فصل: تفسير الآيات رقم (27- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه وتعالى حال المكرة المتمردين عليه في الدنيا، أخذ يذكر حالهم في الآخرة تقريراً للآخرة وبياناً لأن عذابهم غير مقصور على الدنيوي، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يوم القيامة يخزيهم‏}‏ أي الله تعالى الذي فعل بهم في الدنيا ما تقدم، خزياً يشهده جميع الخلائق الوقوف في ذلك اليوم، فيحصل لهم من الذل- جزاء على تكبرهم- ما يجل عن الوصف، وعطفه ب «ثم» لاستبعادهم له ولما له من الهول والعظمة التي يستصغر لها كل هول ‏{‏ويقول‏}‏ أي لهم في ذلك الجمع تبكيتاً وتوبيخاً‏:‏ ‏{‏أين شركاءي‏}‏ على ما كنتم تزعمون، وأضاف سبحانه إلى نفسه المقدس لأنه أقطع في توبيخهم وأدل على تناهي الغضب ‏{‏الذين كنتم‏}‏ أي كوناً لا تنفكون عنه ‏{‏تشاقون فيهم‏}‏ أوليائي، فتكونون بمخالفتهم في شق غير شقهم، فتخضعون لما لا ينبغي الخضوع له، وتتكبرون على من لا ينبغي الإعراض عنه، ما لهم لا يحضرونكم ويدفعون عنكم في هذا اليوم‏؟‏ وقرئ بكسر النون لأن مشاققة المأمور مشاققة الآمر‏.‏

ولما كان المقام للجلال والعظمة المستلزم لزيادة الهيبة التي يلزم عنها غالباً خرس المخزي عن جوابه لو كان له جواب، وكان من أجل المقاصد في تعذيبهم العدل بتفريح الأولياء وإشماتهم بهم، جزاء لما كانوا يعملون بهم في الدنيا، وكانت الشماتة أعلى محبوب للشامت وأعظم مرهوب للمشموت فيه، وأعظم مسلّ للمظلوم، دل على سكوتهم رغباً عن المبادرة بالجواب بتأخير الخبر عنه وتقديم الخبر عن شماتة أعدائهم فيهم في سياق الجواب عن سؤال من قال‏:‏ هل علم بذلك المؤمنون‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال الذين‏}‏ ولما كان العلم شرفاً للعالم مطلقاً، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏أوتوا العلم‏}‏ أي انتفعوا به في سلوك سبيل النجاة من الأنبياء عليهم السلام ومن أطاعهم من أممهم، إشارة إلى أن الهالك يصح سلب العلم عنه وإن كان أعلم الناس، وعدل عن أن يقول‏:‏ أعداؤهم أو المؤمنون ونحوه، إجلالاً لهم بوصفهم بالعلم الذي هو أشرف الصفات لكونه منشأ كل فضيلة، وتعرضاً بأن الحامل للكفار على الاستكبار الجهل الذي هو سبب كل رذيلة ‏{‏إن الخزي‏}‏ أي البلاء المذل ‏{‏اليوم‏}‏ أي يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة ‏{‏والسوء‏}‏ أي كل ما يسوء ‏{‏على الكافرين *‏}‏ أي العريقين في الكفر الذين تكبروا في غير موضع التكبر، لا على غيرهم؛ ثم رغبهم في التوبة بقوله‏:‏ ‏{‏الذين تتوفّاهم‏}‏ بالفوقية في قراءة الجمهور لأن الجمع مؤنث، وبالتحتية في قراءة حمزة لأن المجموع غير مؤنث، وكان وفاتهم على وجهين‏:‏ وجه خفيف- بما أشار إليه التأنيث لخفة كفر صاحبه، وآخر ثقيل شديد لشدة كفر صاحبه، ولم يحذف شيء من التاءين للإشارة إلى نقصان حالهم لأنه لا يمكن خيرها لموتهم على الكفر بخلاف ما تقدم في تارك الهجرة في النساء ‏{‏الملائكة‏}‏ أي المؤكلون بالموت، حال كونهم ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ بوضعها من الاستكبار على الملك الجبار غير موضعها‏.‏

فلما تم ذلك على هذا الوجه البديع، والأسلوب الرفيع المنيع، ابتدأ الخبر عن جوابهم على وجه معلم بحالهم فقال‏:‏ ‏{‏فألقوا‏}‏ أي من أنفسهم عقب قول الأولياء وبسبب سؤال ذي الكبرياء ‏{‏السلم‏}‏ أي المقادة والخضوع بدل ذلك التكبر والعلو قائلين ارتكاباً للكذب من غير احتشام‏:‏ ‏{‏ما كنا نعمل‏}‏ وأعرقوا في النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏من سوء‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ إن هذا لبهتان عظيم في ذلك اليوم الجليل، فماذا قيل لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ قد عملتم أعظم السوء؛ ثم علل تكذيبهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏عليم‏}‏ أي بالغ العلم من كل وجه ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏تعملون *‏}‏ أي من الضلال والإضلال، فلا يسعكم الإنكار، أفما آن لكم أن تنزعوا عن الجهل فيما يضركم ولا ينفعكم ويخفضكم ولا يرفعكم‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الفعل مع هذا العلم سبباً لدخول جهنم من غير أن يقام لهم وزن، لأنه لا وزن لما ضيع أساسه، قال معقباً مسبباً‏:‏ ‏{‏فادخلوا‏}‏ أي أيها الكفرة ‏{‏أبواب جهنم‏}‏ أي أبواب طبقاتها ودركاتها ‏{‏خالدين‏}‏ أي مقدرين الخلد ‏{‏فيها‏}‏ أي في جهنم التي دأبها تجهم من دخلها‏.‏

ولما كان هذا المقام للمشاققة‏.‏ وكان أمرها زائد القباحة‏.‏ كان هذا الدخول أقبح دخول، وكان سبباً لأن يقال‏:‏ ‏{‏فلبئس‏}‏ بالأداة الجامعة لمجامع الذم ‏{‏مثوى المتكبرين *‏}‏ على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك، لتقدم كذبهم في قولهم ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ تعريضاً بأنهم جديرون- لغاية ما لهم من البلادة- أن يستحسنوا النار كما كذبوا مع العلم التام بأنه لا يروج في ذلك اليوم كذب‏.‏

ولما تم الخبر عن المنكر لما أنزل الله على ألسنة الملائكة من الروح من أمره على الأنبياء عليهم السلام، إنكاراً لفضلهم وتكبراً بما ليس لهم، بالاعتراض على خالقهم، ابتدأ الخبر عن المقرين تصديقاً لهداتهم واعترافاً بفضلهم وتسليماً لمن هم عبيده في تفضيل من يشاء، منبهاً على الوصف الذي أوجب لهم الاعتراف بالحق، فقال حاذفاً ل «إذا» دلالة على الرضى بأيسر شيء من الخير والمدح عليه ولو لم يتكرر‏:‏ ‏{‏وقيل للذين اتقوا‏}‏ أي خافوا عقاب الله ‏{‏ماذا‏}‏ أي أي شيء ‏{‏أنزل ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم من روحه المحيي للأرواح، على رسوله ‏{‏قالوا‏}‏ معترفين بالإنزال، غير متوقفين في المقال، فاهمين أن ذا مؤكدة للاستفهام لا بمعنى الذي‏:‏ أنزل ‏{‏خيراً‏}‏ وإنما أطبق القراء على نصب هذا ورفع الأول فرقاً بين جوابي المقر والجاحد بمطابقة المقر بين الجواب والسؤال، وعدول الجاحد بجوابه عن السؤال؛ ثم أخذ يرغب بما لهم من حسن المآل على وجه الجواب لسؤال من كأنه قال‏:‏ ما لهم على ذلك‏؟‏ فقيل مظهراً موضع الإضمار مدحاً لهم وتعميماً لمن اتصف بوصفهم‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ فبين أن اعترافهم بذلك إحسان؛ ثم أخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏في هذه الدنيا حسنة‏}‏ أي جزاء لهم على إحسانهم ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏‏.‏

ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال، أخبر عن حالهم في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏ولدار الآخرة خير‏}‏ أي جزاء ومصيراً؛ ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولنعم دار المتقين *‏}‏ أي هي، مرغباً في الوصف الذي كان سبب حيازتهم لها، وهو الخوف المنافي لما وصف به الأشرار من الاستكبار، بإظهاره موضع الإضمار وحذف المخصوص بالمدح لتقدم ما يدل عليه، وهو صالح لتقدير الدنيا- أي لمن عمل فيها بالتقوى- ولتقدير الآخرة، وهو واضح‏.‏

ولما كان هذا المدح مشوفاً لتفصيل ذلك قيل‏:‏ ‏{‏جنّات عدن‏}‏ أي إقامة لا ظعن فيها ‏{‏يدخلونها‏}‏ حال كونها ‏{‏تجري من تحتها‏}‏ أي من تحت غرفها ‏{‏الأنهار‏}‏ ثم أجيب من كأنه سأل عما فيها من الثمار وغيرها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها‏}‏ أي خاصة، لا في شيء سواها من غير أن يجلب إليهم من غيرها ‏{‏ما يشاؤون‏}‏ ثم زاد في الترغيب بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الجزاء العظيم ‏{‏يجزي الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏المتقين *‏}‏ أي الراسخين في صفة التقوى، ثم حث على ملازمة التقوى بالتنبيه على أن العبرة بحال الموت، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين تتوفّاهم‏}‏ أي تقبض أرواحهم وافية من نقص شيء من الروح أو المعاني- بما أشار إليه إثبات التاءين والإظهار ‏{‏الملائكة طيبين‏}‏ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر متحلين بحلية الإيمان، فكأنه قيل‏:‏ ماذا تقول لهم الملائكة‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ أي مكررين للتأكيد تسكيناً لما جبلوا عليه من تعظيم جلال الله بالتقوى ‏{‏سلام عليكم‏}‏ ويقال لهم لتحقق فوزهم ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ أي دار التفكه التي لا مثل لها ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏تعملون *‏}‏ ترغيباً لهم في الأعمال التي لا يستطيعونها إلا برحمة الله لهم بتوفيقهم لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما أخبر تعالى عن أحوال الكفار السائلين في نزول الملائكة بعد أن وهىّ شبههم، وأخبر عن توفي الملائكة لهم ولأضدادهم المؤمنين، مشيراً بذلك إلى أن سنته جرت بأنهم لا ينزلون إلا لإنزال الروح من أمره على من يختصه لذلك أو لأمر فيصل لا مهلة فيه، قال منكراً عليهم‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي هؤلاء الكفار في تقاعسهم عن تصديق الرسل في الإخبار بما أنزل ربهم، وجرد الفعل إشارة إلى قرب ما ينتظرونه ‏{‏إلا أن تأتيهم‏}‏ أي بأمر الله ‏{‏الملائكة‏}‏ وهم لا يأتونهم إلا بمثل ما أتوا به من قبلهم ممن قصصنا أمرهم من الظالمين إن لم يتوبوا ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏ أي المحسن إليك المدير لأمرك بأمر يفصل النزاع من غير واسطة ملك أو غيره‏.‏

ولما كان هذا أمراً مفزعاً، كان موجباً لمن له فهم أن يقول‏:‏ هل فعل هذا أحد غير هؤلاء‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا الفعل البعيد لبشاعته عن مناهج العقلاء، مكراً في تدبير الأذى، واعتقاداً وقولاً ‏{‏فعل الذين‏}‏ ولما كان الفاعلون مثل أفعالهم في التكذيب لم يستغرقوا الزمان، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من قبلهم وما‏}‏ أي والحال أنه ما ‏{‏ظلمهم الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله في تقديره ذلك عليهم، لأنه المالك المطلق التصرف والملك الذي لا يسأل عما يفعل ‏{‏ولكن كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏أنفسهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏يظلمون *‏}‏ فاستحقوا العقاب لقيام الحجة عليهم على السنن الذي جرت به عوائدكم فيمن باشر سوء من غير أن يكره عليه إكراهاً ظاهراً، وهذا بعينه هو العلة في إرسال الرسل، ونصب الشرئع والملل ‏{‏فأصابهم‏}‏ أي فتسبب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم ‏{‏سيئات‏}‏ أي عقوبات أو جزاء سيئات ‏{‏ما عملوا وحاق‏}‏ أي أحاط ضابطة ‏{‏بهم‏}‏ من العذاب والمرسل به من الملائكة ‏{‏ما كانوا به‏}‏ أي خاصة ‏{‏يستهزؤن *‏}‏ تكبراً عن قبول الحق‏.‏

ومادة حاق واوية ويائية- بتراكيبها الست‏:‏ حوق، حقو، قحو، قوح، وقح، حيق- تدور على الإحاطة، ويلزمها صلابة المحيط ولين المحاط به‏:‏ حاق به الشيء- إذا نزل به فأحاط، والحيق‏:‏ ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، وحاق فيه السيف‏:‏ حاك أي عمل- من التسمية باسم الجزء، ولأنه في الأغلب يكون في عمله الموت المحيط بالأجل، وحاق بهم الأمر‏:‏ لزمهم ووجب عليهم ونزل بهم، والحيقة‏:‏ شجرة كالشيح يؤكل بها التمر- كأنه يحيط بالتمرة، وحايقه‏:‏ حسده وأبغضه- لإحاطة ذلك‏.‏

والحوق- بالضم‏:‏ ما أحاط بالكمرة من حروفها، وبالضم والفتح معاً‏:‏ استدارة في الذكر، والحوق- بالفتح فقط‏:‏ الإحاطة، والأحوق والمحوق- كمعظم‏:‏ الكمرة- كأنها مختصة بذلك لكبرها، ومنه فيشلة حوقاء‏:‏ عظيمة- كأنها لعظمها هي التي ظهر حرفها دون غيرها، وأرض محوقة- بضم الحاء‏:‏ قليلة النبت لقلة المطر- كأنه تشبه بالكمرة في ملاستها، وتركت النخلة حوقاء- إذا أشعل في الكرانيف- لاستدارة النار بها أو لشبهها بعد حريق السعف بالذكر أو رأسه، والحوقة بالفتح‏:‏ الجماعة الممخرقة- لأن الجماعة لها قوة الاستدارة، والممخرق إن كان من الكذب فمن لازمه العوج، وإن كان من المخراق- وهو المنديل الذي يلف للعب به- فاللعب به على هيئة الاستدارة، وحوق عليه تحويقاً‏:‏ عوج عليه الكلام، والحوق- بالفتح أيضاً‏:‏ الكنس والدلك والتمليس لأن كلاًّ منها ترد فيه اليد إلى قريب من مكانها فيشبه الإحاطة ولو بالتعويج‏.‏

والحقو‏:‏ الكشح، وهو ما بين عظم رأس الورك إلى الضلع الخلف لأنه موضع إحاطة الإزار، والإزار نفسه حقو لأنه آلته أو الحقو معقد الإزار، والحقو‏:‏ موضع غليظ مرتفع عن السيل- من الصلابة والاستدارة لأن السيل يحيط به أو يكاد، ومن السهم‏:‏ موضع الريش لأنه يشبه الحقو في استدارته وغلظ بعض ودقة بعض، وفي إحاطة الريش به، ومن الثنية‏:‏ جانباها- من الإحاطة أو مطلق العوج، والحقوة‏:‏ وجع في البطن من أكل اللحم- للحوق وجعه الحقو‏.‏

والأقحوان‏:‏ نبت يستدير به زهرة، وأقاحي الأمر‏:‏ تباشيره- لأنها تحيط به غالباً، وقحاً المال‏:‏ أخذه- لما يلزمه من الإحاطة، والمقحاة‏:‏ المجرفة- لأنها تحيط بالمجروف‏.‏

ومن اللين‏:‏ قاح الجرح يقوح‏:‏ صارت فيه مدة خالصة لا يخالطها دم كقاح يقيح- واوية ويائية، ولما يلزمه من الاستدارة غالباً، وقوّح الجرح‏:‏ انتبر- إما من الموضع الغليظ المرتفع عن السيل، وإما من استدارته، وقاح البيت‏:‏ كنسه كقوّحه، والقاحة‏:‏ الساحة- لاستدارتها غالباً، وأقاح‏:‏ صمم على المنع بعد السؤال- إما من لإزالة- أي أزال اللين- وإما من الصلابة‏.‏

ومن الصلابة‏:‏ الوقاح- للحافر الصلب، وهو من الاستدارة أيضاً، ورجل وقاح الوجه‏:‏ قليل الحياء- منه، والموقح- كمعظم‏:‏ المجرب، وتوقيح الحوض‏:‏ إصلاحه بالمدر والصفائح- للاستدارة والصلابة‏.‏

ولما تم ما هو عجب من مقالهم ومآلهم، في سوء أحوالهم، وختم بتهديدهم، عطف على قوله ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم‏}‏ موجباً آخر للتهديد، معجباً من حالهم فيه، فقال‏:‏ ‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ أي الراسخ منهم في هذا الوصف والتابع له، على سبيل الاعتراض على من يدعوهم إلى التوحيد من نبي وغيره، محتجين بالقدر عناداً منهم، ومعترضين على من لا يسأل عما يفعل بأنه- لقدرته على كل شيء- غير محتاج إلى بعث الرسل، فإرسالهم عبث- تعالى الله الحكيم عن قولهم، فهو قول من يطلب العلة في أحكامه تعالى وفي أفعاله، وهو قول باطل، لأنه سبحانه الفعال لما يريد سواء أطلع العباد على حكمته أم لا‏:‏ ‏{‏لو شاء الله‏}‏ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، عدم عبادتنا لغيره ‏{‏ما عبدنا‏}‏‏.‏

ولما كانت الرتب كلها متقاصرة عن رتبته وكانت متفاوته، وكان ما يعبدونه من الأصنام في أدناها رتبة، أدخلوا الجار فقالوا‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ وأعرقوا في النفي فقالوا‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ أي من الأشياء ‏{‏نحن ولا ءاباؤنا‏}‏ من قبلنا‏!‏ ولما ذكروا الأصل أتبعوه الفرع فقالوا‏:‏ ‏{‏ولا حرمنا‏}‏ أي على أنفسنا ‏{‏من دونه‏}‏ أي دون أمره ‏{‏من شيء‏}‏ لأن ما يشاء لا يتخلف على زعمكم، لكنه لم يشأ العدم، فقد شاء وجود ما نحن عليه، فنحن نتبع ما شاءه لا نتغير عنه، لأنه لا يشاء إلا ما هو حق، وضل عن الأشقياء- بكلمتهم هذه الحق التي أرادوا بها الباطل- أن مدار السعادة والشقاوة إنما هو موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فما كان من الفعل والكف على وفق الأمر سعد فاعله، وما خالفه قامت به الحجة على فاعله على ما جرت به عوائد الناس فشقي‏.‏

فلما انتهك ستر هذه المقالة المموهة، وكان كأنه قيل استبعاداً لها‏:‏ هل قالها غيرهم‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البعيد من السداد، والقول الخارج عن الهداية والرشاد، وهو الاعتراض على ربهم في إرسال الرسل، مانعين لجواز الإرسال بهذه الشبهة الضعيفة، فإنه تعالى يريد إظهار ثمرة الملك بالحكم على ما يتعارفه العباد من إقامة الحجة بالأفعال الاختيارية وإن كانت بقضائه، لأن ذلك مستور عن العباد ‏{‏فعل‏}‏ أي كذب بدليل الأنعام ‏{‏الذين‏}‏ ودل على عدم الاستغراق للزمان بقوله‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ وكان تكذيباً، لأن قولهم اقتضى أن يكون ما هم عليه مما يرضاه الله، والرسل يقولون‏:‏ لا يرضاه، ولا يرضى إلا ما أخبروا بأن صاحبه مثاب عليه أو غير معاقب، فكان ذلك سبباً للإنكار عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏فهل‏}‏ أي فما ‏{‏على الرسل‏}‏ أي الذين لا رسل في الحقيقة غيرهم، وهم الذين أرسلهم الله لدعاء العباد خلفاً عن سلف؛ ولما كان الاستفهام بمعنى النفي- كما تقدم- إلا أنه صور بصورته ليكون كدعوى الشيء بدليلها فقال‏:‏ ‏{‏إلا البلاغ المبين *‏}‏ وقد بلغوكم وأوضحوا لكم، فصار وبال العصيان خاصاً بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ولما كان جمع الرسل مفهماً لتوزيعهم على الأمم، كان موضع توقع التصريح بذلك، فقال- دافعاً لكرب هذا الاستشراف، نافياً لطروق احتمال، دالاً علا أن هذا القول السابق منصب إنكاره بالذات إلى اعتراضهم على الإرسال، ومسلياً لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحاثاً لهم على الاعتبار، عطفاً على ما تقديره‏:‏ فلقد بعثناك في أمتك هذه لأن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدينا، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان من غير شك بعضهم مرضٍ لله وبعضهم مغضب له، فإنه لا يكون حكم المتنافيين واحداً أبداً‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي والله لقد ‏{‏بعثنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة التي من اعترض عليها أخذ ‏{‏في كل أمة‏}‏ من الأمم الذين قبلكم ‏{‏رسولا‏}‏ فما بقي في الأرض أحد لم تبلغه الدعوة، ولأجل أن الرسل قد تكون من غير المرسل إليهم كلوط وشعيب عليهما السلام في أصحاب الأيكة وسليمان عليه السلام في غير بني إسرائيل من سائر من وصل إليه حكمه من أهل الأرض لم يقيد ب «منهم»‏.‏

ولما كان البعث متضمناً معنى القول، كان المعنى‏:‏ فذهبوا إليهم قائلين‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا الله‏}‏ أي الملك الأعلى وحده ‏{‏واجتنبوا‏}‏ أي بكل جهدكم ‏{‏الطاغوت‏}‏ كما أمركم رسولنا ‏{‏فمنهم‏}‏ أي فتسبب عن إرسال الرسل أن كانت الأمم قسمين‏:‏ منهم ‏{‏من هدى الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة، للحق فحقت له الهداية فأبصر الحق وعمل به باتباع الدعاة الهداة فيما أمروا به عن الله، فحقت له الجنة ‏{‏ومنهم من حقت‏}‏ أي ثبتت غاية الثبات ‏{‏عليه الضلالة‏}‏ بأن أضله الله فنابذ الأمر فلم يعمل به وعمل بمقتضى الإرادة، فإن الأمر قد لا يكون ما تعلق به، والإرادة لا بد أن يكون ما تعلقت به، وقد يكون موافقها عاملاً بالضلالة فحق عليه عذابها فحقت له النار فهلك، لأنه لم تبق له حجة يدفع بها عن نفسه، فلو كان كل ما شاءه حقاً كان الفريقان محقين فلم يعذب أحدهما، لكنه لم يكن الأمر كذلك، بل عذب العاصي ونجى الطائع في كل أمة على حسب ما قال الرسل، وهذا هو معنى رضي الله، إطلاقاً لاسم الملزوم على اللازم، فدل ذلك قطعاً على صدق الرسل وكذب مخالفيهم، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر فعل الهداية أولاً دليلاً على فعل الضلال ثانياً، وحقوق الضلالة ثانياً دليلاً على حقوق الهداية أولاً‏.‏

ثم التفت إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال‏:‏ ‏{‏فسيروا‏}‏ أي فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من إخبار الرسل فسيروا ‏{‏في الأرض‏}‏ أي جنسها ‏{‏فانظروا‏}‏ أي إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، وعبر هنا بالفاء المشيرة إلى التعقب دون تراخ لأن المقام للاستدلال المنقذ من الضلال الذي تجب المبادرة إلى الإقلاع عنه بخلاف ‏{‏ثم انظروا‏}‏ في الأنعام لما تقدم، وأشار بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال‏:‏ ‏{‏كيف كان‏}‏ أي كوناً لا قدرة على الخلاص منه ‏{‏عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المكذبين *‏}‏ أي من عاد ومن بعدهم الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم، فإنهم كذبوا الرسل فيما أمرتهم بإبلاغه مخالفة لأمري وعملاً بمشيئتي، فأوقعت بهم لأنهم خالفوا أمري باختيارهم مع جهلهم بإرادتي، فقامت عليهم الحجة على ما يتعارفه الناس بينهم‏.‏

ولما كان المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد، أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم، فقال مسلياً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ ‏{‏إن تحرص على هداهم‏}‏ فتطلبه بغاية جدك واجتهادك ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لا يهدي‏}‏ أي هو بخلق الهداية في القلب- هذا على قراءة الكوفيين بفتح الياء وكسر الدال، ومن هاد ما بوجه من الوجوه على قراءة الجمهور بالبناء للمفعول ‏{‏من يضل‏}‏ أي من يحكم بضلاله، وهو الذي أضلهم فلا يمكن غيره أن يهديهم لأنه لا غالب لأمره؛ وقرئ شاذاً بفتح الياء من ضل بمعنى نسي، أي فلا تمكن هداية من نسيه، أي تركه من الهداية ترك المنسي فإنه ليس في يد غيره شيء، ونقل الصغاني في مجمع البحرين أنه يقال‏:‏ ضل فلان البعير أي أضله، والضلال عند العرب سلوك غير سبيل القصد، فالمعنى أنه كان سبباً لسلوك البعير غير المقصود، فمعنى الآية‏:‏ لا تهدي من يضله الله- بفتح الياء، أي يكون سبباً لسلوكه غير سبيل القصد، فلا تحزن ولا يضيق صدرك من عدم تأثرهم بنصحك وإخلاصك في الدعاء، ولا يقع في فكرك أن في دعائك نقصاً، إنما النقص في مرائيهم العمياء، وليس عليك إلا البلاغ‏.‏ وقوله تعالى-‏:‏ ‏{‏وما لهم‏}‏ أي هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله ‏{‏من ناصرين *‏}‏ أي ينصرونهم عند مجازاتهم على الضلال، لينقذوهم مما لحقهم عليه من الوبال، كما فعل بالمكذبين من قبلهم- عطف على نتيجة ما قبله، وهو فلا هادي لهم ما أراد الله ضلالهم، وتبكيت لهم وتقريع وحث وتهييج على أن يقوموا بأنفسهم ويستعينوا بمن شاؤوا على نصب دليل ما يدعونه من أنهم أتبع الناس للحق، إما بأن يبرهنوا على صحة معتقدهم أو يعينوهم على الرجوع عنه عند العجز عن ذلك، أو يكفوا عنهم العذاب إذا حاق بهم‏.‏

ولما كان من حقهم- بعد قيام الأدلة على كمال قدرته وشمول علمه وبلوغ حكمته في إبداع جميع المخلوقات مما نعلم وما لا نعلم على أبدع ترتيب وأحسن نظام- تصديق الهداة في إعلامهم بأنه سبحانه يعيدهم للبعث وأنهم لم يفعلوا ولا طرقوا لذلك احتمالاً، بل حلفوا على نفيه من غير شبهة عرضت لهم ولا إخبار عن علم وصل إليهم فعل الجلف الجافي الغبي العاسي، أتبع ذلك سبحانه تعجيباً آخر من حالهم، فقال- عاطفاً على ‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ لأن كلاًّ من الجملتين لبيان تكذيبهم الرسل والتعجيب منهم في ذلك، دالاً على ان اعتقادهم مضمون هذه الجملة هو الذي جرأهم على قول الأولى وما تفرع منها-‏:‏ ‏{‏وأقسموا بالله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ جعلت الأيمان جاهدة لكثرة ما بالغوا فيها‏:‏ ‏{‏لا يبعث الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏من يموت‏}‏ أي يحيي أحداً بعد موته، استناداً منهم إلى مجرد استبعاد مالم تجر به نفسه عندهم عادة، جموداً منهم عن حلها بأن النشأة الأولى كانت من غير عادة، مع ادعائهم أنهم أعقل الناس وأحدهم أذهاناً وأثقبهم أفهاماً‏.‏

ثم رد عليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي ليبعثهم لأنه لا مانع له من ذلك وقد وعد به ‏{‏وعداً‏}‏ وبين أنه لا بد منه بقوله‏:‏ ‏{‏عليه‏}‏ وزاده تأكيداً في مقابلة اجتهادهم في أيمانهم بقوله‏:‏ ‏{‏حقاً‏}‏ أي لأنه قادر عليه وهو لا يبدل القول لديه، فصار واجباً في الحكمة كونه، وأمر البعث معلوم عند كل عاقل سمع أقوال الهداة تاركاً لهواه ‏{‏ولكن أكثر الناس‏}‏ أي بما لهم من الاضطراب ‏{‏لا يعلمون *‏}‏ أي لا علم لهم يوصلهم إلى ذلك لأنه من عالم الغيب لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله، ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم بروح منه لتقيدهم بما توصلهم إليه عقولهم، وهي مقصورة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير وساطة منه سبحانه تعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استعباداً لأن يكون شيء معقول لا يصل إليه بمجرد عقله وهو خصيم مبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما بين أنه لا بد من ذلك لسبق الوعد به من القادر، بين حكمته بأمر مبين أنه لا يسوغ تركه بوجه، وهو أنه لا يجوز في عقل عاقل أن أحداً ملكاً فما دونه يأمر عبيده بشيء ثم يهملهم فلا يسألهم ولا سيما إن اختلفوا ولا سيما إن أدى اختلافهم إلى المقاطعة والمقاتلة فكيف إن كان حاكماً فكيف إذا كان حكيماً فكيف وهو أحكم الحاكمين‏!‏ فقال معلقاً بما دل عليه ‏{‏بلى‏}‏‏:‏ ‏{‏ليبين‏}‏ أي فعله ووعد به فهو يبعثهم ليبين ‏{‏لهم‏}‏ أي للناس ‏{‏الذي يختلفون‏}‏ أي يوجد اختلافهم ‏{‏فيه‏}‏ من البعث وغيره، ويجزي كلاًّ بما عمل لأن ذلك من العدل الذي هو فعله ‏{‏وليعلم الذين كفروا‏}‏ أي جهلوا الآيات الدالة عليه، فكأنهم ستروها لأنها لظهورها لا تجهل ‏{‏أنهم كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏كاذبين *‏}‏ أي عريقين في الكذب في إنكارهم للمعاد وزعمهم أنهم المختصون بالمفاز علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين‏.‏

ولما بين تحتمه وحكمته، بين إمكانه ويسره عليه وخفته لديه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما قولنا‏}‏ أي بما من العظمة ‏{‏لشيء‏}‏ إبداء وإعادة ‏{‏إذا أردناه‏}‏ أي أردنا كونه ‏{‏أن نقول له‏}‏ ثم ذكر محكى القول النفسي فقال- بانياً من «كان» التامة ما دل على موافقة الأشياء المرادة موافقة المأمور للآمر المطاع-‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ أي أحدث ‏{‏فيكون *‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك القول أنه يكون حين تعلق القدرة به من غير مهلة أصلاً، فنحن خلقنا الخلق لنأمرهم وننهاهم‏.‏

ولما كان التقدير تفصيلاً لفريقي المبين لهم وترغيباً في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام‏:‏ فالذين كفروا واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعملون، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا‏}‏ أي أوقعوا المهاجرة فراراً بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه ‏{‏في الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما «تمادى» المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم‏.‏

ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعد ما ظلموا‏}‏ أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين ‏{‏لنبوئنهم‏}‏ أي نوجد لهم منزلاً هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة ‏{‏في الدنيا‏}‏ مباءة ‏{‏حسنة‏}‏ كبيرة عظيمة، جزاء لهم على هدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من يتدبر بمعني لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافاً لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ولنبوئنهم في الآخرة أجراً كبيراً، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأجر الآخرة‏}‏ المعد لهم ‏{‏أكبر‏}‏ مما جعلته لهم في الدنيا ‏{‏لو كانوا يعلمون *‏}‏ أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا- بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لا سيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم- أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم- روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء قال‏:‏ خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل- ثم تلا هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما نبه على إحسانه إليهم، وكان فيه من أول الأمر نوع غموض لظهور الكفرة في بادي الرأي، وصفهم بما يحتاج إليه في الاستجلاب لتمامه حثاً وإلهاباً، فقال تعالى- واصفاً للمهاجرين بياناً لأصل ما حملهم على ما استحقوا به هذا لأجر الجزيل-‏:‏ ‏{‏الذين صبروا‏}‏ أي استعملوا الصبر على ما نابهم من المكاره من الكفار وغيرهم في الإقامة بين أظهرهم مدة ثم في الهجرة بمفارقة الوطن الذي هو حرم الله المشرب حبه لكل قلب، فكيف بقلوب من هو مسقط رؤوسهم ومألف أبدانهم ونفوسهم، وفي بذل الأرواح في الجهاد وغير ذلك، ولفت الكلام إلى وصف والإحسان تنبيهاً على ما يحمل على التوكل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بإيجادهم وهدايتهم وحده ‏{‏يتوكلون *‏}‏ في كل حالة يريدونها رضى بقضاء الله تعالى‏.‏

ولما أخبر تعالى أنه بعث الرسل، وكان عاقبة من كذبهم الهلاك، بدلالة آثارهم، وكانوا قد قدحوا في الرسالة بكون الرسول بشراً ثم بكونه ليس معه ملك يؤيده، رد ذلك بقوله- مخاطباً لأشرف خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه أفهمهم عنه مع أنه أجل من توكل وصبر، عائداً إلى مظهر الجلال بياناً لأنه يظهر من يشاء على من يشاء-‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة‏.‏

ولما كان الإرسال بالفعل إنما كان في بعض الأزمنة، دل عليه بالجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ إلى الأمم من طوائف البشر ‏{‏إلا رجالاً‏}‏ لا ملائكة بل آدميين، هم في غاية الاقتدار على التوكل والصبر الذي هو محط الرجلة ‏{‏نوحي إليهم‏}‏ بواسطة الملائكة، وما أحسن تعقيب ذلك للصابرين، لأن الرسل أصبر الناس‏.‏

ولما كانوا قد فزعوا إلى سؤال أهل الكتاب في بعض الأمور، وكانوا قد أتوا علماً من عند الله، سبب عن هذا الإخبار الأمر بسؤالهم عن ذلك، فقال مخاطباً لهم ولكل من أراد الاستثبات من غيرهم‏:‏ ‏{‏فسئلوا‏}‏ أي أيها المكذبون ومن أراد من سواهم ‏{‏أهل الذكر‏}‏ أي العلم بالكتاب، سمي ذكراً لأن الذكر- الذي هو ضد السهو- بمنزلة السبب المؤدي إليه فأطلق عليه، كأن الجاهل ساهٍ وإن لم يكن ساهياً، وكذا الذكر- الذي هو الكلام المذكور- سبب للعلم‏.‏

ولما كان عندهم حسّ من ذلك بسماع أخبار الأمم قبلهم، أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏لا تعلمون*‏}‏ أو هو التنفير من الرضى بالجهل‏.‏

ولما كانت رسل الملوك تقترن بما يعرف بصدقهم، قال- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ بأي دلالة أرسلوا‏؟‏-‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ المعرفة بصدقهم ‏{‏والزبر‏}‏ أي الكتب الهادية إلى أوامر مرسلهم‏.‏

ولما كان القرآن أعظم الأدلة، أشار إلى ذلك بذكره مدلولاً على غيره من المعجزات بواو العطف، فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ وكذلك أرسلناك بالمعجزات الباهرات-‏:‏ ‏{‏وأنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليك‏}‏ أي وأنت أشرف الخلق ‏{‏الذكر‏}‏ أي الكتاب الموجب للذكر، المعلي للقدر، الموصل إلى منازل الشرف ‏{‏لتبين للناس‏}‏ كافة بما أعطاك الله من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق، واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها وقد أوصلك الله فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد ‏{‏ما نزل‏}‏ أي وقع تنزيله ‏{‏إليهم‏}‏ من هذا الشرع الحادي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل، وشرح ما أشكل، من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد، ومن البعث وغيره، وهو شامل لبيان الكتب القديمة لأهلها ليدلهم على ما نسخ، وعلى ما بدلوه فمسخ‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لعلهم بحسن بيانك يعملون‏!‏ عطف عليه بياناً لشرف العلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولعلهم يتفكرون *‏}‏ إذا نظروا أساليبه الفائقة، ومعانيه العالية الرائقة، فيصلوا بالفكر فيه- بسبب ما فتحت لهم من أبواب البيان- إلى حالات الملائكة، بأن تغلب أرواحهم على أشباحهم فيعلموا أنه تعالى واحد قادر فاعل بالاختيار، وأنه يقيم الناس للجزاء فيطيعونه رغبة ورهبة، فيجمعون بين شرفي الطاعة الداعية إليها الأرواح، والانكفاف عن المعصية الداعية إليها النفوس بواسطة الأشباح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 50‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما نبه سبحانه على التفكر، وكان داعياً للعاقل إلى تجويز الممكن والبعد من الخطر، سبب عنه إنكار الأمن من ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمن‏}‏ أي أتفكروا فتابوا، أو استمروا على عتوهم‏؟‏ أفأمن ‏{‏الذين مكروا‏}‏ بالاحتيال في قتل الأنبياء وإطفاء نور الله الذي أرسلهم به، المكرات ‏{‏السيئات أن‏}‏ يجازوا من جنس عملهم بأن ‏{‏يخسف الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏بهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الأرض‏}‏ فإذا هم في بطنها، لا يقدرون على نوع تقلب بمدافعة ولا غيرها، كما فعل بقارون وأصحابه وبقوم لوط عليه السلام من قبلهم ‏{‏أو يأتيهم العذاب‏}‏ على غير تلك الحال ‏{‏من حيث لا يشعرون *‏}‏ به في حالة من هاتين الحالتين شعوراً ما، هم في حال سكون ودعة بنوم أو غفلة ‏{‏أو يأخذهم‏}‏ أي الله بعذابه ‏{‏في‏}‏ حال ‏{‏تقلبهم‏}‏ وتصرفهم ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة‏.‏

ولما كانت هذه الأحوال الثلاثة مفروضة في حال أمنهم من العذاب وكان الأمن من العدو يكون عن ظن عدم قدرته عليه، علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما هم بمعجزين *‏}‏ أي في حالة من هذه الأحوال، سواء علينا غفلتهم ويقظتهم، ولم يعلل ما بعده بذلك لأن المتخوف مجوّز للعجز، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو يأخذهم‏}‏ أي الله أخذ غضب ‏{‏على تخوف‏}‏ منهم من العذاب وتحفظ من أن يقع بهم ما وقع بمن قبلهم من عذاب الاستئصال، ويجوز أن يراد بما مضى عذاب الاستئصال، وبهذا الأخذ شيئاً فشيئاً، فإن التخوف التنقص عند هذيل، روي أن عمر رضي الله عنه سأل الناس عنها فسكتوا فأجابه شيخ من هذيل بأنه التنقص، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ هل تعرف العرب ذلك في أشعارها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ قال شاعرنا أبو كثير الهذلي يصف ناقة‏:‏

تخوف الرحل منها تامكاً قرداً *** كما تخوف عود النبعة السفن

فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ أيها الناس‏!‏ عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا‏:‏ وما ديواننا‏؟‏ قال‏:‏ شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لم يأمنوا ذلك في نفس الأمر، ولكن جهلهم بالله- لطول أناته وحلمه- غرهم سبب عنه قوله التفاتاً إلى الخطاب استعطافاً‏:‏ ‏{‏فإن ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد ‏{‏لرءوف‏}‏ أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة، وكذا لمن قاطعه أتم مقاطعة، وإليه أشار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحيم *‏}‏ أي فتسبب عن إمهاله لهم في كفرهم وطغيانهم مع القدرة عليهم العلم بأن تركه لمعاجلتهم ما هو إلا لرأفته ورحمته‏.‏

ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله‏:‏ عاطفاً على ما تقديره‏:‏ أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم‏:‏ ‏{‏أولم‏}‏ ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يروا‏}‏ بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى ما خلق الله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر ‏{‏من شيء‏}‏ أي له ظل ‏{‏يتفيؤا‏}‏ أي تترجع إلى جهة الشاخص ‏{‏ظلاله‏}‏ وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له ‏{‏عن اليمين‏}‏ وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله‏:‏ ‏{‏والشمائل‏}‏ لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء‏.‏

ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى «ما» في قوله‏:‏ ‏{‏سجداً‏}‏ أي حال كونهم خضعاً ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم‏.‏

ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً‏:‏ ‏{‏وهم داخرون *‏}‏ ذلاً وصغاراً، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير‏.‏

ولما حكم على الظلال بما عم أصحابها من جماد وحيوان، وكان الحيوان أشرف من الجماد، رقي الحكم إليه بخصوصه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏يسجد‏}‏ أي يخضع بالانقياد للمقادير والجري تحت الأقضية، وعبر بما هو ظاهر في غير العقلاء مع شموله لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما في السماوات‏}‏ ولما كان المقام للمبالغة في إثبات الحكم على الطائع والعاصي، أعاد الموصول فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ ثم بين ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دآبة‏}‏ أي عاقلة وغير عاقلة‏.‏

ولما كان المقرب قد يستهين بمن يقربه، قال مبيناً لخضوع المقربين تخصيصاً لهم وإن كان الكلام قد شملهم‏:‏ ‏{‏والملائكة‏}‏‏.‏

ولما كان الخاضع قد يحكم بخضوعه وإن كان باطنه مخالفاً لظاهره، قال- دالاً على أن في غيرهم من يستكبر فيكون انقياده للإرادة كرهاً، وعبر عن السجودين‏:‏ الموافق للأمر والإدارة طوعاً، والموافق للارداة المخالف للأمر كرهاً، بلفظ واحد، لأنه يجوز الجمع بين مفهومي المشترك والحقيقة والمجاز بلفظ‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أي الملائكة ‏{‏لا يستكبرون *‏}‏ ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء‏:‏ ‏{‏يخافون ربهم‏}‏ أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفاً مبتدئاً ‏{‏من فوقهم‏}‏ إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب، فهم عما نهوا عنه ينتهون ‏{‏ويفعلون‏}‏ أي بداعية عظيمة علماً منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يؤمرون *‏}‏ فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الخوف أولاً دال على الرجاء ثانياً، وذكر الفعل ثانياً دال على الانتهاء أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما كان التوحيد أعظم المأمورات، وكان العصيان فيه أعظم العصيان، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه، أبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه، وكان الملائكة من أعظم الموحدين، كما كانوا من أعظم الساجدين، من أهل السماوات والأرضين، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد، أتبعها- عطفاً على ‏{‏وأنزل إليك الذكر‏}‏ ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة- قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الله‏}‏ فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة‏:‏ ‏{‏لا تتخذوا‏}‏ أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها ‏{‏إلهين‏}‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ من النتيجة وهي ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ لاحتمال أن يقول متعنت‏:‏ إنه لم يأمرنا بذلك وإن دلت عليه الأدلة، ويجوز وهو أقرب- أن يعطف على قوله‏:‏ ‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه، ولم يبادروا إلى امتثال أمره‏.‏

ولم كان قد فهم المراد من التثنية، وكان ربما قال المتعنت‏:‏ إن المنهي عنه تكثير الأسماء، قال مؤكداً ومحققاً‏:‏ ‏{‏اثنين‏}‏ تنبيهاً على أن الألوهية لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء، وفي ذلك أيضاً- مع كون معبوداتهم كانت كثيرة- إشارة إلى أن ما يسمى آلهة- وإن زاد عدده- يرجع بالحقيقة إلى اثنين‏:‏ خالق ومخلوق، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية، فانحصر الأمر في الخالق، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة، وأقل ما ينقسم إلى اثنين‏:‏ وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة، اكتفى بواحد كما تقول‏:‏ اتخذت بيتاً، واتخذت زوجة- ونحو ذلك، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما هو‏}‏ أي الإله المفهوم من لفظ ‏{‏إلهين‏}‏ الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجدوه من ذاته ‏{‏إله‏}‏ أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق‏.‏

ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس، قال رافعاً لكل شبهة‏:‏ ‏{‏واحد‏}‏ أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً‏.‏

ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم، التفت إلى أسلوب التلكم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإياي‏}‏ أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه‏.‏

ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن، والشدائد والفتن، وكانت الرهبة- كما مضى عن الحرالي في البقرة- خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم، عبر بها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فارهبون *‏}‏ مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها، فالأمر كله إليّ وحدي‏.‏

ولما كان أسلوب الغيبة من الحاضر دالاً على التردي بحجاب الكبر المؤذن بشدة البطش وسرعة الانتقام وبعد المقام، رجع إليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وله‏}‏ فأعاد الضمير على الله الاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ‏{‏ما في السَّماوات‏}‏‏.‏

ولما كان الأمر قد تأكد وتأطد، وظهر المراد منه غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيده بإعاداة النافي، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي مما تعبدونه وغيره، فكيف يتصور أن يكون شيء من ذلك إلهاً وهو ملكه، مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما ‏{‏وله الدين‏}‏ أي الخضوع والتذلل من كل ما فيهما ومن فيهما بالطوع والكره، بإنفاذ القضاء والقدر، بالصحة والسقم، والغنى والفقر، والحياة والموت، والإيجاد والإعدام، والإذلال والإعزاز، والإقبال والإعراض- كما بين آنفاً، وله الدينونة بالمجازاة ‏{‏واصباً‏}‏ أي دائماً ثابتاً عاماً لا كالملوك الذين تنقطع ممالكهم مع خصوصها، والمعبودات التي تنقطع عبادتها في وقت من الأوقات فتصير كاسدة بعد أن كانت رابحة وإن طال المدى، مع خصوصها بناس دون غيرهم، ولا يخلو يوم من الأيام لملك غيره من جري أمور على غير مراده وإن عظم سلطانه، وعلا شأنه، وكثرت أعوانه، فكيف يتصور من له أدنى بصر أن يكون غيره إلهاً، وقد تقدم في ‏{‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 56‏]‏ في هود ما ينفع استحضاره هنا‏.‏

ولما تقرر هذا الدليل على هذه الصفة، وكان من مفهومات الدين الجزاء الناظر إلى الأفعال الواقية مما يضر، تسبب عنه الإنكار الشديد على من يلتفت بشيء من أفعاله إلى غيره بعد علمه بأنه دائم لا يزول، وأن كل ما سواه زائل، فقال معبراً بالتقوى التي هي نتيجة الرهبة‏:‏ ‏{‏أفغير الله‏}‏ أي الذي له العظمة كلها ‏{‏تتقون *‏}‏ وأتبع ذلك ما يوجب تعظيم الإنكار عليهم، فقال مبيناً أنه لا ينبغي أن يتعلق خوف ولا رجاء إلا به‏:‏ ‏{‏وما بكم‏}‏ أي التبس بكم أيها الناس عامة مؤمنكم وكافركم ‏{‏من نعمة‏}‏ أي جليلة أو حقيرة ‏{‏فمن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء وحده لا من غيره‏.‏

ولما كان إخلاصهم له- مع ادعائهم ألوهية غيره- أمراً مستبعداً، عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا مسكم‏}‏ أي أدنى مس ‏{‏الضر‏}‏ بزوال نعمة مما أنعم به عليكم ‏{‏فإليه‏}‏ أي وحده ‏{‏تجأرون *‏}‏ أي تعرفون أصواتكم بالاستعانة لما ركز في فطركم الأولية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما كان الرجوع إلى الإشراك بعد الإخلاص مستبعداً أيضاً لاستهجانهم سرعة الاستحالة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا كشف‏}‏ سبحانه عما تشركون ‏{‏الضر‏}‏ أي الذي مسكم ‏{‏عنكم‏}‏ ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا فريق‏}‏ أي جماعة هم أهل فرقة وضلال ‏{‏منكم‏}‏ أيها العباد‏!‏ ‏{‏بربهم‏}‏ الذي تفرد بالإنعام عليهم ‏{‏يشركون *‏}‏ أي يوقعون الإشراك به بعبادة غيره تغيراً منهم عما كانوا عليه عند الاستغاثة به في الشدة، فكان منطبقاً عليهم ما ضربوا المثل بكراهته بقولهم‏:‏

وإذا تكون كريهة أُدعى لها *** وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وهذا أجهل الجهل‏.‏

ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير بالأمور- كما يدعونه لأنفسهم- أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال‏:‏ ‏{‏ليكفروا‏}‏ أي يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم ‏{‏بما ءاتينهم‏}‏ أي من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا، لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم ‏{‏فتمتعوا‏}‏ أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً‏:‏ تمتعوا ‏{‏فسوف‏}‏ أي فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً‏:‏ سوف ‏{‏تعلمون *‏}‏ غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب‏.‏

ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم فقال عاطفاً على قوله تعالى ‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم‏}‏‏:‏ ‏{‏ويجعلون‏}‏ أي على سبيل التكرير ‏{‏لما لا يعلمون‏}‏ مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى ‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏نصيباً مما رزقناهم‏}‏ بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه- وهو أقرب- على ‏{‏يشركون‏}‏ فيكون داخلاً في حيز «إذا» أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتاً مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لتسئلن‏}‏ يوم الجمع ‏{‏عما كنتم‏}‏ أي كوناً هو في جبلاتكم ‏{‏تفترون *‏}‏ أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته‏.‏

ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يجعلون لله‏}‏ أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام‏.‏ ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله‏:‏ ‏{‏البنات‏}‏ فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجباً من وقوعه من عاقل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏‏.‏

ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال‏:‏ ‏{‏ولهم ما يشتهون *‏}‏ من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ أي جعلوا كذا والحال أنه إذا ‏{‏بشر أحدهم‏}‏ ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بالأنثى‏}‏ أي قابل هذه البشرى التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله- بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً بأن ‏{‏ظل وجهه‏}‏ وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مسوداً‏}‏ أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ «ظل» الذي معناه العمل نهاراً وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً ‏{‏وهو كظيم *‏}‏ ممتلئ غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة‏:‏ الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 61‏]‏

‏{‏يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يتوارى‏}‏ أي يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء لا اطلاع لأحد عليه ‏{‏من القوم‏}‏ أي الرجال الذين هو فيهم ‏{‏من سوء ما بشر به‏}‏ لعده له خزياً، ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيمسكه على هون‏}‏ أي ذلك وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أم يدسه في التراب‏}‏ قال ابن ميلق‏:‏ قال المفسرون‏:‏ كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفيرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكراً أظهرته، وظهر السرور أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمر بإلقائها في الحفيرة ورد التراب عليها وهي حية لتموت- انتهى‏.‏ قالوا‏:‏ وكان الوأد في مضر وخزاعة وتميم‏.‏

ولما كان حكمهم هذا بالغاً في القباحة، وصفه بما يستحقه فقال مؤكداً لقبحه‏:‏ ‏{‏ألا ساء ما يحكمون *‏}‏ أي بجعل ما يكرهونه لمولاهم الذي لا نعمة عندهم إلا منه، وجعل ما يختارونه لهم خاصاً بهم‏.‏

ولما كان شرح هذا أنهم تكلموا بالباطل في جانبه تعالى وجانبهم، بين ما هو الحق في هذا المقام، فقال تعالى على تقدير الجواب لمن كأنه قال‏:‏ فما يقال في ذلك‏؟‏ مظهراً في موضع الإضمار، تنبيهاً على الوصف الذي أوجب الإقدام على الأباطيل من غير خوف‏:‏ ‏{‏للذين لا يؤمنون‏}‏ أي لا يوجدون الإيمان أصلاً ‏{‏بالآخرة مثل‏}‏ أي حديث ‏{‏السوء‏}‏ من الضعف والحاجة والذل والرعونة ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏المثل‏}‏ أي الحديث أو المقدار أو الوصف أو القياس ‏{‏الأعلى‏}‏ من الغنى والقوة وجميع صفات الكمال بحيث لا يلحقه حاجة ولا ضعف ولا شائبة نقص أصلاً، وأعدل العبارات عن ذلك لا إله إلا الله، ويتأتى تنزيل المثل على الحقيقة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في سورة الروم‏.‏

ولما كان أمره سبحانه وتعالى أجل مما تدركه العقول، وتصل إليه الأفهام، أشار إلى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ لا غيره ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له ‏{‏الحكيم *‏}‏ الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله، فلو عاملهم بما يستحقونه من هذه العظائم التي تقدمت عنهم لأخلى الأرض منهم ‏{‏ولو يؤاخذ الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ‏{‏الناس‏}‏ كلهم‏.‏

ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم- الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه- شديد المنافاة لها، وكان الشرك- الذي هذا سياقه- أظلم الظلم، قال معبراً بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل ولما هم منطوون وهو وصف لهم ولم يباشروه إلى الآن بالفعل قال‏:‏ ‏{‏بظلمهم‏}‏ أي يعاملهم معاملة الناظر لخصمه المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة لأن دلالتها على المناقشة أبلغ ‏{‏ما ترك‏}‏ ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض سواء كان على الظهر أو في البطن مغموراً بالماء أو لا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عليها‏}‏ أي الأرض المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من دآبة‏}‏ أي نفس تدب على وجه الأرض، لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام ‏{‏ولكن‏}‏ لا يفعل بهم ذلك فهو ‏{‏يؤخرهم‏}‏ إمهالاً بحكمته وحلمه ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ ضربه لهم في الأزل‏.‏

ولما قطع العلم بالغاية عما يكون، سبب عن ذلك الإعلام بما يكون فيه فقال‏:‏ ‏{‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ الذي حكم بأخذهم عنده ‏{‏لا يستأخرون‏}‏ أي عنه ‏{‏ساعة‏}‏ أي وقتاً هو عام التعارف بينكم، ثم عطف على جملة الشرط من أولها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يستقدمون *‏}‏ أي عن الأجل شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون لله‏}‏ أي وهو الملك الأعظم ‏{‏ما يكرهون‏}‏ أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال‏:‏ ‏{‏وتصف‏}‏ أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولاً لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال‏:‏ ‏{‏ألسنتهم‏}‏ أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل ‏{‏الكذب‏}‏ ثم بينه بقوله‏:‏ ‏{‏أن لهم الحسنى‏}‏ أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل‏:‏ فما لهم عنده‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ أي لا ظن ولا تردد في ‏{‏أن لهم النار‏}‏ التي هي جزاء الظالمين ‏{‏وأنهم مفرطون *‏}‏ أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني‏:‏ متروكون فيها، من قول العرب‏:‏ ما أفرطت ورائي أحداً، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله‏.‏ ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون‏:‏ إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديداً، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تالله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏لقد أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، رسلاً من الماضين ‏{‏إلى إمم‏}‏ ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ كما أرسلناك إلى هؤلاء ‏{‏فزين لهم الشيطان‏}‏ أي المحترق بالغضب‏.‏ المطرود باللعنة ‏{‏أعمالهم‏}‏ كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم ‏{‏فهو‏}‏ لا غيره ‏{‏وليهم اليوم‏}‏ بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم ‏{‏ولهم عذاب أليم *‏}‏ فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه‏.‏

ولما كان حاصل ما مضى الخلاف والضلال والنقمة، كان كأنه قيل‏:‏ فبين لهم وخوفهم ليرجعوا، فإنا ما أرسلناك إلا لذلك ‏{‏وما أنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة من جهة العلو ‏{‏عليك الكتاب‏}‏ أي الجامع لكل هدى‏.‏ ولما كان في سياق الدعاء والبيان عبر بما يقتضي الإيجاب فقال‏:‏ ‏{‏إلا لتبين‏}‏ أي غاية البيان ‏{‏لهم‏}‏ أي لمن أرسلت إليهم وهم الخلق كافة ‏{‏الذي اختلفوا فيه‏}‏ من جميع الأمور ديناً ودنيا لكونك أغزرهم علماً وأثقبهم فهماً، وعطف على موضع «لتبين» ما هو فعل المنزل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي بياناً شافياً ‏{‏ورحمة‏}‏ أي وإكراماً بمحبة‏.‏

ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم يؤمنون *‏}‏ والتبيين‏:‏ معنى يؤدي إلى العلم بالشيء منفصلاً عن غيره، وقد يكون عن المعنى نفسه، وقد يكون عن صحته، والبرهان لا يكون إلا عن صحته فهو أخص، والاختلاف‏:‏ ذهاب كل إلى غير جهة صاحبه، والهدى‏:‏ بيان طريق العلم المؤدي إلى الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة‏:‏ الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاخيتار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله‏:‏ ‏{‏والله يعلم ما تسرون وما تعلنون‏}‏ قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏أنزل من السماء‏}‏ في الوقت الذي يريده ‏{‏ماء‏}‏ بالمطر والثلج والبرد ‏{‏فأحيا به الأرض‏}‏ الغبراء‏.‏ ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار لأن المعنى به أبلغ فقال‏:‏ ‏{‏بعد موتها‏}‏ باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً‏.‏

ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع، قال تعالى ‏{‏إن في ذلك‏}‏ الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم ‏{‏لآية لقوم يسمعون *‏}‏ هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده فيحيي به أجساد العباد بعد موتها كما أحيى أجساد النبات بالماء بعد موتها وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها، والحاصل ان هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل، فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، ولعله لم يختمها ب «يبصرون» لئلا يظن أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح‏.‏

ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور، المحتوية على عجائب المقدور، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم، فقال‏:‏ ‏{‏وإن لكم‏}‏ أي أيها المخاطبون المغمورون في النعم‏!‏ ‏{‏في الأنعام‏}‏ ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل إلى العلم قال‏:‏ ‏{‏لعبرة‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ما هي‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏نسقيكم‏}‏ بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه- إذا أعد له ما يشربه دائماً من نهر أو لبن وغيرهما، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة‏:‏ من سقاه- إذا ناوله شيئاً فشربه‏.‏

ولما كان الأنعام اسم جمع، فكان مفرداً كما نقل ذلك سيبويه، وذكر المسقي وهو اللبن، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم فتعينت إرادة الإناث لذلك، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مما‏}‏ أي من بعض الذي ‏{‏في بطونه‏}‏ فذكر الضمير لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون‏.‏

ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بين فرث‏}‏ وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً ‏{‏ودم لبناً خالصاً‏}‏ من مخالط منهما أو من غيرهما يبغي عليه بلون أو رائحة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً‏.‏ والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش‏.‏ ‏{‏سائغاً‏}‏ أي سهل المرور في الحقل ‏{‏للشاربين *‏}‏ ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب «نسقيكم» ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب‏}‏‏.‏

ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم يه أصلاً، أسند الأمر إليهم وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر وتوطئة للنهي عنه في قوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏تتخذون‏}‏ أي باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة كان لا بد من قوله‏:‏ ‏{‏منه‏}‏ أي من مائه، وعبر عن السكر بالمصدر إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين وهو المحرك، يقال‏:‏ سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سكراً‏}‏ أي ذا سكر منشّياً مطرباً سادّاً لمجاري العقل قبيحاً غير مستحسن للرزق ‏{‏ورزقاً حسناً‏}‏ لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل الذي لا أحسن منه فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني‏:‏ قيل‏:‏ السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن‏:‏ ما أحل منه- عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم‏.‏ والسكر في اللغة على أربعة أوجه‏:‏ الأول ما أسكر‏.‏ الثاني ما أطعم من الطعام‏.‏ الثالث السكون‏.‏ الرابع المصدر من السكر، وأصله انسداد المجاري مما يلقي فيها، ومنه السكر- يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال‏:‏ إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري يفهم كراهته عندما كان حلالاً؛ والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر السكر أولاً دال على الفتح ثانياً، وذكر الحسن دال القبيح أولاً، فالآية أدل ما في القرآن على المعتزلة في أن الرزق يطلق على الحرام، ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار جمعهما سبحانه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من هذه المنافع ‏{‏لآية‏}‏ ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم يعقلون *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ولما كان أمر النحل في الدلالة على تمام القدرة وكمال الحكمة أعجب مما تقدم وأنفس، ثلث به وأخره لأنه أقل الثلاثة عندهم، وغير الأسلوب وجعله من وحيه إيماء إلى ما فيه من غريب الأمر وبديع الشأن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى ربك‏}‏ أي المحسن إليك بجعل العسل في مفاوز البراري المقفرة المفرطة المرارة وغيرها من الأماكن وبغير ذلك من المنافع، الدال على الفعل بالاختيار وتمام الاقتدار ‏{‏إلى النحل‏}‏ أي بالإلهام؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ فالله تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فبعضها بالتسخير المجرد كالجمادات، وبعضها بالإلهام والتسخير كالنحل والسرفة- أي بضم وسكون، وهي دويبة تتخذ بيتاً من دقاق العيدان فتدخله وتموت- والعنكبوت، وبعضها بالتسخير والإلهام والعقل المتفق على نظام واحد كالملائكة، وبعضها بكل ذلك والفكر والتمييز والأعمال المختلفة المبنية على الفكر كالإنسان‏.‏

ولما كان في الإيحاء معنى القول، أتى ب «أن» المفسرة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أن اتخذي‏}‏ أي افعلي ما يفعله المتكلف من أن يأخذ ‏{‏من الجبال بيوتاً‏}‏ أيّ بيوت‏!‏ ما أعجبها‏!‏ ‏{‏ومن الشجر‏}‏ أي الصالحة لذلك في الغياض والجبال والصحارى ‏{‏ومما يعرشون *‏}‏ أي يرفع الناس من السقوف والجدران وغيرها، وبدأ بالبيوت لأنها من عجب الدهر في حسن الصنعة وبداعة الشكل وبراعة الإحكام وتمام التناسب‏.‏

ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كلي‏}‏ وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ قالوا‏:‏ من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم‏:‏ من نفس الأزهار والأوراق‏.‏

ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسلكي‏}‏ أي فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه ‏{‏سبل ربك‏}‏ أي المحسن إليك بهذه التربية العظيمة لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل ‏{‏ذللاً‏}‏ أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى ‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 15‏]‏ وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك؛ ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ماذا يكون عن هذا كله‏؟‏ فقال تعالى‏:‏- ‏{‏يخرج من بطونها‏}‏- بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة ‏{‏شراب‏}‏ أيّ شراب‏!‏ وهو العسل لأنه مع كونه من أجلّ المآكل هو «مما يشرب» ‏{‏مختلف ألوانه‏}‏ من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيه‏}‏ أي مع كونه من الثمار النافعة والضارة ‏{‏شفاء للناس‏}‏ قال الإمام الرازي في اللوامع‏:‏ إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي‏:‏ إنما كان ذلك لأنها ذلت لله مطيعة وأكلت من كل الثمرات‏:‏ حلوها ومرها محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة- انتهى‏.‏

وكونه شفاء- مع ما ذكر- أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من أمرها كله ‏{‏لآية‏}‏ وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم يتفكرون *‏}‏ أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الاجزاء اللطيفة من أطراف الأشجار والأوراق- وغير ذلك من الغرائب حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها‏.‏

وقد جعل الإمام الرباني أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح لذلك باباً بعد أن جعل أسنان الألباب مثل أسنان الأجساد ما بين تمييز واحتلام وشباب وكهولة وغيرها كما تقدم نقله عنه في سورة براءة عند قوله تعالى ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي‏}‏ ‏[‏براءة‏:‏ 61‏]‏ فقال‏:‏ الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن- أي فإن لذلك مراتب في العلم والأفهام-‏:‏ اعلم أن الآيات والأحوال تضاف وتتسق لمن اتصف بما به أدرك معناها، ويؤنب عليها من تقاصر عنها، وينفي منالها عمن لم يصل إليها، وهي أطوار أظهرها آيات الاعتبار البادية لأولي الأبصار، لأن الخلق كله إنما هو عَلَم للاعتبار منه، لا أنه موجود للاقتناع به ‏{‏ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7-8‏]‏ اتخذوا ما خلق للعبرة به إلى ربه كسباً لأنفسهم حتى صار عندهم وعند أتباعهم آيتهم، لا آية خالقه ‏{‏أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 128‏]‏، ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ثم يلي آيات الاعتبار ما ينال إدراك آيته العقل الأدنى ببداهة نظره ‏{‏وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 12‏]‏ جمع الآيات لتعدد وجوهها في مقصد البيان، ثم يلي ما يدرك ببداهة العقل ما يحتاج إلى فكر يثيره العقل الأدنى لشغل الحواس بمنفعته عن التفكر في وجه آيته

‏{‏هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 10‏]‏ أفرد الآية لاستناد كثرته إلى وحدة الماء ابتداء ووحدة الانتفاع انتهاء؛ ثم يلي ما يدرك بفكر العقل الأدنى ما يقبل بالإيمان ويكون آية أمر قائم على خلق، وهو مما يدرك سمعاً لأن الخلق مرئي والأمر مسموع ‏{‏وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 63-64-65‏]‏ هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أخذ سمعاً عند تقرر الإيمان، وعند هذا الحد يتناهى العقل إلى فطرة الأشد وتعلو بداهته وتترقى فطره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر لأن محار غيب الكون يرد إلى وجدان نقص الناظر، وكما أن الماء آية حياة القلوب صار الشرابان‏:‏ اللبن والخمر، آيتين على أحوال تخص القلوب بما يغذوها من الله غذاء اللبن وينشيها نشوة السكر، منبعثاً من بين فرث ودم ونزول الخلق المقام عن الأمر القائم عليه ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة‏}‏- الآيتين إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يعقلون‏}‏ وهذا العقل الأعلى، وأفرد الآية لانفراد موردها في وجد القلب، وكما للعقل الأدنى فكرة تنبئ عن بداهته فكذلك للعقل الأعلى فكرة تنبئ عن عليّ فطرته ‏{‏وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر- إلى قوله‏:‏ لآية لقوم يتفكرون‏}‏ وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي عنه يكون التذكر بالأدنى من الخلق لللأعلى من الأمر ‏{‏وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 13‏]‏ وفي مقابلة كل من هذه الأوصاف أضداد يرد البيان فيها بحسب مقابلتها، وكذلك حكم وصف المسلمين فيها يظهر أن «لا أنجى للعبد من إسلامه نفسه لربه» ووصف المحسنين فيما يظهر قيام ظاهر حسه ‏{‏آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1‏]‏ من استغنى بما عنده من وجدٍ لم يتفرغ لقبول غيب ‏{‏يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏، ‏{‏إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏، ‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه‏}‏، ‏{‏ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين‏}‏ «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» ‏{‏وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ ولجملة هذه الأوصاف أيضاً أضداد يرد بيان القرآن فيها بحسب تقابلها ويجري معها إفهامه، وما أوصله خفاء المسمع والمرأى إلى القلب هو فقهه، ومن فقد ذلك وصف سمعه بالصمم وعينه بالعمى، ونفى الفقه عن قلبه، ونسب إلى البهيمية، ومن لم تنل فكرته أعلام ما غاب عيانه نفي عنه العلم

‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 101‏]‏، ‏{‏لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏، ‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏-إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن المنافقين لا يعلمون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏، ‏{‏يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا‏}‏- الآية إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن المنافقين لا يفقهون‏}‏ نفي العلم فيما ظهرت أعلامه والفقه فيما خفي أمره، ومراد البيان عن أضدادها هذه الأوصاف بحسب تقابلها، وهذا الباب لمن يستفتحه من أنفع فواتح الفهم في القرآن- انتهى‏.‏