فصل: تفسير الآيات رقم (37- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏37‏)‏ وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ‏(‏38‏)‏ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما هدد المكذبين، بإهلاك الأولين، الذين كانوا أقوى منهم وأكثر، وقدم قصة موسى عليه السلام لمناسبة الكتاب في نفسه أولاً؛ وفي تنجيمه ثانياً، أتبعه أول الأمم، لأنهم أول، ولما في عذابهم من الهول، ولمناسبة ما بينه وبين عذاب القبط، فقال‏:‏ ‏{‏وقوم‏}‏ أي ودمرنا قوم ‏{‏نوح لما كذبوا الرسل‏}‏ بتكذيبهم نوحاً؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء بالفعل فقد كذب الكل بالقوة، لأن المعجزات هي البرهان على صدقهم، وهي متساوية الأقدام في كونها خوارق، لا يقدر على معارضتها، فالتكذيب بشيء منها تكذيب بالجميع لأنه لا فرق، ولأنهم كذبوا من مضى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما سمعوه من أخبارهم، ولأنهم عللوا تكذيبهم بأنه من البشر فلزمهم تكذيب كل رسول من البشر‏.‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ بأيّ شيء دمروا‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏أغرقناهم‏}‏ كما أغرقنا آل فرعون بأعظم مما أغرقناهم ‏{‏وجعلناهم‏}‏ أي قوم نوح في ذلك ‏{‏للناس آية‏}‏ أي علامة على قدرتنا على ما نريد من إحداث الماء وغيره وإعدامه والتصرف في ذلك بكل ما نشاء، وإنجاء من نريد بما أهلكنا به عدوه ‏{‏وأعتدنا‏}‏ أي هيأنا تهيئة قريبة جداً وأحضرنا على وجه ضخم شديد تام التقدير؛ وكان الأصل‏:‏ لهم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال‏:‏ ‏{‏للظالمين‏}‏ أي كلهم في أيّ زمان كانوا، لأجل ظلمهم بوضعهم الأشياء في غير مواضعها ‏{‏عذاباً أليماً*‏}‏ لاسيما في الآخرة‏.‏

ولما ذكر آخر الأمم المهلكة بعامة وأولها، وكان إهلاكهما بالماء، ذكر من بينهما ممن أهلك بغير ذلك، إظهاراً للقدرة والاختيار، وطوى خبرهم بغير العذاب لأنه كما مضى في سياق الإنذار فقال‏:‏ ‏{‏وعاداً‏}‏ أي ودمرنا عاداً بالريح ‏{‏وثموداْ‏}‏ بالصيحة ‏{‏وأصحاب الرس‏}‏ أي البئر التي هي غير مطوية؛ قال ابن جرير‏:‏ والرس في كلام العرب كل محفور مثل البئر والقبر ونحو ذلك‏.‏ أي دمرناهم بالخسف ‏{‏وقروناً بين ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم المذكور، وهو بين كل أمتين من هذه الأمم ‏{‏كثيراً*‏}‏ وناهيك بما يقول فيه العلي الكبير‏:‏ إنه كثير؛ أسند البغوي في تفسير ‏{‏أمة وسطاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ في البقرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بعد العصر، فما ترك شيئاً إلى يوم القيامة إلا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحيطان قال‏:‏ «أما إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا، ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة هي آخرها وأكرمها على الله عز وجل» أخرجه الترمذي في الفتن وأحمد والطبراني وابن ماجه في الفتن أيضاً لكن ببعضه وليس عند واحد منهم اللفظ المقصود من السبعين أمة، وفي بعض ألفاظهم وجعلنا نلتفت إلى الشمس هل بقي منها شيء وهذا يدل على أن الذي كان قد بقي من النهار نحو العشر من العشر، وهذا يقتضي إذا اعتبرنا ما مضى لهذه الأمة من الزمان أن يكون الماضي من الدنيا من خلق آدم عليه السلام في يوم الجمعة الذي يلي الستة الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض أكثر من مائة ألف سنة- والله أعلم‏.‏

ولما قدم سبحانه أنه يأتي في هذا الكتاب بما هو الحق في جواب أمثالهم، بين أنه فعل بالجميع نحو من هذا، فقال تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم وتأسية وبياناً لتشريفه بالعفو عن أمته‏:‏ ‏{‏وكلاًّ‏}‏ أي من هذه الأمم ‏{‏ضربنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏له الأمثال‏}‏ حتى وضح له السبيل، وقام- من غير شبهة- الدليل ‏{‏وكلاًّ تبرنا تتبيراً*‏}‏ أي جعلناهم فتاتاً قطعاً بليغة التقطيع، لا يمكن غيرنا أن يصلها ويعيدها إلى ما كانت عليه قبل التفتيت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ‏(‏40‏)‏ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ‏(‏41‏)‏ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏42‏)‏ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر، وتارة بالإمطار، وختم بالخسف، ذكر الخسف الناشئ عن الأمطار، بحجارة النار، مع الغمر بالماء، دلالة على تمام القدرة، وباهر العظمة، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام، مقرونة بحرف التحقيق، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال‏:‏ ‏{‏ولقد أتوا‏}‏ أي هؤلاء المكذبون من قومك، وقال‏:‏ ‏{‏على القرية‏}‏- وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل- تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه، وإهانة لمن يريد عذابه، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة «قرا» الدالة على الجمع ‏{‏التي أمطرت‏}‏ أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة، ولذا قال‏:‏ ‏{‏مطر السوء‏}‏ وهي قرى قوم لوط، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث؛ قال البغوي‏:‏ كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث‏.‏

ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم، وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم، فيرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله‏:‏ ‏{‏أفلم يكونوا‏}‏ أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية ‏{‏يرونها‏}‏ أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ بل رأوها، أضرب عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها، بل بسبب أنهم ‏{‏كانوا‏}‏ يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع‏.‏

ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا‏:‏ ‏{‏لا يرجون نشوراً*‏}‏ بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله‏.‏

ولما أثبت تكذيبهم بالآخرة، عطف عليه تحقيقاً قوله، مبيناً أنهم لم يقتصروا على التكذيب بالممكن المحبوب حتى ضموا إليه الاستهزاء بمن لا يمكن أصلاً في العادة أن يكون موضعاً للهزء‏:‏ ‏{‏وإذا رأوك‏}‏ أي مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك لو لم تأتهم بمعجزة، فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏يتخذونك إلا هزواً‏}‏ عبر بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك، يقولون محتقرين‏:‏ ‏{‏أهذا‏}‏ وتهكموا مع الإنكار في قولهم ‏{‏الذي بعث الله‏}‏ أي المستجمع لنعوت العظمة ‏{‏رسولاً*‏}‏ فإخراجهم الكلام في معرض التسليم والإقرار- وهو في غاية الجحود- بالغ الذروة من الاستهزاء، فصار المراد عندهم أن هذا الذي ادعاه من الرسالة مما لا يجوز أن يعتقد‏.‏

ثم استأنفوا معجبين من أنفسهم، مخيلين غيرهم من الالتفات إلى ما يأتي به من المعجزات، قائلين‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي إنه ‏{‏كاد‏}‏ وعرّف بأن «إن» مخففة لا نافية باللام فقال‏:‏ ‏{‏ليضلنا‏}‏ أي بما يأتي به من هذه الخوارق التي لا يقدر غيره على مثلها، واجتهاده في إظهار النصح ‏{‏عن آلهتنا‏}‏ هذه التي سبق إلى عبادتها من هو أفضل منا رأياً وأكثر للأمور تجربة‏.‏ ولما كانت هذه العبارة مفهمة لمقاربة الصرف عن الأصنام، نفوه بقولهم‏:‏ ‏{‏لولا أن صبرنا‏}‏ بما لنا من الاجتماع والتعاضد ‏{‏عليها‏}‏ أي على التمسك بعبادتها‏.‏

ولما لزم قولهم هذا أن الأصنام تغني عنهم، نفاه مهدداً مؤكداً التهديد لفظاعة فعلهم بقوله، عطفاً على ما تقديره‏:‏ فسوف يرون- أو من يرى منهم- أكثرهم قد رجع عن اعتقاد أن هذه الأصنام آلالهة‏:‏ ‏{‏وسوف يعلمون‏}‏ أي في حال لا ينفعهم فيه العمل وإن طالت مدة الإمهال والتمكين ‏{‏حين يرون العذاب‏}‏ أي في الدنيا والآخرة ‏{‏من أضل سبيلاً*‏}‏ هم أوالدعي لهم إلى ترك الأصنام الذي ادعوا إضلاله بقولهم ‏{‏ليضلنا‏}‏‏.‏

ولما أخبره تعالى بحقيقة حالهم، في ابتدائهم ومآلهم، وكان ذلك مما يحزنه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على رجوعهم، ولزوم ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، سلاه بقوله معجباً من حالهم‏:‏ ‏{‏أرأيت من اتخذ‏}‏ أي كلف نفسه أن أخذ ‏{‏إلهه هواه‏}‏ أي أنهم حقروا الإله بإنزاله إلى رتبة الهوى فهم لا يعبدون إلا الهوى، وهو ميل الشهوة ورمي النفس إلى الشيء، لا شبهة لهم أصلاً في عبادة الأصنام يرجعون عنها إذا جلت، فهم لا ينفكون عن عبادتها ما دام هواهم موجوداً، فلا يقدر على كفهم عن ذلك إلا القادر على صرف تلك الأهواء، وهو الله وحده وهذا كما تقول‏:‏ فلان اتخذ سميره كتابه، أي أنه قصر نفسه على مسامرة الكتاب فلا يسامر غير الكتاب، وقد يشاركه في مسامرة الكتاب غيره، ولو قلت‏:‏ اتخذ كتابه سميره، لانعكس الحال فكان المعنى أنه أنه قصر نفسه على مطالعة السمير ولم ينظر في كتاب في وقت السمر وقد يشاركه غيره في السمير، أو قصر السمير على الكتاب والكتاب على السمير كما قصر الطين على الخزفية في قولك‏:‏ اتخذت الطين خزفاً، فالمعنى أن هذا المذموم قصر نفسه على تأله الهوى فلا صلاح له ولا رشاد وقد يتأله الهوى غيره، ولو قيل‏:‏ من اتخذ هواه إلهه، لكان المعنى أنه قصر هواه على الإله فلا غيّ له، لأن هواه تابع لأمر الإله، وقد يشاركه في تأله الإله غيره؛ قال أبو حيان‏:‏ والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه- انتهى‏.‏

فلو عكس لقيل‏:‏ لم يتخذ هوى إلا إلهه، وهو إذا فعل ذلك فقد سلب نفسه الهوى فلم يعمل به إلا فيما وافق أمر إلهه ومما يوضح لك انعكاس المعنى بالتقديم والتأخير أنك لو قلت‏:‏ فلان اتخذ عبده أباه، لكان معناه أنه عظم العبد، ولو قيل‏:‏ إنه اتخذ أباه عبده، لكان معناه أنه أهان الأب، وسواء في ذلك إتيانك به هكذا على وزان ما في القرآن أو نكرت أحدهما، فإنك لا تجد ذوقك فيه يختلف في أنه إذا قدم الحقير شرفه، وإذا قدم الشريف حقره، وكذا لو قلت‏:‏ إتخذ إصطبله مسجداً أو صديقه أباً أو عكست، ولو كان التقديم بمجرد العناية من غير اختلاف في الدلالة قدم في الجاثية الهوى، فإن السياق والسباق له، وحاصل المعنى أنه اضمحل وصف الإله، ولم يبق إلا الهوى، فلو قدم الهوى لكان المعنى أنه زال وغلبت عليه صفة الإله، ولم يكن ينظر إلا إليه، ولا حكم إلا له، كما في الطين بالنسبة إلى الخزف سواء- والله أعلم‏.‏

ولما كان لا يقدر على صرف الهوى إلا الله، تسبب عن شدة حرصه على هداهم قوله‏:‏ ‏{‏أفأنت تكون‏}‏ ولما كان مراده صلى الله عليه وسلم حرصاً عليهم ورحمة لهم ردهم عن الغي ولا بد، عبر بأداة الاستعلاء في قوله‏:‏ ‏{‏عليه وكيلاً*‏}‏ أي من قبل الله بحيث يلزمك أن ترده عن هواه إلى ما أمر به الله قسراً، لست بوكيل، ولكنك رسول، ليس عليك إلا البلاغ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏.‏

ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله، منكراً حسبانه، لا كونه هو الحاسب، أو أنكر كونه هو الحاسب، مع ما له من العقل الرزين، والرأي الرصين، ويكون ‏{‏تحسب‏}‏ معطوفاً على «تكون»‏:‏ ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم‏}‏ أي هؤلاء المدعوين ‏{‏يسمعون‏}‏ أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم ‏{‏أو يعقلون‏}‏ ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر‏.‏

ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي، أثبت ما أفهمه بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هم إلا كالأنعام‏}‏ أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به ‏{‏بل هم أضل‏}‏ أي منها ‏{‏سبيلاً*‏}‏ لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم، لا يجانبون المسيء وهو عدوهم، ولا يرغبون في الثواب، ولا يخافون العقاب، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب، وأضاءت أنوار الإيمان، فأبصروا غرائب المعاني، وتبدت لهم خفايا الأسرار

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 9‏]‏ فكما أن الإنسان- وإن كان بصيراً- لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس، فكذلك الإنسان- وإن كان عاقلاً ذا بصيرة- لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمان، لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد؛ ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك، فعبقه سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالاً للأمور المعنوية، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء، دليلاً على سلبهم النفع بما أعطاهموه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ‏(‏45‏)‏ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

ولما بين جمود المعترضين على دلائل الصانع، وتناهي جهلهم، وفساد طريقتهم، وكان المراد من العبد في تعرف ذلك أن ينظر في أفعال سيده بعين الحقيقة نظراً تفنى لديه الأغيار، فلا يرى إلا الفاعل المختار، خاطب رأس المخلصين الناظرين هذا النظر، حثاً لأهل وده على مثل ذلك، فقال ذاكراً لأنواع من الدلائل الدالة على وجود الصانع، وإحاطة علمه، وشمول قدرته، مشيراً إلى أن الناظر في هذا الدليل- لوضوحه في الدلالة على الخالق- كالناظر إلى الخالق، معبراً بوصف الإحسان تشويقاً إلى إدامة النظر إليه والإقبال عليه‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ وأشار إلى عظم المقام وعلو الرتبة بحرف الغاية مع أقرب الخلق منزلة وأعلاهم مقاماً فقال‏:‏ ‏{‏إلى ربك‏}‏ أي المحسن إليك، والأصل‏:‏ إلى فعله؛ وأشار إلى زيادة التعجب من أمره بجعله في معرض الاستفهام فقال‏:‏ ‏{‏كيف مد الظل‏}‏ وهو ظلمة ما منع ملاقاة نور الشمس، قال أبو عبيد‏:‏ وهو ما تنسخه الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال‏.‏ والظل هنا الليل لأنه ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس بما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه، وضرب فسطاطه، كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم، وغفلة طباعهم نفوذَ أسماعهم ‏{‏ولو شاء لجعله‏}‏ أي الظل ‏{‏ساكناً‏}‏ بإدامة الليل لا تذهبه الشمس كما في الجنة لقوله ‏{‏وظل ممدود‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 30‏]‏ وإن كان بينهما فرق، ولكنه لم يشأ ذلك بل جعله متحركاً بسوق الشمس له‏.‏

ولما كان إيجاد النهار بعد إعدامه، وتبيين الظل به غبّ إبهامه، أمراً عظيماً، وإن كان قد هان بكثرة الإلف، أشار بأداة التراخي ومقام العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ثم جعلنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏الشمس عليه دليلاً*‏}‏ أي يدور معها حيثما دارت، فلولا هي ما ظهر أن لشيء ظلاًّ، ولولا النور ما عرف الظلام، والأشياء تعرف بأضدادها‏.‏

ولما كانت إزالته شيئاً فشيئاً بعد مدة كذلك من العظمة بمكان‏.‏ قال منبهاً على فضل مدخول «ثم» وترتبه متصاعداً في درج الفضل، فما هنا أفضل مما قبله، وما قبله أجلّ مما تقدمه، تشبيهاً لتباعد ما بين المراتب الثلاث في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت‏:‏ ‏{‏ثم قبضناه‏}‏ أي الظل، والقبض‏:‏ جمع المنبسط ‏{‏إلينا‏}‏ أي إلى الجهة التي نريدها، لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها؛ قال الرازي رحمه الله في اللوامع‏:‏ وهذه الإضافة لأن غاية قصر الظل عند غاية تعالي الشمس، والعلو موضع الملائكة وجهة السماء التي فيها أرزاق العباد، ومنها نزول الغيث والغياث، وإليها ترتفع أيدي الراغبين، وتشخص أبصار الخائفين- انتهى‏.‏ ‏{‏قبضاً يسيراً*‏}‏ أي هو- مع كونه في القلة بحيث يعسر إدراكه حق الإدراك- سهل علينا، ولم نزل ننقصه شيئاً فشيئاً حتى اضمحل كله، أو إلا يسيراً، ثم مددناه أيضاً بسير الشمس وحجبها ببساط الأرض قليلاً قليلاً، أولاً فأولاً بالجبال والأبنية والأشجار، ثم بالروابي والآكام والظراب وما دون ذلك، حتى تكامل كما كان، وفي تقديره هكذا من المنافع ما لا يحصى، ولو قبض لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعاً، فالحاصل أنه يجعل بواطنهم مظلمة بحجبها عن أنوار المعارف فيصيرون كالماشي في الظلام، ويكون نفوذهم في الأمور الدنيوية كالماشي بالليل في طرق قد عرفها ودربها بالتكرار، وحديث علي رضي الله عنه في الروح الذي مضى عند «والطبيات للطيبين» في النور شاهد حسي لهذا المر المعنوي- والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ‏(‏47‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ‏(‏48‏)‏ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ‏(‏49‏)‏ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

ولما تضمنت هذه الآية الليل النهار، قال مصرحاً بهما دليلاً على الحق، وإظهاراً للنعمة على الخلق‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي ربك وحده ‏{‏الذي جعل‏}‏ ولما كان ما مضى في الظل أمراً دقيقاً فخص به أهله، وكان أمر الليل والنهار ظاهراً لكل أحد، عم فقال‏:‏ ‏{‏لكم الليل‏}‏ أي الذي تكامل به مد الظل ‏{‏لباساً‏}‏ أي ساتراً للأشياء عن الأبصار كما يستر اللباس ‏{‏والنوم سباتاً‏}‏ أي نوماً وسكوناً وراحة، عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس، قطعاً عما كان من الشعور والتقلب، دليلاً لأهل البصائر على الموت؛ قال البغوي وغيره‏:‏ وأصل السبت القطع‏.‏ وفي جعله سبحانه كذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وجعل النهار نشوراً*‏}‏ أي حياة وحركة وتقلباً بما أوجد فيه من اليقظة المذكرة بالبعث، المهيئة للتقلب، برد ما أعدمه النوم من جميع الحواس؛ يحكى أن لقمان قال لابنه‏:‏ كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر‏.‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر السبات أولاً دليلاً على الحركة ثانياً، والنشور ثانياً دليلاً على الطيّ والسكون أولاً‏.‏

ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك، دالاًّ على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله، فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي أرسل الرياح‏}‏ فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صباً وأخرى دبوراً، ومرة شمالاً وكرة جنوباً وغير ذلك ‏{‏بشراً‏}‏ أي تبعث بأرواحها السحاب، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏ لعباده بالمطر‏.‏

ولما كان السحاب قريباً من الريح في اللطافة، والماء قريباً منهما ومسبباً عما تحمله الريح من السحاب، أتبعهما به، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى، غير الأسلوب مظهراً للعظمة فقال‏:‏ ‏{‏وأنزلنا من السماء‏}‏ أي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه ‏{‏ماء‏}‏ ثم أبدل منه بياناً للنعمة به فقال‏:‏ ‏{‏طهوراً*‏}‏ أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله‏.‏ وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر‏.‏

ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلاً واضحاً على ذلك، فقال معبراً بالإحياء لذلك، معللاً للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به‏:‏ ‏{‏لنحيي به‏}‏ أي بالماء‏.‏

ولما كان المقصود بإحياء الأرض بالنبات إحياء البلاد لإحياء أهلها قال‏:‏ ‏{‏بلدة‏}‏ ولو كان ملحاً أو مراً أو مكبرتاً لم تكن فيه قوة الإحياء‏.‏ ولما كره أن يفهم تخصيص البلاد، أجري الوصف باعتبار الموضع ليعم كل مكان فقال‏:‏ ‏{‏ميتاً‏}‏ أي بما نحدث فيه من النبات بعد أن كان قد صار هشيماً ثم تراباً، ليكون ذلك آية بينة على قدرتنا على بعث الموتى بعد كونهم تراباً‏.‏

ولما كان في مقام العظمة، بإظهار القدرة، زاد على كونه آية على البعث بإظهار النبات الذي هو منفعة للرعي منفعة أخرى عظيمة الجدوى في الحفظ من الموت بالشرب كما كانت آية الإحياء حافظة بالأكل فقال‏:‏ ‏{‏ونسقيه‏}‏ أي الماء وهو من أسقاه- مزيد سقاه، وهما لغتان‏.‏ قال ابن القطاع‏:‏ سقيتك شراباً وأسقيتك، والله تعالى عباده وارضه كذلك‏.‏ ‏{‏مما خلقنا‏}‏ أي بعظمتنا‏.‏

ولما كانت النعمة في إنزال الماء على الأنعام وأهل البوادي ونحوهم أكثر، لأن الطير والوحش تبعد في الطلب فلا تعدم ما تشرب، خصها فقال‏:‏ ‏{‏أنعاماً‏}‏ وقدم النبات لأن به حياة الأنعام، والأنعام لأن بها كمال حياة الإنسان، فإذا وجد ما يكفيها من السقي تجزّأ هو بأيسر شيء، وأتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأناسيّ كثيراً*‏}‏ أي بحفظنا له في الغدران لأهل البوادي الذين يبعدون عن الأنهار والعيون وغيرهم ممن أردنا، لأنه تعالى لا يسقي جميع الناس على حد سواء، ولكن يصيب بالمطر من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ويسقي بعض الناس من غير ذلك، ولذا نكر المذكورات- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء- وتلا هذه الآية‏.‏ وقال البغوي‏:‏ وذكر ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل وبلغوا به ابن مسعود رضي الله عنه يرفعه قال‏:‏ ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله قسم الأرزاق، فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم، وإذا عصوا جميعاً صرف الله تعالى ذلك إلى الفيافي والبحار- انتهى‏.‏ وكان السر في ذلك أنه كان من حقهم أن يطهروا ظواهرهم وبواطنهم، ويطهروا غيرهم ليناسبوا حاله في الطهورية، فلما تدنسوا بالقاذورات تسببوا في صرفه عنهم‏.‏

ولما ذكر سبحانه أن من ثمرة إنزال القرآن نجوماً إحياء القلوب التي هي أرواح الأرواح، وأتبعه ما لاءمه، إلى أن ختم بما جعله سبباً لحياة الأشباح، فكان موضعاً لتوقع العود إلى ما هو حياة الأرواح، قال عاطفاً على متعلق ‏{‏كذلك لنثبت‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ منبهاً على فائدة أخرى لتنجيمه أيضاً‏:‏ ‏{‏ولقد صرفناه‏}‏ أي وجهنا القرآن‏.‏

كما قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه المراد ههنا، ويؤيده ما بعده- وجوهاً من البيان، وطرقناه طرقاً تعيي أرباب اللسان، في معان كثيرة جداً ‏{‏بينهم‏}‏ في كل قطر عند كل قوم ‏{‏ليذكروا‏}‏ بالآيات المسموعة ما ركزنا في فطرهم من الأدلة العقلية والمؤيدة بالآيات المرئية ولو على أدنى وجوه التذكر المنجية لهم- بما أشار إليه الإدغام‏.‏

ولما كان القرآن قائداً ولا بد لمن أنصف إلى الإيمان، دل على أن المتخلف عنه إنما هو معاند بقوله‏:‏ ‏{‏فأبى‏}‏ أي لم يرد ‏{‏أكثر الناس‏}‏ أي بعنادهم ‏{‏إلا كفوراً*‏}‏ مصدر كفر مبالغاً فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ‏(‏51‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ‏(‏52‏)‏ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا ‏(‏53‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ‏(‏54‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ‏(‏55‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيراً، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصاً على هدايتهم، فأومأ أولاً إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئاً، وثانياً بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز، وكان ذلك موجوداً في آيات القرآن، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير، قال مشيراً إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لبعثنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة ‏{‏في كل قرية نذيراً*‏}‏ أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا، كما قسمنا المطر لأن الملك- كما قدمنا أول السورة- كله لنا، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق، ولا ولد يمنع بما له من الدلة، ولكنا لم نفعل لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك- وغير ذلك من الحكمة ‏{‏فلا تطع الكافرين‏}‏ فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة، أو من القلق من صادع الإنذار، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك ‏{‏وجاهدهم‏}‏ أي بالدعاء ‏{‏به‏}‏ أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في ‏{‏ولقد صرفناه‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة، والاحتجاج ببراهينه ‏{‏جهاداً كبيراً*‏}‏ جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيتقوى أمرك، ويعظم خطبك، وتضعف شوكتهم، وتنكسر سورتهم‏.‏

ولما ذكر تصريف الفرقان، ونشره في جميع البلدان، بعد إثارة الرياح ونشر السحاب، وخلط الماء بالتراب، لجمع النبات وتفريقه، أتبعه- تذكيراً بالنعمة، وتحذيراً من إحلال النقمة- الحجز بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجاً منه، وجمع كل نوع منها على حدته، ومنعه من أن يختلط بالآخر مع اختلاط الكل بالتراب المتصل بعضه ببعض، فقال عائداً إلى أسلوب الغيبة تذكيراً بالإحسان بالعطف على ضمير «الرب» في آية الظل‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي مرج البحرين‏}‏ أي الماءين الكثيرين الواسعين بأن جعلهما مضطربين كما تشاهدونه من شأن الماء؛ وقال الرازي‏:‏ خلى بينهما كأنه أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج، وأصل المرج يدل على ذهاب ومجيء واضطراب والتباس‏.‏

ولما كان الاضطراب موجباً للاختلاط، وكانت «ال» دائرة بين العهد والجنس، تشوف السامع إلى السؤال عن ذلك، فأجيب بأن المراد جنس الماء الحلو والملح، لأن البحر في الأصل الماء الكثير، وبأنه سبحانه منعهما من الاختلاط، مع الموجب له في العادة، بقدرته الباهرة، وعظمته القاهرة، فقال‏:‏ ‏{‏هذا عذب‏}‏ أي حلو سائغ ‏{‏فرات‏}‏ أي شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة، لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض وما كان في بطنها ‏{‏وهذا ملح‏}‏ شديد الملوحة ‏{‏أجاج‏}‏ أي مر محرق بملوحته ومرارته، لا يصلح لسقي ولا شرب، ولعله أشار بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الموضعين، مع شدة المقاربة، لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطئ البحر الملح بالقرب منه جداً خرج الماء عذباً جداً ‏{‏وجعل‏}‏ أي الله سبحانه ‏{‏بينهما برزخاً‏}‏ أي حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما‏.‏

ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ، تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ، ليكون الكلام- مع أنه خبر- محتملاً للتعوذ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال‏:‏ ‏{‏وحجراً‏}‏ أي منعاً ‏{‏محجوراً*‏}‏ أي ممنوعاً من أن يقبل رفعاً، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضاً عنها إلى الغاية، لتعرف بها قدرته، وتشكر نعمته‏.‏

ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط، أتبعه القدرة على خلطه، لئلا يظن أنه ممتنع، تقريراً للفعل بالاختيار، وإبطالاً للقول بالطبائع، فقال معبراً بالضمير كما تقدمه حثاً على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي وحده ‏{‏الذي خلق من الماء‏}‏ بخلطه مع الطين ‏{‏بشراً‏}‏ كما تشاهدونه يخلق منه نباتاً وشجراً وورقاً وثمراً ‏{‏فجعله‏}‏ أي بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة، والتدوير في أدوار التربية ‏{‏نسباً‏}‏ أي ذكراً ينسب إليه ‏{‏وصهراً‏}‏ أي أنثى يصاهر- أي يخالط بها إلى الذكر، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين‏:‏ عذبا وملحاً، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدمياً، ومنعه من ذلك إذا أراد، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما إذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة ‏{‏وكان ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك ‏{‏قديراً*‏}‏ على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق، سهل الأخلاق، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق، أو ملتبس الأخلاق، عريقاً في النفاق، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة، التام العلم‏.‏

ولما أثبت له بهذه الأدلة القدرة على كل شيء، قال معجباً منهم في موضع الحال من «ربك» عوداً إلى تهجين سيرتهم في عبادة غيره، معبراً بالمضارع، إشارة إلى أنهم لو فعلوا ذلك مرة لكان في غاية العجب، فكيف وهو على سبيل التجديد والاستمرار‏؟‏ ومصوراً لحالهم زيادة في تبشيعها‏:‏ ‏{‏ويعبدون‏}‏ أي الكفرة ‏{‏من دون‏}‏ أي ممن يعلمون أنه في الرتبة دون ‏{‏الله‏}‏ المستجمع لصفات العظمة، بحيث إنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده‏.‏

ولما كان هذا السياق لتعداد نعمه سبحانه، وكان الحامل للإنسان على الإذعان رجاء الإحسان، أو خوف الهوان، وكان رجاء الإحسان مقبلاً به إلى المحسن في السر والإعلان، قدم النفع فقال‏:‏ ‏{‏ما لا ينفعهم‏}‏ أي بوجه‏.‏

ولما كان الخوف إنما يوجب الإقبال ظاهراً فقط، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يضرهم‏}‏ أي أصلاً في إزالة نعمة من نعم الله عنهم، فلا أسخف عقلاً ممن يترك من بيده كل نفع وضر وهو يتقلب في نعمه، في يقظته ونومه، وأمسه ويومه، ويقبل على من لا نفع بيده ولا ضر أصلاً؛ وأظهر في موضع الضمير بياناً للوصف الحامل على ما لا يفعله عاقل، وأفرد تحقيراً لهم فقال‏:‏ ‏{‏وكان الكافر‏}‏ مع علمه بضعفه وعجزه‏.‏

ولما كان الكافر لا يمكن أن يصافي مسلماً ما دام كافراً، وكانت مصافاته لغيره حاصلة إما بالفعل أو بالقوة، عدت مصارمته لغيره عدماً، فكانت مصارمته خاصة بأولياء الله، وكان ذلك أشد لذمه، دل عليه بتقديم الجار فقال‏:‏ ‏{‏على ربه‏}‏ أي المحسن إليه لا غيره ‏{‏ظهيراً*‏}‏ معيناً لشياطين الإنس والجن على أولياء الله، والتعبير ب «على» دال على أنه وإن كان مهيناً في نفسه حقيراً فاعل فعل العالي على الشيء القوي الغليظ الغالب له، المعين عليه، من قولهم‏:‏ ظهر الأرض لما علا منها وغلظ، وأمر ظاهر لك، أي غالب، والظاهر‏:‏ القوي والمعين، وذلك لأنه يجعل لما يعبده من الأوثان نصيباً مما تفرد الله بخلقه، ثم يجعل لها أيضاً بعض ما كان سماه لله، ويعاند أولياء الله من الأنبياء وغيرهم، وينصب لهم المكايد والحروب، ويؤذيهم بالقول والفعل، مع علمه بأن الله معهم لما يشاهدونه من خرقه لهم العوائد، فكان هذا فعل من لا يعبأ بالشيء ‏{‏لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏أن لا تعلوا على الله‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 19‏]‏ وهو في الحقيقة تهكم بالكفار، لأنهم يفعلون ما يلزم عليه هذا اللازم الذي لا يدور في خلد عاقل‏.‏

ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم‏:‏ فالزم ما نأمرك به ولا يزد همُّك بردهم عما هم فيه، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك‏}‏ أي بما لنا من العظمة‏.‏

ولما كان سياق السورة للإنذار، لما ذكر فيها من سوء مقالهم، وقبح أفعالهم، حسن التعبير في البشارة بما يدل على كثرة الفعل، ويفهم كثرة المفعول، بشارة بكثرة المطيع، وفي النذارة بما يقتضي أن يكون صفة لازمة فقال‏:‏ ‏{‏إلا مبشراً‏}‏ أي لكل من يؤمن ‏{‏ونذيراً*‏}‏ لكل من يعصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 61‏]‏

‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏57‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ‏(‏58‏)‏ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ‏(‏59‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ‏(‏60‏)‏ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

ولما وقع جوابهم عن قولهم ‏{‏لولا أنزل إليه ملك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ وكان قد بقي قولهم ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ أشير إلى مزيد الاهتمام بجوابه بإبرازه في صورة الجواب لمن كأنه قال‏:‏ ماذا يقال لهم إذا تظاهروا وطعنوا في الرسالة بما تقدم وغيره‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم يا أكرم الخلق حقيقة، وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة‏:‏ ‏{‏ما أسألكم عليه‏}‏ أي على الإبلاغ بالبشارة والنذارة ‏{‏من أجر‏}‏ لتتهموني أني أدعوكم لأجله، أو تقولوا‏:‏ لولا ألقي إليه كنز ليغتني به عن ذلك، فكأنه يقول‏:‏ الاقتصار عن التوسع في المال إنما يكره لمن يسأل الناس، وليس هذا من شيمي قبل النبوة فكيف بما بعدها‏؟‏ فلا غرض لي حينئذ إلا نفعكم‏.‏ ثم أكد هذا المعنى بقوله، مستثنياً لأن الاستثناء معيار العموم‏:‏ ‏{‏إلا من‏}‏ أي إلا أجر من ‏{‏شاء أن يتخذ‏}‏ أي يكلف نفسه ويخالف هواه ويجعل له ‏{‏إلى ربه سبيلاً*‏}‏ فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره، لا نفع لي من جهتكم إلا هذا، فإن سيتم هذا أجراً فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لا ينقص أحداً شيئاً من دنياه، فلا ضرر على أحد في طي الدنيا عني، فأفاد هذا فائدتين‏:‏ إحداهما أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم، والثانية إظهار الشفقة البالغة بأنه يعتد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه‏.‏

ولما كان المقصود ردهم عن عنادهم، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان هذا الكلام لا يرد متعنتيهم- وهم الأغلب- الذين تخشى غائلتهم، عطف على «قل» قوله‏:‏ ‏{‏وتوكل‏}‏ أي أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم عن عنادهم‏.‏

ولما كان الوكيل يحمل عن الموكل ثقل ما أظهر له عجزه فيه ويقوم بأعبائه حتى يصير كمن يحمل عن آخر عيناً محسوسة لا يصير له عليه شيء منها أصلاً، عبر بحرف الاستعلاء تمثيلاً لذلك فقال‏:‏ ‏{‏على الحي‏}‏ ولا يصح التوكل عليه إلا بلزوم طاعته والإعراض عما سواها‏.‏

ولما كان الأحياء من الخلق يموتون، بين أن حياته ليست كحياة غيره فقال‏:‏ ‏{‏الذي لا يموت‏}‏ أي فلا ضياع لمن توكل عليه أصلاً، بل هو المتولي لمصالحه في حياته وبعد مماته، ولا تلتفت إلى ما سواه بوجه فإنه هالك ‏{‏وسبح بحمده‏}‏ أي نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال‏.‏

ولما كان المسلى ربما وقع في فكره أن من سلاه إما غير قادر على نصره، أو غير عالم بذنوب خصمه، وكان السياق للشكاية من إعراض المبلغين عن القرآن، وما يتبع ذلك من الأذى، أشار بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير‏:‏ فكفى به لك نصيراً، وعطف عليه‏:‏ ‏{‏وكفى‏}‏ وعين الفاعل وحققه بإدخال الجار عليه فقال‏:‏ ‏{‏به بذنوب عباده‏}‏ أي وكل ما سواهم عباده ‏{‏خبيراً*‏}‏ لا يخفى عليه شيء منها وإن دق، ثم وصفه بما يقتضي أنه مع ما له من عظيم القدرة بالملك والاختراع- متصف بالأناة وشمول العلم وحسن التدبير ليتأسى به المتوكل عليه فقال‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ أي على عظمهما ‏{‏وما بينهما‏}‏ من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها

‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في ستة أيام‏}‏ تعجيب للغبي الجاهل، تدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله في دعوتهم إلى الله، وتذكير بما له من عظيم القدرة وما يلزمها من شمول العلم، والمراد مقدار ستة من أيامنا، فإن الأيام ما حدثت إلا بعد خلق الشمس، والإقرار بأن تخصيص هذا العدد لداعي حكمة عظيمة، وكذا جميع أفعاله وإن كنا لا ندرك ذلك، هو الإيمان، وجعل الله الجمعة عيداً للمسلمين لأن الخلق اجتمع فيه بخلق آدم عليه السلام فيه في آخر ساعة‏.‏

ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً، أشار إليه بأداة التراخي فقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ أي شرع في تدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، وهم وذنوبهم من جملته كما يفعل الملوك في ممالكهم، لا غفلة عنده عن شيء أصلاً، ولا تحدث فيه ذرة من ذات أو معنى إلا بخلق جديد منه سبحانه، رداً على من يقول من اليهود وغيرهم‏:‏ إن ذلك إنما هو بما دبر في الأزل من الأسباب، وأنه الآن لا فعل له‏.‏

ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله، أشار إلى أنه على غير ذلك، حاضاً على الرفق، بقوله‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ أي الذي سبقت رحمته غضبه، وهو يحسن إلى من يكفره، فضلاً عن غيره، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله، والحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم‏.‏

ولما كان العلم لازماً للملك، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد‏:‏ ‏{‏فاسأل به‏}‏ أي بسبب سؤالك إياه ‏{‏خبيراً‏}‏ عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم، فسيعلي كعبك عليهم، ويحسن لك العاقبة‏.‏

ولما ذكر إحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه، ويغذوهم بفضله وكرمه، من أيّ قائل كان‏:‏ ‏{‏اسجدوا‏}‏ أي اخضعوا بالصلاة وغيرها ‏{‏للرحمن‏}‏ الذي لا نعمة لكم إلا منه ‏{‏قالوا‏}‏ قول عال متكبر كما تقدم في معنى ‏{‏ظهيراً‏}‏‏:‏ ‏{‏وما الرحمن‏}‏ متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن العربي‏:‏ إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة، دون الموصوف‏.‏

ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه، بقولهم‏:‏ ‏{‏أنسجد لما تأمرنا‏}‏ فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل ‏{‏وزادهم‏}‏ هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة ‏{‏نفوراً*‏}‏ لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً، فلا نفرة توازي هذه النفرة، ولا ذم أبلغ منه‏.‏

ولما ذكر حال النذير الذي ابتدأ به السورة في دعائه إلى الرحمن الذي لو لم يدع إلى عبادته إلا رحمانيته لكفى، فكيف بكل جمال وجلال، فأنكروه، اقتضى الحال أن يوصل به إثباته بإثبات ما هم عالمون به من آثار رحمانيته، ففصل ما أجمل بعد ذكر حال النذير، ثم من الملك، مصدراً له بوصف الحق الذي جعله مطلع السورة راداً لما تضمن إنكارهم من نفيه فقال‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ أي ثبت ثباتاً لا نظير له ‏{‏الذي جعل في السماء‏}‏ التي قدم أنه اخترعها ‏{‏بروجاً‏}‏ وهي اثنا عشر برجاً، هي للكواكب السيارة كالمنازل لأهلها، سميت بذلك لظهورها، وبنى عليها أمر الأرض، دبر بها فصولها، وأحكم بها معايش أهلها‏.‏

ولما كانت البروج على ما تعهد لا تصلح إلا بالنور، ذكره معبراً بلفظ السراج فقال‏:‏ ‏{‏وجعل فيها‏}‏ أي البروج ‏{‏سراجاً‏}‏ أي شمساً، وقرأ حمزة والكسائي بصيغة الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك بحيث إنه أعظم من ألوف ألوف من السرج، فهو قائم مقام الوصف كما قال في الذي بعده‏:‏ ‏{‏وقمراً منيراً*‏}‏ أتم- بتنقلهما فيها وبغير ذلك من أحوالهما- التدبير، أي أن العلم بوجوبه لا شك فيه، فكيف يشك عاقل في وجوده أو في رحمانيته بهذا العالم العظيم المتقن الصنع الظاهر فيه أمر الرحمانية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ‏(‏62‏)‏ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ‏(‏63‏)‏ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ‏(‏64‏)‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ‏(‏65‏)‏ إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه فقال‏:‏ ‏{‏وهو الذي جعل الليل‏}‏ أي الذي آيته القمر ‏{‏والنهار‏}‏ الذي آيته الشمس ‏{‏خلفة‏}‏ أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك، بضد ما له من الأوصاف، ويقوم مقامه في كثير من المرادات، والأشياء المقدرات، ويعلم قد التسامح فيها، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك؛ قال ابن جرير‏:‏ والعرب تقول‏:‏ خلف هذا من كذا خلفة، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله‏.‏ وفي القاموس أن الخلف والخلفة- بالكسر‏:‏ المختلف‏.‏ فعلى هذا يكون التقدير‏:‏ جعلهما مختلفين في النور والظلام، والحر والبرد، غير ذلك من الأحكام‏.‏ وقال الرازي في اللوامع‏:‏ يقال‏:‏ الأمر بينهم خلفة، أي نوبة، كل واحد يخلف صاحبه، والقوم خلفة، أي مختلفون‏.‏

ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء كالعادم لذلك الشيء، خص الجعل بالمجتني للثمرة فقال‏:‏ ‏{‏لمن أراد أن يذكر‏}‏ أي يحصل له تذكر ولو على أدنى الوجوه- بما دل عليه الإدغام في قراءة الجماهة بفتح الذال والكاف مشددتين، لما يدله عليه عقله من أن التغير على هذه الهيئة العظيمة لا يكون بدون مغير قادر عظيم القدرة مختار، فيؤديه تذكره إلى الإيمان إن كان كفوراً، وقراءة حمزة بالتخفيف من الذكر تشير إلى أن ما يدلان عليه من تمام القدرة وشمول العلم الدال قطعاً على الوحدانية على غاية من الظهور، لا يحتاج إلى فكر، بل تحصل بأدنى التفات ‏{‏أو أراد شكوراً*‏}‏ أي شكراً بليغاً عظيماً لنعم الله لتحمله إرادته تلك على الشكر إن كان مؤمناً، بسبب ما أنعم به ربه من الإتيان بكل منهما بعد هجوم الآخر لاجتناء ثمراته، ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخرة، ولحصلت السآمة به، والملل منه، والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات، الكسل وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر، وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير‏.‏

ولما ذكر عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان، ولم يصفهم إلى اسم من أسمائه، إيذاناً بإهانتهم لهوائهم عنده، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة ‏{‏نذيراً‏}‏ وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه، وأشار إليهم سابقاً بتخصيص الوصف بالفرقان، فأتبع ذلك ذكرهم، فقال عاطفاً على جملة الكلام في قوله ‏{‏وإذا قيل لهم‏}‏ لكنه رفعهم بالابتداء تشريفاً لهم‏:‏ ‏{‏وعباد‏}‏ ويجوز أن يقال ولعله أحسن‏:‏ أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم، وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير‏:‏ فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة، عطف على هذا المقدر أضدادهم، واصفاً لهم بأضداد أوصافهم، مبشراً لهم بضد جزائهم، فقال‏:‏ وعباد ‏{‏الرحمن‏}‏ فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال‏:‏ ‏{‏الذين يمشون‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏على الأرض‏}‏ تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثاً على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال‏:‏ ‏{‏هوناً‏}‏ أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرؤوا من حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك، والأحسن أن يجعل هذا خبر «العباد»، ويكون

‏{‏أولئك يجزون الغرفة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ استئنافاً متشوفاً إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة‏.‏

ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال‏:‏ ‏{‏وإذا‏}‏ دون «إن» لقضاء العادة بتحقق مدخولها، ولم يقل‏:‏ والذين كبقية المعطوفات، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع ‏{‏خاطبهم‏}‏ خطاباً ما، بجهل أو غيره وفي وقت ما ‏{‏الجاهلون‏}‏ أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة ‏{‏قالوا سلاماً*‏}‏ أي ما فيه سلامة من كل سوء، وليس المراد التحية- نقل ذلك سيبويه عن أبي الخطاب، قال‏:‏ لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك‏:‏ تسليماً لا خير بيننا وبينكم ولا شراً- انتهى‏.‏ فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع، وكأنه أطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر قول الجاهل الجهل‏.‏

ولما ذكر ما بينهم وبين الخلق من القول والفعل، وكان الغالب على ذلك أن يكون جلوة نهاراً، ذكر ما بينهم وبين خالقهم من ذلك خلوة ليلاً، وذكر هذه المعطوفات التي هي صفات بالواو، تنبيهاً على أن كل واحدة منها تستقل بالقصد لعظم خطرها، وكبر أثرها، فقال‏:‏ ‏{‏والذين يبيتون‏}‏ من البيتوتة‏:‏ أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، وهي خلاف الظلول؛ وأفاد الاختصاص بتقديم ‏{‏لربهم‏}‏ أي المحسن إليهم برحمانيته، يحيون الليل رحمة لأنفسهم، وشكراً لفضله‏.‏

ولما كان السجود أشد أركان الصلاة تقريباً إلى الله، لكونه أنهى الخضوع مع أنه الذي أباه الجاهلون، قدمه لذلك ويعلم بادئ بدء أن القيام في الصلاة فقال‏:‏ ‏{‏سجداً‏}‏ وأتبعه ما هو تلوه في المشقة تحقيقاً لأن السجود على حقيقته فيتمحص الفعلان للصلاة، فقال‏:‏ ‏{‏وقياماً*‏}‏ أي ولم يفعلوا فعل الجاهلين من التكبر عن السجود، بل كانوا- كما قال الحسن رحمه الله‏:‏ نهارهم في خشوع، وليلهم في خضوع‏.‏

ولما ذكر تهذيبهم لأنفسهم للخلق والخالق، أشار إلى أنه لا إعجاب عندهم، بل هم وجلون، وأن الحامل لهم على ذلك الإيمان بالآخرة التي كذب بها الجاهلون ‏{‏يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏ وقدموا الدعاء بالنجاة اهتماماً بدرء المفسدة، وإشعاراً بأنهم مستحقون لذلك وإن اجتهدوا، لتقصيرهم عن أن يقدروه سبحانه حق قدره فقال‏:‏ ‏{‏والذين يقولون ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏اصرف عنا عذاب جهنم‏}‏ الذي أحاط بنا لا ستحقاقنا إياه إلا أن يتداركنا عفوك ورحمتك، بما توفقنا له من لقاء من يؤذينا بطلاقة الوجه، لا بالتجهم، ثم علل سؤالهم يقولهم‏:‏ ‏{‏إن عذابها كان‏}‏ أي كوناً جبلت عليه ‏{‏غراماً*‏}‏ أي هلاكاً وخسراناً ملحاً محيط بمن تعلق به مذلاً له، دائماً بمن غرى به، لازماً له لا ينفك عنه ونحن كنا نسير على من آذانا‏.‏

ولما ثبت لها هذا الوصف، أنتج قوله‏:‏ ‏{‏إنها ساءت‏}‏ أي تناهت هي في كل ما يحصل منه سوء، وهي في معنى بئست في جميع المذام ‏{‏مستقراً‏}‏ أي من جهة موضع استقرار ‏{‏ومقاماً*‏}‏ أي موضع إقامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 72‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ‏(‏67‏)‏ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ‏(‏68‏)‏ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ‏(‏69‏)‏ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏70‏)‏ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ‏(‏71‏)‏ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

ولما ذكر أفعالهم وأقوالهم فيما بينهم وبين الخلق وقدمه، والخالق وأخره، لأن وجوبه يكون بعد ذلك، ذكر أحوالهم في أموالهم، نظراً إلى قول الكفرة ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ وهداية إلى طريق الغنى لأنه ما عال من اقتصد، فقال‏:‏ ‏{‏والذين إذا أنفقوا‏}‏ أي للخلق أو الخالق في واجب أو مستحب ‏{‏لم يسرفوا‏}‏ أي يجاوزوا الحد في النفقة بالتبذير، فيضيعوا الأموال في غير حقها فيكونوا إخوان الشياطين الذين هم من النار ففعلهم فعلها ‏{‏ولم يقتروا‏}‏ أي يضيقوا فيضيعو الحقوق؛ ثم بين العدل بقوله‏:‏ ‏{‏وكان‏}‏ أي إنفاقهم ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي الفعل الذي يجب إبعاده‏.‏

ولما علم أن ما بين الطرفين المذمومين يكون عدلاً، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏قواماً*‏}‏ أي عدلاً سواء بين الخلقين المذمومين‏:‏ الإفراط والتفريط، تخلقاً بصفة قوله تعالى ‏{‏ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن نزل بقدر ما يشاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 27‏]‏ وهذه صفة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم- كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة، ويعين على العبادة، ويلبسون ما يستر العورة، ويكنّ من الحر والقر، قال عمر رضي الله عنه‏:‏ كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله‏.‏

ولما ذكر ما تحلوا به من أصول الطاعات، بما لهم من العدل والإحسان بالأفعال والأقوال، في الأبدان والأموال، أتبعه ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر، فقال‏:‏ ‏{‏والذين لا يدعون‏}‏ رحمة لأنفسهم واستعمالاً للعدل ‏{‏مع الله‏}‏ أي الذي اختص بصفات الكمال ‏{‏إلهاً‏}‏ وكلمة «مع» وإن أفهمت أنه غير، لكن لما كانوا يتعنتون حتى أنهم يتعرضون بتعديد الأسماء كما مر في آخر سبحان والحجر، قال تعالى قطعاً لتعنتهم‏:‏ ‏{‏آخر‏}‏ أي دعاء جلياً بالعبادة له، ولا خفياً بالرياء، فيكونوا كمن أرسلت عليهم الشياطين فأزتهم أزاً‏.‏

ولا نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها، أتبعه قتل غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏ولا يقتلون‏}‏ أي بما تدعو إليه الحدة ‏{‏النفس‏}‏ أي رحمة للخلق وطاعة للخالق‏.‏ ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له، بين المراد بقوله‏:‏ ‏{‏التي حرم الله‏}‏ أي قتلها، أي منع منعاً عظيماً الملك الأعلى- الذي لا كفوء له- من قتلها ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي بأن تعمل ما يبيح قتلها‏.‏

ولما ذكر القتل الجلي، أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد، فقال‏:‏ ‏{‏ولا يزنون‏}‏ أي رحمة لما قد يحدث من ولد، إبقاء على نسبه، ورحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم، مع رحمته لنفسه، على أن الزنى جارّ أيضاً إلى القتل والفتن، وفيه التسبب لإيجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح

«عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي الذنب أعظم- وفي رواية‏:‏ أكبر- عند الله‏؟‏ قال‏:‏ أن تدعو لله نداً هون خلقك، قال‏:‏ ثم أيّ‏؟‏ قال‏:‏ أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال‏:‏ ثم أيّ‏؟‏ قال‏:‏ أن تزني بحليلة جارك، فأنزل الله تصديق ذلك ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ الآية» وقد استشكل تصديق الآية للخبر من حيث إن الذي فيه قتل خاص وزنى خاص، والتقييد بكونه أكبر، والذي فيها مطلق القتل والزنى من غير تعرض لعظم، ولا إشكال لأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه‏:‏ الأول‏:‏ الاعتراض بين المبتدأ الذي هو «وعباد» وما عطف عليه، والخبر الذي هو ‏{‏أولئك يجزون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 75‏]‏ على أحد الرأيين بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة، وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام‏.‏ الثاني‏:‏ الإشارة بأداة البعد- في قوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ أي الفعل العظيم القبح- مع قرب المذكورات، فدل على أن البعد في رتبها‏.‏ الثالث‏:‏ التعبير باللقى مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله‏:‏ ‏{‏يلق أثاماً*‏}‏ دون يأثم أو يلق إثماً أو جزاء إثمه‏.‏

الرابع‏:‏ التقييد بالمضاعفة في قوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏يضاعف‏}‏ أي بأسهل أمر ‏{‏له العذاب‏}‏ جزاء ما أتبع نفسه هواها بما فيه من الحرارة الشيطانية- هذا في قراءة ابن عامر وأبي بكر عن عاصم بالرفع وهو بدل «يلق» في قراءة الجماعة، لأنهما تؤولان إلى معنى واحد، ومضاعفة العذاب- والله أعلم- إتيان بعضه في أثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك، وقراءة ابن كثير وأبي جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد تفيد مطلق التعظيم للتضعيف، وقراءة الباقين بالمفاعلة تقتضيه بالنسبة إلى من يباري آخر فيه فهو أبلغ‏.‏ الخامس‏:‏ التهويل بقوله‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي هو أهول من غيره بما لا يقايس‏.‏ السادس‏:‏ الإخبار بالخلود الذي هو أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً، فقال عاطفاً في القراءتين على يضاعف‏:‏ ‏{‏ويخلد فيه‏}‏‏.‏ السابع‏:‏ التصريح بقوله‏:‏ ‏{‏مهاناً*‏}‏ ولعله للاحتراز عما يجوز من أن بعض عصاة هذه الأمة- الذين يريد الله تعذيبهم- يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة، فتكون إقامتهم- مع العلم بالمآل- ليست على وجه الإهانة، فلما عظم الأمر من هذه الأوجه، علم أن كلاًّ من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيراً، كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم، لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً، فثبت بهذا أنها كبائر، وأن قتل الولد والزنى بحليلة الجار أكبر لما ذكر، فوضح وجه تصديق الآية للخبر، ولا يقال‏:‏ إن الإشارة ترجع إلى المجموع، فالتهويل خاص بمن ارتكب مجموع هذه الذنوب لأنا نقول‏:‏ السياق يأباه، لأن تكرار «لا» أفاد- كما حققه الرضي- ورود النفي على وقوع الخصال الثلاث حال الاجتماع والانفراد، فالمعنى‏:‏ لا يوقعون شيئاً منها، فكان معنى ‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏‏:‏ ومن يفعل شيئاً من ذلك- ليرد الإثبات على ما ورد عليه النفي، فيحصل التناسب، وأما عدم منافاة الآية للترتيب فمن وجهين‏:‏ الأول أن الأصل في التقديم الاهتمام بما سبقت له الآية، وهو التنفير المفيد للتغليظ، فيكون كل واحد منها أعلى مما بعده‏.‏

الثاني أن الواو لا تنافيه، وقد وقعت الأفعال مرتبة في الذكر كما رتبت في الحديث ب «ثم» فيكون مراداً بها الترتيب- والله الهادي‏.‏

ولما أتم سبحانه تهديد الفجار، على هذه الأوزار، أتبعه ترغيب الأبرار، في الإقبال على الله العزيز الغفار، فقال‏:‏ ‏{‏إلا من تاب‏}‏ أي رجع إلى الله عن شيء مما كان فيه من هذه النقائص ‏{‏وآمن‏}‏ أي أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدون وهو الإيمان، أو أكد وجوده ‏{‏وعمل‏}‏‏.‏ ولما كان الرجوع عنه أغلظ، أكد فقال‏:‏ ‏{‏عملاً صالحاً‏}‏ أي مؤسساً على أساس الإيمان؛ ثم زاد في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ أي العالو المنزلة ‏{‏يبدل الله‏}‏ وذكر الاسم الأعظم تعظيماً للأمر وإشارة إلى أنه سبحانه لا منازع له ‏{‏سيئاتهم حسنات‏}‏ أي بندمهم على تلك السيئات، لكونها ما كانت حسنات فيكتب لهم ثوابها بعزمهم الصادق على فعلها لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا، بحيث إذا رأى أحدهم تبديل سيئاته بالحسنات تمنى لو كانت سيئاته أكثر‏!‏ وورد أن بعضهم يقول‏:‏ رب‏!‏ إن لي سيئات ما رأيتها- رواه مسلم في أواخر الإيمان من صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه رفعه‏.‏

ولما كان هذا أمراً لم تجر العادة بمثله، أخبر أنه صفته تعالى أزلاً وأبداً، فقال مكرراً للاسم الأعظم لئلا يقيد غفرانه شيء مما مضى‏:‏ ‏{‏وكان الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام على الإطلاع ‏{‏غفوراً‏}‏ أي ستوراً لذنوب كل من تاب بهذا الشرط ‏{‏رحيماً*‏}‏ له بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة؛ روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك، لما نزل صدرها قال أهل مكة‏:‏ فقد عدلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش، فأنزل الله ‏{‏إلا من تاب‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏- إلى- ‏{‏رحيماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏؛ وروي عنه أيضاً أنه قال‏:‏ هذه مكية نسختها آية مدنية التي في سورة النساء‏.‏ أي على تقدير كونها عامة في المشرك وغيره؛ وروي عنه أنه قال في آية النساء‏:‏ نزلت في آخر ما نزل، ولم ينسخها شيء‏.‏

وقد تقدم في سورة النساء الجواب عن هذا، وكذا ما رواه البخاري عنه في التفسير‏:‏ إن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل ‏{‏والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 68‏]‏ ونزل ‏{‏يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏‏.‏ ولما أشعرت الفاء بالتسبيب، ودل تأكيد الفعل بالمصدر على الاحتياج إلى عمل كثير ربما جل عن طوق البشر، وأشار إلى التطريق له بالوصفين العظيمين، أتبع ذلك بيان الطريق إليه بما أجرى من العادة فقال‏:‏ ‏{‏ومن تاب‏}‏ أي عن المعصية كفراً كانت أو ما دونه ‏{‏وعمل‏}‏ تصديقاً لادعائه التوبة‏.‏

ولما كان في سياق الترغيب، أعراه من التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏صالحاً‏}‏ ولو كان كل من نيته وعمله ضعيفاً؛ ورغب سبحانه في ذلك بقوله معلماً أنه يصل إلى الله‏:‏ ‏{‏فإنه يتوب‏}‏ أي يرجع واصلاً ‏{‏إلى الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال، فهو يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ‏{‏متاباً*‏}‏ أي رجوعاً عظيماً جداً بأن يرغبه الله في الأعمال الصالحة، فلا يزال كل يوم في زيادة في نيته وعمله، فيخف ما كان عليه ثقيلاً، ويتيسر له ما كان عسيراً، ويسهل عليه ما كان صعباً، كما تقدم في ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 9‏]‏ ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، بأن يوفقه للخير، فلا يسمع إلا ما يرضيه، وهكذا، ومن أجراه على ظاهره فعليه لعنة الله، لمخالفته إجماع المسلمين‏.‏

ولما وصف عباده سبحانه بأنهم تحلوا بأصول الفضائل، وتخلوا عن أمهات الرذائل، ورغب التوبة، لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص، وكان قد مدحهم بعد الأولى من صفاتهم بالحلم عن الجهل مدحهم قبل الأخرى من أمداحهم وعقب تركهم الزنى بالإعراض أصلاً عن اللغو الذي هو أعظم مقدمات الزنى فقال‏:‏ ‏{‏والذين لا يشهدون‏}‏ أي يحضرون انحرافاً مع الهوى كما تفعل النار التي الشيطان منها ‏{‏الزور‏}‏ أي القول المنحرف عن الصدق كذباً كان أو مقارباً له فضلاً عن أن يتفوهوا به ويقروا عليه؛ قال ابن جرير‏:‏ وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيل إلى من يسمعه أو يراه أنه بخلاف ما هو به فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، والشرك قد يدخل في ذلك لأنه محسن لأهله حتى ظنوا أنه حق وهو باطل، ويدخل فيه الغنا لأنه أيضاً مما يحسن بترجيع الصوت حتى يستحلي سامعه سماعه، والكذب أيضاً يدخل فيه بتحسين صاحبه إياه حتى يظن أنه حق‏.‏

وعطف عليه ما هو أعم منه فقال‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو‏}‏ أي الذي ينبغي أن يطرح ويبطل سواء كان من وادي الكذب أو العبث الذي لا يجدي؛ قال ابن جرير‏:‏ وهو في كلام العرب كل كلام أو فعل باطل لا حقيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح‏.‏ ‏{‏مروا كراماً*‏}‏ أي آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، إن تعلق بهم أمر أو نهي، بإشارة أو عبارة، على حسب ما يرونه نافعاً، أو معرضين إن كان لا يصلح شيء من ذلك لإثارة مفسدة أعظم من ذلك أو نحوه، رحمة لأنفسهم وغيرهم، وأما حضورهم لذلك وسكوتهم فلا، لأن النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم لأن حضورهم ونظرهم دليل الرضا به، وسبب لوجوده والزيادة فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 77‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ‏(‏74‏)‏ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ‏(‏75‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ‏(‏76‏)‏ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

ولما ذكر وصفهم الذي فاقوا به، أشار إلى وصف الجهلة الذي سفلوا به، فقال‏:‏ ‏{‏والذين إذا ذكروا‏}‏ أي ذكرهم غيرهم كائناً من كان، لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله ‏{‏بآيات ربهم‏}‏ أي الذي وفقهم لتذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة ‏{‏لم يخروا‏}‏ أي لم يفعلوا فعل الساقطين المستعلين ‏{‏عليها‏}‏ الساترين لها؛ ثم زاد في بيان إعراضهم وصدهم عنها فقال منبهاً على أن المنفي القيد لا المقيد، وهو الخرور، بل هو موجود غير منفي بصفة السمع والبصر‏:‏ ‏{‏صماً وعمياناً*‏}‏ أي كما يفعل المنافقون والكفار في الإقبال عليها سماعاً واعتباراً، والإعراض عنها تغطية لما عرفوا من حقيتها، وستراً لما رأوا من نورها، فعل من لا يسمع ولا يبصر كما تقدم عن أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق، وذلك وصف لعباد الرحمن بفعل ضد هذا، أي أنهم يسقطون عند سماعها ويبكون عليها، سقوط سامع منتفع بسمعه، بصير منتفع ببصره وبصيرته، سجداً يبكون كما تقدم في أول أوصافهم وإن لم يبلغوا أعلى الدرجات البصيرة- بما أشارت إليه المبالغة بزيادة النون جمع العمى‏.‏

ولما ذكر هذه الخصلة المثمرة لما يلي الخلصة الأولى، ختم بما ينتج الصفة الأولى‏.‏ فقال مؤذناً بأن إمامة الدين ينبغي أن تطلب ويرغب فيها‏:‏ ‏{‏والذين يقولون‏}‏ علماً منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة‏:‏ ‏{‏ربنا هب لنا من أزواجنا‏}‏ اللاتي قرنتها بنا كما فعلت لنبيك صلى الله عليه وسلم، فمدحت زوجته في كلامك القديم، وجعلت مدحها يتلى على تعاقب الأزمان والسنين ‏{‏وذرياتنا قرة‏}‏ ولما كان المتقون- الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها- قليلاً في جنب العاصين، أتى بجمع القلة ونكر فقال‏:‏ ‏{‏أعين‏}‏ أي من الأعمال أو من العمال يأتمون بنا، لأن الأقربين أولى بالمعروف، ولا شيء أسر للمؤمن ولا أقر لعينه من أن يرى حبيبه يطيع الله، فما طلبوا إلا أن يطاع الله فتقر أعينهم، ف «من» إما تكون مثلها في‏:‏ رأيت منك أسداً، وإما أن تكون على بابها، وتكون القرة هي الأعمال، أي هب لنا منهم أعمالاً صالحة فجعلوا أعمال من يعز عليهم هبة لهم، وأصل القرة البرد لأن العرب تتأذى بالحر وتستروح إلى البرد، فجعل ذلك كناية عن السرور ‏{‏واجعلنا‏}‏ أي إيانا وإياهم ‏{‏للمتقين‏}‏ أي عامة من الأقارب والأجانب‏.‏

ولما كان المطلوب من المسلمين الاجتماع في الطاعة حتى تكون الكلمة في المتابعة واحدة، أشاروا إلى ذلك بتوحيد الإمام وإن كان المراد الجنس، فقالوا‏:‏ ‏{‏إماماً*‏}‏ أي فنكون علماء مخبتين متواضعين كما هو شأن إمامة التقوى في إفادة التواضع والسكينة، لنحوز الأجر العظيم، إذ الإنسان له أجره وأجر من اهتدى به فعمل بعمله

«من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» وعكسه‏.‏

ولما وصف سبحانه عباده المؤمنين بضد أوصاف الكافرين من الرفق والسكينة، والتواضع والحلم والطمأنينة والشكر لربهم والرغبة إليه والرهبة منه‏.‏ وقال الرازي‏:‏ فوصف مشيهم خطابهم وانتصابهم له ودعاءهم ونفقاتهم ونزاهتهم وتيقظهم وانتباههم وصدقهم ومحبتهم ونصحهم‏.‏ تشوف السامع إلى ما لهم عنده بعد المعرفة بما للكافرين، فابتدأ الخبر عن ذلك بتعظيم شأنهم فقال‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة، العظيمو المنزلة‏.‏ ولما كان المقصود إنما هو الجزاء، بني للمفعول قوله‏:‏ ‏{‏يجزون‏}‏ أي فضلاً من الله على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية، والأحوال الصافية ‏{‏الغرفة‏}‏ أي التي هي لعلوها واتساعها وطيبها لا غرفة غيرها، لأنها منتهى الطلب، وغاية الأرب، لا يبغون عنها حولاً، ولا يريدون بها بدلاً، وهي كل بناء عال مرتفع، والظاهر أن المراد بها الجنس‏.‏

ولما كانت الغُرَب في غابة التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن، رغب فيها بأن جعلها سبباً لهذا الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏بما صبروا‏}‏ أي أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، وغير ذلك من معاني جلالهم‏.‏

ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة، قال‏:‏ ‏{‏ويلقون‏}‏ أي يجعلهم الله لاقين بأيسر أمر؛ وهلى قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم بالتخفيف والبناء للفاعل والأمر واضح ‏{‏فيها تحية‏}‏ أي دعاء بالحياة من بعضهم لبعض، ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم، ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله ينطقون، وذلك على وجه الإكرام والإعظام مكان ما أهانهم عباد الشيطان ‏{‏وسلاماً‏}‏ أي من الله ومن الملائكة وغيرهم، وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب‏.‏

ولما كان هذا ناطقاً بدوام حياتهم سالمين بصريحه، وبعظيم شرفهم بلازمه، دل على أنهم لا يبرحون عنه بقوله‏:‏ ‏{‏خالدين فيها‏}‏ أي الغرفة مكان ما أزعجوهم من ديارهم حتى هاجروا؛ ودل على علو أمرها، وعظيم قدرها، بإبراز مدحها في مظهر التعجب فقال‏:‏ ‏{‏حسنت‏}‏ أي ما أحسنها ‏{‏مستقراً‏}‏ أي موضع استقرار ‏{‏ومقاماً*‏}‏ أي موضع إقامة‏.‏

ولما ثبت أمر الرحمانية، فظهر أمر الرحمن وما عليه عباده من الدعاء الذي هو الخضوع والإخلاص، وختم أوصافهم الحسنة بالدعاء حقيقة الدال على الإخلاص في الخضوع، وذكر حسن جزائهم وكريم منقلبهم، أمر النذير أن يقول لعباد الشيطان الذين تكبروا عن السجود للرحمن، وعن الاعتراف والإيمان، ليرجعوا عن العصيان، ويزداد المؤمنون في الطاعات والإيمان‏:‏ إن ربه لا يعتد بمن لا يدعوه، فمن ترك دعاءه فليرتقب العذاب الدائم، فقال‏:‏ ‏{‏قل ما يعبأ‏}‏ أي يعتد ويبالي ويجعلكم ممن يسد به في موضع التعبئة الآن- على أن «ما» نافية ‏{‏بكم‏}‏ أي أيها الكافرون ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ وإليكم برحمانيته، المخصص لي بالإحسان برحيميته، وإنما خصه بالإضافة لا عترافه دونهم ‏{‏لولا دعاؤكم‏}‏ أي نداؤكم له في وقت شدائدكم الذي أنتم تبادرون إليه فيه خضوعاً له به لينجيكم، فإذا فعلتم ذلك أنقذكم مما أنتم فيه، معاملة لكم معاملة من يبالي بالإنسان ويعتد به ويراعيه، ولولا دعاؤه إياكم لتعبدوه رحمة لكم لتزكوا أنفسكم وتصفّوا أعمالكم ولا تكونوا حطباً للنار ‏{‏فقد كذبتم‏}‏ أي فتسبب عن ذلك لسوء طباعكم ضد ما كان ينبغي لكم من الشكر والخير بأن عقبتم بالإنجاء وحققتم وقرنتم التكذيب بالرحمن بعد رحمتكم بالبيان مع ضعفكم وعجزكم، وتركتم ذلك الدعاء له وعبدتم الأوثان، وادعيتم له الولد وغيره من البهتان، أو ما يعتد بكم شيئاً من الاعتداد لولا دعاؤكم إياه وقت الشدائد، فهو يعتد بكم لأجله نوع اعتداد، وهو المدة التي ضربها لكم في الدنيا لا غيرها، بسب أنكم قد كذبتم، أو ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته، لأنكم قد كذبتم، فكنتم شراً من البهائم، فدعاكم فتسبب عن دعائه إياكم أنكم فاجأتم الداعي بالتكذيب، والحاصل أنه ليس فيكم الآن ما يصلح أن يعتد بكم لأجله إلا الدعاء، لأنكم مكذبون، وإنما قلت‏:‏ «الآن» لأن «ما» لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال، عكس «لا» ‏{‏فسوف‏}‏ أي فتسبب عن تكذيبكم أنه يجازيكم على ذلك، ولكنه مع قوته وقدرته واختياره لا يعاجلكم، بل ‏{‏يكون‏}‏ جزاء هذا التكذيب عند انقضاء ما ضربه لكم من الآجال، وكل بعيد عندكم قريب عنده، وكل آتٍ قريب، فتهيؤوا واعتدوا لذلك اليوم ‏{‏لزاماً*‏}‏ أي لازماً لكم لزوماً عظيماً لا انفكاك له عنكم بحال، وهذا تنبيه على ضعفهم وعجزهم، وذلهم وقهرهم، لأن الملزوم لا يكون إلا كذلك، فأسرهم يوم بدر من أفراد هذا التهديد، فقد انطبق آخر السورة على أولها بالإنذار بالفرقان، لمن أنكر حقيقة الرحمن- والله ولي التوفيق بالإيمان‏.‏