالاة بالمخالف كائناً من كان ‏{‏و‏}‏ الحال أنكم ‏{‏سكنتم‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏في مساكن الذين ظلموا‏}‏ أي بوضع الأشياء في غير مواضعها كما فعلتم أنتم ‏{‏أنفسهم‏}‏ فأحلوا قومهم مثلكم دار البور ‏{‏وتبين‏}‏ أي غاية البيان ‏{‏لكم‏}‏ بالخبر والمشاهدة‏.‏

ولما كان حال أحدهم في غاية العجب، بنه بالاستفهام على أنه أهل لأن يسأل عنه فقال‏:‏ ‏{‏كيف فعلنا‏}‏ أي على عظمتنا ‏{‏بهم‏}‏ حين انتقمنا منهم فلم تعتبروا بأحوالهم ‏{‏وضربنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏لكم الأمثال *‏}‏ المبينة أن سنة الله جرت- ولن تجد لسنة الله تبديلاً- أن الظالمين كما جمعهم اسم الظلم يجمعهم ميسم الهلاك، فجمعنا لكم بين طريقي الاعتبار‏:‏ السمع والبصر، ثم لم تنتفعوا بشيء منهما ‏{‏و‏}‏ الحال أنه بان لكم أنهم حين فعلنا بهم ما فعلنا ‏{‏قد مكروا مكرهم‏}‏ أي الشديد العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم بحيث لم يبق لهم مكر غيره في تأييد الكفر وإبطال الحق؛ والمكر‏:‏ الفتل إلى الضرر على وجه الحيلة ‏{‏و‏}‏ الحال أنه ‏{‏عند الله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏مكرهم‏}‏ هو وحده به عالم من جميع وجوهه وإن دق، وعلى إبطاله قادر وإن جل ‏{‏وإن كان مكرهم‏}‏ من القوة والضخامة ‏{‏لتزول‏}‏ أي لأجل أن تزول ‏{‏منه الجبال *‏}‏ والتقدير على قراءة فتح اللام الأولى ورفع الثانية‏:‏ وإن كان بحيث إنه تزول منه الجبال، والمعنيان متقاربان، وقيل‏:‏ «إن» نافية، واللام لتأكيد النفي؛ والجبال‏:‏ الآيات والشرائع، بل هي أثبت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 52‏]‏

‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏48‏)‏ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ‏(‏49‏)‏ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ‏(‏50‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏51‏)‏ هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

ولما تقرر ذلك من علمه سبحانه وقدرته، تسبب عنه أن يقال وهو كما تقدم في أن المراد الأمة لبلوغ الأمر كل مبلغ، خوطب به الرأس ليكون أوقع في قلوبهم‏:‏ ‏{‏فلا تحسبن الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، فإن من ظن ذلك كان ناقص العقل ‏{‏مخلف وعده رسله‏}‏ في أنه يعز أوليائه ويذل أعداءه ويهلكهم بظلمهم، ويسكن أولياءه الأرض من بعدهم؛ ثم علل ذلك بقوله- مؤكداً لأن كثرة المخالفين وقوتهم على تمادي الأيام تعرّض السامع للإنكار‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي ذا الجلال والإكرام ‏{‏عزيز‏}‏ أي يقدر ولا يقدر عليه ‏{‏ذو انتقام *‏}‏ ممن يخالف أمره‏.‏

ولما تقررت عظمة ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكان أعظم يوم يظهر فيه الانتقام، بينه بقوله‏:‏ ‏{‏يوم تبدل‏}‏ أي تبديلاً غريباً عظيماً ‏{‏الأرض‏}‏ أي هذا الجنس ‏{‏غير الأرض‏}‏ أي التي تعرفونها ‏{‏والسماوات‏}‏ بعد انتشار كواكبها وانفطارها وغير ذلك من شؤونها؛ والتبديل‏:‏ تغيير الشيء أو صفته إلى بدل ‏{‏وبرزوا‏}‏ أي الظالمون الذين كانوا يقولون‏:‏ إنهم لا يعرضون على الله للحساب؛ والبروز‏:‏ ظهور الشخص مما كان ملتبساً به ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏الواحد‏}‏ الذي لا شريك له ‏{‏القهار *‏}‏ الذي لا يدافعه شيء عن مراده، فصاروا بذلك البروز بحيث لا يشكون أنه لا يخفى منهم خافية، وأما المؤمنون فلم يزالوا يعلمون ذلك‏:‏ روى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبدل الأرض‏}‏ الآية قلت‏:‏ يا رسول الله فأين يكون للناس يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ على الصراط‏.‏

ولما ذكر بروزهم له ذكر حالهم في ذلك البروز فقال‏:‏ ‏{‏وترى المجرمين‏}‏ أي وتراهم، ولكنه أظهر لتعدد صفاتهم التي أوجبت لهم الخزي؛ والإجرام‏:‏ قطع ما يجوز من العمل بفعل ما لا يجوز ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ كانت هذه الأمور العظام ‏{‏مقرنين‏}‏ أي مجموعاً كل منهم إلى نظيره، أو مجموعة أيديهم إلى أعناقهم جمعاً فيه شدة وضيق ‏{‏في الأصفاد *‏}‏ أي القيود، والمراد هنا الأغلال، أي السلاسل التي تجمع الأيدي فيها إلى الأعناق ويقرنون فيها مع أشكالهم؛ ثم بين لباسهم بقوله‏:‏ ‏{‏سرابيلهم‏}‏ أي قمصهم السابغة ‏{‏من قطران‏}‏ وهو ما يهنأ به الإبل، ومن شأنه أنه سرع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح‏.‏

ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وتغشى‏}‏ ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلاً لإفهام الإهانة فقال‏:‏ ‏{‏وجوههم النار‏}‏ أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبراً بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما‏:‏ ب ‏{‏ليجزي الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏كل نفس‏}‏ طائعة أو عاصية‏.‏

ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء- التي ستذكر في «حم المؤمن» وقال‏:‏ ‏{‏ما كسبت‏}‏ والجزاء‏:‏ مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب‏:‏ فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله‏.‏

ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة المطلقة ‏{‏سريع الحساب *‏}‏ أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن‏.‏

ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنواناً لجميع القرآن فقال‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ‏{‏بلاغ‏}‏ أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال ‏{‏للناس‏}‏ ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة «بلغ» بأي ترتيب كان- تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشئ عن الضعف‏:‏

بلغ المكان بلوغاً‏:‏ وصل إليه؛ وبُلغ الرجل- كعني‏:‏ جهد، والبليغ‏:‏ الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ- كسحاب‏:‏ الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة- إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة‏:‏ اشتدت‏.‏

والغلباء‏:‏ الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل‏:‏ العزيزة الممتنعة، والأغلب‏:‏ الأسد‏.‏

ولغب‏:‏ أعيا- لاجتهاده في البلوغ، واللغب‏:‏ ما بين الثنايا من اللحم، واللغب- ككتف‏:‏ الكلام الفاسد- يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب- بالضم، والتغلب‏:‏ طول الطرد‏.‏

والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلاً‏:‏ بلّد وأعيا، والإبل‏:‏ مشت بين الهملجة والعنق‏.‏

ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانياً للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل لأن يكون واعظاً به مقبولاً، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال‏:‏ ‏{‏ولينذروا‏}‏ أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة ‏{‏به‏}‏ فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا‏.‏

ولما أشار إلى جميع الفروع فعلاً وتركاً، مع إشارته إلى أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله‏:‏ ‏{‏وليعلموا أنما هو‏}‏ أي الإله ‏{‏إله واحد‏}‏ فيكون همهم واحداً‏.‏

ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلاً وفرعاً، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر، لأنها في غاية الوضوح ولا سيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال‏:‏ ‏{‏وليذكر‏}‏ أي منهم ‏{‏أولوا الألباب *‏}‏ أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة‏.‏ ويعلموا- بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم- أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون لا ينصف بينهم ولا يجزى أحداً منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخاً من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها بجميع علم الشريعة أصولاً وفروعاً، وعلم الحقيقة نهايات وشروعاً، على سبيل الإجمال وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب- والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب‏.‏