فصل: تفسير الآيات رقم (81- 85)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 85‏]‏

‏{‏وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ‏(‏81‏)‏ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ‏(‏83‏)‏ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ‏(‏84‏)‏ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏85‏)‏‏}‏

ولما كان الدعاء قد لا يستجاب، قال مبشراً له بأنه ليس بين دعائه وبين استجابته إلا قوله، ومحققاً لتلك البشرى بالأمر بأن يخبر بها‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ أي لأوليائك وأعدائك‏:‏ ‏{‏جاء الحق‏}‏ وهو كل ما أمرني به ربي وأنزله إليّ ‏{‏وزهق‏}‏ أي اضمحل وبطل وهلك ‏{‏الباطل‏}‏ وهو كل ما خالفه؛ ثم علل زهوقه بقوله‏:‏ ‏{‏إن الباطل كان‏}‏ في نفسه بجبلته وطبعه ‏{‏زهوقاً *‏}‏ قضاء قضاه الله تعالى من الأزل؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ‏{‏جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً‏}‏، ‏{‏جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 49‏]‏‏.‏

ولما كان القرآن الذي نوه به في آية ‏{‏أقم الصلاة‏}‏ هو السبب الأعظم في إزهاق الباطل الذي هو كالسحر خيال وتمويه، وهو الجامع لجميع ما مضى من الإلهيات والبعث وما تبع ذلك، قال عاطفاً على ‏{‏ولقد كرمنا‏}‏‏:‏ ‏{‏وننزل‏}‏ أي بعظمتنا؛ ثم بين المنزل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من القرءان‏}‏ أي الجامع الفارق الذي هو أحق الحق ‏{‏ما هو شفاء‏}‏ للقلوب والأبدان ‏{‏ورحمة‏}‏ أي إكرام وقوة ‏{‏للمؤمنين‏}‏ أي الراسخين في الإيمان، لإنارته لقلوبهم من صدإ الجهل، وحمله لهم على سبيل الرشد الذي هو سبب الرحمة، ولحراسته لهم من كل شيطان ومرض ومحنة إذا وقع الصدق في الاستشفاء به، هو كله كذلك وكذا جميع أبعاضه؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ وهو أنس المحبين، وسلوة المشتاقين، وإنه النور المبين، الذي من استبصر به انكشف له من الحقائق ما كان مستوراً، وانطوى عنه من البوائق ما كان منشوراً، كما أن الباطل داء ونقمة للكافرين ‏{‏و‏}‏ من أعجب العجب أن هذا الشفاء ‏{‏لا يزيد الظالمين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف، وهم الذين يضعون الشيء في غير موضعه، بإعراضهم عما يجب قبوله ‏{‏إلا خساراً *‏}‏ أي نقصاناً، لأنهم إذا جاءهم وقامت به الحجة عليهم، أعرضوا عنه، فكان إعراضهم ذلك زيادة في كفرانهم، كما أن قبول المؤمنين له وإقبالهم على تدبره زيادة في إيمانهم، وفي الدارمي عن قتادة قال‏:‏ ما جالس القرآن أحد فقام عنه بزيادة أو نقصان- ثم قرأ هذه الآية؛ ثم عطف على هذا المقدر المعلوم تقديره ما هو أعم منه وأبين في الفتنة والاجتراء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أنعمنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏على الإنسان‏}‏ أي هذا النوع هؤلاء وغيرهم بأيّ نعمة كانت، من إنزال القرآن وغيره ‏{‏أعرض‏}‏ أي عن ذكر المنعم كإعراض هؤلاء عند مجيء هذه النعمة التي لا نعمة مثلها ‏{‏ونأ‏}‏ أي تباعد تكبراً ‏{‏بجانبه‏}‏ بطراً وعمى عن الحقائق ‏{‏وإذا مسه الشر‏}‏ أي هذا النوع وإن قل ‏{‏كان يئوساً *‏}‏ أي شديد اليأس هلعاً وقلة ثقة بما عنده من رحمة الله إلا من حفظه الله وشرفه بالإضافة إليه فليس للشيطان عليه سلطان‏.‏

ولما كان المفرد المحلى باللام يعم، كان هذا ربما اقتضى من بعض المتعنتين اعتراضاً بأن يقال‏:‏ إنا نرى بعض الإنسان إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وكان هذا الاعتراض ساقطاً لا يعبأ به، أما أولاً فلأنه قد تقدم الجواب عنه في سورة يونس عليه السلام في قوله تعالى ‏{‏كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 12‏]‏ بأن هذا في المسرفين دون غيرهم، وبقوله تعالى في سورة هود عليه السلام ‏{‏إلا الذين صبروا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 11‏]‏ ولعله طواه في هذا المقام إشارة إلى أنه لقلة أفراده كأنه عدم، وأما ثانياً فلأن المحلى باللام سواء كان مفرداً أو جمعاً في قوة الجزئي حتى يرد ما يدل على أنه كلي، فلذلك أعرض تعالى عنه وأمره بالجواب عن القسمين المشار إليه والمنصوص عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا أشرف خلقنا‏!‏ ‏{‏كل‏}‏ من الشاكر والكافر ‏{‏يعمل على شاكلته‏}‏ أي طريقته التي تشاكل روحه وتشاكل ما طبعنا عليه من خير أو شر ‏{‏فربكم‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن الذي خلقكم ودرجكم في أطوار النمو، لا غيره ‏{‏أعلم‏}‏ مطلقاً ‏{‏بمن هو‏}‏ منكم ‏{‏أهدى سبيلاً *‏}‏ أي أرشد وأقوم من جهة المذهب بتقواه وإحسانه، فيشكر ويصبر احتساباً فيعطيه الثواب، ومن هو أضل سبيلاً، فيحل به العقاب، لأنه يعلم ما طبعهم عليه في أصل الخلقة وغرزه فيهم من الخلائق، وغيره إنما يعلم أمور الناس في طرائقهم بالتجربة؛ وقد روى الإمام أحمد- لكن بسند منقطع- عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، فإنه يصير إلى ما جبل عليه» هذا كله الإعراض بالفعل، وإن كان بالقوة التزمنا أنها كلية، والله أعلم بالمهتدي فيحفظه من الإعراض واليأس بالفعل هو فيه بالقوة‏.‏

ولما بين سبحانه- بعد التعجيب من إنكارهم البعث- جهل الإنسان، وما هو عليه من الضلال والنسيان، إلا من فضله على أنباء نوعه كما فضل طينته على سائر الطين، وختم بآية المشاكلة التي منها مشاكلة بعض الأرواح لبعض ومشاكلتها للطباع، وبان بذلك أنه سبحانه وتعالى قادر على فعل ما يشاء عالم بكل معلوم، رجع إلى التعجب منهم بما هو من شأن الأرواح التي من شأنها التشاكل فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏وقالوا إذا كنا عظاماً‏}‏‏:‏ ‏{‏ويسئلونك‏}‏ أي تعنتاً وامتحاناً ‏{‏عن الروح‏}‏ الذي تقدم أنها تعاد إلى أجسادهم يوم البعث ولو كانوا حجارة أو حديداً‏:‏ ما هي‏؟‏ هل هي جسم أم لا‏؟‏ وهل هي متولدة من امتزاج الطبائع التي في البدن أم امتزاجه مبتدأ‏؟‏ وهل هي قديمة أم حادثة‏؟‏ ولما كان ذلك تعنتاً، مع أنه لا يفتقر إليه في صحة اعتقاده، أمره بأن يجيبهم عنه بما يليق بحالهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الروح‏}‏ أي هذا النوع الذي تصير به الأجسام حية ‏{‏من أمر ربي‏}‏ أضافها إلى الأمر وهو الإرادة وإن كانت من جملة خلقه، تشريفاً لها وإشارة إلى أنه لا سبب من غيره يتوسط بينها وبين أمره، بل هو يبدعها من العدم، أو يقال- وهو أحسن‏:‏ إن الخلق قسمان‏:‏ ما كان بتسبيب وتنمية وتطوير، وهو الذي يترجم في القرآن بالخلق، والثاني ما كان إخراجاً من العدم بلا تسبيب ولا تطوير، وهو المعبر عنه بالأمر، ومنه هذه الروح المسؤول عنها وكل روح في القرآن، وكذا ما هو للحفظ والتدبير كالأديان، والجامع لذلك القيومية كما مضى عن الحرالي عند روح القدس في البقرة، فأفادت هذه العبارة أنها محدثة، وأنها غير مطورة ولا مسببة، وهي جسم لطيف سار في البدن كماء الورد في الورد على الصحيح عند أهل السنة، وأمسك السلف عن الإمعان في الكلام على الروح أدباً، لأنهم علموا أن في عدم الجواب لسؤالهم بغير هذا إشارة إلى أن السكوت عنه أولى لهم؛ ثم أتبعه التنبيه على جهلهم لتعكيسهم في الأسئلة بتركهم الإقبال على ما لا يفهمونه بلا شك وينفعهم في الدارين من هذا الروح المعنوي وهو القرآن، وإقبالهم على ما لا يفهمونه من الروح المحسوس لقلة علمهم، ومن فهمه منهم لا يفهمه إلا بعسر عظيم، وفيه أسئلة كثيرة جداً لا برهان على أجوبتها، منها أنه متحيز أم لا‏؟‏ وأنه مغاير للنفس أم لا‏؟‏ وهل تبقى بعد الموت أم لا‏؟‏ فعلمنا به أنه إنما هو على الإجمال، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه، فإن أكثر حقائق الأشياء مجهولة، وهي موجودة‏.‏

فالسكنجبين خاصيته قمع الصفراء، وحقيقة تلك الخاصية مجهولة، وهي معلومة الوجود، وليس وراء العلم بما سألوا عنه من الروح بعد فهمه من الفائدة ما لذلك الذي تركوه ولا قريب منه، فقال تعالى دالاً على حدوثه بتغيره، فإنه يكون في المبدإ جاهلاً ثم يحدث له العلم شيئاً بعد شيء، وكل متغير حادث‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم‏}‏ أي من أيّ مؤت كان بعد أن كنتم لا تعلمون شيئاً ‏{‏من العلم‏}‏ أي مطلق هذه الحقيقة، فكيف بالمشكل منها ‏{‏إلا قليلاً *‏}‏ ومما تجهلونه أمور ضرورية لكم، لأن تماديكم على الجهل بها سبب لهلاككم في الدارين، فمن أجهل الجهل وأضل الضلال أن تسألوا عما لا يضركم الجهل به، ويتوقف إثباته على أمور دقيقة، ومقدمات صعبة، وتتركوا ما يضركم الجهل به في الدين والدنيا، مع كونه في غاية الوضوح، لكثرة ما قام عليه من الأدلة، وله بحضرتكم من الأمثلة، والذي سألتموه منزه عن الغش والضيق، فهو ينبهكم على عبثكم نصيحة لكم ويعدل عن جوابكم عنه إلى ما ينفعكم رفقاً بكم، ولفهم هذا سكت السلف عن الخوض في أمره، والخطاب لليهود والعرب، أما العرب فواضح، وأما اليهود فإنهم وإن كانوا أهل الكتاب فذلك إشارة إلى تلاشي علمهم في جنب علم الله؛ كما ستأتي الإشارة إليه بقول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام في العصفور الذي نقر من البحر نقرة أو نقرتين، فحيث ورد تعظيم على أحد وتكثره فهو بالنسبة إلى غيره من الخلق، وحيث ورد تقليله- كما في هذه الآية- فهو من حيث إضافته إلى علم الله تعالى، وهذه الآية ورد في سبب نزولها ما يظن أنه متناقض، فإنه روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يمشي مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المدينة، فسأله اليهود عن الروح فأوحى إليه، فلما انجلى عنه الوحي تلا عليهم- الآية‏.‏

وفي السيرة الهشامية والدلائل للبيهقي وتفسير البغوي وغيره من التفاسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قريشاً أرسلت إلى اليهود قبل الهجرة تسألهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عند قريش، فأمروهم أن يسألوه عن الروح، وعن قصتي أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «أخبركم بما سألتم عنه غداً»- ولم يستثن، فانصرفوا عنه، فمكث فيما يذكرون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، حتى أرجف به أهل مكة، وحتى حزن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، وروي أيضاً أن لبث الوحي كان أربعين ليلة‏.‏ وروي‏:‏ اثنتي عشرة ليلة، وفي مسند أبي يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قالت قريش ليهود‏:‏ أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل‏!‏ فقالوا‏:‏ سلوه عن الروح، فسألوه، ونزلت ‏{‏ويسئلونك‏}‏- الآية‏.‏ وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه، أو خشية أن يكون نسخ- أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب، وفيه مقنع، وفي تأخير الجواب في هذا الأمر برهان قاطع لقريش وكل من له أدنى لب على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أن هذا القرآن من عند الله، لا يقدر عليه غيره، لأنه لو كان قادراً على الإتيان بشيء منه من عند نفسه أو من عند أحد من الخلق لبذل جهده في ذلك، تنزيهاً لنفسه الشريفة، وهمته المنيفة، وعرضه الطاهر، عن مثل ما خاضوا فيه بسبب إخلاف موعدهم‏.‏

ولما كانت الروح من عالم الأمر الذي هو من سر الملكوت، ضمت إلى سورة الإسراء الذي هو من أبطن سر الملكوت لاسيما بما علا به من المعراج الذي جعل لغرابته كالرؤيا ‏{‏وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس‏}‏ ولذلك فصلت عن السؤالين الآخرين، لأنهما من عالم الملك، وسيأتي بقية الكلام على هذا في سورة الكهف إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 93‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ‏(‏86‏)‏ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ‏(‏87‏)‏ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(‏88‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏89‏)‏ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ‏(‏90‏)‏ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏91‏)‏ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ‏(‏92‏)‏ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

ولما شرح إرادتهم الفتنة عما جاءهم من العلم بتبديل المنزل، وإخراج المرسل، وما تبع ذلك حتى ختم بتجهيلهم إذ سألوا تعنتاً عن الروح الحسي، وكان الأنفع لهم سؤالهم استفادة وتفهماً عن دقائق الروح المعنوي الذي أعظم الله شرفهم به بإنزاله إليهم على لسان رجل منهم هو أشرفهم مجداً، وأطهرهم نفساً، وأعظمهم مولداً، وأزكاهم عنصراً، وأعلاهم همة، وختم بتقليل علمهم إشارة إلى أنهم لا يفهمون إلا أن يفهمهموه سبحانه وهو أعلم بما يفهمونه وما لا يفهمونه، قال عاطفاً على ‏{‏وإن كادوا ليفتنونك‏}‏ تنبيهاً لهم على أنه لو شاء لذهب بسبب هذا العلم القليل الذي وهبهموه، فعمهم الجهل كما كانوا، وعلى أنه لم يكفهم ترك السؤال عما يعنيهم حتى سألوا عما لا يعنيهم، وأرادوا تبديل ما ينفعهم ويعنيهم بما يبيدهم ويفنيهم، فضلوا قولاً وفعلاً‏:‏ ‏{‏ولئن شئنا‏}‏ ومشيئتنا لا يتعاظمها شيء، ولامه موطئة للقسم، وأجاب عن القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لنذهبن‏}‏ أي بما لنا من العظمة ذهاباً محققاً ‏{‏بالذي أوحينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إليك‏}‏ مما أرادوا الفتنة فيه من القرآن على أن فيه من العلم ما يغنيهم- لو أقبلوا على تفهمه- عن شيء من الأشياء فلا تبقى عندك نحن ولا وحينا، ولإفادة هذا لم يقل‏:‏ لأذهبنا‏.‏ ‏{‏ثم‏}‏ أي بعد الذهاب به ‏{‏لا تجد لك‏}‏ ولما كان السياق هنا للروح الذي هو الوحي، فكانت العناية به أشد، قدم قوله‏:‏ ‏{‏به‏}‏ ولما كان السياق لمن يأخذ ما يريد طوعاً وكرهاً، قال تعالى‏:‏ ‏{‏علينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا تعارض ‏{‏وكيلاً *‏}‏ يأتيك به أو بشيء منه‏.‏

ولما كان لا ملجأ منه سبحانه إلا إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا‏}‏ أي لكن تجد ‏{‏رحمة‏}‏ مبتدئة وكائنة ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بأن أوجدك ورباك، ولم يقطع إحسانه قط عنك، يعيد بها إليك ويأتيك بما يقوم مقامه، وعبر عن أداة الانقطاع بأداة الاتصال إشارة إلى أن رحمته سبحانه له- التي اقتضتها صفة إحسانه إليه لعظمها- كالوكيل الذي يتصرف بالغبطة على كل حال‏.‏

ولما كان في إنزاله إليه ثم إبقائه لديه من النعمة عليه وعلى أمته ما لا يحصى، نبه على ذلك بقوله تعالى مستأنفاً مؤكداً لأن كون الرحمة هكذا من أغرب الغريب، فهو بحيث لا يكاد يصدق، وهو مما يتلذذ بذكره ‏{‏إن فضله كان‏}‏ أي كوناً ثابتاً ‏{‏عليك‏}‏ أي خاصة ‏{‏كبيراً *‏}‏ أي بالغ الكبر، وقد ورد أنه يذهب بالقرآن في آخر الزمان، يسري بما في المصاحف وبما في القلوب، وقد أفهمت ذلك هذه الآية لأن كلام الملوك يفهم أصل الشيء ولو كان في سياق الشرط‏.‏

ولما كان بمعرض أن يقولوا‏:‏ إن ذهب عليك من شيء فائت بمثله من عند نفسك ومما اكتسبته منه من الأساطير، أمره أن يجيبهم عن هذا بقوله دلالة على مضمون ما قبله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏‏.‏

ولما أريد هنا المماثلة في كل التفصيل إلى جميع السور في المعاني الصادقة، والنظوم الرائقة، كما دل عليه التعبير بالقرآن، زاد في التحدي قيد الاجتماع من الثقلين وصرف الهمم للتظاهر والتعاون والتظافر بخلاف ما مضى في السور السابقة، فقال تعالى مؤكداً باللام الموطئة للقسم لادعائهم أنهم لو شاؤوا أتوا بمثله، والجواب حينئذ للقسم، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم‏:‏ ‏{‏لئن اجتمعت الإنس‏}‏ الذين تعرفونهم وتعرفون ما أتوا من البلاغة والحكمة والذين لا تعرفونهم، وقدمهم لسهولة اجتماعهم بهم ولأنهم عندهم الأصل في البلاغة ‏{‏والجن‏}‏ الذين يأتون كهانكم ويشجعون لهم ويعلمونهم ببعض المغيبات عنهم، وترك الملائكة لأنهم لا عهد لهم بشيء من كلامهم ‏{‏على أن يأتوا‏}‏ أي يجددوا إيتاءً ما في وقت ما في حال اجتماعهم ‏{‏بمثل هذا القرآن‏}‏ أي جميعه على ما هو عليه من التفصيل، وخصه بالإشارة تنبيهاً على أن ما يقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الله وحي من الله، ليس فيه شيء من عند نفسه، وأن المراد في هذا السياق المتحدى به الذي اسمه القرآن خاصة ‏{‏لا يأتون‏}‏‏.‏

ولما كانت هذه السورة مكية، فكان أكثر ما يمكن في هذه الآية أن يكون آخر المكي فيختص التحدي به، وكان المظهر إذا أعيد مضمراً أمكن فيه الخصوص، وكان المراد إنما هو الشمول، ومتى أريد الشمول استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط كما يأتي عن الحرالي في أواخر سورة الكهف، لم يقل هنا «به» لذلك، ولئلا يظن أنه يعود على القرآن لا على مثله، بل أظهر فقال دالاً على أن المراد جميع المكي والمدني‏:‏ ‏{‏بمثله‏}‏ أي لا مع التقيد بمعانيه الحقة الحكيمة حتى يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة، مبيناً لأحسن المعاني بأوضح المباني، ولا مع الانفكاك عنها إلى معانٍ مفتراة؛ ثم أوضح أن المراد الحكم لعجزهم مجتمعين ومنفردين متظاهرين وغير متظاهرين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو‏}‏ ولما كان المكلفون مجبولين على المخالفة وتنافي الأغراض قال تعالى‏:‏ ‏{‏كان‏}‏ أي جبلة وطبعاً على خلاف العادة ‏{‏بعضهم لبعض ظهيراً *‏}‏ أي معيناً بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه، وقد تقدم في السور المذكور فيها التحدي ما يتم هذا المعنى‏.‏

ولما تمت هذه الجمل على هذا الوجه الجميل، والوصف الجليل، نبه على ذلك سبحانه بقوله عطفاً على نحو‏:‏ صرفنا هذه الأمثال كما ترون على أعلى منهاج وأبلغ سياق في أبدع انتظام‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا‏}‏ أي رددنا وكررنا تكريراً كثيراً بما لنا من العظمة، ولما كان مبنى السورة على بيان العناية بالناس الذين اتقوا والذين هم محسنون، اقتضى المقام لمزيد الاهتمام تقديم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للناس‏}‏ أي الذين هم ناس ‏{‏في هذا القرءان‏}‏ الهادي للتي هي أقوم ‏{‏من كل مثل‏}‏ أي من كل ما هو في غرابته وسيره في أقطار الأرض وبلاغته ووضوحه ورشاقته كالمثل الذي يجب الاعتبار به؛ والتصريف‏:‏ تصيير المعنى دائراً في الجهات المختلفة بالإضافة والصفة والصلة ونحو ذلك ‏{‏فأبى‏}‏ أي فتسبب عن ذلك الذي هو سبب للشفاء والشكر والهدى، تصديقاً لقولنا ‏{‏ولا يزيد الظالمين إلا خساراً‏}‏ أنه أبى ‏{‏أكثر الناس‏}‏ وهم من هم في صورة الناس وقد سلبوا معانيهم‏.‏

ولما كان «أبى» متأولاً بمعنى النفي، فكان المعنى‏:‏ فلم يرضوا مع الكبر والشماخة، استقبله بأداة الاستثناء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا كفوراً *‏}‏ لما لهم من الاضطراب‏.‏

ولما كان هذا أمراً معجباً، عجب منهم تعجيباً آخر، عاطفاً له على ‏{‏ويسئلونك‏}‏ إن كان المراد بالناس في قوله ‏{‏فأبى أكثر الناس‏}‏ الكل، وعلى «فأبى» إن كان المراد بهم قريشاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي كفار قريش ومن والاهم تعنتاً بعد ما لزمهم من الحجة ببيان عجزهم عن المعارضة ولغير ذلك فعل المبهوت المحجوج المعاند، مؤكدين لما لزمهم من الحجة التي صاروا بها في حيز من يؤمن قطعاً من غير توقف‏:‏ ‏{‏لن نؤمن‏}‏ أي نصدق بما تقول مذعنين ‏{‏لك حتى تفجر‏}‏ أي تفجيراً عظيماً ‏{‏لنا‏}‏ أي أجمعين ‏{‏من الأرض ينبوعاً *‏}‏ أي عيناً لا ينضب ماءها ‏{‏أو تكون لك‏}‏ أي أنت وحدك ‏{‏جنة من نخيل و‏}‏ أشجار ‏{‏عنب‏}‏ عبر عنه بالثمرة لأن الانتفاع منه بغيرها قليل ‏{‏فتفجر‏}‏ أي بعظمة زائدة ‏{‏الأنهار‏}‏ الجارية ‏{‏خلالها تفجيراً *‏}‏ وهو تشقيق عما يجري من ماء أو ضياء أو نحوهما؛ فالفجر‏:‏ شق الظلام من عمود الصبح، والفجور‏:‏ شق جلباب الحياء بما يخرج إلى الفساد ‏{‏أو تسقط السماء‏}‏ أي نفسها ‏{‏كما زعمت‏}‏ فيما تتوعدنا به ‏{‏علينا كسفاً‏}‏ أي قطعاً جمع كسفه وهي القطعة، ويجوز أن يكون المراد بذلك الحاصب الآتي من جهة العلو وغيره مما توعدوا به في نحو قوله ‏{‏أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏ وتسمية ذلك سماء كتسمية المطر بل والنبات سماء‏:‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

‏{‏أو تأتي‏}‏ معك ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏والملائكة قبيلاً *‏}‏ أي إتياناً عياناً ومقابلة ينظر إليه لا يخفى على أحد منا شيء منه، وكان أصله الاجتماع الذي يلزم منه المواجهة بالإقبال من قبائل الرأس الجامعة ‏{‏أو يكون لك‏}‏ أي خاصاً بك ‏{‏بيت من زخرف‏}‏ أي ذهب كامل الحسن والزينة ‏{‏أو ترقى‏}‏ أي تصعد ‏{‏في السماء‏}‏ درجة درجة ونحن ننظر إليك صاعداً ‏{‏ولن نؤمن‏}‏ أي نصدق مذعنين ‏{‏لرقيك‏}‏ أي أصلاً ‏{‏حتى تنزل‏}‏ وحققوا معنى كونه ‏{‏من السماء‏}‏ بقولهم‏:‏ ‏{‏علينا كتاباً‏}‏ ومعنى كونه، ‏{‏في رق‏}‏ أو نحو قولهم‏:‏ ‏{‏نقرؤه‏}‏ يأمرنا فيه باتباعك‏.‏

فلما تم تعنتهم فكان لسان الحال طالباً من الله تعالى الجواب عنه، أمره الله تعالى بجوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل سبحان ربي‏}‏ أي تنزه عن أن يكون له شريك في ملكه يطلب منه ما لا يطلب إلا من الإله، فهو تنزيه لله وتعجيب منه لوضوح عنادهم بطلبهم ما لا قدرة عليه إلا للإله ممن لا قدرة له على شيء منه إلا بإذن الله، ولم يدّع قط أنه قادر على شيء منه، فحسن الاستفهام جداً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل كنت إلا بشراً‏}‏ لا يقدر على غير ما يقدر عليه البشر ‏{‏رسولاً *‏}‏ كما كان من قبلي من الرسل، لا أتعدى ما أمرت به من التبليغ، فلا آتي بشيء إلا بإذن الله، ولم أقل‏:‏ إني إله، حتى يطلب مني ما يطلب من الإله ورتبوا أنفسهم هذا الترتيب لأنهم حصروا حاله في دعوى أن يكون عظيماً بالرسالة أو غيرها ليتبعه الناس، فإن كان الأول كان مقبول القول عند مرسله، وحينئذ فإما أن يسأله في نفع عام بالينبوع، أو خاص به بالجنة إن بخل بالعام، أو ضر بالكشف أو يسأله في الإتيان مع جنده لأن يصدقه، وإن كانت عظمته بغير ذلك فإما أن يكون ملكاً ليكون له البيت المذكور بما جرت العادة أن يكون تابعاً له، أو يكون ممن يجتمع بالملك الذي أرسله فيرقى على ما قالوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 100‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا ‏(‏94‏)‏ قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ‏(‏95‏)‏ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏96‏)‏ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ‏(‏97‏)‏ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏98‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏99‏)‏ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

ولما أمر بما تضمن أنه كإخوانه من الرسل في كونه بشراً، أتبعه قوله تعالى عطفاً على‏:‏ ‏{‏فأبى‏}‏ أو ‏{‏فقالوا‏}‏‏:‏ ‏{‏وما منع الناس‏}‏ أي قريشاً ومن قال بقولهم لما لهم من الاضطراب ‏{‏أن يؤمنوا‏}‏ أي لم يبق لهم مانع من الإيمان، والجملة مفعول «منع» ‏{‏إذ جاءهم الهدى‏}‏ أي الدليل القاطع على الإيمان وهو القرآن وغيره من الأدلة ‏{‏إلا‏}‏ وفاعل منع ‏{‏أن قالوا‏}‏ أي منكرين غاية الإنكار متعجبين متهكمين‏:‏ ‏{‏أبعث الله‏}‏ أي بما له من العظمة الباهرة من صفات الجلال والإكرام ‏{‏بشراً ورسولاً *‏}‏ وسبب اتباع الضلال- مع وضوح ضره- وترك الهدى- مع ظهور نفعه- وقوع الشبهة أو الشهوة لضعفاء العقول- وهم أكثر الناس- في أوله ثم تقليد الرؤساء وتمكن العادة السيئة فيما بعد ذلك، فلما أنكروا كون الرسول بشراً بعد أن جعلوا الإله حجراً، علمه جوابهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ لهم‏:‏ قال ربي سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لو كان‏}‏ أي كوناً متمكناً ‏{‏في الأرض‏}‏ التي هي مسكن الآدميين ‏{‏ملائكة يمشون‏}‏ عليها كالآدميين من غير طيران كالملائكة إلى السماء ‏{‏مطمئنين‏}‏ باتخاذهم لها قراراً كما فعل البشر ‏{‏لنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏عليهم‏}‏ مرة بعد مرة كما فعلنا في تنزيل جبريل عليه السلام على الأنبياء من البشر، وحقق الأمر بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من السماء ملكاً رسولاً *‏}‏ لتمكنهم من التلقي منه لمشاكلتهم له بخلاف البشر كما هو مقتضى الحكمة، لأن رسول كل جنس ينبغي أن يكون منهم، إذ الشيء عن شكله أفهم، وبه آنس، وإليه أحسن، وله آلف، إلا من فضله بتغليب نفسه وعقله على شهوته فأقدره بذلك على التلقي من الملك‏.‏

ولما نصب البرهان القاطع على أن القرآن الموحى إليه من عند الله، ونفى شبهتهم في إنكار كون الرسول بشراً، بأنه ما خرج عن عادة من قبله ممن كانوا مقرين بأنهم أنبياء، وبأن الجنس لا يفهم عن جنس آخر، فالبشر لا يفهم عن الملك إلا بخارقة، ولا يكون ذلك إلا للرسل ومن أراد الله من أتباعهم، لم يبق إلا محض العناد الذي لا رجوع فيه إلا إلى السيف عند القدرة، وإلى الله عند فقدها، وكان في مكة المشرفة غير قادر على السيف، أمره الله تعالى بالرجوع إلى السيف فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏شهيداً‏}‏ أي فيصلاً يكون ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ يعامل كلاًّ منا بما يستحق؛ ثم علل كفايته لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه كان بعباده‏}‏ قبل أن يخلقهم ‏{‏خبيراً‏}‏ بما يؤول إليه أمرهم بعد إيجاده لهم ‏{‏بصيراً *‏}‏ بما يكون منهم بعد وجوده‏.‏

ولما تقدم أنه سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدي والضال، وكان ختم هذه الآية مرشداً إلى أن المعنى‏:‏ فمن علم منه بجوابه قابلية للخير وفقه للعمل على تلك المشاكلة، ومن علم منه قابلية للشر أضله، عطف عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يهد الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله لأنه لا شريك له، بخلق الهداية في قلبه، وأشار إلى قلة المهتدي على طريقة الإحسان بإفراد ضميره، وإلى كثرة الضال بجمعه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏المهتد‏}‏ لا يمكن أحداً غيره أن يضله ‏{‏ومن يضلل‏}‏ فهو الضال لا هادي له، وذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن تجد لهم‏}‏ أي للضالين ‏{‏أولياء‏}‏ أي أنصاراً في هذه الدنيا ‏{‏من دونه‏}‏ يهدونهم ولا ينفعونهم بشيء أراد الله غيره، ولذلك نفوا أصلاً ورأساً، لأنهم إذا انتفى نفعهم كانوا كالعدم، وإذا انتفى على الجمع انتفى عن المفرد من باب الأولى؛ فالآية من الاحتباك‏:‏ خبر الأول يدل على حذف ضده ثانياً، ونتيجة الثاني تدل على حذف ضدها من الأول‏.‏

ولما كان يوم الفصل يوماً يظهر فيه لكل أحد في كل حالة من عظمته تعالى ما يضمحل معه كل عظمة قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونحشرهم‏}‏ بنون العظمة أي نجمعهم بكره ‏{‏يوم القيامة‏}‏ أي الذي هو محط الحكمة ‏{‏على وجوههم‏}‏ يمشون أو مسحوبين عليها إهانة لهم فيها كما لم يذلوها بالسجود لنا ‏{‏عمياً وبكماً وصماً‏}‏ كما كانوا في الدنيا لا ينتفعون بأبصارهم ولا نطقهم ولا أسماعهم، بل يكون ضرراً عليهم لما ينظرون من المعاطب، ويسمعون من المصائب، وينطقون به من المعايب؛ قال الرازي في اللوامع إذ يحشر المرء على ما مات عليه، فلم يكن له في الآخرة شيء إلا حصل أوله ومبدأه في الدنيا وتمامه في الآخرة- انتهى‏.‏

ولما كان المقام للانتقال من مقام إلى آخر، قدم البصر لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالنطق لأنه يمكن الأعمى الاسترشاد، وختم بالسمع لأنه يمكن معه وحده نوع رشاد، وعطفها بالواو إن كان لتشريك الكل في كل من الأوصاف فللتهويل، لأن المتكلم إذا نطق بالعاطف ظن السامع الانتقال إلى شيء آخر، فإذا أتى بالوصف كان أروع للعلم بأن صاحبه عريق فيه، لما تقدم في براءة، وإن كان للتنويع فلتصويرهم بأقبح صورة من حيث إنه لا ينتفع فريق منهم بالآخر كبير نفع، فكأنه قيل‏:‏ إلى أيّ مكان يحشرون‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ تستعر عليهم وتتجهمهم، كل واحد منهم يقاسي عذابها وحده وإن كان وجهه إلى وجه صاحبه، لأنه لا يدرك سوى العذاب للختم على مشاعره، فيا طولها من غربة‏!‏ ويا لها من كربة‏!‏ فكأنه قيل‏:‏ هل يفتر عنهم عذابها‏؟‏ فقيل‏:‏ لا بل هم كل ساعة في زيادة، لأنها ‏{‏كلما خبت‏}‏ أي أخذ لهبها في السكون عند إنضاجها لجلودهم ‏{‏زدناهم‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏سعيراً *‏}‏ بإعادة الجلود؛ ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي العذاب العظيم ‏{‏جزاؤهم بأنهم‏}‏ أهل الضلالة ‏{‏كفروا بآيتنا‏}‏ القرآنية وغيرها، مع ما لها من العظمة بنسبتها إلينا، وكانوا كل يوم يزدادون كفراً، وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا ‏{‏وقالوا‏}‏ إنكاراً لقدرتنا ‏{‏إذا كنا عظاماً ورفاتاً‏}‏ ممزقين في الأرض؛ ثم كرروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم‏:‏ ‏{‏أإنا لمبعوثون‏}‏ أي ثابت بعثنا ‏{‏خلقاً جديداً *‏}‏ فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرر الخلق الجديد في جلودهم مكرراً كل لحظة

‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏ ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم فقال منبهاً على أنهم أولى بالإنكار عاطفاً على ما تقديره‏:‏ ألم يروا أن الله الذي ابتدأ خلقهم قادر على أن يعيدهم ‏{‏أو لم يروا‏}‏ أي يعلموا بعيون بصائرهم علماً هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل، ونادى بصحته من الشواهد الجلائل ‏{‏أن الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لا غيره ‏{‏الذي خلق السماوات‏}‏ جمعها لما دل على ذلك من الحسن، ولما لم يكن للأرض مثل ذلك أفردها مريداً الجنس الصالح للجمع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ على كبر أجرامها، وعظم أحكامها، وشدة أجزائها، وسعة أرجائها، وكثرة ما فيها من المرافق والمعاون التي يمزقها ويفنيها ثم يجددها ويحييها ‏{‏قادر على أن يخلق‏}‏ أي يجدد في أي وقت أراد ‏{‏مثلهم‏}‏ بدءاً فكيف بالإعادة وهم أضغف أمراً وأحقر شأناً ‏{‏و‏}‏ أنه ‏{‏جعل لهم أجلاً‏}‏ لعذابهم أو موتهم أو بعثهم لأنه معلوم في نفسه ‏{‏لا ريب فيه‏}‏ بوجه من الوجوه لما تكرر لهم من مشاهدة أنه لا تؤخر نفس إذا جاء أجلها، وكذا لا تقدم على أجلها، فكم ممن اجتهد الضراغمة الأبطال وفحول الرجال في ضره أو قتله؛ وهم قاطعون أنه في قبضتهم فلم يقدروا على ذلك، ثم كان ذلك بأضعف الناس أو بأوهى سبب فعلم بذلك أنه المنفرد بالقدرة على الإيجاد والإعدام ‏{‏فأبى‏}‏ أي بلى قد علموا ذلك علماً كالمحسوس المرئي فتسبب عن ذلك السبب للإيمان أن أبوا- هكذا كان الأصل فأظهر تعميماً وتعليقاً بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏الظالمون‏}‏ أي أبى هؤلاء المتعنتون لظلمهم ‏{‏إلا كفوراً *‏}‏ أي جحوداً لعدم الشركة‏.‏

ولما قدم في هذه السورة أنه هو المعطي وأن عطاءه الجم- الذي فات الحصر، وفضل عن الحاجة، وقامت به الحجة على العباد في تمام قدرته وكمال علمه- غير محظور عن أحد، وأنهم يقتلون أولادهم مع ذلك خشية الإملاق، وهم يطلبون أن يظهر لهم من جنس ما خلق من الينابيع والجنات والذهب والزخرف على كيفيات مخصوصة لغير حاجة ما تقدم ذكره، وقد امتنعوا بخلاً وأنفة وجهلاً عن الاعتراف له بما أوجبه عليهم شكراً لنعمته، واستدفاعاً لنقمته، بعد قيام الدلائل وزوال الشبه فلا أبخل منهم لأنهم بخلوا مما يجب عليهم من الكلام كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏

«أبخل الناس من بخل بالسلام» أمره أن ينبههم على سفههم في ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو‏}‏‏.‏

ولما كان من حق «لو» الدخول على الأفعال، علم أن بعدها فعلاً من جنس ما بعد تقديره‏:‏ تملكون ولكنه حذفه وفصل الضمير لأن المقصود الحكم عليهم بادئ بدء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أنتم‏}‏ أي دون غيركم ‏{‏تملكون خزائن‏}‏ عبر بصيغة منتهى الجموع، لأن المقام جدير المبالغة ‏{‏رحمة‏}‏ أي إرزاق وإكرام ‏{‏ربي‏}‏ المحسن إليّ بإيتائي جميع ما ثبت أمري وأوضحه، وهي مقدوراته التي يرحم بها عباده بإضافتها عليهم ‏{‏إذاً لأمسكتم‏}‏ أي لوقع منكم الإمساك عن الإنفاق في بعض الوجوه التي تحتاجونها ‏{‏خشية‏}‏ عاقبة ‏{‏الإنفاق‏}‏ أي الموصل إلى الفقر، ثم استدل على صحة هذا المفروض بالمشاهد من مضمون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏الإنسان‏}‏ أي الذي من شأنه الإنس بنفسه، فهو لذلك لا يعقل الأمور حق عقلها ‏{‏قتوراً *‏}‏ أي بخيلاً ممسكاً غاية الإمساك لإمكان أن يكون فقيراً فلا تراه إلا مضيقاً في النفقة على نفسه، ومن تلزمه نفقته، شديداً في ذلك وإن اتسعت أحواله، وزادت على الحد أمواله، لما فيه من صفة النقص اللازمة بلزوم الحاجة له، طبع على ذلك فهو في غريزته بالقوة، فكلهم يفعله إلا من وفقه الله تعالى فغلب عقله على هواه وقليل ما هم‏!‏ أي فإذا كان هذا أمركم فيما تملكونه مع الحاجة إلى الوجوه المنفق فيها فكيف تطلبون من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يملكه، ولا ادعى القدرة عليه‏؟‏ أو من الخالق الحكيم أن يفعل ما تتعنتون به عبثاً بغير حاجة أصلاً، لأنه إن كان لإثبات قدرته فأنتم لا تمترون فيها، وإن كان لإثبات رسالة نبيكم فقد ثبت بأمور أعظمها هذا القرآن الذي مر آنفاً إقامة الدليل عليها به، وهتك أستار شبهتكم في استبعاد كون الرسول بشراً، والله تعالى قد أكرمكم بنبيكم عن أن يعاجلكم بالاستئصال عند العصيان بعد كشف الغطاء كما جرت به سنته في جميع الأمم، وإن كان لإثبات غناكم فهو شيء لا يغني نفوسكم فيردها عن طلب المزيد وعن التقتير لما طبعتم عليه‏.‏ بل تكونون عند حصول ذلك لكم لحصول الغنى كالمستجير من الرمضاء بالنار، وهو قد قضى أنه يظهر أمره على كل من ناواه وإن كره الكافرون، وقد علم من يؤمن فييسر له الإيمان ويجعله عوناً لحزب الرحمن، ومن لا يؤمن فهو يجعله مع أولياء الشيطان، ويذيق الكل الهوان، ويجعلهم وقوداً للنيران، فلم يبق بعد هذا كله في إجابتكم إلى تعنتكم إلا العبث الذي هو سبحانه متعال عنه، فلا وجه يحصل به الإنسان الغني إلا اتباع السنة والانسلاخ عن الهوى، فمن وصل إلى ذلك استوى عنده الذهب والحصباء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 103‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ‏(‏101‏)‏ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ‏(‏102‏)‏ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

ولما قدم سبحانه أن أكثر الناس جحد الآيات لكونه حكم بضلاله، ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه، وختم بأن من جبل على شيء لم ينفك عنه، شرع يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام بما اتفق لمن قبله من إخوانه الأنبياء، مع التنبيه على أنه يجود بالآيات على حسب المقتضيات، وعلى أن خوارق العادات لا تنفع في إيمان من حكم عليه بالضلال، وتوجب- كما في سنه الله- إهلاك من عصى بعد ذلك بعذاب الاستئصال، فقال عاطفاً على قوله ‏{‏ولقد صرفنا للناس‏}‏‏:‏ ‏{‏ولقد ءاتينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏موسى‏}‏ بن عمران المتقي المحسن عليه السلام لما أرسلناه إلى فرعون ‏{‏تسع آيات بينات‏}‏ وهي- كما في التوراة‏:‏ العصى، ثم الدم، ثم الضفادع، ثم القمل، ثم موت البهائم، ثم البرد الكبار التي أنزلها الله مع النار المضطرمة، فكانت تهلك كل ما مرت عليه من نبات وحيوان، ثم الجراد، ثم الظلمة، ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان- كما مضى ذلك في هذا الكتاب عن التوراة في سورة الأعراف، وكأنه عد اليد مع العصى آية، ولم يفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم، وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت‏:‏

عصى قمل موت البهائم ظلمة *** جراد دم ثم الضفادع والبرد

وموت بكور الآدمي وغيره *** من الحيّ آتاها الذي عز وانفرد

وهي ملخصة في الزبور فإنه قال في المزمور السابع والسبعين‏:‏ صنع آياته وعجائبه في مصارع صاعان، وجعل أنهارهم دماً وصهاريجهم لكيلا يشربوا الماء‏:‏ أرسل عليهم الهوام وذباب الكلاب فأكلهم الضفادع وأفسدهم، أطعم القمل ثمارهم والجراد كدهم، كسر بالبرد كرومهم، وبالجليد تبنهم، أسلم للبرد مواشيهم وللحريق أموالهم، أرسل عليهم شدة حنقه سخطاً وغضباً، أرسل ملائكة الشر، فتح طرق سخطه، ولم يخلص من الموت أنفسهم، أسلم للموت دوابهم، قتل جميع أبكار مصر وأول أولادهم في مساكن حام‏.‏ وقال في المزمور الرابع بعد المائة بعد أن ذكر صنائع الله عند بني إسرائيل وآبائهم‏:‏ بعث جوعاً على الأرض، حطم زرع أرضهم، أرسل أمامهم رجلاً، بيع يوسف للعبودية، وأوثقوا بالقيود رجليه، صارت نفسه في الحديد حتى جاءت كلمته، وقول الرب ابتلاه، أرسل الملك فأطلقه، وجعله رئيساً على شعبه، وأقامه رباً على بنيه، وسلطانه على كل ما له، ليؤدب أراجينه كنفسه ويفقه مشايخه، دخل إسرائيل مصر، وتغرب يعقوب في أرض حام، وكثر شعبه جداً، وعلا على أعدائه، وصرف قلبه ليبغض شبعه ويغدر بعبيده، أرسل موسى عبده وهارون صفيه، فصنعا فيهم آياته وعجائبه في أرض حام، بعث ظلمة فصار ليلاً، وأسخطوا كلامه، فحول مياههم دماً، وأمات حيتانهم، وانبعثت أرضهم ضفادع في قياطين ملوكهم، أمر الهوام فجاء وذباب الكلب والقمل في جميع تخومهم، جعل أمطارهم برداً، واشتعلت النار في أرضهم، ضرب كرومهم وتبنهم، وكسر شجر تخومهم، أذن للجراد فجاء وذباب لا يحصى، فأكل جميع عشب الأرض وثمارها، وقتل كل أبكار مصر وأول ولد ولد لهم غير أنه لم يذكر العصى، وكأن ذلك لشهرتها جداً عندهم، ولأن جميع الآيات كانت بها، فهي في الحقيقة الآية الجامعة للكل، وإنما قلت‏:‏ إن الآيات هذه، لأن السياق يدل على أن فرعون رآها كلها، وعاند بعد رؤيتها، وذلك إشارة إلى أنه لو أعطى كفار قريش ما اقترحوه من تفجير الينبوع وما معه، لم يكفهم عن العناد، فالإتيان به عبث لا مصلحة فيه‏.‏

ولما كان اليهود الذين أمروا قريشاً بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الروح التي مضى الجواب عنها- كما في بعض الروايات- وعن أهل الكهف وذي القرنين الآتي شرح قصتيهما في الكهف، نبههم على سؤالهم- إن كانوا يقبلون كلامهم- عن أمر موسى عليه السلام في كونه كهذا النبي الكريم في أنه بشر مع كونه رسولاً وفي كونه أتى بالخوارق فكذب بها المعاندون فاستؤصل المكذب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فسئل‏}‏ أي يا أعظم خلقنا‏!‏ ‏{‏بني إسراءيل‏}‏ أي عامة الذين نبهوا قريشاً على أمر الروح عن حديث موسى عليه السلام أو المؤمنين كعبد الله بن سلام وأصحابه ‏{‏إذ‏}‏ أي عن ذلك حين ‏{‏جاءهم‏}‏ أي جاء آباءهم، فوقع له من التكذيب بعد إظهار المعجزات الباهرات ما وقع لك، ولم يكذب لخلل من أمره ولا لقوة من عدوه على مدافعة العذاب، وإنما كان جهلاً وعناداً، ليكون ذلك مسلاة لك وعلماً على خبث طباعهم وحجة قاطعة عليهم ‏{‏فقال‏}‏ أي فذهب إلى فرعون فأمره بإرسالهم معه فأبى فأظهر له الآيات واحدة بعد أخرى فتسبب عن ذلك ضد ما يقتضيه الحال، وهو أن قال ‏{‏له فرعون‏}‏ عتواً واستكباراً‏:‏ ‏{‏إني لأظنك‏}‏ أكد قوله لما أظهر موسى عليه السلام مما يوجب الإذعان له والإيمان والإنكار لأن يكذبه أحد ‏{‏يا موسى مسحوراً *‏}‏ أي فكل ما ينشأ عنك فهو من آثار السحر الذي بك، خيال لا حقيقة له، وأنت في الحقيقة مسحور، ولوجود السحر عنك ساحر، قال أبو عبيد‏:‏ كما يقال‏:‏ ميمون- بمعنى يأمن‏.‏ وكأنه موه على جنوده لما أراهم آية اليد بهذه الشبهة، وهذا كما قالت قريش ‏{‏إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً‏}‏ وقالوا في موضع آخر‏:‏ ساحر، فإنهم ربما أطلقوا اسم المفعول مريدين اسم الفاعل مبالغة في أنه كالمجبر على الفعل، وفي الأمر بسؤال اليهود تنبيه على ضلالهم، قال الشيخ ولي الدين الملوي‏:‏ ولعل منه اقتباس الأئمة في المناظرة مطالبة اليهود والنصارى ونحوهم بإثبات نبوة أنبيائهم، فكل طريق يسلكون يسلك مثله في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكل اعتراض يوردونه يورد عليهم مثله، وما كان جواباً لهم فهو جواب لنا، ومن تفطن للآية الكريمة رأى منها العجب في ذلك- انتهى ولم يؤمن فرعون على تواتر تلك الآيات وعظمها، فكأنه قيل‏:‏ فما قال موسى عليه السلام‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ لفرعون‏:‏ ‏{‏لقد علمت‏}‏ أي أنا بضم التاء على قراءة الكسائي ليفيد أن عنده العلم القطعي بأن ما أتى به منزل من ربه، فهو أعقل أهل ذلك الزمان وليس على ما ادعاه فرعون، أو بفتح التاء- على قراءة الباقين أي أنك يا فرعون صرت بما أظهرته أنا من الأدلة في عداد من يعلم أنه ‏{‏ما أنزل‏}‏ على يدي ‏{‏هؤلاء‏}‏ الآيات ‏{‏إلا رب السماوات والأرض‏}‏ أي خالقهما ومدبرهما حال كون هذه الآيات ‏{‏بصائر‏}‏ أي بينات ثابتاً أمرها علياً قدرها، يبصر بها صدقي، وأما السحر فإنه لا يخفى على أحد أنه خيال لا حقيقة له ‏{‏وإني‏}‏ أي وإن ظننتني يا فرعون مسحوراً ‏{‏لأظنك‏}‏ أكد لما كان مع فرعون من ينكر قوله ويظهر القطع بسعادة فرعون ‏{‏يا فرعون مثبوراً *‏}‏ أي ملعوناً مطروداً مغلوباً مهلكاً ممنوعاً من الخير فاسد العقل، وظني قريب إلى الصحة بخلاف ظنك لعنادك لرب العالمين، لوضوح مكابرتك للبصائر التي كشف عنها وبها الغطاء، فهي أوضح من الشمس، وذلك لإخلادك إلى الحال التي أنت بها وكسلك عن الانتقال عنها إلى ما هو أشرف منها، وقد بينت مدار «ثبر» في ‏{‏لا تثريب‏}‏ في سورة يوسف عليه السلام، فإذا راجعتها اتضح لك ما أشرت إليه ‏{‏فأراد‏}‏ أي فما تسبب عن هذا الذي هو موجب الإيمان في العادة إلا أن فرعون أراد ‏{‏أن يستفزهم‏}‏ أي يستخف موسى ومن آمن معه ويخرجهم فيكونوا كالماء إذا سال، من قولهم‏:‏ فز الجرح‏:‏ سال ‏{‏من الأرض‏}‏ بالنفي والقتل للتمكن من استعباد الباقين كما أراد هؤلاء أن يستفزوك من الأرض ليخرجوك منها للتمكن مما هم عليه من الكفر والعناد؛ ثم أخذ يحذرهم سطواته بما فعل بمن كانوا أكثر منهم وأشد فقال‏:‏ ‏{‏فأغرقناه‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن رددنا- بما لنا من العظمة- كيده في نحره‏:‏ فلم نقدره على مراده واستفززناه نحن فلم يقدر على الامتناع، بل خف غير عالم بما نريد به حتى أدخلناه في البحر حيث أدخلنا بني إسرائيل فأنجيناهم وأغرقناه ‏{‏ومن معه جميعاً *‏}‏ كما جرت به سنتنا فيمن عاند بعد أن رأى الخوارق وكفر النعمة وأفرط في البغي بعد ظهور الحق، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ولا سيما إذا أخرجنا رسولنا من بين ظهرانيهم ففي هذه الآية وأمثالها بشارة له بإسلاكنا له في النصرة، والتمكن سبيل إخوانه من الرسل عليهم السلام ‏{‏وقلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي لا يتعاظمها شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 109‏]‏

‏{‏وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ‏(‏104‏)‏ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏105‏)‏ وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا ‏(‏106‏)‏ قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‏(‏107‏)‏ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ‏(‏108‏)‏ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

ولما كان هذا القول غير مستغرق لزمان البعد، أثبت الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من بعده‏}‏ أي الإغراق ‏{‏لبني إسراءيل‏}‏ الذين كانوا تحت يده أذل من العبيد لتقواهم وإحسانهم‏:‏ ‏{‏اسكنوا الأرض‏}‏ أي مطلق الأرض إشارة إلى أن فرعون كان يريد محوهم عن الأرض أو إلى أن سكناهم مع وجوده كانت عدماً، لما بهم من الذل- والأرض التي أراد أن يستفزهم منها، وهي أرض مصر، أي صيروا بحيث تسكنونها لا يد لأحد عليكم، ولا مانع لكم مما تريدون منها، كما كان فرعون وجنوده إذا شئتم مملكين فيها بعد أن كنتم عبيداً تسامون سوء العذاب ‏{‏فإذا جاء‏}‏ أي مجيئاً محققاً ‏{‏وعد الآخرة‏}‏ أي القيامة بعد أن سكنتم الأرض أحياء ودفنتم فيها أمواتاً ‏{‏جئنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏بكم‏}‏ منها ‏{‏لفيفاً *‏}‏ أي بعثناكم وإياهم مختلطين، لا حكم لأحد على آخر، ولا دفع لأحد عن آخر على غير الحالة التي كانت في الدنيا، ثم ميزنا بعضكم عن بعض، ونعمنا الطيب منكم بإهانة الخبيث، أن يسأل بنو إسرائيل الذين يقبل هؤلاء المشركون الجهلة كلامهم ويستنصحونهم في أمورهم- عن هذا الذي تلوناه عليك يخبروا به كما أخبرناك، فيثبت حينئذ عندهم أمر الآخرة، وإلا كان قبولهم لبعض كلامهم دون بعض بغير دليل تحكماً وترجيحاً من غير مرجح‏.‏

ولما ثبت أمر الحشر بإثبات القدرة على كل ممكن تارة، وبإخبار بني إسرائيل الذين ألزموا أنفسهم قبول كلامهم وقطع المفاوز إليهم لسؤالهم عن بعض الأمور أخرى، ثبت أن هذا القرآن المخبر بذلك حق، وكانوا قد سألوه عن المسائل المذكورة فأجابهم عن أولها وهي الروح بأمر مجمل وعقبه بأنهم سألوه في أشياء اقترحوها وقالوا‏:‏ لن نؤمن لك حتى تفعلها، وأشار تعالى بالإخبار عن آيات موسى عليه السلام إلى أنه لم يترك إجابتهم بخلاً ولا عجزاً، فإنها من جنس ما سألوا من التصرف في المياه تارة بإنزالهما وتارة بتبديلها دماً الموجب للقدرة على إنبات الأشجار بها، ومن إسقاط السماء كسفاً بإسقاط البرد المهلك، فثبت بذلك صحة الإخبار بتصريف الأمثال في هذا الكتاب، فعطف على قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبالحق‏}‏ أي من المعاني الثابتة التي لا مرية فيها لا بغيره ‏{‏أنزلناه‏}‏ نحن القرآن أو هذا الذي أخبر منه بالحشر لبني إسرائيل ملتفين بالقبط وبما قبله على ما لنا من العظمة ‏{‏وبالحق‏}‏ لا بغيره ‏{‏نزل‏}‏ هو ووصل إليهم على لسانك بعد إنزاله عليك كما أنزلنا سواء غضاً طرياً محفوظاً لم يطرأ عليه طارئ، فليس فيه شيء من تحريف ولا تبديل كما وقع في كتاب اليهود الذين يسألهم قومك، فأفاد هذا أن القرآن معجز بكونه مع إعجازه بالبلاغة في تصريف الأمثال، وغيرها من نظم المقال ‏{‏وما أرسلناك‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إلا مبشراً ونذيراً *‏}‏ على غاية التمكن في كل من الوصفين- بما أشار إليه الواو والصيغة، تبلغهم ما فيه من بشارة لمن آمن بذلك اليوم، ونذارة لمن لم يؤمن به، فإن قبلوا فهو حظهم، وإن لم يقبلوا كان عليهم وزرهم، ولم يكن عليك لوم، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً، وسنزهق باطلهم بهذا الحق لا محالة، فلا تستعجل لهم ‏{‏إن الباطل كان زهوقاً‏}‏ ولم نرسلك لتفجير الأنهار ولا إنبات الأشجار؛ ثم أخبر أن الحكمة في إنزال القرآن منجماً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقرءاناً‏}‏ أي وفصلنا أو وأنزلنا قرآناً ‏{‏فرقناه‏}‏ أي أنزلناه منجماً في أوقات متطاولة وميزناه بالحقيقة عن كل باطل، وبالإعجاز عن كل كلام ‏{‏لتقرأه على الناس‏}‏ أي عامة كل من أمكنك منهم، فإنك مرسل إليهم كلهم‏.‏

ولما كانوا لما لهم من النوس في غاية الزلزلة، لا يتهذبون إلا في أزمان طويلة وعلاج كبير، قال مشيراً إلى ذلك‏:‏ ‏{‏على مكث‏}‏ أي تؤدة وترسل بأن تقرأ منه كل نجم في وقته الذي أنزلناه فيه مدة ثلاث وعشرين سنة ‏{‏ونزلناه‏}‏ من عندنا بما لنا من العظمة ‏{‏تنزيلاً *‏}‏ بعضه في إثر بعض، مفرقاً بحسب الوقائع لأنه أتقن في فصلها، وأعون على الفهم لطول التأمل لما نزل من نجومه في مدة ما بين النجمين لغزارة ما فيه من المعاني، وكثرة ما تضمنه من الحكم، وذلك أيضاً أقرب للحفظ، وأعظم تثبيتاً للفؤاد، وأشرح للصدر، لأن أخبار الحبيب إذا كانت متواصلة كان المحب كل يوم في عيد، بهناء جديد، فعلنا بك ذلك لما تقدم من أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلما طالت الدلائل، وزالت الشبه، وعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلما طالت الدلائل، وزالت الشبه، وعلم أن الحظ لمن أقبل، والخيبة لمن أدبر، أمره أن يقول منبهاً لهم على ذلك مبكتاً لهم بتقاعسهم عنه وعنادهم فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل آمنوا به‏}‏ أي القرآن ‏{‏أو لا تؤمنوا‏}‏ فالإيمان به غير محتاج إليكم ولا موقوف عليكم لأنكم إن آمنتم به كان الحظ لكم، وإلا لم تضروا إلا أنفسكم، وهو احتقار لهم حيث صرف لهم من كل مثل فأبوا إلا كفوراً، ثم علل ذلك بما يقبل بكل ذي لب إليه، فإن كان ل «قل» فهو تسلية له صل الله عليه وعلى آله وسلم، وإن كان لما بعدها فهو تبكيت لهم وتحقير، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين أوتوا العلم‏}‏ وبني للمفعول دلالة على أن العلم الرباني- وهو العلم في الحقيقة من أيّ مؤتٍ كان، حاث على الإيمان بهذا القرآن، وتنبيهاً على أن من كان يعلم ولا يحمله علمه على الإيمان بهذا الكتاب الذي لا شيء أبين من حقيقته بمصادقته لكتب الأنبياء الذين ثبتت رسالاتهم ومضت عليها الدهور، واطمأنت بها النفوس، وزيادته عليها بما أودعه الله من الإعجاز والحكم- فعلمه كلا علم بل هو أجهل الجهلة، سواء كان ممن سألتموه عني أو من غيرهم- كما سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في الزمر‏.‏

ولما كان المراد أن من اتصف بهذا الوصف ولو زمناً يسيراً نفعه، أدخل الجار فقال مرغباً في العلم ليحمل على الإيمان بالقرآن‏:‏ ‏{‏من قبله‏}‏ أي قبل إنزاله ممن آمن من بني إسرائيل الذين أمرني الله بسؤالهم تسميعاً لكم وتثبيتاً لكونكم أقبلتم عليهم بالسؤال وجعلتموهم محط الوثوق‏:‏ ‏{‏إذا يتلى‏}‏ أي من أيّ تالٍ كان ‏{‏عليهم‏}‏ في وقت من الأوقات، ينقلهم من حال إلى حال، فيرقيهم في مدارج القرب ومعارج الكمال، إلى أعلى الرتب، بأنهم ‏{‏يخرون‏}‏ أي يسقطون بسرعة؛ وأكد السرعة وأفاد الاختصاص بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للأذقان‏}‏ باللام دون إلى أو على، دالاً بالأذقان على أنهم من شدة ما يحصل لهم من الخشوع يسقطون سقوط من ليس له اختيار، وأول ما يلاقي الأرض ممن يسقط كذلك ذقنه، وهو مجتمع اللحيين من منبت لحيته- فإن الإنسان مجبول بالطبع على صيانة وجهه، فهو يرفع رأسه فتصير ذقنه وفمه أقرب ما في وجهه إلى الأرض حال السقوط، ولهذا قال شاعرهم‏:‏ فخر سريعاً لليدين وللفم‏.‏

ثم بين أن ذلك ليس سقوطاً اضطرارياً من كل جهة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سجداً *‏}‏ أي يفعلون ذلك لما يعلمون من حقيته بما أوتوا من العلم السالف، وما في قلوبهم من الإذعان، والخشية للرحمن ‏{‏ويقولون‏}‏ أي على وجه التحديد المستمر‏:‏ ‏{‏سبحان ربنا‏}‏ أي تنزه الموجد لنا، المدبر لأمورنا، المحسن إلينا، عن شوائب النقص، لأنه وعد على ألسنة رسلنا أن يبعثنا بعد الموت ووعده الحق، فلا بد أن يكون، ووعد أن يأتي بهذا الكتاب على لسان هذا النبي العربي، وأوصل هذا الوعد إلينا في الكتب السالفة فأنجز ما سبق به وعده ‏{‏إن‏}‏ أي أنه ‏{‏كان‏}‏ أي كوناً لا ينفك ‏{‏وعد ربنا‏}‏ أي المحسن إلينا بالإيمان، وما تبعه من وجوه العرفان ‏{‏لمفعولاً *‏}‏ دون خلف، ولا بد أن يأتي جميع ما وعد به من الثواب والعقاب، وهو تعريض بقريش حيث كانوا يستهزئون بالوعيد في قولهم ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ ونحوه مما معناه الطعن في قدرة الله القادر عل كل شيء ‏{‏ويخرون‏}‏ عند تكرار سماعه ‏{‏للأذقان‏}‏ مع سجودهم ‏{‏يبكون ويزيدهم‏}‏ تكراره ‏{‏خشوعاً *‏}‏ أي خضوعاً وتواضعاً وإخباتاً، فإن كان سؤالكم إياهم لتؤمنوا إذا أخبروكم أني على الحق فآمنوا، وإن كان لغير ذلك فقد تبين سفهكم وضعف أمركم وسوء رأيكم، وعبر في البكاء بالفعل إشارة إلى تجدده في بعض الأحيان لما لهم في بعضها من السرور ببعض ما أبيح من الملاذ، وفي السجود بالاسم إشارة إلى دوام ذلهم بالسجود المشروع، أو بمطلق الخضوع، وسيأتي في سورة مريم ما يزيده وضوحاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏110‏)‏ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ‏(‏111‏)‏‏}‏

ولما كان إيمان أهل العلم الأول به وإذعانهم له وتركهم لأديانهم- التي أخذوها عن الأنبياء الآتين إليهم بالكتب لأجله بعد إقامة الدليل القاطع على أنه من عند الله- موجباً لكل من له أدنى إنسانية أن يؤمن به ويقبل عليه ويدعو من أنزله دون غيره دائماً، لا في أوقات الشدة فقط ‏{‏وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه‏}‏ وكانت أوقات الإجابة أولى بالدعاء من غيرها، وكانت حالة السجود لا سيما مع البكاء والخشوع أولاها «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» كان المعاندون من العرب كأنهم قالوا لأن ذلك من شأنهم ومن حقهم بعد ما قام من الأدلة‏:‏ آمناً فعلِّمنا كيف ندعو وبأيّ اسم نهتف‏؟‏ ولما كان الجلالة هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، وكان قد ورد في النحل من التنويه به ما لم يرد في غيرها لما تقدم من الأسرار مع أنه عد فيها من النعم ما لم يعد في غيرها، ومنها تعليم الإنسان البيان، وذلك أليق باسم الرحمن ‏{‏الرحمن علم القرآن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 1‏]‏ الآيات، وكانت الرحمة دنيوية وأخروية من الخالق ومن الخلائق قد كررت في هذه السورة ثماني مرات ‏{‏عسى ربكم أن يرحمكم‏}‏، ‏{‏جناح الذل من الرحمة‏}‏، ‏{‏وقل رب ارحمهما‏}‏ ‏{‏ابتغاء رحمة من ربك‏}‏، ‏{‏ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم‏}‏، ‏{‏إنه كان بكم رحيماً‏}‏، ‏{‏إلا رحمة من ربك‏}‏ خزائن رحمة ربي وكان ذلك ظاهراً في إرادة عمومها، فكان اسم الرحمن به أليق، وقع الجواب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله‏}‏ أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في ذات إحاطته ‏{‏أو ادعوا الرحمن‏}‏ في معنى استغراقه بالرحمة، أي سموا- أي أوقعوا الدعاء مسمين في حال دعائكم- ربكم الذي سبحتموه في السجود بأي اسم أردتم مما أذن فيه، فاهتفوا بهذا الاسم الدال على الجلال، واستحقاق مسماه الدعاء لذاته، أو بهذا الاسم الدال على الجمال واستحقاقه الدعاء لإنعامه، مطلقاً وفي حالة السجود ‏{‏أيّاً ما تدعوا‏}‏ أي به من أسمائه فقد حصلتم به على القصد، فإن المسمى واحد وإن تعددت أسماؤه الدالة على الشرف‏.‏ ولما كان في الرحمن جمال ظاهر في باطنه جلال، لأن عموم الرحمة لبعض نعمة، ولبعض استدراج ونقمة، فكان لذلك جامعاً لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، سبب عن ذكر كل من الاسمين‏:‏ العلم الجامع، والوصف الواقع موقعه، قوله‏:‏ ‏{‏فله‏}‏ أي المسمى بهذين الاسمين وحده، وهو الواحد الأحد ‏{‏الأسماء الحسنى‏}‏ هذان الاسمان وغيرهما مما ورد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو دال على التحميد والتمجيد والتقديس والتعظيم، فهذا الضمير استخدام، وقد تضمن هذا القول أن معنى اسم الرحمن أشمل من اسم الرحيم وإن كان بناء كل منهما للمبالغة؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي رحمه الله في شرحه للأسماء الحسنى‏:‏ الرحمانية استغراق الخلق بالرحمة في إنشائهم، والرحيمية إجراء الخلق على ما يوافق حسهم ويلائم خَلقهم وخُلقهم ومقصد أفئدتهم، فإذا اختص ذلك بالبعض كان رحيمية، وإذا استغرق كان رحمانية ولاستغراق معنى اسم الرحمن لم يكن لتمام معناه وجود الخلق، فلم يجر بحق على أحد منهم، وإنما يوجد فيهم حظ خاص من معناه يجري عليهم به اسم الرحيم لا اسم الرحمن، فلذلك لحق اسم الرحمن في معنى استغراقه باسم الله في ذات إحاطته فقال تعالى ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ فإذا تحقق القلب اختصاصه بالله علماً كان أصلاً للفظ به قولاً فعلمت أنه لا رحمن إلا الله كما أنه لا إله إلا الله، ولحق باسم الإله فقد علم فقد التمام لمعناه في الخلق كما قد فقد أصل علم الاعتبار من معناه في اسم إله، والتوحيد في اسم الرحمن واجب لاحق بالفرض في توحيد الإله، ولذلك ولي اسم الله في موارده في الكتب وفي هذا التعديد أي الوارد في حديث الترمذي والبزار وغيرهما من أسماء الله الحسنى عن أبي هريرة رضي الله عنه- انتهى‏.‏

وقد مر في آخر الحجر ما ينفع هنا‏.‏

ولما ذكر السجود وعقبه بالدعاء، أشار إلى أنه في كل حالة حسن، وفي الصلاة أولى وأحسن، بعد أن ذكر قريباً الصلوات الخمس، وكان ربما فهم من قوله ‏{‏إن قرءان الفجر كان مشهوداً‏}‏، ومن قوله‏:‏ ‏{‏إذا يتلى عليهم‏}‏ قوة الجهر به قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجهر بصلاتك‏}‏ أي بقراءتك فيها، أو سمى القراءة صلاة لأنها شرط فيها جهراً قوياً حتى تسمعه المشركون، فإن المخالفين قد عرف عنادهم فلا يؤمن سبهم للقرآن ولمن أنزله ولمن جاء به، بل كانوا يفعلون ذلك ويلغون، وربما صفقوا وصفروا ليغلطوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويخلطوا عليه قراءته ‏{‏ولا تخافت‏}‏ أي تسر ‏{‏بها‏}‏ إسراراً بليغاً كأنك تناظر فيه آخر بحيث لا تسمع من وراءك ليأخذوه عنك ‏{‏وابتغ‏}‏ أي اطلب بغاية جهدك ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي الجهر والمخافتة التي أفهمت أداة البعد عظمة شأنهما ‏{‏سبيلاً *‏}‏ أي طريقاً وسطاً؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال‏:‏ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مختفٍ بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏{‏ولا تجهر بصلاتك‏}‏ أي بقراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ‏{‏ولا تخافت بها‏}‏ عن أصحابك فلا تسمعهم- انتهى‏.‏

أطلق هنا اسم الكل على الجزء إشارة إلى أن المقصود الصلاة وفيما تقدم اسم الجزء على الكل لأن المقصود الأعظم هناك القراءة في الفجر، وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن هذه الآية نزلت في الدعاء، وقد تقدم غير مرة أنه ليس ببدع أن يكون للشيء أسباب كثيرة‏.‏

ولما تقدم إحاطة هذين الاسمين، أما الله فبجميع معاني الأسماء الحسنى، وأما الرحمن فبالرحمانية، المأمور بالدعاء بهما كل مخاطب، خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر بالتحميد الذي معناه الإحاطة واسمه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مشتق منه لاتصافه به حامداً ومحموداً، وبالتكبير عن كل ما يفهمه العباد من أسمائه الحسنى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وقل الحمد‏}‏ أي الإحاطة بالأوصاف الحسنى ‏{‏لله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏الذي لم يتخذ‏}‏ لكونه محيطاً بالصفات الحسنى ‏{‏ولداً‏}‏ فإن ذلك لا يكون إلا للحاجة وبالحاجة وهي من أسوأ الأوصاف ‏{‏ولم يكن‏}‏ أي يوجد بوجه من الوجوه ‏{‏له شريك في الملك‏}‏ ولا ولد ولا غيره فإن ذلك لا يكون إلا بالعجز ‏{‏ولم يكن له ولي‏}‏ ناصر أعم من أن يكون ذلك الناصر ولداً أو شريكاً أو غيره‏:‏ ثم قيده واصفاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذل‏}‏ إفهاماً بأن له أولياء جاد عليهم بالتقريب وجعلهم أنصاراً لدينه رحمة منه لهم لا احتياجاً منه إليهم ‏{‏وكبره‏}‏ عن أن يشاركه أحد في شيء من الأشياء وعن كل ما يفهمه فاهم، ويصفه به واصف، والتكبير أبلغ لفظ للعرب في معنى التعظيم والإجلال- قاله أبو حيان‏.‏ وأكد بالمصدر تحقيقاً له وإبلاغاً في معناه، أي فقال‏:‏ ‏{‏تكبيراً‏}‏ عن أن يدرك أحد كنه معرفته أو يجهله أحد من كل وجه، بل احتجب سبحانه بكبريائه وجلاله فلا يعرف، وتجلى بإكرامه وكماله فلا ينكر، فكان صريح اتصافه بالحمد أنه تعالى متصف بجميع صفات الكمال، وصريح وصفه بنفي ما ذكر أنه منزه عن شوائب النقص وأنه أكبر من كل ما يخطر للعباد المطبوعين على النقص المجبولين على غزائز العجز، ولذلك وغيره من المعاني العظمى سمى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية آية العز كما رواه الإمام أحمد عن سهل عن أبيه رضي الله عنهما، وذلك عين ما افتتحت به السورة من التنزيه وزيادة- والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب‏.‏