فصل: تفسير الآيات رقم (16- 32)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 32‏]‏

‏{‏فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما كانت- لما تقدم- في حكم المنسي عند أغلب الناس قال‏:‏ ‏{‏فلا يصدنك عنها‏}‏ أي إدامة ذكرها ليثمر التشمير في الاستعداد لها ‏{‏من لا يؤمن بها‏}‏ بإعراضه عنها وحمله غيره على ذلك بتزيينه بما أوتي من المتاع الموجب للمكاثرة المثمرة لامتلاء القلب بالمباهاة والمفاخرة، فإن من انصد عن ذلك غير بعيد الحال ممن كذب بها، والمقصود من العبارة نهي موسى عليه السلام عن التكذيب، فعبر عنه بنهي من لا يؤمن عن الصد إجلالاً لموسى عليه السلام، ولأن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب، ولأن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب، فكأنه قيل‏:‏ كن شديد الشكيمة صليب المعجم، لئلا يطمع أحد في صدك وإن كان الصاد هم الجم الغفير، فإن كثرتهم تصل إلى الهوى لا إلى البرهان، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله نبه عليه الكشاف‏.‏ ثم بين العلة في التكذيب بها والكسل عن التشمير لها بقوله‏:‏ ‏{‏واتبع‏}‏ أي بغاية جهده ‏{‏هواه‏}‏ فكان حاله حال البهائم التي لا عقل لها، تنفيراً عن مثل حاله؛ ثم أعظم التحذير بقوله مسبباً‏:‏ ‏{‏فتردى*‏}‏ أي فتهلك، إشارة إلى أن من ترك المراقبة لحظة حاد عن الدليل، ومن حاد عن الدليل هلك‏.‏

ولما كان المقام مرشداً إلى أن يقال‏:‏ ما جوابك يا موسى عما سمعت‏؟‏ وكان تعالى عالماً بأنه يبادر إلى الجواب بالطاعة في كل ما تقدم، طوى هذا المقال مومئاً إليه بأن عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما تلك‏}‏ أي العالية المقدار ‏{‏بيمينك يا موسى*‏}‏ مريداً- بعد تأنيسه بسؤاله عما هو أعلم به منه- إقامة البينة لديه بما يكون دليلاً على الساعة من سرعة القدرة على إيجاد ما لم يكن، بقلب العصا حية بعد تحقق أنها عصاه يقرب النظر إليها عند السؤال عنها ليزداد بذلك ثباتاً ويثبت من يرسل إليهم ‏{‏قال هي‏}‏ أي ظاهراً وباطناً ‏{‏عصاي‏}‏ ثم وصل به مستأنساً بلذيذ المخاطبة قوله بياناً لمنافعها خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل‏:‏ ‏{‏أتوكأ‏}‏ أي أعتمد وأرتفق وأتمكن ‏{‏عليها‏}‏ أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك؛ ثم ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال‏:‏ ‏{‏وأهشُّ‏}‏ أي أخبط الورق، قال ابن كثير‏:‏ قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك‏:‏ والهش أن يضع الرجب المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش، قال‏:‏ وكذا قال ميمون بن مهران، وقال أبو حيان‏:‏ والأصل في هذه المادة الرخاوة‏.‏

يقال‏:‏ رجل هش‏.‏ ‏{‏بها على غنمي‏}‏‏.‏

ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل‏:‏ اجلس على البساط وإياك والانبساط، وطمعاً في سماع كلامه سبحانه وتعالى، فقال مجملاً‏:‏ ‏{‏ولي فيها مآرب‏}‏ أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء‏.‏ ولما كان المحدث عنه لايعقل، وأخبر عنه بحمع كثرة، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال‏:‏ ‏{‏أخرى*‏}‏ تاركاً للتفصيل، فكأنه قيل‏:‏ فماذا قيل له‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال ألقها‏}‏ أي العصا، وأنسه بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا موسى * فألقاها‏}‏ أي فتسبب عن هذا الأمر المطاع أنه ألقاها ولم يتلعثم ‏{‏فإذا هي‏}‏ أي في الحال ظاهراً وباطناً ‏{‏حية‏}‏ عظيمة جداً يطلق عليها لعظمعا بنهاية أمرها اسم الثعبان، والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ‏{‏تسعى*‏}‏ سعياً خفيفاً يطلق عليها لأجله في أول أمرها اسم الجان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعباناً- انتهى‏.‏ فهي في عظم الثعبان وسرعة الجان‏.‏

ولما كان ذلك أمراً مخيفاً، استشرف السامع إلى ما يكون من حاله عند مثل هذا بعد ذلك، فاستأنف إخباره بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الله تبارك وتعالى على ما يكون منها عند فرعون لأجل التدريب‏:‏ ‏{‏خذها ولا تخف‏}‏ مشيراً إلى أنه خاف منها على عادة الطبع البشريّ؛ ثم علل له النهي عن الخوف بقوله ‏{‏سنعيدها‏}‏ أي بعظمتنا عند أخذك لها بوعد لا خلف فيه ‏{‏سيرتها‏}‏ أي طريقتها ‏{‏الأولى*‏}‏ من كونها عصا، فهذه آية بينة على أن الذي يخاطبك هو ربك الذي له الأسماء الحسنى، فنزلت عليه السكينة، وبلغ من طمأنينته أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها، فإذا هي عصاه، ويده بين شعبتيها‏.‏

ولما أراه آية في بعض الآفاق، أراد أن يريه آية في نفسه فقال‏:‏ ‏{‏واضمم يدك‏}‏ من جيبك الذي يخرج منه عنقك ‏{‏إلى جناحك‏}‏ أي جنبك تحت العضد تنضم على ما هي عليه من لونها وما بها من الحريق، وأخرجها ‏{‏تخرج‏}‏ فالآية من باب الاحتباك، والجناح‏:‏ اليد، والعضد، والأبط، والجانب- قاله في القاموس، فلا يعارض هذا ما في القصص لأنه أطلق الجناح هناك على اليد وهي أحق به، وهنا على الجنب الذي هو موضعها تسمية للمحل باسم الحال ‏{‏بيضاء‏}‏ بياضاً كالشمس تتعجب منه‏.‏

ولما كان البرص أبغض شيء إلى العرب، نافياً له ولغيره، ولم يسمه باسمه لأن أسماعهم له مجاجة، ولأن نفي الأعم من الشيء أبلغ من نفيه بخصوصه‏:‏ ‏{‏من غير سوء‏}‏ أي مرض لا برص ولا غيره، حال كونها ‏{‏آية أخرى*‏}‏ افعل ما أمرتك به من إلقاء العصا وضم اليد، أو فعلنا ذلك من إحالة العصا ولون اليد من مناداتك لمناجاتك ‏{‏لنريك‏}‏ في جميع أيام نبوتك ‏{‏من آياتنا الكبرى*‏}‏ ليثبت بذلك حنانك، ويزداد إتقانك، فكأنه قيل‏:‏ لماذا يفعل بي هذا‏؟‏ فقيل‏:‏ لنرسلك إلى بعض المهمات ‏{‏اذهب إلى فرعون‏}‏ أي لترده عن عتوه‏:‏ ثم علل الإرسال إلية بقوله، مؤكداً لأن طغيان أحد بالنسبة إلى شيء مما للملك الأعلى مما يستبعد‏:‏ ‏{‏إنه طغى*‏}‏ أي تجاوز حده من العبودية فادعى الربوبية، وأشار إلى ما حصل له من الضيق من ذلك بما عرف من أنه أمر عظيم، وخطب جسيم، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح قلب ضابط كما صرح به في سورة الشعراء- بقوله ‏{‏قال رب اشرح‏}‏ أي وسع ‏{‏لي‏}‏ ولما أبهم المشروح ليكون الكلام أوكد بتكرير المعنى في طريقي الإجمال والتفصيل، قال رافعاً لذلك الإبهام‏:‏ ‏{‏صدري*‏}‏ للإقدام على ذلك، وإلى استصعابه بقوله‏:‏ ‏{‏ويسر لي‏}‏ ثم بين ذلك الإبهام بقوله‏:‏ ‏{‏أمري*‏}‏ وإلى استعجازه نفسه عن الإبانة لهم عن المراد بقوله‏:‏ ‏{‏واحلل‏}‏ ولما كان المعنى هنا ما لا يحتمل غيره إذ إنه لم يسأل بقاءه في غير حال الدعوة، عدل عن طريق الكلام الماضي فقال‏:‏ ‏{‏عقدة من لساني*‏}‏ أي مما فيه من الحبسة عن الإتيان بجميع المقاصد من الجمرة التي وضعها في فيه وهو عند فرعون، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولما كان سؤاله هذا إنما هو الله، ولذلك اقتصر على قدر الحاجة فلم يطلب زوال الحبسة كلها، أجابه بقوله‏:‏ ‏{‏يفقهوا قولي*‏}‏ وإلى اعتقاد صعوبة المقام مع ذلك كله بطلب التأييد بنصير يهمه أمره بقوله‏:‏ ‏{‏واجعل لي‏}‏ أي مما تخصني به؛ وبين اهتمامه بالإعانة كما يقتضيه الحال فقدم قوله‏:‏ ‏{‏وزيراً‏}‏ أي ملجأ يحمل عني بعض الثقل ويعاونني ‏{‏من أهلي*‏}‏ لأني به أوثق لكونه عليّ أشفق، ثم أبدل منه قوله‏:‏ ‏{‏هارون‏}‏ وبينه بقوله‏:‏ ‏{‏أخي*‏}‏ أي لأنه أجدر أهلي بتمام مناصرتي؛ وأجاب الدعاء في قراءة ابن عامر فقال‏:‏ ‏{‏اشدد‏}‏ بقطع الهمزة مفتوحة ‏{‏به أزري*‏}‏ أي قوتي وظهري ‏{‏وأشركه‏}‏ بضم الهمزة مسنداً الفعلين إلى ضميره على أنهما مضارعان، وقراءة الباقين بوصل الأول وفتح همزة الثاني على أنهما أمران، مسندين إلى الله تعالى على الدعاء ‏{‏في أمري*‏}‏ أي النبوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 44‏]‏

‏{‏كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما أفهم سؤاله هذا أن له فيه أغراضاً، أشار إلى أنها ليست مقصودة له لأمر يعود على نفسه بذكر العلة الحقيقية، فقال‏:‏ ‏{‏كي نسبحك‏}‏ أي بالقول والفعل بالصلاة وغيرها ‏{‏كثيراً*‏}‏ فأفصح عن أن المراد بالمعاضدة إنما هو لتمهيد الطريق إليه سبحانه‏.‏

ولما كان التسبيح ذكراً خاصاً لكونه بالتنزيه الذي أعلاه التوحيد، أتبعه العام فقال‏:‏ ‏{‏ونذكرك‏}‏ أي بالتسبيح والتحميد ‏{‏كثيراً‏}‏ فإن التعاون والتظاهر أعون على تزايد العبادة أنه مهيج للرغبات؛ ثم علل طلبه لأخيه لأجل هذا الغرض بقوله‏:‏ ‏{‏إنك كنت بنا بصيراً*‏}‏ قبل الإقامة في هذا الأمر في أنك جبلتنا على ما يلائم ذكرك وشكرك، وأن التعاضد مما يصلحنا، وكل ذلك تدريب لمن أنزل عليه الذكر على مثله وتذكير بنعمة تيسيره بلسانه ليزداد ذكراً وشكراً‏.‏

ولما تم ذلك، كان موضع توقع الجواب، فأتبعه قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الله‏:‏ ‏{‏قد أوتيت‏}‏ بأسهل أمر ‏{‏سؤلك‏}‏ أي ما سألته ‏{‏يا موسى‏}‏ من حل عقدة لسانك وغير ذلك ولو شئت لم أفعل ذلك ولكني فعلته منة مني عليك‏.‏

ولما كان إنجاؤه من فرعون يث ولد في السنة التي يذبح فيها الأبناء- قالوا‏:‏ وهي الرابعة من ولادة هارون عليه السلام- بيد فرعون وفي بيته أمراً عظيماً، التفت إلى مقام العظمة مذكراً له بذلك تنويراً لبصيرته وتقوية لقلبه، إعلاماً بأنه ينجيه منه الآن، كما أنجاه في ذلك الزمان، ويزيده بزيادة السن والنبوة خيراً، فيجعل عزه في هلاكه كما جعل إذ ذاك عزه في وجوده فقال‏:‏ ‏{‏ولقد مننا‏}‏ أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به على ما يليق بعظمتنا ‏{‏عليك‏}‏ فضلاً منا ‏{‏مرة أخرى*‏}‏ غير هذه؛ ثم ذكر وقت المنة فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏أوحينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏إلى أمك‏}‏ أي بالإلهام ‏{‏ما‏}‏ يستحق لعظمته أن ‏{‏يوحى*‏}‏ به، ولا يعلمه إلا نبي أو من هو قريب من درجة النبوة؛ ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أن اقذفيه‏}‏ أي ألقي ابنك ‏{‏في التابوت‏}‏ وهو الصندوق، فعلوت من التوب الذي معناه تفاؤلاً به، وقال الحرالي‏:‏ هو وعاء ما يعز قدره، والقذف مجاز عن المسارعة إلى وضعه من غير تمهل لشيء أصلاً، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة كيف ما كان، والتعريف لأنه نوع من الصناديق أشد الناس معرفة به بنو إسرائيل ‏{‏فاقذفيه‏}‏ أي موسى عليه السلام عقب ذلك بتابوته، أو التابوت الذي فيه موسى عليه السلام ‏{‏في اليم‏}‏ أي البحر وهو النيل‏.‏

ولما كانت سلامته في البحر من العجائب، لتعرضه للغرق بقلب الريح للتابوت، أو بكسره في بعض الجدر أو غيرها، أو بجريه مستقيماً مع أقوى جرية من الماء إلى البحر الملح وغير ذلك من الآفات، أشار إلى تحتم تنجيته بلام الأمر عبارة عن معنى الخبر في قوله، جاعلاً البحر كأنه ذو تمييز ليطيع الأمر‏:‏ ‏{‏فليلقه‏}‏ أي التابوت الذي فيه موسى عليه السلام أو موسى بتابوته ‏{‏اليم بالساحل‏}‏ أي شاطئ النيل، سمي بذلك لأن الماء يسحله، أي ينشره إلى جانب البيت الذي الفعل كله هرباً من شر صاحبه، وهو فرعون، وهو المراد بقوله‏:‏ ‏{‏يأخذه‏}‏ جواباً للأمر، أي موسى ‏{‏عدو لي‏}‏ ونبه على محل العجب بإعادة لفظ العدو في قوله‏:‏ ‏{‏وعدو له‏}‏ فإنه ما عادى بني إسرائيل بالتذبيح إلا من أجله ‏{‏وألقيت عليك محبة‏}‏ أي عظيمة؛ ثم زاد الأمر في تعظيمها إيضاحاً بقوله‏:‏ ‏{‏مني‏}‏ أي ليحبك كل من رآك لما جبلتك عليه من الخلال الحميدة، والشيم السديدة، لتكون أهلاً لما أريدك له ‏{‏ولتصنع‏}‏ أي تربى بأيسر أمر تربية بمن هو ملازم لك لا ينفك عن الاعتناء بمصالحك عناية شديدة ‏{‏على عيني*‏}‏ أي مستعلياً على حافظيك غير مستخفى في تربيتك من أحد ولا مخوف عليك منه، وأنا حافظ لك حفظ من يلاحظ الشيء بعينه لا يغيب عنها، فكان كل ما أردته، فلما رآك هذا العدو أحبك وطلب لك المراضع، فلما لم تقبل واحدة منهن بالغ في الطلب، كل ذلك إمضاء لأمري وإيقافاً لأمره به نفسه لا بغيره ليزداد العجب من إحكام السبب، ثم ذكر ظرف الصنع فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏تمشي أختك‏}‏ أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة ‏{‏فتقول‏}‏ بعد إذ رأتك، لآل فرعون‏:‏ ‏{‏هل أدلكم على من يكفله‏}‏ أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة، ناصحاً له، فقالوا‏:‏ نعم‏!‏ فجاءت بأمك فقبلت ثديها ‏{‏فرجعناك‏}‏ أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك ‏{‏إلى أمك‏}‏ حين دلتهم عليها ‏{‏كي تقر‏}‏ أي تبرد وتسكن ‏{‏عينها‏}‏ وتربيك آمنة عليك غير خائفة، ظاهرة غير مستخفية ‏{‏ولا تحزن‏}‏ بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك ‏{‏وقتلت نفساً‏}‏ أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك ‏{‏فنجيناك‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏من الغم‏}‏ الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين ‏{‏وفتناك فتوناً‏}‏ أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة، على أنه جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بالتاء، ويجوز أن يكون مصدراً كالشكور، إذن الفتون ولادته عام الذبح وإبقاؤه في البحر ثم منعه الرضاع من غير ثدي أمه ثم جره لحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين في الطريق الهيع خائفاً يترقب، ثم إيجار نفسه عشر سنين، ثم إضلاله الطريق، ثم تفرق غنمه في ليلة مظلمة ‏{‏فلبثت سنين‏}‏ أي كثيرة ‏{‏في أهل مدين‏}‏ مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه، وصاهرته على ابنته ‏{‏ثم جئت‏}‏ أي الآن ‏{‏على قدر‏}‏ أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك، وهو بلوغ الأشد والاستواء، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر ‏{‏يا موسى * واصطنعتك‏}‏ أي ربيتك بصنائع المعروف تربية من يتكلف تكوين المربى على طريقة من الطرائق ‏{‏لنفسي *‏}‏ أي لتفعل من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم‏.‏

فلما تمهد ذلك كله بعد علم نتيجته، أعادها في قوله‏:‏ ‏{‏اذهب أنت‏}‏ كما تقدم أمري لك به ‏{‏وأخوك‏}‏ كما سألت ‏{‏بآياتي‏}‏ التي أريتك وغيرها مما أظهره على يديك ‏{‏ولا تنيا‏}‏ أي تفترا وتضعفا ‏{‏في ذكري*‏}‏ الذي تقدم أنك جعلته غاية دعائك، بل لتكن- مع كونه ظرفاً محيطاً بجميع أمرك- في غاية الاجتهاد فيه وإحضار القلب له، وليكن أكثر ما يكون عند لقاء فرعون أن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه، فإن ذلك أعون شيء على المراد، ثم بين المذهوب إليه بقوله، مؤكداً لنفس الذهاب لأنه لشدة الخطر لا يكاد طبع البشر يتحقق جزم الأمر به فقال‏:‏ ‏{‏اذهبا إلى فرعون‏}‏ ثم علل الإرسال إليه بقوله، مؤكداً لما مضى، ولزيادة التعجيب من قلة عقله، فكيف بمن تبعه ‏{‏إنه طغى*‏}‏ ثم أمرهما بما ينبغي لكل آمر بالمعروف من الأخذ بالأحسن فالأحسن والأسهل فالأسهل، فقال مسبباً عن الانتهاء إليه ومعقباً‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ لئلا يبقى له حجة، ولا يقبل له معذرة ‏{‏لعله يتذكر‏}‏ ما مر له من تطوير الله له في أطوار مختلفة، وحمله فيما يكره على ما لم يقدر على الخلاص منه بحيلة، فيعلم بذلك أن الله ربه، وأنه قادر على ما يريد منه، فيرجع عن غيّه فيؤمن ‏{‏أو يخشى*‏}‏ أي أو يصل إلى حال من يخاف عاقبة قولكما لتوهم الصدق فيكون قولكما تذكرة له فيرسل معكما بني إسرائيل، ومعنى الترجي أن يكون حاله حال من يرجى منه ذلك، لأنها من ثمرة اللين في الدعاء، جرى الكلام في هذا وأمثاله على ما يتعارفه العباد في محاوراتهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون، فالمراد‏:‏ اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما، وأما علمه تعالى فقد أتى من وراء ما يكون- قاله سيبويه في باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 54‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏‏}‏

ولما كان فرعون في غاية الجبروت، وكان حاله حال من يهلكهما إلا أن يمنعهما الله، وأراد علم ما يكون من ذلك ‏{‏قالا ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا‏.‏ ولما كان مضمون إخبارهما بالخوف مع كونهما من جهة الله- من شأنه أن لا يكون وأن ينكر، أكد فقالا مبالغين فيه بإظهار النون الثالثة إبلاغاً في إظهار الشكوى ليأتي الجبر على قدر ما يظهر من الكسر‏:‏ ‏{‏إننا نخاف‏}‏ لما هو فيه من المكنة ‏{‏أن يفرط‏}‏ أي يجعل ‏{‏علينا‏}‏ بالعقوبة قبل إتمام البلاغ عجلة من يطفر ويثب إلى الشيء ‏{‏أو أن يطغى*‏}‏ فيتجاوز إلى أعظم مما هو فيه من الاستكبار ‏{‏قال لا تخافا‏}‏ ثم علل ذلك بما هو مناط النصرة والحيطة للولي والإهلاك للعدو، فقال مؤكداً إشارة إلى عظم الخبر، وتنبيهاً لمضمونه لأنه خارج عن العوائد، وأثبت النون الثالثة على وزان تأكيدهما‏:‏ ‏{‏إنني معكما‏}‏ لا أغيب كما تغيب الملوك إذا أرسلوا رسلهم ‏{‏أسمع وأرى*‏}‏ أي لي هاتان الصفتان، لا يخفى عليَّ شيء من حال رسولي ولا حال عدوه، وأنتما تعلمان من قدرتي ما لا يعلمه غيركما‏.‏

ولما تمهد ذلك، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان، فقال مؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى‏:‏ ‏{‏فأتياه فقولا‏}‏ أي له؛ ولما كان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما، أكد سبحانه فقال‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا- كما تقدم مطلوباً، ثنى فقال‏:‏ ‏{‏رسولا ربك‏}‏ الذي رباك فأحسن تربيتك بعد أن أوجدك من العدم، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلهما تكذيباً له في ادعائه الربوبية، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما‏:‏ ‏{‏فأرسل معنا‏}‏ عبيده ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ ليعبدوه، فإنه لا يستحق العبادة غيره ‏{‏ولا تعذبهم‏}‏ بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح؛ ثم علل دعوى الرسالة بما يثبتها، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال‏:‏ ‏{‏قد جئناك بآية‏}‏ أي علامة عظيمة وحجة وبرهان ‏{‏من ربك‏}‏ الذي لا إحسان عليك إلا منه، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما، فأسلم تسلم، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية، ونسبته إلى كفران الإحسان، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله ‏{‏والسلام‏}‏ أي جنسه ‏{‏على‏}‏ جميع ‏{‏من اتبع‏}‏ بغاية جهده ‏{‏الهدى*‏}‏ عامة، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم، فالمعنى‏:‏ وإن أبيت عذبت ‏{‏إنا‏}‏ أي لأنا ‏{‏قد أوحي إلينا‏}‏ من ربنا ‏{‏أن العذاب‏}‏ أي كله، لأن اللام للاستغراق أو الماهية، وعلى التقديرين يقتضي قدر ثبوت هذا الجنس ودوامه لما تفهمه الاسمية ‏{‏على‏}‏ كل ‏{‏من كذب وتولى*‏}‏ أي أوقع التكذيب والإعراض، وذلك يقتضي أنه إن كان منه شيء على مصدق منقضياً، وإذا انقضى كان كأن لم يوجد، وفي صرف الكلام عنه تنبيه على أنه ضال مكذب وتعليم للأدب‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأتياه فقولا‏:‏ إنا رسولا ربك- إلى آخر ما أمر به، وتضمن قولهما أن لمرسلهما القدرة التامة والعلم الشامل، فتسبب عنه سؤاله عن تعيينه، أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي فرعون مدافعاً لهما بالمناظرة لا بالبطش، لئلا ينسب إلى السفه والجهل‏:‏ ‏{‏فمن‏}‏ أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترئ على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما‏:‏ من ‏{‏ربكما‏}‏ الذي أرسلكما، ولم يقل‏:‏ ربي، حيدة عن سواء النظر وصرفاً للكلام على الوجه الموضح لخزيه‏.‏

ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك، وكان ربما طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه، أفرده بقوله‏:‏ ‏{‏يا موسى * قال‏}‏ له موسى على الفور‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي موجدنا ومربينا ومولانا ‏{‏الذي أعطى كل شيء‏}‏ مما تراه في الوجود ‏{‏خلقه‏}‏ أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة والشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر، ويجل عن الوصف‏.‏

ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم هدى *‏}‏ أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت‏.‏

ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره- صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح، فيظهر الفساد من الصلاح، إلى شيء يتسع فيه المجال، ولا يقوم عليه دليل، فيمكن فيه الرد، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله‏:‏ ‏{‏قال فما‏}‏ أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك‏:‏ فما ‏{‏بال‏}‏ أي خبر ‏{‏القرون الأولى*‏}‏ الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله، وهو وأن كان حيدة، هو من أمارات الانقطاع، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع‏.‏

ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك ‏{‏قال‏}‏ قاطعاً له عنه‏:‏ ‏{‏علمها عند ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج‏.‏

ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم‏:‏ ‏{‏في كتاب‏}‏ أي اللوح المحفوظ‏.‏ ولما كان ربما وقع في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لا يضل ربي‏}‏ أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل ‏{‏ولا ينسى*‏}‏ أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسأل عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال‏:‏ ‏{‏الذي جعل لكم‏}‏ أيها الخلائق ‏{‏الأرض‏}‏ أي أكثرها ‏{‏مهداً‏}‏ تفترشونها، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً- إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف ‏{‏وسلك لكم فيها سبلاً‏}‏ أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع ‏{‏وأنزل من السماء ماء‏}‏ تشاهدونه واحداً في اللون والطعم‏.‏

ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول‏.‏ استغرق صلى الله عليه وسلم في بحار الجلال، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكلام هو المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان، فعبر عن ذلك، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة ‏{‏به أزواجاً‏}‏ أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شبيه له ‏{‏من نبات شتى*‏}‏ أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل ‏{‏أخرجنا‏}‏‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ أي ما دبره لكم بحكمته منها ‏{‏وارعوا‏}‏ أي سرحوا في المراعي ‏{‏أنعامكم‏}‏ ما أحكمه لها ولا يصلح لكم، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يقدرون على أكله، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها، وتباين أصنافها، وتباعد أوصافها، وعلى كثرتهم، وتنائي أمزجتهم، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره، فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا بد أن يظهر له فيه نقص ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت‏.‏

ولما كمل هذا البرهان القويم، دالاً على العليم الحكيم، قال منبهاً على انتشار أنواره، وجلالة مقداره، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة ‏{‏لآيات‏}‏ على منشئه ‏{‏لأولي النهى *‏}‏ العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه، وما لا ينفع في حكم العدم، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن إسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت‏:‏

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة *** بعثت إلى موسى رسولاً منادياً

فقلت ألا يا اذهب وهارون فادعوا *** إلى الله فرعون الذي كان باغيا

فقولا له آأنت سويت هذه *** بلا وتد حتى استقلت كما هيا

وقولا له آأنت رفعت هذه *** بلا عمد أرفق إذن بك بانيا

وقولا له آأنت سويت وسطها *** منيراً إذا ما جنه الليل هاديا

وقولا له من يخرج الشمس بكرة *** فيصبح ما مست من الزرع ضاحيا

وقولا له من ينبت الحب في الثرى *** فيخرج منه البقل يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رؤوسه *** وفي ذاك آيات لمن كان واعيا

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 60‏]‏

‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة على تمام علمه وباهر قدرته، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسلام‏:‏ إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم، بل يقول‏:‏ إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه، بل اتصال تدبير وتصرف، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالروحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصالها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر، وصل بذلك قوله تعالى، يرد عليهم، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ أي الأرض لا من غيرها ‏{‏خلقناكم‏}‏ إذ أخرجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام ‏{‏وفيها‏}‏ لا في غيرها كما أنتم كذلك تشاهدون ‏{‏نعيدكم‏}‏ بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً، فتصيرون تراباً كما كنتم، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته ‏{‏ومنها‏}‏ لا من غيرها ‏{‏نخرجكم‏}‏ يوم البعث بتلك العظمة بعينها ‏{‏تارة أخرى*‏}‏ كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعلنا في النبات سواء، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك، بل الإعادة أهون في مجاري العادة‏.‏

ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح، ليس وراءها مطمح، فكان المعنى‏:‏ أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره، وكان المقام لتعظيم القدرة، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أريناه‏}‏ أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا ‏{‏آياتنا‏}‏ أي التي عظمتها من عظمتنا ‏{‏كلها‏}‏ بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء ‏{‏فكذب‏}‏ أي بها ‏{‏وأبى*‏}‏ أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف، فكأنه قيل‏:‏ كيف صنع في تكذيبه وإبائه‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره، وتقبل العقول له، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره‏:‏ ‏{‏أجئتنا لتخرجنا من أرضنا‏}‏ هذه التي نحن مالكوها ‏{‏بسحرك يا موسى*‏}‏ فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر، فكان ذلك- مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال- صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته‏:‏ ‏{‏فلنأتينك‏}‏ أي والإله الأعظم‏!‏ بوعد لا خلف فيه ‏{‏بسحر مثله‏}‏ تأكيداً لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال‏:‏ ‏{‏فاجعل بيننا وبينك موعداً‏}‏ أي من الزمان والمكان ‏{‏لا نخلفه‏}‏ أي لا نجعله خلفنا ‏{‏نحن ولا أنت‏}‏ بأن نقعد عن إتيانه‏.‏

ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال‏:‏ ‏{‏مكاناً‏}‏ وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏سوى *‏}‏ أي عدلاً بيننا، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم، ثم في غمرات النار أحرقهم، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال، والخواطر والأحول، ويعرضها على محك الشرع‏:‏ الكتاب والسنة، فما وافق لزمه وما لا تركه‏.‏

ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما، اختاره عليه السلام لذلك، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال موعدكم‏}‏ أي الموصوف ‏{‏يوم الزينة‏}‏ أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل ‏{‏وأن يحشر‏}‏ بناه للمفعول لأن القصد الجمع، لا كونه من معين ‏{‏الناس‏}‏ أي إغراء ولو بكره ‏{‏ضحى*‏}‏ ليستقبل النهار من أوله، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم، والمتكبرين على الحق وأتباعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر ‏{‏فتولى فرعون‏}‏ عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله ‏{‏فجمع كيده‏}‏ أي مكره وحيلته وخداعه، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة، حشرهم من كل أوب، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر ‏{‏ثم أتى *‏}‏ للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 67‏]‏

‏{‏قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ‏(‏61‏)‏ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ‏(‏62‏)‏ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ‏(‏63‏)‏ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ‏(‏64‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ‏(‏65‏)‏ قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ‏(‏66‏)‏ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ‏(‏67‏)‏‏}‏

ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قال لهم‏}‏ أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم ‏{‏موسى‏}‏ حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم‏:‏ ‏{‏ويلكم‏}‏ يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته ‏{‏لا تفتروا‏}‏ أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء ‏{‏على الله كذباً‏}‏ بجعلكم آياته العظام الثابتة سحراً لا حقيقة له، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال، وإشراككم به؛ وسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فيسحتكم‏}‏ أي يهلككم؛ قال الرازي‏.‏ وأصله الاستئصال ‏{‏بعذاب‏}‏ أي عظيم تظهر به خيبتكم ‏{‏وقد خاب‏}‏ كل ‏{‏من افترى *‏}‏ أي تعمد كذباً على الله أو على غيره ‏{‏فتنازعوا‏}‏ أي تجاذب السحرة ‏{‏أمرهم بينهم‏}‏ لما سمعوا هذا الكلام، علماً منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه إلا من الله معه ‏{‏وأسروا النجوى*‏}‏ أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه، فإن النجوى الإسرار، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوارهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع، فكأنه قيل‏:‏ ما قالوا حين انتهى تنازعهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقناً منه وتقرباً إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعهما وإن غلبا، لأنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر‏:‏ ‏{‏إن هذان‏}‏ أي موسى وهارون وقرئ‏:‏ هاذان- بالألف، على لغة من يجعل ألف المثنى لازمة في كل حال؛ قال أبو حيان‏:‏ وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذره‏.‏ ‏{‏لساحران‏}‏ لا شك في ذلك منهما ‏{‏يريدان‏}‏ أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها ‏{‏أن يخرجاكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏من أرضكم‏}‏ هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً عن سلف ‏{‏بسحرهما‏}‏ الذي أظهراه لكم وغيره‏.‏

ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا‏:‏ ‏{‏ويذهبا بطريقتكم‏}‏ هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم، حتى بلغ أمرها الغاية، وبدينكم الذي به قوامكم ‏{‏المثلى*‏}‏ أي التي هي أمثل الطرق، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكم، ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض ‏{‏فأجمعوا كيدكم‏}‏ أي لا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا ‏{‏ثم ائتوا‏}‏ إلى لقاء موسى وهارون لمباراتهما ‏{‏صفاً‏}‏ أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا، والاصطفاف أهيب في صدور الرائين‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن أتى كذلك فقد استعلى، عطف عليه قولهم محققاً‏:‏ ‏{‏وقد أفلح اليوم‏}‏ في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط ‏{‏من استعلى*‏}‏ أي غلب ووجد علوه، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفاً، فلما أتوا وكانوا خبيرين بأن يقولوا ما ينفعهم في مناصبة موسى عليه السلام، استؤنف الإخبار عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي السحرة منادين، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر‏:‏ ‏{‏يا موسى إما أن تلقي‏}‏ ما معك مما تناظرنا به أولاً ‏{‏وإما أن نكون‏}‏ أي نحن ‏{‏أول من ألقى*‏}‏ ما معه ‏{‏قال‏}‏ أي موسى مقابلاً لأدبهم بأحسن منه ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر فيكون العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم فلا يكون بعدها شك‏:‏ لا ألقي أنا أولاً ‏{‏بل ألقوا‏}‏ أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة، لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تعبير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ‏{‏فإذا حبالهم وعصيهم‏}‏ التي ألقوها ‏{‏يخيل إليه‏}‏ وهو صفينا تخييلاً مبتدئاً ‏{‏من سحرهم‏}‏ الذي كانوا قد فاقوا به أهل الأرض ‏{‏أنها‏}‏ لشدة اضطربها ‏{‏تسعى*‏}‏ سعياً، وإذا كان هذا حاله مع أنه أثبت الناس بصراً وأنفذهم بصيرة فما ظنك بغيرة‏!‏ ‏{‏فأوجس‏}‏ أي أضمر بسبب ذلك، وحقيقته‏:‏ أوقع واجساً أي خاطراً وضميراً‏.‏

ولما كان المقام لإظهار الخوارق على يديه، فكان ربما فهم أنه أوقعه في نفس أحد غيره، كان المقام للاهتمام بتقديم المتعلق، فقال لذلك لا لمراعاة الفواصل‏:‏ ‏{‏في نفسه‏}‏ أي خاصة، وقدم ما المقام له والاهتمام به فقال‏:‏ ‏{‏خيفة موسى*‏}‏ مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك على ما هو طبع البشر، وللنظر إلى الطبع عبر بالنفس لا القلب مثلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ‏(‏68‏)‏ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ‏(‏69‏)‏ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ‏(‏70‏)‏ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ‏(‏71‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك، وكان المعلوم أن الله معه، وأنه جدير بإبطال سحرهم، استأنف الخبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏قلنا‏}‏ بما لنا من العظمة‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏ من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه‏:‏ ‏{‏إنك أنت‏}‏ أي خاصة ‏{‏الأعلى*‏}‏ أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها ‏{‏وألق‏}‏ وأشار إلى يمن العصا وبركتها بقوله‏:‏ ‏{‏ما في يمينك‏}‏ أي من هذه العصا التي قلنا لك أول ما شرفناك بالمناجاة ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏ ثم أريناك منها ما أريناك ‏{‏تلقف‏}‏ بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك- بما أشار إليه حذف التاء ‏{‏ما صنعوا‏}‏ أي فعلوه بعد تدرب كبير عليه وممارسة طويلة؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنما‏}‏ أي أن الذي ‏{‏صنعوا‏}‏ أي أن صنعهم مما رأيته وهالنا أمُره‏.‏

ولما كان المقصود تحقير هذا الجيش أفرد ونكر لتنكير المضاف وتحقيره فقال‏:‏ ‏{‏كيد ساحر‏}‏ أي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، سواء كان واحداً أو جمعاً، ولو جمع لخيل أن المقصود العدد، ولما كان التقدير‏:‏ فهم لا يفلحون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يفلح الساحر‏}‏ أي هذا الجنس ‏{‏حيث أتى*‏}‏ أي كيف ما سار وأيّه ‏{‏سلك‏}‏ فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له، فامتثل ما أمره به ربه من إلقاء عصاه، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية‏:‏ ‏{‏فألقي السحرة‏}‏ أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر ‏{‏سجداً‏}‏ على وجوههم؛ قال الأصبهاني‏:‏ سبحان الله‏!‏ ما أعظم شأنهم‏!‏ ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة الشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين‏.‏ فكأن قائلاً قال‏:‏ هذا فعلهم فما قالوا‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قالوا آمنا‏}‏ أي صدقنا‏.‏

ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال‏:‏ ‏{‏برب هارون وموسى*‏}‏ بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس، وقبائلهم أقل القبائل، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج

«لا يشكر الله من لم يشكر الناس» وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً، فكانوا أول النهار سحرة، وآخر شهداء بررة، وهذه الآية في أمثالها من أي هذه السور وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول‏:‏ إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع، وتبعه جمع من المتأخرين تقليداً، وقد عاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين قال‏:‏ «سجع كسجع الجاهلية أو قال‏:‏ الكهان» وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون، ويؤيد ذلك أنه قال هنا ‏{‏إنا رسولا‏}‏ وفي الشعراء ‏{‏رسول‏}‏، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيان في سورة فاطر من النهر‏:‏ لا يقال في شيء من القرآن‏:‏ أنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن‏:‏ ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، ثم رد على المخالف بأن قال‏:‏ والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً لأن السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع‏.‏ وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ‏.‏ ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره‏.‏ ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد- رحمه الله، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جداً في هذا المرام‏.‏

ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي فرعون للسحرة منكراً عليهم، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام‏:‏ ‏{‏آمنتم‏}‏ أي بالله ‏{‏له‏}‏ أي مصدقين أو متبعين لموسى ‏{‏قبل أن ءاذن لكم‏}‏ في ذلك، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم‏:‏ ‏{‏إنه لكبيركم‏}‏ أي في العلم ‏{‏الذي علمكم السحر‏}‏ فلم تتبعوه لظهور الحق، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق‏.‏

ولما خيلهم، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال‏:‏ ‏{‏فلأقطعن‏}‏ أي سبب ما فعلتم ‏{‏أيديكم‏}‏ على سبيل التوزيع ‏{‏وأرجلكم‏}‏ أي من كلٍّ يداً ورجلاً ‏{‏من خلاف‏}‏ فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى ‏{‏ولأصلبنكم‏}‏ وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال‏:‏ ‏{‏في جذوع النخل‏}‏ تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم ‏{‏ولتعلمن أينا‏}‏ أنا أورب موسى الذي قال‏:‏ إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى ‏{‏أشد عذاباً وأبقى*‏}‏ أي من جهة العذاب، أي أينا عذابه أشد وأطول زماناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 76‏]‏

‏{‏قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏72‏)‏ إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏73‏)‏ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏74‏)‏ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ‏(‏75‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏76‏)‏‏}‏

ولما علموا ما خيل به على عقول الضعفاء، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قالوا لن نؤثرك‏}‏ أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل ‏{‏على ما جاءنا‏}‏ به موسى عليه السلام ‏{‏من البينات‏}‏ التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها‏.‏ ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق، ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا‏:‏ ‏{‏والذي‏}‏ أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي ‏{‏فطرنا‏}‏ أي ابتدأ خلقنا، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم‏.‏

ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله، قالوا‏:‏ ‏{‏فاقض ما‏}‏ أي فاصنع في حكمك الذي ‏{‏أنت قاض‏}‏ ثم عللوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏إنما تقضي‏}‏ أي تصنع بنا ما تريد أن قدرك الله عليه ‏{‏هذه الحياة الدنيا*‏}‏ أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقب راحة، ونحن لانخاف إلا ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد، فذاك هو الشديد العذاب، الدائم الجزاء بالثواب أو العقاب، ولعلهم أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق‏.‏ ثم عللوا تعظيمهم لله واستهانتهم بفرعون بقولهم‏:‏ ‏{‏إنا ءامنا بربنا‏}‏ أي المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره ‏{‏ليغفر لنا‏}‏ من غير نفع يلحقه بالفعل أو ضرر يدركه بالترك ‏{‏خطايانا‏}‏ التي قابلنا بها إحسانه‏:‏ ثم خصوا بعد العموم فقالوا‏:‏ ‏{‏وما أكرهتنا عليه‏}‏ وبينوا ذلك بقولهم‏:‏ ‏{‏من السحر‏}‏ لتعارض به المعجزة، فإن كان الأكمل لنا عصيانك فيه لأن الله أحق بأن يتقى‏.‏ روي أن الذي كان من القبط من السحرة اثنان فقط، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا يقدر على معارضته، فأبى عليهم وأكرههم على المعارضة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة، عطفوا عليه مستحضرين لكماله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الجامع لصفات الكمال ‏{‏خير‏}‏ جزاء منك فيما وعدتنا به ‏{‏وأبقى*‏}‏ ثواباً وعقاباً، والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى ‏{‏أنتما ومن اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏- قاله أبو حيان‏.‏ وسيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم؛ ثم عللوا هذا الختم بقولهم‏:‏ ‏{‏إنه من يأت ربه‏}‏ أي الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه ‏{‏مجرماً‏}‏ أي قاطعاً ما أمره به أن يوصل ‏{‏فإن له جهنم‏}‏ دار الإهانة ‏{‏لا يموت فيها‏}‏ أبداً مع شدة عذابها‏.‏

بخلاف عذابك الذي إن اشتد أمات فزال سريعاً، وإن خف لم يُخِفْ وكان آخره الموت وإن طال ‏{‏ولا يحيى *‏}‏ فيها حياة ينتفع بها ‏{‏ومن يأته‏}‏ أي ربه الذي أوجده ورباه ‏{‏مؤمناً‏}‏ أي مصدقاً به‏.‏

ولما قدم أن مجرد الكفر يوجب العذاب‏.‏ كان هذا محلاًّ يتوقع فيه الإخبار عن الإيمان بمثل ذلك فقال‏:‏ ‏{‏قد‏}‏ أي ضم إلى ذلك تصديقاً لإيمانه أنه ‏{‏عمل‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏الصالحات‏}‏ التي أمر بها فكأن صادق الإيمان مستلزم لصالح الأعمال ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏لهم‏}‏ أي لتداعي ذواتهم بمقتضى الجبلة ‏{‏الدرجات العلى*‏}‏ التي لا نسبة لدرجاتك التي وعدتنا بها منها؛ ثم بينوها بقولهم‏:‏ ‏{‏جنات عدن‏}‏ أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى؛ ثم بين بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة‏.‏

ولما أرشد السياق والعطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير‏:‏ ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين، لتزكيتهم أنفسهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وذلك جزاء‏}‏ كل ‏{‏من تزكى*‏}‏ أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول هذه السورة إذ كانوا مستضعفين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى ‏(‏77‏)‏ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ‏(‏78‏)‏ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ‏(‏79‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ‏(‏80‏)‏ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ‏(‏81‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه استكبار فرعون المدعى في قوله ‏{‏فكذب وأبى‏}‏ وختمه سبحانه بأنه يهلك العاصي كائناً من كان، وينجي الطائع، أتبع ذلك شاهداً محسوساً عليه كفيلاً ببيان أنه لم يغن عن فرعون شيء من قوته ولا استكباره، فقال عاطفاً على «ولقد أريناه آياتنا»‏:‏ ‏{‏ولقد أوحينا‏}‏ أي بعظمتنا لتسهيل ما يأتي من الأمور الكبار ‏{‏إلى موسى‏}‏ غير مكترثين لشيء من أقوال فرعون ولا أفعاله، وهذا الإيحاء بعد ما تقدم من أمر السحرة بمدة مديدة جرت فيها خطوب طوال كانت بسببها الآيات الكبار، وكأنها حذفت لما تدل عليه من قساوة القلوب، والمراد هنا الانتهاء لما تقدم من مقصود السورة ‏{‏أن أسر‏}‏ أي ليلاً، لأن السري سير الليل؛ وشرفهم بالإضافة إليه فقال‏:‏ ‏{‏بعبادي‏}‏ أي بني إسرائيل الذين لفت قلب فرعون حتى أذن في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم أو يكف عنهم العذاب، فاقصد بهم ناحية بحر القلزم ‏{‏فاضرب لهم‏}‏ أي اعمل بضرب البحر بعصاك، ولذلك سماه ضرباً‏.‏

ولما كان ضرب البحر بالعصا سبباً لوجود الطريق الموصوفة، أوقع الفعل عليها فقال‏:‏ ‏{‏طريقاً في البحر‏}‏ ووصفها بالمصدر مبالغة فقال‏:‏ ‏{‏يبساً‏}‏ حال كونها أو كونك ‏{‏لا تخاف‏}‏ والمراد بها الجنس، فإنه كان لكل سبط طريقاً ‏{‏دركاً‏}‏ أي أن يدركك شيء من طغيان البحر أو بأس العدو أو غير ذلك‏.‏

ولما كان الدرك مشتركاً بين اللحاق والتبعة، أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تخشى*‏}‏ أي شيئاً غير ذلك أصلاً إنفاذاً لأمري وإنقاذاً لمن أرسلتك لاستنقاذهم، وسوقه على هذا الوجه من إظهار القدرة والاستهانة بالمعاند مع كبريائه ومكنته استدلالاً شهودياً على ما قرر أول السورة من شمول القدرة وإحاطة العلم للبشارة بإظهار هذا الدين بكثرة الأتباع وإبارة الخصوم والإسعاد برد الأضداد وجعل بغضهم وداً، وإن كانوا قوماً لداً؛ ثم أتبع ذلك قوله عطفاً على ما تقديره‏:‏ فبادر امتثال الأمر في الإسراء وغيره‏:‏ ‏{‏فأتبعهم‏}‏ أي أوجد التبع والمسير وراء بني إسرائيل على ذلهم وضعفهم ‏{‏فرعون بجنوده‏}‏ على كثرتهم وقوتهم وعلوهم وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه ‏{‏فغشيهم‏}‏ أي فرعون وقومه ‏{‏من اليم‏}‏ أي البحر الذي من شأنه أن يؤم؛ وأوجز فهول فقال‏:‏ ‏{‏ما غشيهم *‏}‏ أي أمر لا تحتمل العقول وصفه حق وصفه، فأهلك أولهم وآخرهم؛ وقطع دابرهم، لم يبق منهم أحداً، وما شاكت أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة ‏{‏وأضل فرعون‏}‏ على تحذلقه ‏{‏قومه‏}‏ مع ما لهم من قوة الأجساد ومعانيها‏.‏

ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال‏:‏ ‏{‏وما هدى*‏}‏ أي ما وقع منه شيء من الهداية، لا لنفسه ولا لأحد من قومه، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي‏.‏

ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده، قال تعالى شافياً لهذا الغليل، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم لأجل أبيهم‏.‏

ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال‏:‏ ‏{‏قد أنجيناكم‏}‏ بقدرتنا الباهرة ‏{‏من عدوكم‏}‏ الذي كنتم أحقر شيء عنده‏.‏

ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال‏:‏ ‏{‏وواعدناكم‏}‏ أي كلكم- كما مضى في البقرة عن نص التوراة- للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا ‏{‏جانب الطور الأيمن‏}‏ أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن‏.‏

ولما بدأ بالمنفعة الدينية، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال‏:‏ ‏{‏ونزلنا عليكم‏}‏ بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم ‏{‏المن والسلوى*‏}‏ لإبقاء أشباحكم، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله‏:‏ ‏{‏كلوا‏}‏ ودل على سعته بقوله‏:‏ ‏{‏من طيبات ما‏}‏ ودل على عظمته بقوله‏:‏ ‏{‏رزقناكم‏}‏ من ذلك ومن غيره‏.‏

ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال‏:‏ ‏{‏ولا تطغوا فيه‏}‏ بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة ‏{‏فيحل‏}‏ أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به- على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً- على قراءة الكسائي بالضم ‏{‏عليكم غضبي‏}‏ فتهلكوا لذلك ‏{‏و‏}‏ كل ‏{‏من يحلل عليه غضبي‏}‏ منكم ومن غيركم ‏{‏فقد هوى*‏}‏ أي كان حاله حال من سقط من علو‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 86‏]‏

‏{‏وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ‏(‏82‏)‏ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ‏(‏83‏)‏ قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ‏(‏84‏)‏ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ‏(‏85‏)‏ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ‏(‏86‏)‏‏}‏

ولما كان الإنسان محل الزلل وإن اجتهد، رجاه واستعطفه بقوله‏:‏ ‏{‏وإني لغفار‏}‏ أي ستار بإسبال ذيل العفو ‏{‏لمن تاب‏}‏ أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه ‏{‏وءامن‏}‏ بكل ما يجب الإيمان به ‏{‏وعمل صالحاً‏}‏ تصديقاً لإيمانه‏.‏

ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو، عبر عنها بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم اهتدى*‏}‏ أي استمر على العمل الصالح متحرياً به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل- كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة، وواعده الكلام بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أن الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك، وأمر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه، وتقدم إليهم في اتباعه والكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه، فزاده عشراً فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل‏.‏

ولما كان ذلك- والله أعلم بما كان، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها، وكان تنجز المواعيد ألذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس، وكان السياق مرشداً حتماً إلى أن التقدير‏:‏ فأتوا إلى الطور لميعادنا، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا، وتعجل موسى صفينا الصعود فيه مبادراً لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه، فقلنا‏:‏ ما أخر قومك عن الأتيان معك‏؟‏ فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أعجلك‏}‏ أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء ‏{‏عن قومك‏}‏ وإن كنت بادرت مبادرة المبالغ في الاسترضاء، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر‏؟‏ ‏{‏يا موسى*‏}‏ فهلا أتيتم جمله وانتظرتم أمراً أمراً جديداً بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه ‏{‏قال‏}‏ موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه‏:‏ ‏{‏هم‏}‏ وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله، قال ابن هبيرة‏:‏ ولم أر أحداً من الأصفياء خاطب ربه بذلك، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم

‏{‏قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86‏]‏ في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه ‏{‏أولاء‏}‏ أي هم في القرب بحيث يسار إليهم، كائنين ‏{‏على أثري‏}‏ أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق، هذا بناء منه على ما كان عهد إليهم، وأكد فيه عليهم‏:‏ ثم اعتذر عن فعله فقال‏:‏ ‏{‏وعجلت‏}‏ أنا بالمبادرة ‏{‏إليك‏}‏ وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ ‏{‏لترضى*‏}‏ عني رضاً أعظم مما كان ‏{‏قال‏}‏ الرب سبحانه‏:‏ ‏{‏فإنا‏}‏ أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا ‏{‏قد فتنا‏}‏ أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة ‏{‏قومك‏}‏ بتعجلك‏.‏

ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده، وإنما كانت في بعضه، أدخل الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏من بعدك‏}‏ أي خالطناهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة باعتبار أن أول إتيانك هو الذي كان سبب الفتنة لزيادة أيام الغيبة بسببه لأنا زدنا في آخر المدة بمقدار ما عجلت به في أولها، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل، فظنوا مرجمات الظنون‏.‏

ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفاً من أكثر من ستمائة ألف، أطلق الضلال على الكل فقال‏:‏ ‏{‏وأضلهم السامري*‏}‏ أي عن طريق الرشد بما سبب لهم‏؟‏ روى النسائي في التفسير من سننه، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض فقال له ربه‏:‏ أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك‏؟‏ ارجع فصم عشراً، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال‏:‏ إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عواريّ وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد النار فأحرقه فقال‏:‏ لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام‏:‏ يا سامري‏!‏ ألا تلقي ما في يدك- وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال‏:‏ أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه الروح، له خوار، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا والله‏!‏ ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة‏:‏ يا سامري‏!‏ ما هذا وأنت أعلم به‏؟‏ قال‏:‏ هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة‏:‏ لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى‏.‏

فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى، وقالت فرقة‏:‏ هذا عمل الشيطان، وليس بربنا، ولن نؤمن به ولن نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به- الحديث‏.‏

ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله‏:‏ ‏{‏فرجع موسى‏}‏ أي لما أخبره ربه بذلك ‏{‏إلى قومه‏}‏ أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه ‏{‏غضبان أسفاً*‏}‏ أي شديد الحزن أو الغضب؛ واستأنف قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ وأنكر عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعدكم ربكم‏}‏ الذي طال إحسانه إليكم ‏{‏وعداً حسناً‏}‏ أي بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم- إلى غير ذلك من إكرامه‏.‏

ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم، مغير للعهود، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت‏:‏

لا أنسينك إن طال الزمان بنا *** وكم حبيب تمادى عهده فنسي

وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم، أنكر طول العهد بقوله، مستأنفاً عما تقديره‏:‏ هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفه عنكم‏:‏ ‏{‏أفطال عليكم العهد‏}‏ أي زمن لطفه بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل الانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر ‏{‏أم أردتم‏}‏ بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق ‏{‏أن يحل عليكم‏}‏ بسبب عبادة العجل ‏{‏غضب من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم، وكلا الأمرين لم يكن، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول‏:‏ إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل ‏{‏فأخلفتم‏}‏ أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم ‏{‏موعدي*‏}‏ في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضربه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحساناً إليكم وإقبالاً عليكم، وكأنه أضاف الموعد إليه أدباً مع الله تعالى وإعظاماً له، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤكد المعين الذي لا شبهة فيه، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة، وأوضحه من البراهين الظاهرة، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد، أو عناد بسوء قصد، وكان من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه، فقال ما معناه‏:‏ أطال عليكم العهد بزيادة عشرة أيام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح‏؟‏ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم‏؟‏ فكانت الآية من الاحتباك‏:‏ ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولاً دليل على حذف العناد ثانياً، وذكر حلول الغضب ثانياً دليل على انتفاء الجناح أولاً، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسبب، وإثبات الغضب- وهو المسبب- أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 94‏]‏

‏{‏قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ‏(‏87‏)‏ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ‏(‏88‏)‏ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ‏(‏89‏)‏ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ‏(‏90‏)‏ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ‏(‏91‏)‏ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ‏(‏92‏)‏ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ‏(‏93‏)‏ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ‏(‏94‏)‏‏}‏

ولما تشوف السامع إلى جوابهم، استأنف ذكره فقال‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏‏:‏ لم يكن شيء من ذلك‏.‏

ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة، عبر عن ذلك بقوله، حكاية عنهم للاعتراف بما قررهم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقدرة، والاعتذار به لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب‏:‏ ‏{‏ما أخلفنا موعدك بملكنا‏}‏ أي لقد صدقت فيما قلت، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا- هذا على قراءة الجماعة بالكسر، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى‏:‏ ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا‏:‏ ولنا سلطان قاهر لأمورنا- على أنهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد، قال في القاموس‏:‏ ملكه يملكه ملكاً مثلثة‏:‏ احتواه قادراً على الاستبداد به، والمعنى أن السامري زين لهم ذلك، ووسوس به الشيطان فما دورا إلا وقد تبعوه حتى كانوا كأنهم يقادون إليه بالسلاسل، وقيل هذا كلام من لم يعبده، اعتذروا بأنهم كانوا قليلاً، لا قدرة لهم على مقاومة من عبده، وهذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم، ولددهم وفسادهم ‏{‏ولكنا‏}‏ كنا ‏{‏حملنا أوزاراً‏}‏ أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام، كما تقدم في الأعراف أن الله أمرهم في التوراة أن يستعيروها من القبط فخربوهم بها، وكأن هذا ما كان خيانة في ذلك الشرع، أو أن الله تعالى أباح لهم ذلك في القبط خاصة ‏{‏من زينة القوم‏}‏ الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط، فقضى لنا أن نقذفها في النار، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك ‏{‏فقذفناها فكذلك‏}‏ أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء ‏{‏ألقى السامري*‏}‏ وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر، ألقى ما كان معه، أما من المال وإما من أثر الرسول، كما مضى ويأتي، وكأن إلقاءه كان آخراً‏.‏

ولما كان خروج التمثال عقب إلقاءه، حعل كأنه المتسبب في ذلك، فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استهجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم‏:‏ ‏{‏فأخرج لهم‏}‏ أي لمن شربه وعبده، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لم يعبد العجل، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له‏.‏

ولما كان شديد الشبه للعجول، قيل‏:‏ ‏{‏عجلاً‏}‏ وقدم قوله‏:‏ ‏{‏جسداً‏}‏ لنعرف أن عجليته صورة لا معنى- على قوله‏:‏ ‏{‏له خوار‏}‏ لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل ‏{‏فقالوا‏}‏ أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو مثل في الغباوة ‏{‏إلهكم وإله موسى * فنسى *‏}‏ أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي- بعدوله عن هذا المكان- موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره، أو نسي أن يذكره لكم‏.‏

ولما كان هذا سبباً للإنكار على من قال هذا، قال‏:‏ ‏{‏أفلا يرون‏}‏ أي أقالوا ذلك‏؟‏ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية ‏{‏أن‏}‏ أي أنه ‏{‏لا يرجع إليهم قولاً*‏}‏ والإله لا يكون أبكم ‏{‏ولا يملك لهم ضراً‏}‏ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفاً من ضره ‏{‏ولا نفعاً*‏}‏ فيقولوا ذلك رجاء له‏.‏

ولما كان الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع، قال عاطفاً على قوله ‏{‏قال يا قوم ألم يعدكم‏}‏ أو على قوله «قالوا ما أخلفنا»‏:‏ ‏{‏ولقد قال لهم هارون‏}‏ أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده‏.‏

ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان، قال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل رجوع موسى، مستعطفاً لهم‏:‏ ‏{‏يا قوم‏}‏ ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم ونظرهم فقال‏:‏ ‏{‏إنما فتنتم‏}‏ أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه ‏{‏به‏}‏ أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة‏.‏ وأكد لأجل إنكارهم فقال‏:‏ ‏{‏وإن ربكم‏}‏ أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان ‏{‏الرحمن‏}‏ وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة، فليس على البر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده‏.‏ ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وارجوا إسباغها بطاعته ‏{‏فاتبعوني‏}‏ بغاية جهدكم في الرجوع إليه ‏{‏وأطيعوا أمري*‏}‏ في دوام الشرف بالخضوع لديه، ودوام الإقبال عليه، بدفع عنكم ضيره، ويفض عليكم خيره‏.‏

ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه، قيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ بفظاظة وجمود‏:‏ ‏{‏لن نبرح عليه‏}‏ أي على هذا العجل ‏{‏عاكفين‏}‏ أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك ‏{‏حتى يرجع إلينا موسى*‏}‏ فدافعهم، فهمّوا به، وكان معظمهم قد ضل، فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئاً، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل، إنما قال له ‏{‏وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ فرأى من الإصلاح اعتزلهم إلى أن يأتي، فلما ذكر ما قال هارون عليه السلام، التفتت النفس إلى علم ما قال له موسى عليه السلام لأنه خليفته عليهم، مع كونه راساً في نفسه، فدفع هذا العناء بقوله، مسقطاً أخذه برأس أخيه لما تقدم من ذكره ويأتي هنا من الدلالة عليه، ولم تدع إليه ضرورة في هذه السورة التي من أعظم مقاصدها الدلالة على تليين القلوب‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى‏:‏ ‏{‏يا هارون‏}‏ أنت نبي الله وأخي ووزيري وخليفتي فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه ‏{‏ما منعك إذ‏}‏ أي حين ‏{‏رأيتهم ضلوا*‏}‏ عن طريق الهدى، واتبعوا سبيل الردى، من اتباعي في سيرتي فيهم من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً، اتباعاً لا تزيغ فيه عما نهجته لك بوجه من الوجوه شيئاً من زيغ، وعبر عن هذا التأكيد بزيادة «لا» في قوله‏:‏ ‏{‏ألاَّ تتبعن‏}‏ كما تقدم غير مرة أن النافي إذا زيد في الكلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد ‏{‏أفعصيت‏}‏ أي أتكبرت عن اتباعي فتسبب عن ذلك أنك عصيت ‏{‏أمري*‏}‏ وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل‏:‏ ما قال له‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة‏:‏ ‏{‏يبنؤم‏}‏ فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه لأنه يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب ‏{‏لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي‏}‏ أي بشعره؛ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إني خشيت أن تقول‏}‏ إن اشتددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال ‏{‏فرقت بين بني إسرائيل‏}‏ بفعلك هذا الذي لم يُجْدِ شيئاً لقلة من كان معك وضعفكم عن ردهم ‏{‏ولم ترقب قولي*‏}‏ ‏{‏اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ ولم تقل وارددهم ولو أدى الأمر إلى السيف، وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم مأموراً بالصفح والحلم والمدافعة باللين عند ضعف الناصر وقلة المعين‏.‏