فصل: الجزء الثاني عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


الجزء الثاني عشر

سورة الكهف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ‏(‏1‏)‏ قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ‏(‏2‏)‏ مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ‏(‏3‏)‏ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ‏(‏4‏)‏ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

لما ختمت تلك بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالحمد عن التنزه عن صفات النقص لكونه أعلم الخلق بذلك، بدئت هذه بالإخبار باستحقاقه سبحانه الحمد على صفات الكمال التي منها البراءة عن كل نقص، منبها بذلك على وجوب حمده بما شرع من الدين على هذا الوجه الأحكم بهذا الكتاب القيم الذي خضعت لجلاله العلماء الأقدمون، وعجز عن معارضته الأولون والآخرون، الذي هو الدليل على ما ختمت به تلك من العظمة والكمال، والتنزه والجلال، فقال ملقنا لعباده حمده، معلما لهم كيف يثنون عليه، مفقها لهم في اختلاف العبارات باختلاف المقامات‏:‏ ‏{‏الحمد‏}‏ أي الإحاطة بصفات الكمال ‏{‏لله‏}‏ أي المستحق لذلك لذاته‏.‏

ولما أخبر باستحقاقه ذلك لذاته، أخبر بأنه يستحقه أيضاً لصفاته وأفعاله، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي‏}‏ ولما كان المراد وصف جملة الكتاب بالإعجاز من غير نظر إلى التفريق واللتدريج، عبر بالإنزال دون التنزيل فقال‏:‏ ‏{‏أنزل‏}‏ وعدل عن الخطاب بأن يقول‏:‏ عليك، كما يقول‏:‏ فلعلك باخع نفسك، كما في ذلك من الوصف بالعبودية والإضافة إليه سبحانه من الإعلام بتشريفه صلى الله عليه وعلى آله وسلم والتنبيه على علة تخصيصه بالإنزال عليه كما تقدم في سورة البقرة، فقال‏.‏ مقدماً له على المنزل لأن المراد الدلالة على صحة رسالته بما لا يحتاج فيه قريش إلى سؤال اليهود ولا غيرهم من تخصيصه بما لا يقدر عليه غيره‏:‏ ‏{‏على عبده‏}‏ وإشارة إلى أنه الذي أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته ‏{‏الكتاب‏}‏ الجامع لمعاني الكتب المشار إليه في آخر التي قبلها بما أشير إليه من العظمة كما آتى موسى التوراة الآمرة بالعدل في الأحكام، وداود الزبور الحادي إلى الزهد والإحسان، على ما أشير إليه في ‏{‏سبحان‏}‏‏.‏

ولما كان الجامع لا يخلو من عوج أو قابلية له إلا أن كان من علام الغيوب، نفى القابلية والإمكان دلالة على أنه من عنده لينتفي العوج بطريق الأولى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولم‏}‏ أي والحال أنه لم ‏{‏يجعل له‏}‏ ولم يقل‏:‏ فيه ‏{‏عوجاً *‏}‏ أي شيئاً من عوج، أي بل هو مستقيم في جميع معانيه من غير اختلاف أصلاً، هادٍ إلى كل صواب، لأن العوج- بالكسر‏:‏ فقد الاستقامة في المعاني، وبالفتح في الأعيان؛ وأتبعه حالاً أخرى له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قيماً‏}‏ تصريحاً باللازم تأكيداً له، ومقيداً أنه مهيمن على ما قبله من الكتب مقيم لغيره، وقد مضى في الفاتحة ثم في الأنعام عن الإمام سعد الدين التفتازاني الشافعي رحمه الله أن كل سورة افتتحت بالحمد فللإشارة إلى نعمة من أمهات النعم التي هي إيجاد وإبقاء أولاً، وإيجاد وإبقاء ثانياً، وأنه أشير في الفاتحة لكونها أم الكتاب إلى الأربع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول وهو ظاهر، وفي هذه السورة إلى الإبقاء الأول، فإن نظام العالم وبقاء النوع الإنساني يكون بالنبي والكتاب‏.‏

انتهى‏.‏ ويؤيده أنه في هذه السورة ذكر أنه انتظم بأهل الكهف أمر من اطلع عليهم من أهل زمانهم ثم بالخضر عليه السلام كثير من الأحوال، ثم بذي القرنين أمر جميع أهل الأرض بما يسر له من الأسباب التي منها السد الذي بيننا وبين ياجوج وماجوج الذين يكون بهم‏.‏ إذا أخرجهم الله تعالى- فساد الأرض كلها، ثم ذكر في التي تليهما من أهل وده واصطفائه من اتبعهم لنظام العالم بما وفقهم له من طاعته، وبصرهم به من معرفته، واستمر كذلك في أكثر السور حتى ذكر السورة التي أشار فيها إلى الإيجاد الثاني، وأتبعها بالتي أشار فيها إلى الإبقاء الثاني، ولما كان إبقاء الأول يقتضي مهلة لبلوغ حد التكليف وإجراء القلم ثم مهلة أخرى يكون فيها العمل والاستعداد لما لأجله كان هذا الوجود من العرض على الرحمن، للجزاء بالإساءة أو الإحسان، ومهلة أخرى يُحبس فيها السابق من الخلائق إلى ورود مشرع الموت لانتظار اللاحق، إلى بلوغ ما ضرب سبحانه من الآجال، لأزمان الإمهال، وقيام الناس أجمعين، لرب العالمين، وهو البرزخ وكان ما قبل التكليف شبيهاً بالعدم إلا في تعلم الكتاب والتوحيد والاجتماع على أهل الدين والوفاء بما تقدموا فيه بالعهد من الأحكام، ودربوا عليه من الحلال والحرام، أشير إليه بما بين الفاتحة والأنعام التي هي سورة الإيجاد الأول من السور الأربع، وكأن سن الاحتلام كان أول الإيجاد من الإعدام، وأشير إلى بقية العمر وهو زمان التكليف بما بين الأنعام وهذه السورة من السور التي ذُكِرَ فيها مصارع الأولين وأخبار الماضين تحذيراً من مثل أحوالهم، لمن نسج على منوالهم، وختمت بالتحميد مقترناً بالتوحيد إشارة إلى أنه يجب الاجتهاد في أن يختم الأجل في أعلى ما يكون من خصال الدين، وأشير إلى مهلة البرزخ بما بين هذه وسورة الإيجاد الثاني من السور التي ذكر في غالبها مثل ذلك، وأكثر فيها كلها من ذكر الموت وما بعده من البرزخ الذي يكون لانقطاع العلائق باجتماع الخلائق، لأجل التجلي في رد العظمة، والكشف البليغ عن نفوذ الكلمة، والتحلي بالحكم باستقرار الفريقين في دار النعيم أو غار الجحيم، وأكثر فيما بين هذه وبين سبأ من أمر البعث كثرة ليست فيما مضى حتى صدر بعضها به، وبناها عليه كسورتي الأنبياء ‏{‏اقترب للناس حسابهم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ والحج ‏{‏إن زلزلة الساعة شيء عظيم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 1‏]‏ ولما لم يكن بين البعث وما بعده مهلة لشيء من ذلك، عقب سورة الإيجاد الثاني بسورة الإبقاء الثاني من غير فاصل ولا حاجز ولا حائل- والله أعلم‏.‏

ولما وصف الكتاب بما له من العظمة في جميع ما مضى من أوصافه من الحكمة والإحكام، والتفصيل والبيان، والحقية، والإخراج من الظلمات إلى النور، والجمع لكل معنى والتبيان لكل شيء، أتبعه ذكر فائدته مقدماً ما هو الأهم من درء المفسدة بالإنذار، لأنه مقامه كما هو ظاهر من ‏{‏سبحان‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏لينذر‏}‏ وقصره على المفعول الأول ليعم كل من يصح قبوله الإنذار ولو تقديراً، وليفيد أن الغرض بيان المنذر به لا المنذر ‏{‏بأساً شديداً‏}‏ كائناً ‏{‏من لدنه‏}‏ أي أغرب ما عنده من الخوارق بما في هذا الكتاب من الإعجاز لمن خالف أمره من عذاب الدنيا والآخرة كوقعة بدر وغيرها المفيد لإدخال الإسلام عليهم وهم كارهون، بعد ما كانوا فيه من القوة وهو من الضعف ‏{‏ويبشر المؤمنين‏}‏ أي الراسخين في هذا الوصف ‏{‏الذين يعملون الصالحات‏}‏ وهو ما أمر به خالصاً له، وذلك من أسنان مفتاح الإيمان ‏{‏أن لهم‏}‏ أي من حيث هم عاملون ‏{‏أجراً حسناً *‏}‏ وهو النعيم، حال كونهم ‏{‏ماكثين فيه أبداً *‏}‏ بلا انقطاع أصلاً، فإن الأبد زمان لا آخر له، فجمعت هاتان العلتان جميع معاني الكتاب فإنه لا يكون كذلك إلا وقد جمع أيضاً جميع شرائع الدين وأمر المعاش وأمر المعاد وما يعنيهم فعله أو تركه أو اعتقاده، وما يتبع ذلك، وذلك هو القيم، أي المستقيم في نفسه، المقيم لغيره‏.‏

ولما كان الغالب على الإنسان المخالفة للأوامر، لما جبل عليه من النقائص، كان الإنذار فأهم أعاده لذلك ولأن المقام له كما مضى، ذاكراً فيه بعض المتعلق المحذوف من الآية التي قبلها، تبكيتاً لليهود المضلين لهؤلاء العرب ولمن قال بمقالتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وينذر‏}‏ واقتصر هنا على المفعول الأول ليذهب الفكر في الثاني الذي عبر عما يحتمل تقديره به فيما مضى ب ‏{‏لدنه‏}‏- كل مذهب فيكون أهول ‏{‏الذين قالوا اتخذ الله‏}‏ أي تكلف ذو العظمة التي لا تضاهى كما يتكلف غيره أن أخذ ‏{‏ولداً *‏}‏ وهم بعض اليهود والنصارى والعرب؛ قال الأصبهاني‏:‏ وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قصة كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كون ذلك لبعض أعظم جزئيات ذلك الكل، ولم أجعل الآية من الاحتباك لنقص المعنى، ثم استأنف معللاً في جواب من كأنه قال‏:‏ ما لهم خصوا به الوعيد الشديد‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم به‏}‏ أي القول ‏{‏من علم‏}‏ أصلاً لأنه مما لا يمكن أن يعلق العلم به لأنه لا وجود له ولا يمكن وجوده، ثم قرر هذا المعنى وأكد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا لأبائهم‏}‏ الذين هم مغتبطون بتقليدهم في الدين حتى في هذا الذي لا يتخيله عاقل، ولو أخطؤوا في تصرف دنيوي لمن يتبعوهم فيه، تنبيهاً عل أنه لا يحل لأحد أن يقول على الله تعالى ما لا علم له به، ولا سيما في أصول الدين، ثم هول أمر ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كبرت‏}‏ أي مقالتهم هذه ‏{‏كلمة‏}‏ أي ما أكبرها من كلمة‏!‏ وصوّر فظاعة اجترائهم على النطق بها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تخرج من أفواههم‏}‏ أي لم يكفهم خطورها في نفوسهم، وترددها في صدورهم، حتى تلفظوا بها، وكان تلفظهم بها على وجه التكرير- بما أشار إليه التعبير بالمضارع؛ ثم بين ما أفهمه الكلام من أنه كما أنهم لا علم لهم بذلك لا علم لأحد به أصلاً، لأنه لا وجود له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏يقولون إلا كذباً *‏}‏ أي قولاً لا حقيقة له بوجه من الوجوه‏.‏

وقال ابن الزبير في برهانه‏:‏ من الثابت المشهور أن قريشاً بعثوا إلى اليهود بالمدينة يسألونهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأجابت يهود بسؤاله عن ثلاثة أشياء، قالوا‏:‏ فإن أجابهم فهو نبي، وإن عجز فالرجل متقول فرؤا فيه رأيكم، وهي الروح، وفتية ذهبوا في الدهر الأول وهم أهل الكهف، وعن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فأنزل الله عليه جواب ما سألوه، وبعضه في سورة الإسراء ‏{‏ويسئلونك عن الروح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ الآية، واستفتح سبحانه وتعالى سورة الكهف بحمده، وذكر نعمة الكتاب وما أنزل بقريش وكفار العرب من البأس يوم بدر وعام الفتح، وبشارة المؤمنين بذلك وما منحهم الله تعالى من النعيم الدائم، وإنذار القائلين بالولد من النصارى وعظيم مرتكبهم وشناعة قولهم ‏{‏إن يقولون إلا كذباً‏}‏ وتسلية نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أمر جميعهم ‏{‏فلعلك باخع نفسك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏، والتحمت الآي أعظم التحام، وأحسن التئام، إلى ذكر ما سأل عنه الكفار من أمر الفتية ‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ ثم بسطت الآي قصتهم، وأوضحت أمرهم، واستوفت خبرهم؛ ثم ذكر سبحانه أمر ذي القرنين وطوافه وانتهاء أمره، فقال تعالى ‏{‏ويسئلونك عن ذي القرنين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 83‏]‏ الآيات، وقد فصلت بين القصتين بمواعظ وآيات مستجدة على أتم ارتباط، وأجل اتساق، ومن جملتها قصة الرجلين وجنتي أحدهما وحسن الجنتين وما بينهما وكفر صاحبهما واغتراره، وهما من بني إسرائيل، ولهما قصة، وقد أفصحت هذه الآي منها باغترار أحدهما بما لديه وركونه إلى توهم البقاء، وتعويل صاحبه على ما عند ربه ورجوعه إليه وانتهاء أمره- بعد المحاورة الواقعة في الآيات بينهما- إلى إزالة ما تخيل المفتون بقاءه، ورجع ذلك كأن لم يكن، ولم يبق بيده إلا الندم، ولا صح له من جنته بعد عظيم تلك البهجة سوى التلاشي والعدم، وهذه حال من ركن إلى ما سوى المالك، ومن كل شيء إلا وجهه سبحانه وتعالى فان وهالك ‏{‏إنما الحياة الدنيا لعب ولهو‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 36‏]‏ ‏{‏ففروا إلى الله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 50‏]‏ ثم أعقب ذلك بضرب مثل الحياة الدنيا لمن اعتبر واستبصر، وعقب تلك الآيات بقصة موسى والخضر عليها السلام إلى تمامها، وفي كل ذلك من تأديب بني إسرائيل وتقريعهم وتوبيخ مرتكبهم في توقفهم عن الإيمان وتعنيفهم في توهمهم عند فتواهم لكفار قريش بسؤاله عليه السلام عن القصص الثلاث أن قد حازوا العلم وانفردوا بالوقوف على ما لا يعلمه غيرهم، فجاء جواب قريش بما يرغم الجميع ويقطع دابرهم، وفي ذكر قصة موسى والخضر إشارة لهم لو عقلوا، وتحريك لمن سبقت له منهم السعادة، وتنبيه لكل موفق في تسليم الإحاطة لمن هو العليم الخبير، وبعد تقريعهم وتوبيخهم بما أشير إليه عاد الكلام إلى بقية سؤالهم فقال تعالى ‏{‏يسئلونك عن ذي القرنين‏}‏ إلى آخر القصة، وليس بسط هذه القصص من مقصودنا وقد حصل، ولم يبق إلا السؤال عن وجه انفصال جوابهم ووقوعه في السورتين مع أن السؤال واحد، وهذا ليس من شرطنا فلننسأه بحول الله إلى موضعه إن قدر به- انتهى‏.‏

وقد تقدم في سورة الإسراء من الجواب عن هذا أن الروح ضمت إليها، لأنه من سر الملكوت كالإسراء، وبقي أنه لما أجمل سبحانه أمرها لما ذكر من عظيم السر، وعيب عليهم اشتغالهم بالسؤال وترك ما هو من عالمها، وهو أعظم منها ومن كل ما برز إلى الوجود من ذلك العالم من الروح المعنوي الذي به صلاح الوجود كله، وهو القرآن العظيم، وعظم أمره بما ذكر في الإسراء إلى أن اقتضى الحال في إنهاء عظمته أن يدل على إصلاح الوجود به بما حرره وفصله وقرره من أمر السؤالين الباقيين اللذين هما من ظاهر الملك فيما ضم إليهما مما تم به الأمر، واتضح به ما له من جليل القدر، كان الأكمل في ذلك أن يكون ما انتظم به ذلك سورة على حدتها، ولما كان أمر أهل الكهف من حفظ الروح في الجسد على ما لم يعهد مثله ثم إفاضتها، قدم الجواب عن السؤال عنهم ليلي أمر الروح، وختم بذي القرنين لإحاطة أمره بما طاف من الأرض، ولما جعل من السد علماً على انقضاء شأن هذه الدار وختام أمرها، وطي ما برز من نشرها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

ولما كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم شفقة عليهم وغيرة على المقام الإلهي الذي ملأ قلبه تعظيماً له، خفض عليه سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلعلك باخع‏}‏ أي فتسبب عن قولهم هذا، المباين جداً لما تريد لهم، الموجب لإعراضهم عنك أنك تشفق أنت ومن يراك على تلك الحالة من أتباعك من أن تكون قاتلاً ‏{‏نفسك‏}‏ من شدة الغم والوجد، وأشار إلى شدة نفرتهم وسرعة مفارقتهم وعظيم مباعدتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على ءاثارهم‏}‏ أي حين تولوا عن إجابتك فكانوا كمن قوضوا خيامهم وأذهبوا أعلامهم ‏{‏إن لم يؤمنوا‏}‏‏.‏

ولما صور بعدهم، صور قرب ما دعاهم إليه ويسر تناوله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بهذا الحديث‏}‏ أي القيم المتجدد تنزيله على حسب التدريج ‏{‏أسفاً *‏}‏ منك على ذلك، والأسف‏:‏ أشد الحزن والغضب؛ ثم بين علة إرشاده إلى الإعراض عنهم بغير ما يقدر عليه من التبليغ للبشارة والنذارة بأنهم لم يخرجوا عن مراده سبحانه، وأن الإيمان لا يقدر على إدخاله قلوبهم غيره فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي لا نفعل ذلك لأنا ‏{‏جعلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏ما على الأرض‏}‏ من المواليد الثلاثة‏:‏ الحيوان والمعدن والنبات ‏{‏زينة لها‏}‏ بأن حسنّاه في العيون، وأبهجنا به النفوس، ولولا مضرة الحيوانات المؤذية من الحشرات وغيرها كانت الزينة بها ظاهرة، والظاهر أنه لو أطاع الناس كلهم لذهبت مضرتها فبدت زينتها، كما يكون على زمن عيسى عليه السلام حيث تصير لعباً للولدان‏.‏

ولما أخبر بتزيينها، أخبر بعلته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لنبلوهم‏}‏ أي نعاملهم معاملة المختبر الذي يسأل لخفاء الأمر عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أيهم أحسن عملاً *‏}‏ أي بإخلاص الخدمة لربه، فيصير ما كنا نعلمه منهم ظاهراً بالفعل تقام به عليهم الحجة على ما يتعارفونه بينهم بأن من أظهر موافقة الأمر فيما نال من الزينة حاز المثوبة، ومن اجترأ على مخالفة الأمر بما آتيناه منها فعمل على أنها للتنعم بها فقط استحق العقوبة‏.‏ ولما كان دعاء الزينة إلى حقيقة الحياة الدنيا من اللهو واللعب ظاهراً لموافقته لما طبعت عليه النفوس من الهوى لم يحتج إلى التنبيه عليه أكثر من لفظ الزينة‏.‏

ولما كان دعاءها إلى الزهد فيها والإعراض عنها جملة والاستدلال بها على تمام علم صانعها وشمول قدرته على إعادة الخلائق كما ابتدأهم وغير ذلك خفياً، لكونه مستوراً عن العقول بهوى النفوس، نبه عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنا لجاعلون‏}‏ أي بما لنا من العظمة ثابت لنا هذا الوصف دائماً ‏{‏ما عليها‏}‏ من جميع تلك الزينة لا يصعب علينا شيء منه ‏{‏صعيداً‏}‏ أي تراباً بأن نهلك تلك الزينة بإزالة اخضرارها فيزول المانع من استيلاء التراب عليها ثم نسلط عليها الشموس والرياح فيردها بذلك إلى أصلها تراباً ‏{‏جزراً *‏}‏ أي يابساً لا ينبت شيئاً بطبعه، وكذا نفعل بمن سبب تسليط البلاء عليه من الحيوان آدمياً كان أو غيره سواء‏.‏ ولما كان من المشاهد إعادة النبات بإذن الله تعالى بإنزال الماء عليه إلى الصورة النباتية التي هي الدليل على إحياء الموتى مرة بعد مرة ما دامت الأرض موجودة على هذه الصورة، طوي ذكر ذلك ستراً لهذا البرهان المنير عن الأغبياء المشغولين بالظواهر، علماً منه سبحانه بظهوره لأولي البصائر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا ‏(‏9‏)‏ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ‏(‏11‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

ولما كان هذا من العجائب التي تضاءل عندها العجائب، والغرائب التي تخضع لديها الغرائب، وإن صارت مألوفة بكثرة التكرار، والتجلي على الأبصار، هذا إلى ما له من الآيات التي تزيد على العد، ولا يحصر بحد، من خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب- وغير ذلك، حقر آية أصحاب الكهف- وإن كانت من أعجب العجب- لاضمحلالها في جنب ذلك، لأن الشيء إذا كان كذلك كثر ألفه فلم يعد عجباً، فنبه على ذلك بقوله تعالى عطفاً على ما تقديره‏:‏ أعلمت أن هذا وغيره من عجائب قدرتنا‏؟‏‏:‏ ‏{‏أم حسبت‏}‏ على ما لك من العقل الرزين والرأي الرصين ‏{‏أن أصحاب الكهف‏}‏ أي الغار الواسع المنقور في الجبل كالبيت ‏{‏والرقيم‏}‏ أي القرية أو الجبل ‏{‏كانوا‏}‏ هم فقط ‏{‏من ءاياتنا عجباً *‏}‏ على ما لزم من تهويل السائلين من الكفرة من اليهود والعرب، والواقع أنهم- وإن كانوا من العجائب- ليسوا بعجب بالنسبة إلى كثرة آياتنا، وبالنسبة إلى هذا العجب النباتي الذي أعرضتم عنه بإلفكم له من كثرة تكرره فيكم، فإنه سبحانه أخرج نبات الأرض على تباين أجناسه، واختلاف ألوانه وأنواعه، وتضاد طبائعه، من مادة واحدة، يهتز بالينبوع، يبهج الناظرين ويروق المتأملين، ثم يوقفه ثم يرده باليبس والتفرق إلى التراب فيختلط به حتى لا يميزه عن بقية التراب، ثم يرسل الماء فيختلط بالتراب فيجمعه أخضر يانعاً يهتز بالنمو على أحسن ما كان، وهكذا كل سنة، فهذا بلا شك أعجب حالاً ممن حفظت أجسامهم مدة عن التغير ثم ردت أرواحهم فيها، وقد كان في سالف الدهر يعمر بعض الناس أكثر من مقدار ما لبثوا، وهذا الكهف- قيل‏:‏ هو في جبال بمدينة طرسوس وهو المشهور، وقال أبو حيان‏:‏ قيل‏:‏ هو في الروم، وقيل‏:‏ في الشام، وقيل‏:‏ في الأندلس، قال‏:‏ في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد انجرد لحمه، وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من عرف شأنهم، ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، ونقل عن ابن عطية قال‏:‏ دخلت إليهم سنة أربع وخمسمائة فرأيتهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، وهو في فلاة من الأرض، وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس، ونقل أبو حيان عن أبيه أنه حين كان بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلباً، قال‏:‏ وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة، فقد مررت عليها مراراً لا تحصى، قال‏:‏ ويترجح كون أصحاب الكهف بالأندلس- انتهى ملخصاً‏.‏

قلت‏:‏ وفيه نظر، والذي يرجح المشهور ما نقل البغوي وغيره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ غزونا مع معاوية بحر الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف فإن معاوية لم يصل إلى بلاد الأندلس والله أعلم‏.‏

ولما صغر أمرهم بالنسبة إلى جليل آياته وعظيم بيناته وغريب مصنوعاته، لخص قصتهم التي عدوها عجباً وتركوا الاستبصار على وحدانية الواحد القهار بما هو العجب العجيب، والنبأ الغريب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ أوى‏}‏ أي كانوا على هذه الصفة حين أووا، ولكنه أبرز الضمير لبيان أنهم شبان ليسوا بكثيري العدد فليست لهم أسنان استفادوا بها من التجارب والتعلم ما اهتدوا إليه من الدين والدنيا، ولا كثرة حفظوا بها ممن يؤذيهم أيقاظاً ورقوداً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الفتية‏}‏ وهو أصحاب الكهف المسؤول عنهم، والشبان أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ ‏{‏إلى الكهف‏}‏ المقارب لقريتهم المشهور ببلدتهم فراراً بدينهم كما أويت أنت والصديق إلى غار ثور فراراً بدينكما ‏{‏فقالوا‏}‏ عقب استقرارهم فيه‏:‏ ‏{‏ربنا ءاتنا‏}‏ ولما كانت الموجودات- كما مضى عن الحرالي في آل عمران- على ثلاث رتب‏:‏ حكميات جارية على قوانين العادات، وعنديات خارقة للمطردات ولدنيات مستغرقة في الأمور الخارقات، طلبوا أعلاها فقالوا‏:‏ ‏{‏من لدنك‏}‏ أي من مستبطن الأمور التي عندك ومستغربها ‏{‏رحمة‏}‏ أي إكراماً تكرمنا به كما يفعل الراحم بالمرحوم ‏{‏وهيئ لنا‏}‏ أي جميعاً لا تخيب منا أحداً ‏{‏من أمرنا رشداً *‏}‏ أي وجهاً ترشدنا فيه إلى الخلاص في الدارين، لا جرم صارت قصتهم على حسب ما أجابهم ربهم بديعة الشأن فردة في الزمان، يتحدث بها في سائر البلدان، في كل حين وأوان‏.‏

ولما أجابهم سبحانه، عبر عن ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضربنا‏}‏ أي عقب هذا القول وبسببه ‏{‏على ءاذانهم‏}‏ أي سددناها وأمسكناها عن السمع، وكان أصله؛ ضربنا عليها حجاباً بنوم ثقيل لا تزعج منه الأصوات، لأن من كان مستيقظاً أو نائماً نوماً خفيفاً وسمعه صحيح سمع الأصوات ‏{‏في الكهف‏}‏ أي المعهود‏.‏

ولما كانت مدة لبثهم نكرة بما كان لأهل ذلك الزمان من الشرك، عبر بما يدل على النكرة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سنين‏}‏‏:‏ ولما كان ربما ظن أنه ذكر السنين للمبالغة لأجل بعد هذا النوم عن العادة، حقق الأمر بأن قال مبدلاً منها معرفاً لأن المراد بجمع القلة هنا الكثرة‏:‏ ‏{‏عدداً‏}‏ أي متكاثرة؛ قال الزجاج كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقدار عدده بدون التقدير فلم يحتج إلى أن يعد‏.‏ ‏{‏ثم بعثناهم‏}‏ أي نبهناهم من ذلك النوم ‏{‏لنعلم‏}‏ علماً مشاهداً لغيرنا كما كنا نعلم غيباً ما جهله من يسأل فيقول‏:‏ ‏{‏أي الحزبين‏}‏ هم أو من عثر عليهم من أهل زمانهم ‏{‏أحصى‏}‏ أي حسب وضبط ‏{‏لما‏}‏ أي لأجل علم ما ‏{‏لبثوا أمداً *‏}‏ أي وقع إحصاءه لمدة لبثهم فإنهم هم أحصوا لبثهم فقالوا‏:‏ لبثنا يوماً أو بعض يوم، ثم تبرؤوا من علم ذلك وردوه إلى عالمه وأهل البلد، أحصوا ذلك بضرب النقد الذي وجد معهم أو غير ذلك من القرائن التي دلتهم عليه، ولكنهم وإن صادق قولهم ما في نفس الأمر أو قريباً منه فعلى سبيل الظن والتقريب، لا القطع والتحديد، بقوله تعالى

‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 26‏]‏ فإذا علم بجهل كل من الحزبين بأمرهم أن الله هو المختص بعلم ذلك، علم أنه المحيط بصفات الكمال، وأنه لم يتخذ ولداً، ولا له شريك في الملك، وأنه أكبر من كل ما يقع في الوهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ‏(‏13‏)‏ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ‏(‏14‏)‏ هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

ولما كان الكلام على اختلاف وقع في مدتهم، وكان الحزبان معاً هم ومن خالفهم متقاربين في الجهل بإحصائه على سبيل القطع وكان اليهود الذين أمروا قريشاً بالسؤال عن أمرهم تشكيكاً في الدين لا يعلمون أمرهم على الحقيقة، نبه على ذلك بقوله- جواباً لمن كأنه قال‏:‏ أيهما أحصاه‏؟‏‏:‏ ‏{‏نحن‏}‏ أو يقال‏:‏ ولما أخبر الله سبحانه عن مسألة قريش الثانية، وهي قصة أهل الكهف، مجملاً لها بعض الإجمال بعد إجمال الجواب عن المسألة الأولى، وهي الروح، كان السامع جديراً بأن تستشرف نفسه إلى بيان أكثر من ذلك فيضيق صدره خشية الاقتصار على ما وقع من ذلك من الأخبار، فقال جواباً لمن كأنه قال‏:‏ اسأل الإيضاح وبيان الحق من خلاف الحزبين‏:‏ نحن ‏{‏نقص‏}‏ أي نخبر إخباراً تابعاً لآثارهم قدماً فقدماً ‏{‏عليك‏}‏ على وجه التفصيل ‏{‏نبأهم بالحق‏}‏ أي خبرهم العظيم وليس أحد غيرنا إلا قصاً ملتبساً بباطل‏:‏ زيادة أو نقص، فكأنه قيل‏:‏ ما كان نبأهم‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم فتية‏}‏ أي شبان ‏{‏ءامنوا بربهم‏}‏ المحسن إليهم الناظر في مصالحهم الذي تفرد بخلقهم ورزقهم، وهداهم بما وهب لهم في أصل الفطرة من العقول الجيدة النافعة‏.‏

ولما دل على الإحسان باسم الرب، وكان في فعله معهم من باهر القدرة ما لا يخفى، التفت إلى مقام العظمة فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فاهتدوا بإيمانهم‏:‏ ‏{‏وزدناهم‏}‏ بعد أن آمنوا ‏{‏هدى‏}‏ بما قذفنا في قلوبهم من المعارف، وشرحنا لهم صدورهم من المواهب التي حملتهم على ارتكاب المعاطب، والزهد في الدنيا والانقطاع إليه ‏{‏وربطنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏على قلوبهم‏}‏ أي قويناها، فصار ما فيها من القوى مجتمعاً غير مبدد، فكانت حالهم في الجلوة كحالهم في الخلوة ‏{‏إذ قاموا‏}‏ لله تعالى حق القيام في ذلك الجيل الكافرين بين يدي طاغيتهم دقيانوس ‏{‏فقالوا‏}‏ مخالفين لهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ الذي يستحق أن نفرده بالعبادة لتفرده بتدبيرنا، هو ‏{‏رب السماوات والأرض‏}‏ أي موجدهما ومدبرهما ‏{‏لن ندعوا من دونه إلهاً *‏}‏ بعد أن ثبت عجز كل من سواه، والله ‏{‏لقد قلنا إذاً‏}‏ أي إذا دعونا من دونه غيره ‏{‏شططاً‏}‏ أي قولاً ذا بعد مفرط عن الحق جداً؛ ثم شرعوا يستدلون على كونه شططاً بأنه لا دليل عليه، ويجوز أن يكونوا لما قالوا ذلك عرض لهم الشيطان بشبهة التقليد فقالوا مجيبين عنها‏:‏ ‏{‏هؤلاء‏}‏ وأن يكونوا قالوا ذلك للملك إنقاذاً له من شرك الجهل، وبين المشار إليهم بقولهم‏:‏ ‏{‏قومنا‏}‏ أي وإن كانوا أسن منا وأقوى وأجل في الدنيا ‏{‏اتخذوا‏}‏ أي مخالفين مع منهاج العقل داعي الفطرة الأولى ‏{‏من دونه ءالهة‏}‏ أشركوهم معه لشبهة واهية استغواهم بها الشيطان؛ ثم استأنفوا على طريق التخصيص ما ينبه على أنهم من حين عبادتهم إلى الآن لم يأتوا على ذلك بدليل، فقالوا منبهين على فساد التقليد في أصول الدين وأنه لا مقنع فيه بدون القطع‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ‏{‏يأتون‏}‏ الآن‏.‏

ولما كانوا بعبادتهم لهم قد أحلوهم محل العلماء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ أي على عبادتهم إياهم، وحققوا ما أرادوا من الاستعلاء بقولهم‏:‏ ‏{‏بسلطان‏}‏ أي دليل قاهر ‏{‏بين‏}‏ مثل ما نأتي نحن على تفرد معبودنا بالأدلة الظاهرة، والبراهين الباهرة، فإن مثل هذا الأمر لا يقنع فيه بدون ذلك، وقد جمعنا الأدلة كلها في الاستدلال على تفرد الله باستحقاقه للعبادة بأنه تفرد بخلق الوجود، فتسبب عن عجزهم عن دليل أنهم أظلم الظالمين لافتعالهم الكذب عن ملك الملوك ومالك الملك، فلذلك قالوا‏:‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى‏}‏ أي تعمد ‏{‏على الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏كذباً *‏}‏ فالآية دالة على فساد التقليد في الوحدانية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ‏(‏16‏)‏ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما استدلوا على معتقدهم، وعلموا سفه من خالفهم، وهم قوم لا يدان لهم بمقاومتهم، لكثرتهم وقلتهم، تسبب عن ذلك هجرتهم ليسلم لهم دينهم، فقال تعالى شارحاً لما بقي من أمرهم، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ وقالوا أو من شاء الله منهم حين خلصوا من قومهم نجياً‏:‏ لا ترجعوا إلى قومكم أبداً ما داموا على ما هم عليه، هذا إن كان المراد قيامهم بين يدي دقيانوس، وإن كان المراد من القيام الانبعاث بالعزم الصادق لم يحتج إلى هذا التقدير‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي حين ‏{‏اعتزلتموهم‏}‏ أي قومكم ‏{‏وما‏}‏ أي واعتزلتم ما ‏{‏يعبدون إلا الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال، وهذا دليل على أنهم كانوا يشركون، ويجوز أن يكونوا سموا الانقياد كرهاً لمشيئته والخضوع بزعمهم لاقضيته عبادة ‏{‏فأوا‏}‏ أي بسبب هذا الاعتزال، وهذا دليل العامل في ‏{‏إذ‏}‏ ‏{‏إلى الكهف‏}‏ أي الغار الذي في الجبل ‏{‏ينشر‏}‏ أي يحيي ويبعث ‏{‏لكم ربكم‏}‏ الذي لم يزل يحسن إليكم ‏{‏من رحمته‏}‏ ما يكفيكم به من المهم من أمركم ‏{‏ويهيئ لكم من أمركم‏}‏ الذي من شأنه أن يهمكم ‏{‏مرفقاً *‏}‏ ترتفقون به، وهو بكسر الميم وفتح الفاء في قراءة الجماعة، وبفتحها وكسر الفاء للنافع وابن عامر، وهذا الجزم من آثار الربط على قلوبهم بما علموا من قدرته على كل شيء، وحمايته من لاذ به ولجأ إليه وعبده وتوكل عليه، ففعلوا ذلك ففعل الله ما رجوه فيه، فجعل لهم أحسن مرفق بأن أنامهم ثم أقامهم بعد مضي قرون ومرور دهور، وهدى بهم ذلك الجيل الذي أقامهم فيه ‏{‏وترى‏}‏ لو رأيت كهفهم ‏{‏الشمس إذا طلعت‏}‏‏.‏

ولما كان حالهم خفياً، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تزاور‏}‏ أي تتمايل وتتحرف، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل ‏{‏عن كهفهم‏}‏ بتقلص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول ‏{‏ذات اليمين‏}‏ إذا كنت مستقبلاً القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلاً الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار ‏{‏وإذا غربت‏}‏ أي أخذت في الميل إلى الغروب ‏{‏تقرضهم‏}‏ أي تعدل في مسيرها عنهم ‏{‏ذات الشمال‏}‏ كذلك، لئلا يضرهم شدة الحرارة، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع، فلا يزال كهفهم رطباً، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفساد، فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش، وأن الجبل الذي هم فيه شمالي مكة المشرفة، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله، فلا يلزم ذلك، وقال الأصبهاني‏:‏ قيل‏:‏ إن باب ذلك كان مفتوحاً إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله‏.‏

ومادة ‏(‏قرض‏)‏ وليس لها إلا هذا التركيب- تدور على القطع، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه، قرضت الشيء،- بالفتح- أقرضه- بالكسر‏:‏ قطعته بالمقراض أو بغيره- لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه، والقرض‏:‏ قول الشعر خاصة- لأنه لا شيء من الكلام يشبهه فهو مقطوع منه مائل عنه بما خص به من الميزان، وهل مررت بمكان كذا‏؟‏ فتقول‏:‏ قرضته ذات اليمين ليلاً، أي كان عن يميني، والقرض‏:‏ ما تعطيه من المال لتقضاه- لأنك قطعته من مالك، والقرض- بالكسر‏:‏ لغة فيه عن الكسائي، والقرض‏:‏ ما سلفت من إحسان أو إساءة- على التشبيه، والتقريض‏:‏ المدح والذم- لأنه يميز الكلام فيه تمييزاً ظاهراً، وهما يتقارضان كذا- كأن كلاًّ منهما مقرض لصاحبه وموف له على ما أقرضه، والمقارضة‏:‏ المضاربة- لأن صاحب المال قطع من ماله، والعامل قطع من عمله حصة لهذا المال، قرض فلان الرباط- إذا مات، لأنه إذا انقطعت حياته انقطع كل رباط له في الدنيا، وجاء فلان وقد قرض رباطه- إذا جاء مجهوداً قد أشرف على الموت- كأنه أطلق عليه ذلك للمقاربة، والمقارضة‏:‏ المشاتمة- لقطعها العرض وما بين المتشاتمين، والاقتراض‏:‏ الاغتياب- من ذلك ومن القرض أيضاً، لأن من اغتاب اغتيب، وقرض- بالكسر- إذا زال من شيء إلى شيء- لأنه بوصل الثاني قطع الأول، وقرض- إذا مات، والمقارض‏:‏ الزرع القليل- إما للإزالة على الضد من الكثير، أو تشبيه بمواضع الاستقاء في البئر القليلة الماء، فإن المقارض أيضاً المواضع التي يحتاج المستقي إلى أن يقرض منها الماء، أي يميح، أي يدخل الدلو في البئر فيملأها لقلة الماء- لأنها مواضع قطع الماء برفعه عن البئر والمقارض أيضاً‏:‏ الجرار الكبار- كأنها لكبرها وقطعها كثيراً من الماء هي التي قطعت دون الصغار، وما عليه قراض، أي ما يقرض عنه العيون فيستره لتعدل عنه العيون- لعدم نفوذها إلى جلده، والقرض في السير هو أن تعدل عن الشيء في مسيرك، فإذا عدلت عنه فقد قرضته، والمصدر القرض وأصله من القطع، وابن مقرض- كمنبر‏:‏ ويبة تقتل الحمام- كأنها سميت لقطعها حياة الحمام، وقرض البعير جرته‏:‏ مضغها فهي قريض- لتقطيعها بالمضغ ولقطعها من بطنه بردها إلى حنكه للمضغ‏.‏

ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس، بين أنه أنعشهم بروح الهواء، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال‏:‏ ‏{‏وهم في فجوة منه‏}‏ أي في وسط الكهف ومتسعه‏.‏

ولما شرح هذا الأمر الغريب، والنبأ العجيب، وصل به نتيجته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي المذكور العظيم من هدايتهم، وما دبروا لأنفسهم، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه ‏{‏من ءايات الله‏}‏ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خصت به هذه الأمة كان يسيراً‏.‏

ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجباً، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من يهد‏}‏ ولو أيسر هداية- بما دل عليه حذف الياء في الرسم ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها ‏{‏فهو‏}‏ خاصة ‏{‏المهتد‏}‏ في أي زمان كان، فلن تجد له مضلاً مغوياً ‏{‏ومن يضلل‏}‏ إضلالاً ظاهرياً بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى، فهو لا غيره الضال ‏{‏فلن تجد له‏}‏ أصلاً من دونه، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه أضله ‏{‏ولياً مرشداً *‏}‏ فتجده يرى الآيات بعينه، ويسمعها بأذنه، ويحسها بجميع حواسه، ولا يعلم أنها آيات فضلاً عن أن يتدبرها وينتفع بها، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر الاهتداء أولاً دليلاً على حذف الضلال ثايناً، والمرشد ثانياً دليلاً على حذف المضل أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ‏(‏18‏)‏ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما نبه سبحانه هذا التنبيه تسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتثبيتاً أن يبخع نفسه، عطف على ما مضى بقية أمرهم فقال‏:‏ ‏{‏وتحسبهم أيقاظاً‏}‏ لانفتاح أعينهم للهواء ليكون أبقى لها، ولكثرة حركاتهم ‏{‏وهم رقود ونقلبهم‏}‏ بعظمتنا في حال نومهم تقليباً كثيراً بحسب ما ينفعهم كما يكون النائم ‏{‏ذات‏}‏ أي في الجهة التي هي صاحبة ‏{‏اليمين‏}‏ منهم ‏{‏وذات الشمال‏}‏ لينال روح النسيم جميع أبدانهم ولا يتأثر ما يلي الأرض منها بطول المكث ‏{‏وكلبهم باسط‏}‏ وأعمل اسم الفاعل هذا، لأنه ليس بمعنى الماضي بل هو حكاية حال ماضية فقال‏:‏ ‏{‏ذراعيه بالوصيد‏}‏ أي بباب الكهف وفنائه كما هي عادة الكلاب، وذكر هذا الكلب على طول الآباد بجميل هذا الرقاد من بركة صحبة الأمجاد‏.‏

ولما كان هذا مشوقاً إلى رؤيتهم، وصل به ما يكف عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو اطلعت عليهم‏}‏ وهم على تلك الحال ‏{‏لوليت منهم فراراً‏}‏ أي حال وقوع بصرك عليهم ‏{‏ولملئت‏}‏ في أقل وقت بأيسر أمر ‏{‏منهم رعباً *‏}‏ لما ألبسهم الله من الهيبة، وجعل لهم من الجلالة، وتدبيراً منه لما أراد منهم ‏{‏وكذلك‏}‏ أي فعلنا بهم هذا من آياتنا من النوم وغيره، ومثل ما فعلناه بهم ‏{‏بعثناهم‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏ليتساءلوا‏}‏ وأظهر بالافتعال إشارة إلى أنه في غاية الظهور‏.‏ ولما كان المراد تساؤلا عن أخبار لا تعدوهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بينهم‏}‏ أي عن أحوالهم في نومهم ويقظتهم فيزدادوا إيماناً، وثباتاً وإيقاناً، بما ينكشف لهم من الأمور العجيبة، والأحوال الغريبة فيعلم أنه لا علم لأحد غيرنا، ولا قدرة لأحد سوانا، وأن قدرتنا تامة، وعلمنا شامل، فليعلم ذلك من أنكر قدرتنا على البعث وسأل اليهود البعداء البغضاء عن نبيه الحبيب الذي أتاهم بالآيات، وأراهم البينات، فإن كانوا يستنحصون اليهود فليسألوهم عما قصصنا من هذه القصة، فإن اعترفوا به لزمهم جميعاً الإيمان والرجوع عن الغي والعدوان، وإن لم يؤمنوا علم قطعاً أنه لا يؤمن من أردنا هدايته بالآيات البينات كأهل الكهف وغيرهم، لا بإنزال الآيات المقترحات‏.‏

ولما كان المقام مقتضياً لأن يقال‏:‏ ما كان تساؤلهم‏؟‏ أجيب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال قائل منهم‏}‏ مستفهماً من إخوانه‏:‏ ‏{‏كم لبثتم‏}‏ نائمين في هذا الكهف من ليلة أو يوم، وهذا يدل على أن هذا القائل استشعر طول لبثهم بما رأى من هيئتهم أو لغير ذلك من الأمارات؛ ثم وصل به في ذلك الأسلوب أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لبثنا يوماً‏}‏ ودل على أن هذا الجواب مبني على الظن بقوله دالاً حيث أقرهم عليه سبحانه على جواز الاجتهاد والقول بالظن المخطئ، وأنه لا يسمى كذباً وإن كان مخالفاً للواقع ‏{‏أو بعض يوم‏}‏ كما تظنون أنتم عند قيامكم من القبور إن لبثتم إلا قليلاً، لأنه فرق بين صديق وزنديق في الجهل بما غيبه الله تعالى‏:‏ فكأنه قيل‏:‏ على أي شيء استقر أمرهم في ذلك‏؟‏ فأجيب بأنهم ردوا الأمر إلى الله بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي قال بعضهم إنكاراً على أنفسهم ووافق الباقون بما عندهم من التحاب في الله والتوافق فيه في الحقيقة إخوان الصفا وخلان الألفة والوفا ‏{‏ربكم‏}‏ المحسن إليكم ‏{‏أعلم‏}‏ أي من كل أحد ‏{‏بما لبثتم فابعثوا‏}‏ أي فتسبب عن إسناد العلم إلى الله تعالى أن يقال‏:‏ اتركوا الخوض في هذا واشتغلوا بما ينفعكم بأن تبعثوا ‏{‏أحدكم بورقكم‏}‏ أي فضتكم ‏{‏هذه‏}‏ التي جمعتموها لمثل هذا ‏{‏إلى المدينة‏}‏ التي خرجتم منها وهي طرطوس ليأتينا بطعان فإنا جياع ‏{‏فلينظر أيها‏}‏ أي أي أهلها ‏{‏أزكى‏}‏ أي أطهر وأطيب ‏{‏طعاماً فليأتكم‏}‏ ذلك الأحد ‏{‏برزق منه‏}‏ لنأكل ‏{‏وليتلطف‏}‏ في التخفي بأمره حتى لا يتفطنوا له ‏{‏ولا يشعرن‏}‏ أي هذا المبعوث منكم في هذا الأمر ‏{‏بكم أحداً *‏}‏ أن فطنوا له فقبضوا عليه، وإن المعنى‏:‏ لا يقولن ولا يفعلن ما يؤدي من غير قصد منه إلى الشعور بكم فيكون قد أشعر بما كان منه من السبب، وفي قصتهم دليل على أن حمل المسافر ما يصلحه من المنفعة رأى المتوكلين لا المتآكلين المتكلين على الإنفاقات على ما في أوعية القوم من النفقات، وفيها صحة الوكالة؛ ومادة ‏(‏ورق‏)‏ بجميع تراكيبها الخمسة عشر قد تقدم في سورة سبحان وغيرها أنها تدور على الجمع، فالورق مثلثة وككتف وجبل‏:‏ الدراهم المضروبة- تشبيهاً بالورق في الشكل وفي الجمال، وبها جمع حال الإنسان، وحالها مقتض للجمع، والورّاق‏:‏ الكثير الدراهم وهو أيضاً مورّق الكتب، وحرفته الوراقة، وما زلت منك موارقاً، أي قريباً مدانياً- أي كالذي يساجلك في قطاف الورق من شجرة واحدة فهو يأخذ من ناحية وأنت من أخرى، والمداناة‏:‏ أول الجمع والورق- محركة‏:‏ جمال الدنيا وبهجتها- لأنها تجمع ألواناً وأنواعاً، ولعل منه الورقة، قال في مختصر العين‏:‏ إنها سواد في غبرة‏.‏

وحمامة ورقاء- أي منه، وفي القاموس‏:‏ والأورق من الإبل‏:‏ ما في لونه بياض إلى سواد، ورأى رجل الغول على جمل أورق فقال‏:‏ جاء بأم الربيق على أريق، أي بالداهية العظيمة، صغر الأورق كسويد في أسود، والأصل وريق فقلبت واوه همزة، والأورق أيضاً من الكتاب والشجر معروف- لأنك لا تكاد تحد واحدة منه على لون واحد، ولأنه يجمع الواحدة منه إلى الأخرى ويجمع معنى ما يحمله، قال في مختصر العين‏:‏ والورق‏:‏ أدم رقاق منه ورق المصحف، والورق أيضاً‏:‏ الخبط- لأنه لما كانت الإبل تعلفه كان كأنه هو الورق لا غيره، والورق‏:‏ الحي من كل حيوان- لأن الحياة هي الجمال، وبها جماع الأمور، ولأن الورق دليل على حياة الحي من الشجر، فهو من إطلاق اسم الدال على المدلول، والورق أيضاً‏:‏ ما استدار من الدم على الأرض، أو ما سقط اسم من الجراحة- لأن الاستدارة أجمع الأشكال، وهو تشبيه بورق الشجر في الشكل، والورق‏:‏ المال من إبل ودراهم وغيرها- لأن جماع حياة الإنسان وكمالها بذلك كما أن كمال حياة الشجر بالورق، ولرعي المال من الحيوان الورق، والورق‏:‏ حسن القوم وجمالهم- من ذلك، لأنه يجمع أمرهم ويجمع إليهم غيرهم، والورق من القوم‏:‏ أحداثهم أو الضعاف من الفتيان- تشبيه بالورق لأنه لا يقيم غالباً أكثر من عام، ولأنه ضعيف في نفسه، وضعيف النفع بالنسبة إلى الثمر، والورقة- بهاء‏:‏ الخسيس والكريم، ضد- للنظر تارة إلى كونه نافعاً للمرعى ودالاً على الحياة، وإلى كونه غير مقصود بالذات أخرى، ورجل ورق وامرأة ورقة‏:‏ خسيسان أي لا ثمرة لهما، ومن ذلك أورق الصائد- إذا رمى فأخطأ أي لم يقع على غير الورق، أي لم تحصل له ثمرة، بل وقع على شجرة غير مثمرة، وكذا أورق القوم‏:‏ أخفقوا في حاجتهم، أي رجعوا بلا ثمرة، ومن ذلك أيضاً أورقوا‏:‏ كثر مالهم ودراهمهم- ضد، هذا بالنظر إلى أن في الورق جمال الشجر وحياته، والتجارة مؤرقة للمال كمجلبة أي مكثرة؛ ومنه قول القزاز في ديوانه‏:‏ هذا رجل مؤرق له دراهم، والمؤرق‏:‏ الذي لا شيء له- ضد، أو أنه تارة يكون للإيجاب والصيرورة نحو أغدّ البعير، وتارة للسلب نحو أشكيته، والوراق ككتاب‏:‏ وقت خروج الورق من الشجر، وشجرة وريقة وورقة‏:‏ كثيرة الورق، والوارقة‏:‏ الشجرة الخضراء الورق الحسنته، والوراق- كسحاب‏:‏ خضرة الأرض من الحشيش، وليس من الورق في شيء، وذلك أن تلك الخضرة لا تخلو عن لون آخر، والرقة- كعدة‏:‏ أول نبات النصي والصليان وهما نباتان أفضل مراعي الإبل، لأنهما سبب لجمع المال للرعي، والرقة‏:‏ الأرض التي يصيبها المطر في الصفرية- أي أول الخريف- أو في القيظ فتنبت فتكون خضراء- كأن ذلك النبات يكون أقل خضرة من نبات الربيع، ويكون اختلاطه لغيره من الألوان أكثر مما في الربيع، وفي القوس ورقة- بالفتح‏:‏ عيب، والورقاء‏:‏ الذئبة- من أجل أن الورق الخالي عن الثمر تقل الرغبة في شجره وهو دون المثمر، ولأن الورق مختلط اللون، والاختلاط في كل شيء عيب بالنسبة إلى الخالص، وتورقت الناقة‏:‏ أكلت الورق‏.‏

وقار الرجل يقور‏:‏ مشى على أطراف قدميه لئلا يسمع صوتهما- لأن فاعل ذلك جدير بالوصول إلى ما أراد مما يجمع شمله، ومنه قار الصيد‏:‏ ختله- لأن أهل الخداع أولى بالظفر، ألا ترى الأسود تصاد به، ولو غولبت عز أخذها، وقار الشيء‏:‏ قطعه من وسطه خرقاً مستديراً كقوّره- لأن الثوب يصير بذلك الخرق يجمع ما يراد منه، والاستدارة أجمع الأشكال كما سلف، والقوارة- كثمامة‏:‏ ما قور الثوب وغيره، أو يخص بالأديم، وما قطعت من جوانب الشيء، والشيء الذي قطع من جوانبه- ضد، وهو من تسميه موضع الشيء باسمه، والقارة‏:‏ الجبل الصغير الصلب المنقطع عن الجبال- لشدة اجتماع أجزائه بالصلابة واجتماعه في نفسه بانقطاعه عن غيره مما لو خالطه لفرقه، ولم يعرف حد على ما هو، والقارة‏:‏ الصخرة العظيمة، والأرض ذات الحجارة السود- لاجتماعها في نفسها بتميزها عن غيرها بتلك الحجارة، ودار قوراء‏:‏ واسعة- تشبيهاً بقوارة الثواب، ولأنها كلما اتسعت كانت أجمع، والقار‏:‏ الإبل أو القطيع الضخم منها، والاقورار‏:‏ تشنج الجلد وانحناء الصلب هزالاً وكبراً- لأن كلاًّ من التشنج والانحناء اجتماع، والاقورار‏:‏ الضمر- لأن الضامر اجتمعت أجزاؤه، والاقورار‏:‏ السمن- ضد، لأن السمين جمع اللحم والشحم، والاقورار‏:‏ ذهاب نبات الأرض- لأنها تصير بذلك قوراء فتصير أجدر بأن تسع الجموع، ويمكن أن يكون الأقورار كله من السلب إلا ما للسمن، والقور‏:‏ القطن الحديث أو ما رزع من عامة لأنه يلبس فيجمع البدن، ولقيت منه الأقورين- بكسر الراء، والأقوريات أي الدواهي القاطعة- تشبيهاً بما قور من الثوب، فهي للسلب، والقور- محركة‏:‏ العين- لأن محلها يشبه القوارة، والمقور- كمعظم‏:‏ المطلي بالقطران- لاجتماع أجزائه بذلك، واقتار‏:‏ احتاج، أي صار أهلاً لأن يجمع، وتقور الليل‏:‏ تهور، أي مضى، من القطع، وتقورت الحية‏:‏ تثنت أي تجمعت، والقار‏:‏ شجر مر- كأنه الذي تطلى به السفن، وهذا أقير من هذا‏:‏ أشد مرارة- لأن المرارة تجمع اللهوات عند الذوق، والقارة قبيلة- لأن ابن الشداخ أراد أن يفرقهم فقال شاعرهم‏:‏

دعونا قارة لا تذعرونا *** فنجفل مثل إجفال الظليم

فسموا القارة بهذا وكانوا رماة، وفي المثل‏:‏ قد أنصف القارة من راماها‏.‏

والرقوة‏:‏ فويق الدعص من الرمل، ويقال رقو، بلا هاء- كأنه لجمعه الكثير من الرمل، أو لجمعه من يطلب الإشراف على الأماكن البعيدة بالعلو عليه لترويح النفس- والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏20‏)‏ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما نهوا رسولهم عن الإشعار بهم عللوا ذلك فقالوا‏:‏ ‏{‏إنهم‏}‏ أي أهل المدينة ‏{‏إن يظهروا‏}‏ أي يطلعوا عالين ‏{‏عليكم يرجموكم‏}‏ أي يقتلوكم أخبث قتله إن استمسكتم بدينكم ‏{‏أو يعيدوكم‏}‏ قهراً ‏{‏في ملتهم‏}‏ إن لنتم لهم ‏{‏ولن تفلحوا إذاً‏}‏ أي إذا عدتم فيها مطمئنين بها، لأنكم وإن أكرهتم ربما استدرجكم الشيطان بذلك إلى الإجابة حقيقة ‏{‏أبداً *‏}‏ أي فبعثوا أحدهم فنظر الأزكى وتلطف في الأمر، فاسترابوا منه لأنهم أنكروا ورقه لكونها من ضرب ملك لا يعرفونه فجهدوا به فلم يشعر بهم أحداً من المخالفين، وإنما أشعر بهم الملك لما رآه موافقاً لهم في الدين لأنه لم يقع النهي عنه ‏{‏وكذلك‏}‏ أي فعلنا بهم ذلك الأمر العظيم من الربط على قلوبهم، والستر لأخبارهم والحماية من الظالمين والحفظ لأجسامهم على مر الزمان، وتعاقب الحدثان، ومثل ما فعلنا بهم ذلك ‏{‏أعثرنا‏}‏ أي أظهرنا إظهار أضطرارياً، أهل البلد وأطلعناهم، وأصله أن الغافل عن الشيء ينظر إليه إذا عثر به نظر إليه فيعرفه، فكان العثار سبباً لعلمه به فأطلق اسم السبب على المسبب ‏{‏عليهم ليعلموا‏}‏ أي أهل البلد بعد أن كان حصل لبعضهم شك في حشر الأجساد لأن اعتقاد اليهود والنصارى أن البعث إنما هو للروح فقط ‏{‏أن وعد الله‏}‏ الذي له صفات الكمال بالبعث للروح والجسد معاً ‏{‏حق‏}‏ لأن قيامهم بعد نومهم نيفاً وثلاثمائة سنة مع خرق العادة بحفظ أبدانهم عن الفناء من غير أكل ولا شرب مثل قيام من مات بجسمه الذي كان سواء على أن مطلق النوم دال على ذلك كما قال بعض العارفين «علمك باليقظة بعد النوم علم بالبعث بعد الموت، والبرزخ واحد غير أن للروح بالجسم في النوم تعلقاً لا يكون بالموت، وتستيقظ على ما نمت عليه كذلك تبعث على ما مت عليه»‏.‏

ولما كان من الحق ما قد يداخله شك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأن‏}‏ أي وليعلموا أن ‏{‏الساعة لا ريب فيها‏}‏ مبيناً أنها ليست موضع شك أصلاً لما قام عليها من أدلة العقل، المؤيد في كل عصر بقواطع النقل، ومن طالع تفسير ‏(‏الزيتون‏)‏ من كتابي هذا حصل له هذا ذوقاً؛ ثم بين أن هذا الإعثار أتاهم بعلم نافع حال تجاذب وتنازع فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي ليعلموا ذلك، وأعثرنا حين ‏{‏يتنازعون‏}‏ أي أهل المدينة‏.‏

ولما كان التنازع في الغالب إنما يكون ما بين الأجانب، وكان تنازع هؤلاء مقصوراً عليهم كان الأهم بيان محله فقدمه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بينهم أمرهم‏}‏ أي أمر أنفسهم في الحشر فقائل يقول‏:‏ تحشر الأرواح مجردة‏:‏ وقائل يقول‏:‏ بأجسادها، أو أمر الفتية فقائل يقول‏:‏ ناس صالحون، وناس يقولون‏:‏ لا ندري من أمرهم غير أن الله تعالى أراد هدايتنا بهم ‏{‏فقالوا‏}‏ أي فتسبب عن هذا الإعثار أو التنازع أن قال أكثرهم‏:‏ ‏{‏ابنوا عليهم‏}‏ على كل حال ‏{‏بنياناً‏}‏ يحفظهم، واتركوا التنازع فيهم، ثم عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم بهدايتهم وحفظهم وهداية الناس بهم ‏{‏أعلم بهم‏}‏ أن كانوا صالحين أو لا، وأما أنتم فلا طريق لكم إلى علم ذلك؛ ثم استأنف على طريق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ماذا فعلوا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قال الذين غلبوا على‏}‏ أي وقع أن كانوا غالبين على ‏{‏أمرهم‏}‏ أي ظهروا عليه وعلموا أنهم ناس صالحون فروا بدينهم من الكفار وضعف من ينازعهم؛ ويجوز- وهو أحسن- أن يكون الضمير لأهل البلد أو للغالبين أنفسهم، إشارة إلى أن الرؤساء منهم وأهل القوة كانوا أصلحهم إيماء إلى أن الله تعالى أصلح بهم أهل ذلك الزمان ‏{‏لنتخذن عليهم‏}‏ ذلك البنيان الذي اتفقنا عليه ‏{‏مسجداً *‏}‏ وهذا دليل على أنهم حين ظهروا عليهم وكلموهم أماتهم الله بعد أن علموا أن لهم مدة طويلة لا يعيش مثلها أحد في ذلك الزمان، وقبل أن يستقصوا جميع أمرهم، وفي قصتهم ترغيب في الهجرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ‏(‏23‏)‏ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سيقولون‏}‏ أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من نبأهم بوعد لا خلف فيه‏:‏ هم ‏{‏ثلاثة‏}‏ أشخاص ‏{‏رابعهم كلبهم‏}‏ ولا علم لهم بذلك، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنهم ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً ‏{‏ويقولون‏}‏ أي وسيقولون أيضاً‏:‏ ‏{‏خمسة سادسهم كلبهم‏}‏‏.‏

ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجماً بالغيب‏}‏ أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه ‏{‏ويقولون‏}‏ أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك‏:‏ ‏{‏سبعة وثامنهم كلبهم‏}‏ وتأخير هذا عن الرجم- وإن كان ظناً- مشعر بأنه حق، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو ‏{‏إلا ولها كتاب معلوم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 4‏]‏ فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، وفي براءة، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها‏.‏ فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل‏:‏ ماذا يقال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قل ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره ‏{‏أعلم بعدتهم‏}‏ أي التي لا زيادة فيها ولا نقص، فكان كأنه قيل‏:‏ قد فهم من صيغة «أعلم» أم من الخلق من يعلم أمرهم فقيل‏:‏ ‏{‏ما يعلمهم إلا قليل *‏}‏ أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب، وهو، قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول‏:‏ أنا من ذلك القليل‏.‏ ‏{‏فلا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم‏:‏ لا ‏{‏تمار‏}‏ أي تجادل وتراجع ‏{‏فيهم‏}‏ أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به ‏{‏إلا مرآء ظاهراً‏}‏ أدلته، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فعلهم من الرجم بالغيب ‏{‏ولا تستفت‏}‏ أي تسأل سؤال مستفيد ‏{‏فيهم‏}‏ أي أهل الكهف ‏{‏منهم‏}‏ أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم ‏{‏أحداً *‏}‏‏.‏

ولما كان نهيه عن استفتائهم موجباً لقصر همته على ربه سبحانه فكان من المعلوم أنه إذا سئل عن شيء، التفتت نفسه إلى تعرفه من قبله، فربما قال لما يعلم من إحاطة علم الله سبحانه وكرمه لديه‏:‏ سأخبركم به غداً، كما وقع من هذه القصص، علمه الله ما يقول في كل أمر مستقبل يعزم عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشيءٍ‏}‏ أي لأجل شيء من الأشياء التي يعزم عليها جليلها وحقيرها، عزمت على فعله‏:‏ عزماً صادقاً من غير تردد وإن كنت عند نفسك في غاية القدرة عليه‏:‏ ‏{‏إني فاعل ذلك‏}‏ أي الشيء وإن كان مهماً ‏{‏غداً *‏}‏ أي فيما يستقبل في حال من الأحوال ‏{‏إلا‏}‏ قولاً كائناً معه ‏{‏أن يشاء‏}‏ في المستقبل ذلك الشيء ‏{‏الله‏}‏ أي مقروناً بمشيئة الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه سبحانه تعظيماً لله أن يقطع شيء دونه واعترافاً بأنه لا حول ولا قوة إلا به، ولأنه إن قيل ذلك دون استثناء فات قبل الفعل أو عاقه عنه عائق كان كذباً منفراً عن القائل‏.‏

ولما كان النسيان من شأن الإنسان وهو غير مؤاخذ به قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر ربك‏}‏ أي المحسن إليك برفع المؤاخذة حال النسيان ‏{‏إذا نسيت‏}‏ الاستثناء بالاستعانة والتوكل عليه وتفويض الأمر كله بأن تقول‏:‏ إن شاء الله، ونحوها في أيّ وقت تذكرت؛ وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط في ترجمة محمد بن الحارث الجبيلي- بضم الجيم وفتح الموحدة- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا بصلة اليمين‏.‏ ثم عطف على ما أفهمه الكلام وهو‏:‏ فقل إذا نسيت‏:‏ إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله- ونحو ذلك من التعليق بالمشيئة المؤذن بأنه لا حول ولا قوة إلا بالله ولا مشيئة لأحد معه قوله‏:‏ ‏{‏وقل عسى أن يهدين ربي‏}‏ أي المحسن إليّ ‏{‏لأقرب‏}‏ أي الى أشد قرباً ‏{‏من هذا‏}‏ أي الذي عزمت على فعله ونسيت الاستثناء فيه فقضاه الله ولم يؤاخذني، أو فاتني أو تعسر عليّ لكوني لم أقرن العزم عليه بذكر الله ‏{‏رشداً *‏}‏ أي من جهة الرشد بأن يوفقني للاستثناء فيه عند العزم عليه مع كونه أجود أثراً وأجل عنصراً فأكون كل يوم في ترق بالأفعال الصالحة في معارج القدس، و«اقرب» أفعل تفضيل من قرب- بضم الراء- من الشيء، لازم، لا من المكسور الراء المتعدي نحو ‏{‏ولا تقربوا الزنى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 34‏]‏ الآية، والأقرب من رشد الاستدلال بقصة أهل الكهف التي الحديث عنها على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونحو ذلك الاستدلال على وحدانية الصانع وقدرته على البعث وغيره بالأمور الكلية أو الجزئيات القريبة المتكررة، لا بهذا الأمر الجزئي النادر المتعب ونحو هذا من المعارف الإلهية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏27‏)‏ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما فرغ من هذه التربية في أثناء القصة وختمها بالترجية في الهداية للأرشد، وكان علم مدة لبثهم أدق وأخفى من علم عددهم، شرع في إكمالها مبيناً لهذا الأخفى، عاطفاً على قوله ‏{‏قالوا ربكم أعلم بما لبثتم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 19‏]‏ أو على «فأووا إليه» الذي أرشد إلى تقديره قولهم‏:‏ ‏{‏فأووا إلى الكهف‏}‏ كما مضى، المختوم بنشر الرحمة وتهيئة المرفق بعد قوله ‏{‏إذ أوى الفتية‏}‏ المختوم بقولهم ‏{‏وهيئ لنا من أمرنا رشداً‏}‏ فقال بياناً لإجمال ‏{‏سنين عدداً‏}‏ محققاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏}‏‏:‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم‏}‏ نياماً ‏{‏ثلاث‏}‏ أي مدة ثلاث ‏{‏مائة سنين‏}‏ شمسية بحساب اليهود الآمرين بهذا السؤال، وعبر بلفظ السنة إشارة إلى ذمها بما وقع فيها من علو أهل الكفر وطغيانهم بما أوجب خوف الصديقين وهجرتهم وإن كان وقع فيها خصب في النبات وسعة في الرزق، وذلك يدل على استغراق الكفر لمدة نومهم‏.‏

ولما كان المباشرون للسؤال هم العرب قال‏:‏ ‏{‏وازدادوا تسعاً *‏}‏ أي من السنين القمرية إذا حسب الكل بحساب القمر، لأن تفاوت ما بين السنة الشمسية والقمرية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة كما تقدم في النسيء من براءة، فإذا حسبت زيادة السني القمرية على الثلاتمائة الشمسية باعتبار نقص أيامها عنها كانت تسع سنين، وكأن مدة لبثهم كانت عند اليهود أقل من ذلك أو أكثر، فقال على طريق الجواب لسؤال من يقول‏:‏ فإن قال أحد غير هذا فما يقال له‏؟‏ ‏{‏قل الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏أعلم‏}‏ منكم ‏{‏بما لبثوا‏}‏ ثم علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏له‏}‏ أي وحده ‏{‏غيب السماوات والأرض‏}‏ يعلمه كله على ما هو عليه، ولا ينسى شيئاً من الماضي ولا يعزب عنه شيء من الحاضر، ولا يعجز عن شيء من الآتي، فلا ريب فيما يخبر به‏.‏

ولما كان السمع والبصر مناطي العلم، وكان متصفاً منهما بما لا يعلمه حق علمه غيره، عجب من ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أبصر به وأسمع‏}‏ ولما كان القائم بشيء قد يقوم غيره مقامه إما بقهر أو شرك، نفى ذلك فانسد باب العلم عن غيره إلا من جهته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم‏}‏ أي لهؤلاء السائلين ولا المسؤولين الراجمين بالغيب من أصحاب الكهف ‏{‏من دونه‏}‏ وأعرق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ولي‏}‏ يجيرهم منه أو بغير ما أخبر به ‏{‏ولا يشرك‏}‏ أي الله ‏{‏في حكمه أحداً *‏}‏ فيفعل شيئاً بغير أمره أو يخبر بشيء من غير طريقه‏.‏

ولما تقرر أنه لا شك في قوله‏:‏ ولا يقدر أحد أن يأتي بما يماثله فكيف بما ينافيه مع كونه مختصاً بتمام العلم وشمول القدرة، حسن تعقيبه بقوله عطفاً على ‏{‏قل لله أعلم‏}‏‏:‏ ‏{‏واتل‏}‏ أي اقرأ على وجه الملازمة ‏{‏ما أوحي إليك‏}‏ وبنى الفعل للمجهول لأن الخطاب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على القطع بأن الموحى إليه هو الله سبحانه وتعالى ‏{‏من كتاب ربك‏}‏ الذي أحسن تربيتك في قصة أهل الكهف وغيرها، على من رغب فيه غير ملتفت إلى غيره واتبعوا ما فيه واثقين بوعده ووعيده وإثباته ونفيه وعلى غيرهم‏.‏

ولما كان الحامل على الكف عن إبلاغ رسالة المرسل وجدان من ينقضها أو عمي على المرسل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا مبدل لكلماته‏}‏ فلا شك في وقوعها فلا عذر في التقصير في إبلاغها، والنسخ ليس بتبديل بهذا المعنى بل هو غاية لما كان ‏{‏ولن تجد‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏من دونه‏}‏ أي أدنى منزلة من رتبته الشماء إلى آخر المنازل ‏{‏ملتحداً *‏}‏ أي ملجأ ومتحيزاً تميل إليه فيمنعك منه إن قصرت في ذلك‏.‏

ولما كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم شديد الحرص على إيمانهم كثير الأسف على توليهم عنه يكاد يبخع نفسه حسرة عليهم وكانوا يقولون له إذا رأوا مثل هذا الحق الذي لا يجدون له مدفعاً‏:‏ لو طردت هؤلاء الفقراء وأبعدتهم عنك مثل عمار وصهيب وبلال فإنه يؤذينا ريح جبابهم ونأنف من مجالستهم جلسنا إليك وسمعنا منك ورجونا أن نتبعك، قال يرغبه في أتباعه مزهداً فيمن عداهم كائناً من كان، معلماً أنه ليس فيهم ملجأ لمن خالف أمر الله وأنهم لا يريدون إلا تبديل كلمات الله فسيذلهم عن قريب ولا يجدون لهم ملتحداً‏:‏ ‏{‏واصبر نفسك‏}‏ أي احبسها وثبتها في تلاوته وتبيين معانيه ‏{‏مع الذين يدعون ربهم‏}‏ شكراً لإحسانه، واعترافاً بامتنانه، وكنى عن المداومة بما يدل على البعث الذي كانت قصة أهل الكهف دليلاً عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بالغداة‏}‏ أي التي الانتقال فيها من النوم إلى اليقظة كالانتقال من الموت إلى الحياة ‏{‏والعشي‏}‏ أي التي الانتقال فيها من اليقظة إلى النوم كالانتقال من الحياة إلى الموت؛ ثم مدحهم بقوله تعالى معللاً لدعائهم‏:‏ ‏{‏يريدون‏}‏ أي بذلك ‏{‏وجهه‏}‏ لا غير ذلك في رجاء ثواب أو خوف عقاب وإن كانوا في غاية الرثاثة، وأكد ذلك بالنهي عن ضده فقال مؤكداً للمعنى لقصر الفعل وتضمينه فعلاً آخر‏:‏ ‏{‏ولا تعد عيناك‏}‏ علواً ونبوءاً وتجاوزاً ‏{‏عنهم‏}‏ إلى غيرهم، أي لا تعرض عنهم، حال كونك ‏{‏تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏ التي قدمنا في هذه السورة أنا زينا بها الأرض لنبلوهم بذلك، فإنهم وإن كانوا اليوم عند هؤلاء مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون، وليكونن عن قريب- إذا بعثنا من نريد من العباد بالحياة من برزخ الجهل- في الطبقة العليا من أهل العز، وأما بعد البعث الحقيقي فلتكونن لهم مواكب يهاب الدنو منها كما كان لأهل الكهف بعد بعثهم من هذه الرقدة بعد أن كانوا في حياتهم قبلها هاربين مستخفين في غاية الخوف والذل، وأما إن عدّت العينان أحداً لما غفل عنه من الذكر، وأحل به من الشكر، فليس ذلك من النهي في شيء لأنه لم يرد به الإ الآخرة‏.‏

ولما بلغ في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمجالسة المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى الغافلين، وأكد الإعراض عن الناكبين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تطع من أغفلنا‏}‏ بعظمتنا ‏{‏قلبه‏}‏ أي جعلناه غافلاً، لأن الفعل فيه لنا لا له ‏{‏عن ذكرنا‏}‏ بتلك الزينة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فغفل، لأن عظمتنا لا يغلبها شيء فلا يكون إلا ما نريد، عطف على فعل المطاوعة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبع هواه‏}‏ بالميل إلى ما استدرجناه به منها والأنفة من مجالسة أوليائنا الذين أكرمناهم بالحماية منها لأن ذكر الله مطلع الأنوار، فإذا أفلت الأنوار تراكمت الظلمة فجاء الهوى فأقبل على الخلق ‏{‏وكان أمره فرطاً *‏}‏ أي متجاوزاً للحد مسرفاً فيه متقدماً على الحق، فيكون الحق منبوذاً به وراء الظهر مفرطاً فيه بالتقصير فإن ربك سبحانه سينجي أتباعك على ضعفهم منهم كما أنجى أصحاب الكهف، ويزيدك بأن يعليهم عليهم ويدفع الجبابرة في أيديهم لأنهم مقبلون على الله معرضون عما سواه، وغيرهم مقبل على غيره معرض عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ‏(‏30‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما رغبه في أوليائه، وزهده في أعدائه، ترضية بقدره بعد أن قص الحق من قصة أهل الكهف للمتعنتين، علمه ما يقول لهم على وجه يعمهم ويعم غيرهم ويعم القصة وغيرها فقال تعالى مهدداً ومتوعداً- كما نقل عن علي رضي الله عنه وكذا عن غيره‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ أي لهم ولغيرهم‏:‏ هذا الذي جئتكم به من هذا الوحي العربي العري عن العوج، الظاهر الإعجاز، الباهر الحجج ‏{‏الحق‏}‏ كائناً ‏{‏من ربكم‏}‏ المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين، والإعراض عمن سواهم وغير ذلك، لا ما قلتموه في أمرهم، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ‏{‏فمن شاء‏}‏ أي منكم ومن غيركم ‏{‏فليؤمن‏}‏ بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم، فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً زريّ الهيئة ولم ينفع إلا نفسه ‏{‏ومن شاء‏}‏ منكم ومن غيركم ‏{‏فليكفر‏}‏ فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة، وإن تعاظمت هيبته لما اشتد من أذاه، وأفرط من ظلمه، وسنشفي قلوب المؤمنين في الدارين بالانتقام منه، والآية دالة على أن كلاًّ من الكفر والإيمان موقوف على المشيئة بخلق الله تعالى، لأن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وذلك القصد إن كان بقصد آخر يتقدمه لزم أن يكون كل قصد مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال، فوجب أن تنتهي تلك القصود إلى قصد يخلقه الله في العبد على سبيل الضرورة يجب به الفعل، فإلإنسان مضطر في صورة مختار، فلا دليل للمعتزلة في هذه الآية‏.‏

ولما هدد السامعين بما حاصله‏:‏ ليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله تعالى، اتبع هذا التهديد تفصيلاً لما أعد للفريقين من الوعد والوعيد لفاً ونشراً مشوشاً- بما يليق بهذا الأسلوب المشير إلى أنه لا كفوء له من نون العظمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا اعتدنا‏}‏ أي هيأنا بما لنا من العظمة تهيئة قريبة جداً، وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير ‏{‏للظالمين‏}‏ أي لمن لم يؤمن، ولكنه وصف إشارة إلى تعليق الحكم به ‏{‏ناراً‏}‏ جعلناها معدة لهم ‏{‏أحاط بهم‏}‏ كلهم ‏{‏سرادقها‏}‏ أي حائطها الذي يدار حولها كما يدار الحظير حول الخيمة من جميع الجوانب‏.‏

ولما كان المحرور شديد الطلب للماء قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يستغيثوا‏}‏ من حر النار فيطلبوا الغيث- وهو ماء المطر- والغوث بإحضاره لهم؛ وشاكل استغاثتهم تهكماً بهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يغاثوا بماء‏}‏ ليس كالماء الذي قدمنا الإشارة إلى أنا نحيي به الأرض بعد صيرورتها صعيداً جرزاً، بل ‏{‏كالمهل‏}‏ وهو القطران الرقيق وما ذاب في صفر أو حديد والزيت أو درديّه- قاله في القاموس‏.‏

وشبهه به من أجل تناهي الحر مع كونه ثخيناً، وبين وجه الشبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يشوي الوجوه‏}‏ أي إذا قرب إلى الفم فكيف بالفم والجوف‏!‏ ثم وصل بذلك ذمه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الشراب‏}‏ أي هو، فإنه أسود منتن غليظ حار، وعطف عليه ذم النار المعدة لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وساءت مرتفقاً *‏}‏ أي منزلاً يعد للارتفاق، فكأنه قيل‏:‏ فما لمن آمن‏؟‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين ءامنوا‏}‏ ولما كان الإيمان هو الإذعان للأوامر، عطف عليه ما يحقق ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعملوا الصالحات‏}‏ ثم عظم جزاءهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع‏}‏ أي بوجه من الوجوه لما يقتضيه عظمتنا ‏{‏أجر من أحسن عملاً *‏}‏ مشيراً بإظهار ضميرهم إلى أنهم استحقوا بذلك الوصف بالإحسان، فكأنه قيل‏:‏ فما لهم‏؟‏ فقال مفصلاً لما أجمل من وعدهم‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏لهم جنات عدن‏}‏ أي إقامة، فكأنه قيل‏:‏ ما لهم فيها‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏تجري من تحتهم‏}‏ أي تحت منازلهم ‏{‏الأنهار‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏يحلون فيها‏}‏ وبنى الفعل للمجهول لأن القصد وجود التحلية، وهي لعزتها إنما يؤتى بها من الغيب فضلاً من الله تعالى‏.‏

ولما كان الله أعظم من كل شيء، فكانت نعمه لا يحصى نوع منها، قال تعالى مبعضاً‏:‏ ‏{‏من أساور‏}‏ جمع أسورة جمع سوار، كما يلبس ذلك ملوك الدنيا من جبابرة الكفرة في بعض الأقاليم كأهل فارس‏.‏ ولما كان لمقصودها نظر إلى التفضيل والفعل بالاختيار على الإطلاق، وقع الترغيب في طاعته بما هو أعلى من الفضة فقال مبعضاً أيضاً‏:‏ ‏{‏من ذهب‏}‏ أي ذهب هو في غاية العظمة‏.‏ ولما كان اللباس جزاء العمل وكان موجوداً عندهم، أسند الفعل إليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويلبسون ثياباً خضراً‏}‏ ثم وصفها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من سندس‏}‏ وهو ما رقّ من الديباج ‏{‏وإستبرق‏}‏ وهو ما غلظ منه؛ ثم استأنف الوصف عن حال جلوسهم فيها بأنه جلوس الملوك المتمكنين من النعيم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏متكئين فيها‏}‏ أي لأنهم في غاية الراحة ‏{‏على الأرائك‏}‏ أي الأسرع عليها الحجل، ثم مدح هذا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏نعم الثواب‏}‏ أي هو لو لم يكن لها وصف غير ما سمعتم فكيف ولها من الأوصاف ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى‏!‏ وإلى ذلك أشار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحسنت‏}‏ أي الجنة كلها، وميز ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مرتفقاً *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 37‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ‏(‏32‏)‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ‏(‏33‏)‏ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ‏(‏34‏)‏ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ‏(‏37‏)‏‏}‏

ولما كان إنما محط حال المشركين العاجل، وكان قد تقدم قولهم ‏{‏أو يكون لك جنة من نخيل وعنب‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 91‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ في حق فقراء المؤمنين الذين تقذروهم ‏{‏ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏ الآية واستمر إلى أن ختم بأن جنات المؤمنين عظيم حسنها من جهة الارتفاق، عطف على قوله تعالى ‏{‏وقل الحق من ربكم‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏ قوله تعالى كاشفاً بضرب المثل أن ما فيه الكفار من الارتفاق العاجل ليس أهلاً لأن يفتخر به لأنه إلى زوال‏:‏ ‏{‏واضرب لهم‏}‏ أي لهؤلاء الضعفاء والمتجبرين الذين يستكبرون على المؤمنين، ويطلبون طردهم لضعفهم وفقرهم‏:‏ ‏{‏مثلاً‏}‏ لما آتاهم الله من زينة الحياة الدنيا، فاعتمدوا عليهم وركنوا إليه ولم يشكروا من آتاهم إياه عليه، بل أداهم إلى الافتقار والتكبر على من زوى ذلك عنه إكراماً له وصيانة عنه ‏{‏رجلين‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فما مثلهما‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏جعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لأحدهما‏}‏ وهو المجعول مثلاً لهم ‏{‏جنتين‏}‏ أي بساتين يستر ما فيهما من الأشجار من يدخلهما على أي وضع من الأوضاع كانتا، ومن جملة الأوضاع أن تكون إحداهما من السهل والأخرى في الجبل، ليبعد عموم عاهة لهما لأنها إما من برد أو حر ‏{‏من أعناب‏}‏ لأنها من أشجار البلاد الباردة وتصبر على الحر، وهي فاكهة وقوت بالعنب والزبيب والخل وغيرها ‏{‏وحففناهما‏}‏ أي حططناهما بعظمتنا ‏{‏بنخل‏}‏ لأنها من أشجار البلاد الحارة، وتصبر على البرد، وربما منعت عن الأعناب بعض أسباب العاهات، وثمرها فاكهة بالبسر والرطب وقوت بالتمر والخل فكأن النخل كالإكليل من وراء العنب، وهو مما يؤثره الدهاقين لأنه في غاية البهجة والمنفعة ‏{‏وجعلنا بينهما‏}‏ أي أرضي الجنتين ‏{‏زرعاً *‏}‏ لبعد شمول الآفة للكل، لأن زمان الزرع ومكانه غير زمان أثمار الشجر المقدم ومكانه، وذلك هو العمدة في القوت، فكانت الجنتان أرضاً جامعة لخير الفواكه وأفضل الأقوات، وعمارتهما متواصلة متشابكة لم يتوسطها ما يقطعها ويفصل بينها، مع سعة الأطراف، وتباعد الأكناف، وحسن الهيئات والأوصاف‏.‏

ولما كان الشجر قد يكون فاسداً من جهة أرضه، نفى ذلك بقوله تعالى؛ جواباً لمن كأنه قال‏:‏ ما حال أرضهما المنتج لزكاء ثمرهما‏؟‏‏:‏ ‏{‏كلتا‏}‏ أي كل واحدة من ‏{‏الجنتين‏}‏ المذكورتين ‏{‏ءاتت أكلها‏}‏ أي ما يطلب منها ويؤكل من ثمر وحب، كاملاً غير منسوب شيء منهما إلى نقص ولا رداءة، وهو معنى‏:‏ ‏{‏ولم تظلم‏}‏ أي تنقص حساً ولا معنى كمن يضع الشيء في غير موضعه ‏{‏منه شيئاً‏}‏‏.‏

ولما كان الشجر ربما أضر بدوامه قلة السقي قال تعالى‏:‏ ‏{‏وفجرنا‏}‏ أي تفجيراً يناسب عظمتنا ‏{‏خلالهما نهراً *‏}‏ أي يمتد فيتشعب فيكون كالأنهار لتدوم طراوة الأرض ويستغني عن المطر عند القحط؛ ثم زاد في ضخامة هذا الرجل فبين أن له غير هاتين الجنتين والزرع بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان له‏}‏ أي صاحب الجنتين ‏{‏ثمر‏}‏ أي مال مثمر غير ما تقدم كثير، ذو أنواع ليكون متمكناً من العمارة بالأعوان والآلات وجميع ما يريد ‏{‏فقال‏}‏ أي هذا الكافر ‏{‏لصاحبه‏}‏ أي المسلم المجعول مثلاً لفقراء المؤمنين ‏{‏وهو‏}‏ أي صاحب الجنان ‏{‏يحاوره‏}‏ أي يراجعه الكلام، من حار يحور- إذا رجع افتخاراً عليه وتقبيحاً لحاله بالنسبة إليه، والمسلم يحاوره بالوعظ وتقبيح الركون إلى الدنيا‏:‏ ‏{‏أنا أكثر منك مالاً‏}‏ لما ترى من جناني وثماري ‏{‏وأعز نفراً *‏}‏ أي ناساً يقومون معي في المهمات، وينفرون عند الضرورات، لأن ذلك لازم لكثرة المال ‏{‏ودخل جنته‏}‏ وحد لإرادة الجنس ودلالة على ما أفاده الكلام من أنهما لاتصالهما كالجنة الواحدة، وإشارة إلى أنه لا جنة له غيرها لأنه لا حظ له في الآخرة ‏{‏وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏ظالم لنفسه‏}‏ بالاعتماد على ماله والإعراض عن ربه؛ ثم استأنف بيان ظلمه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ لما استولى عليه من طول أمله وشدة حرصه وتمادي غفلته واطراحه للنظر في العواقب بطول المهلة وسبوغ النعمة‏:‏ ‏{‏ما أظن أن تبيد‏}‏ أي تهلك هلاكاً ظاهراً مستولياً ‏{‏هذه أبداً *‏}‏ ثم زاد في الطغيان والبطر بقصر النظر على الحاضر فقال‏:‏ ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏}‏ استلذاذاً بما هو فيه وإخلاداً إليه واعتماداً عليه‏.‏

ولما كان الإنسان مجبولاً على غلبة الرجاء عليه، فإذا حصل له من دواعي الغنى وطول الراحة وبلوغ المأمول والاستدراج بالظفر بالسؤال ما يربيه، ويثبت أصوله ويقويه، اضمحل الخوف فلم يزل يتضاءل حتى لا يتلاشى فكان عدماً، فقال تعالى حاكياً عن هذا الكافر ما أثمر له الرجاء من أمانه من سوء ما يأتي به القدر مقسماً‏:‏ ‏{‏ولئن رددت‏}‏ أي ردني راد ‏{‏إلى ربي‏}‏ المحسن إلي في هذه الدار، في السعة على تقدير قيامها الذي يستعمل في فرضه أداة الشك ‏{‏لأجدن خيراً منها‏}‏ أي هذه الجنة؛ وقرأ ابن كثير وابن عامر بالتثنية للجنتين ‏{‏منقلباً *‏}‏ أي من جهة الانقلاب وزمانه ومكانه، لأنه ما أعطاني ذلك إلا باستحقاقي، وهو وصف لي غير منفك في الدارين، وإن لم يقولوا نحو هذا بألسنة مقالهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به، فكأنه قيل‏:‏ إن هذا لفي عداد البهائم حيث قصر النظر على الجزئيات، ولم يجوز أن يكون التمويل استدراجاً، فما قال له الآخر‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال له صاحبه وهو‏}‏ أي والحال إن ذلك الصاحب ‏{‏يحاوره‏}‏ منكراً عليه‏:‏ ‏{‏أكفرت‏}‏‏.‏

ولما كان كفره بإنكار البعث، دل عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالذي خلقك من تراب‏}‏ بخلق أصلك ‏{‏ثم من نطفة‏}‏ متولدة من أغذية أصلها تراب ‏{‏ثم سواك‏}‏ بعد أن أولدك وطورك في أطوار النشأة ‏{‏رجلاً *‏}‏ حيث نفيت إعادته لمن ابتدأ خلقهم على هذا الوجه تكذيباً للرسل واستقصاراً للقدرة، ولم تثبت لها في الإعادة ما ثبت لها بعلمك في الابتداء، ثم لم تجوزها بعد القطع بالنفي إلا على سبيل الفرض بأداة الشك، وهي من دعائم أصول الدين الذي لا يقتنع فيه إلا بالقطع، ونسبته إلى العبث الذي لا يرضاه عاقل إذ جعلت غاية هذا الخلق البديع في هذا التطوير العظيم الموت الذي لو كان غاية كما زعمت- لفوّت على المطيع الثواب، وعلى العاصي العقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 41‏]‏

‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏38‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا ‏(‏39‏)‏ فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ‏(‏40‏)‏ أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

ولما أنكر على صاحبه، أخبر عن اعتقاده بما يضاد اعتقاد صاحبه، فقال مؤكداً لأجل إنكار صاحبه مستدركاً لأجل كفرانه‏:‏ ‏{‏لكنا‏}‏ لكن أنا‏.‏ ولما كان سبحانه لا شيء أظهر منه ولا شيء أبطن منه، أشار إلى ذلك جميعاً بإضماره قبل الذكر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي الظاهر أتم ظهور فلا يخفى أصلاً، ويجوز أن يكون الضمير للذي خلقك ‏{‏الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏ربي‏}‏ وحده، لم يحسن إليّ خلقاً ورزقاً أحد غيره، هذا اعتقادي في الماضي والحال ‏{‏ولا أشرك بربي‏}‏ المحسن إليّ في عبادتي ‏{‏أحداً *‏}‏ كما لم يشاركه في إحسانه إليّ أحد، فإن الكل خلقه وعبيده، وأنى يكون العبد شريكاً للرب‏!‏ فإني لا أرى الغنى والفقر إلا منه، وأنت- لما اعتمدت على مالك- كنت مشركاً به‏.‏

ولما كان المؤمنون على طريق الأنبياء في إرادة الخير والإرشاد إلى سبيل النجاة وعدم الحقد على أحد بشر أسلفه وجهل قدمه، قال له مصرحاً بالتعليم بعد أن لوح له به فيما ذكره عن نفسه مما يجب عليه‏:‏ ‏{‏ولولا إذ‏}‏ أي وهلا حين ‏{‏دخلت جنتك قلت‏}‏ ما يدل على تفويضك الأمر فيها وفي غيرها إلى الله تعالى كما تقدم الإرشاد إليه في آية ‏{‏ولا تقولن لشي‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 23‏]‏ تاركاً للافتخار بها، ومستحضراً لأن الذي وهبكها قادر على سلبك إياها ليقودك ذلك إلى التوحيد وعدم الشرك، فلا تفرح بها ولا بغيرها مما يفنى لأنه لا ينبغي الفرح إلا بما يؤمن عليه بالزوال ‏{‏ما شاء الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، كان، سواء كان حاضراً أو ماضياً أو مستقبلاً، ولذلك أعراها عن الجواب، لا ما يشاؤه غيره ولا يشاؤه هو سبحانه؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا قوة‏}‏ أي لأحد على بستان وغيره ‏{‏إلا بالله‏}‏ أي المتوحد بالكمال، فلا شريك له، وأفادت هذه الكلمة إثبات القوة لله وبراءة العبد منها، والتنبيه على أنه لا قدرة لأحد من الخلق إلا بتقديره، فلا يخاف من غيره، والتنبيه على فساد قول الفلاسفة في الطبائع من أنها مؤثرة بنفسها‏.‏

ولما قدم ما يجب عليه في نفسه منبهاً به لصاحبه، ثم ما يجب عليه من التصريح بالإرشاد في أسلوب مقرر أن الأمر كله لله، لا شيء لأحد غيره، أنتج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن ترن‏}‏ أي أيها المفتخر بما له عليّ‏!‏ ‏{‏أنا‏}‏ ولما ذكر ضمير الفصل، ذكر مفعول ‏(‏ترى‏)‏ الثاني فقال‏:‏ ‏{‏أقل منك‏}‏ وميز القليل بقوله‏:‏ ‏{‏مالاً وولداً *‏}‏ أي من جهة المال والولد الذي هو أعز نفر الإنسان‏.‏

ولما أقر هذا المؤمن بالعجز والافتقار، في نظير ما أبدى الكافر من التقوى والافتخار، سبب عن ذلك ما جرت به العادة في كل جزاء، داعياً بصورة التوقع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فعسى ربي‏}‏ المحسن إليّ ‏{‏أن يؤتين‏}‏ من خزائن رزقه ‏{‏خيراً من جنتك‏}‏ فيحسن إليّ بالغنى كما أحسن إليّ بالفقر المقترن بالتوحيد، المنتج للسعادة ‏{‏ويرسل عليها‏}‏ أي جنتك ‏{‏حسباناً‏}‏ أي مرامي من الصواعق والبرد الشديد ‏{‏من السماء‏}‏‏.‏

ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى ما يكون، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتصبح‏}‏ بعد كونها قرة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع ‏{‏صعيداً زلقاً *‏}‏ أي أرضاً يزلق عليها لملاستها باستئصال نباتها، فلا ينبت فيها نبات، ولا يثبت فيها قدم ‏{‏أو يصبح ماؤها غوراً‏}‏ وصف بالمصدر لأنه أبلغ ‏{‏فلن تستطيع‏}‏ أنت ‏{‏له طلباً *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ‏(‏42‏)‏ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ‏(‏43‏)‏ هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما كان من المعلوم أن هذا المؤمن المخلص بعين الرضى، كان من المعلوم أن التقدير‏:‏ فاستجيب لهذا الرجل المؤمن، أو‏:‏ فحقق له ما توقعه فخيب ظن المشرك، فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأحيط‏}‏ أي أوقعت الإحاطة بالهلاك، بني للمفعول لأن الفكر حاصل بإحاطة الهلاك من غير نظر إلى فاعل مخصوص، وللدلالة على سهولته ‏{‏بثمرة‏}‏ أي الرجل المشرك، كله فاستؤصل هلاكاً ما في السهل منه وما في الجبل، وما يصبر منه على البرد والحر وما لا يصبر ‏{‏فأصبح يقلب كفيه‏}‏ ندماً، ويضرب إحداهما على الأخرى تحسراً ‏{‏على ما أنفق فيها‏}‏ لعمارتها ونمائها ‏{‏وهي خاوية‏}‏ أي ساقطة مع الخلو ‏{‏على عروشها‏}‏ أي دعائمها التي كانت تحملها فسقطت على الأرض وسقطت هي فوقها ‏{‏ويقول‏}‏ تمنياً لرد ما فات لحيرته وذهول عقله ودهشته‏:‏ ‏{‏يا ليتني‏}‏ تمنياً لاعتماده على الله من غير إشراك بالاعتماد على الفاني ‏{‏لم أشرك بربي أحداً *‏}‏ كما قال له صاحبه، فندم حيث لم ينفعه الندم على ما فرط في الماضي لأجل ما فاته من الدنيا، لا حرصاً على الإيمان لحصول الفوز في العقبى، لقصور عقله ووقوفه مع المحسوسات المشاهدات ‏{‏ولم تكن له فئة‏}‏ أي جماعة لا من نفره الذين اعتز بهم ولا من غيرهم ‏{‏ينصرونه‏}‏ مما وقع فيه ‏{‏من دون الله‏}‏ أي بغير عون من الملك الأعظم ‏{‏وما كان‏}‏ هو ‏{‏منتصراً *‏}‏ بنفسه، بل ليس الأمر في ذلك إلا لله وحده‏.‏

ولما أنتج هذا المثل قطعاً أنه لا أمر لغير الله المرجو لنصر أوليائه بعد ذلهم، ولإغنائهم بعد فقرهم، ولإذلال أعدائه بعد عزهم وكبرهم، وإفقارهم بعد إغنائهم وجبرهم، وأن غيره إنما هو كالخيال لا حقيقة له، صرح بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هنالك‏}‏ أي في مثل هذه الشدائد العظيمة ‏{‏الولاية‏}‏ أي النصرة- على قراءة الفتح، والسلطان- على الكسر، وهي قراءة حمزة والكسائي، والفتح لغيرهما، وهما بمعنى واحد، وهو المصدر كما صدر به في القاموس‏.‏ ‏{‏لله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت الذي لا يحول يوماً ولا يزول، ولا يغفل ساعة ولا ينام، ولا ولاية لغيره بوجه- هذا على قراءة الجماعة بالجر على الوصف وهو في قراءة أبي عمرو والكسائي بالرفع على الاستئناف والقطع تقليلاً، تنبيهاً على أن فزعهم في مثل هذه الأزمات إليه دون غيره برهان قاطع على أنه الحق وما سواه باطل، وأن الفخر بالعرض الزائل من أجهل الجهل، وأن المؤمنين لا يعيبهم فقرهم ولا يسوغ طردهم لأجله، وأنه يوشك أن يعود فقرهم غنى وضعفهم قوة‏.‏ ولما علم من ذلك من أنه آخذ بأيدي عبيدة الأبرار وعلى أيدي عصاته الأشرار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هو خير ثواباً‏}‏ لمن أثابه ‏{‏وخير عقباً *‏}‏ أي عاقبة عظيمة، فإن فعلا- بضمه وبضمتين- من صيغ جموع الكثرة فيفيده ذلك مبالغة وإن لم يكن جمعاً، والمعنى أنه أي ثوابه لأوليائه خير ثواب وعقباه خير عقبى‏.‏