فصل: تفسير الآيات رقم (45- 47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ‏(‏45‏)‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ‏(‏46‏)‏ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لهم‏}‏ أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر ‏{‏مثل الحياة الدنيا‏}‏ أي التي صفتها- التي هم بها ناطقون- تدل على أن ضدها الأخرى، في ينوعها ونضرتها، واختلابها للنفوس ببهجتها، واستيلائها على الأهواء بزهرتها، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها، أفرح ما كانوا بها، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى، على مر الأيام وكر الشهور، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن، والكيس الفطن، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره، ويبقى نعيمه وحبوره، وذلك المثل ‏{‏كماء أنزلناه‏}‏ بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله، وقال‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع ‏{‏فاختلط‏}‏ أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط ‏{‏به نبات الأرض‏}‏ أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه ‏{‏فأصبح هشيماً‏}‏ أي يابساً مكسراً مفتتاً ‏{‏تذروه‏}‏ أي تثيره وتفرقه وتذهب به ‏{‏الرياح‏}‏ حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن ‏{‏وكان الله‏}‏ أي المختص بصفات الكمال ‏{‏على كل شيء‏}‏ من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة ‏{‏مقتدراً *‏}‏ أزلاً وأبداً، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث‏.‏

ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا- التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب- سريعة الزوال، وشيكة الارتحال، مع كثرة الأنكاد، ودوام الأكدار، من الكد والتعب، والخوف والنصب كالزرع سواء، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره، قال تعالى‏:‏ ‏{‏المال والبنون‏}‏ الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها ‏{‏زينة الحياة الدنيا‏}‏ التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره، وسوء حياته وضرره ‏{‏والباقيات الصالحات‏}‏ وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا

‏{‏لنبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ وما بعده ‏{‏خير‏}‏ أي من الزينة الفانية‏.‏ ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ أي الجليل المواهب، العالم بالعواقب، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل ‏{‏ثواباً وخير‏}‏ من ذلك كله ‏{‏أملاً *‏}‏ أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل، لأن ثوابها إلى بقاء، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما‏.‏

ولما ذكر المبدأ ونبه على زواله، وختم بأن المقصود منه الاختبار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب، وكان الخزي والصغار، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار، لا سيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق، فهو بالحقيقة المشهود، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب، عقب ذكر الجزاء ذكره، لأنه أعظم يوم يظهر فيه، فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏واضرب‏}‏‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي واذكر لهم يوم ‏{‏نسير الجبال‏}‏ عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض- بعد أن صار هشمياً- بالرياح ‏{‏فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏ ‏{‏وترى الأرض‏}‏ بكمالها ‏{‏بارزة‏}‏ لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل ‏{‏و‏}‏ الحال أنا قد ‏{‏حشرناهم‏}‏ أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت، وتظهر الفضائح والمغيبات، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير، والنافذ فيه بصير، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها ‏{‏فلم نغادر‏}‏ أي نترك بما لنا من العظمة ‏{‏منهم‏}‏ أي الأولين والآخرين ‏{‏أحداً *‏}‏ لأنه لا ذهول ولا عجز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 50‏]‏

‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ‏(‏48‏)‏ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ‏(‏49‏)‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه حشرهم، وكان من المعلوم أنه للعرض، ذكر كيفية ذلك العرض، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين‏:‏ ‏{‏وعرضوا على ربك‏}‏ أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك ‏{‏صفاً‏}‏ لاتساع والمسايقة إلى داره، لعرض أذل شيء وأصغره، وأطوعه وأحقره، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة‏:‏ ‏{‏لقد جئتمونا‏}‏ أحياء سويين حفاة عراة غرلاً ‏{‏كما خلقناكم‏}‏ بتلك العظمة ‏{‏أول مرة‏}‏ منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون ‏{‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ فيقال لكم‏:‏ ‏{‏بل زعمتم‏}‏ أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا ‏{‏أن‏}‏ أي أنا ‏{‏لن نجعل لكم‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏موعداً *‏}‏ أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل ‏{‏ووضع‏}‏ بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة ‏{‏الكتاب‏}‏ المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارئ ولا غيره شيء منه ‏{‏فترى المجرمين‏}‏ لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها ‏{‏مشفقين مما فيه‏}‏ من قبائح أعمالهم، وسيئ أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق ‏{‏ويقولون‏}‏ أي يجددون ويكررون قولهم‏:‏ ‏{‏ياويلتنا‏}‏ كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك ‏{‏مال هذا الكتاب‏}‏ أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم‏:‏ ‏{‏لا يغادر‏}‏ أي يترك أي يقع منه غدر، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء‏:‏ تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر، أي عدم الوفاء به، من الغدير- لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي ‏{‏صغيرة‏}‏ أي من أعمالنا‏.‏

ولما هالهم إثبات جميع الصغائر، بدؤوا بها، وصرحوا بالكبائر- وإن كان إثبات الصغائر يفهمها- تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر- كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه- فقالوا‏:‏ ‏{‏ولا كبيرة إلا أحصاها‏}‏ ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه، نفى ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضراً‏}‏ كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه ‏{‏ولا يظلم ربك‏}‏ الذي رباك بخلق القرآن ‏{‏أحداً *‏}‏ منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب، بل يجازى الأعداء بما يستحقون، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال‏:‏ فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، قلت‏:‏ حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول‏:‏

«يحشر الله عز وجل الناس- أو قال‏:‏ العباد- حفاة عراة بهما قلت‏:‏ وما بهما‏؟‏ قال‏:‏ ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب‏:‏ أنا الملك أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قال‏:‏ قلنا‏:‏ كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما‏؟‏ قال‏:‏ بالحسنات والسيئات»‏.‏

ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه، أتبعه- بما له من الفضل- بابتداء الخلق الذي هو دليله، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم، فكان فعلهم فعله سواء، فكان قدوتهم وهو عدوهم، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به، فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏واضرب‏}‏‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكر لهم إذ ‏{‏قلنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏للملائكة‏}‏ الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم، قال ابن كثير‏:‏ وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة ‏{‏اسجدوا لآدم‏}‏ أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها ‏{‏فسجدوا‏}‏ كلهم ‏{‏إلا إبليس‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ما له لم يسجد‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏كان‏}‏ أي لأنه كان ‏{‏من الجن‏}‏ المخلوقين من نار، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور، مع ما كان غلب عليه من العبادة، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان- وفي رواية‏:‏ إبليس- من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم» وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة‏.‏

ولما كان أكثر الجن مفسداً، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها، المفسدة له، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ففسق‏}‏ أي خرج، يقال‏:‏ فسقت الفأرة من حجرها- إذا خرجت للعيث والفساد‏.‏ ‏{‏عن أمر ربه‏}‏ أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه، وغير ذلك من اصطناعه، في شأن أبيكم، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد‏:‏ ‏{‏أفتتخذونه‏}‏ أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه ‏{‏وذريته‏}‏ شركاء لي ‏{‏أولياء‏}‏ لكم ‏{‏من دوني‏}‏ أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة، ولو كان المعنى‏:‏ من دون- أي غير- اتخاذي، لأفاد الاستقلال فقط، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً، وأنا وليكم المفضل عليكم ‏{‏وهم لكم‏}‏ ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول، أغنى عن صيغة الجمع فقال‏:‏ ‏{‏عدو‏}‏ إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد‏.‏ ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم، وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس‏}‏ وكان الأصل‏:‏ لكم، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏للظالمين بدلاً *‏}‏ إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ‏(‏51‏)‏ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

ولما كان الشريك لا يستأثر بفعل أمر عظيم في المشترك فيه من غير علم لشريكه به، قال معللاً للذم على هذا الظلم بما يدل عل حقارتهم عن هذه الرتبة، عادلاً في أسلوب التكلم إلى التجريد عن مظهر العظمة لئلا يتعنت من أهل الإشراك متعنت كما عدل في ‏{‏دوني‏}‏ لذلك‏:‏ ‏{‏ما أشهدتهم‏}‏ أي إبليس وذريته ‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏ نوعاً من أنواع الإشهاد ‏{‏ولا خلق أنفسهم‏}‏ إشارة إلى أنهم مخلوقون وأنه لا يصح في عقل عاقل أن يكون مخلوق شريكاً لخالقه أصلاً ‏{‏وما كنت‏}‏ أي أزلاً وأبداً متخذهم، هكذا الأصل ولكنه أبرز إرشاداً إلى أن المضل لا يستعان به، لأنه مع عدم نفعه يضر، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏متخذ المضلين عضداً *‏}‏ إشارة إلى أنه لا يؤسف على فوات إسلام أحد، فإن من علم الله فيه خيراً أسمعه، ومن لم يسمعه فهو مضل ليس أهلاً لنصرة الدين‏.‏

ولما أقام البرهان القاطع على بعد رتبتهم عن المنزلة التي أحلوهم بها من الشرك، أتبعه التعريف بأنهم مع عدم نفعهم لهم في الدنيا يتخلون عنهم في الآخرة أحوج ما يكونون إليهم تخييباً لظنهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فقال تعالى عاطفاً على ‏{‏إذ قلنا‏}‏ عادلاً إلى مقام الغيبة، إشارة إلى بعدهم عن حضرته الشماء وتعاليه عما قد يتوهم من قوله تعالى ‏{‏وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 48‏]‏ في حجب الجلال والكبرياء، وجرى حمزة في قراءته بالنون على أسلوب التكلم الذي كان فيه مع زيادة العظمة‏:‏ ‏{‏ويوم‏}‏ أي واذكر يوم ‏{‏يقول‏}‏ الله لهم تهكماً بهم‏:‏ ‏{‏نادوا شركاءي‏}‏ وبين أن الإضافة ليست على حقيقتها، بل هي توبيخ لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين زعمتم‏}‏ أنهم شركاء ‏{‏فدعوهم‏}‏ تمادياً في الجهل والضلال ‏{‏فلم يستجيبوا لهم‏}‏ أي لم يطلبوا ويريدوا أن يجيبوهم إعراضاً عنهم استهانة بهم واشتغالاً بأنفسهم فضلاً عن أن يعينوهم‏.‏

ولما كانوا في غاية الاستبعاد لأن يحال بينهم وبين معبوداتهم، قال في مظهر العظمة‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهم‏}‏ أي المشركين والشركاء ‏{‏موبقاً *‏}‏ أي هلاكاً أو موضع هلاك، فاصلاً حائلاً بينهم، مهلكاً قوياً ثابتاً حفيظاً، لا يشذ عنه منهم أحد، وإنما فسرته بذلك لأنه مثل قوله تعالى ‏{‏فزيلنا بينهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ أي بالقلوب أي جعلنا ما كان بينهم من الوصلة عداوة، ومثل قوله تعالى ‏{‏ربنا هؤلاء أضلونا فأتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86‏]‏ ونحوه، لأن معنى ذلك كله أنه يبدل ما كان بينهم من الود في الدنيا والوصلة ببغض وقطيعة كما قال تعالى ‏{‏ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏ وأن كل فريق يطلب للآخر الهلاك، فاقتضى ذلك اجتماع الكل فيه، هذا ما يرشد إلى المعنى من آيات الكتاب، ونقل ابن كثير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وقال الحسن البصري‏:‏ عداوة‏.‏

وأما أخذه من اللفظ فلأن مادة وبق- يائية وواوية مهموزة وغير مهموزة، ولها أحد عشر تركيباً‏:‏ واحد يائي‏:‏ بقي، وستة واوية‏:‏ قبو، قوب، بقو، بوق، وقب، وبق، وأربعة مهموزة‏:‏ قبأ، قأب، بأق، أبق- كلها تدور على الجمع، وخصوصاً ترتيب وبق يدور على الحائل بين شيئين، ويلزمه القوة والثبات والحفظ والهلاك قوة أو فعلاً، لأن من حيل بينه وبين شيء فقد هلك بفقد ذلك الشيء بالفعل إن كان الحائل موتاً، وبالقوة إن كان غيره، يقال‏:‏ قبل الشيء‏:‏ جمعه بأصابعه، والبناء‏:‏ رفعه، والزعفران‏:‏ جناه، والقبا- بالقصر‏:‏ نبت- لأنه سبب الاجتماع لرعيه والانتفاع به وهو يجمع أيضاً، والقبا‏:‏ تقويس الشيء- لأنه أقرب إلى اجتماع بعض أجزائه ببعض، والقبوة‏:‏ انضمام ما بين الشفتين، ومنه القباء من الثياب، وقباه تقبية‏:‏ عباه، أي جمعه حتى صار كأنه في مكان مقبو، وقبى عليه تقبية‏:‏ عدا عليه في أمره- لأنه كان كأنه أوقعه في حفرة، والثوب‏:‏ جعل منه قباء، وتقبى القباء‏:‏ لبسه، وزيداً‏:‏ أتاه من قفاه- لأن من يريد رمي أحد في حفرة كذلك يأتيه مخاتلة، وتقبى الشيء‏:‏ صار كالقبة، وامرأة قابية‏:‏ تلقط العصفر وتجمعه، والقابياء‏:‏ اللئيم- لأنه بناء مبالغة، فيدل على كثرة الجمع والحرص اللازمين للؤم، وبنو قابياء‏:‏ المجتمعون لشرب الخمر- لأنها حالة تظهر لؤم اللئام، وقباء- بالضم ويذكر ويقصر- موضع قرب المدينة الشريفة، وموضع بين مكة والبصرة، وانقبى‏:‏ استخفى، وقبى قوسين وقباء قوسين- ككساء‏:‏ قاب قوسين، والمقبي‏:‏ الكثير الشحم- كأنه جمع لنفسه منه بالراحة ما صار كالبناء، والقباية‏:‏ المفازة- لأنها تجمع ما فيها كما تجمع القبة والقباء والوقبة ما فيها‏.‏ ومن مهموزة‏:‏ قبأ الطعام- كجمع‏:‏ أكله، ومن الشراب‏:‏ امتلأ، والقباءة‏:‏ حشيشة ترعى- لأن المال يجتمع على رعيها‏.‏

ومن الواوي‏:‏ قاب الأرض يقوبها وقوّبها‏:‏ حفر فيها شبه التقوير- لأن الدائرة أجمع ما يكون لغيرها وفي نفسها، لأنه لا زوايا فيها فاصلة، وقوبت الأرض‏:‏ آثرت فيها، والقوبة‏:‏ ما يظهر في الجسد ويخرج عليه- لأنه يكون غالباً على هيئة الدائرة، وتقوب جلده‏:‏ تقلع عنه الجرب، وانحلق عنه الشعر- إما من الإزالة، وإما لأن آثاره تكون كالدوائر، وقوب الشيء‏:‏ قلعه من أصله- لأن أثره إذا انقلع يكون حفراً مستديراً، وتقوب هو‏:‏ تقلع، والقائبة والقابة‏:‏ البيضة- لأنها لتدويرها تشبه ذلك الحفر، والقوب- بالفتح‏:‏ فلق الطير بيضه، وبالضم‏:‏ الفرخ- لأنه منها، وفي المثل‏:‏ تخلصت قائبة من قوب- يضرب لمن انفصل من صاحبه، والقوبيّ‏:‏ المولع بأكل الأقواب أي الفراخ، والقوب- كصرد‏:‏ قشور البيض، وتقوبت البيضه‏:‏ انقابت أي انحفرت، وأم قوب‏:‏ الداهية- لجمعها ما تأتي عليه كأنه ابتلعه حفر، وقاب‏:‏ قرب- لأن القرب مبدأ الجمع، وقاب‏:‏ هرب، أي سلب القرب- ضد، وقاب‏:‏ فلق، أي شق الجمع فهو من الإزالة أيضاً، وقاب قوس وقيبه، أي قدره- لأن القوس شبه نصف دائرة من ذلك الحفر، والقاب‏:‏ ما بين المقبض والسية- لأنه بعض ذلك، ولكل قوس قابان، والأسود المتقوب‏:‏ الذي انسلخ جلده من الحيات- لتدوّر ذلك الجلد وشبهه بالحفرة، واقتاب الشيء‏:‏ اختاره، أي جمعه إليه، ورجل مليء قوبة- كهمزة‏:‏ ثابت الدار مقيم- من الثبات الذي هو لازم الجمع، وقوب من الغبار‏:‏ اغبر- إما لأن من يحفر ذلك بغير، وإما لأن الغبار كثر عليه حتى غطاه فصار له مثل تلك الحفرة‏.‏

ومن مهموزه‏:‏ قأب الطعام- كمنع‏:‏ أكله، والماء‏:‏ شربه كقئبه- كفرح، أو شرب كل ما في الإناء، وقئب من الشراب‏:‏ تملأ، وهو مقأب- كمنبر‏:‏ كثير الشرب للماء، وإناء قَوأب‏:‏ كثير الأخذ للماء- فهو كما ترى جمع مخصوص بالأكل والشرب، أو أنه جمعه في وقبة بطنه‏.‏

ومن الواوي‏:‏ بقاه بعينه‏:‏ نظر إليه- فهو من الحفظ اللازم للجمع، وابقُه بَقْوَتَك مالَك، وبقاوتك مالك أي احفظه حفظك مالك، وبقوته‏:‏ انتظرته- وهو يرجع إلى الثبات والمراقبة التي ترجع إلى الحفظ، ويلزم الحفظ الثبات‏.‏ ومن اليائي‏:‏ بقي الشيء بقاء‏:‏ ثبت ودام ضد فني، والاسم البقوى- كدعوى، ويضم، والبقيا- بالضم والبقية، وقد توضع الباقية موضع المصدر‏.‏

ومن واويّه‏:‏ البوقة‏:‏ الجمع والدفعة من المطر الشديد أو المنكرة تنباق- أنها نزلت من وقبة لشدتها، والبوائق‏:‏ العوائد- لأنها جامعة لمن اعتادها، والبوائق‏:‏ الشر- لأنه مهلك، فكأنه موقع في المهالك، والبوق- بالضم‏:‏ شبه منقاب ينفخ فيه الطحان، أو الذي ينفخ فيه مطلقاً ويرمز- لأنه لتجويفه يشبه الوقبة، والبوق أيضاً‏:‏ الباطل والزور- لأن صوته أشبع شيء بذلك، والمبوق- كمعظم‏:‏ الكلام الباطل، والبوق- بالفتح‏:‏ من لا يكتم السر- لأن البوق متى نفخ فيه صوّت، والبوقة‏:‏ شجرة دقيقة- لأنها لدقتها يسرع إليها الهلاك كمن وقع فيه وقبة، والبائقة‏:‏ الداهية- كأنها تدفع من أتته في الوقبة، وانباقت عليه بائقة‏:‏ انفتقت، وباق‏:‏ جاء بالشر والخصومات- من ذلك، وكذا باق، أي تعدى على إنسان، وانباق به‏:‏ ظلمه، والبائقةُ القومَ‏:‏ أصابتهم، كانباقت عليهم، أي خرجت لشدتها من وقبة، والباقة‏:‏ الحزمة من بقل- لاجتماعها، وباق بك‏:‏ طلع عليك من غيبة- كأنه كان في حفرة فخرج، ومنه باق فلان‏:‏ هجم على قوم بغير إذنهم، وباق القوم‏:‏ سرقهم، وباق به‏:‏ حاق به، أي- أحاط كما تحيط الوقبة، وباق القوم عليه‏:‏ اجتمعوا فقتلوه ظلماً، وباق المال‏:‏ فسد وبار- كحال من وقع في حفرة، ومنه متاع بائق‏:‏ لا ثمن له، وتبوّق في الماشية‏:‏ وقع فيها الموت وفشا، والحاق باق‏:‏ صوت الفرج عند الجماع- لأنه من الجمع، ولأن الفرج وقبة، ومن مهموزه‏:‏ بأقتهم الداهية بؤوقاً‏:‏ أصابتهم، وانبأق عليهم الدهر‏:‏ هجم عليهم بالداهية‏.‏

ومن الواوي، الوقبة‏:‏ كوة عظيمة فيها ظل، والوقب والوقبة‏:‏ نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، وقيل‏:‏ هي نحو البئر في الصفا تكون قامة أو قامتين يستنقع فيها ماء السماء، وكل نقر في الجسد وقب كنقر العين والكتف، والوقبان من الفرس‏:‏ هزمتان فوق عينيه، ووقب المحالة‏:‏ الثقب الذي يدخل فيه المحور، ووقبة الدهن‏:‏ أنقوعته، وكذا وقبة الثريد، ووقب الشيء‏:‏ دخل في الوقب، وأوقب الشيء‏:‏ أدخله فيه، وركية وقباء‏:‏ غامرة الماء، وامرأة ميقاب‏:‏ واسعة الفرج وبنو الميقاب نسبوا إلى أمهم، يريدون سبهم بذلك، والميقاب‏:‏ الرجل الكثير الشرب للماء، والحمقاء أوالمحمقة، وسير الميقاب‏:‏ أن تواصل سير يوم وليلة- كأن ذلك سير الأحمق الذي لا يبقى على ظهره، ووقب القمر وقوباً‏:‏ دخل في الظل الذي يكسفه- كأنه حفرة ابتلعته، ووقبت الشمس وقوباً‏:‏ غابت كذلك، وقيل‏:‏ كل ما غاب فقد وقب، ووقب الظلام، أقبل‏.‏ أي فصار كالوقبة، فابتلع الضياء أو ابتلع ما في الكون فحجبه عن الضياء، ورجل وقب‏:‏ أحمق- كأنه وعاء لكل ما يسمع، لا أهلية له في تمييز جيده من رديئه، والأنثى‏:‏ وقبة، وقال ثعلب‏:‏ الوقب‏:‏ الدنيء، أي لأنه يتبع نفسه هواها فيصير كأنه الوقبة لا ترد شيئاً مما يلقي فيها، ووقب الفرس وقباً وهو صوت قنبه، أي وعاء قضيبه، وقيل‏:‏ صوت تقلقل جردان الفرس في قنبه- لأن وعاء جردانه كالوقبة، فهو من اطلاق اسم المحل على ما فيه، والقبة- كعدة‏:‏ الإنفحة إذا عظمت من الشاة، قال ابن الأعرابي‏:‏ ولا يكون ذلك في غير الشاء- لأن شبه الإنفحة بالوقبة ظاهر، والوقباء‏:‏ موضع يمد ويقصر، والوقبى‏:‏ ماء لبني مازن- لأنه يجمعهم كما تجمع الوقبة ما فيها، والأوقاب‏:‏ قماش البيت كالبرمة والرحيين والعمد- لأن البيت لها كالوقبة لجمعها أو لأنها جامعة لشمل من فيه، والميقب‏:‏ الودعة، وأوقب القوم‏:‏ جاعوا، أي تهيؤوا لإدخال الطعام في وقبة الجوف، وذكر أوقب‏:‏ ولاّج في الهنات- لأنها كالأوقاب أي الحفر، والوقب‏:‏ الإقبال والمجيء، وهو سبب الجمع‏.‏

ووبق- كوعد ووجل وورث وبوقاً وموبقاً‏:‏ هلك، أي وقع فيه وقبة، أي حفرة كاستوبق، وكمجلس‏:‏ المهلك والمحبس، وواد في جهنم، وكل شيء حال بين شيئين- لأن الوقبة تحول بين ما فيها وبين غيره‏.‏

ومنه قيل للموعد‏:‏ موبق، وأوبقه‏:‏ حبسه أو أهلكه‏.‏

ومن مهموزه‏:‏ أبق العبد- كسمع وضرب ومنع- أبقاً ويحرك- وإباقاً- ككتاب‏:‏ ذهب بلا خوف ولا كد عمل، أو استخفى ثم ذهب- وكل ذلك يوجع إلى جعله كأنه نزل في وقبة، ومن شأنه حينئذ أن يخفى، ومنه تأبق‏:‏ استتر أو احتبس، وتأبق الشيء‏:‏ أنكره- لأن سبب الإنكار الخفاء، وتأبق‏:‏ تأثم، أي جانب الإثم، فهو لسلب الجمع أو لسلب الهلاك في الوقبة، والأبق- محركة‏:‏ القنب- لشبهه لتجويفه بالوقبة، والأبق‏:‏ قشره- لقوته اللازمة للجمع أو لأنه خيوط مجتمعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 56‏]‏

‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم، ذكر حالهم في استمرار جهلهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ورءا المجرمون‏}‏ أي العريقون في الإجرام ‏{‏النار‏}‏ أي ورأوا، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف ‏{‏فظنوا‏}‏ ظناً ‏{‏أنهم مواقعوها ولم‏}‏ أي والحال أنهم لم ‏{‏يجدوا عنها مصرفاً *‏}‏ أي مكاناً ينصرفون إليه، فالموضع موضع التحقق، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا ‏{‏اتخذ الله ولداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ بغير علم ‏{‏وما أظن أن تبيد هذه أبداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 35‏]‏، ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 36‏]‏، ‏{‏إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها‏.‏

ولما كان الكلام في قوة أن يقال‏:‏ صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار، فقامت دلائل الشريعة الجلائل، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر، عطف على ذلك‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة‏.‏ ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏في هذا القرءان‏}‏ أي القيم الذي لا عوج فيه، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات ‏{‏للناس‏}‏ أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين ‏{‏من كل مثل‏}‏ أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة، والأساليب المتناسقة، ما سار بها في غرابته كالمثل، يقبله كل من يسمعه، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد، بين العباد، فتبشر به قلوبهم، وتلهج به ألسنتهم، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان‏}‏ الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً ‏{‏أكثر شيء‏}‏ وميز الأكثرية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جدلاً *‏}‏ لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان، الذي أضاء جميع الأكوان‏.‏

ولما بين إعراضهم، بين موجبه عندهم فقال‏:‏ ‏{‏وما منع‏}‏ ولما كان الناس تبعاً لقريش قال‏:‏ ‏{‏الناس‏}‏ أي الذين جادلوا بالباطل، الإيمان- هكذا كان الأصل، ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يؤمنوا‏}‏ ليفيد التجديد وذمهم على الترك ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏جاءهم الهدى‏}‏ بالكتاب على لسان الرسول، وعطف على المفعول الثاني- معبراً بمثل ما مضى لما مضى- قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏ويستغفروا ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم‏.‏

ولما كان الاستثناء مفرغاً، أتى بالفاعل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن‏}‏ أي طلب أن ‏{‏تأتيهم سنة الأولين‏}‏ في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً، أي مستوراً ‏{‏أو‏}‏ طلب أن ‏{‏يأتيهم العذاب قبلاً *‏}‏ أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح، من قولهم‏:‏ لقيت فلاناً قبلاً، أي معاينة، وكذا في قراءة من ضمهما، من قولهم‏:‏ أنا آتيك قبلاً لا دبراً، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك، قال تعالى‏:‏

‏{‏إن كان قميصه قدَّ من قبل‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 26‏]‏، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً، وقد مضى في الأنعام بيانه، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين، فمعناه‏:‏ من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها ‏{‏فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89-90‏]‏- إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏ الآية وهذه الآية من الاحتباك‏:‏ ذكر ‏{‏سنة الأولين‏}‏ أولاً يدل على ضدها ثانياً، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً‏.‏

ولما كان ذلك ليس إلى الرسول، إنما هو إلى الإله، بينه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرسل‏}‏ على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها ‏{‏المرسلين إلا مبشرين‏}‏ بالخير على أفعال الطاعة ‏{‏ومنذرين‏}‏ بالشر على أفعال المعصية، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر ‏{‏ويجادل الذين كفروا‏}‏ أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا ‏{‏بالباطل‏}‏ من قولهم‏:‏ لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء ‏{‏ليدحضوا‏}‏ أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا ‏{‏به الحق‏}‏ الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم‏.‏

ولما كان لكل مقام مقال، ولكل مقال حد وحال، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً، أتى به ماضياً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واتخذوا‏}‏ أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا ‏{‏ءاياتي‏}‏ بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح ‏{‏وما أنذروا‏}‏ من آياتي، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار ‏{‏هزواً *‏}‏ مع بعدهما جداً عن ذلك، فلا بالرغبة أطاعوا، ولا للرهبة ارتاعوا، فكانوا شراً من البهائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 58‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما حكي عنهم هذا الجدال، والاستهزاء والضلال، وصفهم بما يموجب الخزي فقال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فكانوا بذلك أظلم الظالمين‏:‏ ‏{‏ومن أظلم‏}‏ منهم- استفهاماً على سبيل التقرير، ولكنه أظهر للتنبيه على الوصف الموجب للإنكار على من شك في أنهم أظلم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ممن ذكر‏}‏ أي من أيّ مذكر كان ‏{‏بأيات‏}‏ أي علامات ‏{‏ربه‏}‏ المحسن إليه بها؛ قال الأصبهاني‏:‏ وهذا من أفصح التقرير أن يوقف الرجل على ما لا جواب فيه إلا الذي يريد خصمه‏.‏

ولما كان التذكير سبباً للإقبال فعكسوا فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنها‏}‏ تاركاً لما يعرف من تلك العلامات العجيبة وما يوجبه ذلك الإحسان من الشكر ‏{‏ونسي ما قدمت يداه‏}‏ من الفساد الذي هو عارف- لو صرف عقله إلى الفكر فيما ينفعه- أن الحكمة تقتضي جزاءه عليه، وأفرد الضمير في جميع هذا على لفظ ‏{‏من‏}‏ إشارة إلى أن من فعل مثل هذا- ولو أنه واحد- كان هكذا، والأحسن أن يقال‏:‏ إنهم لما كانوا قد سألوا اليهود عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما أشير إليه عند ‏{‏ويسألونك عن الروح‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ فأمروهم بسؤاله عما جعلوه أمارة على صدقه، فلم يؤثر ذلك فيهم، واستمروا بعد إخباره بالحق على التكذيب، شرح حالهم بالتعقيب بالفاء، فكان المعنى‏:‏ من أظلم منهم، لأنهم ذكروا فأعرضوا ونسوا ما اعتقدوا أنه دليل الصدق، وأنه لا جدال بعده، وسيأتي لموقع الفاء في آخر السجدة مزيد بيان، وإسناد الفعل في الإعراض وما بعده إليهم حقيقة مما لهم من الكسب كما أن إسناد الجعل وما بعده إلى الله حقيقة بما له من الخلق‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما لهم فعلوا ذلك‏؟‏ أيجهل قبح هذا أحد‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا‏}‏ بما لنا من القدرة على إعماء البصائر والأبصار ‏{‏على قلوبهم‏}‏ فجمع رجوعاً إلى أسلوب ‏{‏واتخذوا ءاياتي‏}‏ لأنه أنص على ذم كل واحد ‏{‏أكنة‏}‏ أي أغطية مستعلية عليها استعلاء يدل سياق العظمة على أنه لا يدع شيئاً من الحيز يصل إليها، فهي لا تعي شيئاً من آياتنا، ودل بتذكير الضمير على أن المراد بالآيات القرآن فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي كراهة أن ‏{‏يفقهوه‏}‏ أي يفهموه ‏{‏وفي ءاذانهم وقراً‏}‏ أي ثقلاً فهم لا يسمعون حق السمع، ولا يعون حق الوعي ‏{‏وإن تدعهم‏}‏ أي تكرر دعاءهم كل وقت ‏{‏إلى الهدى‏}‏ لتنجيهم بما عندك من الحرص على ذلك والجد ‏{‏فلن يهتدوا‏}‏ أي كلهم بسبب دعائك ‏{‏إذاً‏}‏ أي إذا دعوتهم ‏{‏أبداً *‏}‏ لأن من له العظمة التامة- وهو الذي إذا عبر عن نفسه بنونها كانت على حقيقتها- حكم عليها بالضلال، أي أنه لا يكون الدعاء وحده هادياً لأكثرهم، بل لا بد معه من السيف كما سنأمرك به فتقطع الرؤوس فيذل غيرهم، وقد يكون المراد أن من كان هكذا معانداً على هذا الوجه مؤبد الشقاء، وقد نفى آخر هذه الآية الفعل عن العباد وأثبته لهم أولها، وقلما نجد في القرآن آية تسند الفعل إليهم إلا قارنتها أخرى تثبته لله وتنفيه عنهم، ابتلاء من الله لعباده ليتميز الراسخ- الذي ينسب للمكلفين الكسب المفيد لأثر التكليف، ولله الخلق المفيد لأنه سبحانه لا شريك له في خلق ولا غيره- من الطائش الذي يقول بالجبر أو التفويض‏.‏

ولما كان هذا مقتضياً لأخذهم، عطف على ما اقتضاه السياق مما ذكرته من العلة قولَه تعالى‏:‏ ‏{‏وربك‏}‏ مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه الوصف من الإحسان بأخذ من يأخذ منهم وإمهال غيره لحكم دبرها؛ ثم أخبر عنه بما ناسب ذلك من أوصافه فقال‏:‏ ‏{‏الغفور‏}‏ أي هو وحده الذي يستر الذنوب إما بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ أي الذي يعامل- وهو قادر- مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام؛ ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو يؤاخذهم‏}‏ أي هؤلاء الذين عادوك وآذوك، وهو عالم بأنهم لا يؤمنون لو يعاملهم معاملة المؤاخذ ‏{‏بما كسبوا‏}‏ حين كسبهم ‏{‏لعجل لهم العذاب‏}‏ واحداً بعد واحد، ولكنه لا يعجل لهم ذلك ‏{‏بل لهم موعد‏}‏ يحله بهم فيه، ودل على أن موعده ليس كموعد غيره من العاجزين بقوله دالاً على كمال قدرته‏:‏ ‏{‏لن يجدوا من دونه‏}‏ أي الموعد ‏{‏موئلاً *‏}‏ أي ملجأ ينجيهم منه، فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأول ظلمهم وآخره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه سنته في القرون الماضية والأمم الخالية، قال تعالى عاطفاً على قوله «لهم موعد» مروعاً لهم بالإشارة إلى ديارهم المصورة لدمارهم‏:‏ ‏{‏وتلك القرى‏}‏ أي الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم ‏{‏أهلكناهم‏}‏ أي حكمنا بإهلاكهم بما لنا من العظمة ‏{‏لما ظلموا‏}‏ أي أول ما ظلموا، أو أهلكناهم بالفعل حين ظلمهم لكن لا في أوله، بل أمهلناهم إلى حين تناهيه وبلوغه الغاية، فليحذر هؤلاء مثل ذلك ‏{‏وجعلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏لمهلكهم‏}‏ أي إهلاكهم بالفعل ‏{‏موعداً *‏}‏ أي وقتاً نحله بهم فيه ومكاناً لم نخلفه، كما أنا جعلنا لهؤلاء موعداً في الدنيا بيوم بدر والفتح وحنين ونحو ذلك، وفي الآخرة لن نخلفه، وكذا كل أمر يقوله نبي من الأنبياء عنا لا يقع فيه خلف وإن كان يجوز لنا ذلك، بخلاف ما يقوله من نفسه غير مسند إلينا فإنه يمكن وقوع الخلف فيه، كما وقع في الوعد بالإخبار عن هذه المسائل التخلف أربعين ليلة أو ما دونها على حسب فهمهم أن ‏{‏غدا‏}‏ على حقيقته‏.‏

ولما قدم الكلام على البعث، واستدل عليه بابتداء الخلق، ثم ذكر بعض أحواله، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال، وصرف من وجوه الاستدلال، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة، فلكل شيء عنده كتاب، وكل قضاء بقدر وحساب، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائه، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه، وظهور برهانه، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه- وهو كليم الله- أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم «إن لم يخبركم فليس بنبي» الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين «ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر»

وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً «لو كان نبياً ما قال‏:‏ أخبركم غداً، وتأخر عن ذلك» بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه ‏{‏وإذ قلنا للملائكة‏}‏‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ أي واذكر لهم حين ‏{‏قال موسى‏}‏ أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل، أي قوله الذي كان في ذلك الحين ‏{‏لفتاه‏}‏ يوشع بن نون عليهما السلام‏:‏ ‏{‏لا أبرح‏}‏ أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله- كما دل عليه ما يأتي ‏{‏حتى أبلغ مجمع البحرين‏}‏ أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ ‏{‏أو أمضي حقباً *‏}‏ إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه؛ والحقب- قال في القاموس- ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون- انتهى‏.‏ وما أنسب التوقيت بمجمع بحري الماء بمجمع بحري العلم وتزودهما بالنون الذي قرنه الله بالقلم وما يسطرون، وعين الحياة لأن العلم حياة القلوب، فسارا وتزودا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به، فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع ‏{‏فلما بلغا مجمع بينهما‏}‏ أي البحرين، فلم يكن هناك بين أصلاً لصيرورتهما شيئاً واحداً ‏{‏نسيا حوتهما‏}‏ فلم يعلم موسى عليه السلام شيئاً من حاله ونسي أن يسأل عنه، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له ‏{‏فاتخذ‏}‏ أي الحوت معجزة في معجزة ‏{‏سبيله‏}‏ أي طريقه الواسع الواضح ‏{‏في البحر سرباً *‏}‏ أي خرقاً في الماء غير ملتئم، من السرب الذي هو جحر الوحشي، والحفير تحت الأرض، والقناة يدخل منها الماء الحائط‏.‏ وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء، فصار طاقاً لا يلتئم‏.‏ ويوشع عليه السلام ينظر ذلك، وكأن المجمع كان ممتداً، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار ‏{‏فلما جاوزا‏}‏ أي موسى وفتاه عليهما السلام ذلك الموضع من المجمع تعب، ولم يتعب حتى جاوز المكان الذي أمر به معجزةً أخرى، فلما جاع وتعب ‏{‏قال لفتاه ءاتنا‏}‏ أي أحضر لنا ‏{‏غداءنا‏}‏ أي لنتقوى به على ما حصل لنا من الإعياء، ولذلك وصل به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد لقينا من سفرنا‏}‏ أي الذي سافرناه في هذا اليوم خاصة، ولذلك أشار إليه بأداة القرب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هذا نصباً *‏}‏ وكان الحوت زادهم فلم يكن معه، فكأنه قيل‏:‏ فما كان عن أمره‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ لموسى عليه السلام معجباً له‏:‏ ‏{‏أرءيت‏}‏ ما دهاني‏؟‏ ‏{‏إذ أوينا إلى الصخرة‏}‏ التي بمجمع البحرين ‏{‏فإني‏}‏ أي بسبب أني ‏{‏نسيت الحوت‏}‏ أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك؛ ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنسانيه‏}‏ مع كونه عجيباً ‏{‏إلا الشيطان‏}‏ بوساوسه‏.‏

ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً، ذكر نسيانه، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن أذكره‏}‏ لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر ‏{‏واتخذ سبيله‏}‏ أي طريقه الذي ذهب فيه ‏{‏في البحر عجباً *‏}‏ وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان، وقوله تعالى ‏{‏إنما سلطانه على الذين يتولونه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 100‏]‏ مبين أن السلطان الحمل على المعاصي، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه، وإمساك الماء عن مدخله، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك‏.‏

أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي- وهو جنبه- فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال‏:‏ «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء- فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال‏:‏ فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها، فأمر بأخذ تلك الشاة منها ثم قال‏:‏ يا أسيم- وكان إذا دعاه رخمه‏!‏ ناولني ذراعاً، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها، ثم قال‏:‏ يا أسيم‏!‏ ناولني ذراعاً‏!‏ فناولته، ثم قال‏:‏ يا أسيم‏!‏ ناولني ذراعاً‏!‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إنما هما ذراعان وقد ناولتك، فقال‏:‏ والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك‏:‏ ناولني ذراعاً» فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا، وقوله الحق الذي لا فرق بينه وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة‏.‏

وأما حياة الحوت المشوي فقد مضى عند ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية المسمومة، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق، وكذا حنين الجذع، وسلام الحجر، وتسبيح الحصا، وتأمين أسكفة الباب وحوائط البيت ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً، فقد روى البيهقي في الدلائل عن عمرو بن سواد قال‏:‏ قال لي الشافعي‏:‏ ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقلت‏:‏ أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى‏؟‏ فقال‏:‏ أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجذع- الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيئ له المنبر، فلما هيئ له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته- فهذا أكبر من ذاك- انتهى‏.‏ على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته‏.‏

وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته، ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق، وقد روى البيهقي في ذلك ما فيه آية من الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال‏:‏ ائت أمه فأعلمها، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما، ثم قالت‏:‏ اللهم إني أسلمت لك طوعاً، وخلعت الأوثان زهداً، وهاجرت إليك رغبة، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها، قال‏:‏ فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه، وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى هلكت أمه؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه- يعني جيشاً، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي، قال‏:‏ وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد تدروا بنا، فعفوا آثار الماء، قال‏:‏ وكان حر شديد، فجهدنا العطش ودوابنا، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً، فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة، فوقف على الخليج وقال‏:‏ يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم‏!‏ ثم قال‏:‏ أجيزوا باسم الله‏!‏ فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا‏.‏

وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار ن الحسن بن علي بن عفان أنبأنا ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه، قال‏:‏ انتهينا إلى دجلة وهي مادة، والأعاجم خلفها، فقال رجل من المسلمين‏:‏ بسم الله، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء، فقال الناس‏:‏ بسم الله بسم الله، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فلما نظر إليهم الأعاجم قالوا‏:‏ ديوان ديوان، ثم ذهبوا على وجوههم، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها‏.‏ أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمذي ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا‏:‏ ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب من مدها، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال‏:‏ هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله- قال البيهقي‏:‏ هذا إسناد صحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

وفي هذا الأمر من هذه القصة قاصمة للسائلين والآمرين لهم بالسؤال، لأن المراد- والله أعلم- أن هذا الأمر وقع لنبي هؤلاء المضلين، فمر قريشاً أن يسألوهم عن هذه القصة، فإن أخبروهم عنها بمثل ما أخبرتهم فصدقوهم، لزمهم أن يؤمنوا بالبعث لأمر هذا الحوت الذي أحياه الله بعد أن كان مشوياً وصار كثير منه في البطون، وإن لم يصدقوهم في هذا وصدقوهم في غيره مما يتعنتون به عليك فهو تحكم، وإن كانوا يتهمونهم في كل أمر كان سؤالهم لهم عبثاً، ليس من أفعال من يعقل، فكأنه قيل‏:‏ فما قال موسى حينئذ‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ منبهاً على أن ذلك ليس من الشيطان، وإنما هو إغفال من الله تعالى بغير واسطة ليجدا العلامة التي أخبره الله بها كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «إنى لأنسى- أي ينسيني الله تعالى- لأسن» ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من فقد الحوت ‏{‏ما كنا نبغ‏}‏ أي نريد من هذا الأمر المغيب عنا، فإن الله تعالى جعله موعداً لي في لقاء الخضر ‏{‏فارتدا على ءاثارهما‏}‏ يقصانها ‏{‏قصصاً *‏}‏ وهذا يدل على أن الأرض كانت رملاً، لا علم فيها، فالظاهر- والله أعلم- أنه مجمع النيل والملح الذي عند دمياط، أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور في البحر الذي ركبا في سفينته للتغذية- كما في الحديث، فإن الطير لا يشرب من الملح، ومن المشهور في بلاد رشيد أن الأمر كان عندهم، وأن عندهم سمكاً ذاهب الشق يقولون‏:‏ أنه من نسل تلك السمكة- والله أعلم‏.‏ فاستمرا يقصان حتى انتهيا إلى موضع فقد الحوت ‏{‏فوجدا عبداً من عبادنا‏}‏ مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام ‏{‏ءاتيناه‏}‏ بعظمتنا ‏{‏رحمة‏}‏ أي وحياً ونبوة، وكونه نبياً قول الجمهور ‏{‏من عندنا‏}‏ أي مما لم يجر على قوانين العادات غير أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء ‏{‏وعلمناه من لدنا‏}‏ أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء ‏{‏علماً‏}‏ قذفناه في قلبه بغير واسطة؛ وقال الأستاذ أبو الحسن الحرالي‏:‏ «عند» في لسان العرب لما ظهر، و«لدن» لما بطن، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه، فأهل التصوف سموا العلم بطريق المكاشفة العلم اللدني، فإذا سعى العبد في الرياضيات يتزين الظاهر بالعبادة، وتتخلى النفس عن الأخلاق الرذيلة، وتتحلى بالأخلاق الجميلة، وتصير القوى الحسية والخيالية والوهمية في غاية القوة، وحينئذ تصير القوة العقلية قوية صافية، وربما كانت النفس بحسب أصل الفطرة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالحوادث البدنية، شديدة الاستعداد لقبول الأمور الإلهية، فتشرق فيها الأنوار الإلهية وتفيض عليها من عالم القدس على وجه الكمال فتحصل المعارف والعلوم من غير تفكر وتأمل، فهذا هو العلم اللداني‏.‏

ثم أورد سبحانه وتعالى القصة على طريق الاستئناف على تقدير سؤال سائل عن كل كلام يرشد إليه ما قبله، وذلك أنه من المعلوم أن الطالب للشخص إذا لقيه كله، لكن لا يعرف عين ذلك الكلام فقال لمن كأنه سأل عن ذلك‏:‏ ‏{‏قال له موسى‏}‏ طالباً منه على سبيل التأدب والتلطف بإظهار ذلك في قالب الاستئذان‏:‏ ‏{‏هل أتبعك‏}‏ أي اتباعاً بليغاً حيث توجهت؛ والاتباع‏:‏ الإتيان لمثل فعل الغير لمجرد كونه آتياً به؛ وبين أنه لا يطلب منه غير العلم بقوله‏:‏ ‏{‏على أن تعلمن‏}‏ وزاد في التلطف بالإشارة إلى أنه لا يطلب جميع ما عنده ليطول عليه الزمان بل جوامع منه يسترشد بها إلى باقيه فقال‏:‏ ‏{‏مما علمت‏}‏ وبناه للمفعول لعلم المخاطبين- لكونهم من الخلص- بأن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى، وللإشارة إلى سهولة كل أمر على الله عز وجل ‏{‏رشداً *‏}‏ أي علماً يرشدني إلى الصواب فيما أقصده، ولا نقص في تعلم نبي من نبي حتى يدعي أن موسى هذا ليس موسى بن عمران عليه السلام فإنه قد ثبت كونه ابن عمران في الصحيح، وأتى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سؤاله له بهذه الأنواع من الآداب والإبلاغ في التواضع لما هو عليه من الرسوخ في العلم، لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر، كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان طلبه لها أشد، فكان تعظيمه لأرباب العلوم أكمل‏.‏

ولما أتم العبارة عن السؤال، استأنف جوابه له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏إنك لن تستطيع‏}‏ يا موسى ‏{‏معي صبراً *‏}‏ أي هو من العظمة على ما أريد لما يحثك على عدم الصبر من ظاهر الشرع الذي أمرت به، فالتنوين للتعظيم بما تؤذن به تاء الاستفعال، وأكد لما في سؤال موسى عليه السلام من التلطف المؤذن بأنه يصبر عليه ولا يخالفه في شيء أصلاً، ويؤخذ منه أن العالم إن رأى في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير كان عليه ذكره، فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة، وذلك يمنعه من التعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 74‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏ قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص، وهو الصبر البليغ، بالتعجيب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكار، وعن نفسه في الفعل، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن، فقال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فكيف تتبعني الاتباع البليغ‏:‏ ‏{‏وكيف تصبر‏}‏ يا موسى ‏{‏على ما لم تحط به خبراً *‏}‏ أي من جهة العلم به ظاهراً وباطناً، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله، فيكون الصبر الثاني هو الأول، والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام، آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله له والنفع به‏:‏ ‏{‏ستجدني‏}‏ فأكد الوعد بالسين؛ ثم أخبر عنه سبحانه أنه قوى تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدم الحث عليه في هذه السورة في قوله تعالى ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل‏}‏ الآية ليعلم أنه منهاج الأنبياء وسبيل الرسل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن شاء الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏صابراً‏}‏ على ما يجوز الصبر عليه؛ ثم زاد التأكيد بقوله عطفاً بالواو على «صابراً» لبيان التمكن في كل من الوصفين‏:‏ ‏{‏ولا أعصي‏}‏ أي وغير عاص ‏{‏لك أمراً *‏}‏ تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله ‏{‏قال‏}‏ أي الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏فإن اتبعتني‏}‏ يا موسى اتباعاً بليغاً ‏{‏فلا تسألني عن شيء‏}‏ أقوله أو أفعله ‏{‏حتى أحدث لك‏}‏ خاصة ‏{‏منه ذكراً *‏}‏ يبين لك وجه صوابه، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك‏.‏

ولما تشارطا وتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانطلقا‏}‏ أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا ‏{‏حتى إذا ركبا في السفينة‏}‏ وأجاب الشرط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خرقها‏}‏ وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن، ولم يقرن «خرق» بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه؛ ثم استأنف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله- وهو الإله العظيم- من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار، كما فعل عند قتل الغلام، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأن المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً، ففي الأولى نسي الشرط، وفي الثانية نسي- لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً- أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه‏:‏ ‏{‏أخرقتها‏}‏ وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال‏:‏ ‏{‏لتغرق أهلها‏}‏ والله‏!‏ ‏{‏لقد جئت شيئاً إمراً‏}‏ أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً ‏{‏قال‏}‏ أي الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏ألم أقل إنك‏}‏ يا موسى‏!‏ ‏{‏لن تستطيع معي صبراً *‏}‏ فذكره بما قال له عند الشرط ‏{‏قال‏}‏ موسى‏:‏ ‏{‏لا تؤاخذني‏}‏ يا خضر ‏{‏بما نسيت‏}‏ من ذلك الاشتراط ‏{‏ولا ترهقني‏}‏ أي تلحقني بما لا أطيقه وتعجلني عن مرادي باتباعك على وجه القهر ناسباً لي إلى السفه والخفة وركوب الشر ‏{‏من أمري عسراً *‏}‏ بالمؤاخذة على النسيان، فكل منهما صادق فيما قال، موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى عما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر، ومع ذلك فما نفي إلا الصبر البليغ الذي دل عليه بزيادة تاء الاستفعال، وقد حصل ما يطلق عليه صبر‏.‏

لأنه لما ذكره كف عنه لما تذكر بثناء الله عليه أنه لا يفعل باطلاً، ولم يحصل الصبر البليغ الذي في نفس الخضر بالكسوت في أول الأمر وآخره ‏{‏فانطلقا‏}‏ بعد نزولهما من السفينة وسلامتها من الغرق والغصب ‏{‏حتى إذا لقيا غلاماً‏}‏ لم يبلغ الحلم وهو في غاية القوة ‏{‏فقتله‏}‏ حين لقيه- كما دلت عليه الفاء العاطفة على الشرط‏.‏ ثم أجاب الشرط بقوله مشعراً بأن شروعه في الإنكار في هذه أسرع‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أقتلت‏}‏ يا خضر ‏{‏نفساً زكية‏}‏ بكونها على الفطرة الأولى من غير أن تدنس بخطيئة توجب القتل ‏{‏بغير نفس‏}‏ قتلتها ليكون قتلك لها قوداً؛ وهذا يدل على أنه كان بالغاً حتى إذا قتل قتيلاً أمكن قتله به إلا أن يكون شرعهم لا يشترط البلوغ؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏لقد جئت‏}‏ في قتلك إياها ‏{‏شيئاً‏}‏ وصرح بالإنكار في قوله‏:‏ ‏{‏نكراً *‏}‏ لأنه مباشرة‏.‏ والخرق تسبب لا يلزم منه الغرق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 79‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏75‏)‏ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ‏(‏76‏)‏ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ‏(‏77‏)‏ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏78‏)‏ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه ثانية ‏{‏قال‏}‏ الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏ألم أقل‏}‏ وزاد قوله‏:‏ ‏{‏لك إنك‏}‏ يا موسى ‏{‏لن تستطيع معي‏}‏ أي خاصة ‏{‏صبراً * قال‏}‏ موسى عليه السلام حياء منه لما أفاق بتذكر مما حصل من فرط الوجد لأمر الله فذكر أنه ما تبعه إلا بأمر الله‏:‏ ‏{‏إن سألتك عن شيء بعدها‏}‏ يا أخي‏!‏ وأعلم بشدة ندمه على الإنكار بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تصاحبني‏}‏ بل فارقني؛ ثم علل ذلك بقوله ‏{‏قد بلغت‏}‏ وأشار إلى أن ما وقع منه من الإخلال بالشرط من أعظم الخوارق التي اضطر إليها فقال‏:‏ ‏{‏من لدني عذراً *‏}‏ باعتراضي مرتين واحتمالك لي فيهما‏.‏ وقد أخبرني الله بحسن حالك في غزارة علمك ‏{‏فانطلقا‏}‏ بعد قتله ‏{‏حتى إذا أتيا أهل قرية‏}‏ عبر عنها هنا بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذم، لأن مادة قرا تدور على الجمع الذي يلزمه الإمساك كما تقدم في آخر سورة يوسف عليه السلام؛ ثم وصفها ليبين أن لها مدخلاً في لؤم أهلها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استطعما‏}‏ وأظهر ولم يضمر في قوله‏:‏ ‏{‏أهلها‏}‏ لأن الاستطعام لبعض من أتوه، أوكل من الإتيان والاستطعام لبعض ولكنه غير متحد، وهذا هو الظاهر، لأنه هو الموافق للعادة‏.‏

قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل‏:‏ ولتكرار الأسماء بالإظهار والإضمار بيان سنين الأفهام في القرآن‏:‏ اعلم أن لوقوع الإظهار والإضمار في بيان القرآن وجهين‏:‏ أحدهما يتقدم فيه الإظهار وهو خطاب المؤمنين بآيات الآفاق وعلى نحوه هو خطاب الخلق بعضهم لبعض لا يضمرون إلا بعد أن يظهروا، والثاني يتقدم فيه الإضمار وهو خطاب الموقنين بآية الأنفس، ولم يصل إليه تخاطب الخلق‏.‏ فإذا كان البيان عن إحاطة، تقدم الإضمار ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ وإذا كان عن اختصاص، تقدم الإظهار ‏{‏الله الصمد‏}‏ وإذا رد عليه بيان على حدة أضمر ‏{‏لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد‏}‏ أي هذا الذي عم بأحديته وخص بصمديته، وإذا أحاط البيان بعد اختصاص استؤنف له إحاطة باستئناف إظهار محيط أو بإضمار، أو بجمع المضمر والمظهر ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏إن بطش ربك لشديد إنه هو يبدئ ويعيد‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏هو الله لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 22‏]‏ والتفطن لما اختص به بيان القرآن عن بيان الإنسان من هذا النحو من مفاتيح أبواب الفهم، ومن نحوه ‏{‏أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏}‏ استأنف للمستطعمين إظهاراً غير إظهار المأتيين- انتهى‏.‏ وجعل السبكي الإتيان للبعض، والاستطعام للكل، لأنه أشد ذماً لأهل القرية وأدل على شر طبعها، ومن قال بالأول مؤيد بقول الشافعي في كتاب الرسالة في باب ما نزل من الكتاب عاماً يراد به العام ويدخلها الخصوص وهو بعد البيان الخامس في قول الله عز وجل ‏{‏حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها‏}‏‏:‏ وفي هذه الآية أدل دلالة على أنه لم يستطعما كل أهل القرية وفيها خصوص- انتهى، وبيان ذلك أن نكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة كانت عيناً في الأغلب‏.‏

ولما أسند الإتيان إلى أهل القرية كان ظاهره تناول الجميع، فلو قيل‏:‏ استطعماهم لكان المراد بالضمير عين المأتيين، فلما عدل عنه- مع أنه أخصر- إلى الظاهر ولا سيما إن جعلناه نكرة كان غير الأولى وإلا لم يكن للعدول فائدة، وقد كان الظاهر أن الأول للجميع فكان الثاني للبعض، وإلا لم يكن غيره ولا كان للعدول فائدة‏.‏ ‏{‏فأبوا‏}‏ أي فتسبب عن استطعامهما أن أبى المستطعمون من أهل القرية ‏{‏أن يضيفوهما‏}‏ أي ينزلوهما ويطعموهما فانصرفا عنهم ‏{‏فوجدا فيها‏}‏ أي القرية، ولم يقل‏:‏ فيهم، إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع ‏{‏جداراً‏}‏ مشرفاً على السقوط، وكذا قال مستعيراً لما لا يعقل صفة ما يعقل‏:‏ ‏{‏يريد أن ينقض‏}‏ أي يسقط سريعاً فمسحه الخضر بيده ‏{‏فأقامه‏}‏‏.‏

ولما انقضى وصف القرية وما تسبب عنه أجاب «إذا» بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي له موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏لو شئت لتخذت‏}‏ لكوننا لم يصل إلينا منهم شيء ‏{‏عليه‏}‏ أي على إقامة الجدار ‏{‏أجراً *‏}‏ نأكل به، فلم يعترض عليه في هذه المرة لعدم ما ينكر فيها، وإنما ساق ما يترتب عليها من ثمرتها مساق العرض والمشورة غير أنه يتضمن السؤال ‏{‏قال‏}‏ الخضر عليه السلام‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الوقت أو السؤال‏.‏ ولما كان ذلك سبب الفراق أو محله، سماه به مبالغة فقال‏:‏ ‏{‏فراق بيني وبينك‏}‏ يا موسى بعد أن كان البينان بيناً واحداً لاتصالهما فلا بين، فهو في الحقيقة فوق ما كان متصلاً من بينهما، أو فراق التقاول الذي كان بيننا، أي الفراق الذي سببه السؤال، وإذا نزل على الاحتباك ازداد ظهوراً، تقديره‏:‏ فراق بيني وبينك كما أخبرت، وفراق بينك من بيني كما شرطت، وقد أثبتت هذه العبارة الفراق على أبلغ وجه، وذلك أنه إذا وقع فراق بيني من بينك بحائل يحول بينهما فقد وقع منك بطريق الأولى، وحقيقته أن البين هو الفراغ المنبسط الفاصل بين الشيئين وهو موزع بينهما، فبين كل منهما من منتصف ذلك الفراغ إليه، فإذا دخل في ذلك الفراغ شيء فصل بينهما، وصار بين كل منهما ينسب إليه، لأنه صار بين ما ينسب إلى كل منهما من البينين، وحينئذ يكون بينهما مباينة، أي أن بين كل منهما غير بين الآخر ومن قال‏:‏ إن معنى «هذا فراق بيننا» زوال الفصل ووجود الوصل، كذبه أن معنى «هذا اتصال بيننا» المواصلة، فلو كان هذا معنى ذاك أيضاً لاتحد معنى ما يدل على الوصل بمعنى ما يدل على الفصل، وقد نبه الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام- كما في تفسير الأصبهاني وغيره- بما فعل الخضر عليه السلام على ما وقع له هو من مثله سواء بسواء، فنبهه- بخرق السفينة الذي ظاهره هلك وباطنه نجاة من يد الغاصب- على التابوت الذي أطبق عليه وألقي في اليم خوفاً عليه من فرعون الغاصب فكان ظاهره هلكاً وباطنه نجاة، وبقتل الغلام على أنه كان معصوم الحركة في نفس الأمر في قتله القبطي وإن لم يكن إذ ذاك يعلمه لكونه لم ينبأ، وبأقامة الجدار من غير أجر على سقيه لبنات شعيب عليهم السلام من غير أجر مع احتياجه لذلك‏.‏

ولما كان من المعلوم شدة استشراف موسى عليه السلام إلى الوقوف في باطن هذه الأمور، قال مجيباً له عن هذا السؤال‏:‏ ‏{‏سأنبئك‏}‏ يا موسى بوعد لا خلف فيه إنباء عظيماً ‏{‏بتأويل‏}‏ أي بترجيع ‏{‏ما لم تستطع عليه صبراً *‏}‏ لمخالفته عندك الحكمة إلى الحكمة وهو أن عند تعارض الضررين يجب ارتكاب الأدنى لدفع الأقوى بشرط التحقق، وأثبت تاء الاستفعال هنا وفيما قبله إعلاماً بأنه ما نفى إلا القدرة البليغة على الصبر، إشارة إلى صعوبة ما حمل موسى من ذلك، لا مطلق القدرة على الصبر ‏{‏أما السفينة‏}‏ التي أحسن إلينا أهلها فخرقتها ‏{‏فكانت لمساكين‏}‏ وهو دليل للشافعي على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، لأن هؤلاء يملكون سفينة ‏{‏يعملون في البحر‏}‏ ليستعينوا بذلك على معاشهم‏.‏

ولما كان التعييب من فعله، أسنده إليه خاصة، تأدباً مع الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏فأردت أن أعيبها‏}‏ فإن تفويت منفعتها بذلك ساعة من نهار وتكليف أهلها لوحاً يسدونها به أخف ضرراً من تفويتهم منفعتها أخذاً ورأساً بأخذ الملك لها، ولم أرد إغراق أهلها كما هو المتبادر إلى الفهم؛ ثم عطف على ذلك علة فعله فقال‏:‏ ‏{‏وكان وراءهم‏}‏ أي أمامهم، ولعله عبر بلفظ ‏(‏وراء‏)‏ كناية عن الإحاطة بنفوذ الأمر في كل وجهة وارتهم وواروها، وفسره الحرالي في سورة البقرة بأنه وراءهم في غيبته عن علمهم وإن كان أمامهم في وجهتهم، لأنه فسر الوراء بما لا يناله الحس ولا العلم حيثما كان من المكان، قال‏:‏ فربما اجتمع أن يكون الشيء، وراء من حيث إنه لا يعلم، ويكون أماماً في المكان‏.‏ ‏{‏ملك يأخذ‏}‏ في ذلك الوقت ‏{‏كل سفينة‏}‏ ليس فيها عيب ‏{‏غصباً‏}‏ من أصحابها ولم يكن عند أصحابها علم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ‏(‏80‏)‏ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ‏(‏81‏)‏ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ‏(‏82‏)‏‏}‏

ولما كان كل من الغصب والمسكنة سبباً لفعله، قدمها على الغصب، إشارة إلى أن أقوى السببين الحاملين على فعله الرأفة بالمساكين ‏{‏وأما الغلام‏}‏ أي الذي قتلته ‏{‏فكان أبواه مؤمنين‏}‏ وكان هو مطبوعاً على الكفر- كما يأتي في حديث أبيّ رضي الله عنه‏.‏

ولما كان يحتمل عند الخضر عليه السلام أن يكون هذا الغلام مع كفره في نفسه سبباً لكفر أبويه إن كبر، وكان أمر الله له بقتله مثل فعل من يخشى ذلك، أسند الفعل إليهما في قوله‏:‏ ‏{‏فخشينا أن يرهقهما‏}‏ أي يغشيهما ويلحقهما إن كبر بمحبتهما له أو بجراءته وقساوته ‏{‏طغياناً‏}‏ أي تجاوزاً في الظلم وإفراطاً فيه ‏{‏وكفراً *‏}‏ لنعمتهما فيفسد دنياهما أو يحملهما حبهما له على الطغيان والكفر بالله طاعة فيفسد دينهما، روى مسلم في القدر وأبو داود في السنة والترمذي في التفسير عن ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» وهذا حديث‏:‏ «الله أعلم بما كانوا عاملين» يدل على أن العذاب- على ما لو وجد شرطه لوقع- إنما يكون على ما كان جبلة وطبعاً، لا ما كان عارضاً، وإلا لعذب الأبوان على تقدير أن يكون المعلوم من الكفر منهما‏.‏

ولما ذكر ما يلزم على تقدير بقائه من الفساد سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأردنا‏}‏ أي بقتله وإراحتهما من شره، ولما كان التعويض عن هذا الولد لله وحده، أسند الفعل إليه في قوله‏:‏ ‏{‏أن يبدلهما ربهما‏}‏ أي المحسن إليهما بإعطائه وأخذه ‏{‏خيراً منه زكاة‏}‏ طهارة وبركة، أي من جهة كونه كان ظاهر الزكاء في الحال، وأما في المآل فلو عاش كان فيه خبيثاً ظاهر الخبث، وهذا البدل يمكن أن يكون الصبر، ويمكن أن يكون ولداً آخر، وهو المنقول وأنها كانت بنتاً ‏{‏وأقرب رحماً *‏}‏ براً بهما وعطفاً عليهما ورحمة لهما فكان الضرر اللاحق لهما بالتأسف عليه أدنى من الضرر اللاحق لهما عند كبره بإفساد دينهما أو دنياهما ‏{‏وأما الجدار‏}‏ الذي أشرت بأخذ الأجر عليه ‏{‏فكان لغلامين‏}‏ ودل على كونهما دون البلوغ بقوله ‏{‏يتيمين‏}‏‏.‏

ولما كانت القرية لا تنافي التسمية بالمدينة، وكان التعبير بالقرية أولاً أليق، لأنها مشتقة من معنى الجمع، فكان أليق بالذم في ترك الضيافة لإشعاره ببخلهم حالة الاجتماع وبمحبتهم للجمع والإمساك، وكانت المدينة بمعنى الإقامة، فكان التعبير بها أليق للإشارة به إلى أن الناس يقيمون فيها، فينهدم الجدار وهم مقيمون فيأخذون الكنز، قال‏:‏ ‏{‏في المدينة‏}‏ فلذلك أقمته احتساباً ‏{‏وكان تحته كنز‏}‏ أي مال مدخور ‏{‏لهما‏}‏ لو وقع لكان أقرب إلى ضياعه ‏{‏وكان أبوهما صالحاً‏}‏ ينبغي مراعاته وخلفه في ذريته بخير‏.‏

ولما كان الإبلاغ إلى حد البلوغ والاستخراج فعل الله وحده، أسند إليه خاصة فقال‏:‏ ‏{‏فأراد ربك‏}‏ أي المحسن إليك بهذه التربية، إشارة إلى ما فعل بك من مثلها قبل النبوة كما بين ‏{‏أن يبلغا‏}‏ أي الغلامان ‏{‏أشدهما‏}‏ أي رشدهما وقوتهما ‏{‏ويستخرجا كنزهما‏}‏ لينتفعا به وينفعا الصالحين ‏{‏رحمة‏}‏ بهما ‏{‏من ربك‏}‏ أي الذي أحسن تربيتك وأنت في حكم اليتيم فكان التعب في إقامة الجدار مجاناً أدنى من الضرر اللازم من سقوطه لضياع الكنز وفساد الجدار، وقد دل هذا على أن صلاح الآباء داعٍ إلى العناية بالأبناء، روي عن الحسن بن علي رضي الله عهنما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما‏:‏ بم حفظ الله كنز الغلامين‏؟‏ قال‏:‏ بصلاح أبيهما، قال فأبي وجدي خير منه، قال أنبأنا الله أنكم قوم خصمون‏.‏ ‏{‏وما فعلته‏}‏ أي شيئاً من ذلك ‏{‏عن أمري‏}‏ بل عن أمر من له الأمر، وهو الله‏.‏

ولما بان سر تلك القضايا، قال مقدراً للأمر‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي لشرح العظيم ‏{‏تأويل ما لم تسطع‏}‏ يا موسى ‏{‏عليه صبراً‏}‏ وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك- بعد كشف الغطاء- في حيز ما يحمل فكان منكره غير صابر أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر، وسقط- ولله الحمد- بما قررته في هذه القصة ما يقال من أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر في قول سليمان عليه السلام المخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «لأطوفن الليلة على مائة امرأة كلهن تلد فارساً يجاهد في سبيل الله، فلم تلد منهن إلا واحدة جاءت بشق آدمي أنه لو قال‏:‏ إن شاء الله، لجاهدوا فرساناً أجمعون» فأفهم ذلك أن ذلك كل نبي استثنى في خبره صدقه الله تعالى كما وقع للذبيح أنه قال‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله من الصابرين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ فوفى، فما لموسى عليه السلام- وهو من أولي العزم- فعل مع الاستثناء ما فعل‏؟‏ فإن الذبيح صبر على ما هو قاطع بأنه بعينه أمر الله، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان ينكر ما ظاهره منكر قبل العلم بأنه من أمر الله، فإذا نبه صبر، وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «يرحم الله أخي موسى‏!‏ وددنا لو أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما» فمعناه‏:‏ صبر عن الإذن للخضر عليه السلام في مفارقته في قوله ‏{‏فلا تصاحبني‏}‏ ويدل عليه أن في رواية لمسلم «رحمة الله علينا وعلى موسى‏!‏ لولا أنه عجل لرأى العجب ولكنه أخذته من صاحبه ذمامة»

‏{‏قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني‏}‏‏.‏ فتحرر أنه وفى بمقام الشرع الذي أقامه الله فيه فلم يخل بمقام الصبر الذي ليس فيه ما يخالف ما يعرف ويستحضر من الشرع، وكيف لا وهو من أكابر أولي العزم الذين قال الله تعالى لأشرف خلقه في التسليك بسيرهم ‏{‏فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏ وقال عليه السلام فيما خرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أوذي من بعض من كان معه في حنين فتلوّن وجهه وقال‏:‏ «يرحم الله أخي موسى‏!‏ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» وعلم أن في قصته هذه حثاً كثيراً على المجاهرة بالمبادرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمصابرة عليه، وأن لا يراعى فيه كبير ولا صغير إذا كان الإمرء على ثقة من أمره في الظاهر بما عنده في ذلك من العلم عن الله ورسوله وأئمة دينه، وتنبيهاً على أنه لا يلزم من العلم اللدني- سواء كان صاحبه نبياً أو ولياً- معرفة كل شيء كما يدعيه أتباع بعض الصوفية، لأن الخضر سأل موسى عليهما السلام‏:‏ من أنت‏؟‏ وهل هو موسى نبي بني إسرائيل- كما سيأتي‏.‏ روى البخاري في التفسير من روايات مختلفة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أبي بن كعب رضي الله عنه حدثه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ «موسى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولّى فأدركه رجل فقال‏:‏ أي رسول الله‏!‏ هل في الأرض أحد أعلم منك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏!‏ فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى إليه‏:‏ بلى‏!‏ عبد من عبادي بمجمع البحرين، قال‏:‏ أي رب‏!‏ كيف السبيل إليه‏؟‏ قال‏:‏ تأخذ حوتاً في مكتل فحيث ما فقدته فاتبعه- وفي رواية‏:‏ خذ نوناً ميتاً حيث ينفخ فيه الروح- فخرج ومعه فتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى الصخرة، فوضع موسى رأسه فنام في ظل الصخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت- وفي رواية‏:‏ وفي أصل تلك الصخرة عين يقال له الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيى، فأصاب الحوت من ماء تلك العين فانسل من المكتل فدخل البحر- فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر، فقال فتاه‏:‏ لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره، فذكر سفرهما وقول موسى عليه السلام ‏{‏لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً‏}‏ قال‏:‏ قد قطع الله عنك النصب، فرجعا فوجدا خضراً على طنفسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال‏:‏ هل بأرضي من سلام‏؟‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا موسى‏!‏ قال‏:‏ موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ قال‏:‏ فما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ جئت لتعلمني، قال‏:‏ أما يكفيك أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك‏؟‏ يا موسى‏!‏ إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه- أي لا ينبغي لك أن تعمل بالباطن ولا ينبغي لي أنا أن أقف مع الظاهر، أطلق العلم على العمل لأنه سببه- فانطلقا يمشيان على الساحل، فوجدوا معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، فعرف الخضر فقالوا‏:‏ عبد الله الصالح‏!‏ لا تحمله بأجر، فحملوهم في سفينتهم بغير نول‏:‏ بغير أجر- فركبا السفينة، ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر؛ وفي رواية‏:‏ فأخذ بمنقاره من البحر، وفي رواية‏:‏ فنقر نقرة أو نقرتين فقال‏:‏ والله ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا من البحر، فلم يفجأ موسى إلا الخضر عمد إلى قدوم فخرق السفينة ووتد فيها وتداً فذكر إنكاره وجوابه ثم قال‏:‏ وكانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً- فذكر القصة، وقال في آخرها‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وددنا أن موسى صبر حتى يقص علينا من أمرهما»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 90‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏83‏)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ‏(‏84‏)‏ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏85‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ‏(‏86‏)‏ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏87‏)‏ وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ‏(‏88‏)‏ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ‏(‏89‏)‏ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ‏(‏90‏)‏‏}‏

ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة، وقوام كل أمر، فقال عاطفاً على ‏{‏ويجادل الذين كفروا بالباطل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 56‏]‏ ‏{‏ويسألونك عن‏}‏ الرجل الصالح المجاهد ‏{‏ذي القرنين‏}‏ سمي لشجاعته أو لبلوغه قرني مغرب الشمس ومشرقها، أو لانقراض قرنين من الناس في زمانه، أو لأنه كان له ضفيرتان من الشعر أو لتاجه قرنان، وهو الإسكندر الأول- نقل ابن كثير عن الأزرقي أنه كان على زمن الخليل عليه السلام، وطاف معه بالبيت، ومن المناسبات الصورية أن في قصة كل منهما ثلاثة أشياء آخرها بناء جدار لا سقف له، وإنما هو لأجل حفظ ما يهتم به خوف المفسد، وصدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارة إلى أنهم لم يسألوا عن التي قبلها على ما فيها من العجائب واللطائف، والأسرار والمعارف، تبكيتاً لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودهم الحق، وإن لم يكن مقصوداً لهم كانوا بالتبكيت أجدر، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الروح، وصدرها بالإخبار بالسؤال تنبيهاً على ذلك لطول الفصل، إشارة إلى أن ذلك كله مرتبط بجوابهم ارتباط الدر بالسلك‏.‏

ولما كان من المعلوم أنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم‏:‏ فبماذا أجيبهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم‏:‏ ‏{‏سأتلوا‏}‏ أي أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان إن أعلمني الله به ‏{‏عليكم‏}‏ أيها المشركون وأهل الكتاب المعلمون لهم مقيداً بأن شاء الله كما سلف لك الأمر به ‏{‏منه ذكراً *‏}‏ كافياً لكم في تعرف أمره، جامعاً لمجامع ذكره‏.‏

ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله، جلاها في ذلك المظهر فقال‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ مؤكداً لأن المخاطبين بصدد التعنت والإنكار ‏{‏مكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، قيل‏:‏ بالملك وحده، وقيل مع النبوة، لأن ما ينسب إلى الله تعالى على سبيل الامتنان والإحسان جدير بأن يحمل على النهاية لا سيما إذا عبر عنه بمظهر العظمة ‏{‏له في الأرض‏}‏ مكنة يصل بها إلى جميع مسلوكها، ويظهر بها على سائر ملوكها ‏{‏وءاتيناه‏}‏ بعظمتنا ‏{‏من كل شيء‏}‏ يحتاج إليه في ذلك ‏{‏سبباً‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود‏.‏ فأراد بلوغ المغرب، ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه ‏{‏فأتبع‏}‏ أي بغاية جهده- هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بالتشديد، والمعنى على قراءة الباقين بقطع الهمزة وإسكان الفوقانية‏:‏ ألحق بعض الأسباب ببعض، وذلك تفسير لقراءة التشديد ‏{‏سبباً *‏}‏ يوصله إليه، واستمر متبعاً له ‏{‏حتى إذا بلغ‏}‏ في ذلك المسير ‏{‏مغرب الشمس‏}‏ أي الحد الذي لا يتجاوزه آدمي في جهة الغرب ‏{‏وجدها‏}‏ فيما يحس بحاسة لمسه ‏{‏تغرب‏}‏ كما أحسه بحاسة بصره من حيث إنه متصل بما وصل إليه بيده، لا حائل بينه وبينه ‏{‏في عين حمئة‏}‏ أي ذات حمأة أي طين أسود، وهي مع ذلك حارة كما ينظر من في وسط البحر أنها تغرب فيه وتطلع منه وعنده القطع بأن الأمر ليس كذلك ‏{‏ووجد عندها‏}‏ أي على الساحل المتصل بتلك العين ‏{‏قوماً‏}‏ كفاراً لهم قوة على ما يحاولونه ومنعة، فكأنه قيل‏:‏ ماذا أمر فيهم‏؟‏ فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قلنا‏}‏ بمظهر العظمة‏:‏ ‏{‏يا ذا القرنين‏}‏ إعلاماً بقربه من الله وأنه لا يفعل إلا ما أمره به، إما بواسطة الملك إن كان نبياً وهو أظهر الاحتمالات، أو بواسطة نبي زمانه، أو باجتهاده في شريعته الاجتهاد المصيب، ‏{‏إما أن تعذب‏}‏ أي هؤلاء القوم ببذل السيف فيهم بكفرهم ‏{‏وإما أن تتخذ‏}‏ أي بغاية جهدك ‏{‏فيهم حسناً *‏}‏ أمراً له حسن عظيم، وذلك هو البداءة بالدعاء، إشارة إلى أن القتل وإن كان جائزاً فالأولى أن لا يفعل إلا بعد اليأس من الرجوع عن موجبه ‏{‏قال أما من ظلم‏}‏ باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله، وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف نعذبه‏}‏ بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق ‏{‏ثم يرد‏}‏ بعد الحياة بالموت، أو بعد البرزخ بالبعث، رداً هو في غاية السهولة ‏{‏إلى ربه‏}‏ الذي تفرد بتربيته ‏{‏فيعذبه عذاباً نكراً *‏}‏ شديداً جداً لم يعهد مثله لكفره لنعمته، وبذل خيره في عبادة غيره، وفي ذلك إشارة بالتهديد الشديد لليهود الغارين لقريش، وإرشاد لقريش إلى أن يسألوهم عن قوله هذا، ليكون قائداً لهم إلى الإقرار بالبعث ‏{‏وأما من ءامن وعمل صالحاً‏}‏ تصديقاً لما أخبر به من تصديقه ‏{‏فله‏}‏ في الدارين ‏{‏جزاء‏}‏ طريقته ‏{‏الحسنى‏}‏ منا ومن الله بأحسن منها ‏{‏وسنقول‏}‏ بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة ‏{‏له‏}‏ أي لأجله ‏{‏من أمرنا‏}‏ الذي نأمر به فيه ‏{‏يسراً *‏}‏ أي قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها، وهو ما يطيقه ولا يشق عليه مشقة كبيرة ‏{‏ثم أتبع‏}‏ لإرادته بلوغ مشرق الشمس ‏{‏سبباً *‏}‏ من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مر عليها ‏{‏حتى إذا بلغ‏}‏ في مسيره ذلك ‏{‏مطلع الشمس‏}‏ أي الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض ‏{‏وجدها تطلع على قوم‏}‏ على ساحل البحر لهم قوة شديدة ‏{‏لم نجعل لهم‏}‏ ولما كان المراد التعميم، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من دونها‏}‏ أي من أدنى الأماكن إليهم أول ما تطلع ‏{‏ستراً *‏}‏ يحول بينهم وبين المحل الذي يرى طلوعها منه من البحر من جبل ولا أبنية ولا شجر ولا غيرها‏.‏