فصل: تفسير الآيات رقم (101- 104)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏101- 104‏]‏

‏{‏فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏101‏)‏ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏103‏)‏ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

ولما غيَّى ذلك بالبعث فتشوفت النفس إلى ما يكون بعده، وكان قد تقدم أن الناس- بعد أن كانوا أمة واحدة في الاجتماع على ربهم- تقطعوا قطعاً، وتحزبوا أحزاباً، وتعاضدوا بحكم ذلك وتناصروا، قال نافياً لذلك‏:‏ ‏{‏فإذا نفخ‏}‏ أي بأسهل أمر النفخة الثانية وهي نفخة النشور، أو الثالثة للصعق ‏{‏في الصور‏}‏ فقاموا من القبور أو من الصعق ‏{‏فلا أنساب‏}‏ وهي أعظم الأسباب ‏{‏بينهم‏}‏ يذكرونها يتفاخرون بها ‏{‏يومئذ‏}‏ لما دهمهم من الأمر وشغلهم من البأس ولحقهم من الدهش ورعبهم من الهول وعلموا من عدم نفعها إلا ما أذن الله فيه، بل يفر الإنسان من أقرب الناس إليه، وإنما أنسابهم الأعمال الصالحة ‏{‏ولا يتساءلون*‏}‏ أي في التناصر لأنه انكشف لهم أن لا حكم إلا الله وأنه لا تغني نفس عن نفس شيئاً، فتسبب عن ذلك أنه لا نصرة إلا بالأعمال رحم الله بالتيسير لها ثم رحم بقبولها، فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فمن ثقلت موازينه‏}‏ أي بالأعمال المقبولة، ولعل الجمع لأن لكل عمل ميزاناً يعرف أنه لا يصلح له غيره، وذلك أدل على القدرة ‏{‏فأولئك‏}‏ أي خاصة، ولعله جمع للبشارة بكثرة الناجي بعد أن أفرد الدلالة على كثرة الأعمال أو على عموم الوزن لكل فرد ‏{‏هم المفلحون*‏}‏ لأنهم المؤمنون الموصوفون ‏{‏ومن خفت موازينه‏}‏ لإعراضه عن تلك الأعمال المؤسسة على الإيمان ‏{‏فأولئك‏}‏ خاصة ‏{‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ لإهلاكهم إياها باتباعها شهواتها في دار الأعمال وشغلها بأهوائها عن مراتب الكمال؛ ثم علل ذلك أو بينه بقوله‏:‏ ‏{‏في جهنم خالدون*‏}‏ وهي دار لا ينفك أسيرها، ولا ينطفئ سعيرها؛ ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏تلفح‏}‏ أي تغشى بشديد حرها وسمومها ووهجها ‏{‏وجوههم النار‏}‏ فتحرقها فما ظنك بغيرها ‏{‏وهم فيها كالحون*‏}‏ أي متقلصو الشفاه عن الأسنان مع عبوسة الوجوه وتجعدها وتقطبها شغل من هو ممتلئ الباطن كراهية لما دهمه من شدة المعاناة وعظيم المقاساة في دار التجهم، كما ترى الرؤس المشوية، ولا يناقض نفي التساؤل هنا إثباته في غيره لأنه في غير تناصر بل في التلاوم والتعاتب والتخاصم على أن المقامات في ذلك اليوم طويلة وكثيرة، فالمقالات والأحوال لأجل ذلك متباينة وكثيرة، وسيأتي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سورة الصافات نحو ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 110‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏105‏)‏ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ‏(‏106‏)‏ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ‏(‏107‏)‏ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ ‏(‏108‏)‏ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏109‏)‏ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

ولما جرت العادة بأن المعذب بالفعل يضم إليه القيل، أجيب من قد يسأل عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ألم‏}‏ أي يقال لهم في تأنيبهم وتوبيخهم‏:‏ ألم ‏{‏تكن آياتي‏}‏ التي انتهى عظمها إلى أعلى المراتب بإضافتها إليّ‏.‏ ولما كان مجرد ذكرها كافياً في الإيمان، نبه على ذلك بالبناء للمفعول‏:‏ ‏{‏تتلى عليكم‏}‏ أي تتابع لكم قراءتها في الدنيا شيئاً فشيئاً‏.‏ ولما كانت سبباً للإيمان فجعلوها سبباً للكفران، قال‏:‏ ‏{‏فكنتم‏}‏ أي كوناً أنتم عريقون فيه ‏{‏بها تكذبون*‏}‏ وقدم الظرف للإعلام بمبالغتهم في التكذيب؛ ثم استأنف جوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قالوا ربنا‏}‏ أيها المسبغ علينا نعمه ‏{‏غلبت علينا شقوتنا‏}‏ أي أهواؤنا التي قادتنا إلى سوء الأعمال اليت كانت سبباً ظاهراً للشقاوة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فكنا معها كالمأسورين، تؤزنا إليها الشياطين أزاً، عطف عليه قوله ‏{‏وكنا‏}‏ أي بما جبلنا عليه ‏{‏قوماً ضالين*‏}‏ في ذلك عن الهدى، أقوياء في موجبات الشقوة، فكان سبباً للضلال عن طريق السعادة‏.‏

ولما تضمن هذا الإقرار الاعتذار، وكان ذلك ربما سوغ الخلاص، وصلوا به قولهم‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ يا من عودنا بالإحسان ‏{‏أخرجنا منها‏}‏ أي النار تفضلاً منك على عادة فضلك، وردّنا إلى دار الدنيا لنعمل ما يرضيك ‏{‏فإن عدنا‏}‏ إلى مثل تلك الضلالات ‏{‏فإنا ظالمون*‏}‏ فاستؤنف جوابهم بأن ‏{‏قال‏}‏ لهم كما يقال للكلب‏:‏ ‏{‏اخسئوا‏}‏ أي انزجروا زجر الكلب وانطردوا عن مخاطبتي ساكتين سكوت هوان ‏{‏فيها‏}‏ أي النار ‏{‏ولا تكلمون*‏}‏ أصلاً، فإنكم لستم أهلاً لمخاطبتي، لأنكم لم تزالوا متصفين بالظلم، ومنه سؤالكم هذا المفهم لأن اتصافكم به لا يكون إلا على تقدير عودكم بعد إخراجكم‏.‏

ولما كانت الشماتة أسر السرور للشامت وأخزى الخزي للمشموت به، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنه كان‏}‏ أي كوناً ثابتاً ‏{‏فريق‏}‏ أي ناس استضعفتموهم فهان عليكم فراقهم لكم وفراقكم لهم وظننتم أنكم تفرقون شملهم ‏{‏من عبادي‏}‏ أي الذين هم أهل للإضافة إلى جنابي لخلوصهم عن الأهواء ‏{‏يقولون‏}‏ مع الاستمرار‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ‏{‏آمنا‏}‏ أي أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل لوجوب ذلك علينا لأمرك لنا به‏.‏

ولما كان عظم المقام موجباً لتقصير العابد، وكان الاعتراف بالتقصير جابراً له قالوا‏:‏ ‏{‏فاغفر لنا‏}‏ أي استر بسبب إيماننا عيوبنا التي كان تقصيرنا بها ‏{‏وارحمنا‏}‏ أي افعل بنا فعل الراحم من الخير الذي هو على صورة الحنو والشفقة والعطف‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأنت خير الغافرين، فإنك إذا سترت ذنباً أنسيته لكل أحد حتى للحفظة، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأنت خير الراحمين*‏}‏ لأنك تخلص مَنْ رحمته من كل شقاء وهوان، بإخلاص الإيمان، والخلاص من كل كفران‏.‏

ولما تسبب عن إيمان هؤلاء زيادة كفران أولئك قال‏:‏ ‏{‏فاتخذتموهم سخرياً‏}‏ أي موضعاً للهزء والتلهي والخدمة لكم، قال الشهاب السمين في إعرابه‏:‏ والسخرة- بالضم‏:‏ الاستخدام، وسخريا- بالضم منها والسخر بدون هاء- الهزء والمكسور منه يعني على القراءتين وفي النسبة دلالة على زيادة قوة في الفعل كالخصوصية والعبودية ‏{‏حتى أنسوكم‏}‏ أي لأنهم كانوا السبب في ذلك بتشاغلكم بالاستهزاء بهم واستبعادهم ‏{‏ذكري‏}‏ أي أن تذكروني فتخافوني بإقبالكم بكليتكم على ذلك منهم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فتركتموه فلم تراقبوني في أوليائي، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وكنتم‏}‏ أي بأخلاق هي كالجبلة ‏{‏منهم‏}‏ أي خاصة ‏{‏تضحكون*‏}‏ كأنهم لما صرفوا قواهم إلى الاستهزاء بهم عد ضحكهم من غيرهم عدماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 113‏]‏

‏{‏إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏111‏)‏ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ‏(‏112‏)‏ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

ولما تشوفت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم، قال‏:‏ ‏{‏إني جزيتهم‏}‏ أي مقابلة على عملهم ‏{‏اليوم بما صبروا‏}‏ أي على عبادتي، ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم كما كما شغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم، فوزَهم دونكم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏أنهم هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الفائزون*‏}‏ أي الناجون الظافرون بالخير بعد الإشراف على الهلكة، وغير العبارة لإفادة الاختصاص والوضوح والرسوخ، وكسر الهمزة حمزة والكسائي على الاستئناف‏.‏

ولما كان الفائز- وهو الظافر- من لم يحصل له بؤس في ذلك الأمر الذي فاز به، وكان قد أشار سبحانه بحرف الغاية وما شاكله إلى أنه مد لأهل الشقاء في الدنيا في الأعمار والأرزاق حتى استهانوا بعبادة السعداء، فكان ربما قيل‏:‏ إن أعداءهم فازوا بالاستهزاء بهم والرفعة عليهم في حال الدنيا، وكان سبحانه قد أسلف ما يرد ذلك من الإخبار بأنه خلدهم في النار وأعرض عنهم وزجرهم عن كلامه، وكان أنعم أهل الدنيا إذا غمس في النار غمسة ثم سئل عن نعيمه قال‏:‏ ما رأيت نعيماً قط، فكان ذلك محزاً لتقريع الأشقياء بسبب تضيع أيامهم وتنديمهم عليها‏.‏ تشوف السامع إلى أنه هل يسألهم عن تنعيمه لهم في الدنيا الذي كان جديراً منهم بالشكر فقابلوه بالكفر والاستهزاء بأوليائه‏؟‏ فأجاب تشوفه ذلك مجهلاً لهم ومندماً ومنبهاً على الجواب أن فوزهم في الدنيا- لقلته التي هي أحقر من قطرة في جنب بحر- عدم، بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ تأسيفاً على ما أضاعوا من عبادة يسيرة تؤرثهم سعادة لا انقضاء لها وارتكبوا من لذة قليلة أعقبتهم بؤساً لا آخر له- هذا على قراءة الجماعة، وبين سبحانه بقراءة ابن كثير وحمزة والكسائي أن القول بواسطة بعض عباده الذين أقامهم لتعذيبهم إعراضاً عنهم تحقيقاً لما أشار إليه ‏{‏ولا تكلمون‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي يا من أقمناه للانتقام ممن أردنا أي لهؤلاء الذين غرتهم الحياة الدنيا على ما يرون من قصر مدتها ولعبها بأهلها فكفروا بنا واستهزؤوا بعبادنا‏:‏ ‏{‏كم لبثتم في الأرض‏}‏ على تلك الحال التي كنتم تعدونها فوزاً ‏{‏عدد سنين*‏}‏ أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، ولعله عبر بما منه الإسنات الذي معناه القحط إشارة إلى أن أيام الدنيا ضيقة حرجة وإن كان فيها سعة، ولا سيما للكفرة بكفرهم وخبثهم ومكرهم الذي جرهم إلى أضيق الضيق وأسوأ العيش ‏{‏قالوا‏}‏ استقصاراً له في جنب ما رأوا من العذاب واستنقاذاً لأنفسهم ظناً أن مدة لبثهم في النار تكون بمقدار مكثهم في الدنيا‏:‏ ‏{‏لبثنا يوماً‏}‏ ولعلهم ذكروا العامل تلذذاً بطول الخطاب، أو تصريحاً بالمراد دفعاً للبس والارتياب، ثم زادوا في التقليل فقالوا‏:‏ ‏{‏أو بعض يوم‏}‏‏.‏

ولما كان المكرة في الدنيا إذا أرادوا تمشية كذبهم قالوا لمن أخبروه فتوقف في خبرهم‏:‏ سل فلاناً، إيثاقاً بإخبارهم، وستراً لعوارهم، جروا على ذلك تمادياً منهم في الجهل بالعليم القدير في قولهم‏:‏ ‏{‏فاسأل‏}‏ أي لتعلم صدق خبرنا أو بسبب ترددنا في العلم بحقيقة الحال لتحرير حقيقة المدة ‏{‏العادين*‏}‏ ويحتمل أيضاً قصد الترقيق عليهم بالإشارة إلى أن ما هم فيه من العذاب شاغل لهم عن أن يتصوروا شيئاً حاضراً محسوساً، فضلاً عن أن يكون ماضياً، فضلاً عن أن يكون فكرياً، فكيف إن كان حساباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 118‏]‏

‏{‏قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏114‏)‏ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ‏(‏115‏)‏ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ‏(‏116‏)‏ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ‏(‏117‏)‏ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

ولما كان ذلك على تقدير تسليمه لا ينفعهم لأن الجزاء بالعذاب على عزمهم على التمادي في العناد على مرّ الآباد، المصدق منهم بالانهماك في الفساد، أجابهم إلى قصدهم في عدهم بعبارة صالحة صادقة على مدة لبثهم طال أو قصر، بقوله على طريق الاستئناف لمن تشوف إلى معرفة جوابهم‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي الله على قراءة الجماعة، وبينت قراءة حمزة والكسائي أن إسناد القول إليه سبحانه مجاز عن قول بعض عباده العظماء فقال على طريق الأول‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الذين وقع الإعراض عنهم ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏لبثتم‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏إلا قليلاً‏}‏ أي هو من القلة بحيث لا يسمى بل هو عدم ‏{‏لو أنكم كنتم‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة ‏{‏تعلمون*‏}‏ أي في عداد من يعلم في ذلك الوقت، لما آثرثم الفاني على الباقي، ولأقبلتم على ما ينفعكم، وتركتم الخلاعة التي لا يرضاها عاقل، ولا يكون على تقدير الرضا بفعلها إلا بعد الفراغ من المهم، ولكنكم كنتم في عداد البهائم، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين الذين هم الوارثون على الشكر على ما منحهم من السرور بإهلاك أعدائهم وإيراثهم أرضهم وديارهم، مع إعزازهم والبركة في أعمارهم، بعد إراحتهم منهم في الدنيا، ثم بإدامة سعادتهم في الآخرة وشقاوة أعدائهم‏.‏

ولما كان حالهم في ظنهم أن لا بعث، حتى اشتغلوا بالفرح، والبطر والمرح، والاستهزاء بأهل الله، حال من يظن العبث على الله الملك الحق المبين، سبب عن ذلك عطفاً على قوله ‏{‏فاتخذتموهم سخرياً‏}‏ إنكاره عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أفحسبتم‏}‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على مقدر نحو‏:‏ أحسبتم أنا نهملكم فلا ننصف مظلومكم من ظالمكم، فحسبتم ‏{‏أنما خلقناكم‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ‏{‏عبثاً‏}‏ أي عابثين أو للعبث منا أو منكم، لا لحكمة إظهار العدل والفضل، حتى اشغلتم بظلم أنفسكم وغيركم؛ قال أبو حيان‏:‏ والعبث‏:‏ اللب الخالي عن فائدة‏.‏ ‏{‏وأنكم‏}‏ أي وحسبتم أنكم ‏{‏إلينا‏}‏ أي خاصة ‏{‏لا ترجعون*‏}‏ بوجه من الوجوه لإظهار القدرة والعظمة في الفصل، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو يعلى الموصلي في الجزء الرابع والعشرين من مسنده والبغوي في تفسيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رقى رجلاً مصاباً بهذه الآية إلى آخر السورة في أذنيه فبرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفسي بيده‏!‏ لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال» وفي سندهما ابن لهيعة‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وروى أبو نعيم عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث عن أبيه رضي الله عنه، قال‏:‏ بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا ‏{‏أفحسبتم‏}‏- الآية، قال‏:‏ فقرأناها فغنمنا وسلمنا‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ليس الأمر كما حسبتم، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فتعالى الله‏}‏ أي علا الذي له الجلال والجمال علواً كبيراً عن العبث؛ ثم وصفه بما ينافي العبث فقال‏:‏ ‏{‏الملك‏}‏ أي المحيط بأهل مملكته علماً وقدرة وسياسة، وحفظاً ورعاية‏.‏

ولما كان بعض ملوك الدنيا قد يفعل ما ينافي شيم الملوك من العبث بما فيه من الباطل، أتبع ذلك بصفة تنزهه عنه فقال‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏‏.‏

أي الذي لا تطرق للباطل إليه في شيء من ذاته ولا صفاته، فلا زوال له ولا لملكه فأنّى يأتيه العبث‏.‏

ولما كان الحق من حيث هو قد يكون له ثان‏.‏ نفى ذلك في حقه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ فلا يوجد له نظير أصلاً في ذات ولا صفة، ومن يكون كذلك يكون حائزاً لجميع أوصاف الكمال، وخلال الجلال والجمال، متعالياً عن سمات النقص، والعبث من أدنى صفات النقص، لخلوه عن الحكمة التي هي أساس الكمال؛ ثم زاد في التعيين والتأكيد للتفرد بوصفه بصفة لا يدعيها غيره فقال‏:‏ ‏{‏رب العرش‏}‏ أي السرير المحيط بجميع الكائنات، العالي عليها علواً لا يدانيه شيء؛ ثم وصف العرش لأنه في سياق الحكم بالعدل والتنزه عن العبث بخلاف سياق براءة والنمل فإنه للقهر والجبروت بقوله‏:‏ ‏{‏الكريم*‏}‏ أي الذي تنزل منه الخيرات الحاصلة للعباد، مع شرف جوهره، وعلى رتبته، ومدحه أبلغ مدح لصاحبه، والكريم من ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها وتنزه عن كل دناءة؛ قال القزاز‏:‏ وأصل الكرم في اللغة الفضل والرفعة‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فمن دعا الله وحده فأولئك هم المفلحون الوارثون في الدارين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يدع مع الله‏}‏ أي الملك الذي كفوء له لإحاطته بجميع صفات الكمال ‏{‏إلهاً‏}‏ ولما كانوا لتعنتهم ينسبون الداعي له سبحانه باسمين أو أكثر إلى الشرك، قيد بقوله‏:‏ ‏{‏آخر‏}‏ ثم أيقظ من سنة الغفلة، ونبه على الاجتهاد والنظر في أيام المهلة، بقول لا أعدل منه ولا أنصف فقال‏:‏ ‏{‏لا برهان له‏}‏ ولما كان المراد ما يسمى برهاناً ولو على أدنى الوجوه الكافية، عبر بالباء سلوكاً لغاية الإنصاف دون «على» المفهمة للاستعلاء بغاية البيان فقال‏:‏ ‏{‏به‏}‏ أي بسبب دعائه فإنه إذا اجتهد في إقامة برهان على ذلك لم يجد، بل وجد البراهين كلها قائمة على نفي ذلك، داعية إلى الفلاح باعتقاد التوحيد والصلاح، هذا المراد، لا أنه يجوز أن يقوم على شيء غيره برهان ‏{‏فإنما حسابه‏}‏ أي جزاؤه الذي لا تمكن زيادته ولا نقصه ‏{‏عند ربه‏}‏ الذي رباه، ولم يربه أحد سواه، وغمره بالإحسان، ولم يحسن إليه أحد غيره، الذي هو أعلم بسريرته وعلانيته منه نفسه، فلا يخفى عليه شيء من أمره‏.‏

ولما أفهم كون حسابه عند هذا المحسن أحد أمرين‏:‏ إما الصفح بدوام الإحسان، وإما الخسران بسبب الكفران، قال على طريق الجواب لمن يسأل عن ذلك‏:‏ ‏{‏إنه لا يفلح‏}‏ ووضع ‏{‏الكافرون*‏}‏ موضع ضميره تنبيهاً على كفره وتعميماً للحكم، فصار أول السورة وآخرها مفهماً لأن الفلاح مختص به المؤمنون‏.‏

ولما كان الأمر كذلك، أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد في إنقاذ عباده حتى بالدعاء لله في إصلاحهم ليكون الختم بالرحمة للمؤمنين، كما كان الافتتاح بفلاحهم، فقال عاطفاً على قوله ‏{‏ادفع بالتي هي أحسن‏}‏ فإنه لا إحسان أحسن من الغفران، أو على معنى ‏{‏قال كم لبثتم‏}‏ الذي بينته قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي بالأمر‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏، أو يكون التقدير‏:‏ فأخلص العبادة له ‏{‏وقل‏}‏ لأجل أن أحداً لا يقدره حق قدره‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أيها المحسن إليّ ‏{‏اغفر وارحم‏}‏ أي أكثر من تعليق هاتين الصفتين في أمتي لتكثرها، فإن في ذلك شرفاً لي ولهم، فأنت خير الغافرين ‏{‏وأنت خير الرّاحمين*‏}‏ فَمنْ رحمته أفلح بما توفقه له من امتثال ما أشرت إليه أول السورة، فكان من المؤمنين، فكان من الوارثين الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون، فقد انطبق على الأول هذا الآخر بفوز كل مؤمن، وخيبة كل كافر، نسأل الله تعالى أن يكون لنا أرحم راحم وخير غافر، إنه المتولي للسرائر، والمرجو لإصلاح الضمائر- آمين‏.‏

سورة النور

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏1‏)‏ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏سورة‏}‏ أي عظيمة؛ ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنويهاً للتعظيم بقوله‏:‏ ‏{‏أنزلناها‏}‏ أي بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة ‏{‏وفرضناها‏}‏ أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها ‏{‏وأنزلنا فيها‏}‏ بشمول علمنا ‏{‏آيات‏}‏ من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها، مبرهناً عليها ‏{‏بينات‏}‏ لا إشكال فيها رحمة منا لكم، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا ‏{‏ألم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 105‏]‏ ونحوه، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكرون*‏}‏ أي لتكونوا- إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص المحذرة- على رجاء- عند من لا يعلم العواقب- من أن تتذكروا ولو نوعاً من التذكر- كما أشار إليه الإدغام- بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى، فتقبلوا على جميع أوامره، وتنتهوا عن زواجره، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته، وتتذكروا أيضاً بما يبين لكم من الأمور، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي اغمت عنها حجب النفوس، وسترتها ظلمات الأهوية- ما جبل عليه الآدميون، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم بحب غيركم أن تفعلوه معه، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم، فيكون ذلك حاملاً لكم على النصفة فيثمر الصفاء، والألفة والوفاء، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه‏:‏ لما قال تعالى ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5‏]‏ ثم قال تعالى ‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 7‏]‏ استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى ‏{‏الزانية والزاني‏}‏- الآية، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار بقصة الإفك تحذيراً للمؤمنين من زلل الألسنة رجماً بالغيب ‏{‏وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم‏}‏ وأتبع ذلك بعد بوعيد محبّي شياع الفاحشة، في المؤمنين بقوله تعالى ‏{‏إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 23‏]‏ الآيات، ثم بالتحذيرمن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع، ثم بالأمر بغض الأبصار للرجال والنساء ونهى النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية، وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام، وكل هذا مما تبرأ ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله فيه من ذلك والوقوف عندما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى

‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه، ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير، وليس من شرطنا هنا- والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه- انتهى‏.‏

ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى ‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة، حذر رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب، وكسب الأعراض وقطع الأسباب، معلماً أن الستر والرقة ليسا على عمومهما، بل على ما يحده سبحانه، فقال مخاطباً للأئمة ومن يقيمونه‏:‏ ‏{‏الزانية‏}‏ وهي من فعلت الزنى، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، وقدمها لأن أثر الزنى يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة، ولأنها أصل الفتنة بهتك ما أمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر ‏{‏والزاني‏}‏‏.‏

ولما كان «ال» بمعنى الاسم الموصول، أدخل الفاء في الخبر فقال‏:‏ ‏{‏فاجلدوا‏}‏ أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد ‏{‏كل واحد منهما‏}‏ إذا لم يكن محصناً، بل كان مكلفاً بكراً- بما بينته السنة الشريفة ‏{‏مائة جلدة‏}‏ فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى ‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 7‏]‏ وفي التعبير بلفظ الجلد الذي هو ضرب الجلد إشارة إلى أنه يكون مبرحاً بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم‏.‏

ولما كان هذا ظاهراً في ترك الشفقة عليهما، صرح به لأن من شأن كل من يجوز على نفسه الوقوع في مثل ذلك أن يرحمهما فقال‏:‏ ‏{‏ولا تأخذكم‏}‏ أي على حال من الأحوال ‏{‏بهما رأفة‏}‏ أي لين، ولعله عبر بها إعلاماً بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة، لأن الرأفة أشد الرحمة أو أرقها وتكون عن أسباب من المرؤوف به، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏في دين الله‏}‏ أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال- إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر كما يحكى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه بكى يوم فتحت قبرص وضربت رقاب ناس من أسراها فقيل له‏:‏ هذا يوم سرور، فقال‏:‏ هو كذلك، ولكني أبكي رحمة لهؤلاء العباد الذين عصوا الله فخذلهم وأمكن منهم‏.‏

ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك ‏{‏تؤمنون بالله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانيين خصوصاً، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه‏.‏

ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام، وكان الرجاء غالباً على الإنسان، أتبعه ما يرهبه فقال‏:‏ ‏{‏واليوم الآخر‏}‏ الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي‏.‏ ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلاً عن ضرب السوط قال‏:‏ ‏{‏وليشهد‏}‏ أي يحضر حضوراً تاماً ‏{‏عذابهما طائفة‏}‏ أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وحفوفها بكل منهما ‏{‏من المؤمنين*‏}‏ العريقين إشهاراً لأمرهما نكالاً لهما، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة‏.‏ وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله ‏{‏وأنت خير الراحمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 118‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته، صرح به، مانعاً من نكاح المتصف بالزنى من ذكر وأنثى، إعلاماً بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنى وإن كان بعقد، فقال واصلاً له بما قبله‏:‏ ‏{‏الزاني لا ينكح‏}‏ أي لا يتزوج ‏{‏إلا زانية أو مشركة‏}‏ أي المعلوم اتصافه بالزنى مقصور نكاحه على زانية أو مشركة، وذلك محرم، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنى حيث سويت بالمشركة إن عاشرته، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانياً فهي زانية أو مشركة، أي فهي مثله أو شر منه، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية، فقال تعالى مانعاً من ذلك‏:‏ ‏{‏والزانية لا ينكحها‏}‏ أي لا يتزوجها ‏{‏إلا زان أو مشرك‏}‏ أي والمعلوم اتصافها بالزنى مقصور نكاحها على زان أو مشرك، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنى حيث سوى في ذلك بالمشرك، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك، أي فهو مثلها أو شر منها، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهاً إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الاية بقوله مبنياً للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه‏:‏ ‏{‏وحرم ذلك‏}‏ أي نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مثنوية فيه ‏{‏على المؤمنين*‏}‏ وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير، ثم إن هذا الحكم فسخ كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله موافقة لابن المسيب بقوله تعالى ‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ وهو جمع أيم وهو من لا زوج له من الذكور والإناث، فأحل للزاني أن ينكح من شاء، وللزانية أن تنكح من شاءت، وقراءة من قرأ ‏{‏لا ينكح‏}‏ بالنهي راجعة إلى هذا، لأن الطلب قد يجيء للخبر كما يجيء الخبر للطلب- والله أعلم؛ قال الشافعي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه في الأم في جزء مترجم بأحكام القرآن وفي جزء بعد كتاب الحج الكبير والصغير والضحايا‏:‏ ما جاء في نكاح المحدثين، فذكر الآية وقال‏:‏ اختلف أهل التفسير في هذه الاية اختلافاً متبايناً، أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات، قال في الجزء الآخر‏:‏ وكن غير محصنات، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلن به أو مشركاً، وقيل كن زواني مشركات فنزلت لا ينكحهن إلا زان مثلهم مشرك، أو مشرك وإن لم يكن زانياً، وحرم ذلك على المؤمنين، وقيل‏:‏ هي عامة ولكنها نسخت، أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال‏:‏ هي منسوخة نسختها

‏{‏وأنكحوا الأيامى منكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 32‏]‏ فهي من أيامي المسلمين، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، وعليه دلائل من الكتاب والسنة، ثم استدل على فساد غير هذا القول بأن الزانية إن كانت مشركة فهي محرمة على زناة المسلمين وغير زناتهم بقوله تعالى ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏ ولا خلاف في ذلك، وإن كانت مسلمة فهي بالإسلام محرمة على جميع المشركين بكل نكاح بقوله تعالى ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ ولا خلاف في ذلك أيضاً، وبأنه لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أيضاً في تحريم الوثنيات عفائف كن أو زواني على من آمن زانياً كان أو عفيفاً، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد بكراً في الزنى وجلد امرأة ولم نعلمه قال للزاني‏:‏ هل لك زوجة فتحرم عليك إذا زنيت، ولا يتزوج هذا الزاني ولا الزانية إلا زانية أو زانياً، بل قد يروى أن رجلاً شكا من امرأته فجوراً فقال‏:‏ طلقها، قال‏:‏ إني أحبها، قال‏:‏ استمتع بها- يشير إلى ما رواه ابو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال‏:‏ طلقها، قال‏:‏ إني لا أصبر عنها، قال‏:‏ فأمسكها» ورواه البيهقي والطبراني من حديث جابر رضي الله عنه، وقال شيخنا ابن حجر‏:‏ إنه حديث حسن صحيح- انتهى‏.‏ قال الشافعي‏:‏ وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل اراد أن ينكح امرأة أحدثت‏:‏ أنكحها نكاح العفيفة المسلمة- انتهى بالمعنى‏.‏ وقال في الجزء الذي بعد الحج‏:‏ فوحدنا الدلالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زانية وزان من المسلمين لم نعلمه حرم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان، ولا حرم واحداً منهما على زوجه؛ ثم قال‏:‏ فالاختيار للرجل أن لا ينكح زانية وللمرأة أن لا تنكح زانياً، فإن فعلا فليس ذلك بحرام على واحد منهما، ليست معصية واحد منهما في نفسه تحرم عليه الحلال إذا أتاه، ثم قال‏:‏ وسواء حد الزاني منهما أو لم يحد، أو قامت عليه بينة أو اعترف، لا يحرم زنى واحد منهما ولا زناهما ولا معصية من المعاصي الحلال إلا أن يختلف ديناهما بشرك وإيمان- انتهى‏.‏ وقد علم أنه لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط، بل بما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقناً كدلالة الخاص على ما تناوله، فلا يقال‏:‏ إن الشافعي رحمه الله خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام، لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون، وكان هذا الحكم- وهو الحرمة في أول الإسلام بعد الهجرة- لئلا يغلب حال المفسد على المصلح فيختل بعض الأمر كما أشير إليه في البقرة

‏{‏ولا تنكحوا المشركات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 221‏]‏ وفي المائدة عند ‏{‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 5‏]‏ وهو من وادي قوله‏:‏

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل خليل بالمخالل يقتدي

والجنسية علة الضم، والمشاكلة سبب المواصلة، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة، وقد روى أبو داود في الأدب والترمذي في الزهد- وقال‏:‏ حسن غريب- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وروى الإمام أبو يعلى الموصلي في مسنده قال‏:‏ حدثنا يحيى بن معين حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا يحيى بن أيوب حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت‏:‏ كانت امرأة بمكة مزاحة، يعني فهاجرت إلى المدينة الشريفة، فنزلت على امرأة شبه لها، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت صدق حبي‏!‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» قال‏:‏ ولا أعلم إلا قال في الحديث‏:‏ ولا نعرف تلك المرأة، وسيأتي ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ تخريج «الأرواح جنود مجندة» وقال الإمام أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب المجالسة‏:‏ حدثنا أحمد بن علي الخزاز حدثنا مصعب بن عبدالله عن أبي غزية الأنصاري قال‏:‏ قال الشعبي‏:‏ يقال‏:‏ إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض- انتهى‏.‏ وعزاه شيخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس إلى أنس رضي الله عنه وقال‏:‏ بتأليف الأشكال‏.‏ ويروى أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم فقال‏:‏ يا أهل الكوفة، قد علمنا شراركم من خياركم، فقالوا‏:‏ كيف وما لك إلا ثلاثة أيام‏؟‏ فقال‏:‏ كان معنا شرار وخيار، فانضم خيارنا إلى خياركم، وشرارنا إلى شراركم، فلما تقررت الأحكام، وأذعن الخاص والعام، وضرب الدين بجرانه، ولم يخش وهي شيء من بنيانه، نسخت الحرمة، وبقيت الكراهة أو خلاف الأولى- والله الموفق‏.‏ وهذا كله توطئة لبراءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما يأتي إيضاحه عنه ‏{‏والطيبات للطيبين‏}‏ لأنها قرينة خير العالمين وأتقاهم وأعفهم، ولأن كلاًّ منها ومن صفوان رضي الله عنهما بعيد عما رمى به شهير بضده، وإليه الإشارة

«بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً» وفي رواية «ما علمت عليه من سوء قط، ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر» وبقول عائشة رضي الله عنها عن صفوان رضي الله عنه‏:‏ إنه قتل شهيداً في سبيل الله‏.‏ وهذا سوى الآيات المصرحة والأعلام المفصحة، فهو ‏{‏والطيبون‏}‏ تلويح قبل بيان، وتصريح وإشارة بعد عبارة وتوضيح، ليجتمع في براءة الصديقة رضي الله عنها دليلان عقليان شهوديان اكتنفا الدليل النقلي فكانا سوراً عليه، وحفظاً من تصويب طعن إليه، وفي ذلك من فخامة أمرها وعظيم قدرها ما لا يقدره حق قدره إلا الذي خصها به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 11‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏4‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏9‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنى من رجل أو امرأة، وبدأ- لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها- بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنى عليهن بمجرد نكاح من علم زناه، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنى بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً، وأعظم فضيحة وضراً، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع‏:‏ ‏{‏والذين يرمون‏}‏ أي بالزنى ‏{‏المحصنات‏}‏ جمع محصنة، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة، والمراد القذف بالزنى بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولأن الكلام في حقهن أشنع‏.‏

ولما كان إقدام المجترئ على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر- بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم لم يأتوا‏}‏ أي إلى الحاكم ‏{‏بأربعة شهداء‏}‏ ذكور ‏{‏فاجلدوهم‏}‏ أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ‏{‏ثمانين جلدة‏}‏ لكل واحد منهم، لكل محصنة، إن لم يكن القاذف أصلاً، إن كانوا أحراراً، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء ‏{‏فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 25‏]‏ فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ولا بين حد الزنى وحد القذف ‏{‏ولا تقبلوا لهم‏}‏ أي بعد قذفهم على هذا الوجه ‏{‏شهادة‏}‏ أي شهادة كانت ‏{‏أبداً‏}‏ للحكم بافترائهم، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنهم قد افتروا، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً ‏{‏هم الفاسقون*‏}‏ أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر‏.‏

ولما كان من أصل الشافعي رحمه الله أن الاستثناء المتعقب للجمل المتواصلة المتعاطفة بالواو عائد إلى الجميع سواء كانت من جنس أو أكثر إلا إذا منعت قرينة، أعاد الاستثناء هنا إلى الفسق ورد الشهادة دون الحكم بالجلد، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد والاستحلال منه، ولقرينة كونه حق آدمي وهو لا يسقط بالتوبة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ أي رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا كما بين في البقرة في قوله تعالى ‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 160‏]‏ وأشار إلى أن الجلد لا يسقط بالتوبة بقوله مشيراً بإدخال الجار إلى أن قبولها لا يتوقف على استغراقها الزمان الآتي‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي الأمر الذي أوجب إبعادهم وهو الرمي والجلد، فإن التوبة لا تغير حكم الرامي في الجلد، وإنما تغيره في رد الشهادة وما تسببت عنه وهو الفسق، وأشار إلى شروط التوبة بقوله‏:‏ ‏{‏وأصلحوا‏}‏ أي بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطباع‏.‏

ولما كان استثناؤهم من رد الشهادة والفسق، فكان التقدير‏:‏ فاقبلوا شهادتهم ولا تصفوهم بالفسق، علله بقوله‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏غفور‏}‏ أي ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه ‏{‏رحيم*‏}‏ أي يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة‏.‏

ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات، وكان لهن حكم غير ما تقدم، أخرجهن بقوله‏:‏ ‏{‏والذين يرمون‏}‏ أي بالزنى ‏{‏أزواجهم‏}‏ أي من المؤمنات الأحرار والإماء والكافرات ‏{‏ولم يكن لهم‏}‏ بذلك ‏{‏شهداء إلا أنفسهم‏}‏ وهذا يفهم أن الزوج إذا كان أحد الأربعة كفى، لكن يرد هذا المفهوم كونه حكاية واقعة لا شهود فيها، وقوله في الآية قبلها‏:‏ ‏{‏ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏ فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي، ولعله استثناه من الشهداء لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقبل في ذلك على زوجته- قال ابن الرفعة في الكفاية‏:‏ لأمرين‏:‏ أحدهما أن الزنى تعرض لمحل حق الزوج، فإن الزاني مستمتع بالمنافع المستحقة له، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له فلم تسمع، كما إذا شهد أنه جنى على عبده، والثاني أن من شهد بزنى زوجته فنفس شهادته تدل على إظهار العداوة، لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال العار عليه وعلى ولده، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب وفاحش السب، قال القاضي الحسين‏:‏ وإلى هذه العلة أشار الشافعي رحمه الله وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد‏.‏ ‏{‏فشهادة أحدهم‏}‏ أي على من رماها ‏{‏أربع شهادات‏}‏ من خمس في مقابلة أربعة شهداء ‏{‏بالله‏}‏ أي مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال ‏{‏إنه لمن الصادقين*‏}‏ أي فيما قذفها به ‏{‏والخامسة أن لعنت الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏عليه‏}‏ أي هذا القاذف نفسه ‏{‏إن كان من الكاذبين*‏}‏ فيما رماها به، ولأجل قطعه بهذه الأيمان الغليظة بصدقه وحكم الله بخلاصه انتفى عنه الولد، فلزم من نفيه الفرقة المؤبدة من غير لفظ لعدم صلاحيتها أن تكون فراشاً له، لأن الولد للفراش، ولا يصح اللعان إلا عند حاكم، ولا يخفى ما في هذا من الإبعاد عن القذف بوجوب مزيد الاحتياط، لما في ذلك من التكرير والاقتران بالاسم الأعظم، والجمع بين الإثبات وما يتضمن النفي، والدعاء باللعن المباعد لصفة المؤمن، فإذا فعل الزوج ذلك سقط عنه العذاب بحد القذف وأوجبه على المقذوفة، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويدرؤا‏}‏ أي يدفع ‏{‏عنها‏}‏ أي المقذوفة ‏{‏العذاب‏}‏ أي المعهود، وهو الحد الذي أوجبه عليها ما تقدم من شهادة الزوج ‏{‏أن تشهد أربع شهادات‏}‏ من خمس ‏{‏بالله‏}‏ الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى كما تقدم في الزوج ‏{‏إنه لمن الكاذبين*‏}‏ فيما قاله عنها ‏{‏والخامسة‏}‏ من الشهادات ‏{‏أن غضب الله‏}‏ الذي له الأمر كله فلا كفوء له ‏{‏عليها‏}‏ وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يعضد الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد، وهاتكة الحجاب، وخالطة الأنساب ‏{‏إن كان‏}‏ أي كوناً راسخاً ‏{‏من الصادقين*‏}‏ أي فيما رماها به؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم

«أن هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» البينة وإلا حداً في ظهرك «، قال يا رسول الله‏!‏ إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة‏؟‏ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ البينة وإلا حداً في ظهرك، فقال هلال‏:‏ والذي بعثك بالحق‏!‏ إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه ‏{‏والذين يرمون أزواجهم‏}‏ فقرأ حتى بلغ ‏{‏إن كان من الصادقين‏}‏ فانصرف النبي صلى الله صلى عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏» إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب‏؟‏ «ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا‏:‏ إنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت‏:‏ لا أفضح قومي سائر اليوم‏.‏ فمضت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء «، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» وقد روى البخاري أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر، وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب معاً أو متفرقة‏.‏

ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب، فصان بذلك الدماء والأموال، علم أن التقدير‏:‏ فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين، لما فعل بكم ذلك، ولفضح المذنبين، وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام، وأطبقتم على التهاون بالأحكام، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ أي بما له من الكرم والجمال، والاتصاف بصفات الكمال ‏{‏عليكم ورحمته‏}‏ أي بكم ‏{‏وأن الله‏}‏ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ‏{‏تواب‏}‏ أي رجاع بالعصاة إليه ‏{‏حكيم*‏}‏ يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور، لفضح كل عاص، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، ولأمر بعقوبته بما توجبه معصيته، ففسد نظامكم، واختل نقضكم وإبرامكم، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه، فتذهب النفس فيه كل مذهب، فهو كما قالوا‏:‏ رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به، ثم علل ما اقتضته ‏{‏لولا‏}‏ من نحو‏:‏ ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق، منبهاً لهم على أن ذلك يجر إلى مفسدة كبيرة‏:‏ ‏{‏إن الذين جاءو بالإفك‏}‏ أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله إلى ضده، المقلوب عن وجهه إلى قفاه، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام ‏{‏عصبة‏}‏ أي جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون، فهم لكونهم عصبة يحمى بعضهم لبعض فيشتد أمرهم، لأن مدار مادة «عصب» على الشدة، وهم مع ذلك ‏{‏منكم‏}‏ أي ممن يعد عندكم في عداد المسلمين، فلو فضحهم الله في جميع ما أسروه وأعلنوه، وأمركم بأن تعاقبوهم بما يستحقون على ذلك، لفسدت ذات البين، بحمايتهم لأنفسهم وهم كثير، وتعصّب أودّائهم لهم، إلا بأمر خارق يعصم به من ذلك كما كشفت عنه التجربة حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

«من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي» حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم النبي صلى الله عليه سلم، فالله سبحانه برحمته بكم يمنع من كيدهم ببيان كذبهم، وبحكمته يستر عليهم ويخيفهم، لتنحسم مادة مكرهم، وتنقطع أسباب ضرهم‏.‏

ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم، أتبعه قوله، تحقيراً لأمرهم مخاطباً للخلص وخصوصاً النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وأمها وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم‏:‏ ‏{‏لا تحسبوه‏}‏ أي الإفك ‏{‏شراً لكم‏}‏ أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة ‏{‏بل هو خير لكم‏}‏ بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد، في أكثر البلاد، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والصديقين بذلك، مع الثواب الجزيل، بالصبر على مرارة هذا القيل، وثبوت إعجاز القرآن بعد أعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل، الذي عاشته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة، وأظهرهم صيانة، وأنقاهم عرضاً، وأطهرهم نفساً، فهو لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير ذلك من الحكم، التي رتبها بارئ النسم، من الفوائد الدينية والأحكام والآداب‏.‏

ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له، علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لكل امرئ منهم‏}‏ أي الآفكين ‏{‏ما‏}‏ أي جزاء ما ‏{‏اكتسب‏}‏ بخوضه فيه ‏{‏من الإثم‏}‏ الموجب لشقائه، وصيغة الافتعال من «كسب» تستعمل في الذنب إشارة إلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط، وتجرد في الخير إشارة إبى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته ‏{‏والذي تولى كبره‏}‏ أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به ‏{‏منهم له‏}‏ بما يخصه لإمعانه في الأذى ‏{‏عذاب عظيم*‏}‏ أي أعظم من عذاب الباقين، لأنهم لم يقولوا شيئاً إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاَ، وقصه الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جداً، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها، فافتقدت عقداً لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت فيه فالتمسته، فرحل النبي صلى الله عليه وسلم وحمل جمالوها هودجها وهم يظنونها فيه، فلما رجعت فلم تجد أحداً اضطجعت مكان هودجها رجاء أن يعلموا بها فيرجعوا، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش، فأصبح في مكانهم، فلما رآها وكان يراها قبل الحجاب استرجع وأناخ راحلته فوطئ على يدها، ولم يتكلم بكلمة غير استرجاعه، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم أقبل بها حتى لحق بالجيش وهم نزول في نصف النهار، فتكلم أهل الإفك فيهما رضي الله عنهما، وكان من سمي منهم عبد الله بن أبي المنافق، وزيد بن رفاعة، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، قال عروة بن الزبير‏:‏ في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال تعالى‏.‏ وهكذا ذكروا حسان منهم وأنا والله لا أظن به أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطئ الثقة لأسباب لا تحصى، كما يعرف ذلك من مارس نقد الأخبار، وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صلى الله عليه وسلم والمدافعة عنه والذم لأعدائه وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام معه، فأقسم بالله أن الذي أيده بجبريل ما كان ليكله إلى نفسه في مثل هذه الواقعة، وقد سبقني إلى الذب عنه الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي رحمه الله وكيف لا ينافح عنه وهو القائل‏:‏

فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

وهو القائل يمدح عائشة رضي الله عنها ويكذب من نقل عنه ذلك‏:‏

حصان رزان ما تزنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس ديناً ومنصباً *** نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب *** كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها *** وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت عني قلته *** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي *** لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها *** تقاصر عنها سورة المتطاول

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب‏:‏ وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه ورووا عن عائشة رضي الله عنها أنها برأته من ذلك- انتهى‏.‏ واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يملي للآفكين ويمهلهم، وكأن الحال لعمري كما قال أبو تمام الطائي في قصيدة‏:‏

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

وحين سمعت عائشة رضي الله عنها بقول أهل الإفك سقطت مغشياً عليها وأصابتها حمى بنافض، واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيان بيت أبيها فأذن لها فسألت أمها عن الخبر، فأخبرتها فاستعبرت وبكت، وكان أبو بكر رضي الله عنه في علية يقرأ فسمع حسها فنزل فسأل أمها فقالت‏:‏ بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، واستمرت هي رضي الله عنها تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وساعدتها على البكاء امرأة من أولي الوفاء والمؤاساة والكرم والإيثار ومعالي الشيم‏:‏ الأنصار رضي الله عنهم، فكانت تبكي معها، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة رضي الله عنها جاريتها بريرة رضي الله عنها فاستعظمت أن يظن في عائشة رضي الله عنها مثل ذلك فقالت‏:‏ سبحان الله‏!‏ والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على المنبر واستعذر ممن تكلم في أهله وما علم عليهم إلا خيراً، وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق بصلاح صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأنه ما علم عليه إلا خيراً، فكاد الناس يقتتلون فسكنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل بعد أن صلى العصر على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي والأنصارية معها فوعظها، فأجابت وأجادت، فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده‏!‏ ما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قاله الناس، قالت‏:‏ فرفع عنه وإني لأتيبن السرور في وجهه وهو يمسح عن جبينه العرق ويقول‏:‏

«أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك»، فكنت اشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي‏:‏ قومي إليه‏!‏ فقلت‏:‏ والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين جاؤوا بالإفك‏}‏ العشر الآيات كلها، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول‏:‏ سبحان الله‏!‏ والذي نفسي بيده‏!‏ ما كشفت كنف أنثى قط‏.‏ قالت‏:‏ ثم قتل بعد ذلك شهيداً في سبيل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ‏(‏12‏)‏ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏14‏)‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله، أو مستثبتاً في أمره، ومنهم من كذبه، أتبعه سبحانه بعتابهم، في أسلوب خطابهم، مثنياً على من كذبه، فقال مستأنفاً محرضاً‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏إذ سمعتموه‏}‏ أيها المدعون للإيمان‏.‏ ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال‏:‏ ‏{‏ظن المؤمنون‏}‏ أي منكم ‏{‏والمؤمنات‏}‏ وكان الأصل‏:‏ ظننتم، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة‏:‏ ‏{‏بأنفسهم‏}‏ حقيقة ‏{‏خيراً‏}‏ وهم دون من كذب عليها، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، أو ظنوا ما يظن بالرجل لو خلا بأمه، وبالمرأة إذا خلت بابنها، فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ‏{‏وقالوا هذا إفك‏}‏ أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه ‏{‏مبين*‏}‏ أي واضح في نفسه، موضح لغيره، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول‏:‏ خذوني فهو يسعى في التستر جهده، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ينزل عليه الوحي، إدلالاً بحسن عمله، غافلاً عما يظن به أهل الريب، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر، تعرف به خيانته، فالأمور تذاق، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه، ولقد عمل أبو أيوب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية؛ قال ابن اسحاق‏:‏ حدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب‏:‏ يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها‏؟‏ قال‏:‏ بلى وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة‏؟‏ قالت لا والله ما كنت لأفعله، قال‏:‏ فعائشة والله خير منك‏.‏ وروى البغوي أنه قال‏:‏ سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه‏.‏ ثم علل سبحانه بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه إلى ظن الخير‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ أي هلا ولم لا ‏{‏جاءو‏}‏ أي المفترون له أولاً ‏{‏عليه‏}‏ إن كانوا صادقين ‏{‏بأربعة شهداء‏}‏ كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها‏.‏

ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال‏:‏ ‏{‏فإذ‏}‏ أي فحين ‏{‏لم يأتوا بالشهداء‏}‏ أي الموصوفين ‏{‏فأولئك‏}‏ أي البعداء من الصواب ‏{‏عند الله‏}‏ أي في حكم الملك الأعلى، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه ‏{‏هم الكاذبون*‏}‏ أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً‏.‏

ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو، فقال عاطفاً على ‏{‏ولولا‏}‏ الماضية‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال ‏{‏عليكم ورحمته‏}‏ أي معاملته لكم بمزيد الإنعام، الناظر إلى الفضل والإكرام، اللازم للرحمة ‏{‏في الدنيا‏}‏ بقبول التوبة والمعاملة بالحلم ‏{‏والآخرة‏}‏ بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم ‏{‏لمسكم‏}‏ أي عاجلاً عموماً ‏{‏في ما أفضتم‏}‏ أي اندفعتم على أي وجه كان ‏{‏فيه‏}‏ بعضكم حقيقة، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار ‏{‏عذاب عظيم*‏}‏ أي يحتقر معه اللوم والجلد، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي مسكم حين ‏{‏تلقونه‏}‏ أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه ‏{‏بألسنتكم‏}‏ بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين ‏{‏وتقولون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بأفواهكم‏}‏ تصوير لمزيد قبحه، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل؛ وأكد هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ما ليس لكم به علم‏}‏ أي بوجه من الوجوه، وتنكيره للتحقير ‏{‏وتحسبونه‏}‏ بدليل سكوتكم عن إنكاره ‏{‏هيناً وهو‏}‏ أي والحال أنه ‏{‏عند الله‏}‏ أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته ‏{‏عظيم*‏}‏ أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها، فكيف وهو في جنابها المصون، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم‏.‏

ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله ‏{‏لولا إذ سمعتموه‏}‏ تأديباً فقال‏:‏ ‏{‏ولولا إذ‏}‏ أي وهلا حين ‏{‏سمعتموه قلتم‏}‏ أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها عنه، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه‏:‏ ‏{‏ما يكون‏}‏ أي ما ينبغي وما يصح ‏{‏لنا أن نتكلم‏}‏ حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار ‏{‏بهذا‏}‏ أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ تعجباً من أن يخطر بالبال، في حال من الأحوال‏.‏

ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي‏:‏ ‏{‏هذا بهتان‏}‏ أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله‏:‏ ‏{‏عظيم*‏}‏ والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏17‏)‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏18‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً، ترجمه بقوله‏:‏ ‏{‏يعظكم الله‏}‏ أي يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله فيمهل بحمله، ولا يمهل بحكمته وعلمه، بالتحذير على وجه الاستعطاف‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ أي كراهة لأن ‏{‏تعودوا لمثله أبداً‏}‏ أي ما دمتم أهلاً لسماع هذا القول؛ ثم عظم هذا الوعظ، وألهب سامعه بقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين*‏}‏ أي متصفين بالإيمان راسخين فيه فإنكم لا تعودون، فإن عدتم فأنتم غير صادقين في دعواكم الاتصاف به ‏{‏ويبين الله‏}‏ أي بما له من الاتصاف بصفات الجلال والإكرام ‏{‏لكم الآيات‏}‏ أي العلامات الموضحة للحق والباطل، من كل أمر ديني أو دنيوي ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بجميع الكمال ‏{‏عليم‏}‏ فثقوا ببيانه ‏{‏حكيم*‏}‏ لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك، فلا تتوقفوا في أمر من أوامره، واعلموا أنه لم يختر لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا الخلص من عباده، على حسب منازلهم عنده، وقربهم من قلبه‏.‏

ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً‏:‏ ‏{‏إن الذين يحبون‏}‏ عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة ‏{‏أن تشيع‏}‏ أي تنتشر بالقول أو بالفعل ‏{‏الفاحشة‏}‏ أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها ‏{‏في الذين آمنوا‏}‏ ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته، وتبوأ غايته ‏{‏لهم عذاب أليم‏}‏ ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى ‏{‏في الدنيا‏}‏ بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به ‏{‏والآخرة‏}‏ فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا ‏{‏والله‏}‏ أي المستجمع لصفات الجلال والجمال ‏{‏يعلم‏}‏ أي له العلم التام، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور ‏{‏وأنتم لا تعلمون*‏}‏ أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله، ولا تتجاوزوه تضلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏21‏)‏ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف‏:‏ فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب، منبهاً بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ أي الحائز لجميع الجلال والإكرام ‏{‏عليكم ورحمته‏}‏ بكم ‏{‏وأن‏}‏ أي ولولا أن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه ‏{‏رؤوف‏}‏ بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود، الزاجرة عن الجهل، الحاملة على التقوى، التي هي ثمرة العلم، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد ‏{‏رحيم*‏}‏ بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية، والجواب محذوف تقديره‏:‏ لترككم في ظلمات الجهل تعمهون، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم‏.‏

ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم، بعد أن حذرهم موارد الجهل، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ‏{‏لا تتبعوا‏}‏ أي بجهدكم ‏{‏خطوات‏}‏ أي طريق ‏{‏الشيطان‏}‏ أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها في شيء من الأشياء، وكأنه أشار بصيغة الافتعال إلى العفو عن الهفوات‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن يتبع‏}‏ أي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال‏:‏ ‏{‏خطوات الشيطان‏}‏ أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشئ عنها كل شر ‏{‏فإنه‏}‏ أي الشيطان ‏{‏يأمر بالفحشاء‏}‏ وهي ما أغرق في القبح ‏{‏والمنكر‏}‏ وهو ما لم يجوزه الشرع، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه، وربما درج بغير ذلك، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله، فصار في غاية السفول، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في ‏{‏فإنه على من‏}‏ والله الموفق‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام ‏{‏عليكم‏}‏ أي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه من الدنايا إلى المعالي ‏{‏ورحمته‏}‏ لكم بإكرامكم ورفعتكم بشرع التوبة المكفرة لما جرّ إليه الجهل من ناقص الأقوال وسفاف الأفعال ‏{‏ما زكى‏}‏ أي طهر ونما ‏{‏منكم‏}‏ وأكد الاستغراق بقوله‏:‏ ‏{‏من أحد‏}‏ وعم الزمان بقوله‏:‏ ‏{‏أبداً ولكن الله‏}‏ أي بجلاله وكماله ‏{‏يزكي‏}‏ أي يطهر وينمي ‏{‏من يشاء‏}‏ من عباده، من جميع أدناس نفسه وأمراض قلبه، وإن كان العباد وأخلاقهم في الانتشار والكثرة بحيث لا يحصيهم غيره، فلذلك زكى منكم من شاء فصانه عن هذا الإفك، وخذل من شاء‏.‏

ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏سميع‏}‏ أي لجميع أقولهم ‏{‏عليم*‏}‏ بكل ما يخطر في بالهم، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان، واصبروا على ذلك منهم، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم، فقبلت توبته، وغسلت حوبته، وهذا المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأتل‏}‏ أي يحلف مبالغاً في اليمين ‏{‏أولوا الفضل منكم‏}‏ الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم ‏{‏والسعة‏}‏ أي بما أوسعت عليهم في دنياهم‏.‏

ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال‏:‏ ‏{‏أن يؤتوا‏}‏ ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال‏:‏ ‏{‏أولي القربى‏}‏ وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت‏!‏ فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة ‏{‏والمهاجرين‏}‏ لأهلهم وديارهم وأموالهم ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله، وتعدادها بجعلها علة للعفو- دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها‏.‏

ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو، وكان التقدير‏:‏ فلؤتوهم، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله‏:‏ ‏{‏وليعفوا‏}‏ أي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر‏.‏ ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال‏:‏ ‏{‏وليصفحوا‏}‏ أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك الإحسان، ومنه الصفوح وهو الكريم‏.‏

ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال‏:‏ ‏{‏ألا تحبون‏}‏ أي يا أولي الفضل ‏{‏أن يغفر الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏لكم‏}‏ أي ما قصرتم في حقه، وسبب نزولها كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه‏!‏ ومن سؤدد وفخار ما أعلاه‏!‏ ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين، وخير الخلائق أجمعين، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً، فيا لله من أخلاق ما أبهاها‏!‏ وشمائل ما أطهرها وأزكاها‏!‏ وأشرفها وأسندها‏.‏

ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه‏:‏ بلى والله‏!‏ إنا لنحب أن يغفر الله لنا، وكان كأنه قيل‏:‏ فاغفروا لمن أساء إليكم، فالله حكم عدل، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء، والله عليم شكور، يشكر لكم ما صنعتم إليهم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل ‏{‏غفور رحيم*‏}‏ من صفته ذلك، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم، فإن الجزاء من جنس العمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏23‏)‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏24‏)‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم‏:‏ ‏{‏إن الذين يرمون‏}‏ أي بالفاحشة ‏{‏المحصنات‏}‏ أي اللائي جعلن أنفسهن من العفة في مثل الحصن‏.‏ ولما كان الهام بالسيئ والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه، جاعلاً له نصب عينه، أكد معنى الإحصان بقوله‏:‏ ‏{‏الغافلات‏}‏ أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره‏.‏ ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً ن كل سوء، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى، وصرف ما لهن من الفطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال‏:‏ ‏{‏المؤمنات‏}‏‏.‏

ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول، لأن المحذور اللعن لا كونه المعين، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتي منه فقال‏:‏ ‏{‏لعنوا‏}‏ أي أبعدوا عن رحمة الله، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال‏:‏ ‏{‏ولهم‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏عذاب عظيم*‏}‏ وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام بعلي قدرها، وجلي أمرها، في عظيم فخرها، ما يجل عن الوصف؛ ثم أتبع ذلك ذكر اليوم الذي يكون فيه أثر ذلك على وجه زاد الأمر عظماً فقال‏:‏ ‏{‏يوم تشهد عليهم‏}‏ أي يوم القيامة في ذلك المجمع العظيم ‏{‏ألسنتهم‏}‏ إن ترفعوا عن الكذب ‏{‏وأيديهم وأرجلهم‏}‏ إن أنكرت ألسنتهم كذباً وفجوراً ظناً أن الكذب ينفعها ‏{‏بما كانوا يعملون*‏}‏ من هذا القذف وغيره؛ ثم زاد في التهويل بقوله‏:‏ ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ تشهد عليهم هذه الجوارح ‏{‏يوفيهم الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة وله الكمال كله ‏{‏دينهم‏}‏ أي جزاءهم ‏{‏الحق‏}‏ أي الذي يظهر لكل أحد من أهل ذلك المجمع العظيم أنهم يستحقونه، فلا يقدر أحد على نوع طعن فيه ‏{‏ويعلمون‏}‏ أي إذ ذاك، لانقطاع الأسباب، ورفع كل حجاب ‏{‏أن الله‏}‏ أي الذي له العظمة المطلقة، فلا كفوء له ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت أمره فلا أمر لأحد سواه، ‏{‏المبين*‏}‏ الذي لا أوضح من شأنه في ألوهيته وعلمه وقدرته وتفرده بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع سمات النقص، فيندمون على ما فعلوا في الدنيا مما يقدح في المراقبة وتجري عليه الغفلة؛ قال ابن كثير‏:‏ وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قولان أصحهما أنهن كهي، والله أعلم- انتهى‏.‏

وقد علم من هذه الآيات وما سبقها من أول السورة وما لحقها إلى آخرها أن الله تعالى ما غلظ في شيء من المعاصي ما غلظ في قصة الإفك، ولا توعد في شيء ما توعد فيها، وأكد وبشع، ووبخ وقرع، كل ذلك إظهاراً لشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وغضباً له وإعظاماً لحرمته وصوناً لحجابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما تضمن ما ذكر من وصفه تعالى علمه بالخفيات، أتبعه ما هو كالعلة لآية ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ دليلاً شهودياً على براءة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال‏:‏ ‏{‏الخبيثات‏}‏ أي من النساء وقدم هذا الوصف لأن كلامهم فيه، فإذا انتفى ثبت الطيب ‏{‏للخبيثين‏}‏ أي من الرجال‏.‏ ولما كان ذلك لا يفهم أن الخبيث مقصور على الخبيثة قال‏:‏ ‏{‏والخبيثون‏}‏ أي من الرجال أيضاً ‏{‏للخبيثات‏}‏ أي من النساء‏.‏

ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنها لأنها قرينة أطيب الخلق، أكده بقوله‏:‏ ‏{‏والطيبات‏}‏ أي منهن ‏{‏للطيبين‏}‏ أي منهم ‏{‏والطيبون للطيبات‏}‏ بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله، ويفعل أفعال مثله، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ «خيركم قرني» وكلما ازداد الإنسان منهم من قلبه صلى الله عليه وسلم قرباً ازداد طهارة، وكفى بهذا البرهان دليلاً على براءة الصديقة رضي الله عنها، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين إلى الدليل العادي، وقد تقدم عند آية ‏{‏الزاني‏}‏ ذكر لحديث «الأرواح جنود مجندة» وما لاءمه، لكنه لم يستوعب تخريجه، وقد خرجه مسلم في الأدب من صحيحه وأبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وفي رواية عنه رفعها‏:‏ «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وهذا الحديث روي أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالب وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم، وقد علق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها بصيغة الجزم، ووصله في كتاب الأدب المفرد وكذا الإسماعيلي في المستخرج، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال، وتقدم عزوه إلى أبي يعلى، ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما «فما كان في الله ائتلف، وما كان في غير الله اختلف» أخرجه أبو الشيخ في الأمثال، ولفظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه «فإذا التقت تشامّ كما تشامّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف»- الحديث‏.‏ وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الفضل السقطي وأبو عبد الله بن منده في كتاب الروح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ يا أبا الحسن‏!‏ ربما شهدت وغبنا وربما شهدنا وغبت، ثلاث أسألك عنهن هل عندك منهن علم‏؟‏ قال علي‏:‏ وما هن‏؟‏ قال‏:‏ الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شراً، فقال علي رضي الله عنه‏:‏ نعم‏!‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه السلام يقول‏:‏

«إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» قال عمر‏:‏ واحدة، قال‏:‏ والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره‏؟‏ فقال علي رضي الله عنه‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر»، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ اثنتان، وقال‏:‏ والرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما من عبد أو أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش، فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب»، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت وكذا أخرج الطبراني حديث سلمان كحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وأنشدوا لأبي نواس في المعنى‏:‏

إن القلوب لأجناد مجندة *** لله في الأرض بالأهواء تعترف

فما تعارف منها فهو مؤتلف *** وما تناكر منها فهو مختلف

ولما ثبت هذا كانت نتيجته قطعاً‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الأوصاف بالطهارة والطيب ‏{‏مبرؤون‏}‏ ببراءة الله وبراءة كل من له تأمل في مثل هذا الدليل ‏{‏مما يقولون‏}‏ أي القذفة الأخابث لأنها لا تكون زوجة أطيب الطيبين إلا وهي كذلك‏.‏

ولما أثبت لهم البراءة، استأنف الإخبار بجزائهم فقال‏:‏ ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ أي لما قصروا فيه إن قصروا، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال‏:‏ ‏{‏ورزق كريم*‏}‏ أي يحيون به حياة طيبة، ويحسنون له إلى من أساء إليهم، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم‏.‏

ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عدواة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم- إذ قانعاً منهم بداء الشرك- على الفطرة الأولى، أمر تعالى رداً لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي ألزموا أنفسهم هذا الدين ‏{‏لا تدخلوا‏}‏ أي واحد منكم، ولعله خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطردوا الشيطان بتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى، فمن خان منهم منعه إخوانه، فلم يتكمن منه شيطانه، فنهي الواحد من باب الأولى ‏{‏بيوتاً غير بيوتكم‏}‏ أي التي هي سكنكم ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏ أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به، فلو قيل له‏:‏ من‏؟‏ فقال‏:‏ أنا لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته، بل الذي عليه أن يقول‏:‏ أنا فلان- يسمى نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفر منه فيرد ‏{‏وتسلموا على أهلها‏}‏ أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا‏:‏ السلام عليكم‏!‏ أأدخل‏؟‏ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم ‏{‏ذلكم‏}‏ الأمر العالي الذي أمرتكم به ‏{‏خير لكم‏}‏ مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون، هذا في الدنيا، وأما في الأخرى فأعظم، وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه‏:‏ إذا سلم ثلاثاً فلم يجبه أحد فليرجع‏.‏

وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع‏.‏

ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه، قال‏:‏ ‏{‏لعلكم تذكرون*‏}‏ أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة، لأن الجزاء من جنس العمل، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره‏.‏

ولما كان السكان قد يكونون غائبين، والإنسان لكونه عورة لا يحب أن يطلع غيره على جميع أموره، قال‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا فيها‏}‏ أي البيوت التي ليس بها سكناكم ‏{‏أحداً‏}‏ قد يمنعكم، فالله يمنعكم منها، تقديماً لدرء المفاسد ‏{‏فلا تدخلوها‏}‏ أي أبداً ‏{‏حتى يؤذن لكم‏}‏ من آذن ما بإذن شرعي من الساكن أو غيره، لأن الدخول تصرف في ملك الغير أو حقه فلا يحل بدونه إذنه‏.‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ فإن أذن لكم في شيء ما استأذنتم فيه فادخلوا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن قيل لكم‏}‏ من قائل ما إذا استأذنتم في بيت فكان خالياً أو فيه أحد‏:‏ ‏{‏ارجعوا فارجعوا‏}‏ أي ولا تستنكفوا من أن تواجهوا بما تكرهون من صريح المنع، فإن الحق أحق أن يتبع، وللناس عورات وأمور لا يحبون اطلاع غيرهم عليها‏.‏

ولما كان في المنع نقص يوجب غضاضة ووحراً في الصدر، وعد سبحانه عليه بما يجبر ذلك، فقال على طريق الاستئناف‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ أي الرجوع المعين ‏{‏أزكى‏}‏ أي أطهر وأنمى ‏{‏لكم‏}‏ فإن فيه طهارة من غضاضة الوقوف على باب الغير، ونماء بما يلحق صاحب البيت من الاستحياء عند امتثال أمره في الرجوع مع ما في ذلك عند الله‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله يجازيكم على امتثال أمره، وكان الإنسان قد يفعل في البيوت الخالية وغيرها من الأمور الخفية ما يخالف ما أدب به سبحانه مما صورته مصلحة وهو مفسدة، عطف على ذلك المقدر قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعلى‏.‏ ولما كان المراد المبالغة في العلم، قدم الجار ليصير كما إذا سألت شخصاً عن علم شيء فقال لك‏:‏ ما أعلم غيره، فقال‏:‏ ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي وإن التبس أمره على أحذق الخلق ‏{‏عليم*‏}‏ لا يخفى عليه شيء منه وإن دق، فإياكم ومشتبهات الأمور، فإذا وقفتم للاستئذان فلا تقفوا تجاه الباب، ولكن على يمينه أو يساره، لأن الاستئذان إنما جعل من أجل البصر، وتحاموا النظر إلى الكوى التي قد ينظر منها أحد من أهل البيت ليعرف من على الباب‏:‏ هل هو ممن يؤنس به فيؤذن له، أو لا فيرد، ونحو هذا من أشكاله مما لا يخفى على متشرع فطن، يطير طائر فكره في فسيح ما أشار إليه مثل قوله صلى الله عليه السلام‏:‏ «إذا حدث الرجل فالتفت فهي أمانة» وراه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه‏.‏