فصل: تفسير الآيات رقم (10- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ‏(‏12‏)‏ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏13‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ولما أخبر عن حال من لقيه، أخبر عن حال من فارقه، فقال‏:‏ ‏{‏وأصبح‏}‏ أي عقب الليلة التي حصل فيها فراقه ‏{‏فؤاد أم موسى‏}‏ أي قلبها الذي زاد احتراقه شوقاً وخوفاً وحزناً، وهذا يدل على أنها ألقته ليلاً ‏{‏فارغاً‏}‏ أي في غاية الذعر لما جلبت عليه من أخلاق البشر، قد ذهب منه كل ما فيه من المعاني المقصودة التي من شأنها أن يربط عليها الجأش؛ ثم وصل بذلك مستأنفاً قوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي إنه ‏{‏كادت‏}‏ أي قاربت ‏{‏لتبدي‏}‏ أي يقع منها الإظهار لكل ما كان من أمره، مصرحة ‏{‏به‏}‏ أي بأمر موسى عليه السلام من أنه ولدها ونحو ذلك بسبب فراغ فؤادها من الأمور المستكنة، وتوزع فكرها في كل واد ‏{‏لولا أن ربطنا‏}‏ بعظمتنا ‏{‏على قلبها‏}‏ بعد أن رددنا إليه المعاني الصالحة التي أودعناها فيه، فلم تعلن به لأجل ربطنا عليه حتى صار كالجراب الذي ربط فمه حتى لا يخرج شيء مما فيه؛ ثم علل الربط بقوله‏:‏ ‏{‏لتكون‏}‏ أي كوناً هو كالغريزة لها ‏{‏من المؤمنين*‏}‏ أي المصدقين بما وعد الله به من نجاته ورسالته، الواثقين بذلك‏.‏

ولما أخبر عن كتمها، أتبعه الخبر عن فعلها في تعرف خبره الذي أطار خفاؤه عليها عقلها، فقال عاطفاً على ‏{‏وأصبح‏}‏‏:‏ ‏{‏وقالت‏}‏ أي أمه ‏{‏لأخته‏}‏ أي بعد أن أصبحت على تلك الحالة، قد خفي عليها أمره‏:‏ ‏{‏قصيه‏}‏ أي اتبعي أثره وتشممي خبره براً وبحراً، ففعلت ‏{‏فبصرت به عن جنب‏}‏ أي بعد من غير مواجهة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون*‏}‏ أي ليس لهم شعور لا بنظرها ولا بأنها أخته، بل هم في صفة الغفلة التي هي في غاية البعد عن رتبة الإلهية‏.‏

ولما كان ذلك أحد الأسباب في رده، ذكر في جملة حالية سبباً آخر قريباً منه فقال‏:‏ ‏{‏وحرمنا‏}‏ أي منعنا بعظمتنا التي لا يتخلف أمرها، ويتضاءل كل شيء دونها ‏{‏عليه المراضع‏}‏ جمع مرضعة، وهي من تكترى للرضاع من الأجانب، أي حكمنا بمنعه من الارتضاع منهن، استعار التحريم للمنع لأنه منع فيه رحمة؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ تحريم منع لا تحريم شرع‏.‏

ولما كان قد ارتضع من أمه من حين ولدته إلى حين إلقائه في اليم، فلم يستغرق التحريم الزمان الماضي، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي قبل أن تأمر أمه أخته بما أمرتها به وبعد إلقائها له، ليكون ذلك سبباً لرده إليها، فلم يرضع من غيرها فأشفقوا عليه فأتتهم أخته فقالوا لها‏:‏ هل عندك مرضعة تدلينا عليها لعله يقبل ثديها‏؟‏ ‏{‏فقالت‏}‏ أي فدنت أخته منه بعد نظرها له فقالت لهم لما رأتهم في غاية الاهتمام برضاعه لما عرضوا عليه المراضع فأبى أن يرتضع من واحدة منهن‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ لكم حاجة في أني ‏{‏أدلكم على أهل بيت‏}‏ ولم يقل‏:‏ على امرأة، لتوسع دائرة الظن ‏{‏يكفلونه لكم‏}‏ أي يأخذونه ويعولونه ويقومون بجميع مصالحه من الرضاع وغيره لأجلكم، وزادتهم رغبة بقولها‏:‏ ‏{‏وهم له ناصحون*‏}‏ أي ثابت نصحهم له، لا يغشونه نوعاً من الغش؛ قال البغوي‏:‏ والنصح ضد الغش، وهو تصفية العمل من شوائب الفساد فكادت بهذا الكلام تصرح بأن المدلول عليها أمه، فارتابوا من كلامها فاعتذرت بأنهم يعملون ذلك تقرباً إلى الملك وتحبباً إليه تعززاً به، فظنوا ذلك، وهذا وأمثاله بيان من الله تعالى لأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا هو سبحانه، فلا يصح أن يكون غيره إلهاً، فلما سكنوا إليها طلبوا أن تدلهم، فأتت بأمها فأحللنا له رضاعها فأخذ ثديها فقالوا‏:‏ أقيمي عندنا، فقالت‏:‏ لا أقدر على فراق بيتي‏.‏

إن رضيتم أن أكفله في بيتي وإلا فلا حاجة لي، وأظهرت التزهد فيه نفياً للتهمة، فرضوا بذلك فرجعت به إلى بيتها، والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر التحريم أولاً دليلاً على الإحلال ثانياً، واستفهام أخته ثانياً دليلاً على استفهامهم لها أولاً، وسره أن ذكر الأغرب من أمره الأدل على القدرة، ولذلك سبب عما مضى قوله‏:‏ ‏{‏فرددناه‏}‏ أي مع هذا الظاهر في الكشف لسره الموجب للريبة في أمره، ومع ما تقدم من القرائن التي يكاد يقطع بها بأنه من بني إسرائيل، منها إلقاؤه في البحر على تلك الصفة، ومنها أن المدلول عليها لإرضاعه من بني إسرائيل، ومنها أنه قبل ثديها دون غيرها من القبط وغيرهم، بأيدنا الذي لا يقاويه أيد، ولا يداني ساحته شيء من مكر ولا كيد، من يد العدو الذي ما ذبح طفلاً إلا رجاء الوقوع عليه، والخلاص مما جعل في سابق العلم إليه ‏{‏إلى أمه‏}‏ وكان من أمر الله- والله هو غالب على أمره- أنه استخدم لموسى- كما قال الرازي- عدوه في كفالته وهو يقتل العالم لأجله؛ ثم علله بقوله‏:‏ ‏{‏كي تقر عينها‏}‏ أي تبرد وتستقر عن الطرف في تطلبه إلى كل جهة وتنام بإرضاعه وكفالته في بيتها، آمنة لا تخاف، وقرة العين بردها ونومها خلاف سخنتها وسهرها بإدامة تقليبها، قرت عينه تقر- بالكسر والفتح- قرة، وتضم، وقروراً‏:‏ بردت سروراً وانقطع بكاؤها، أو رأت ما كانت متشوقة إليه، وأقر الله عينه وبعينه، وعين قريرة وقارة، وقرتها ما قرت به، وقر بالمكان يقر- بالفتح والكسر- قراراً وقروراً وقراً وتقرة‏:‏ ثبت واستكن، وأصل قرة العين من القر وهو البرد، أي بردت فصحت ونامت خلاف سخنة عينه، وقيل‏:‏ من القرار، أي استقرت عيني، وقالوا‏:‏ دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة، فمعنى أقر الله عينك من الفرح وأسخنها من الحزن، وهذا قول الأصمعي، وقال أبو عباس‏:‏ ليس كما ذكر الأصمعي بل كل دمع حار، فمعنى أقر الله عينك‏:‏ صادفت سروراً فنامت وذهب سهرها، وصادفت ما يرضيك، أي بلغك الله أقصى أملك حتى تقر عينك من النظر إلى غيره استغناء ورضا بما يديك، قالوا‏:‏ ومعنى قولهم‏:‏ هو قرة عيني‏:‏ هو رضى نفسي، فهي تقر وتسكن بقربه فلا تستشرف إلى غيره ‏{‏ولا‏}‏ أي وكيلاً ‏{‏تحزن‏}‏ أي بفراقه ‏{‏ولتعلم‏}‏ أي علماً هو عين اليقين، كما كانت عالمة به علم اليقين، وعلم شهادة كما كانت عالمة علم الغيب ‏{‏أن وعد الله‏}‏ أي الأمر الذي وعدها به الملك الأعظم الذي له الكمال كله في حفظه وإرساله ‏{‏حق‏}‏ أي هو في غاية الثبات في مطابقة الواقع إياه‏.‏

ولما كان العلم هو النور الذي من فقده لم يصح منه عمل، ولم ينتظم له قصد، قال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فعلمت ذلك برده عين اليقين بعد علم اليقين‏:‏ ‏{‏ولكن أكثرهم‏}‏ أي أكثر آل فرعون وغيرهم ‏{‏لا يعلمون*‏}‏ أي لا علم لهم أصلاً، فكيف يدعون ما يدعون من الإلهية والكبرياء على من يكون الله معه‏.‏

ولما استقر الحال، على هذا المنوال، علم أنه ليس بعده إلا الخير والإقبال، والعز بتبني فرعون له والجلال، فترك ما بينه وبين السن الصالح للإرسال، وقال مخبراً عما بعد ذلك من الأحوال‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ أي مجامع قواه وكمالاته ‏{‏واستوى‏}‏ أي اعتدل في السن وتم استحكامه بانتهاء الشباب، وهو من العمر ما بين إحدى وعشرين سنة إلى اثنتين وأربعين، فتم بسبب ذلك في الخلال الصالحة التي طبعناه عليها؛ وقال الرازي‏:‏ قال الجنيد‏:‏ لما تكامل عقله، وصحت بصيرته، وصلحت نحيرته، وآن أوان خطابه- أنتهى‏.‏ أي وصار إلى الحد الذي لا يزاد الإنسان بعده غريزة من الغرائز لم تكن فيه أيام الشباب، بل لا يبقى بعد ذلك إلا الوقوف ثم النقصان ‏{‏آتيناه‏}‏ أي خرقاً للعادة أسوة إخوانه من الأنبياء ابتداء غرائز منحناه إياها من غير اكتساب أصلاً ‏{‏حكماً‏}‏ أي عملاً محكماً بالعلم ‏{‏وعلماً‏}‏ أي مؤيداً بالحكمة، تهيئة لنبوته، وإرهاصاً لرسالته، جزيناه بذلك على ما طبعناه عليه من الإحسان، فضلاً منا ومنه، واختار الله سبحانه هذا السن للإرسال ليكون- كما أشير إليه- من جملة الخوارق، لأنه يكون به ابتداء الانتكاس الذي قال الله تعالى فيه ‏{‏ومن نعمره- أي إلى اكتمال سن الشباب- ننكسه في الخلق‏}‏ أي نوقفه، فلا يزاد بعد ذلك في قواه الظاهرة ولا الباطنة شيء، ولا توجد فيه غريزة لم تكن موجودة أصلا عشر سنين، ثم يأخذ في النقصان- هذه عادة الله في جميع بني آدم إلا الأنبياء، فإنهم في حد الوقوف يؤتون من بحار العلوم ما يقصر عنه الوصف بغير اكتساب، بل غريزة يغرزها الله فيهم حينئذ، ويؤتون من قوة الأبدان أيضاً بمقدار ذلك، ففي وقت انتكاس غيرهم يكون نموهم، وكذا من ألحقه الله بهم من صالحي أتباعهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس من تمام هذا المعنى ما يفتح الله به لمن تأمله أبواباً من العلم، ولذلك قال الله تعالى عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فعلنا به ذلك وبأمه جزاء لهما على إحسانهما في إخلاصهما فيما يفعلانه اعتماداً على الله وحده من غير أدنى التفات إلى ما سواه‏:‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ أي ومثل هذا الجزاء العظيم ‏{‏نجزي المحسنين*‏}‏ أي كلهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏16‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ‏(‏17‏)‏ فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏18‏)‏ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ولما أخبر، بتهيئه لنبوته، أخبر بما هو سبب لهجرته، وكأنها سنت بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ ‏{‏ودخل المدينة‏}‏ أي مدينة فرعون آتياً من قصره، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، قال ابن جرير‏:‏ وهي مدينة منف من مصر، وقال البغوي‏:‏ وقيل‏:‏ عين الشمس‏.‏ وقيل غير ذلك ‏{‏على حين غفلة‏}‏ قبل بعيد‏:‏ وقيل بغير ذلك ‏{‏من أهلها‏}‏ أي إحكاماً لما جعلناه سبباً لنقلته منها طهارة من عشرة القوم الظالمين ‏{‏فوجد فيها‏}‏ أي المدينة ‏{‏رجلين يقتتلان‏}‏ أي يفعلان مقدمات القتل من الملازمة مع الخنق والضرب، وهما إسرائيلي وقبطي، ولذا قال مجيباً لمن كأنه يسأل عنهما وهو ينظر إليهما‏:‏ ‏{‏هذا من شيعته‏}‏ أي من بني إسرائيل قومه ‏{‏وهذا من عدوه‏}‏ أي القبط، وكان قد حصل لبني إسرائيل به عز لكونه ربيب الملك، مع أن مرضعته منهم، لا يظنون أن سبب ذلك الرضاع ‏{‏فاستغاثه‏}‏ أي طلب منه ‏{‏الذي من شيعته‏}‏ أن يغيثه ‏{‏على الذي من عدوه فوكزه‏}‏ أي فأجابه ‏{‏موسى‏}‏ فركز أي فطعن ودفع بيده العدو أو ضربه بجميع كفه، وكأنه كالكم، أو دفعه بأطراف أصابعه، وهو رجل أيد لم يعط أحد من أهل ذلك الزمان مثل ما أعطي من القوى الذاتية والمعنوية ‏{‏فقضى‏}‏ أي فأوقع القضاء الذي هو القضاء على الحقيقة، وهو الموت الذي لا ينجو منه بشر ‏{‏عليه‏}‏ فقتله وفرغ منه وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه وخفي هذا على الناس لما هم فيه من الغفلة، فلم يشعر به أحد منهم‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ إن هذا الأمر عظيم، فما ترتب عليه من قول من أوتي حكماً وعلماً‏؟‏ أجيب بالإخبار عنه بأنه ندم عليه في الحال بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي الفعل الذي جرك إليه الإسرائيلي ‏{‏من عمل الشيطان‏}‏ أي لأني لم أومر به على الخصوص، ولم يكن من قصدي وإن كان المقتول كافراً؛ ثم أخبر عن حال الشيطان بما هو عالم به، مؤكداً له حملاً لنفسه على شدة الاحتراس والحذر منه فقال‏:‏ ‏{‏إنه عدو‏}‏ ومع كونه عدواً ينبغي الحذر منه فهو ‏{‏مضل‏}‏ لا يقود إلى خير أصلاً، ومع ذلك فهو ‏{‏مبين*‏}‏ أي عداوته وإضلاله في غاية البيان، ما في شيء منهما خفاء‏.‏

ولما كان هذا الكافر ليس فيه شيء غير الندم لكونه صلى الله عليه وسلم لم يأته في قتله إذن خاص، وكان قد أخبر عنه بالندم، تشوفت أنفس البصراء إلى الاستغفار عنه، علماً منهم بأن عادة الأنبياء وأهل الدرجات العلية استعظام الهفوات، فأجيبوا بالإخبار عن مبادرته إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ وأسقط أداة النداء، على عادة أهل الاصطفاء، فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ‏.‏

ولما كان حال المقدم على شيء دالة على إرادته فاستحسانه إياه، أكد قوله إعلاماً بأن باطنه على غير ما دل عليه ظاهرة فقال‏:‏ ‏{‏إني ظلمت نفسي‏}‏ أي بالإقدام على ما لم يتقدم إليّ فيه إذن بالخصوص وإن كان مباحاً‏.‏

ولما كان المقرب قد يعد حسنة غيره سيئته، قال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فاغفر‏}‏ أي امح هذه الهفوة عينها وأثرها ‏{‏لي‏}‏ أي لأجلي لا تؤاخذني ‏{‏فغفر‏}‏ أي أوقع المحو لذلك كما سأل إكراماً ‏{‏له‏}‏ ثم علل ذلك بقوله مشيراً إلى أن صفة غيره عدم بالنسبة إلى صفته مؤكداً لذلك‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الغفور‏}‏ أي البالغ في صفة الستر لكل من يريد ‏{‏الرحيم*‏}‏ أي العظيم الرحمة بالإحسان بالتوفيق إلى الأفعال المرضية لمقام الإلهية، ولأجل أن هذه صفته، رده إلى فرعون وقومه حين أرسله إليهم فلم يقدروا على مؤاخذته بذلك بقصاص ولا غيره بعد أن نجاه منهم قبل الرسالة على غير قياس‏.‏

ولما أنعم عليه سبحانه بالإجابة إلى سؤله، تشوف السامع إلى شكره عليها فأجيب بقوله‏:‏ ‏{‏قال رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ بكل جميل‏.‏ ولما كان جعل الشيء عوضاً لشيء أثبت له وأجدر بإمضاء العزم عليه قال‏:‏ ‏{‏بما أنعمت عليّ‏}‏ أي بسبب إنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها‏.‏ ولما كان في سياق التعظيم للنعمة، كرر حرف السبب تأكيداً للكلام، وتعريفاً أن المقرون به مسبب عن الإنعام، وقرنه بأداة النفي الدالة على التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏فلن أكون ظهيراً‏}‏ أي عشيراً أو خليطاً أو معيناً ‏{‏للمجرمين*‏}‏ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل، أي لا أكون بين ظهراني القبط، فإن فسادهم كثير، وظلمهم لعبادك أبناء أوليائك متواصل وكبير، لا قدرة لي على ترك نصرتهم، وذلك يجر إلى أمثال هذه الفعلة، فلا أصلح من المهاجرة لهم، وهذا من قول العرب‏:‏ جاءنا في ظهرته- بالضم وبالكسر وبالتحريك، وظاهرته، أي عشيرته‏.‏

ولما ذكر القتل وأتبعه ما هو الأهم من أمره بالنظر إلى الآخرة، ذكر ما تسبب عنه من أحوال الدنيا فقال‏:‏ ‏{‏فأصبح‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏في المدينة‏}‏ أي التي قتل القتيل فيها ‏{‏خائفاً‏}‏ أي بسبب قتله له ‏{‏يترقب‏}‏ أي لازم الخوف كثير الالتفات برقبته ذعراً من طارقة تطرقه في ذلك، قال البغوي‏:‏ والترقب‏:‏ انتظار المكروه‏.‏ ‏{‏فإذا‏}‏ أي ففجئه ‏{‏الذي استنصره‏}‏ أي طلب نصرته من شيعته ‏{‏بالأمس‏}‏ أي اليوم الذي يلي يوم الاستصراخ من قبله ‏{‏يستصرخه‏}‏ أي يطلب ما يزيل ما يصرخ بسببه من الضر من قبطي آخر كان يظلمه، فكأنه قيل‏:‏ فما قال له موسى بعدما أوقعه فيما يكره‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال له‏}‏ أي لهذا المستصرخ ‏{‏موسى‏}‏‏.‏

ولما كان الحال متقضياً أن ذلك الإسرائيلي يمكث مدة لا يخاصم أحداً خوفاً من جريرة ذلك القتيل، أكد قوله‏:‏ ‏{‏إنك لغوي‏}‏ أي صاحب ضلال بالغ ‏{‏مبين*‏}‏ أي واضح الضلال غير خفيه، لكون ما وقع بالأمس لم يكفك عن الخصومة لمن لا تطيقه وإن كنت مظلوماً؛ ثم دنا منهما لينصره؛ ثم قال مشيراً بالفاء إلى المبادرة إلى إصراخه‏:‏ ‏{‏فلما‏}‏ وأثبت الحرف الذي أصله المصدر تأكيداً لمعنى الإرادة فقال‏:‏ ‏{‏أن أراد‏}‏ أي شاء، وطلب وقصد مصدقاً ذلك بالمشي ‏{‏أن يبطش‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏بالذي هو عدو لهما‏}‏ أي من القبط بأخذه بعنف وسطوة لخلاص الإسرائيلي منه ‏{‏قال‏}‏ أي الإسرائيلي الغوي لأجل ما رأى من غضبه وكلمه به من الكلام الغص ظاناً أنه ما دنا إلا يريد البطش به هو، لما أوقعه فيه لا بعدوه‏:‏ ‏{‏يا موسى‏}‏ ناصاً عليه باسمه العلم دفعاً لكل لبس منكر الفعلة الذي اعتقده لما رآه من دنوه إليهما غضبان وهو يذمه ‏{‏أتريد أن تقتلني‏}‏ أي اليوم وأنا من شيعتك ‏{‏كما قتلت نفساً بالأمس‏}‏ أي من شيعة أعدائنا، والذي دل على أن الإسرائيلي هو الذي قال له هذا الكلام السياق بكون الكلام معه- بما أشير إليه بدخول المدينة على حين غفلة من أنهم لم يره أحد غير الإسرائيلي، وبقوله ‏{‏عدو لهما‏}‏ من ذم الإسرائيلي كما صرح به موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما نم عليه وأفشى ما لا يعلمه غيره، خاف غائلته فزاد في الإغراء به‏.‏ مؤكداً بقوله‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏تريد إلا أن تكون‏}‏ أي كوناً راسخاً ‏{‏جباراً‏}‏ أي قاهراً غالباً؛ قال أبو حيان‏:‏ وشأن الجبار أن يقتل بغير حق‏.‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ أي التي تكون بها فلا يكون فوقك أحد ‏{‏وما تريد‏}‏ أي يتجدد لك إرادة ‏{‏أن تكون‏}‏ أي بما هو لك كالجبلة ‏{‏من المصلحين*‏}‏ أي العريقين في الصلاح، فإن المصلح بين الناس لا يصل إلى القتل على هذه الصورة، فلما سمع الفرعوني هذا ترك الإسرائيلي، وكانوا- لما قتل ذلك القبطي- ظنوا في بني إسرائيل، فأغروا فرعون بهم فقال‏:‏ هل من بينة، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا ينبغي له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت- كما ذكر ذلك في حديث المفتون الذي رواه أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما، فلما قال هذا الغوي هذه المقالة تحقق الأمر في موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏20‏)‏ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏22‏)‏ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ‏(‏23‏)‏ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما كان تقدير الكلام الذي أرشد إليه السياق‏:‏ فلما سمع الفرعوني قول الإسرائيلي تركه‏.‏ ثم رقي الكلام إلى أن ببغ فرعون فوقع الكلام في الأمر بقتل موسى عليه الصلاة والسلام، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وجاء رجل‏}‏ أي ممن يحب موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ ولما كان الأمر مهماً، يحتاج إلى مزيد عزم وعظم قوة، قدم فاعل المجيء على متعلقه بخلاف ما في سورة يس‏.‏

ولما كان في بيان الاقتدار على الأمور الهائلة من الأخذ بالخناق حتى يقول القائل‏:‏ لا خلاص، ثم الإسعاف بالفرج حتى يقول‏:‏ لا هلاك، قال واصفاً للرجل‏:‏ ‏{‏من أقصا المدينة‏}‏ أي أبعدها مكاناً، وبين أنه كان ماشياً بقوله‏:‏ ‏{‏يسعى‏}‏ ولكنه اختصر طريقاً وأسرع في مشيه بحيث كان يعدو فسبقهم بإعظامه للسعي وتجديد العزم في كل وقت من أوقات سعيه فكأنه قيل‏:‏ ما فعل‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ منادياً له باسمه تعطفاً وإزالة للبس‏:‏ ‏{‏يا موسى‏}‏ وأكد إشارة إلى أن الأمر قد دهم فلا يسع الوقت الاستفصال فقال‏:‏ ‏{‏إن الملأ‏}‏ أي أشراف القبط الذين في أيديهم الحل والعقد، لأن لهم القدرة على الأمر والنهي ‏{‏يأتمرون بك‏}‏ أي يتشاورون بسببك، حتى وصل حالهم في تشاورهم إلى أن كلاًّ منهم يأمر الآخر ويأتمر بأمره، فكأنه قيل‏:‏ لم يفعلون ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏ليقتلوك‏}‏ لأنهم سمعوا أنك قتلت صاحبهم ‏{‏فاخرج‏}‏ أي من هذه المدينة؛ ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد ليزيل ما يطرق من احتمال عدم القتل لكونه عزيزاً عند الملك‏:‏ ‏{‏إني لك‏}‏ أي خاصة ‏{‏من الناصحين*‏}‏ أي العريقين في نصحك ‏{‏فخرج‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً ‏{‏منها‏}‏ أي المدينة لما علم من صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه ‏{‏خائفاً‏}‏ على نفسه من آل فرعون ‏{‏يترقب‏}‏ أي يكثر الالتفات بإدراة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر ‏{‏نجني‏}‏ أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد ‏{‏من القوم الظالمين*‏}‏ أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم، فاستجاب الله له فوفقه لسلوك الطريق الأعظم نحو مدين، فكان ذلك سبب نجاته، وذلك أن الذين انتدبوا إليه قطعوا بأنه لا يسلك الطريق الأكبر، جرياً على عادة الخائفين الهاربين في المشي عسافاً، أو سلوك ثنيات الطريق فانثنوا فيما ظنوه يميناً وشمالاً ففاتهم‏.‏

ولما دعا بهذا الدعاء، أعلم الله تعالى باستجابته منه مخبراً بجهة قصده زيادة في الإفادة فقال‏:‏ ‏{‏ولما‏}‏ أي فاستجاب الله دعاءه فنجاه منهم ووجهه إلى مدين ولما ‏{‏توجه‏}‏ أي أقبل بوجهه قاصداً ‏{‏تلقاء‏}‏ أي الطريق الذي يلاقي سالكه أرض ‏{‏مدين‏}‏ مدينة نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام متوجهاً بقلبه إلى ربه ‏{‏قال‏}‏ أي لكونه لا يعرف الطريق‏:‏ ‏{‏عسى‏}‏ أي خليق وجدير وحقيق‏.‏

ولما كانت عنايته بالله أتم لما له من عظيم المراقبة، قال مقدماً له‏:‏ ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بعظيم التربية في الأمور المهلكة ‏{‏أن يهديني سواء‏}‏ أي عدل ووسط ‏{‏السبيل*‏}‏ وهو الطريق الذي يطلعه عليها من غير اعوجاج‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فوصل إلى المدينة، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولما ورد‏}‏ أي حضر موسى عليه الصلاة والسلام حضور من يشرب ‏{‏ماء مدين‏}‏ أي الذي يستقي منها الرعاء ‏{‏وجد عليه‏}‏ أي على الماء ‏{‏أمة‏}‏ أي جماعة كثيرة هم أهل لأن يَقْصُدوا ويُقصَدوا، فلذلك هم عالون غالبون على الماء؛ ثم بين نوعهم بقوله‏:‏ ‏{‏من الناس‏}‏ وبين عملهم أيضاً بقوله‏:‏ ‏{‏يسقون*‏}‏ أي مواشيهم، وحذف المفعول لأنه غير مراد، والمراد الفعل، وكذا ما بعده فإن رحمته عليه الصلاة والسلام لم تكن لكون المذود والمسقي غنماً بل مطلق الذياد وترك السقي ‏{‏ووجد من دونهم‏}‏ أي وجداناً مبتدئاً من أدنى مكان من مكانهم الآتي إلى الماء ‏{‏امرأتين‏}‏ عبر بذلك لما جعل لهما سبحانه من المروءة ومكارم الأخلاق كما يعلمه من أمعن النظر فيما يذكر عنها ‏{‏تذودان‏}‏ أي توجدان الذود، وهو الكف والمنع والطرد وارتكاب أخف الضررين، فتكفان أغنامهما إذا نزعت من العطش إلى الملأ لئلا تخلط بغنم الناس‏.‏

ولما كان هذا حالاً موجباً للسؤال عنه، كان كأنه قيل‏:‏ فما قال لهما‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام رحمة لهما‏:‏ ‏{‏ما خطبكما‏}‏ أي خبركما ومخطوبكما أي مطلوبكما، وهوكالتعبير بالشأن عن المشؤون الذي يستحق أن يقع فيه التخاطب لعظمه، في ذيادكما لأغنامكما عن السقي؛ قال أبو حيان‏:‏ والسؤال بالخطب إنما يكون في مصاب أو مضطهد‏.‏

ولما كان من المعلوم أن سؤاله عن العلة ‏{‏قالتا‏}‏ أي اعتذاراً عن حالهما ذلك؛ وتلويحاً باحتياجهما إلى المساعدة‏:‏ ‏{‏لا‏}‏ أي خبرنا أنا لا ‏{‏نسقي‏}‏ أي مواشينا، وحذفه للعلم به ‏{‏حتى يصدر‏}‏ أي ينصرف ويرجع ‏{‏الرعاء‏}‏ أي عن الماء لئلا يخالطهم- هذا على قراءة أبي عمرو وابن عامر بفتح الياء وضم الدال ثلاثياً، والمعنى على قراءة الباقين بالضم والكسر‏:‏ يوجدوا الرد والصرف‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ لأنا من النساء، وكان المقام يقتضي لصغر سنهما أن لهما أباً، وأن لا إخوة لهما وإلا لكفوهما ذلك، عطفتا على هذا المقدر قولهما‏:‏ ‏{‏وأبونا شيخ كبير*‏}‏ أي لا يستطيع لكبره أن يسقي، فاضطررنا إلى ما ترى، وهذا اعتذار أيضاً عن كون أبيهما أرسلهما لذلك لأنه ليس بمحظور، فلا يأباه الدين، والناس مختلفون في ذلك بحسب المروءة، وعاداتهم فيها متباينة وأحوال العرب والبدو تباين أحوال العجم والحضر، لا سيما إذا دعت إلى ذلك ضرورة ‏{‏فسقى‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏لهما‏}‏ لما علم ضرورتهما، انتهازاً لفرصة الأجر وكرم الخلق في مساعدة الضعيف، مع ما به من النصب والجوع ‏{‏ثم تولى‏}‏ أي انصرف موسى عليه الصلاة والسلام جاعلاً ظهره يلي ما كان يليه وجهه ‏{‏إلى الظل‏}‏ أي ليقيل تحته ويستريح، مقبلاً على الخالق بعد ما قضى من نصيحة الخلائق، وعرفه لوقوع العلم بأن بقعة لا تكاد تخلو من شيء له ظل ولا سيما أماكن المياه ‏{‏فقال‏}‏ لأنه ليس في الشكوى إلى المولى العلي الغني المطلق نقص ‏{‏رب‏}‏‏.‏

ولما كان حاله في عظيم صبره حاله من لا يطلب، أكد سؤاله إعلاماً بشديد تشوقه لما سأل فيه وزيادة في التضرع والرقة، فقال‏:‏ ‏{‏إني‏}‏ ولأكد الافتقار بالإلصاق باللام دون «إلى» فقال‏:‏ ‏{‏لما‏}‏ أي لأي شيء‏.‏ ولما كان الرزق الآتي إلى الإنسان مسبباً عن القضاء الآتي عن العلي الكبير، عبر بالإنزال وعبر بالماضي تعميماً لحالة الافتقار، وتحققاً لإنجاز الوعد بالرزق فقال‏:‏ ‏{‏أنزلت‏}‏ ولعله حذف العائد اختصاراً لما به من الإعياء ‏{‏إليّ من خير‏}‏ أي ولو قل ‏{‏فقير*‏}‏ أي مضرور، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان قد بلغ من الضر أن اخضر بطنه من أكل البقل وضعف حتى لصق بطنه بظهره‏.‏ فانظر إلى هذين النبيين عليهما الصلاة والسلام في حالهما في ذات يدهما، وهما خلاصة ذلك الزمان، ليكون لك في ذلك أسوة، وتجعله إماماً وقدوة، وتقول‏:‏ يا بأبي وأمي‏!‏ ما لقي الأنبياء والصالحون من الضيق والأهوال في سجن الدنيا، صوناً لهم منها وإكراماً من ربهم عنها، رغعة لدرجاتهم عنده، واستهانة لها وإن ظنه الجاهل المغرور على غير ذلك، وفي القصة ترغيب في الخير، وحث على المعاونة على البر، وبعث على بذل المعروف مع الجهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 28‏]‏

‏{‏فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ‏(‏26‏)‏ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولما كان سماعهما لقوله هذا مع إحسانه إليهما سبباً لدعاء شعيب عليه الصلاة والسلام له، قال بانياً على ما تقديره‏:‏ فذهبت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه بخبرهما وبإحسانه إليهما، فأمر بدعائه ليكافئه‏:‏ ‏{‏فجاءته‏}‏ أي بسبب قول الأب وعلى الفور ‏{‏إحداهما‏}‏ أي المرأتين حال كونها ‏{‏تمشي‏}‏ ولما كان الحياء كأنه مركب لها وهي متمكنة منه، مالكة لزمامه، عبر بأداة الاستعلاء فقال‏:‏ ‏{‏على استحياء‏}‏ أي حياء موجود منها لأنها كلفت الإتيان إلى رجل أجنبي تكلمه وتماشيه؛ ثم استأنف الإخبار عما تشوف إليه السامع من أمرها فقال‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏ وأكدت إعلاماً بما لأبيها من الرغبة إلى لقائه في قولها‏:‏ ‏{‏إن أبي‏}‏ وصورت حاله بالمضارع فقالت‏:‏ ‏{‏يدعوك ليجزيك‏}‏ أي يعطيك مكافأة لك، لأن المكافأة من شيم الكرام، وقبولها لا غضاضة فيه ‏{‏أجر ما سقيت لنا‏}‏ أي مواشينا، فأسرع الإجابة لما بينهما من الملاءمة، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏فلما‏}‏ بالفاء ‏{‏جاءه‏}‏ أي موسى شعيباً عليهما الصلاة والسلام ‏{‏وقص‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏عليه‏}‏ أي شعيب عليه الصلاة والسلام ‏{‏القصص*‏}‏ أي حدثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله، وتتبع له الأمور على ما هي عليه لما توسم فيه بما آتاه اله من الحكم والعلم من النصيحة والشفقة، والعلم والحكمة، والجلال والعظمة‏.‏

ولما كان من المعلوم أنه لا عيشة لخائف، فكان أهم ما إلى الإنسان الأمان، قدم له التأمين بأن ‏{‏قال‏}‏ أي شعيب له عليهما الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏ أي فإن فرعون لا سلطان له على ما ههنا، ولأن عادة الله تعالى جرت أن تواضعك هذا ما كان في أحد إلا قضى الله برفعته، ولذلك كانت النتيجة‏:‏ ‏{‏نجوت‏}‏ أي يا موسى ‏{‏من القوم الظالمين*‏}‏ أي هو وغيره وإن كانوا في غاية القوة والعراقة في الظلم‏.‏

ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك‏:‏ ‏{‏قالت إحداهما‏}‏ أي المرأتين‏.‏ قيل‏:‏ وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها‏:‏ ‏{‏يا أبت استأجره‏}‏ ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به‏:‏ ‏{‏إن خير من استأجرت‏}‏ لشيء من الأشياء ‏{‏القوي‏}‏ وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي ‏{‏الأمين*‏}‏ لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله؛ قال أبو حيان‏:‏ وقولها قول حكيم جامع، لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاية في القائم بأمر فقد تم المقصود‏.‏ ‏{‏قال‏}‏ أي شعيب عليه الصلاة والسلام، وهو في التوراة يسمى‏:‏ رعوئيل- بفتح الراء وضم العين المهملة وإسكان الواو ثم همزة مكسورة بعدها تحتانية ساكنة ولام، ويثرو- بفتح التحتانية وإسكان المثلثة وضم الراء المهملة وإسكان الواو ‏{‏إني أريد‏}‏ يا موسى، والتأكيد لأجل أن الغريب قل ما يرغب فيه أول ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة ‏{‏أن أنكحك‏}‏ أي أزوجك زواجاً، تكون وصلته كوصلة أحد الحنكين بالآخر ‏{‏إحدى ابنتي‏}‏‏.‏

ولما كان يجوز أن يكون المنكح منهما غير المسقي لهما، نفى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏هاتين‏}‏ أي الحاضرتين اللتين سقيت لهما، ليتأملهما فينظر من يقع اختياره عليها منهما ليعقد له عليها ‏{‏على أن تأجرني‏}‏ أي تجعل نفسك أجيراً عندي أو تجعل أجري على ذلك وثوابي ‏{‏ثماني حجج‏}‏ جمع حجة- بالكسر، أي سنين، أي العمل فيها بأن تكون أجيراً لي أستعملك فيما ينوبني من رعية الغنم وغيرها، وآجره- بالمد والقصر، من الأجر والإيجار، وكذلك أجر الأجير والمملوك وآجره‏:‏ أعطاهما أجرهما ‏{‏فإن أتممت‏}‏ أي الثماني ببلوغ العقد بأن تجعلها ‏{‏عشراً‏}‏ أي عشر سنين ‏{‏فمن‏}‏ أي فذلك فضل من ‏{‏عندك‏}‏ غير واجب عليك، وكان تعيين الثماني لأنها- إذا أسقطت منها مدة الحمل- أقل سن يميز فيه الولد غالباً، والعشر أقل ما يمكن فيه البلوغ، لينظر سبطه إن قدر فيتوسم فيه بما يرى من قوله وفعله، والتعبير بما هو من الحج الذي هو القصد تفاؤلاً بأنها تكون من طيبها بمتابعة أمر الله وسعة رزقه وإفاضة نعمه ودفع نقمه أهلاً لأن تقصد أو يكون فيها الحج في كل واحدة منها إلى بيت الله الحرام‏.‏

ولما ذكر له هذا، أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أشق عليك‏}‏ أي أدخل عليك مشقة في شيء من ذلك ولا غيره لازم أو غير لازم؛ ثم أكد معنى المساهلة بتأكيد وعد الملاءمة فقال‏:‏ ‏{‏ستجدني‏}‏ ثم استثنى على قاعدة أولياء الله وأنبيائه في المراقبة على سبيل التنزل فقال‏:‏ ‏{‏إن شاء الله‏}‏ أي الذي له جميع الأمر ‏{‏من الصالحين*‏}‏ أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت وكل ما تريد من خير ‏{‏قال‏}‏ أي موسى عليه السلام ‏{‏ذلك‏}‏ أي الذي ذكرت من الخيار وغيره ‏{‏بيني وبينك‏}‏ أي كائن بيننا على حكم النصفة والعدل والسواء على ما ألزمتني به لازماً، وما أشرت إلى التفضل به إحساناً، وعليك ما ألزمت به نفسك فرضاً وفضلاً؛ ثم بين وفسر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏أيما الأجلين‏}‏ أي أيّ أجل منهما‏:‏ الثماني أو العشر ‏{‏قضيت‏}‏ أي عملت العمل المشروط علي فيه خرجت به من العهدة ‏{‏فلا عدوان‏}‏ أي اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد ‏{‏علي‏}‏ أي في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب على الزيادة على العشر لا تجب عليّ الزيادة على الثمان، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدو ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏على ما نقول‏}‏ أي كله في هذا الوقت وغيره ‏{‏وكيل*‏}‏ أي شاهد وحفيظ قاهر عليه وملزم به في الدنيا والآخرة، فما الظن بما وقع بيننا من العهد من النكاح والأجر والأجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏30‏)‏ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ذكر المضمون هذا من التوراة‏:‏ قال في أول السفر الثاني منها‏:‏ وهذه أسماء بني إسرائيل الذين دخلوا مصر مع يعقوب عليه السلام، دخل كل امرئ وأهل بيته روبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وإيساخار وزيلون وبنيامين ودان ونفتالي وجاد وأشير، وكان عدد ولد يعقوب الذين خرجوا من صلبه سبعين نفساً مع يوسف عليه الصلاة والسلام الذي كان بمصر، فتوفي يوسف وجميع إخواته وجميع ذلك الحقب، وبنو إسرائيل نموا وولدوا وكثروا واعتزوا جداً جداً، وامتلأت الأرض منهم، فملك على مصر ملك جديد لم يكن يعرف يوسف فقال لشعبه‏:‏ هذا شعب بني إسرائيل قد كثر عددهم فهم أكثر وأعز منا، هلموا نحتال لهم قبل أن يكثروا، لعل أعداءنا يأتونا يقاتلونا فيكونوا عوناً، لأعدائنا علينا فيخرجونا من الأرض، فولى عليهم ولاة ذوي فظاظة وقساوة ليتعبدوهم، وجعلوا يبنون قرى لأجران فرعون واهرائه وفي نسخة‏:‏ وبنوا لفرعون مدناً محصنة فيسترم في الفيوم وفي عين شمس، وفي نسخة‏:‏ فيثوم ورعمسيس، وفي نسخة‏:‏ وأكوان التي هي مدينة الشمس، واشتد تعبدهم لهم، وذلهم أياهم، وكانوا يزدادون كثرة ويعتزون، فاشتد غمهم وحزنهم بسبب بني إسرائيل، وكان المصريون يتعبدون بني إسرائيل بشدة وقساوة، ويمرون حياتهم بالكد والتعب الصعب الشديد بالطين وعمل اللبن وفي كل عمل الحقل، وكان تعبدهم إياهم في جميع ما استعملوهم بالشدة والفظاظة والقسوة، فقال ملك مصر‏:‏ وجعلنا لقوابل العبرانيات التي تسمى إحداهما فوعا والأخرى شوفرا، وأمرهما‏:‏ إذا أنتما قبلتما العبرانيات فانظرا إذا سقط الولد، فإن كان ذكراً فاقتلاه، وإن كانت أنثى فاستبقياها فاتقت القابلتان الله ولم يفعلا ما أمرهما به ملك مصر، وجعلتا تستحييان الغلمان، فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما‏؟‏ ما بالكما‏؟‏ جاوزتما أمري وأحييتما الغلمان‏؟‏ فقالتا لفرعون‏:‏ إن العبرانيات لسن كالمصريات لأنهن قوابل، ويلدن قبل أن تدخل القابلة عليهن، فأحسن الله إلى القابلتين لصنعهما هذا، فكثر الشعب وعز جداً، فلما اتقت القابلتان الله أنماهما وجعل لهما بنين، وفي نسخة‏:‏ بيوتاً، فأمر فرعون جميع قومه قائلاً‏:‏ كل غلام يولد لهم فألقوه في النهر، وكل جارية تولد فاستبقوها، فانطلق رجل من آل لاوي فتزوج إحدى بنات لاوي، فحبلت المرأة فولدت ابناً فرأته حسناً جداً، فغيبته ثلاثة أشهر ولم تقدر أن تغيبه أكثر من ذلك، فأخذت تابوتاً من خشب الصنوبر، وطلته بالقار والزفت ووضعت فيه الغلام ووضعته في الضحضاح على شاطئ النهر، وقامت أخته من بعيد لتنظر ما يكون من أمره، فخرجت بنت فرعون تغتسل في النهر، فنظرت إلى التابوت في المخاضة، فأرسلت جواريها فأتوا به ففتحته فرأت الغلام، فإذا هو يبكي فرحمته، وقالت‏:‏ هذا من بني العبرانيين، فقالت أخته لابنة فرعون‏:‏ هل لك أن أنطلق أدعو لك ظئراً من العبرانيات فترضع هذا الغلام‏؟‏ فقالت لها ابنة فرعون‏:‏ نعم‏!‏ انطلقي، فانطلقت الفتاة ودعت أم الغلام، فقالت لها ابنة فرعون‏:‏ خذي هذا الصبي فأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الغلام فأرضعته فشب الغلام فأتت به إلى ابنة فرعون فتبنته، وسمته موسى لأنها قالت‏:‏ إني انتشلته من الماء‏.‏

فلما كان بعد تلك الأيام نشأ موسى عليه السلام وخرج إلى إخوته فنظر إلى ذلهم، فرأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً من إخوته من بني إسرائيل، فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير أحداً فقتل المصري، فمات ودفنه في الرمل، ثم خرج يوماً آخر فإذا هو برجلين عبرانيين يصطحبان، فقال للمسيء منهما‏:‏ ما بالك‏؟‏ تضرب أخاك‏؟‏ فقال له‏:‏ من جعلك علينا رئيساً وحاكماً‏؟‏ لعلك تريد أن تقتلني كما قتلت المصري أمس‏؟‏ ففرق موسى وقال‏:‏ حقاً لقد فشا هذا الأمر، فبلغ فرعون الأمر وأراد موسى، فهرب موسى من فرعون وانطلق إلى أرض مدين، وجلس على طوي الماء، وكان لحبر مدين سبع بنات، فكن يأتين فيدلن الماء فيملأن الحياض ليسقين غنم أبيهن، وكان الرعاة يأتون فيطردونهن، فقام موسى فخلصهن وأسقى غنمهن، فأتين إلى رعوئيل أبيهن فقال لهن‏:‏ ما بالكن‏؟‏ أسرعتن السقي اليوم‏؟‏ فقلن له‏:‏ رجل مصري خلصنا من أيدي الرعاة، فاستقى لنا الماء، وسقى غنمنا، فقال لبناته‏:‏ وأين هو‏؟‏ لم تركتن الرجل، انطلقن وادعونه فيأكل عندنا خبزاً، ففعلن ذلك، فأعجب موسى أن ينزل على ذلك الرجل فزوجه صفورا ابنته فتزوجها فولدت له ابناً فسماه جرشون، لأنه قال‏:‏ إني صرت ساكناً في أرض غريبة‏.‏ وولدت لموسى ابناً آخر، فسماه اليعازار، لأنه قال‏:‏ إن إله آبائي خلصني من حرب فرعون‏.‏ وقوله‏:‏ إن المتخاصمين في اليوم الثاني عبرانيان، إن أمكن تنزيل ما في القرآن عليه فذاك، وإلا فهو مما بدلوه، وقوله‏:‏ إن بنات شعيب سبع لا يخالف ما في القرآن الكريم، بل أيده الزمخشري بتعيينهما بقوله «هاتين» لكن تقدم ما يشير إلى أن ذلك غير لازم‏.‏

ولما كان من المعلوم أن التقدير‏:‏ فلما التزم موسى عليه السلام زوجه ابنته كما شرط، واستمر عنده حتى قضى ما عليه، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلما قضى‏}‏ أي وفى وأتم، ونهى وأنفذ ‏{‏موسى‏}‏ صاحبه ‏{‏الأجل‏}‏ أي الأوفى وهو العشر، بأن وفى جميع ما شرط عليه من العمل، فإنه ورد أنه قضى من الأجلين أوفاهما، وتزوج من المرأتين صغراهما، وهي التي جاءت فقالت‏:‏ يا أبت استأجره روى الطبراني في الأوسط معناه عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً، والظاهر أنه مكث عنده بعد الأجل أيضاً مدة، لأنه عطف بالواو قوله‏:‏ ‏{‏وسار‏}‏ ولم يجعله جواباً للما ‏{‏بأهله‏}‏ أي امرأة راجعاً إلى أقاربه بمصر ‏{‏آنس‏}‏ أي أبصر ‏{‏من جانب الطور ناراً‏}‏ آنسته رؤيتها وشرحته إنارتها، وكان مضروراً إلى الدلالة على الطريق والاصطلاء بالنار‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ماذا فعل عندما أبصرها قيل‏:‏ ‏{‏قال لأهله‏}‏ ولما كان النساء أعظم ما ينبغي ستره، أطلق عليها ضمير الذكور فقال‏:‏ ‏{‏امكثوا‏}‏ وإن كان معه بنين له فهو على التغليب، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً، لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد نار‏:‏ ‏{‏إني آنست ناراً‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فماذا تعمل بها‏؟‏ فقال معبراً بالترجي لأنه أليق بالتواضع الذي هو مقصود السورة، وهو الحقيقة في إدراك الآدميين في مثل هذا، ولذا عبر بالجذوة التي مدار مادتها الثبات‏:‏ ‏{‏لعلي آتيكم منها‏}‏ أي من عندها ‏{‏بخبر‏}‏ ينفعنا في الدلالة على المقصد ‏{‏أو جذوة‏}‏ أي عود غليظ ‏{‏من النار‏}‏ أي متمكنة منه هذه الحقيقة أو التي تقدم ذكرها؛ ثم استأنف قوله ‏{‏لعلكم تصطلون*‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتنعطفوا عليها لتدفؤوا، وهذا دليل على أن الوقت كان شتاء ‏{‏فلما أتاها‏}‏ أي النار‏.‏

ولما كان آخر الكلام دالاً دلالة واضحة على أن المنادي هو الله سبحانه، بنى للمفعول قوله دالاًّ على ما في أول الأمر من الخفاء‏:‏ ‏{‏نودي‏}‏ ولما كان نداؤه سبحانه لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب، وكان مع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد تشريف بوصف من الأوصاف، إما بأن يكون أول السماع منه أو غير ذلك أو يكون باعتبار كون موسى عليه الصلاة والسلام فيه قال‏:‏ ‏{‏من‏}‏ أي كائناً موسى عليه السلام بالقرب من ‏{‏شاطئ‏}‏ أي جانب ‏{‏الواد‏}‏ عن يمين موسى عليه الصلاة والسلام، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏الأيمن‏}‏ وهو صفة للشاطئ الكائن أو كائناً ‏{‏في البقعة المباركة‏}‏ كائناً أول أو معظم النداء أو كائناً موسى عليه الصلاة والسلام قريباً ‏{‏من الشجرة‏}‏ كما تقول‏:‏ ناديت فلاناً من بيته، ولعل الشجرة كانت كبيرة، فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها، فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع- وهو فيها- الكلام من الله تعالى حقيقة، وهو المتكلم سبحانه لا الشجرة، قال القشيري‏:‏ ومحصل الإجماع أنه عليه الصلاة والسلام سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة، وقال التفتازاني شرح المقاصد أن اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة، بلا كم ولا كيف، وتقدم في طه أن المراد ما إلى يمين المتوجه من مصر إلى الكعبة المشرفة، والشجرة قال البغوي‏:‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ كانت سمرة خضراء تبرق، وقال قتادة ومقاتل والكلبي‏:‏ كانت عوسجة، وقال وهب‏:‏ من العليق، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنها العناب‏.‏ ثم ذكر المنادي بقوله‏:‏ ‏{‏أن يا موسى‏}‏ وأكد لأنه سبحانه لعظمه يحتقر كل أحد نفسه لأن يؤهله للكلام لا سيما والأمر في أوله فقال‏:‏ ‏{‏إني أنا الله‏}‏ أي المستجمع للأسماء الحسنى، والصفات العلى‏.‏

ولما كان هذا الاسم غيباً، تعرف بصفة هي مجمع الأفعال المشاهدة للإنسان فقال‏:‏ ‏{‏رب العالمين*‏}‏ أي خالق الخلائق أجمعين ومربيهم ‏{‏وأن ألق عصاك‏}‏ أي لأريك فيها آية‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة، وهي مع عظمها في غاية الخفة، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلما رآها‏}‏ أي العصا ‏{‏تهتز كأنها‏}‏ أي في سرعتها وخفتها ‏{‏جان‏}‏ أي حية صغيرة ‏{‏ولّى مدبراً‏}‏ خوفاً منها ولم يلتفت إلى جهتها، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولم يعقب‏}‏ أي موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك كناية عن شدة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفاً من الإدراك في الطلب فقيل له‏:‏ ‏{‏يا موسى أقبل‏}‏ أي التفت وتقدم إليها ‏{‏ولا تخف‏}‏ ثم أكد له الأمر لما الآدمي مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله‏:‏ ‏{‏إنك من الآمنين*‏}‏ أي العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين؛ ثم زاد طمأنينته بقوله‏:‏ ‏{‏اسلك‏}‏ أي ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة ‏{‏يدك في جيبك‏}‏ أي القطع الذي في ثوبك وهو الذي تخرج منه الرأس، أو هو الكم، كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرر، تنسلك على لونها وما هي عليه من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته، وأخرجها ‏{‏تخرج بيضاء‏}‏ أي بياضاً عظيماً يكون له شأن خارق للعادات ‏{‏من غير سوء‏}‏ أي عيب من حريق أو غيره، فخرجت ولها شعاع كضوء الشمس، فالآية من الاحتباك‏.‏

ولما كان ذلك لا يكون آية محققة لعدم العيب إلا بعودها بعد ذلك إلى لون الجسد قال‏:‏ ‏{‏واضمم إليك‏}‏ أي إلى جسدك‏.‏ ولما كان السياق للتأمين من الخوف، عبر بالجناح، لأن الطائر يكون آمناً عند ضم جناحه فقال‏:‏ ‏{‏جناحك‏}‏ أي يديك التي صارت بيضاء، والمراد بالجناح في آية طه الإبط والجانب لأنه لفظ مشترك ‏{‏من الرهب‏}‏ أي من خشية أن تظنها معيبة تخرج كما كانت قبل بياضها في لون جسدك- هذا على أن المراد بالرهب الخوف الذي بهره فأوجب له الهرب، ويجوز أن يكون المراد بالرهب الكم، فيكون إدخالها في الفتى- التي ليست موضعها بل الرأس- للبياض، وإدخالها في الكم- الذي هو لها- لرجوعها إلى عادتها، وفي البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره فذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحية، وقال‏:‏ وما من خائف بعد موسى عليه الصلاة والسلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه‏.‏ وأظهر بلفظ الجناح من غير إضمار تعظيماً للمقام وتنبيهاً على أن عودها إلى حالها الأول آية مستقلة، وعبر عنها بلفظ الجناح تنبيهاً على الشكر بتعظيم نفعها‏.‏

ولما تم كوناً آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال‏:‏ ‏{‏فذانك‏}‏ أي العصي واليد البيضاء، وشدد أبو عمرو وابن كثير ورويس تقوية لها لتعادل الأسماء المتمكنة، وذكر لزيادة التقوية ‏{‏برهانان‏}‏ أي سلطانان وحجتان قاهرتان ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره ‏{‏إلى‏}‏ أي واصلان، أو أنت مرسل بهما إلى ‏{‏فرعون وملئه‏}‏ كلما أردت ذلك وجدته، لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحفرة فقط، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله مؤكداً تنبيهاً على ان إقدامه على الرجوع إليهم فعل من يظن أنهم رجعوا عن غيهم، وإعلاماً بمنه عليه بالحماية منهم بهذه البراهين‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏قوماً‏}‏ أي أقوياء ‏{‏فاسقين*‏}‏ أي خارجين عن الطاعة، فإذا رأوا ذلك هابوك، فلم يقدروا على الوصول إليك بسوء، وكنت في مقام أن تردهم عن فسقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ‏(‏33‏)‏ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ‏(‏34‏)‏ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق‏؟‏ قيل‏:‏ ثبت، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر، فاشترط لنفسه حتى رضي، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً، وحلماً وعلماً، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة، ولذلك كله ‏{‏قال رب‏}‏ أي أيها المحسن إليّ ‏{‏إني‏}‏ أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة، فذكر ذلك ليعلم وجه عدم اعتباره ‏{‏قتلت منهم‏}‏ أي آل فرعون ‏{‏نفساً‏}‏ وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها ‏{‏فأخاف‏}‏ إن باديتهم، بمثل ذلك ‏{‏أن يقتلون*‏}‏ لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج‏.‏

ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير‏:‏ فأرسل معي أخي هارون- إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال‏:‏ ‏{‏وأخي هارون‏}‏ والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثاني، فكأن التقدير‏:‏ إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود، ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وإن لساني فيه عقدة، وأخي- إلى آخره؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال‏:‏ ‏{‏هو أفصح مني لساناً‏}‏ أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون ‏{‏فأرسله‏}‏ أي بسبب ذلك ‏{‏معي ردءاً‏}‏ أي معيناً، من ردأت فلاناً بكذا، أي جعلته له قوة وعاضداً، وردأت الحائط- إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة‏.‏

ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله‏:‏ ‏{‏يصدقني‏}‏ أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون- مع تصديقه لي بنفسه- سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً‏.‏ ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له‏:‏ صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف‏:‏ ‏{‏إني أخاف أن يكذبون*‏}‏‏.‏

ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن من أن يكذبوه، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر، أشار إلى ذلك بالتأكيد، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل، وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بإنذار قومه

«إذن يثلغوا رأسي فيجعلوه خبزة» وكأن مراد السادة القادة عليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام الاستعلام عن الأمر هل يجري على العادة أو لا‏؟‏ فإن كان يجري على العادة وطنوا أنفسهم على الموت، وإلا ذكر لهم الأمر الخارق فيكون بشارة لهم، ليمضوا في الأمر على بصيرة، ويسيروا فيه على حسب ما يقتضيه من السيرة‏.‏

ولما أكد أمر الطلب بهارون عليهما الصلاة والسلام، أكد له سبحانه أمر الإجابة بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قال سنشد‏}‏ وذكر أولى الأعضاء بمزاولة المكاره فقال‏:‏ ‏{‏عضدك‏}‏ أي أمرك ‏{‏بأخيك‏}‏ أي سنقويك ونعينك به إجابة لسؤالك صلة منك لأخيك، وعوناً منه لك ‏{‏ونجعل لكما سلطاناً‏}‏ أي ظهوراً عظيماً عليهم، وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف ‏{‏فلا‏}‏ أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا ‏{‏يصلون إليكما‏}‏ بنوع من أنواع الغلبة ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات المعظمة بنسبتها إلينا، ولذلك كانت النتيجة ‏{‏أنتما ومن اتبعكما‏}‏ أي من قومكما وغيرهم ‏{‏الغالبون*‏}‏ أي لا غيرهم، وهذا يدل على أن فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به، لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين لأنفسهم في الله، وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرر من ذكرهم، وقد كشفت العاقبة عن أن السحرة ليسوا من جنوده، بل من حزب الله وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها، وسيأتي في آخر سورة الحديد عن تاريخ ابن عبد الحكم أنهم خلصوا ورجع بعضهم إلى مصر فكانوا أول من ترهب‏.‏

شرح ما مضى من التوراة، قال بعدما تقدم‏:‏ وكان من بعد أيام كثيرة مات فرعون ملك مصر فاستراح بنو إسرائيل من شدة تعبدهم، فصلوا فسمع الله صلاتهم، وعرف تعبدهم، وسمع ضجتهم، وذكر عهده لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأبصر الله بني إسرائيل، وعرف ذلهم، فكان موسى يرعى غنم يثرو ختنه حبر مدين، فساق بالشاء إلى طرف البرية وأتى إلى حوريب جبل الله، فتراءى له ملك الله بلهب النار من جوف العوسج، تشتعل فيه النار، ولم يكن العوسج يحترق، فقال موسى‏:‏ لأعدلن فأنظر إلى هذه الرؤيا العظيمة؛ ما بال هذه العوسجة لم تحترق‏؟‏ فرأى الرب أنه قد عدل لينظر، فدعاه الله من جوف العوسج وقال له‏:‏ يا موسى يا موسى‏!‏ فقال‏:‏ هأنذا‏!‏ قال‏:‏ لا تدن إلى ههنا، اطرح خفيك عن قدميك، لأن المكان الذي أنت واقف عليه مكان طاهر، وفي نسخة‏:‏ مقدس، وقال الله‏:‏ أنا إله أبيك إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، فغطى موسى وجهه لأنه فرق أن يمد بصره نحو الرب، وقال الرب‏:‏ إني قد رأيت ذل شعبي بمصر، وسمعت ضجتهم التي ضجوا من تعبدهم، لأني عارف براءتهم، فنزلت لأخلصهم من أيدي المصريين، وأن أصعدهم من تلك الأرض إلى أرض صالحة واسعة، تغل السمن والعسل‏:‏ أرض الكنعانيين والحاثانيين والأمورانيين والفرزانيين والحاوانيين واليابسانيين، والآن هو ذا ضجيج بني إسرائيل قد ارتفع إليّ، ورأيت ضر المصريين لهم، فهبطت الآن حتى أرسلك إلى فرعون‏.‏

وأخرج شعبي بني إسرائيل من مصر، فقال موسى للّه‏:‏ من أنا حتى أنطلق إلى فرعون وأخرج بني إسرائيل من مصر، فقال الله‏:‏ أنا أكون معك وهذه الآية لك أني أرسلتك‏:‏ إنك إذا أخرجت الشعب من مصر تعبدون الله في هذا الجبل، فقال موسى‏:‏ ها أنذا منطلق إلى بني إسرائيل وأقول لهم‏:‏ الرب إله آبائكم أرسلني إليكم، فإن قالوا لي‏:‏ ما اسمه‏؟‏ ما الذي أقول‏؟‏ فقال الرب لموسى‏:‏ قل لهم‏:‏ الأزلي الذي لم يزل، وفي نسخة‏:‏ لا يزول، وقال‏:‏ هكذا قل لبني إسرائيل‏:‏ أهيا شر أهيا أرسلني إليكم، وقال الرب أيضاً لموسى هكذا قل لبني إسرائيل‏:‏ الله ربكم إله آبائكم إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب أرسلني إليكم هذا اسمي إلى الأبد، وهذا ذكري إلى حقب الأحقاب، انطلق فاجمع أشياخ بني إسرائيل وقل لهم‏:‏ الرب إله آبائكم اعتلن لي، وإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب يقول لكم‏:‏ قد ذكرتكم وذكرت ما صنع بكم بمصر، ورأيت إخراجكم من تعبد أهل مصر إلى ارض الكنعانيين- ومن تقدم معهم- إلى الأرض التي تعل السمن والعسل، فإذا قبلوا منك فادخل أنت وأشياخ بني إسرائيل إلى ملك مصر فقولوا له‏:‏ الرب إله العبرانيين ظهر علينا فننطلق الآن مسيرة ثلاثة أيام في البرية ونذبح الذبائح لله ربنا، وأنا أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تخرجون، ولا بيد واحدة شديدة، حتى أبعث بآفتي وأضرب المصريين بجميع العجائب التي أحدثها فيهم، ومن بعد ذلك يرسلكم فأجعل للشعب في أعين المصريين رأفة ورحمة، فإذا انطلقتم فلا تنطلقوا عطلاً صفراً، بل تستعير المرأة منكم من جاراتها وساكنة بيتها حلي ذهب وفضة وكسوة، وألبسوها بنيكم وبناتكم، وأخربوا أهل مصر، فأجاب موسى وقال‏:‏ إنهم لا يصدقونني، ولا يقبلون قولي، لأنه يقولون‏:‏ لم يتراءى لك الرب، فقال له الرب‏:‏ ما هذه التي في يدك‏؟‏ فقال‏:‏ هي عصاي، فقال‏:‏ ألقها في الأرض، فألقاها في الأرض، فصارت ثعباناً، فهرب منه موسى، فقال له الرب‏:‏ يا موسى‏!‏ مد يدك، فخذ بذنبها، فمد يده فأمسكه فتحول في يده عصا، فقال‏:‏ لكي يصدقوا أن الله إله آبائهم قد تراءى لك، إله إبراهيم إله إسحاق إله يعقوب، وقال الرب لموسى‏:‏ اردد يدك في ردنك، وفي نسخة‏:‏ في كمك، فأدخلها ثم أخرجها فإذ بيده بيضاء كالثلج، فقال له‏:‏ اردد يدك في حضنك، وفي نسخة‏:‏ في كمك، فردها ثم أخرجها فإذا هي مثل جسده، فإن هم لم يؤمنوا ولم يسمعوا بالآية الأولى فإنهم يؤمنون ويسمعون بالآية الأخرى، فإن لم يؤمنوا بالآيتين، ولم يسمعوا قولك فخذ ماء من الأرض، وفي نسخة‏:‏ النيل، فاصببه على الأرض، فإنه ينقلب ويصير دماً في اليبس، فقال موسى للرب‏:‏ أطلب إليك يا رب لست رجلاً ناطقاً منذ أمس ولا قبله ولا من الوقت الذي كلمت عبدك فيه، لأني ألثغ المنطق عسر اللسان، فقال له الرب‏:‏ من الذي خلق المنطق للإنسان‏؟‏ ومن الذي خلق الأخرس والأصم والمبصر والمكفوف‏؟‏ أليس أنا الرب الذي أصنع ذلك‏؟‏ فانطلق الآن وأنا أكون معك، وراقباً للسانك وألقنك ما تنطق به، فقال‏:‏ موسى أطلب إليك يا رب‏!‏ أرسل في هذه الرسالة غيري، فقال‏:‏ هذا أخوك هارون اللاوي، قد علمت أنه ناطق لسن، وهو أيضاً سيلقاك، ويشتد فرحه بك، وأخبره بالأمر، ولقنه كلامي، وأنا أكون راقباً على فيك وفيه وأعلمكما ما تصنعان، وهو يكلم الشعب عنك؛ فيكون لك مترجماً، وأنت تكون له إلهاً، وفي نسخة‏:‏ أستاذاً ومدبراً، وخذ في يديك هذه العصا لتعمل بها الآيات، فرجع موسى منطلقاً إلى ثيرو ختنه وقال له‏:‏ إني راجع إلى إخوتي بمصر، وناظر هل هم أحياء بعد‏؟‏ فقال‏:‏ ثيرو لموسى‏:‏ انطلق راشداً سالماً، وقال الرب لموسى في مدين‏:‏ انطلق راجعاً إلى مصر لأن الرجال الذين كانوا معك يطلبون نفسك قد هلكوا جميعاً- إلى آخر ما مضى في الأعراف، وفي هذا الفصل ما لا يسوغ إطلاقه في شرعنا على مخلوق، وهو الإله، وهو في لغة العبرانيين بمعنى العالم والحاكم، وفيه أيضاً أن فرعون مات قبل رجوع موسى فإن كان المراد الذي ربى موسى عليه الصلاة والسلام في بيته فهو مما بدلوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ‏(‏36‏)‏ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏38‏)‏ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم‏}‏ أي فرعون وقومه‏.‏

ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال‏:‏ ‏{‏موسى بآياتنا‏}‏ أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها ‏{‏بينات‏}‏ أي في غاية الوضوح ‏{‏قالوا‏}‏ أي فرعون وجنوده ‏{‏ما هذا‏}‏ أي الذي أظهره من الآيات ‏{‏إلا سحر مفترى‏}‏ أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله ‏{‏وما سمعنا بهذا‏}‏ أي الذي تقوله من الرسالة عن الله ‏{‏في آبائنا‏}‏ وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله‏:‏ ‏{‏الأولين*‏}‏ وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام «وما بالعهد من قدم» فقد قال لهم الذي آمن ‏{‏يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏- إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما «فبضدها تتبين الأشياء» هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال‏:‏ ‏{‏وقال موسى‏}‏ أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم‏:‏ ‏{‏ربي‏}‏ أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء ‏{‏أعلم بمن جاء‏}‏ بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال «بمن جاء» ‏{‏بالهدى‏}‏ أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه ‏{‏من عنده‏}‏، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه ‏{‏ومن تكون له‏}‏ لكونه منصوراً مؤيداً ‏{‏عاقبة الدار‏}‏ أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف ‏{‏إنه لا يفلح‏}‏ أي يظفر ويفوز ‏{‏الظالمون*‏}‏ أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون ‏{‏ولتعلمن نبأه بعد حين‏}‏ ‏{‏وقال فرعون‏}‏ جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة‏:‏ ‏{‏يا أيها الملأ‏}‏ أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم ‏{‏ما علمت لكم‏}‏ وأعرق في النفي فقال‏:‏ ‏{‏من إله غيري‏}‏ نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول‏:‏ اصنع لي آجراً‏:‏ ‏{‏فأوقد لي‏}‏ أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه ‏{‏يا هامان‏}‏ وهو وزيره ‏{‏على الطين‏}‏ أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله‏:‏ ‏{‏فاجعل لي‏}‏ أي منه ‏{‏صرحاً‏}‏ أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري‏:‏ وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج‏:‏ كل بناء متسع مرتفع ‏{‏لعلي أطلع‏}‏ أي أتكلف الطلوع ‏{‏إلى إله موسى‏}‏ أي الذي يدعوا إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وإني لأظنه‏}‏ أي موسى ‏{‏من الكاذبين*‏}‏ أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها‏.‏

ولما قال هذا مريداً به- كما تقدم- إيقاف قومه عن إتباع الحق، أتبعه تعالى الإشارة إلى أنهم فعلوا ما أراد، وإن كان ذلك هو الكبر عن الحق فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واستكبر‏}‏ أي وأوجد الكبر بغاية الرغبة فيه ‏{‏هو‏}‏ بقوله هذا الذي صدهم به عن السبيل ‏{‏وجنوده‏}‏ بانصدادهم لشدة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل ‏{‏في الأرض‏}‏ أي أرض مصر، ولعله عرفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي استكباراً مصحوباً بغير هذه الحقيقة، والتعبير بالتعريف يدل على أن التعظيم بنوع من الحق ليس كبراً وإن كانت صورته كذلك، وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله، وعطف على ذلك ما تفرع عنه وعن الغباوة أيضاً ولذا لم يعطفه بالفاء، فقال‏:‏ ‏{‏وظنوا‏}‏ أي فرعون وقومه ظناً بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع ‏{‏أنهم إلينا‏}‏ أي إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عنده انقطاع الأسباب ‏{‏لا يرجعون*‏}‏ أي لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلذلك اجترؤوا على ما ارتكبوه من الفساد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ ‏(‏42‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال‏:‏ ‏{‏فأخذناه‏}‏ أي بعظمتنا أخذ قهر ونقمة ‏{‏وجنوده‏}‏ أي كلهم، وذلك علينا هين، وأشار إلى احتقارهم بقوله‏:‏ ‏{‏فنبذناهم‏}‏ أي على صغرهم وعظمتنا ‏{‏في اليم‏}‏ فكانوا على كثرتهم وقوتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الذراع من يده في البحر، فغابوا في الحال، وما آبوا ولا أحد منهم إلى أهل ولا مال‏.‏ ولما سببت هذه الآية من العلوم، ما لا يحيط به الفهوم، قال‏:‏ ‏{‏فانظر‏}‏ أي أيها المتعرف للآيات الناظر فيها نظر الاعتبار؛ وزاد في تعظيم ذلك بالتنبيه على أنه مما يحق له أن يسأل عنه فقال‏:‏ ‏{‏كيف كان‏}‏ أي كوناً هو الكون ‏{‏عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏الظالمين*‏}‏ وإن زاد ظلمهم، وأعيى أمرهم، ذهبوا في طرفة عين، كأن لم يكونوا، وغابوا عن العيون كأنهم قط لم يبينوا، وسكتوا بعد ذلك الأمر والنهي فصاروا بحيث لم يبينوا، فليحذر هؤلاء الذين ظلموا إن استمروا على ظلمهم أن ينقطعوا ويبينوا، وهذا إشارة عظيمة بأعظم بشارة بأن كل ظالم يكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق، ورابطه حتى يحكم الله وهو خير الحالكمين‏.‏

ولما كان «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وكانوا أول من أصر وأطبق في ذلك الزمان على تكذيب الآيات، وإخفاء الدلالات النيرات، على تواليها وكثرتها، وطول زمانها وعظمتها وكانت منابذة العقل واتباع الضلال في غاية الاستبعاد، لا سيما إن كانت ضامنة للهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة، قال تعالى في مظهر العظمة‏:‏ ‏{‏وجعلناهم‏}‏ أي في الدنيا ‏{‏أئمة‏}‏ أي متبوعين في رد ما لا يرده عاقل من هذه الآيات، أي جعلنا أمرهم شهيراً حتى لا يكاد أحد يجهله، فكل من فعل مثل أفعالهم من رد الحق والتجبر على الخلق، فكأنه قد اختار الاقتداء بهم وإن لم يكن قاصداً ذلك، فأطلق ذلك عليه رفعاً له عن النسبة إلى أنه يعمل ما يلزمه الاتسام به وهو عاقل عنه كما أنه لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل، وأحق الناس باتباعهم في باطن اعتقادهم وظاهر اصطناعهم، وخيبة آمالهم وأطماعهم أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد أهلك الله أنصارهم‏.‏ وعجل دمارهم، وكشف هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ أي يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم، فضل ضلالهم ‏{‏إلى النار‏}‏ أي وجعلنا لهم أعواناً ينصرونهم عكس ما أردنا لبني إسرائيل- كما سلف أول السورة- وجعلناهم موروثين‏.‏

ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة، وكان قد أخبر عن خذلانهم في الدنيا، قال‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أي الذي هو يوم التغابن ‏{‏لا ينصرون*‏}‏ أي لا يكون لهم نوع نصرة أصلاً كما كانوا يوم هلاكهم في الدنيا سواء، ولا هم أئمة ولا لهم دعوة، يخلدون في العذاب، ويكون لهم سوء المآب‏.‏

ولما أخبر عن هذا الحال، أخبر عن ثمرته؛ فقال في مظهر العظمة، لأن السياق لبيان علو فرعون وآله، وأنهم مع ذلك طوع المشيئة ‏{‏وأتبعناهم في هذه‏}‏ ولما كان المراد الإطناب في بيان ملكهم، فسر اسم الإشارة فقال‏:‏ ‏{‏الدنيا‏}‏ ولم يقل‏:‏ الحياة، لأن السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم ‏{‏لعنة‏}‏ أي طرداً وبعداً عن جنابنا ودفعاً لهم بذلك ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم، أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن والفهم ‏{‏ويوم القيامة هم‏}‏ أي خاصة، ومن شاكلهم ‏{‏من المقبوحين*‏}‏ أي المبعدين أيضاً المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال، والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال، من القبح الذي هو ضد الحسن، ومن قولهم‏:‏ قبحت الشيء- إذا كسرته، وقبح الله العدو‏:‏ أبعده عن كل خير، فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أن فرعون عدو الله، في الآخرة كما كان عدوه في الدنيا، فلعنة الله على من يقول‏:‏ إنه مات مؤمناً، وإنه لا صريح في القرآن بأنه من أهل النار، وعلى كل من يشك في كفره بعد ما ارتكبه من جلي أمره‏.‏

ولما وعد سبحانه بإمامة بني إسرائيل وقص القصص حتى ختم بإمامة آل فرعون في الدعاء إلى النار إعلاماً بأن ما كانوا عليه تجب مجانبته ومنابذته ومباعدته، وكان من المعلوم أنه لا بد لكل إمامة من دعامة، تشوفت النفس إلى أساس إمامة بني إسرائيل التي يجب العكوف في ذلك الزمان عليها، والتمسك بها، والمبادرة إليها، فأخبر سبحانه عن ذلك مقسماً عليه مع الافتتاح بحرف التوقع، لأن العرب وإن كانوا مصدقين لما وقع من المنة على بني إسرائيل بإنقاذهم من يد فرعون وتمكينهم بعده، وإنزال الكتاب عليهم، فحالهم بإنكار التمكين لأهل الإسلام والتكذيب بكتابهم حال المكذب بأمر بني إسرائيل، لأنه لا فرق بين نبي ونبي، وكتاب وكتاب، وناس وناس، لأن رب الكل واحد، فقال‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ أي بما لنا من الجلال والجمال والمجد والكمال ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين؛ قال أبو حيان‏:‏ وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام‏.‏

ولما كان حكم التوراة لا يستغرق الزمان الآتي، أدخل الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ما‏}‏ إشارة إلى أن إيتاءها إنما هو في مدة من الزمان، ثم ينسخها سبحانه بما يشاء من أمره ‏{‏أهلكنا‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏القرون الأولى‏}‏ أي من قوم نوح إلى قوم فرعون، ووقتها بالهلاك إشارة إلى أنه لا يعم أمة من الأمم بالهلاك بعد إنزالها تشريفاً لها ولمن أنزلت عليه وأوصلت إليه؛ ثم ذكر حالها بقوله‏:‏ ‏{‏بصائر‏}‏ جمع بصيرة، وهي نور القلب، مصابيح وأنواراً ‏{‏للناس‏}‏ أي يبصرون بها ما يعقل من أمر معاشهم ومعادهم، وأولاهم وأخراهم، كما أن نور العين يبصر به ما يحسن من أمور الدنيا‏.‏

ولما كان المستبصر قد لا يهتدي لمانع قال‏:‏ ‏{‏وهدى‏}‏ أي للعامل بها إلى كل خير‏.‏ ولما كان المهتدي ربما حمل على من توصل إلى غرضه، وكان ضاراً، قال‏:‏ ‏{‏ورحمة‏}‏ أي نعمة هنية شريفة، لأنها قائدة إليها‏.‏

ولما ذكر حالها، ذكر حالهم بعد إنزالها فقال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى تذكره، وهذا إشارة إلى أنه ليس في الشرائع ما يخرج عن العقل بل متى تأمله الإنسان تذكر به من عقله ما يرشد إلى مثله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏44‏)‏ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه في هذه السورة من غرائب أمر موسى عليه الصلاة والسلام وخفي أحواله ما بين، وكانت هذه الأخبار لا يقدر أهل الكتاب على إنكارها، نوعاً من الإنكار، وكان من المشهور أي اشتهار، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرفها ولا سواها من غير الواحد القهار، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله حالاً من ضمير ‏{‏آتينا‏}‏ ‏{‏وما كنت بجانب الغربي‏}‏ أي الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه السلام فيه النار، وهو مما يلي البحر منه من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرفة من ناحية مصر، فناداه منه العزيز الجبار، وهو ذو طوى ‏{‏إذ‏}‏ أي حين ‏{‏قضينا‏}‏ بكلامنا بما حوى من الجلال، وزاد العظمة في رفيع درجاته بالإشارة بحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى موسى الأمر‏}‏ أي أمر إرساله إلى فرعون وقومه، وما نريد أن نفعل من ذلك في أوله وأثنائه وآخره مجملاً، فكان كل ما أخبرنا به مطابقاً تفصيله لإجماله، فأنت بحيث تسمع ذلك الذي قضيناه إليه من الجانب الذي أنت فيه ‏{‏وما كنت‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏من الشاهدين*‏}‏ لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى في ذلك المكان في أوقاته مع من شهده منه من أهل ذلك العصر من السبعين الذين اختارهم أو غيرهم ممن تبعه أو صد عنه حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي أتيناك به في هذه الأساليب المعجزة، ولا شك أن أمر معرفتك كذلك منحصر في شهودك إياه في وقته أو تعلمك له من الخالق، أو من الخلائق الذين شاهدوه، أو أخبرهم به من شاهده، وانتفاء تعلمه من أحد من الخلائق في الشهرة بمنزلة انتفاء شهوده له في وقته، فلم يبق إلا تلقيه له من الخالق، وهو الحق الذي لا شبهة فيه عند منصف‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ وما كنت من أهل ذلك الزمان الحاضرين لذلك الأمر، وامتد عمرك إلى هذا الزمان حتى أخبرت بما كنت حاضره، استدرك ضد ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولكنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏أنشأنا‏}‏ أي بعد ما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة والإخبار، كلهم ‏{‏قروناً‏}‏ أي ما أخرنا أحداً من أهل ذلك الزمان، ولكنا أهلكناهم وأنشأنا بعدهم أجيالاً كثيرة ‏{‏فتطاول‏}‏ بمروره وعلوه ‏{‏عليهم العمر‏}‏ جداً بتدريج من الزمان شيئاً فشيئاً فنسيت تلك الأخبار، وحرفت ما بقي منها الرهبان والأحبار، ولا سيما في زمان الفترة، فوجب في حكمتنا إرسالك فأرسلناك لتقوم المحجة، وتقوم بك الحجة، فعلم أن إخبارك بهذا والحال أنك لم تشاهده ولا تعلمته من مخلوق إنما هو عنا وبوحينا‏.‏

ولما نفى العلم بذلك بطريق الشهود، نفى سبب العلم بذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما كنت ثاوياً‏}‏ أي مقيماً إقامة طويلة مع الملازمة بمدين ‏{‏في أهل مدين‏}‏ أي قوم شعيب عليه السلام ‏{‏تتلوا‏}‏ أي تقرأ على سبيل القص للآثار والأخبار الحق ‏{‏عليهم آياتنا‏}‏ العظيمة، لتكون ممن يهتم بأمور الوحي وتتعرف دقيق أخباره، فيكون خبرهم وخبر موسى عليه الصلاة والسلام معهم وخبره بعد فراقه لهم من شأنك، لتوفر داعيتك حينئذ على تعرفه ‏{‏ولكنا كنا‏}‏ أي كوناً أزلياً أبدياً نسبته إلى جميع الأزمنة بما لنا من العظمة، على حد سواء ‏{‏مرسلين*‏}‏ أي لنا صفة القدرة على الإرسال، فأرسلنا إلى كل نبي في وقته ثم أرسلنا إليك في هذا الزمان بأخبارهم وأخبار غيرهم لتنشرها في الناس، واضحة البيان سالمة من الإلباس، لأنا شاهدين لذلك كله، لم يغب عنا شيء منه ولا كان إلا بأمرنا‏.‏

ولما نفى السبب المبدئي للعلم بذلك الإجمال ثم الفائي للعلم بتفصيل تلك الوقائع والأعمال، نفى السبب الفائي للعم بالأحكام ونصب الشريعة بما فيها من القصص والمواعظ والحلال والحرام والآصار والأغلال بقوله‏:‏ ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ‏}‏ أي حين ‏{‏نادينا‏}‏ أي أوقعنا النداء لموسى عليه الصلاة والسلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو قبله، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله، لأنك ما خالطت أحداً ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه الصلاة والسلام، ولا أحد أحملها عمن حملها عنه، ولكن ذلك كان إليك منا، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ أي أنزلنا ما أردنا منه ومن غيره عليك وأوحيناه إليك وأرسلناك به إلى الخلائق ‏{‏رحمة من ربك‏}‏ لك خصوصاً وللخلق عموماً ‏{‏لتنذر‏}‏ أي تحذر تحذيراً كبيراً ‏{‏قوماً‏}‏ أي أهل قوة ونجدة، ليس لهم عائق من أعمال الخير العظيمة، لا الإعراض عنك، وهم العرب، ومن في ذلك الزمان من الخلق ‏{‏ما آتاهم‏}‏ وعم المنفي بزيادة الجار في قوله‏:‏ ‏{‏من نذير‏}‏ أي منهم، وهم مقصودون بإرساله إليهم وإلا فقد أتتهم رسل موسى عليه السلام، ثم رسل عيسى عليه الصلاة والسلام، وإن صح أمر خالد بن سنان العبسي فيكون نبياً غير رسول، أو يكون رسولاً إلى قومه بني عبس خاصة، فدعاؤه لغيرهم إن وقع فمن باب الأمر بالمعروف عموماً، لا الإرسال خصوصاً، فيكون التقدير‏:‏ نذير منهم عموماً، وزيادة الجار في قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ تدل على الزمن القريب، وهو زمن الفترة، وأما ما قبل ذلك فقد كانوا فيه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى غيره عمرو بن لحي فقد أنذرهم في تلك الأزمان إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم إسماعيل عليه الصلاة والسلام ثم من بعدهم من صالحي ذريتهم إلى زمان عمرو بن لحي، فهم لأجل عدم النذير عمي، عن الهدي، سالكون سبيل الردى، وقال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون*‏}‏ لمثل ما تقدم من أنهم إذا قبلوا ما جئت به وتدبروه أذكرهم إذكاراً ظاهراً- بما أشار إليه الإظهار- ما في عقولهم من شواهده وإن كانت لا تستقل بدونه والله الموفق‏.‏

ولما كان انتفاء إنذارهم قبله عليه الصلاة والسلام نافياً للحجة في عذابهم بما أوجبه الله- وله الحجة البالغة لا يسأل عما يفعل- على نفسه الشريفة، فضلاً منه ورحمة، ذكر أن إرساله مما لا بد منه لذلك فقال‏:‏ ‏{‏ولولا‏}‏ أي ولولا هذا الذي ذكرناه ما أرسلناك لتنذرهم، ولكنه حذف هذا الجواب إجلالاً له صلى الله عليه وسلم عن المواجهة به، وذلك الذي ختم الإرسال هو ‏{‏أن تصيبهم‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏مصيبة‏}‏ أي عظيمة ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏ أي من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنه ‏{‏فيقولوا ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏لولا‏}‏ أي هل لا ولم لا ‏{‏أرسلت إلينا‏}‏ أي على وجه التشريف لنا، لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به ‏{‏رسولاً‏}‏ وأجاب التخصيص الذي شبهوه بالأمر لكون كل منهما باعثاً على الفعل بقوله‏:‏ ‏{‏فنتبع‏}‏ أي فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع ‏{‏آياتك ونكون‏}‏ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ‏{‏من المؤمنين*‏}‏ أي المصدين بك في كل ما أتى به عنك رسولك صلى الله عليه وسلم تصديقاً بليغاً، فإذا قالوا ذلك على تقدير عدم الإرسال قامت لهم حجة في مجاري عاداتكم وإن كانت لنا الحجة البالغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 54‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ‏(‏48‏)‏ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏49‏)‏ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه، بنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم‏}‏ أي أهل مكة ‏{‏الحق‏}‏ الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما، وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات، فكيف وهو ‏{‏من عندنا‏}‏ على ما لنا من العظمة، وعلى لسانك وأنت أعظم الخلق‏!‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتاً كفراً به‏:‏ ‏{‏لولا أوتي‏}‏ من الآيات، أي هذا الآتي بما يزعم أنه الحق، وبني للمفعول لأن القصد مطلق الإيتاء لأنه الذي يترتب عليه مقصود الرسالة، مع أن المؤتى معلوم ‏{‏مثل ما أوتي موسى‏}‏ أي من اليد والعصا وغيرهما من الآيات التي لا يقدر على إتيانها إلا القادر على كل شيء‏.‏

ولما كان الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام لا يكون موجباً للإيمان على زعمهم إلا بأن يكون أعظم مما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، أو يكون الناس لم يتوقفوا في الإيمان به، وكان كل من الأمرين منتفياً بأن أهل زمانه كفرو به، وهو لما سألوا اليهود عن محمد صلى الله عليه وسلم وأمروهم أن يمتحنوه بالروح وقصتي أهل ألكهف وذي القرنين وجاء في كل من ذلك بما لزمهم تصديقه، فامتنعوا وأصروا على كفرهم، وكان في ذلك كفرهم به وبموسى عليهما الصلاة والسلام، فعلم أن التقدير‏:‏ ألم يكفروا بما أتاهم به من الآيات الباهرة مع أنه مثل ما أتى به موسى عليهما الصلاة والسلام، بل أعظم منه ‏{‏أولم يكفروا‏}‏ أي العرب ومن بلغتهم الدعوة من بني إسرائيل أو من شاء الله منهم أو أبناء جنسهم ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى عليه السلام ‏{‏بما أوتي موسى‏}‏‏.‏

ولما كان كل من إتيانه وكفرهم لم يستغرق زمان القبل، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل مجيء الحق على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إليهم‏.‏ ولما كان كأنه قيل‏:‏ ما كان كفرهم به‏؟‏ قيل‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ أي فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل كقارون ومن تبعه‏.‏ ولما كان قد تقدم هنا قريباً أن المظاهر له أخوه، فكان المراد واضحاً، أضمرهما فقال‏:‏ ‏{‏ساحران‏}‏ أي هو وأخوه ‏{‏تظاهرا‏}‏ أي أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزاً فغلبا جميع السحرة، وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين- على قراءة الكوفيين، ويجوز- وهو أقرب أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وذلك لأنه روي أن قريشاً بعثت إلى يهود فسألوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أن نعته في كتابهم، فقالوا هذه المقالة، فيكون الكلام استئنافاً لجواب من كأنه قال‏:‏ ما كان كفرهم بهما‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا- أي العرب‏:‏ الرجلان ساحران، أو الكتابان سحران، ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أن هذا القول زيف‏.‏

لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر، لكان سحر فرعون أعظم إعجازاً، لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارض ما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام من آية العصا، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجن والإنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً فعجزوا‏.‏

ولما تضمن قولهم ذلك الكفر، صرحوا به في قولهم‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ أي كفار قريش أو المتقدمون من فرعون وأضرابه‏:‏ ‏{‏إنا بكل‏}‏ من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما، وهما ما أتيا به من عند الله ‏{‏كافرون*‏}‏ جرأة على الله وتكبراً على الحق‏.‏

ولما قالوا ذلك، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا فعل‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ إلزاماً لهم إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فأتوا بكتاب‏}‏ وأشار بالتعبير في وصفه بعند دون لدن إلى أنه يقنع منهم بكونه حكيماً خارقاً للعادة في حكمته وإن لم يبلغ الذروة في الغرابة بأن انفك عن الإعجاز في نظمه كالتوراة فقال‏:‏ ‏{‏من عند الله‏}‏ أي الملك الأعلى، ينطق بأنه نم عنده أحواله وحكمته وجلاله ‏{‏هو‏}‏ أي الذي أتيتم به ‏{‏أهدى منهما‏}‏ أي مما أتيت به ومما أتى به موسى ‏{‏أتبعه‏}‏ أي واتركهما‏.‏

ولما أمرهم بأمره بالإتيان، ذكر شرطه من باب التنزل، لإظهار النصفة، وهو في الحقيقة تهكم بهم فقال‏:‏ ‏{‏إن كنتم‏}‏ أيها الكفار‏!‏ كوناً راسخاً ‏{‏صادقين*‏}‏ أي في أنا ساحران، فائتوا ما ألزمتكم به‏.‏

ولما كان شرط صدقهم، بين كذبهم على تقدير عدم الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا‏}‏ أي الكفار الطالبون للأهدى في الإتيان به‏.‏ ولما كانت الاستجابة تتعدى بنفسها إلى الدعاء، وباللام إلى الداعي، وكان ذكر الداعي أدل على الاعتناء به والنظر إليه، قال مفرداً لضميره صلى الله عليه وسلم لأنه لا يفهم المقايسة في الأهدوية غيره‏:‏ ‏{‏لك‏}‏ أي يطلبوا الإجابة ويوجدوها في الإيمان أوالإتيان بما ذكرته لهم ودعوتهم إليه مما هو أهدى، من القرآن والتوراة ليظهر صدقهم ‏{‏فاعلم‏}‏ أنت ‏{‏أنما يتبعون‏}‏ أي بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفروالتكذيب ‏{‏أهواءهم‏}‏ أي دائماً، وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ظالمون غير مهتدين، بل هم أضل الناس، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏ومن أضل‏}‏ أي منهم، ولكنه قال‏:‏ ‏{‏ممن اتبع‏}‏ أي بغاية جهده ‏{‏هواه‏}‏ تعليقاً للحكم بالوصف؛ والتقييد وبقوله‏:‏ ‏{‏بغير هدى‏}‏ أي بيان وإرشاد ‏{‏من الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال دليل على أن الهوى قد يوافق الهدى، والتعبير بالافتعال دليل على أن التابع وإن كان ظالماً قد لا يكون أظلم‏.‏

ولما كانت متابعة الهوى على هذا الصورة ظلماً، وصل به قوله مظهراً لئلا يدعى التخصيص بهم‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا راد لأمره ‏{‏لا يهدي‏}‏ وأظهر موضع الإضمار للتعميم فقال‏:‏ ‏{‏القوم الظالمين*‏}‏ أي وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهوائهم، فالآية من الاحتباك‏:‏ أثبت أولاً اتباع الهوى دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً الظلم دليلاً على حذفه أولاً‏.‏

ولما أبلغ في هذه الأساليب في إظهار الخفايا، وأكثر من نصب الأدلة على الحق وإقامة على وجوب اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا بإعراضهم عن ذلك كله كأنهم منكرون لأن يكون جاءهم شيء من ذلك، قال ناسقاً على ما تقديره‏:‏ فلقد آتيناك في هذه الآيات بأعظم البينات، منبهاً بحرف التوقع المقترن بأداة القسم على أنه مما يتوقع هنا أن يقال‏:‏ ‏{‏ولقد وصلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة التي مقتضاها أن يكفي أدنى إشارة منها ‏{‏لهم‏}‏ اي خاصة، فكان تخصيصهم بذلك منة عظيمة يجب عليهم شكرها ‏{‏القول‏}‏ أي أتبعنا بعض القول- الذي لا قول في الحقيقة سواه- بعضاً بالإنزال منجماً، قطعاً بعضها في أثر بعض، لتكون جواباً لأقولهم، وحلاًّ لإشكالهم، فيكون أقرب إلى الفهم، وأولى بالتدبر، مع تنويعه في وعد ووعيد، وأخبار ومواعظ، وحكم ونصائح، وأحكام ومصالح، وأكثرنا من ذلك حتى كانت آياته المعجزات وبيناته الباهرات كأنها أفراس الرهبان، يوم استباق الأقران، في حومة الميدان، غير أن كلاًّ منهما سابق في العيان‏.‏

ولما بكتهم بالتنبيه بهذا التأكيد على مبالغتهم في الكذب بالقول أو بالفعل في أنه ما أتاهم ما يقتضي التذكير أتبع ذلك التوصيل عليه فقال‏:‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال الذين يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق تذكيراً، بما أشار إليه الإظهار‏.‏

ولما كان من التذكر ما دل عليه مجر العقل، ومنه ما انضم إليه مع ذلك العقل، وكان صاحب هذا القسم أجدر بأن يتبصر، وكان كأنه قيل‏:‏ هل تذكروا‏؟‏ قيل‏:‏ نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقاً تذكروا حقاً، وذلك معنى قوله‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم‏}‏ أي بعظمتنا التي حفظناهم بها ‏{‏الكتاب‏}‏ أي العلم من التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء، وهم يتلون ذلك حق تلاوته، في بعض الزمان الذي كان ‏{‏من قبله‏}‏ أي القرآن ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏به‏}‏ أي القرآن، لا بشيء مما يخالفه ‏{‏يؤمنون*‏}‏ أي يوقعون الإيمان به في حال وصوله إليهم إيماناً لا يزال يتجدد؛ ثم أكد هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏وإذا يتلى‏}‏ أي تتجدد تلاوته ‏{‏عليهم قالوا‏}‏ مبادرين‏:‏ ‏{‏آمنا به‏}‏ ثم عللوا ذلك بقولهم الدال على غاية المعرفة، مؤكدين لأن من كان على دين لا يكاد يصدق رجوعه عنه، فكيف إذا كان أصله حقاً من عند الله، ‏{‏إنه الحق‏}‏ أي الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل، مع كونه ‏{‏من ربنا‏}‏ المحسن إلينا، وكل من الوصفين موجب للتصديق والإيمان به؛ ثم عللوا مبادرتهم إلى الإذعان منبهين على أنهم في غاية البصيرة من أمره بأنهم يتلون ما عندهم حق تلاوته، لا بألسنتهم فقط، فصح قولهم الذي دل تأكيدهم له على اغتباطهم به الموجب لشكره‏:‏ ‏{‏إنا كنا‏}‏ أي كوناً هو في غاية الرسوخ؛ وأشار إلى أن من صح إسلامه ولو في زمن يسير أذعن لهذا الكتاب، بإثبات الجار، فقال‏:‏ ‏{‏من قبله مسلمين*‏}‏ أي منقادين غاية الانقياد لما جاءنا من عند الله من وصفه وغير وصفه وافق هوانا وما ألفناه أو خالفه، لا جرم كانت النتيجة‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏يؤتون‏}‏ بناه للمفعول لأن القصد الإيتاء، والمؤتى معروف ‏{‏أجرهم مرتين‏}‏ لإيمانهم به غيباً وشهادة، أو بالكتاب الأول ثم الكتاب الثاني ‏{‏بما صبروا‏}‏ على ما كان من الإيمان قبل العيان، بعدما هزهم إلى النزوع عنه إلف دينهم الذي كان، وغير ذلك من امتحان الملك الديان‏.‏

ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوئ، قال عاطفاً على ‏{‏يؤمنون‏}‏ مشيراً إلى تجديد هذه الأفعال كل حين‏:‏ ‏{‏ويدرءون بالحسنة‏}‏ من الأقوال والأفعال ‏{‏السيئة‏}‏ أي من ذلك كله فيمحونها بها‏.‏

ولما كان بعض هذا الدرء لا يتم إلا بالجود قال‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم‏}‏ أي بعظمتنا، لا بحول منهم ولا قوة، قليلاً كان أو كثيراً ‏{‏ينفقون*‏}‏ معتمدين في الخلق على الذي رزقه؛ قال البغوي‏:‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ قدم مع جعفر رضي الله تعالى عنه من الحبشة أربعون رجلاً، يعني‏:‏ فأسلموا، فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أموالهم، فأتوا بها فواسوا بها المسلمين‏.‏