فصل: تفسير الآيات رقم (47- 55)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 55‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

ولما كانوا ربما ادعوا السمع والفهم فشككوا بعض من لم يرسخ إيمانه-، أتبعه تعالى ما يؤكد ما مضى ويثبت السامعين فيه فقال تعالى على طريقة الجواب مهدداً ودالاً على أن مداركهم معروفة‏:‏ ‏{‏نحن أعلم‏}‏ أي من كل عالم ‏{‏بما يستمعون‏}‏ أي يبالغون في الإصغاء والميل لقصد السمع ‏{‏به‏}‏ من الآذان والقلوب، أو بسببه من إرادة الوقوع على سقطة يجعلونها موضع تكذيبهم واستهزائهم ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏يستمعون‏}‏ أي يصغون بجهدهم، وبين بعدهم المعنوي بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إليك وإذ‏}‏ أي وحين ‏{‏هم‏}‏ ذوو ‏{‏نجوى‏}‏ أي يتناجون بأن يرفع كل منهم سره على صاحبه بعد إعراضهم عن الاستماع‏:‏ ثم ذكر ظرف النجوى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ يقول‏}‏ مبرزاً لضميرهم بالوصف الدال على حملهم على ما تناجوا به، وهم ‏{‏الظالمون‏}‏ ومقولهم‏:‏ ‏{‏إن تتبعون‏}‏ أي أيها التابعون له بغاية جهدكم ‏{‏إلا رجلاً مسحوراً *‏}‏ مختلط العقل، فامتطوا في هذا الوصف ذروة الظلم، وسيأتي في آخر السورة سر استعمال اسم المفعول موضع اسم الفاعل؛ ثم وصل بذلك الدليل على نسبته سبحانه لهم إلى الجهل الذي كان نتيجة قولهم هذا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏انظر‏}‏ ولما كان أمرهم بما يزيد العجب منه وتتوفر الدواعي على السؤال عنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏كيف ضربوا‏}‏ أي هؤلاء الضلال ‏{‏لك الأمثال‏}‏ التي هي أبعد شيء عن صفتك من قولهم‏:‏ ساحر وشاعر ومجنون ونحوه ‏{‏فضلوا‏}‏ عن الحق في جميع ذلك ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن ضلالهم أنهم لا ‏{‏يستطيعون سبيلاً *‏}‏ أي يسلكون فيه، إلى إصابة المحن في مثل، أو إحكام الأمر في عمل، وهذا بعد أن نهاهم الله بقوله تعالى ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 74‏]‏ فكأن هذا أول دليل على ما وصفناهم به من عدم الفهم والسمع فضلاً عن أن يكون لهم إلى مقاومة هذا القرآن- الذي يدعون أنه قول البشر- سبيل أو يغبروا في وجهه بشبهة فضلاً عن دليل‏.‏

ولما جرت عادة القرآن بإثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وقدم الدلالة على الأولين، وختم بإثبات جهلهم في النبوة مع ظهورها، أتبع ذلك أمراً جلياً في ضلالهم عن السبيل في أمر المعاد وقرره غاية التقرير، وحرره أتم تحرير، فقال تعالى معجباً منهم‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي المشركون المنكرون للتوحيد والنبوة والبعث مع اعترافهم بأنا ابتدأنا خلقهم ومشاهدتهم في كل وقت أنا نحيي الأرض بعد موتها‏:‏ ‏{‏أإذا‏}‏ استفهاماً إنكارياً كأنهم على ثقة من عدم ما ينكرونه، والعامل في ‏{‏إذا‏}‏ فعل من لفظ ‏{‏مبعوثون‏}‏ لا هو‏.‏ فإن ما بعد ‏{‏إن‏}‏ لا يعمل فيما قبلها‏.‏ فالمعنى‏:‏ أنبعث إذا ‏{‏كنا‏}‏ أي بجملة أجسامنا كوناً لازماً ‏{‏عظاماً ورفاتاً‏}‏ أي حطاماً مكسراً مفتتاً وغباراً ‏{‏إنا لمبعوثون‏}‏ حال كوننا مخلوقين ‏{‏خلقاً جديداً *‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فماذا يقال لهم في الجواب‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ لا تكونوا رفاتاً، بل ‏{‏كونوا‏}‏ تراباً، بل كونوا أصلب التراب ‏{‏حجارة‏}‏ أي هي في غاية اليبس ‏{‏أو حديداً *‏}‏ زاد على يبس الحجارة شدة اتصال الأجزاء ‏{‏أو خلقاً‏}‏ غيرهما ‏{‏مما يكبر‏}‏ أي يعظم عظمة كبيرة ‏{‏في صدوركم‏}‏ عن قبول الحياة ولو أنه الموت، حتى تعلموا حال الإعادة، كيف يكون حالكم في الإجابة إلى ما يريد‏؟‏ فإن الكل أصله التراب، فالذي فضل طينكم- الذي خلقتم منه على سائر الطين بالنمو ثم بالحياة ثم بالنطق وفضل بعض الناطقين على بعض بمواهب لا تحصى- قادر أن ينقل تلك الفضيلة إلى الطين الذي نقله طوراً بعد طور إلى أن جعله حجراً أو حديداً ‏{‏فسيقولون‏}‏ تمادياً في الاستهزاء‏:‏ ‏{‏من يعيدنا‏}‏ إذا كنا كذلك ‏{‏قل الذي فطركم‏}‏ أي ابتدأ خلقكم ‏{‏أول مرة‏}‏ ولم تكونوا شيئاً يعيدكم بالقدرة التي ابتدأكم بها، فكما لم تعجز تلك القدرة عن البداءة فهي لا تعجز عن الإعادة ‏{‏فسينغضون‏}‏ أي مصوبين بوعد لا خلف فيه مشيرين ‏{‏إليك رؤوسهم‏}‏ أي يحركونها من شدة التعجب والاستهزاء كأنهم في شدة جهلهم على غاية البصيرة من العلم بما يقولون؛ والنغض والإنغاض‏:‏ تحريك بارتفاع وانخفاض ‏{‏ويقولون‏}‏ استهزاء‏:‏ ‏{‏متى هو‏}‏ ثم وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ قول مقتصد غير ممتعض بحالهم ولا ضيق بقولهم‏:‏ ‏{‏عسى أن يكون‏}‏ أي كوناً لا انفكاك عنه ‏{‏قريباً *‏}‏ مطرقاً إليه الاحتمال لإمكانه غير جازم، ثم استأنف جازماً بقوله‏:‏ ‏{‏يوم‏}‏ أي يكون ذلك يوم ‏{‏يدعوكم‏}‏ أي يناديكم المنادي من قبله بالنفخة أو بغيرها كأن يقول‏:‏ يا أهل القبور‏!‏ قوموا إلى الجزاء- أو نحو ذلك ‏{‏فتستجيبون‏}‏ أي توافقون الداعي فتفعلون ما أراد بدعائه وتطلبون إجابته وتوجدونها، أو استعار الدعاء والاستجابة للبعث والانبعاث تنبيهاً على سرعتهما وتيسر أمرهما، أو أن القصد بهما الإحضار للحساب ‏{‏بحمده‏}‏ أي بإحاطته سبحانه بكل شيء قدرة وعلماً من غير تخلف أصلاً، بل لغاية الإذعان كما يرشد إليه صيغة استفعل، وأنتم مع سرعة الإجابة تحمدون الله تعالى، أي تثبتون له صفة الكمال ‏{‏وتظنون‏}‏ مع استجابتكم وطول لبثكم ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏لبثتم‏}‏ ميتين ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ لشدة ما ترون من ‏[‏الأهوال التي أحاطت بكم والتي تستقبلكم، أو جهلاً منكم بحقائق الأمور كما هي حالكم اليوم كما ترون من- جدة خلقكم وعدم تغيره‏.‏

ولما أمره سبحانه بإبلاغهم هذا الكلام، وفيه من التهكم بهم والتبكيت لهم والاستخفاف بعقولهم ما لا يعلم مقداره إلا مثلهم من البلغاء والعرب العرباء، وكان لكونه كلام العليم بالعواقب، الخبير بما تجن الضمائر- ربما استن به المؤمنون فخاطبوهم بنحوه من عند أنفسهم، نهاهم عن ذلك لئلا يقولوا ما يهيج شراً أو تثير ضراً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ أي قل لهم ذلك من الحكمة والموعظة الحسنة، وقل ‏{‏لعبادي‏}‏ أي الذين هم أهل للإضافة إليّ، واعظاً لهم لئلا يتجاوزوا الحد من شدة غيظهم من المشركين، إن تقل لهم ذلك ‏{‏يقولوا‏}‏ الموعظة والحكمة والمجادلة ‏{‏التي هي أحسن‏}‏ لأكون معهم لأني مع الذين اتقوا والذين هم محسنون؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشيطان‏}‏ أي البعيد من الرحمة، المحترق باللعنة ‏{‏ينزغ بينهم‏}‏ أي يفسد ويغري ويوسوس، وأصل النزغ الطعن، وهم غير معصومين، فيوشك أن يأتوا بما لا يناسب الحال أو الوقت بأن يذكروا مساوئ غيرهم أو محاسن أنفسهم فيوقع في شر؛ ثم علل هذه العلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشيطان كان‏}‏ أي في قديم الزمان وأصل الطبع كوناً هو مجبول عليه ‏{‏للإنسان عدواً‏}‏ أي بليغ العداوة ‏{‏مبيناً *‏}‏ ثم فسر «التي هي أحسن» مما علمهم ربهم من النصفة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ ثم استأنف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشأ‏}‏ رحمتكم ‏{‏يرحمكم‏}‏ بأن ييسر لكم أفعال الخير ‏{‏أو إن يشأ‏}‏ عذابكم ‏{‏يعذبكم‏}‏ بأن ييسركم لأفعال الشر، فإذا قالوا لهم ذلك كانوا جديرين بأن يعرضوا- أو من أراد الله منهم- أفعالهم على ما يعلمونه من الخير والشر فينظروا أيهما أقرب إليها، وربما ردهم ذلك من أنفسهم عن الفساد، لحسم مادة العناد، ويجوز- وهو- عندي أحسن- أن تكون الآية استئنافاً واقعاً موقع التعليل للأمر بقول الأحسن، أي ‏{‏ربكم‏}‏ أيها العباد ‏{‏أعلم بكم‏}‏ وبما يؤول أمركم إليه من سعادة وشقاوة ‏{‏إن يشأ يرحمكم‏}‏ بهدايتكم ‏{‏أو إن يشأ يعذبكم‏}‏ بإضلالكم، فلا تحتقروا أيها المؤمنون المشركين فتقطعوا بأنهم من أهل النار فتعيروهم بذلك، فإنه يجر إلى الإحن وحر الصدور وغيظ القلوب بلا فائدة، لأن الخاتمة مجهولة، ولا تتجاوزوا فيهم ما آمركم به من قول وفعل فإنه الأحسن؛ ثم رقى الخطاب إلى أعلى الخلق ورأس أهل الشرع ليكون من دونه أولى بالمعنيّ منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما‏}‏ أي فما أرسلناك إلا للدعاء بمثل ذلك على حسب ما نأمرك به، وما ‏{‏أرسلناك‏}‏ أي مع ما لنا من العظمة الغنية عن كل شيء ‏{‏عليهم وكيلاً *‏}‏ أي حفيظاً وكفيلاً لغيرهم على ما يرضي الله، وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارهم وأمر أصحابك بمداراتهم‏.‏

ولما أمرهم بأن ينسبوا الأعلمية بهم إليه سبحانه، أخبر بما هو أعم من ذلك فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏ربكم‏}‏ إعلاماً بأن علمه ليس مقصوراً عليهم، بل هو محيط، قاصراً الخطاب على أعلم الخلق به سبحانه إشارة إلى أنه لا يعلم هذا حق علمه غيره‏:‏ ‏{‏وربك‏}‏ أي المحسن إليك بأن جعلك أكمل الخلق ‏{‏أعلم‏}‏ أي من كل عالم ‏{‏بمن في السماوات‏}‏ أي كلها ‏{‏والأرض‏}‏ منهم ومن غيرهم، بأحوالهم ومقاديرهم وآجالهم وما يستأهل كل واحد منهم، لأنه هو الذي خلقهم وفاوت بينهم في أخلاقهم وهيئاتهم فكيف يستبعدون أن يكون يتيم أبي طالب- على ما كانوا يقولون- نبياً، وأن يكون أصحابه العراة الجياع أفضل منهم‏.‏

ولما كان قد فهم من هذا السياق تفضيل بعض الأشياء على بعض حتى تصير قابلة الروح الحياة بدءاً وإعادة، بعد أن فهم من أول السورة وآخر التي قبلها اختصاص بعض الأنبياء بفضائل من روح العلم والحكمة لم يحزها غيره، صرح بهذا هنا فقال تعالى عطفاً على ما أرشد إليه سياق الإخبار بالأعلمية، ملتفتاً إلى مقام العظمة الداعي إليه الحال، وهو الوصف بالأعلمية‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ أي فميزنا بينهم بالرذائل والفضائل تفضيلاً لبعضهم على بعض على حسب إحاطة علمنا بهم وشمول قدرتنا لهم في تأهلهم للسعادة والشقاوة ففضلنا بعض الناس على بعض، ففضلنا العلماء على غيرهم، وفضلنا النبيين منهم على غيرهم، ولقد ‏{‏فضلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بعض النبيّن‏}‏ أي سواء كانوا رسلاً أو لا ‏{‏على بعض‏}‏ بعد أن جعلنا الكل فضلاء لتقوى كل منهم وإحسانه، فلا ينكر أحد من العرب أو بني إسرائيل أو غيرهم تفضيلنا لهذا النبي الكريم الذي صدرنا السورة بتفضيله على جميع الخلائق، فإنا نفعل ما نشاء، بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل، والحاصل أن من أعظم ثمرات العمل التفضيل بإعطاء كل واحد بل كل شيء ما يستحقه، وبذلك يستدل على تمام- حكمته في شمول علمه وكمال قدرته، فلذلك ذكر التفضيل هنا بعد ذكر العلم المطلق، وصرح بتفضيل أشرف الخلائق وطوى ذكر غيرهم، كما ذكر التفضيل في الدنيا بعد إثبات العلم المقيد بالذنوب في قوله‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة- إلى قوله تعالى‏:‏ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏‏.‏

ولما كان القصد إلى بني إسرائيل في هذه السورة سابقها ولاحقها ظاهراً، والتعريض بهم في كثير منها بيناً، وكان داود عليه السلام هو المؤسس للمسجد الأقصى الذي وقع الإسراء إليه، وكان قد خص بأن ألين له الحديد الذي أمر المشركون أن يكونوه، لاستبعادهم الإعادة، وكان- مع كونه ملكاً- من أشد الناس تواضعاً، وأكثرهم بكاء، وأبعدهم من المرح في الأرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وءاتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏داود‏}‏ أي الذي هو من أتباع موسى الذي آتيناه الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً ‏{‏زبوراً *‏}‏ لأنهم قاطعون بأن من بين موسى وعيسى من أنبياء بني إسرائيل دون موسى في الرتبة، وكل منهم داعٍ إلى شريعته، عامل بحكم التوراة التي شرفه الله بها، غير خارج عن شيء من سنتها، فكان القياس يقتضي أن يكونوا في الفضيلة سواء، فلم يجر ذلك على مقتضى عقول الناس، بل فاوت سبحانه بينهم على حسب علمه بأحوالهم حتى في الوحي، فخص من بينهم داود عليه السلام بكتاب كله مواعظ، والمواعظ أشد شيء منافاة للمشي في الأرض مرحاً، ونهياً عنه، وأعظم شيء أمراً بالقول الذي هو أحسن من الإخلاص والمراقبة والإحسان، هذا إلى ما ذكر فيه من التسبيح من كل شيء الذي هو من أعظم مقاصد السورة كما تقدم نص الزبور به قريباً، فكان ذكر تفضيله به هنا أنسب شيء لهذا المقام، وفي ذلك أعظم إشارة وأجل تنبيه على فضل بيت المقدس الذي جعله سبباً لتفضيل الأنبياء تارة بالهجرة إليه كإبراهيم عليه السلام وتارة بقصد تطهيره من الشرك وتنويره بالتوحيد كموسى عليه السلام، وتارة بتأسيس بنيانه وتشييد أركانه كداود عليه السلام، وتارة بالإسراء إليه والإمامة بالأنبياء عليهم السلام به والعروج منه إلى سدرة المنتهى والمقام الأعلى، وأما تفضيله وتفضيل ابنه سليمان- على نبينا محمد وعليهما الصلاة والسلام- بالملك وسعة الأمر فدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ وروى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ خفف على داود القراءة فكان يأمر بدوابه لتسرج، فكان يقرأ قبل أن يفرغ- يعني القرآن، ومن أعظم المناسبات لتخصيص داود عليه السلام وزبوره بالذكر هنا ذكر البعث الذي هذا مقامه فيه صريحاً، وكذا ذكر النار مع خلو التوراة عن ذلك، أما البعث فلا ذكر له فيها أصلاً، وأما النار فلم يذكر شيء مما يدل عليها إلا الجحيم في موضع واحد، وأما الزبور فذكر فيه النار والهاوية والجحيم في غير موضع، وأما البعث فصرح به، وهو ظاهر في كونه بالروح والجسد، قال في المزمور الثالث بعد المائة‏:‏ نفسي تبارك الرب، الرب إلهي عظيم جداً، لبس المجد، وعظيم البهاء، وتجلل بالنور كالرداء، ومد السماء كالخباء، جعل الماء أساسها، واستوى على السحاب، ومشى على أجنحة الرياح، خلق ملائكته أرواحاً وخدمه ناراً واقدة، وتجلل بالغمر كالرداء، وعلى الجبال تقف المياه، ومن رجزك قهرت، ومن صوت رعدك تجزع الجبال عالية، والبقاع منهبطة في الأماكن التي أسست، جعلت حداً لا تتجاوزه، لا تعود تغطي الأرض، أرسل الماء عيوناً في الأودية، وبين الجبال تجري المياه لتسقي حيوان البر، وتروي عطاش الوحوش، يقع عليها طائر السماء إلى أن قال‏:‏ وكل بحكمة صنعت، امتلأت الأرض من خليقتك، هذا البحر العظيم السعة فيه حيتان لا تحصى كبار وصغار، وفيه تسلك السفن، وهذا التنين الذي خلقته ليتعجب منه، والكل إياك يرجون لتعطيهم طعامهم في حينه، فإذا أنت أعطيتهم يعيشون، وعند بسط يدك بالطيبات يشبعون، وحين تصرف وجهك يجزعون، تنزع أرواحهم فيموتون، وإلى التراب يرجعون، ترسل روحك فيخلقون، وتجدد وجه الأرض دفعة أخرى، ويكون مجد الرب إلى الأبد- انتهى‏.‏

فكأن ذلك جواب لقول من لعله يقول للعرب من اليهود‏:‏ إن الأمر كما تقولون في أنه لاقيامة- كما يقوله بعض زنادقتهم كما ذكر عنهم في نص الإنجيل وكما نقل عنهم في سورة النساء أنهم قالوا‏:‏ أنتم أهدى سبيلاً، ودينكم خير من دين محمد، وفي الزبور- كما تقدم في أول السورة عن توراة موسى عليه الصلاة والسلام- ألا تتخذوا من دون الله وكيلاً، وذلك من أعظم مقاصد السورة، قال في المزمور الخامس والأربعين بعد المائة‏:‏ لا تتوكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص، فإن أرواحهم تفارقهم ويعودون إلى ترابهم، في ذلك اليوم تبطل أعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما أثبت أن شأنه تعالى فعل ذلك وأمثاله من التفضيل والتحويل على حسب علمه وقدرته، ثبت بغير شبهة أن لا مفزع إلا إليه، فأمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحقيقاً لذلك أن يأمرهم بما يظهر به عجز شركائهم، رداً عليهم في قولهم‏:‏ لسنا بأهل لعبادته استقلالاً، فنحن نعبد بعض المقربين ليشفع لنا عنده، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الذين‏}‏ وأشار إلى ضعف عقولهم وعدم تثبتهم بالتعبير بالزعم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏زعمتم‏}‏ أنهم آلهة؛ وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ أي من سواه كالملائكه وعزير والمسيح والأصنام، ليجلبوا لكم خيراً، أو يدفعوا عنكم ضراً ‏{‏فلا‏}‏ أي فإن دعوتموهم أو لم تدعوهم فإنهم لا ‏{‏يملكون كشف الضر‏}‏ أي البؤس الذي من شأنه أن يرض الجسم كله ‏{‏عنكم‏}‏ حتى لا يدعوا شيئاً منه ‏{‏ولا تحويلاً *‏}‏ له من حالة إلى ما هو أخف منها، فضلاً عن أن يبدلوه بحالة حسنة أو يحولوه إلى عدوكم، والآية نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما يستطيعون صرفاً ولا نصراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 19‏]‏ فكيف يتخذ أحد منهم دوني وكيلاً‏؟‏ قالوا‏:‏ وسبب نزولها شكوى قريش إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما نزل بهم من القحط حين دعا عليهم بسبع كسبع يوسف عليه السلام‏.‏ ولم ينضب ‏{‏يملكون‏}‏ لئلا يظن أن النفي مسبب عن الدعاء فيتقيد به‏.‏

ولما بين أنه لا ضر لهم ولا نفع، بين أنهم يتسابقون إلى القرب إليه رجاء أن ينفعهم وخوف أن يضرهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي الذين أعلوا مراتبهم بالإقبال على طاعة الله، وكان المشركون يعلون مراتبهم بتألههم، وعبر عن ذلك واصفاً للمبتدإ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يدعون‏}‏ أي يدعوهم الكفار ويتألهونهم؛ ثم أخبر عن المبتدإ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبتغون‏}‏ أي يطلبون طلباً عظيماً ‏{‏إلى ربهم‏}‏ المحسن إليهم وحده ‏{‏الوسيلة‏}‏ أي المنزلة والدرجة والقربة بالأعمال الصالحة ‏{‏أيهم أقرب‏}‏ أي يتسابقون بالأعمال مسابقة من يطلب كل منهم أن يكون إليه أقرب ولديه أفضل ‏{‏ويرجون رحمته‏}‏ رغبة فيما عنده ‏{‏ويخافون عذابه‏}‏ تعظيماً لجنابه، المكلف منهم كالملائكة والمسيح وعزير بالفعل، وغيرهم كالأصنام بالقوة من حيث إنه قادر على أن يخلق فيها قوة الإدراك للطاعة والعذاب فتكون كذلك فالعابدون لهم أجدر بأن يعبدوه ويبتغوا إليه الوسيلة؛ وروى البخاري في التفسير عن عبد الله رضي الله عنه ‏{‏إلى ربهم الوسيلة‏}‏ قال‏:‏ كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم‏.‏ ثم علل خوفهم بأمر عام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن عذاب ربك‏}‏ أي المحسن إليك برفع انتقام الاستئصال منه عن أمتك ‏{‏كان‏}‏ أي كوناً ملازماً له ‏{‏محذوراً *‏}‏ أي جديراً بأن يحذر لكل أحد من ملك مقرب ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم، لما شوهد من إهلاكه للقرون ومن صنائعه العظيمة‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ فاحذرونا فإنا أبدنا الأمم السالفة ودمرنا القرى المشيدة، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وما؛ وأعرق في النفي فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من قرية‏}‏ من القرى هذه التي أنتم بها وغيرها ‏{‏إلا نحن‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏مهلكوها‏}‏ بنوع من الهلاك، لما هم عليه من الكفر أو العصيان، وعن مقاتل أنها عامة للصالحة بالموت والطالحة بالعذاب‏.‏

ولما كان الممكن ليس له من ذاته إلا العدم، وذلك مستغرق لزمان القبل، حذف الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قبل يوم القيامة‏}‏ الذي أنتم به مكذبون، كما فعلنا في بيت المقدس في المرتين المذكورتين أول السورة لإفساد أهلها فاحذروا مثل ذلك ‏{‏أو معذبوها‏}‏ أي القرية بعذاب أهلها ‏{‏عذاباً شديداَ‏}‏ مع بقائها‏.‏

ولما أكد ذلك بالاسمية، زاده تأكيداً في جواب من كأنه قال‏:‏ هل في ذلك من ثنيا لأن مثله لا يكاد يصدق‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كان ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم ‏{‏في الكتاب‏}‏ الذي عندنا ‏{‏مسطوراً *‏}‏ على وجه الخبر، والأخبار لا تنسخ، فلو لم يكن حشر كان أمرنا جديراً بأن يمتثل حذراً من سطواتنا، ولا بد من أن نخيفكم بعد طول أمنكم ونهلك كثيراً من أعزائكم على يد هذا الرجل الواحد الذي أنتم كلكم متمالئون عليه مستهينون بأمره، مع أنا أرسلناه لعزكم وعلو ذكركم، ولا بد أن ندخله إلى بلدكم هذا بجنود أولي بأس شديد، لإفسادكم فيه واستهانتكم به كما فعلنا ببني إسرائيل حين أفسدوا في مسجدهم كما تقدم؛ قال الإمام الحافظ أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتاب الفتن‏:‏ حدثنا عبد بن أحمد بن محمد الهروي في كتابه ثنا عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين ثنا محمد بن هارون الحضرمي ثنا علي بن عبد الله التميمي ثنا عبد المنعم بن إدريس قال‏:‏ أخبرنا أبي عن وهب بن منبه قال‏:‏ الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب إرمينية، وإرمينية آمنة من الخراب حتى تخرب مصر، ومصر آمنة من الخراب حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت القسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم، وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من قبل الجوع والسيف، وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحقرهم حتى لا يستطيعوا أن يشربوا من الفرات قطرة، وخراب البصرة من قبل العراق، وخراب الأبلة من قبل عدو يحفزهم مرة براً ومرة بحراً، وخراب الريّ من قبل الديلم، وخراب خراسان من قبل تبت، وخراب تبت من قبل الصين، وخراب الصين من قبل الهند، وخراب اليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من قبل الحبشة، وخراب المدينة من قبل الجوع؛ حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا علي بن محمد بن نصير حدثنا محمد بن خلف أخبرنا سالم بن جنادة أخبرنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «آخر قرية من قرى الإسلام خراباً المدينة» انتهى‏.‏ وقد أخرجه الترمذي من هذا الوجه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما كانت كفار قريش تكرر اقتراحهم للآيات بعد أن اشتد أذاهم، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لشدة حرصه على إيمان كل أحد فكيف بقومه العرب فكيف ببني عمه منهم- ربما أحب أن الله تعالى يجيبهم إلى مقترحهم طمعاً في إيمانهم وإراحة له ولأتباعه من أذاهم، وكان ما رأوه من آية الإسراء أمراً باهراً ثم لم يؤمنوا، بل ارتد بعض من كان آمن منهم، كان المقام في قوة اقتضائه أن يقال بعد ذكر آية العذاب‏:‏ ما لهم لا يعجل عذابهم أو يجابون إلى مقترحاتهم ليقضى الأمر‏؟‏ فيقال في الجواب‏:‏ ما منعنا من تعجيل عذابهم إلا أنا ضربنا لهم أجلاً لا بد من بلوغه ‏{‏وما منعنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ولا يمنعها مانع ‏{‏أن نرسل‏}‏ أي إرسالاً يظهر عظمتنا على وجه العموم ‏{‏بالآيات‏}‏ أي التي اقترحتها قريش، فكان كأنه لا آيات عندهم سواها ‏{‏إلا‏}‏ علمنا في عالم الشهادة بما وقع من ‏{‏أن كذب بها‏}‏ أي المقترحات ‏{‏الأولون‏}‏ وعلمنا في عالم الغيب أن هؤلاء مثل الأولين في أن الشقي منهم لا يؤمن بالمقترحات كما لم يؤمن بغيرها، وأنه يقول فيها ما قال في غيرها من أنها سحر ونحو هذا، والسعيد لا يحتاج في إيمانه إليها، فكم أجبنا أمة إلى مقترحها فما زاد ذلك أهل الضلالة منهم إلا كفراً، فأخذناهم لأن سنتنا جرت أنا لا نمهل بعد الإجابة إلى المقترحات من كذب بها، ونحن قد قضينا برحمة هذه الأمة وتشريفها على الأمم السالفة بعدم استئصالها، لما يخرج من أصلاب كفرتها من خلص عبادنا، والمنع هنا مبالغة مراد بها نفي إجابتهم إلى مقترحاتهم، ولا يجوز أخذه على ظاهره، لأنه وجود ما يتعذر معه وقوع الفعل من القادر عليه، ثم عطف على ما دل عليه المقام وهو‏:‏ فكم أجبنا- إلى آخر ما ذكرته، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وءاتينا‏}‏ أي بما لنا من العزة الباهرة ‏{‏ثمود الناقة‏}‏ حال كونها ‏{‏مبصرة‏}‏ أي مضيئة، جديرة بأن يستبصر بها كل من شاهدها ‏{‏فظلموا بها‏}‏ أي فوقعوا في الظلم الذي هو كالظلام بسببها، بأن لم يؤمنوا ولم يخافوا عاقبتها، وخص آية ثمود بالذكر تحذيراً بسبب أنهم عرب اقترحوا ما كان سبباً لاستئصالهم، ولأن لهم من علمها وعلم مساكنهم بقربها إليهم وكونها في بلادهم ما ليس لهم من علم غيرها، وخص الناقة لأنها حيوان أخرجه من حجر، والمقام لإثبات القدرة على الإعادة ولو كانوا حجارة أو حديداً، ودل على سفههم في كلا الأمرين على طريق النشر المشوش بذكر داود عليه السلام إشارة إلى الحديد، والناقة إشارة إلى الحجارة، فلله هذه الإشارة ما أدقها‏!‏ وهذه العبارة ما أجلها وأحقها‏!‏ ‏{‏وما نرسل‏}‏ أي بما لنا من الجلالة التي هي بحيث تذوب لها الجبال ‏{‏بالآيات‏}‏ أي المقترحات وغيرها ‏{‏إلا تخويفاً *‏}‏ أي للمرسل إليهم بها، فإن خافوا نجوا وإلا هلكوا فإذا كشف الأمر لكم في عالم الشهادة عن أنهم لا يخافونها وفق ما كان عندنا في عالم الغيب، علم أنه لا فائدة لكم فيها‏.‏

ولما كان التقدير للتعريف بمطابقة الخبر الخبر‏:‏ اذكر أنا قلنا لك ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل ءاية‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96‏]‏ واذكر ما وقع من ذلك ماضياً من آيات الأولين وحالاً من قصة الإسراء، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكر إذ ‏{‏قلنا‏}‏ على ما لنا من العظمة المحيطة ‏{‏لك إن ربك‏}‏ المتفضل بالإحسان إليك بالرفق بأمتك ‏{‏أحاط بالناس‏}‏ علماً وقدرة، تجد ذلك إذا طبقت بعضه على بعض أمراً سوياً حذو القذة لا تفاوت فيه، واعلم أنه مانعك منهم وحائطك ومظهر دينك كما وعدك؛ ثم عطف على ‏{‏وما نرسل‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلنا‏}‏ أي بما لنا من القوة الباهرة التي لها الغنى المطلق ‏{‏الرءيا التي أريناك‏}‏ أي بتلك العظمة التي شاهدتها ليلة الإسراء ‏{‏إلا فتنة‏}‏ أي امتحاناً واختباراً ‏{‏للناس‏}‏ ليتبين بذلك في عالم الشهادة المتقي المحسن والجاهل المسيء كما هو عندنا في عالم الغيب، فنقيم بها عليهم الحجة، لا ليؤمن أحد من حقت عليهم الكلمة ولا لنزداد نحن علماً بسرائرهم، ولا شك في أن قصة الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات العلى كان يقظة لا مناماً بالدليل القطعي المتواتر من تكذيب من كذب وارتداد من ارتد، وهذا مذهب الجمهور وأهل السنة والجماعة، وقد ورد في صحته ما لا يحصى من الأخبار- هذا النقل، وأما الإمكان العقلي فثابت غير محتاج إلى بيان، فإن كل ذرة من ذرات الموجودات فيها من العجائب والغرائب والدقائق والرقائق ما يتحير فيه العقول، لكن لما كان على وفق العادة ألفته الطباع، فلم تنكره الأبصار ولا الأسماع، وأما مثل هذا فلما كان على خلاف العادة استنكره ضعفاء العقول الذين لا يتجاوز فهمهم المحسوسات، على ما ألفوا من العادات، وأما أولو الألباب الذين سلموا من نزعات الشيطان ووساوس العادة، ونظروا بأعين البصائر إلى آثار رحمة الله في صنع المصنوعات وإحداث المحدثات في الملك والملكوت، والشهادة والغيب، والخلق والأمر، فاعترفوا به، وأنه من عظيم الآيات، وبدائع الدلائل النيرات، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ‏{‏فتنة‏}‏ لأنه لو كان رؤيا منام لم يكن بحيث يستبعده أحد فلم يكن فتنة، ولعله إنما سماه رؤيا- وهي للمنام- على وجه التشبيه والاستعارة، لما فيه من الخوارق التي هي بالمنام أليق في مجاري العادات، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏وما جعلنا الرءيا التي أريناك‏}‏ الآية، قال‏:‏ هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليلة أسري به‏.‏

ولما كان كل ما خفي سببه وخرج عن العادة فتنة يعلم به في طبعه الحق ومن في طبعه الباطل، ومن هو سليم الفطرة ومن هو معكوسها، وكان قد أخبر أن شجرة الزقوم تنبت في أصل الجحيم، وكان ذلك في غاية الغرابة، ضمه إلى الإسراء في ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والشجرة‏}‏ عطفاً على الرؤيا ‏{‏الملعونة في القرءان‏}‏ بكونها ضارة، والعرب تسمي كل ضار ملعوناً، وبكونها في دار اللعنة، وكل من له عقل يريد بعدها عنه، وهي كما رواه البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما شجرة الزقوم جعلناها أيضاً فتنة للناس نقيم بها عليهم الحجة في الكفر والإيمان، فنثبتهم أي من أردنا إيمانه منهم بالأول وهو الإسراء ‏{‏ونخوفهم‏}‏ بالثاني وأمثاله ‏{‏فما يزيدهم‏}‏ أي الكافرين منهم التخويف حال التخويف، فما بعده من أزمنة الاستقبال أجدر بالزيادة ‏{‏إلا طغياناً‏}‏ أي تجاوزاً للحد هو في غاية العظم ‏{‏كبيراً *‏}‏ فيقولون في الأول ما تقدم في أول السورة، وفي الثاني‏:‏ إن محمداً يقول‏:‏ إن وقود النار الناس والحجارة، ثم يقول‏:‏ إن فيها شجراً، قد علمتم أن النار تحرق الشجر، ولم يقولوا ما هم أعلم الناس به من أن الذي جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً قادر على أن يجعل في النار شجراً، ومن أنسب الأشياء استحضاراً هنا ما ذكره العلامة شيخ مشايخنا زين الدين أبو بكر بن الحسين المراغي بمعجم العين المدني في تأريخ المدينة الشريفة في أوائل الباب الرابع في ذكر الأودية فإنه قال‏:‏ وادي الشظاة- أي بمعجمتين مفتوحتين- يأتي من شرقي المدينة من أماكن بعيدة عنها إلى أن يصل السد الذي أحدثته نار الحرة التي ظهرت في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة- يعني‏:‏ وهي المشار إليها بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار بالحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» قال‏:‏ وكان ظهورها من واد يقال به أحيليين في الحرة الشرقية، وصارت من مخرجها إلى جهة الشمال مدة ثلاثة أشهر تدب دبيب النمل، تأكل ما مرت عليه من جبل وحجر ولا تأكل الشجر، فلا تمر على شيء من ذلك إلا صار سداً لا مسلك لإنسان فيه ولا دابة إلى منتهى الحرة من جهة الشمال- فذكر القصة وهي غريبة، وأسند فيها عن المطري فيما يتعلق بعدم أذاها للخشب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ‏(‏61‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما تقدم أنهم استبعدوا الإعادة من أجل صيرورتهم بعد الموت رفاتاً، وأخبر تعالى بقدرته على ذلك ولو صاروا إلى ما هو أعسر عندهم في الإعادة من الرفات بأن يكونوا حجارة أو حديداً، وأشار إلى قدرته على التصرف بخرق العادة في الحديد بإلانته لعبد من عبيده، ثم في الحجارة على سبيل الترقي في النشر المشوش بما هو أعجب من ذلك، وهو إفاضة الحياة عليها لعبد آخر من عبيده، أشار إلى تصرفه في التراب الذي هو نهاية الرفات الذي حملهم على الاستبعاد بما هو أعجب من كل ما تقدمه، وذلك بإفاضة الحياة الكاملة بالنطق عليه من غير أن تسبق له حالة حياة أصلاً، وذلك بخلق آدم عليه السلام الذي هو أصلهم، مع ما في ذلك من حفظ السياق في التسلية بأن الآيات لا تنفع المحكوم بشقاوته وبأن آدم عليه السلام قد سلط عليه الحاسد واشتد أذاه له مع أنه صفي الله وأول أنبيائه، مع البيان لأن أغلب أسباب الطغيان الحسد الذي حمل إبليس على ما فعل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي واذكر أيضاً ما وقع من الطغيان مع رؤية الآيات في أول هذا الكون من إبليس الذي هو من أعلم الخلق بآيات الله وعظمته، ثم ممن اتبعه من ذرية آدم عليه السلام بعد تحقق عداوته في مخالفة ربهم المحسن إليهم مع ادعاء ولايته إذ ‏{‏قلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يعصي مرادها شيء ‏{‏للملائكة‏}‏ حين خلقنا أباكم آدم وفضلناه‏:‏ ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ امتثالاً لأمري ‏{‏فسجدوا إلا إبليس‏}‏ أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي لنا منكراً متكبراً‏:‏ ‏{‏ءأسجد‏}‏ أي خضوعاً ‏{‏لمن خلقت‏}‏ حال كون أصله ‏{‏طيناً *‏}‏ فكفر بنسبته لنا إلى الجور وعدم الحكمة، متخيلاً أنه أكرم من آدم عليه السلام من حيث إن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين، وذهب عليه إن الطين أنفع من النار فهو أكرم، وعلى تقدير التنزل فإن الجواهر كلها من جنس واحد، والله تعالى الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض، كما تقدمت الإشارة إليه في ‏{‏ولقد فضلنا بعض النبيّن على بعض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏‏.‏

ولما أخبر تعالى بتكبره، كان كأنه قيل‏:‏ إن هذه لوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى، فهل كان غير هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ نعم‏!‏ ‏{‏قال أرءيتك‏}‏ أي أخبرني ‏{‏هذا الذي كرمت عليّ‏}‏ بم كرمته عليّ مع ضعفه وقوتي‏؟‏ فكأنه قيل‏:‏ لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب، فما كان بعد هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترئ أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى‏:‏ ‏{‏لئن أخرتن‏}‏ أي أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتداً ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ حياً متمكناً ‏{‏لأحتنكن‏}‏ أي بالإغواء ‏{‏ذريته‏}‏ أي لأستولين عليهم بشدة احتيالي كما يستولي الآكل على ما أخذه في حنكه، بتسليطك لي عليهم ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني، فكأنه قيل‏:‏ لقد أطال في الاجتراء فما قال له ربه بعد الثالثة‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مهدداً له‏:‏ ‏{‏اذهب‏}‏ أي امض لثباتك الذي ذكرته بإرادتي لا بأمري، فإنك لن تعدو أمرنا فيك وقد حكمنا بشقاوتك وشقاوة من أردنا طاعته لك، ولذلك سبب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تبعك‏}‏ أي أدنى اتباع ‏{‏منهم‏}‏ أي أولاد آدم عليه السلام، ويجوز أن يراد بتجريد الفعل أن من تبعه بغير معالجة من فطرته الأولى لا يكون إلا عريقاً في الشر‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ أذقته من خزيك، عبر عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن جهنم‏}‏ أي الطبقة النارية التي تتجهم داخلها ‏{‏جزاؤكم‏}‏ أي جزاءك وجزاءهم، تجزون ذلك ‏{‏جزاء موفوراً *‏}‏ مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة‏.‏

ومادة «وفر» بجميع تراكيبها- وهي خمسة عشر، في الواوي ستة‏:‏ وفر، ورف، فور، فرو، رفو، روف، وفي اليائي ثلاثة‏:‏ فري، رفي، ريف، وفي المهموز ستة‏:‏ رفأ، رأف، فرأ، فأر، أفر، أرف- تدور على السعة، والمجاوزة للحد، والعلو على المقدار، والفضل عن الكفاية؛ فالوفر‏:‏ المكان الكبير، وسقاء وفر‏:‏ لم ينقص من أديمه شيء، وإداوة وفراء، والوفرة‏:‏ ما بلغ الأذنين من الشعر، والوافر‏:‏ ضرب من العروض وزنه مفاعلتن ست مرات، والوفر‏:‏ الغنى، ومن المال‏:‏ الكثير الواسع، والعام من كل شيء، ووفره توفيراً‏:‏ أكثره، ووفر له عرضه‏:‏ لم يشتمه، ووفر عطاءه‏:‏ رده عليه وهو راضٍ، ووفره توفيراً‏:‏ أكمله وجعله وافراً- لأن الكمال لا يكاد يتحقق إلا مع زيادة، والثوب‏:‏ قطعه وافراً، والوافرة‏:‏ ألية الكبش إذا عظمت، والدنيا، والحياة، وكل شحمة مستطيلة، وهم متوافرون‏:‏ فيهم كثرة، واستوفر عليه حقه‏:‏ استوفاه‏.‏

وورف النبت يرف إذا رأيت له بهجة من ريه، ولا يكون ذلك إلا من نضارته واتساعه وكونه ملء العين، وورف الظل يرف ورفاً ووريفاً ووروفاً‏:‏ اتسع وطال وامتد كأورف وورّف والورف‏:‏ ما رق من نواحي الكبد- لزيادته واسترخائه، والرفة- كعدة‏:‏ الناضر من النبت، وورفته توريفاً‏:‏ مصصته، والأرض‏:‏ قسمتها- كأنه من الإزالة‏.‏

وفارت القدر- إذا غلت حتة يعلو ما فيها فتفيض، وكل حارّ يفور فوراً، وفار العرق- إذا انتفخ، زاد في القاموس‏:‏ وضرب، والمسكُ، انتشر، وفارة الإبل‏:‏ فوح جلودها إذا نديت بعد الورد، والفائر‏:‏ المنتشر العصب من الدواب وغيرها، وأتوا من فورهم‏:‏ من وجههم أو قبل أن يسكنوا- لأن حركتهم توسع وانتشار فسميت فوراً والفار‏:‏ عضل الإنسان- لأنه أثخن مما دونه، والفور- بالضم‏:‏ الظباء، جمع فائر- لأنه من أسرع الحيوان نفاراً، وأشدها وثباً، وأوسعها عدواً، وقال القزاز‏:‏ والفارة والفورة‏:‏ ريح تكون في رسغ الفرس تنفش إذا مسحت وتجتمع إذا تركت، وقال في فأر‏:‏ فإذا مشى انفشت، وأعاده في القاموس في المهموز فقال‏:‏ والفأرة له- أي للذكر من الحيوان المعروف- وللأنثى، وريح في رسغ الدابة تنفش إذا محست وتجتمع إذا تركت كالفورة بالضم، والفور‏:‏ ولد الحمار- لخفته وسرعة حركته ووثبه، وفوارتا الكرش‏:‏ غدتان في جوف لحمتين، وقيل‏:‏ الفوارة‏:‏ اللحمة- التي في داخلها الغدة، وقيل‏:‏ تكونان لكل ذي لحم، وذلك لوجوب الزيادة سواء قلنا‏:‏ إنها لحمة أو غدة، وقال القزاز‏:‏ وقالوا‏:‏ ماء الرجل إنما يقع في الكلية ثم في الفوارة ثم في الخصية، فعلى هذا سمي لأنه يقذف ما فيه إلى الخصية، والفياران- بالكسر‏:‏ حديدتان تكتنفان لسان الميزان لاتساعهما عن اللسان، والفيرة- بالكسر بالهمز وبغيره‏:‏ تمر يغلى ويمرس ويطبخ بحلبة تشربها النفساء قاله القزاز، وفي مختصر العين‏:‏ حلبة تطبخ؛ فإذا فارت فوارتها ألقيت في معصرة ثم صفيت وتحسيها النفساء، وأعاده في القاموس في المهموز وقال‏:‏ والفئرة- بالكسر- والفؤارة كثمامة والفئيرة والفئرة كعنبة ويترك همزها‏:‏ حلبة تطبخ للنفساء- سميت إما لغليانها وإما للاتساع بجمع التمر والحلبة‏.‏

والفرو والفروة‏:‏ لبس معروف- لخروج صوفها وزيادة الرفق به، كأنها أصل المادة كلها، وفروة الرأس‏:‏ جلدته بشعرها، والفروة‏:‏ الأرض البيضاء ليس لها نبات- لأنه أوسع لها من حيث هي، والفروة‏:‏ الغنى والثروة وقطعة نبات مجتمعة يابسة، وجبة شمر كماها- لأنه لولا زيادتهما ما شمرا، ونصف كساء يتخذ من أوبار الإبل- كأنه شبه بالفروة لطول وبره، وخريطة يجعل السائل فيها صدقته، والتاج- لاتساعه وعلوه وكماله ولغنى صاحبه، وخمار المرأة- لزيادته على كفايتها ولسبوغه وفضله عن رأسها‏.‏

ورفا الثوب يرفوه‏:‏ أصلحه ولأم خرقه‏:‏ وقال في القاموس‏:‏ في المهموز‏:‏ وضم بعضه إلى بعض، قال القزاز‏:‏ والهمز أكثر؛ والرفاء- ككساء‏:‏ الالتحام والاجتماع والاتفاق، ومنه ما يدعى به للمتزوج‏:‏ بالرفاء والبنين، وأعادوه في المهموز‏.‏ وقال في القاموس‏:‏ أي بالالتئام وجمع الشمل، قال القزاز‏:‏ ومعنى رفا‏:‏ تزوج، والأرفى‏:‏ العظيم الأذنين في استرخاء، قال القزاز‏:‏ والأذن الرفواء هي التي تقبل على الأخرى حتى تكاد تماس أطرافهما؛ ورفوت الرجل‏:‏ إذا سكنته من رعب، وأعاده في القاموس في المهموز- لأن ذلك أوسع لفكره لأنه أقر لعينه‏.‏

والروف‏:‏ السكون- وهو أوسع من الاضطراب لأنه لا يكون إلا عن قرار العين، قال في القاموس‏:‏ وليس من الرأفة، والروفة‏:‏ الرحمة، وراف يراف لغة في رأف يرأف- وستأتي بقيتها قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 65‏]‏

‏{‏وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏64‏)‏ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

ولما بدأ سبحانه بالوعيد لطفاً بالمكلفين، عطف على «اذهب» قوله ممثلاً حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع بقوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم، ويقلعهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم‏:‏ ‏{‏واستفزز‏}‏ أي استخف، والفز أصله القطع، أي استزله بقطعه عن الصواب- قاله الرماني ‏{‏من استطعت منهم‏}‏ وهم الذين سلطناك عليهم ‏{‏بصوتك‏}‏ أي دعائك بالغنى والمزامير وكل ما تزينه بالوساس ‏{‏وأجلب‏}‏ أي اجمع أو سق بغاية ما يمكنك من الصياح ‏{‏عليهم بخيلك‏}‏ أي ركبان جندك ‏{‏ورجلك‏}‏ أي ومشاتهم؛ والمعنى‏:‏ افعل جميع ما تقدر عليه، ولا تدع شيئاً من قوتك، فإنك لا تقدر على شيء لم أقدره لك‏.‏

ولما كان الشيطان طالباً شركة الناس في جميع أمورهم بوساوسه الحاملة لهم على إفسادها، فإن أطاعوه كانوا طالبين لأن يشركوه وإن كانوا لا شعور لهم بذلك، عبر بصيغة المفاعلة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وشاركهم‏}‏ أي بوثوبك على مخالطتهم عند ما يشاركونك بفعل ما يوافق هواك ‏{‏في الأموال‏}‏ أي التي يسعون في تحصيلها ‏{‏والأولاد‏}‏ أي التي ينسلونها، إن اقتنوها بوجه محرم أو لم يذكروا اسمي عليها، وكذا قرابينهم لغير الله وإنفاقهم في المحرمات وتعليمهم أولادهم المعاصي والكفر مشاركة فيها ‏{‏وعدهم‏}‏ من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرهم من شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى وتسويف التوبة- ونحو ذلك؛ ثم التفت إلى الصالحين من عباده فأخبرهم تثبيتاً لهم وتنبيهاً لغيرهم على أنه ليس بيده شيء، فقال تعالى مظهراً لضميره بما يدل على تحقيره، تقبيحاً لأمره وتنفيراً منه‏:‏ ‏{‏وما يعدهم الشيطان‏}‏ أي المحترق المطرود باللعنة، من عدم البعث وطول الأجل وشفاعة الآلهة ونحو ذلك ‏{‏إلا غروراً *‏}‏ والغرور‏:‏ تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب، ثم رجع إلى مواجهته بما يحقر أمره، فإن المواجهة بالتحقير أنكأ، مصرحاً بنتيجة ذلك، وهي أنه غير قادر إلا بإذنه سبحانه، وممنوع عنه ما لم يقدره له، دفعاً لما قد يوهمه ما مضى من أنه يؤثر شيئاً استقلالاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي اجهد جهدك، لأن أهل الشهوات سلطتك عليهم زيادة في شقائك بما أردته منهم قبل خلقك وخلقهم، لا تقدر أن تتعدى شيئاً منه إلى خالصتي ومن ارتضيته لعبادتي، إن ‏{‏عبادي‏}‏ الذين أهّلتهم للإضافة إليّ فقاموا بحق عبوديتي بالتقوى والإحسان ‏{‏ليس لك‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏عليهم سلطان‏}‏ أي فلا تقدر أن تغويهم وتحملهم على ذنب لا يغفر، فإني وفقتهم للتوكل عليّ فكفيتهم أمرك ‏{‏وكفى بربك‏}‏ أي الموجد لك المدبر لأمرك ‏{‏وكيلاً *‏}‏ يحفظ ما هو وكيل فيه من كل ما يمكن أن يفسده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ‏(‏67‏)‏ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا ‏(‏68‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

ولما ذكر أنه الوكيل الذي لا كافي غيره في حفظه، لاختصاصه بشمول علمه وتمام قدرته، أتبعه بعض أفعاله الدالة على ذلك فقال تعالى، عوداً إلى دلائل التوحيد الذي هو المقصود الأعظم بأحوال البحر الذي يخلصون فيه، في أسلوب الخطاب استعطافاً لهم إلى المتاب‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم، هو ‏{‏الذي يزجي‏}‏ أي يسوق ويدفع وينفذ ‏{‏لكم‏}‏ أي لمنفعتكم ‏{‏الفلك‏}‏ التي حملكم فيها مع أبيكم نوح عليه السلام ‏{‏في البحر لتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا طلباً عظيماً بذلك أنواع المنافع التي يتعذر أو يتعسر الوصول إليها في البر ‏{‏من فضله‏}‏ ثم علل فعله ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي فعل ذلك لكم لأنه ‏{‏كان‏}‏ أي أزلاً وأبداً ‏{‏بكم‏}‏ أي أيها المؤمنون خاصة ‏{‏رحيماً *‏}‏ أي مكرماً بالتوفيق إلى فعل ما يرضيه في المتجر وغيره، لا لشيء غير ذلك، أو يكون ذلك خطاباً لجميع النوع فيكون المعنى‏:‏ خصكم به من بين الحيوانات‏.‏

ولما كان المراد المؤمنين خاصة وإن كان خطاباً للمجموع، خص المشركين كذلك فقال‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ أي فإذا نعمكم بأنواع الخير كنتم على إشراككم به سبحانه، وإذا ‏{‏مسكم‏}‏ ولم يقل‏:‏ أمسكم- بالإسناد إلى نفسه، تأديباً لنا في مخاطبته بنسبة الخير دون الشر إليه، مع اعتقاده أن الكل فعله، وتنبيهاً على أن الشر مما ينبغي التبرؤ منه والبعد عنه ‏{‏الضر في البحر‏}‏ من هيج الماء واغتلامه لعصوف الريح وطمو الأمواج ‏{‏ضل‏}‏ أي ذهب وبطل عن ذكركم وخواطركم ‏{‏من تدعون‏}‏ من الموجودات كلها ‏{‏إلا إياه‏}‏ وحده، فأخلصتم له الدعاء علماً منكم أنه لا ينجيكم سواه ‏{‏فلما نجّاكم‏}‏ من الغرق وأوصلكم بالتدريج ‏{‏إلى البر أعرضتم‏}‏ عن الإخلاص له ورجعتم إلى الإشراك ‏{‏وكان الإنسان‏}‏ أي هذا النوع ‏{‏كفوراً *‏}‏ أي بليغ التغطية لما حقه أن يشهر، فأظهر في موضع الإضمار تنبيهاً على أن هذا الوصف لا يخصهم، بل يعم هذا النوع لطبعه على النقائص إلا من أخلصه الله له‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ أعرضتم بعد إذ أنجاكم فكفرتم بذلك وكان الكفر وصفاً لكم لازماً، فتسبب عن ذلك أنكم أمنتم، أي فعلتم بذلك فعل الآمن، أنكر عليهم هذا الأمر لكونه من أجهل الجهل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفأمنتم‏}‏ أي أنجوتم من البحر فأمنتم بعد خروجكم منه ‏{‏أن نخسف‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بكم‏}‏ ودل على شدة إسراعهم بالكفر عند وصولهم إلى أول الساحل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جانب البر‏}‏ أي فنغيبكم فيه في أيّ جانب كان منه، لأن قدرتنا على التغييب في التراب في جميع الجوانب كقدرتنا على التغييب في الماء سواء، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب ‏{‏أو‏}‏ أمنتم إن غلظت أكبادكم عن تأمل مثل هذا أن ‏{‏يرسل عليكم‏}‏ من جهة الفوق شيئاً من أمرنا ‏{‏حاصباً‏}‏ أي يرمي بالحصباء، أي بالحصى الصغار- قاله الرازي في اللوامع، وقال الرماني‏:‏ حجارة يحصب بها، أي يرمي بها، حصبه- إذا رماه رمياً متتابعاً- انتهى‏.‏

يرميكم ذلك الحاصب في وجوهكم أو فوق رؤوسكم رمياً يهلك مثله كما وقع لقوم لوط أنا أرسلنا عليهم حاصباً، وقيل‏:‏ الحاصب‏:‏ الريح، ولم يقل‏:‏ حاصبة لأنه وصف لزمها، ولم يكن لها، مذكر تنتقل إليه في حال فكان بمنزلة حائض ‏{‏ثم لا تجدوا‏}‏ أيها الناس ‏{‏لكم‏}‏ وأطلق ليعم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وكيلاً *‏}‏ ينجيكم من ذلك ولا من غيره كما لم تجدوا في البحر وكيلاً غيره ‏{‏أم أمنتم‏}‏ إن جاوزت بكم الغباوة حدها فلم تجوزوا ذلك ‏{‏أن يعيدكم فيه‏}‏ أي البحر بما لنا من العظمة التي تضطركم إلى ذلك فتقركم عليه وإن كرهتم ‏{‏تارة أخرى‏}‏ بأسباب تضطركم إلى ذلك ‏{‏فنرسل عليكم‏}‏ أي بما لنا من صفة الجلال ‏{‏قاصفاً‏}‏ وهو الكاسر بشدة ‏{‏من الريح‏}‏ كما عهدتم أمثاله يا من وقفت أفكارهم مع المحسوسات فرضوا بذلك أن يكونوا كالبهائم لا يفهمون إلا الجزئيات المشاهدات ‏{‏فيغرقكم‏}‏ أي في البحر الذي أعدناكم فيه، لعظمتنا ‏{‏بما كفرتم‏}‏ كما يفعل أحدكم إذا ظفر بمن كفر إحسانه ‏{‏ثم لا تجدوا لكم‏}‏ وإن أمعنتم في الطلب، وطالت أزمانكم في إتقان السبب‏.‏ ولما كان إطلاق النفي في ختام الآية الماضية- وإن كان لإرادة التعميم- يحتمل أن يدعي تقييده بما يخالف المراد، وكان المقصود هنا التخويف بسطوته سبحانه تارة بالخسف وتارة بغيره، قيد بما عين المراد، وقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏علينا‏}‏ دلالة على باهر العظمة ‏{‏به‏}‏ أي بما فعلنا بكم ‏{‏تبيعاً *‏}‏ أي مطالباً يطالبنا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ‏(‏70‏)‏ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏71‏)‏ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه بهذه الجمل ما يسر لهم من البر، وسهل من شدائد البحر في معرض التهديد، أتبعه أنه فعل ذلك تكريماً لهم على سائر مخلوقاته، كما هو شأنه في القدرة على ما يريد في المفاوتة بين الأمور التي كانت متساوية عند أول خلقه لها، ليستدلوا بذلك على سهولة الإعادة، مشيراً إلى أنه ركب جوهر الإنسان من نفس هي أشرف النفوس بما فضلها على قوى النفس النباتية من الاغتذاء والنمو والتوليد بالحس ظاهراً وباطناً وبالحركة بالاختيار، وخصه على سائر الحيوان بالقوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي، ويتجلى بها نور معرفة الله، ويشرق فيها ضوء كبريائه وتطلع على عالمي الخلق والأمر، وتحيط بأقسام المخلوقات من الأرواح والأجسام كما هي، فكانت بذلك النفس الإنسانية أشرف نفوس هذا العالم، وبدنه كذلك باختصاصه باعتدال القامة وامتدادها والتناول باليد وغير ذلك، فقال تعالى عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من مثل أن يقال‏:‏ فلقد كرمناكم بذلك من إزجاء الفلك وإنجائكم في وقت الشدائد، أو على‏:‏ ولقد فضلنا‏:‏ ‏{‏ولقد كرمنا‏}‏ أي بعظمتنا تكريماً عظيماً ‏{‏بني ءادم‏}‏ أي على سائر الطين بالنمو، وعلى سائر النامي بالحياة، وعلى سائر الحيوان بالنطق، فكان حذف متعلق التكريم دالاً على عمومه لجميع الخلق، وذلك كله تقديراً للقدرة على البعث ‏{‏وحملناهم في البر‏}‏ على الدواب وغيرها ‏{‏والبحر‏}‏ على السفن وغيرها ‏{‏ورزقناهم‏}‏ أي رزقاً يناسب عظمتنا ‏{‏من الطيبات‏}‏ أي المستلذات من الثمرات والأقوات التي يأكل غيرهم من الحيوان قشّها ‏{‏وفضلناهم‏}‏ في أنفسهم بإحسان الشكل، وفي صفاتهم بالعلم المنتج لسعادة الدارين، وفي رزقنا لهم بما تقدم‏.‏

ولما حذف متعلق التكريم دلالة على التعميم، وكان أغلب أفراده ضالاً، قال لذلك‏:‏ ‏{‏على كثير ممن خلقنا‏}‏ أي بعظمتنا التي خلقناهم بها وأكد الفعل بالمصدر إشارة إلى إعراقهم في الفضيلة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تفضيلاً *‏}‏ هذا ما للمجموع، وأما الخلص فهم أفضل الخلائق لما علمنا من معالجتهم بالإخلاص وجهادهم لأهويتهم، لما طبعت عليه نفوسهم من النقائص، ولما لها من الدسائس حتى امتطوا بعد رتبة الإيمان درجتي التقوى والإحسان، وتقديم الأمر للملائكة بالسجود لآدم عليه السلام توطئة لهذه الآية أدل دليل على هذا‏.‏

ولما قرر سبحانه قدرته على التفضيل في الحياة الحسية والمعنوية، والمفاضلة بين الأشياء في الشيئين فثبت بذلك قدرته على البعث، وختم ذلك بتفضيل البشر، وكان يوم الدين أعظم يوم يظهر في التفضيل، أبدل من قوله ‏{‏يوم يدعوكم‏}‏ مرهباً من سطواته في ذلك اليوم، ومرغباً في اقتناء الفضائل في هذا اليوم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم ندعوا‏}‏ أي بتلك العظمة ‏{‏كل أناس‏}‏ أي منكم ‏{‏بإمامهم‏}‏ أي بمتبوعهم الذي كانوا يتبعونه، فيقال‏:‏ يا أتباع نوح‏!‏ يا أتباع إبراهيم‏!‏ يا أتباع عيسى‏!‏ يا أتباع محمد‏!‏ فيقومون فيميز بين محقيهم ومبطليهم، ويقال‏:‏ يا أتباع الهوى‏!‏ يا أتباع النار‏!‏ يا أتباع الشمس‏!‏ يا أتباع الأصنام‏!‏ ونحو هذا، أو يكون المراد بسبب أعمالهم التي ربطناهم بها ربط المأموم بإمامه كما قال تعالى ‏{‏وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه‏}‏ وسماها إماماً لكونهم أموها واجتهدوا في قصدها، وندفع إليهم الكتب التي أحصت حفظتنا فيها تلك الأعمال ‏{‏فمن أوتي‏}‏ منهم من مؤتٍ ما ‏{‏كتبه بيمينه‏}‏ فهم البصراء القلوب لتقواهم وإحسانهم، وهم البصراء في الدنيا، ومن كان في هذه الدنيا بصيراً فهو في الآخرة أبصر وأهدى سبيلاً ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو المراتب ‏{‏يقرءون كتابهم‏}‏ أي يجددون قراءته ويكررونها سروراً بما فيه كما هو دأب كل من سر بكتاب ‏{‏ولا يظلمون‏}‏ بنقص حسنة ما من ظالم ما ‏{‏فتيلاً *‏}‏ أي شيئاً هو في غاية القلة والحقاره، بل يزادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاء الأعمال، ومن أوتي كتابه بشماله فهو لا يقرأ كتابه لأنه أعمى في هذه الدار ‏{‏ومن كان‏}‏ منهم ‏{‏في هذه‏}‏ الدار ‏{‏أعمى‏}‏ أي ضالاً يفعل في الأعمال فعل الأعمى في أخذ الأعيان، لا يهتدي إلى أخذ ما ينفعه وترك ما يضره، ولا يميز بين حسن وقبح ‏{‏فهو في الآخرة‏}‏ لأن كل أحد يقوم على ما مات عليه ‏{‏أعمى‏}‏ أي أشد عمى مما كان عليه في هذه الدار، لا ينجح له قصد، ولا يهتدي لصواب، ولا يقدر على قراءة كتاب، لما فيه من موجبات العذاب، ولم يقل‏:‏ أشد عمى، كما يقولونه في الخلق اللازمة لحالة واحدة من العور والحمرة والسواد ونحوها، لأن هذا مراد به عمى القلب الذي من شأنه التزايد والحدوث في كل لحظة شيئاً بعد شيء، فخالف ما لا يزيد؛ ولم يمله أبو عمرو مع إمالة الأول ليدل على أن معناه‏:‏ أفعل من كذا، فهو وسط، والإمالة إنما يحسن في الأواخر، ولأن هذا معناه، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضل سبيلاً *‏}‏ لأن هذه الدار دار الاكتساب والترقي بالأسباب، وأما تلك فليس فيها شيء من ذلك؛ فالآية من الاحتباك‏:‏ أثبت الإيتاء باليمين والقراءة أولاً دليلاً على حذف ضدهما ثانياً، وأثبت العمى ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 76‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‏(‏73‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ‏(‏74‏)‏ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما قرر أن من ترك سبيل الرشد كان كالأعمى، ومن تبعها كان كالبصير، أتبعه دليله فقال محذراً للبصراء عن الاغترار بوساوس الأشقياء‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وأكثر هؤلاء أعمى، قد افتتن في نفسه بهواه مع بياننا لطريق الرشد بما أوحينا إليك من هذه الحكمة حتى صارت أوضح من الشمس وإن الأعداء ‏{‏كادوا‏}‏ أي قاربوا في هذه الحياة الدنيا لعماهم في أنفسهم عن عصمة الله لك بسبب عماهم عما جبلت عليه من الفطنة، وجودة الفطرة، وذكاء القريحة، وثقوب الفهم، وبعد المرمى في الوقوف على خداع المخادعين، ومكر الماكرين، لتجلي الدقائق في مرآة قلبك الصقيلة وصافي فكرتك الشفافة‏.‏ ولما كانت «إن» مخففة من الثقيلة أتى باللام الفارقة بينها وبين النافية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليفتنونك‏}‏ أي ليخالطونك مخالطة تمليك إلى جهة قصدهم بكثرة خداعهم بإطماعهم لك في الموافقة لما يعلمون من ظاهر الحياة الدنيا ‏{‏عن الذي أوحينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليك‏}‏ من الحكمة ‏{‏لتفتري‏}‏ أي تقطع متعمداً ‏{‏علينا‏}‏ على عظمتنا ‏{‏غيره‏}‏ من طرد من أوحينا إليك الأمر بمصابرتهم، إطماعاً منهم في إسلام من هو بحيث يرجى إسلامه إسلام الجم الغفير منهم لشرفه ونحو ذلك مما عناه الله سبحانه وهو أعلم بمراده؛ قال الرماني‏:‏ وأصل الفتنة ما يطلب به خلاص الشيء مما لابسه ‏{‏وإذا‏}‏ أي لو ملت إليهم ‏{‏لاتخذوك‏}‏ أي بغاية الرغبة ‏{‏خليلاً *‏}‏ ومن كان خليل الكفار لم يكن خليل الله، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله، واستمروا على عماهم إتماماً لتفضيلنا لك على كل مخلوق، وقد تقدم قريباً ما تدور عليه مادة «فرا» وأنه السعة، وقد بقي من تقاليبها اليائي والمهموز، فمعنى فريت الأديم‏:‏ شققته فاسداً أو صالحاً- لأنه يتسع بذلك، وقال القزاز‏:‏ الفري مصدر فريت الأديم- إذا شققته للإصلاح، وأفريته- إذا شققته للإفساد- كأن همزته للإزالة، وحكى أبو عبيدة‏:‏ فريت الشيء وأفريته‏:‏ قطعته، وفرى الكذب وافتراه‏:‏ اختلقه- لأنه اتساع في القول وزيادة على ما يكفي من الصدق وتجاوز للحد، وفرى المزادة‏:‏ خلقها وصنعها، وقال القزاز‏:‏ خرزها- لأنها تسع ما لا تسعه قبل الخرز، قال‏:‏ وأصل الفري الشق- يعني‏:‏ والخرز واقع في الشق، فالعلاقة المحل، وفرى الأرض‏:‏ سارها وقطعها- تشبيهاً لها بالأديم، وفرى- كرضي‏:‏ تحير ودهش- من التسمية باسم السبب، لأن سبب الدهش كثرة وعظم في المحسوس، وأفراه، أصلحه أو أمر بإصلاحه- لأن الإصلاح سعة بالنسبة إلى الإفساد، وأفرى فلاناً‏:‏ لامه- لأنه يلزم منه الزيادة في الكلام لما يحاج به الملوم، والفرية‏:‏ الجلبة- لأنها زيادة عن الكلام المعتاد، وبالكسر‏:‏ الكذب، وكغنى‏:‏ الأمر المختلق المصنوع أو العظيم، والواسعة من الدلاء كالفرية، والحليب ساعة تحلب- لارتفاع الرغوة، وتفرى الشيء‏:‏ انشق، والعين‏:‏ انبجست، وهو يفري الفرى كغنى‏:‏ يأتي بالعجب في عمله‏.‏

وقال القزاز‏:‏ وتركت فلاناً يفري ويقد، أي حادّ في الأمر، وفلاناً يفري منذ اليوم- إذا جاء بالعجب، لأنه لا يعجب إلا ما زاد على الكفاية‏.‏

والرفة‏:‏ التبن- لأنه ما فضل عن الحب، والرفة‏:‏ دويبة تصيد تسمى عناق الأرض- لأن حالها أوسع من حال ما لا يصيد، ذكر هذا صاحب مختصر العين في المعتل بالياء فوزنه ثبة، وساقه صاحب القاموس في الهاء وقال فيما مدلوله التبن‏:‏ إنه كصرد، ثم ساقه في المعتل الواوي في ورف وقال‏:‏ والرفة كثبة‏:‏ التبن، فاضطرب كلامه فوجب قبول مختصر العين، لكن ذكره الإمام أبو غالب بن التباني- وهو من يخضع له- في كتابه الموعب في مقلوب رهف فقال ناسباً له إلى كتاب العين ما نصه‏:‏ والرفة‏:‏ التبن، قال غيره‏:‏ ويقال في مثل من الأمثال‏:‏ استغنت التفه عن الرفه، والتفه‏:‏ عناق الأرض، وهي دويبة كالثعلب خبيثة، تصيد كل شيء، وذلك أنها لا تأكل إلا اللحم- أبو حنيفة مثله، كله انتهى بحروفه، وقال صاحب القاموس في المعتل‏:‏ والتفة ذكر في ت ف ف، وقال في الهاء‏:‏ والتفه كثبه‏:‏ عناق الأرض، وقال في الفاء‏:‏ والتفة- كقفة‏:‏ دويبة كجرو الكلب أو كالفأرة، واستغنت التفة عن الرفة؛ ويخففان، يضرب للئيم إذا شبع‏.‏ فلعل هذا الاختلاف لغات- والله أعلم‏.‏

قال في مختصر العين‏:‏ والأرفي مثل كركي‏:‏ اللبن المحض الطيب- لفيضه كالغائر، جعله المختصر يائياً، والقاموس واوياً، ثم أعاده في المهموز فقال‏:‏ والأرفي- كقمري‏:‏ اللبن الخالص، وساق القزاز في اليائي‏:‏ رافيت الرجل أرافيه مرافاة- إذا وافقته- لأن ذلك أوسع في العشرة، والريف بالكسر- الخصب، وقال في القاموس‏:‏ أرض فيها زرع وخصب، والسعة في المأكل والمشرب، وما قارب الماء من أرض العرب، أو حيث الخضر والمياه والزروع، وراف البدوي‏:‏ أتى الريف، والراف‏:‏ الخمر- وهو لا يكون إلا عن سعة، وأرض ريفة ككيسة‏:‏ خصبة، وأرافت الأرض‏:‏ أخصبت‏.‏

ومن المهموز‏:‏ رفأ السفينة- كمنع وأرفأها‏:‏ أدناها من الشط- لاتساع من فيها بالبر، وبالنسبة إليها يكون للسلب، والموضع مرفأ، ويضم، ورفأ بينهم‏:‏ أصلح، وأرفأ، جنح، وامتشط ودنى وأدنى وحابى ودارأ كرافأ وإليه لجأ، وترافؤوا‏:‏ توافقوا وتواطؤوا، واليرفيء كاليلمعي‏:‏ راعي الغنم والظليم النافر والظبي القفوز المولى والمنتزع القلب فزعاً- كأنه شبه بالظليم في اتساع حركته وعدم ثباته، وذلك شبيه أيضاً بفوران القدر في مجاوزة الحد، ورفأت العروس ترفئة وترفيئاً- تقدم في الواوي، والرأف‏:‏ الخمر والرجل الرحيم، أو الرأفة‏:‏ أشد الرحمة أو أرقها، ولا شك في دخول ذلك في السعة، ورأف‏:‏ موضع أو رملة- ولعلهما واسعان، والفرأ- كجبل وسحاب‏:‏ حمار الوحش أو الفتيّ منه- لشدة نفاره كالقدر في فورانها، وأمر فريء كفريّ، وكل الصيد في جوف الفرا، أي كله دونه، وفرأ- محركة‏:‏ جزيرة باليمن- لعله بها بكثرة، والفأر معروف، والواحدة فأرة، والجمع فئران- سمي لقفزه في جرية، ولأنه وسع من الحشرات تصرفاً بالمشي في الجدر والسقوف ونحوها، والفأرة‏:‏ شجرة ونافجة المسك، قال في القاموس‏:‏ أو الصواب إيراد فارة المسك في ف ور لفوران رائحتها، أو يجوز همزها لأنها على هيئة الفأرة، وفأر كمنع‏:‏ حفر وخبأ ودفن- يمكن أن يكون من السعة ومن سلبها؛ ولبن فئر- ككتف‏:‏ وقعت فيه الفأرة، وأرض فئرة ومفأرة‏:‏ كثيرة الفأر، وأفرت القدر بالفتح تأفر أفراً‏:‏ اشتد غليانها، والإنسان‏:‏ وثب وعدا، والبعير‏:‏ نشط وسمن بعد الجهد كأفر كفرح فيهما، وخف في الخدمة، والذي يسعى بين يدي الإنسان ويخدمه مئفر، والأفرة- بضمتين وتشديد الراء‏:‏ الجماعة- وقيدها في مختصر العين بذات الجلبة- والبلية والاختلاط، وكل ذلك واضح في الاتساع والزيادة على الكفاية، والأفرة أيضاً شدة الشر- لشدة فورانه كالقدر، وشدة الشتاء أو مطلق الشدة، ومن الصيف‏:‏ أوله- لأنه يتسع به، قال في القاموس‏:‏ ويفتح أولها ويحرك في الكل؛ والأرفة- بالضم‏:‏ الحد بين الأرضين والعقدة- وكأن هذا سلب الاتساع، والأرفي كقمري‏:‏ الماسح، وأرف على الأرض تأريفاً‏:‏ جعلت لها حدود وقسمت، وتأريف الحبل‏:‏ عقده، وهو مؤارفي حده إلى حدي في السكنى والمكان- والله الموفق‏.‏

ولما ذكره سبحانه بما كان في ذلك من رشده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتبعه ببيان أنه إنما كان بعصمة الله له ليزداد شكراً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا أن ثبتناك‏}‏ أي بما لنا من العظمة على ما أمرنا لما تقدم من أنا مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت رأس المتقين والمحسنين ‏{‏لقد كدت‏}‏ أي قاربت ‏{‏تركن إليهم‏}‏ أي الأعداء ‏{‏شيئاً قليلاً *‏}‏ لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم، وكنا عصمناك فلم تركن إليهم لا قليلاً ولا كثيراً، ولا قاربت ذلك، كما أفادته ‏{‏لولا‏}‏ لأنها تدخل على جملة اسمية فجملة فعلية لربط امتناع الثانية بوجود الأولى، فامتناع قرب الركون مرتبط بوجود التثبيت، وذلك لأن ‏{‏لولا‏}‏ لانتفاء الثاني لأجل انتفاء الأول، وهي هنا داخلة على لا النافية، فتكون لانتفاء قرب الركون لأجل انتفاء التثبيت، وانتفاء النفي وجود، فإذن التثبيت موجود، وقرب الركون منتف‏.‏ ويجوز أن يكون المراد الدلالة على شدة مكرهم وتناهي خداعهم إلى حالة لا يدرك وصفها، فيكون الفعل مسنداً إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والمراد إسناده إليهم ليكون المعنى‏:‏ كادوا أن يجعلوك مقارباً للركون إليهم، كما تقول لصاحبك‏:‏ لقد كدت تقتل نفسك، أي فعلت ما قاربت به أن يقتلك غيرك لأجل فعلك، وهذه الآية من الأدلة الواضحة على ما خص به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الفضائل في شرف جوهره، وزكاء عنصره، ورجحان عقله، وطيب أصله، لأنها دلت على أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لو وكل إلى نفسه وما خلق الله في طبعه وجبلته من الغرائز الكاملة والأوصاف الفاضلة، ولم يتداركه بما منحه من التثبيت زيادة على ذلك حال النبوة لم يركن إليهم، وهم أشد الناس أفكاراً، وأصفاهم أفهاماً، وأعلمهم بالخداع، مع كثرة عددهم، وعظم صبرهم وجلدهم- ركوناً ما أصلاً، وإنما كان قصاراهم أن يقارب الركون شيئاً قليلاً، فسبحان من يخص من يشاء بما يشاء، وهو ذو الفضل العظيم ‏{‏إذاً‏}‏ أي لو قاربت الركون الموصوف إليهم ‏{‏لأذقناك‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏ضعف‏}‏ عذاب ‏{‏الحياة وضعف‏}‏ عذاب ‏{‏الممات‏}‏ أي ذلك العذاب مضاعفاً‏.‏

وهذه المادة تدور على الوهي، ويلزمه التقوية بالضعف- بكسر الضاد أي المثل وما زاد، وكل شيء له مكاثر فهو ضعيف بدونه، ويلزم الضعف الذي هو المثل المضموم إلى مثله‏:‏ القوة، فمن الوهي‏:‏ الضعف والضعف بالفتح والضم، وهو خلاف القوة، وقيل‏:‏ الضعف بالفتح في العقل والرأي، وبالضم في الجسد، والضعيف‏:‏ الأعمى- حميرية، وأرض مضعفة للمفعول‏:‏ أصابها مطر ضعيف، وضعف الشيء بالكسر‏:‏ مثله- لأن كل ما له مثل فهو ضعيف، وضعفاه مثلاه‏.‏ ويقال‏:‏ لك ضعفه، أي مثلاه، وثلاثة أمثاله، لأن أصل الضعف زيادة غير محصورة، وضاعفت الشيء، أي ضممت إلى الشيء شيئين فصار ثلاثة، وأضعاف الكتاب‏:‏ أثناء سطوره- لأنها أمثال للسطور من البياض وزيادة عليها ومن القوة التي تلزم المثل‏:‏ أضعاف البدن وهي أعضاؤه- لأن غالبها مثنى، أو هي عظامه- لأنها أقوى ما فيه، ومن الضعف أيضاً مقلوبة الذي هو ضفع- إذا أحدث وضرط، وكذا مقلوبة فضع، والضفع نجو الفيل، والضفعانة‏:‏ تمرة السعدانة ذات الشوك مستديرة- كأنها فلكة، فالمعنى- والله أعلم‏:‏ أذقناك وهي الحياة ووهي الممات مضاعفاً أضعافاً كثيرة‏.‏

ولما كانت القوة بعد هذا في غاية البعد، عبر بأداة التراخي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لا تجد لك‏}‏ أي وإن كنت أعظم الخلق وأعلاهم همة ‏{‏علينا نصيراً *‏}‏ والآية دالة على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظيم شأن مرتكبه وارتفاع منزلته، وعلى أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، فعلى من تلاها أن يتدبرها وأن يستشعر الخشية وعظيم التصلب في الدين‏.‏

ولما بين أنهم استمالوه بالرفق حتى كادوا- لولا العصمة- أن يميلوه، دل على أنهم أخافوه بعد ذلك حتى كادوا أن يخرجوه من وطنه قبل الإذن الخاص بالهجرة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وإنهم ‏{‏كادوا‏}‏ أي الأعداء ‏{‏ليستنفرونك‏}‏ أي يستخفونك بكثرة الأذى الذي من شأنه ذلك فيما جرت به العوائد ‏{‏من الأرض‏}‏ أي المكية التي هي الأرض كلها لأنها أمها ‏{‏ليخرجوك منها‏}‏ مع أن وجودك عندهم رحمة لهم، فلا أعمى منهم‏!‏ وأصل الفز القطع بشدة- قاله الرماني ‏{‏وإذاً‏}‏ أي وإذا أخرجوك ‏{‏لا يلبثون خلافك‏}‏ أي بعد إخراجك لو أخرجوك ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ وسيعلمون إذا أذنا لك في النزوح كيف نصبّ عليهم العذاب بعد خروجك بقليل، برمحك الطويل، وسيفك الصقيل، وسيوف أتباعك المؤمنين، لثبوت هذا الدين، وقد حقق الله سبحانه هذا الوعيد بقتل صناديدهم في غزوة بدر في رمضان من السنة الثانية من الهجرة بعد ثمانية عشر شهراً من مهاجرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحرم على المشركين الذين أخرجوه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة المشرفة الدخول إليها والإقامة في حريمها من جزيرة العرب، إكراماً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتقاماً ممن يعتقد شيئاً من كفر من أخرجوه؛ ورفع ‏{‏يلبثون‏}‏ لأن ‏{‏إذن‏}‏ إذا وقعت بعد الواو والفاء جاز فيها الإلغاء، لأنها متوسطة في الكلام كما أنه لا بد من أن تلغى في آخر الكلام، وفي الآية بيان لأن الجاهل لا يزال ينصب للعالم الحبائل، ويطلب له الغوائل، فيعود ذلك عليه بالوبال، في الحال والمآل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ‏(‏77‏)‏ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ‏(‏78‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ‏(‏79‏)‏ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ‏(‏80‏)‏‏}‏

ولما أخبره بذلك، أعلمه أنه سنته في جميع الرسل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سنة‏}‏ أي كسنة أو سنتنا بك سنة ‏{‏من قد أرسلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة‏.‏

ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قبلك‏}‏ أي في الأزمان الماضية كلها ‏{‏من رسلنا‏}‏ بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم بالعقوبة ‏{‏ولا تجد لسنتنا‏}‏ أي لما لها من العظمة ‏{‏تحويلاً‏}‏ أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفاً لهم بهذا النبي الكريم‏.‏

ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أقم‏}‏ أي حقيقة بالفعل ومجازاً بالعزم عليه ‏{‏الصلاة‏}‏ بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لدلوك الشمس‏}‏ أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس‏:‏ دلكت الشمس‏:‏ غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء‏.‏ فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلى‏}‏ حثاً على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصلياً دائماً، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق ‏{‏غسق الّيل‏}‏ فالغسق‏:‏ ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع‏:‏ وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني‏:‏ ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقرءان‏}‏ فكأنه قال‏:‏ ثم نم وأقم قرآن ‏{‏الفجر‏}‏ إشارة إلى الصبح، وقيل‏:‏ نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقاً بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم‏.‏

ولما كان القيام من المنام صعباً، علل مرغباً مظهراً غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن قراءن الفجر كان مشهوداً *‏}‏ يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبي هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏إن قرءان الفجر‏}‏- الآية‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل؛ ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ أي وعليك بعض، أو قم بعض ‏{‏الّيل فتهجد‏}‏ أي اترك الهجود- وهو النوم- بالصلاة ‏{‏به‏}‏ أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن ‏{‏نافلة لك‏}‏ أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب‏:‏ وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز‏:‏ النوافل‏:‏ الفواضل، ومن هذا يقولون‏:‏ فلان ممن ترجى نوافله- انتهى‏.‏ فهو زيادة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيباً للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد‏:‏ هل من داع فيستجاب له‏؟‏» إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل‏.‏

ولما أمره سبحانه بالتهجد والتذلل، وكان السياق للعظمة رجاء في النوال بما يليق بالسياق فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عسى أن‏}‏ أي لتكون بمنزلة الراجي لأن ‏{‏يبعثك‏}‏ ولما كان السياق قد انصرف للترجية، عبر بصفة الإحسان فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك بعد الموت الأكبر وقبله، كما بعث نفسك من الموت الأصغر إلى خدمته ‏{‏مقاماً‏}‏ نصب على الظرف ‏{‏محموداً *‏}‏ وذلك لأن «عسى» للترجي في المحبوب والإشفاق في المكروه، وقد يضعف ذلك فيلزم الشك في الأمر، وقد يقوى فيأتي اليقين، وهي هنا لليقين، قالوا‏:‏ إن عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع أحداً في شيء ثم حرمه كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يفعل ذلك، وعبر بها دون ما يفيد القطع لأن ذلك أقعد في كلام الملوك لأنه أدل على العظمة، وللبخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى، كل أمة تتبع نبيها، يقولون‏:‏ يا فلان اشفع‏!‏ يا فلان اشفع‏!‏ حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود‏.‏

أي فيظهر ما له من الحظ من اسمه أحمد ومحمد في ذلك الحين بحمد كل ذي روح بإيصال الإحسان إلى كل منهم بالفعل، وله في التفسير وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة‏!‏ آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» يعني- والله أعلم- الشفاعة الخاصة، وأما العامة فللكل بغير شرط‏.‏

ولما كان هذا المقام صالحاً للشفاعة ولكل مقام يقومه، وكان كل مقام يحتاج إلى التوفيق في مباشرته والانفصال عنه، تلاه حاثاً على دوام المراقبة واستشعار الافتقار بقوله مقدماً المدخل لأنه أهم‏:‏ ‏{‏وقل رب‏}‏ أي أيها الموجد لي، المدبر لأمري، المحسن إليّ ‏{‏أدخلني‏}‏ في كل مقام تريد إدخالي فيه حسي ومعنوي دنيا وأخرى ‏{‏مدخل صدق‏}‏ يستحق الداخل فيه أن يقال له‏:‏ أنت صادق في قولك وفعلك، فإن ذا الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً ‏{‏وأخرجني‏}‏ من كل ما تخرجني منه ‏{‏مخرج صدق‏}‏‏.‏

ولما كان الصدق في الأمور قد لا يقارنه الظفر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لي‏}‏ أي خاصة ‏{‏من لدنك‏}‏ أي عندك من الخوارق التي هي أغرب الغريب ‏{‏سلطاناً‏}‏ أي حجة وعزاً ‏{‏نصيراً *‏}‏ وفيه إشعار بالهجرة وأنها تكون على الوجه الذي كشف عنه الزمان من العظمة التي ما لأحد بها من يدان‏.‏