فصل: تفسير الآيات رقم (28- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما ختم بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء، ذكر بعض آثارهما في البعث الذي تقدم أول السورة وأثناءها ذكره إلى حذرهم به في قوله «إلينا مرجعهم» فقال‏:‏ ‏{‏ما خلقكم‏}‏ أي كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصاًَ على كل واحد من الخلق والبعث على حدته فقال‏:‏ ‏{‏ولا بعثكم‏}‏ كلكم ‏{‏إلا كنفس‏}‏ أي كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد، وتأكيداً للسهولة فقال‏:‏ ‏{‏واحدة‏}‏ فإن كلماته مع كونها غير نافدة نافذة، وقدرته مع كونها باقية بالغة، فنسبه القليل والكثير إلى قدرته على حد سواء، لأنه لا يشغله شأن عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله مؤكداً لأن تكذيبهم لرسوله وردهم لما شرفهم به يتضمن الإنكار لأن يكونوا بمرأى منه ومسمع‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الشاملة ‏{‏سميع‏}‏ أي بالغ السمع يسمع كل ما يمكن سمعه من المعاني في آن واحد لا يشغله شيء منها عن غيره ‏{‏بصير*‏}‏ بليغ البصر يبصر كذلك كل ما يمكن أن يرى من الأعيان والمعاني، ومن كان كذلك كان المحيط العلم بالغه شامل القدرة تامها، فهو يبصر جميع الأجزاء من كل ميت، ويسمع كل ما يسمع من معانيه، فهو بإحاطة علمه وشمول قدرته يجمع تلك الأجزاء، ويميز بعضها من بعض، ويودعها تلك المعاني، فإذا هي أنفس قائمة كما كانت أول مرة في أسرع من لمح البصر‏.‏

ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم‏:‏ ‏{‏ما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏ بأنه، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاماً كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره‏.‏

ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكارً لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال‏:‏ ‏{‏أن الله‏}‏ أي بجلاله وعز كماله ‏{‏يولج‏}‏ أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه ‏{‏الليل في النهار‏}‏ فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح ‏{‏ويولج النهار‏}‏ أي يدخله كذلك ‏{‏في الليل‏}‏ فيخفي حتى لا يبقى له أثر، فإذا الليل قد طبق الآفاق‏:‏ مشارقها ومغاربها في مثل الظرف، فيميز سبحانه كلاً منهما- وهو معنى من المعاني- من الآخر بعد إضمحلاله، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة، عبر فيه بالمضارع‏.‏

ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال‏:‏ ‏{‏وسخر الشمس‏}‏ آية للنهار بدخول الليل فيه ‏{‏والقمر‏}‏ آية لليل كذلك‏!‏ ثم استأنف ما سخرا فيه فقال‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي منهما ‏{‏يجري‏}‏ أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً‏.‏

ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك في السنة مرة، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره، ولا أن ينقص دوره، ولا أن يغير سيره‏.‏

ولما بان بهذا التدبير المحكم، في هذا الأعظم، شمول علمه وتمام قدرته، عطف على «أن الله» قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها‏:‏ ‏{‏وأن الله‏}‏ أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال‏:‏ ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي في كل وقت على سبيل التجدد ‏{‏خبير *‏}‏ لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد، فكان ما قاله كما قاله، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله، فتمت كلماته، وصدقت إشاراته وعباراته، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر، وكل منهم لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل أن دائماً ما تعاقب الملوان، وبقي الزمان، لا يشغله شأن منه على شأن، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم به‏.‏ لما ذكر من دليله، ولما شاهدوا من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صلى الله عليه وسلم، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة‏.‏

ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة ‏{‏بأن‏}‏ أي بسبب أن ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لا عظيم سواه ‏{‏هو‏}‏ وحده ‏{‏الحق‏}‏ أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم، لأنه مستفاد من الغير، وليس له الثبوت من ذاته، ومنه ما أشركوا به، ولذلك أفرده بالنص، فقال صارفاً للخطاب الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي ‏{‏وأنَّ ما يدعون‏}‏ أي هؤلاء المختوم على مداركهم، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏‏.‏

ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه، كقوله ‏{‏هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه‏}‏ وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال‏:‏ ‏{‏الباطل‏}‏ أي العدم حقاً، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له‏.‏

ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق، قال‏:‏ ‏{‏وأن الله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده، ولما كان النيران مما عبد من دون الله، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر، ختم بقوله‏:‏ ‏{‏هو العلي الكبير‏}‏ أي عن أن يداينه في عليائه ضد، أو يباريه في كبريائه ند‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء، أتبعها دليلها، فقال منبهاً على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك، خاصاً بالخطاب أعلى الناس، تنبيهاً على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها، فهو في الحقيقة حث على تدبرها، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الفلك‏}‏ أي السفن كباراً وصغاراً ‏{‏تجري‏}‏ أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال‏:‏ ‏{‏في البحر‏}‏ أي على وجه الماء، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال‏:‏ ‏{‏بنعمت الله‏}‏ أي برحمة الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة وإحسانه، مجدداً ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام ‏{‏ليريكم من آياته‏}‏ أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار‏.‏

ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهوم، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه- وإن كان يظن أنه ظاهر- لا يفهمه حق فهمه غيره صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر الهائل البديع الرفيع ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين، وأخرى بريح واحدة، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره وفنونه، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات، ونواقض المطردات، وعلم من ختام التي قبلها أن المراد- بقوله جامعاً لجميع الإيمان الذي هو نصفان‏:‏ نصف صبر، ونصف شكر، وذلك تمام صفة المؤمن مظهراً موضع لك أو لكم- ما أفاد الحكم بكل من شاركه صلى الله عليه وسلم في الوصفين المذكورين‏:‏ ‏{‏لكل صبار‏}‏ إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء، وأنها من عند الله، وأنه لا يقدر عليها سواه، والإذعان له في جميع ذلك، حفظاً لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن ‏{‏شكور *‏}‏ عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم الله على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جرياً مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة، وقليل ما هم، وقال الرازي في اللوامع‏:‏ وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابّه‏.‏

ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره‏:‏ وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم‏}‏ أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم، لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت ‏{‏موج‏}‏ أي هذا الجنس، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً بركب بعضه كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام ‏{‏كالظلل‏}‏ أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الأسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏دعوا الله‏}‏ أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال، وقسرهم عليه من العظمة والكمال، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب‏.‏

ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم‏:‏ إنهم أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال‏:‏ لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت‏.‏ بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم‏:‏ ‏{‏فلما نجّاهم‏}‏ أي خلصهم رافعاً لهم، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال ‏{‏إلى البر‏}‏ نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين ‏{‏فمنهم‏}‏ أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم ‏{‏مقتصد‏}‏ متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار، وهم قليل- بما دل عليه التصريح بالتبعيض، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك، وهو الأكثر- كما مضت الإشارة إليه ودل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض، وما يقتصد إلا كل صبار شكور، إما حالاً وإما مالاً ‏{‏وما يجحد‏}‏ وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام، فقال صارفاً القول إليه‏:‏ ‏{‏بآياتنا‏}‏ أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها ‏{‏إلا كل ختار‏}‏ أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف ‏{‏كفور *‏}‏ أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه، في سره وعلنه، وحركاته وسكناته، ولا نعمة إلا وهي منه، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها، وأن الآية من الاحتباك‏:‏ دل ذكر المقتصد أولاً على «ومنهم جاحد» ثانياً، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً، قال البغوي‏:‏ قيل‏:‏ نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف- يعني‏:‏ فقال الركاب على عادتهم‏:‏ أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً- فقال عكرمة رضي الله عنه‏:‏ لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال مجاهد‏:‏ مقتصد في القول مضمر للكفر، وقال الكلبي‏:‏ مقتصد في القول أي من الكفار، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية، فلم تدع شيئاً من العجمة، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه، وخوّفهم ما هم صائرون إليه، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال‏:‏ ‏{‏يأ أيها الناس‏}‏ أي عامة، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم‏}‏ أي والذي لا إله لكم غيره، لأنه لا محسن إليكم غيره، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر‏.‏

ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال‏:‏ ‏{‏واخشوا يوماً‏}‏ لا يشبه الأيام، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه‏.‏

ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال‏:‏ ‏{‏لا يجزي‏}‏ أي يغني فيه، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها، وأما هناك فتزول الأسباب، وينجلي غمام الارتياب، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب‏.‏

ولما كانت شفقة الوالد- مع شمولها لجميع أيام حياته- أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال‏:‏ ‏{‏والد‏}‏ كائناً من كان ‏{‏عن ولده‏}‏ أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء وإن تحقق أن الولد منه، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد، وتجدد عنده العطف والرقة، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده‏.‏

ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال‏:‏ ‏{‏ولا مولود‏}‏ أي مولود كان ‏{‏هو جاز عن والده‏}‏ وإن علم أنه بعضه ‏{‏شيئاً‏}‏ من الجزاء، وفي التعبير ب «هو» إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال‏:‏ أنه يخيط، ولا يصح «خياط» لأن ذلك ليس من صنعته، ولا من شأنه‏.‏

ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول‏:‏ هل هذا اليوم كائن حقاً‏؟‏ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له‏:‏ ‏{‏إن وعد الله‏}‏ الذي له جميع معاقد العز والجلال ‏{‏حق‏}‏ يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله، وعظيم قدرته وكماله، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم- أيها العرب كافة- لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار، وعانى فيه الشدائد الكبار، فلما ثبت أمره، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات، تسبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فلا تغرنكم‏}‏ مؤكداً لعظم الخطب ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ أي بزخرفها، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور، والخداع الظاهر والغرور، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير‏:‏ ‏{‏ولا يغرنكم بالله‏}‏ الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم ‏{‏الغرور *‏}‏ أي الكثير الغرور المبالغ فيه، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها، ويلهيكم به من تعظيم قدرها، وينسيكموه من كيدها وغدرها، وتعبها وشرها، وأذاها وضرها، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم، فلا تعدونه معاداً، فلا تتخذون له زاداً، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه‏:‏ الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة‏.‏

ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال ‏{‏عنده‏}‏ أي خاصة، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور، ولو قيل «لديه» لأوهم التعبير بلدي التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن «لدى» أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها ‏{‏علم الساعة‏}‏ أي وقت قيامها، لا علم لغيره بذلك أصلاً‏.‏

ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها، وكشف بعض أمرها، عبر تعالى بالعلم، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 13‏]‏ أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها، وأشكالها وألوانها، وسائر شأنها، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم، وتغاير صورهم وأطوالهم، وتباين ألسنتهم وأعمالهم، إلى غير ذلك من الأمور، وعجائب المقدور، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين، هذا إلى موجهم من شدة الزحام، والكروب العظام بعضاً في بعض‏.‏ يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صلى الله عليه وسلم المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات، وانكدار ما فيها من النيرات، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم، كثرة، كيف وقد أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال، ونسف الأبنية والروابي والتلال، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه‏.‏

‏{‏المفتاح الثاني‏}‏‏:‏ آية الله في خلقه على قيام الساعة، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه، ومقاديره وأشكاله، وأغصانه وأفنانه، وروائحه وطعومه، ومنافعه وطبائعه- إلى غير ذلك من شؤونه، وأحواله وفنونه، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها‏.‏

ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال‏:‏ ‏{‏وينزل الغيث‏}‏ بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب «كل» وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله‏.‏

‏{‏المفتاح الثالث‏}‏‏:‏ علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها، وتشكيلها وتقديرها، على وصفي الذكورة والأنوثة، مع الوضوح أو الإشكال، والوحدة أو الكثرة، والتمام أو النقص- إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع، والأخلاق والشمائل، والأكساب والصنائع، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن- وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم، ومحيي الرمم‏.‏ ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب، وكثرة الممارسة، عبر العلم فقال‏:‏ ‏{‏ويعلم ما في الأرحام‏}‏ من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت، والكلام في اللام والاختصاص بالعلم كالذي قبله سواء‏.‏

‏{‏المفتاح الرابع‏}‏‏:‏ الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل، وغير ذلك من الصحة والعلل، في اختلاف الأمور، وعجائب المقدور، في الخيور والشرور، مما لا يحيط به إلا مبدعه، وغارزه في عباده وودعه، ولكون الإنسان- مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له- لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي- كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام- أن مادة «درى» تدور على الدوران، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر، فهي أخص من مطلق العلم فقال‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس‏}‏ أي من الأنفس البشرية وغيرها ‏{‏ما‏}‏ وأكد المعنى ب «ذا» وتجريد الفعل فقال‏:‏ ‏{‏ذا تكسب غداً‏}‏ أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى، فصار على طريق الحصر، وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً‏.‏

‏{‏المفتاح الخامس‏}‏‏:‏ مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران، وعز وهوان، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول، والصعود والنزول، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه‏.‏

ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند‏:‏ ‏{‏وما تدري‏}‏ وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال‏:‏ ‏{‏نفس‏}‏ أي من البشر وغيره ‏{‏بأيّ أرض تموت‏}‏ ولم يقل‏:‏ بأي وقت، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ ‏{‏إن الله عنده علم الساعة‏}‏ الآية»، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال‏:‏ «خمس لا يعلمهن إلا الله ‏{‏إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب‏}‏»- إلى آخر السورة، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية، وتارة ليس فيها ذكر للعلم، وأخرى يذكر فيها، ويسند إليه سبحانه، ولكن لا على وجه الحصر، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه، وعلم سر قوله «بأيّ أرض» دون أيّ وقت، كما في بعض طرق الحديث‏.‏

ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً بعلمه لها مرتين، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه‏:‏ ‏{‏إنّ الله‏}‏ أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال ‏{‏عليم‏}‏ أي شامل العلم للأمور كلها، كلياتها وجزئياتها، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم، فانطبق الدليل على الدعوى- والله الموفق‏.‏

ولما أثبت العلم على هذا الوجه، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله‏:‏ ‏{‏خبير‏}‏ أي يعلم خبايا الأمور، وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها، كل عنده على حد سواء، فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم، باختلاف هذا النظام، على ما فيه من الإحكام، فقد انطبق آخر السورة- بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة- على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً، فسبحانه من هذا كلامه، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه، ولا إله غيره وهو اللطيف‏.‏

سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك‏}‏ أي أيقع منهم هذا بعد وضوحه وجلاء وشواهده، ثم أتبع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏مالكم من دونه من ولي ولا شفيع‏}‏ وهو تمام لقوله‏:‏ ‏{‏ومن يسلم وجهه إلى الله‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ ولقوله‏:‏ ‏{‏اتقوا ربكم ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون‏}‏ بما ذكرتم، ألا ترون أمر لقمان وهدايته بمجرد دليل فطرته، فما لكم بعد التذكير وتقريع الزواجر وترادف الدلائل وتعاقب الآيات تتوقفون عن السلوك إلى ربكم وقد أقررتم بأنه خالقكم، ولجأتم إليه عند احتياجكم‏؟‏ ثم أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم برجوع من عاند وإجابته حين لا ينفعه رجوع، ولا تغني عنه إجابة، فقال‏:‏ ‏{‏ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها‏}‏ كما فعلنا بلقمان ومن أردنا توفيقه، ثم ذكر انقسامهم بحسب السوابق فقال‏:‏ ‏{‏أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون‏}‏ ثم ذكر مصير الفريقين ومآل الحزبين، ثم أتبع ذلك بسوء حال من ذكر فأعرض فقال‏:‏ ‏{‏ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها‏}‏ وتعلق الكلام إلى آخر السورة- انتهى‏.‏

ولما كان هذا الذي قدمه أول السورة على هذا الوجه برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب من عند الله، كان- كما حكاه البغوي والرازي في اللوامع- كأنه قيل‏:‏ هل آمنوا به‏؟‏ ‏{‏أم يقولون‏}‏ مع ذلك الذي لا يمترئ فيه عاقل ‏{‏افتراه‏}‏ أي تعمد كذبه‏.‏

ولما كان الجواب‏:‏ إنهم ليقولون‏:‏ افتراه، وكان جوابه‏:‏ ليس هو مفتري لما هو مقارن له من الإعجاز، ترتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏بل هو الحق‏}‏ أي الثابت ثباتاً لا يضاهيه ثبات شيء من الكتب قبله، كائناً ‏{‏من ربك‏}‏ المحسن إليك بإنزاله وإحكامه، وخصه بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم حقيقته حق الفهم سواه‏.‏

ولما ذكر سبحانه إحسانه إليه صلى الله عليه وسلم صريحاً، أشار بتعليله إلى إحسانه به أيضاً إلى كافة العرب، فقال مفرداً النذارة لأن المقام له بمقتضى ختم لقمان‏:‏ ‏{‏لتنذر قوماً‏}‏ أي ذوي قوة جلد ومنعة وصلاحية للقيام بما أمرهم به ‏{‏ما أتاهم من نذير‏}‏ أي رسول في هذه الإزمان القريبة لقول ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد الفترة، ويؤيده إثبات الجار في قوله‏:‏ ‏{‏من قبلك‏}‏ أي بالفعل شاهدوه أو شاهده آباؤهم‏.‏ وإما بالمعنى والقوة فقد كان فيهم دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيّره عمرو بن لحي، وكلهم كان يعرف ذلك وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يعبد صنماً ولا استقسم بالأزلام، وذلك كما قال تعالى‏:‏

‏{‏وإن من أمة إلا خلا فيها نذير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 24‏]‏ أي شريعته ودينه، والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر- نبه على ذلك أبو حيان‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ ما أتاهم من ينذرهم على خصوص ما غيروا من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما إسماعيل ابنه عليه السلام فكان بشيراً لا نذيراً، لأنهم ما خالفوه، وأحسن من ذلك كله ما نقله البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل أن ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد نقل عيسى عليه السلام لما أرسل رسله إلى الآفاق أرسل إلى العرب رسولاً‏.‏

ولما ذكر علة الإنزال، أتبعها علة الإنذار فقال‏:‏ ‏{‏لعلهم يهتدون*‏}‏ أي ليكون حالهم في مجاري العادات حال من ترجى هدايته إلى كمال الشريعة، وأما التوحيد فلا عذر لأحد فيه بما أقامه الله من حجة العقل مع ما أبقته الرسل عليهم الصلاة والسلام آدم فمن بعده من واضح النقل بآثار دعواتهم وبقايا دلالاتهم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن أبيه‏:‏ «أبي وأبوك في النار» وقال‏:‏ «لا تفتخروا بآبائكم الذين مضوا في الجاهلية فوالذي نفسي بيده لما تدحرج الجعل خير منهم» في غير هذا من الأخبار القاضية بأن كل من مات قبل دعوته على الشرك فهو للنار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

ولما تقرر بما سبق في التي قبلها من اتصافه تعالى بكمال العلم أنه من عنده وبعلمه لا محالة، وكان هذا أمراً يهتم بشأنه ويعتني بأمره، لأنه عين المقصود الذي ينبني عليه أمر الدين، وختم ما ذكره من أمره ههنا بإقامة اهتدائهم مقام الترجي بإنذاره صلى الله عليه وسلم، أتبعه بيان ذلك بإيجاد عالم الأشباح والخلق ثم عالم الأرواح والأمر، وإحاطة العلم بذلك كله على وجه يقود تأمله إلى الهدى، فقال مستأنفاً شارحاً لأمر يندرج فيه إنزاله معبراً بالاسم الأعظم لاقتضاء الإيجاد والتدبير على وجه الانفراد له‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الحاوي لجميع صفات الكمال وحده‏:‏ ‏{‏الذي خلق السماوات‏}‏ كلها ‏{‏والأرض‏}‏ بأسرها ‏{‏وما بينهما‏}‏ من المنافع العينية والمعنوية‏.‏

ولما كانت هذه الدار مبنية على حكمة الأسباب كما أشير إليه في لقمان، وكان الشيء إذا عمل بالتدرج كان أتقن، قال‏:‏ ‏{‏في ستة أيام‏}‏ كما يأتي تفصيله في فصلت، وقد كان قادراً على فعل ذلك في أقل من لمح البصر، ويأتي في فصلت سر كون المدة ستة‏.‏

ولما كان تدبير هذه وحفظه وتعهد مصالحه والقيام بأمره أمراً- بعد أمر إيجاده- باهراً، أشار إلى عظمته بأداة التراخي والتعبير بالافتعال فقال‏:‏ ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ أي استواء لم يعهدوا مثله وهو أنه أخذ في تدبيره وتدبير ما حواه بنفسه، لا شريك له ولا نائب عنه ولا وزير، كما تعهدون من ملوك الدنيا إذا اتسعت ممالكهم، وتباعدت أطرافها، وتناءت أقطارها، وهو معنى قوله تعالى استئنافاً جواباً لمن كأنه قال‏:‏ العرش بعيد عنا جداً فمن استنابه في أمرنا، ولذلك لفت الكلام إلى الخطاب لأنه اقعد في التنبيه‏:‏ ‏{‏مالكم من دونه‏}‏ لأنه كل ما سواء من دونه وتحت قهره، ودل على عموم النفي بقوله‏:‏ ‏{‏من ولي‏}‏ أي يلي أموركم ويقوم بمصالحكم وينصركم إذا حل بكم شيء مما تنذرون به ‏{‏ولا شفيع‏}‏ يشفع عنده في تدبيركم أو في أحد منكم بغير إذنه، وهو كناية عن قربه من كل شيء وإحاطته به، وأن إحاطته بجميع خلقه على حد سواء لا مسافة بينه وبين شيء أصلاً‏.‏

ولما كانوا مقرين بأن الخلق خلقه والأمر أمره، عارفين بأنه لا يلي وال من قبل ملك من الملوك إلا بحجة منه يقيمها على أهل البلدة التي أرسل إليها أو ناب فيها، ولا يشفع شفيع فيهم إلا وله إليه وسيلة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تتذكرون‏}‏ أي تذكراً عظيماً بما أشار إليه الإظهار ما تعلمونه من أنه الخالق وحده، ومن أنه لا حجة لشيء مما أشركتموه بشيء مما أهلتموه له ولا وسيلة لشيء منهم إليه يؤهل بها في الشفاعة فيكم ولا أخبركم أحد منهم بشيء من ذلك، فكيف تخالفون في هذه الأمور التي هي أهم المهم، لأن عاقبتها خسارة الإنسان نفسه، فضلاً عما دونها عقولكم وما جرت به عوائدكم، وتتعللون فيها المحال، وتقنعون بقيل وقال، وتخاطرون فيه بالأنفس والأولاد والأموال‏.‏

ولما نفى أن يكون له شريك أو وزير في الخلق، ذكر كيف يفعل في هذا الملك العظيم الذي أبدعه في ستة أيام من عالم الأرواح والأمر، فقال مستأنفاً مفسراً للمراد بالاستواء‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ أي كل أمر هذا العالم بأن يفعل في ذلك فعل الناظر في أدباره لإتقان خواتمه ولوازمه، كما نظر في إقباله لإحكام فواتحه وعوازمه، لا يكل شيئاً منه إلى شيء من خلقه، قال الرازي في اللوامع‏:‏ وهذا دليل على أن استواءه على العرش بمعنى إظهار القدرة، والعرش مظهر التدبير لا قعر المدبر‏.‏

ولما كان المقصود للعرب إنما هو تدبير ما تمكن مشاهدتهم له من العالم قال مفرداً‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ أي فينزل ذلك الأمر الذي أتقنه كما يتقن من ينظر في أدبار ما يعلمه ‏{‏إلى الأرض‏}‏ غير متعرض إلى ما فوق ذلك، على أن السماء تشمل كل عال فيدخل جميع العالم‏.‏

ولما كان الصعود أشق من النزول على ما جرت به العوائد، فكان بذلك مستبعداً، أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ثم يعرج‏}‏ أي يصعد الأمر الواحد- وهو من الاستخدام الحسن- إليه، أي بصعود الملك إلى الله، أي إلى المواضع الذي شرفه أو أمره بالكون فيه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني ذاهب إلى ربي‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 100‏]‏ ونحو ذلك، أو إلى الموضع الذي ابتدأ منه نزول التدبير وهو السماء وكأنه صاعد في معارج، وهي الدرج على ما تتعارفون بينكم، في أسرع من لمح البصر ‏{‏في يوم‏}‏ من أيام الدنيا ‏{‏كان مقداره‏}‏ لو كان الصاعدين واحداً منكم على ما تعهدون ‏{‏ألف سنة مما تعدون‏}‏ من سنيكم التي تعهدون، والذي دل على هذا التقدير شيء من العرف وشيء من اللفظ، أما اللفظ فالتعبير ب «كان» مع انتظام الكلام بدونها لو أريد غير ذلك، وأما العرف فهو أن الإنسان المتمكن يبني البيت العظيم العالي في سنة مثلاً، فإذا فرّغه صعد إليه خادمه إلى أعلاه في أقل من درجتين من درج الرمل، فلا تكون نسبة ذلك من زمن بنائه إلا جزءاً لا يعد، هذا وهو خلق محتاج فما ظنك بمن خلق الخلق في ستة أيام وهو غني عن كل شيء قادر على كل شيء وظاهر العبارة أن هذا التقدير بالألف لما بين السماء والأرض بناء على أن البداية والغاية لا يدخلان، فإذا أردنا تنزيل هذه الآية على أية سأل أخذنا هذا بالنسبة إلى صعود أحدنا مستوياً لو أمكن، وجعلت الأرض واحدة في العدد، وأول تعددها كما قيل باعتبار الأقاليم، وزيد عليه مقدار ثخن السماوات وما بينهما، وزيد على المجموع مثل نصفه لمسافة الانحناء في بناء الدرج والتعريج الذي هو مثل محيط الدائرة بالوتر الذي قسمها بنصفين ليمكن الصعود منا، وهو مقدار نصف مسافة الاستواء وشيء يسير، لأنك إذا قسمت دائرة بوتر كان ما بين رأسي الوتر من محيط نصف الدائرة بمقدار ذلك الوتر مرة ونصفاً سواء يزاد عليه يسير لأجل تعاريج الدرج، فإذا فعلنا ذلك كان ما بين أحد سطحي الكرسي المحدب وما يقابله من السطح الآخر بحسب اختراقه من جانبيه واختراق أطباق السماوات السبع‏:‏ الأربعة عشر، اثنين وثلاثين ألف سنة، لأنه يخص كل سماء ألفان، لأنه فهم من هذا السياق أن من مقعر السماء إلى سطح الأرض الذي نحن عليه سيرة ألف سنة وبعد ما بين كل سمائين كبعد ما بين السماء والأرض، وثخن كل سماء كذلك، فيكون بعد ما بين أحد سطحي الأرض إلى سطح الكرسي الأعلى ستة عشر ألف سنة، وبعد ما بين سطح الأرض إلى أعلى سطح الكرسي من الجانب الآخر كذلك، ثم يزاد على المجموع وهو اثنان وثلاثون ألف سنة مسافة ثخن الأرض وهي ألف سنة ليكون المجموع ثلاثة وثلاثين ألف سنة يزاد عليه ما للتعريج، وهو نصف تلك المسافة وشيء يكون سبعة عشر ألف سنة، فذلك خمسون ألف سنة، وإنما جعلت سطح الكرسي الأعلى النهاية، لأن العادة جرت أن لا يصعد إلى عرش الملك غيره، وأن الأطماع تنقطع دونه، بل ولا يصعد إلى كرسيه، وسيأتي اعتبار ذلك في الوجه الأخير، وإن قلنا‏:‏ إن الأراضي سبع على أنها كرات مترتبة متعالية غير متداخلة، وأدخلنا العرش في العدد فنقول‏:‏ إنه مع الكرسي والسماوات تسعة، فجانباها الحيطان بالأرض ثماني عشرة طبقة، والأراضي سبع، فتلك خمس وعشرون طبقة، فكل واحدة- مع ما بينها وبين الأخرى على ما هو ظاهر الآية- ألفان، فضعف هذا العدد، فيكون خمسين ألفاً، وهذا الوجه أوضح الوجوه وأقربها إلى مفهوم الآية، ولا يحتاج معه إلى زيادة لأجل انعطاف الدرج، ويجوز أن نقول‏:‏ إن السر- والله أعلم- في جعل ما مسيرته خمسمائة سنة- كما في الحديث- ألف سنة لأجل التعريج، والحديث ليس نصاً في سير معين حتى يتحامى تأويله بل قد ورد بألفاظ متغايرة منها خسمائة ومنها اثنتان وسبعون سنة ومنها إحدى وسبعون إلى غير ذلك فلا بد أن يحمل كل لفظ على سير فنقول‏:‏ الخمسمائة للصاعد في درج مستقيم كدرج الدقل مثلاً، والاثنان وسبعون لسير الطائر والألف كما في الآية لدرج منعطف، ويدل عليه ما رواه الترمذي- وقال‏:‏ إسناده حسن- عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«لو أن رصاصة مثل هذه- وأشار إلى مثل الجمجمة- أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة، لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها»، أو تقول‏:‏ إن الألف لجملة التدبير بالنزول والعروج- والله أعلم، وإن جعلنا البداية داخلة فتكون الألف من سطح الأرض الذي نحن عليه إلى محدب السماء لتتفق الآية مع الحديث القائل بأن بين الأرض والمساء خمسمائة سنة، وثخن السماء كذلك، وكذا بقية السماوات والعرش، أدخلنا العرش في العدد وقلنا‏:‏ إن الأراضي سبع متداخلة كالسماوات، كل واحدة منها في التي تليها، فالتي نحن فيها أعلاها محيطة بها كلها، فهي بمنزلة العرش للسماوات، فتكون السماوات السبع من جانبيها بأربعة عشر ألفاً والأراضي كذلك فذلك ثمانية وعشرون ألفاً والعرش والكرسي من جانبيها بأربعة فذلك اثنان وثلاثون ألفاً يضاف إليها ما يزيد انحناء المعارج الذي يمكن لنا معه العروج، وهو نصف مسافة الجملة وشيء، فالنصف ستة عشر ألفاً، ونجعل الشيء الذي لم يتحرر لنا ألفين، فذلك ثمانية عشر ألفاً إلى اثنين وثلاثين، فالجملة خمسون ألفاً ويمكن أن يكون ذلك بالنسبة إلى السماوات مع الأراضي، والكل متطابقة متداخلة، فتلك ثمان وعشرون طبقة من سطح السماء السابعة الأعلى إلى سطحها الأعلى من الجانب الآخر، فذلك ثمانية وعشرون- ألف سنة، لكل جرم خمسمائة، ولما بينه وبين الجرم الآخر كذلك فذلك ألف فضعفه بالنسبة إلى الهبوط والصعود فيكون ستة وخمسين ألفاً حسب منه خمسون ألفاً والغى الكسر، لكن هذا الوجه مخالف لظاهر الآية التي في سورة سأل، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 5‏]‏ فإنه ليس فيها ذكر الهبوط والله أعلم‏.‏ وكل من هذه الوجوه أقعد مما قاله البيضاوي في سورته سأل، وأقرب للفهم العرف، فإن كان ظاهر حاله أنه جعل الثمانية عشر ألفاً من أعلى سرادقات العرش إلى أعلى سرادقاته من الجانب الآخر ولا دليل على هذا ولا عرف يساعد في صعود الخدم إلى أعلى السرادق، وهو الأعلى منه، والعلم عند الله تعالى، وروى إسحاق بن راهويه عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما بين سماء الدنيا إلى الأرض خمسمائة سنة، وما بين كل سماء إلى التي تليها خمسمائة سنة إلى السماء السابعة، والأرض مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك» واعلم أن القول بأن الأراضي سبع هو الظاهر لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن‏}‏

‏[‏الطلاق‏:‏ 12‏]‏ ويعضده ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ظلم قدر شبر من الأرض طوقه الله من سبع أرضين»، وفي رواية للبغوي‏:‏ خسف به إلى سبع أرضين، وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن المؤمن إذا حضره الموت- فذكره إلى أن قال‏:‏ وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب به إلى الأرض فتقول خزنة الأرض‏:‏ ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى»- قال المنذري‏:‏ وهو عند ابن ماجه بسند صحيح، ويؤيد من قال‏:‏ إنها متطابقة متداخلة كالكرات وبين كل أرضين فضاء كالسماوات ما روى الحاكم وصححه عند عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الأرضين بين كل أرض إلى التي تليها مسيرة خمسمائة سنة، فالعليا منها على ظهر حوت» إلى آخره، وهو في آخر الترغيب للحافظ المنذري في آخر أهوال القيامة في سلاسلها وأغلالها، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث عن مجاهد رحمه الله أنه قال‏:‏ إن الحرم حرم مناه من السماوات السبع والأرضين السبع، وأنه رابع أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت لسقط بعضها على بعض- مناه يعني قصده وحذاءه، وفي مجمع الزوائد للحافظ نور الدين الهيثمي أن الإمام أحمد روى من طريق الحكم بن عبد الملك وهو ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه إذا مرت سحابة فقال‏:‏ هل تدرون ما هذه‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ العنان وزوايا الأرض يسوقه الله إلى من لا يشكره، ولا يدعوه، أتدرون ما هذه فوقكم‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ الرفيع موج مكفوف، وسقف محفوظ، أتدرون كم بينكم وبينها‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ مسيرة خمسمائة عام، ثم قال‏:‏ أتدرون ما الذي فوقها‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ سماء أخرى، أتدرون كم بينكم وبينها‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ مسيرة خمسمائة عام- حتى عد سبع سماوات ثم قال‏:‏ هل تدرون ما فوق ذلك‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ والعرش، قال‏:‏ أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏؟‏ قال‏:‏ مسيرة خمسمائة عام، ثم قال‏:‏ ما هذه تحتكم‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏؟‏ قال‏:‏ أرض قال‏:‏ أتدرون ما تحتها‏؟‏ قلنا الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ أرض أخرى، أتدرون كم بينهما‏؟‏ قلنا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏!‏ قال‏:‏ مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبعين أرضين، ثم قال‏:‏ وأيم الله لو دليتم بحبل لهبط، ثم قرأ‏:‏

‏{‏هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏ قال‏:‏ رواه الترمذي غير أنه ذكر أن بين كل أرض والأرض الأخرى خمسمائة عام، وهنا سبعمائة، وقال في آخره‏:‏ «لو دليتم بحبل لهبط على الله» ولعله أراد‏:‏ على عرش الله أو على حكمه وعلمه وقدرته، يعني أنه في ملكه وقبضته ليس خارجاً عن شيء من أمره- والله أعلم، ورأيت في جامع الأصول لابن الأثير بعد إيراده هذا الحديث ما نصه قال أبو عيسى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية تدل على أنه أراد‏:‏ لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه ويكون مؤيداً للقول بأنها كرات متطابقة متداخلة- والله أعلم- ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما السماوات السبع والأرضون السبع في العرش إلا كحلقة ملقاة في فلاه» ولم يقل‏:‏ كدرهم- مثلاً، وكذا ما روى محمد بن أبي عمر وإسحاق بن راهويه وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل وابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه حديثاً طويلاً فيه ذكر الأنبياء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تدري ما مثل السماوات والأرض في الكرسي‏؟‏ قلت‏:‏ لا إلا أن تعلمني مما علمك الله عز وجل، قال‏:‏ مثل السماوات والأرض في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة، وإن فضل الكرسي على السماوات والأرض كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وأصله عند النسائي والطيالسي وأبي يعلى، وكذا ما روى صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما السماوات السبع في عظمة الله إلا كجوزة معلقة»، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ يدل على أن الكرسي محيط بالكل من جميع الجوانب وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 33‏]‏ صريح في ذلك، فإن النفوذ يستعمل في الخرق لا سيما مع التعبير ب «من» دون «في»، وكذا قوله في السماء ‏{‏ومالها من فروج‏}‏ والله الموفق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر، فدل ذلك على شمول القدرة، وكان شامل القدرة لا بد وأن يكون محيط العلم، كانت نتيجته لا محالة‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الإله العالي المقدار، الواضح المنار ‏{‏عالم الغيب‏}‏ الذي تقدمت مفاتيحه آخر التي قبلها من الأرواح والأمر والخلق‏.‏

ولما قدم علم الغيب لكونه، أعلى وكان العالم به قد لا يعلم المشهود لكونه لا يبصر قال‏:‏ ‏{‏والشهادة‏}‏ من ذلك كله التي منها تنزيل القرآن عليك ووصوله إليك ‏{‏العزيز‏}‏ الذي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء‏.‏ ولما كان ربما قدح متعنت في عزته بإهمال العصاة قال‏:‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ أي الذي خص أهل التكليف من عباده بالرحمة في إنزال الكتب على السنة الرسل، وأبان لهم ما ترضاه الإلهية، بعد أن عم جميع الخلائق بصفة الرحمانية بعد الإيجاد من الإعدام بالبر والإنعام‏.‏

ولما ذكر صفة الرحيمية صريحاً لأقتضاء المقام إياها، أشار إلى صفة الرحمانية فقال‏:‏ ‏{‏الذي أحسن كل شيء‏}‏ ولما كان هذا الإحسان عاماً، خصه بأن وصفه- على قراءة المدني والكوفي- بقوله‏:‏ ‏{‏خلقه‏}‏ فبين أن ذلك بالإتقان والإحكام، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما من حيث التشكيل والتصوير، وشق المشاعر، وتهيئة المدارك، وإفاضة المعاني، مع المفاوتة في جميع ذلك، وإلى هذا أشار الإبدال في قراءة الباقين، وعبر بالحسن لأن ما كان على وجه الحكمة كان حسناً وإن رآه الجاهل القاصر قبيحاً‏.‏

ولما كان الحيوان أشرف الأجناس، وكان الإنسان أشرفه، خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية بالأنفس كما قام قبل بالآفاق، فقال دالاً على البعث‏:‏ ‏{‏وبدأ خلق الإنسان‏}‏ أي الذي هو المقصود بالخطاب بهذا القرآن ‏{‏من طين‏}‏ أي مما ليس له أصل في الحياة بخلق آدم عليه السلام منه‏.‏

ولما كان قلب الطين إلى هذا الهيكل على هذه الصورة بهذه المعاني أمراً هائلاً، أشار إليه بأداة البعد في قوله‏:‏ ‏{‏ثم جعل نسله‏}‏ أي ولده الذي ينسل أي يخرج ‏{‏من سلالة‏}‏ أي من شيء مسلول، أي منتزع منه ‏{‏من ماء مهين‏}‏ أي حقير وضعيف وقليل مراق مبذول، فعيل بمعنى مفعول، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله‏:‏ ‏{‏ثم سواه‏}‏ أي عدله لما يراد منه بالتخطيط والتصوير وإبداع المعاني ‏{‏ونفخ فيه من روحه‏}‏ الروح ما يمتاز به الحي من الميت، والإضافة للتشريف، فيا له من شرف ما أعلاه إضافته إلى الله‏.‏

ولما ألقى السامعون لهذا الحديث أسماعهم، فكانوا جديرين بأن يزيد المحدث لهم إقبالهم وانتفاعهم، لفت إليهم الخطاب قائلاً‏:‏ ‏{‏وجعل‏}‏ أي بما ركب في البدن من الأسباب ‏{‏لكم السمع‏}‏ أي تدركون به المعاني المصوتة، ووحده لقلة التفاوت فيه إذا كان سالماً ‏{‏والأبصار‏}‏ تدركون بها المعاني والأعيان القابلة، ولعله قدمها لأنه ينتفع بهما حال الولادة، وقدم السمع لأنه يكون إذ ذاك أمتن من البصر‏.‏

ولذا تربط القوابل العين لئلا يضعفها النور، وأما العقل فإنما يحصل بالتدريج فلذا أخر محله فقال‏:‏ ‏{‏والأفئدة‏}‏ أي المضغ الحارة المتوقدة المتحرفة، وهي القلوب المودعة غرائز العقول المتباينة فيها أيّ تباين؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ جعله- أي الإنسان- مركباً من روحاني وجسماني، وعلوي وسفلي، جمع فيه بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم الأمر لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً‏.‏ ولما لم يتبادروا إلى الإيمان عند التذكير بهذه النعم الجسام قال‏:‏ ‏{‏قليلاً ما تشكرون *‏}‏ أي وكثيراً ما تكفرون‏.‏

ولما كانوا قد قالوا‏:‏ محمد ليس برسول، والإله ليس بواحد، والبعث ليس بممكن، فدل على صحة الرسالة بنفي الريب عن الكتاب، ثم على الوحدانية بشمول القدرة وإحاطة العلم بإبداع الخلق على وجه هو نعمة لهم، وختم بالتعجيب من كفرهم، وكان استبعادهم للبعث- الذي هو الأصل الثالث- من أعظم كفرهم، قال معجباً منهم في إنكاره بعد التعجيب في قوله‏:‏ ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏، لافتاً عنهم الخطاب إيذاناً بالغضب من قولهم‏:‏ ‏{‏وقالوا‏}‏ منكرين لما ركز في الفطر الأُوَل، ونبهت عليه الرسل، فصار بحيث لا يكره عاقل ألم بشيء من الحكمة‏:‏ ‏{‏أإذا‏}‏ أي أنبعث إذا ‏{‏ضللنا‏}‏ أي ذهبنا وبطلنا وغبنا ‏{‏في الأرض‏}‏ بصيرورتنا تراباً مثل ترابها، لا يتميز بعضه من بعض‏:‏ قال أبو حيان تبعاً للبغوي والزمخشري وابن جرير الطبري وغيرهم‏:‏ وأصله من ضل الماء في اللبن- إذا ذهب‏.‏ ثم كرروا الاستفهام الإنكاري زيادة في الاستبعاد فقالوا‏:‏ ‏{‏إنا لفي خلق جديد‏}‏ هو محيط بنا ونحن مظروفون له‏.‏

ولما كان قولهم هذا يتضمن إنكارهم القدرة، وكانوا يقرون بما يلزمهم منه الإقرار بالقدرة على البعث من خلق الخلق والإنجاء من كل كرب ونحو ذلك، أشار إليه بقوله‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أي ليسوا بمنكرين لقدرته سبحانه، بل ‏{‏هم بلقاء ربهم‏}‏ المحسن بالإيجاد والإبقاء مسخراً لهم كل ما ينفعهم في الآخرة للحساب أحياء سويين كما كانوا في الدنيا، والإشارة بهذه الصفة إلى أنه لا يحسن بالمحسن أن ينغص إحسانه بترك القصاص من الظالم الكائن في القيامة ‏{‏كافرون *‏}‏ أي منكرون للبعث عناداً، ساترون لما في طباعهم من أدلته، لما غلب عليهم من الهوى القائد لهم إلى أفعال منعهم من الرجوع عنها الكبرُ عن قبول الحق والأنفة من الإقرار بما يلزم منه نقص العقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب‏.‏ دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق‏.‏ فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي جواباً لهم عن شبهتهم‏:‏ ‏{‏يتوفاكم‏}‏ أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة ‏{‏ملك الموت‏}‏ ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال‏:‏ ‏{‏الذي وكل بكم‏}‏ أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين‏؟‏‏.‏

فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض‏.‏ علم أن التقدير‏:‏ ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم إلى ربكم‏}‏ أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم ‏{‏ترجعون‏}‏ بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً‏.‏

ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين ‏{‏إذ المجرمون‏}‏ أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم ‏{‏ناكسوا رؤوسهم‏}‏ أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة ‏{‏عند ربهم‏}‏ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة‏:‏ ‏{‏ربنا‏}‏ أي أيها المحسن إلينا ‏{‏أبصرنا‏}‏ ما كنا نكذب به ‏{‏وسمعنا‏}‏ أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك ‏{‏فارجعنا‏}‏ بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان، إلى دار الأعمال ‏{‏نعمل صالحاً‏}‏ ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه‏:‏ ‏{‏إنا موقنون *‏}‏ أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف‏.‏

ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان‏.‏

ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره‏:‏ إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها‏:‏ ‏{‏ولو شئنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد ‏{‏لأتينا كل نفس‏}‏ أي مكلفة لأن الكلام فيها ‏{‏هداها‏}‏ أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها‏.‏

ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال‏:‏ ‏{‏ولكن‏}‏ أي لم أشأ ذلك لأنه ‏{‏حق القول مني‏}‏ وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً‏:‏ ‏{‏لأملان جهنم‏}‏ التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي ‏{‏من الجنة‏}‏ أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ‏{‏والناس أجمعين *‏}‏ حيث قلت لإبليس‏:‏ ‏{‏لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم، قال مجيباً لترققهم إذ ذاك نافياً لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة‏:‏ ‏{‏فذوقوا‏}‏ أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب ما ‏{‏نسيتم لقاء يومكم‏}‏ وأكده وبين لهم بقوله‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ أي عملتم- في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل- عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم، فكان الإعراض عنه مستحقاً لأن يسمى نسياناً من هذا الوجه أيضاً ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر، وروي ثمّ نسي‏.‏ ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكداً في مظهر العظمة قطعاً لأطماعهم في الخلاص، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏إنا نسيناكم‏}‏ أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي‏.‏

ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملاً، بينه بقوله مؤكداً له‏:‏ ‏{‏وذوقوا عذاب الخلد‏}‏ أي المختص بأنه لا آخر له‏.‏ ولما كان قد خص السبب فيما مضى، عم هنا فقال‏:‏ ‏{‏بما كنتم‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏تعملون *‏}‏ من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك‏.‏

ولما كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل هم بلقاء ربهم كافرون‏}‏ قد أشار إلى أن الحامل لهم على الكفر الكبر، وذكر سبحانه أنه قسم الناس قسمين لأجل الدارين، تشوفت النفس إلى ذكر علامة أهل الإيمان كما ذكرت علامة أهل الكفران، فقال معرفاً أن المجرمين لا سبيل إلى إيمانهم ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏‏:‏ ‏{‏إنما يؤمن بآياتنا‏}‏ الدالة على عظمتنا ‏{‏الذين إذا ذكروا بها‏}‏ من أيّ مذكر كان، في أيّ وقت كان، قبل كشف الغطاء وبعده ‏{‏خروا سجداً‏}‏ أي بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد، خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم له خضوعاً ثابتاً دائماً ‏{‏وسبحوا‏}‏ أي أوقعوا التنزيه عن كل شائبة نقص من ترك البعث المؤدي إلى تضييع الحكمة ومن غيره متلبسين ‏{‏بحمد‏}‏ ولفت الكلام إلى الصفة المقتضية لتنزيههم وحمدهم تنبيهاً لهم فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي بإثباتهم له الإحاطة بصفات الكمال، ولما تضمن هذا تواضعهم، صرح به في قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يستكبرون‏}‏ أي لا يجددون طلب الكبر عن شيء مما دعاهم إليه الهادي ولا يوجدونه خلقاً لهم راسخاً في ضمائرهم‏.‏

ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً بما تضمنته الآية السالفة من خوفهم‏:‏ ‏{‏تتجافى‏}‏ أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء- بما أشار إليه الإظهار، وبشر بكثرتهم بالتعبير بجمع الكثرة فقال‏:‏ ‏{‏جنوبهم‏}‏ بعد النوم ‏{‏عن المضاجع‏}‏ أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل الراحة والسكون والنوم، فيكونون عليها كالملسوعين، لا يقدرون على الاستقرار عليها، في الليل الذي هو موضع الخلوة ومحط اللذة والسرور بما تهواه النفوس، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين‏:‏ قيل‏:‏ نومهم نوم الفرقى، وأكلهم أكل المرضى، وكلامهم ضرورة، فمن نام عن غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنس والمضجع سواء وتجافياً‏.‏

ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة، بين أنه لها، فقال مبيناً لحالهم‏:‏ ‏{‏يدعون‏}‏ أي على سبيل الاستمرار، وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال‏:‏ ‏{‏ربهم‏}‏ أي الذي عودهم بإحسانه‏:‏ ثم علل دعاءهم بقوله‏:‏ ‏{‏خوفاً‏}‏ أي من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائضهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء ‏{‏وطمعاً‏}‏ أي في رضاه الموجب لثوابه، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أرجى، فهم لا ييأسون من روحه‏.‏

ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا، فربما دعت نفس العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عن الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق ‏{‏وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده‏:‏ ‏{‏ومما رزقناهم‏}‏ أي بعظمتنا، لا حول منهم ولا قوة ‏{‏ينفقون *‏}‏ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم‏.‏

ولما ذكر جزاء المستكبرين، فتشوفت النفس إلى جزاء المتواضعين، أشار إلى جزائهم بفاء السبب، إشارة إلى أنه هو الذي وفقهم لهذه الأعمال برحمته، وجعلها سبباً إلى دخول جنته، ولو شاء لكان غير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏فلا تعلم نفس‏}‏ أي من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ‏{‏ما أخفي لهم‏}‏ أي لهؤلاء المتذكرين من العالم بمفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم بالصلاة في جوف الليل وغير ذلك ولا يراؤون بها، ولعله بني للمفعول في قراءة الجماعة تعظيماً له بذهاب الفكر في المخفي كل مذهب أو للعلم بأنه الله تعالى الذي أخفوا نوافل أعمالهم لأجله، وسكن حمزة الياء على أنه للمتكلم سبحانه لفتاً لأسلوب العظمة إلى أسلوب الملاطفة، والسر مناسبته لحال الأعمال‏.‏

ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال‏:‏ ‏{‏من قرة أعين‏}‏ أي من شيء نفيس سارّ تقر به أعينهم لأجل ما أقلعوها عن قرارها بالنوم؛ ثم صرح بما أفهمته فاء السبب فقال‏:‏ ‏{‏جزاء‏}‏ أي أخفاها لهم لجزائهم ‏{‏بما كانوا‏}‏ أي بما هو لهم كالجبلة ‏{‏يعملون *‏}‏ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال الله عز وجل‏:‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏افلا تعلم نفس‏}‏- الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما كانوا أهل بلاغة ولسن، وبراعة‏:‏ وجدل، فكان ربما قال متعنتهم‏:‏ ما له إذا كان ما تزعمون من أنه لا يبالي بشيء ولا ينقص من خزائنه شيء وهو العزيز الرحيم، لا يسوي بين الكل في إدخال الجنة، والمن بالنعيم فيعمهم بالرحمة الظاهرة كما عمهم بها في الدينا كما هو دأب المحسنين‏؟‏ تسبب عن ذلك أن قال منكراً لذلك مشيراً إلى أن المانع منه خروجه عن الحكمة، فإن تلك دار الجزاء، وهذه دار العمل، فبينهما بون‏:‏ ‏{‏أفمن كان‏}‏ أي كوناً كأنه من رسوخه جبلي ‏{‏مؤمناً‏}‏ أي راسخاً في التصديق العظيم بجميع ما أخبرت به الرسل ‏{‏كمن كان‏}‏ ولما كان السياق منسوقاً على دليل ‏{‏مالكم من دونه من ولي ولا شفيع‏}‏- الآية، فكان الكافر خارجاً عن محيط ذلك الدليل الذي لا يخفي بوجه على أحد له سمع وبصر وفؤاد، اقتضى الحال التعبير بالفسق الذي هو الخروج عن محيط فقال‏:‏ ‏{‏فاسقاً‏}‏ أي راسخاً في الفسق خارجاً عن دائرة الإذعان‏.‏

ولما توجه الاستفهام إلى كل من اتصف بهذا الصف، وكان الاستفهام إنكارياً، عبر عن معناه مصرحاً بقوله‏:‏ ‏{‏لا يستوون‏}‏ إشارة- بالحمل على لفظ «من» مرة ومعناها أخرى- إلى أنه لا يستوي جمع من هؤلاء يجمع من أولئك ولا فرد بفرد‏.‏

ولما نفى استواءهم، أتبعه حال كل على سبيل التفصيل معبراً بالجمع لأن الحكم بإرضائه وإسخاطه بفهم الحكم على الواحد منه من باب الأولى فقال‏:‏ ‏{‏أما الذين آمنوا وعملوا‏}‏ أي تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات فلهم جنات المأوى‏}‏ أي الجنات المختصة دون الدنيا التي هي دار ممر، دون النار التي هي دار مفر لا مقر، بتأهلها للمأوى الكامل في هذا الوصف بما أشار إليه ب «ال» ثابتون فيها لا يبغون عنها حولاً، كما تبؤوا الإيمان الذي هو أهل للإقامة فلم يبغوا به بدلاً ‏{‏نزلاً‏}‏ أي عداداً لهم أول قدومهم في قول الحسن وعطاء، وهو أوفق للمقام كما يعد للضيف على ما لاح ‏{‏بما كانوا‏}‏ جبلة وطبعاً ‏{‏يعملون *‏}‏ دائماً على وجه التجديد، فإن أعمالهم من رحمة ربهم، فإذا كانت هذه الجنات نزلاً فما ظنك بما بعد ذلك‏!‏ وهو لعمري ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وهم كل لحظة في زيادة لأن قدرة الله لا نهاية لها، فإياك أن يخدعك خادع أو يغرك ملحد ‏{‏وأما الذين فسقوا‏}‏ أي خرجوا عن دائرة الإيمان الذي هو معدن التواضع وأهل للمصاحبة والملازمة ‏{‏فمأواهم النار‏}‏ أي التي لا صلاحية فيها للإيواء بوجه من الوجوه أصلاً‏.‏

ولما كان السامع جديراً بالعلم بأنهم مجتهدون في الخلاص منها، قال مستأنفاً لشرح حالهم‏:‏ ‏{‏كلما أرادوا‏}‏ أي وهم مجتهدون فكيف إذا أراد بعضهم ‏{‏أن يخرجوا منها‏}‏ وهذا يدل على أنه يزاد في عذابهم بأن يخيل إليهم ما يظنون به القدرة على الخروج منها كما كانوا يخرجون بفسوقهم من محيط الأدلة من دائرة الطاعات إلى بيداء المعاصي والزلات، فيعالجون الخروج فإذا ظنوا أنه تيسر لهم وهم بعد في غمراتها ‏{‏أعيدوا‏}‏ بأيسر أمر وأسهله من أيّ من أمر بذلك ‏{‏فيها‏}‏ إلى المكان الذي كانوا فيه أولاً، ولا يزال هذا دأبهم أبداً ‏{‏وقيل‏}‏ أي من أيّ قائل وكل بهم ‏{‏لهم‏}‏ أي عند الإعادة إهانة له‏:‏ ‏{‏ذوقوا عذاب النار‏}‏‏.‏

ولما وصف عذابهم في النار كان أحق بالوصف عند بيان سبب الإهانة بالأمر بالذوق مع أنه أحق من حيث كونه مضافاً محدثاً عنه فقال‏:‏ ‏{‏الذي كنتم‏}‏ أي كوناً هو لكم كالجبلات، وأشار إلى أن تكذيبهم به يتلاشى عنده كل تكذيب، فكأنه مختص فقال‏:‏ ‏{‏به تكذبون *‏}‏ فإن الإعادة بعد معالجة الخروج أمكن في التصديق باعتبار التجدد في كل آن‏.‏

ولما كان المؤمنون الآن يتمنون إصابتهم بشيء من الهوان في هذه الدار، لأن نفوس البشر مطبوعة على العجلة، بشرهم بذلك على وجه يشمل عذاب القبر، فقال مؤكداً له لما عندهم من الإنكار لعذاب ما بعد الموت وللإصابة في الدنيا بما هم من الكثرة والقوة‏:‏ ‏{‏ولنذيقنهم‏}‏ أي أجمعين بالمباشرة والتسبيب، بما لنا من العظمة التي تتلاشى عندها كثرتهم وقوتهم ‏{‏من العذاب الأدنى‏}‏ أي قبل يوم القيامة، بأيديكم وغيرها، وقد صدق الله قوله، وقد كانوا عند نزول هذه السورة بمكة المشرفة في غاية الكثرة والنعمة، فأذاقهم الجدب سنين متوالية، وفرق شملهم وقتلهم وأسرهم بأيدي المؤمنين إلى غير ذلك بما أراد سبحانه؛ ثم أكد الإرادة لما قبل الآخرة وحققها بقوله، معبراً بما يصلح للغيرية والسفول‏:‏ ‏{‏دون العذاب الأكبر‏}‏ أي الذي مر ذكره في الآخرة ‏{‏لعلهم يرجعون*‏}‏ أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن فسقه عند من ينظره، وقد كان ذلك، رجع كثير منهم خوفاً من السيف، فلما رأوا محاسن الإسلام كانوا من أشد الناس فيه رغبة وله حباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ يرجعون عن ظلمهم فإنهم ظالمون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن أظلم‏}‏ منهم هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف الذي صاروا أظلم فقال‏:‏ ‏{‏ممن ذكر‏}‏ أي من أيّ مذكر كان وصرف القول إلى صفة الإحسان استعطافاً وتنبيهاً على وجوب الشكر فقال‏:‏ ‏{‏بآيات ربه‏}‏ أي الذي لا نعمة عنده إلا منه‏.‏

ولما بلغت هذه الآيات من الوضوح أقصى الغايات، فكان الإعراض عنها مستبعداً بعده، عبر عنه بأداة البعد لذلك فقال‏:‏ ‏{‏ثم أعرض عنها‏}‏ ضد ما عمله الذين لم يتمالكوا أن خروا سجداً، ويجوز- وهو أحسن- أن يكون «ثم» على بابها للتراخي، ليكون المعنى أن من وقع له التذكير بها في وقت ما، فأخذ يتأمل فيها ثم أعرض عنها بعد ذلك ولو بألف عام فهو أظلم الظالمين، ويدخل فيه ما دون ذلك عن باب الأولى لأنه أجدر بعدم النسيان، فهي أبلغ من التعبير بالفاء كما في سورة الكهف، ويكون عدل إلى الفاء هناك شرحاً لما يكون من حالهم، عند بيان سؤالهم، الذي جعلوا بأنه آية الصدق، والعجز عن آية الكذب‏.‏

ولما كان الحال مقتضياً للسؤال عن جزائهم، وكان قد فرد الضمير باعتبار لفظ «من» تنبيهاً على قباحة الظلم من كل فرد، قال جامعاً لأن إهانة الجمع دالة على إهانة الواحد من باب الأولى، مؤكداً لإن إقدامهم على التكذيب كالإنكار لأن تجاوزوا عليه، صارفاً وجه الكلام عن صفة الإحسان إيذاناً بالغضب‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ منهم، هكذا كان الأصلي، ولكنه أظهر الوصف نصفاً في التعميم وتعليقاً للحكم به معيناً لنوع ظلمهم تبشيعاً له فقال‏:‏ ‏{‏من المجرمين‏}‏ أي القاطعين لما يستحق الوصل خاصة ‏{‏منتقمون‏}‏ وعبر بصيغة العظمة تنبيهاً على أن الذي يحصل لهم من العذاب لا يدخل تحت الوصف على جرد العداد في الظالمين، فكيف وقد كانوا أظلم الظالمين‏؟‏ والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد‏.‏

ولما كان مقصود السورة نفي الريب عن تنزيل هذا الكتاب المبين في أنه من عند رب العالمين، ودل على أن الإعراض عنه إنما هو ظلم وعناد بما ختمه بالتهديد على الإعراض عن الآيات بالانتقام، وكان قد انتقم سبحانه ممن استخف بموسى عليه السلام قبل إنزال الكتاب عليه وبعد إنزاله، وكان أول من أنزل عليه كتاب من بني إسرائيل بعد فترة كبيرة من الأنبياء بينه وبين يوسف عليهما السلام وآمن به جميعهم وألفهم الله به وأنقذهم من أسر القبط على يده، ذكر بحالة تسلية وتأسية لمن أقبل وتهديداً لمن أعرض، وبشارة بإيمان العرب كلهم وتأليفهم به وخلاص أهل اليمن منهم من أسر الفرس بسببه، فقال مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أن العظيم لا يرد شيء من أمره‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا‏}‏ على ما لنا من العظمة ‏{‏موسى الكتاب‏}‏ أي الجامع للأحكام وهو التوارة‏.‏

ولما كان ذلك مما لا ريب فيه أيضاً، وكان قومه قد تركوا اتباع كثير منه لا سيما فيما قصَّ من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم وفيما أمر فيه باتباعه، وكان هذا إعراضاً منهم مثل إعراض الشاك في الشيء، وكانوا في زمن موسى عليه السلام أيضاً يخالفون أوامره وقتاً بعد وقت وحيناً إثر حين، تسبب عن الإيتاء المذكور قوله تعريضاً بهم وإعلاماً بأن العظيم قد يرد رد بعض أوامره لحكمة دبرها‏:‏ ‏{‏فلا تكن‏}‏ أي كوناً راسخاً- بما أشار إليه فعل الكون وإثبات نونه، فيفهم العفو عن حديث النفس الواقع من الأمة على ما بينه صلى الله عليه وسلم ‏{‏في مرية‏}‏ أي شك ‏{‏من لقائه‏}‏ أي لا تفعل في ذلك فعل الشاك في لقاء موسى عليه السلام للكتاب منا وتلقيه له بالرضا والقبول والتسليم، كما فعل المدعون لاتباعه والعمل بكتابه في الإعراض عما دعاهم إليه من دين الإسلام، أو لا تفعل فعل الشاك في لقائك الكتاب منا وإن نسبوك إلى الإفتراء وإن تأخر بعض ما يخبر به فسيكون هدى لمن بقي منهم، وعذاباً للماضين، ولا يبقى خبر ما أخبر به أنه كائن إلا كان طبق ما أخبر به، فإنك لتلقاه من لدن حكيم عليم، وقد صبر موسى عليه السلام في تلقي كتابه ودعائه حتى مات على أحسن الأحوال، أو يكون المعنى‏:‏ ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف عليه فيه فما شك أحد من الثابتين في إيتائنا إياه الكتاب لأجل إعراض من أعرض، ولا زلزلة أدبار من أدبر، وانتقمنا ممن أعرض عنه فلا يكن أحد ممن آمن بك في شك من إيتائنا الكتاب لك لإعراض من أعرض، فسنهلك من حكمنا بشقائه انتقاماً منه، ونسعد الباقين به‏.‏

ولما أشار إلى إعراضهم عنه وإعراض العرب عن كتابهم، ذكر أن الكل فعلوا بذلك الضلال ضد ما أنزل له الكتاب، فقال ممتناً على بني إسرائيل ومبشراً للعرب‏:‏ ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي كتاب موسى عليه السلام جعلاً يليق بعظمتنا ‏{‏هدى‏}‏ أي بياناً عظيماً ‏{‏لبني إسرائيل‏}‏ وأشار إلى اختلافهم فيه بقوله‏:‏ ‏{‏وجعلنا منهم‏}‏ أي من أنبيائهم وأحبارهم بعظمتنا، مع ما في طبع الإنسان من اتباع الهوى ‏{‏أئمة يهدون‏}‏ أي يوقعون البيان ويعملون على حسبه ‏{‏بأمرنا‏}‏ أي بما أنزلنا فيه من الأوامر؛ ثم ذكر علة جعله ذلك لهم بقوله‏:‏ ‏{‏لما صبروا‏}‏ أي بسبب صبرهم ولأجله- على قراءة حمزة والكسائي بالكسر والتخفيف- أو حين صبرهم على قبول أوامرنا على قراءة الباقين بالفتح والتشديد، وإن كان الصبر أيضاً إنما هو بتوفيق الله لهم ‏{‏وكانوا بآياتنا‏}‏ لما لها من العظمة ‏{‏يوقنون *‏}‏ لا يرتابون في شيء منها ولا يفعلون فعل الشاك فيه الإعراض، وكان ذلك لهم جبلة جبلناهم عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ولما أفهم قوله «منهم» أنه كان منهم من يضل عن أمر الله ويصد عنه، جاء قوله تسلية للمؤمنين وتوعداً للكافرين، استئنافاً مؤكداً تنبيهاً لمن يظن أنه لا بعث، ولفت القول إلى صفة الإحسان إشارة إلى ما يظهر من شرفه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم من المقام المحمود وغيره‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك ليعظم ثوابك ويعلي ما بك ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏يفصل بينهم‏}‏ أي من الهادين والمضلين والضالين ‏{‏يوم القيامة‏}‏ بالقضاء الحق، فيعلى أمر المظلوم ويردي كيد الظالم ‏{‏فيما كانوا‏}‏ جبلة، طبعاً ‏{‏فيه‏}‏ أي خاصة ‏{‏يختلفون*‏}‏ أي يجددون الاختلاف فيه على سبيل الاستمرار حسب ما طبعوا عيله، لا يخفى عليه شيء منه، وأما غير ما اختلفوا فيه فالحكم فيه لهم أو عليهم لا بينهم، وما اختلفوا فيه لا على وجه القصد فيقع في محل العفو‏.‏

ولما كان قد تقدم عن الكفار في هذه السورة قولان‏:‏ أحدهما في التكذيب بالقرآن، والثاني في إنكار البعث، ودل سبحانه على فسادهما إلى أن ختم بذكر الآيات والبعث والفصل بين المحق والمبطل، أتبعه استفهامين إنكاريين منشورين على القولين وختمت آية كل منهما بآخر، فتصير الاستفهامات أربعة، وفي مدخول الأول الفصل بين الفريقين في الدنيا، فقال مهدداً‏:‏ ‏{‏أو لم‏}‏ أي أيقولون عناداً لرسولنا‏:‏ أفتراه ولم ‏{‏يهد‏}‏ أي يبين- كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏لهم كم أهلكنا‏}‏ أي كثرة من أهلكناه‏.‏

ولما كان قرب شيء في الزمان أو المكان أدل، بين قربهم بإدخال الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ أي لأجل معاندة الرسل ‏{‏من القرون‏}‏ الماضين من المعرضين عن الآيات، ونجينا من آمن بها، وربما كان قرب المكان منزلاً قرب الزمان لكثرة التذكير بالآثار، والتردد خلال الديار‏.‏

ولما كان انهماكهم في الدنيا الزائلة قد شغلهم عن التفكر فيما ينفعهم عن المواعظ بالأفعال والأقوال، أشار إلى ذلك بتصوير اطلاعهم على ما لهم من الأحوال، بقوله‏:‏ ‏{‏يمشون‏}‏ أي أنهم ليسوا بأهل للتفكر إلا حال المشي ‏{‏في مساكنهم‏}‏ لشدة ارتباطهم مع المحسوسات، وذلك كمساكن عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم‏.‏ ولما كان في هذا أتم عبرة وأعظم عظة، قال منبهاً عليه مؤكداً تنبيهاً على أن من لم يعتبر منكر لما فيه من العبر‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم ‏{‏لآيات‏}‏ أي دلالات ظاهرات جداً، مرئيات في الديار وغيرها من الآثار، ومسموعات في الأخبار‏.‏

ولما كان السماع هو الركن الأعظم، وكان إهلاك القرون إنما وصل إليهم بالسماع، قال منكراً‏:‏ ‏{‏أفلا يسمعون *‏}‏ أي إن أحوالهم لا يحتاج من ذكرت له في الرجوع عن الغيّ إلى غير سماعها، فإن لم يرجع فهو ممن لا سمع له ‏{‏أو لم‏}‏ أي أيقولون في إنكار البعث‏:‏ إذا ضللنا في الأرض، ولم ‏{‏يروا أنا‏}‏ بما لنا من العظمة ‏{‏نسوق الماء‏}‏ من السماء أو الأرض ‏{‏إلى الأرض الجرز‏}‏ أي التي جرز نباتها أي قطع باليبس والتهشم، أي بأيدي الناس فصارت ملساء لا نبت فيها، وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنها التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً، قالوا‏:‏ ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ‏:‏ جزر، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فنخرج به‏}‏ من أعماق الأرض ‏{‏زرعاً‏}‏ أي نبتاً لا ساق له باختلاط الماء بالتراب الذي كان زرعاً قبل هذا، وأشار إلى أنه حقيقة، لا مرية فيه، وليس هو بتخييل كما تفعل السحرة، بقوله مذكراً بنعمة الإبقاء بعد الإيجاد‏:‏ ‏{‏تأكل منه‏}‏ أي من حبه وورقه وتبنه وحشيشه ‏{‏أنعامهم‏}‏ وقدمها لموقع الامتنان بها لأن بها قوامهم في معايشهم وأبدانهم، ولأن السياق لمطلق إخراج الرزع، وأول صلاحه إنما هو لأكل الأنعام بخلاف ما في سورة عبس، فإن السياق لطعام الإنسان الذي هو نهاية الزرع حيث قال‏:‏

‏{‏فلينظر الإنسان إلى طعامه‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 24‏]‏ ثم قال ‏{‏فأنبتنا فيها حباً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 27‏]‏ وذكر من طعامه من العنب وغيره ما لا يصلح للأنعام ‏{‏وأنفسهم‏}‏ أي من حبه، وأصله إذا كان بقلاً‏.‏

ولما كانت هذه الآية مبصرة، وكانت في وضوحها في الدلالة على البعث لا يحتاج الجاهل به في الإقرار سوى رؤيتها قل‏:‏ ‏{‏أفلا يبصرون‏}‏ إشارة إلى أن من رآها وتبه على ما فيها من الدلالة وأصر على الإنكار لا بصر له ولا بصيرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ولما كانت هذه الآية أدل دليل- كما مضى- على البعث، وكان يوماً يظهر فيه عز الأولياء وذل الأعداء، أتبعها قوله تعجيباً منهم عطفاً على «يقولون أفتراه» ونحوها‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي مع هذا البيان الذي لا لبس معه استهزاء‏:‏ ‏{‏متى هذا الفتح‏}‏ أي النصر والقضاء والفصل الذي يفتح المنغلق يوم الحشر ‏{‏إن كنتم‏}‏ أي كوناً راسخاً ‏{‏صادقين‏}‏ أي عريقين في الصدق بالإخبار بأنه لا بد من كونه لنؤمن إذا رأيناه‏.‏

ولما أسفر حالهم بهذا السؤال الذي محصله الاستعجال على وجه الاستهزاء عن أنهم لا يزدادون مع البيان إلا عناداً، أمرهم بجواب فيه أبلغ تهديد، فقال فاعلاً فعل القادر في الإعراض عن إجابتهم عن تعيين اليوم إلى ذكر حاله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء اللد الجهلة‏:‏ ‏{‏يوم الفتح‏}‏ أي الذي يستهزئون به، وهو يوم القيامة- تبادرون إلى الإيمان بعد الانسلاخ مما أنتم فيه من الشماخة والكبر، فلا ينفعكم بعد العيان وهو معنى ‏{‏لا‏}‏ ينفعكم- هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال‏:‏ ‏{‏ينفع الذين كفروا‏}‏ أي غطوا آيات ربهم التي لا خفاء بها سواء في ذلك أنتم وغيركم ممن اتصف بهذا الوصف ‏{‏إيمانهم‏}‏ لأنه ليس إيماناً بالغيب، ولكنه ساقه هكذا سوق ما هو معلوم ‏{‏ولا هم ينظرون *‏}‏ أي يمهلون في إيقاع العذاب بهم لحظة ما من منظر ما‏.‏

ولما كانت نتيجة سماعهم لهذه الأدلة استهزاءهم حتى بسؤالهم عن يوم الفتح، وأجابهم سبحانه عن تعيينه بذكر حاله، وكان صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على نفعهم ربما أحب إعلامهم بما طلبوا وإن كان يعلم أن ذلك منهم استهزاء رجاء أن ينفعهم نفعاً ما، سبب سبحانه عن إعراضه عن إجابتهم، أمره لهذا الداعي الرفيق والهادي الشفيق بالإعراض عنهم أيضاً، فقال مسلياً له مهدداً لهم‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي غير مبال بهم وإن اشتد أذاهم ‏{‏وانتظر‏}‏ أي ما نفعل بهم مما فيه إظهار أمرك وإعلاء دينك، ولما كان الحال مقتضياً لتردد السامع في حالهم هل هو الانتظار، أجيب على سبيل التأكيد بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم منتظرون *‏}‏ أي ما يفعل بك وما يكون من عاقبة أمرك فيما تتوعدهم به وفي غيره، وقد انطبق آخرها على أولها بالإنذار بهذا الكتاب، وأعلم بجلالته وجزالته وشدته وشجاعته أنه ليس فيه نوع ارتياب، وأيضاً فأولها في التذكيب بتنزيله، وآخرها في الاستهزاء بتأويله، ‏{‏يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏- الآية، وأيضاً فالأول في التكذيب بإنزال الروح المعنوي، والآخر في التكذيب بإعادة الروح العيني الحسي الذي ابتدأه أول مرة والله الهادي إلى الصواب‏.‏