فصل: تفسير الآيات (74- 76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (74- 76):

{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)}
ولما كان من شأن العاقل أنه لا يقدم على باطل، فإن وقع ذلك منه وشعر بنوع ضرر يأتي بسببه بادر إلى الإقلاع عنه، تسبب عن هذا الإنذار- بعد بيان العوار- الإنكارُ عليهم في عدم المبادرة إلى التوبة إيضاحاً لأن معنى كفروا: داموا عليه، فقال: {أفلا يتوبون} أي يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده والوعيد الشديد {إلى الله} أي المتصف بكل وصف جميل {ويستغفرونه} أي يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من العار البين العوار؛ ولما كان التقدير: فالله تواب حكيم، عطف عليه قوله: {والله} ويجوز أن يكون التقدير: والحال أن المستجمع لصفات الكمال أزلاً وأبداً {غفور} أي بليغ المغفرة، يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب {رحيم} أي بالغ الإكرام لمن أقبل إليه.
ولما أبطل الكفر كله بإثبات أفعاله من إرساله وإنزاله وغير ذلك من كماله، وأثبت التوحيد على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال، فكان ذلك دليلاً على وجه عام، أتبع ذلك تخصيص ما كفر به المخاطبون بالإبطال فكان ذلك دليلاً خاصاً بعد دليل عام، فقال تعالى على وجه الحصر في الرسلية رداً على من يعتقد فيه الإلهية واصفاً له بصفتين لا يكونان إلا لمصنوع مربوب: {ما المسيح} أي الممسوح بدهن القدس المطهر المولود لأمه {ابن مريم إلا رسول} وبين أنه ما كان بدعاً ممن كان قبله من إخوانه بقوله: {قد خلت من قبله الرسل} أي فما من خارقة له، وإلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن قبله كآدم عليه السلام في خلقه من تراب، وموسى عليه السلام في قلب العصى حية تسعى- ونحو ذلك.
ولما كفروا بأمه أيضاً عليهما السلام بين ما هو الحق في أمرها فقال: {وأمه صدّيقة} أي بليغة الصدق في نفسها والتصديق لما ينبغي أن يصدق، فرتبتها تلي رتبة الأنبياء، ولذلك تكون من أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم في الجنة. وهذه الآية من أدلة من قال: إن مريم عليها السلام لم تكن نبية، فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الرد على من قال بإلهيتهما إشارة إلى بيان ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات، وأنه من رفع واحداً منها فرق ذلك فقد أطراه، ومن نقصه عنه فقد ازدراه، فالقصد العدل بين الإفراط والتفريط باعتقاد أن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية.
ولما كان المقام مقام البيان عن نزولهما عن رتبة الإلهية، ذكر أبعد الأوصاف منها فقال: {كانا يأكلان الطعام} وخص الأكل لأنه مع كونه ضعفاً لازماً ظاهراً هو أصل الحاجات المعترية للإنسان فهو تنبيه على غيره، ومن الأمر الجلي أن الإله لا ينبغي أن يدنو إلى جنابه عجز أصلاً، وقد اشتمل قوله تعالى: {وقال المسيح} وقوله: {كانا يأكلان الطعام} [المائدة: 75] على أشرف أحوال الإنسان وأخسها، فأشرفها عبادة الله، وأخسها الاشتغال عنها بالأكل الذي هو مبدأ الحاجات.
ولما أوضح ما هو الحق في أمرهما حتى ظهر كالشمس بُعدُهما عما أدعوه فيهما، أتبعه التعجب من تمام قدرته على إظهار الآيات وعلى الإضلال بعد ذلك البيان فقال: {انظر كيف نبين لهم الآيات} أي نوضح إيضاحاً شافياً العلامات التي من شأنها الهداية إلى الحق والمنع من الضلال؛ ولما كان العمى عن هذا البيان في غاية البعد، أشار إليه بأداة التراخي فقال: {ثم انظر أنَّى} أي كيف ومن أين؛ ولما كان العجب قبولهم للصرف وتأثرهم به، لا كونه من صارف معين، بنى للمفعول قوله: {يؤفكون} أي يصرفون عن الحق وبيان الطريق صرفَ من لا نور له أصلاً من أي صارف كان، فصرفهم في غاية السفول، وبيان الآيات في غاية العلو، فبينهما بون عظيم.
ولما نفى عنهما الصلاحية لرتبة الإلهية للذات، أتبعها نفي ذلك من حيث الصفات، فقال منكراً مصرحاً بالإعراض عنهم إشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للإقبال عليهم: {قل} أي للنصارى أيها الرسول الأعظم {أتعبدون} ونبه على أن كل شيء دونه، وأنهم اتخذوهم وسيلة إليه بقوله: {من دون الله} ونبه بإثبات الاسم الأعظم على أن له جميع الكمال، وعبر عما عبدوه بأداة ما لا يعقل تنبيهاً على أنه سبحانه هو الذي أفاض عليه ما رفعه عن ذلك الحيز، ولو شاء لسلبه عنه فقال: {ما لا يملك لكم ضراً} أي من نفسه فتخشوه {ولا نفعاً} أي فترجوه، ليكون لكم نوع عذر أو شبهة، ولا هو سميع يسمع كل ما يمكن سمعه بحيث يغيث المضطر إذا استغاث به في أي مكان كان ولا عليم يعلم كل ما يمكن علمه بحيث يعطي على حسب ذلك، وكل ما يملك من ذلك فبتمليك الله له كما ملككم من ذلك ما شاء.
ولما نفى عنه ما ذكر تصريحاً وتلويحاً، أثبته لنفسه المقدسة كذلك فقال: {والله} أي والحال أن الملك الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى والكمال كله {هو} أي خاصة {السميع العليم} وهو وحده الضار النافع، يسمع منكم هذا القول ويعلم هذا المعقد السيئ، وإنما قرن بالسميع العليم، دون البصير لإرادة التهديد لمن عبد غيره، لأن العبادة قول أو فعل، ومن الفعل ما محله القلب وهو الاعتقاد، ولا يدرك بالبصر بل بالعلم، والآية- كما ترى- من الاحتباك: دل بما أثبته لنفسه على سبيل القصر على نفيه في الجملة الأولى عن غيره، وبما نفاه في الجملة الأولى عن غيره على إثباته له- والله الموفق.

.تفسير الآيات (77- 78):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)}
ولما قامت الأدلة على بطلان قول اليهود ثم على بطلان مدعى النصارى، ولم يبق لأحد علة، أمره صلى الله عليه وسلم أن ينهى الفريقين عن الغلو بالباطل في أمر عيسى عليه السلام: اليهود بإنزاله عن رتبته، والنصارة برفعه عنها بقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب} أي عامة {لا تغلوا} أي تجاوزوا الحد علواً ولا نزولاً {في دينكم}.
ولما كان الغلو ربما أطلق على شدة الفحص عن الحقائق واستنباط الخفي من الأحكام والدقائق من خبايا النصوص، نفى ذلك بقوله: {غير الحق} وعرّفه ليفيد أن المبالغة في الحق غير منهي عنها، وإنما المنهي عنه تجاوز دائرة الحق بكمالها، ولو نكر لكان من جاوز حقاً إلى غيره واقعاً في النهي، كما جاوز الاجتهاد في الصلاة النافلة إلى الجد في العلم النافع، ولو قيل: باطلاً، لأوهم أن المنهي عنه المبالغة في الباطل، لا أصله ومطلقه.
ولما نهاهم أن يضلوا بأنفسهم، نهاهم أن يقلدوا في ذلك غيرهم فقال: {ولا تتبعوا} أي فاعلين فعل من يجتهد في ذلك {أهواء قوم} أي هَوَوا مع ما لهم من القوة، فكانوا أسفل سافلين، والهوى لا يستعمل إلا في البشر {قد ضلوا} ولما كان ضلالهم غير مستغرق للزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل زمانكم هذا عن منهاج العقل فصبروا على ضلالهم وأنسوا بما تمادوا عليه في محالهم {وأضلوا} أي لم يكفهم ضلالُهم في أنفسهم حتى أضلوا غيرهم {كثيراً} أي من الناس بتماديهم في الباطل من التثليث وغيره حتى ظن حقاً {وضلوا} أي بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمنابذة الشرع {عن سواء} أي عدل {السبيل} أي الذي لا سبيل في الحقيقة غيره، لأن الشرع هو الميزان القسط والحكم العدل، وهذا إشارة إلى أنهم إن لم ينتهوا كانوا على محض التقليد لأسلافهم الذين هم في غاية البعد عن النهج وترك الاهتداء بنور العلم، وهذا غاية في التبكيت، فإن تقليدهم لو كان فيما يشبه الحق كان جهلاً، فكيف وإنما هو تقليد في هوى.
ولما نهاهم عن ذلك وقبحه عليهم. علله محذراً منه بقوله تعالى بانياً للمفعول، لأن الفاعل معروف بقرينة من هو على لسانهما: {لعن} ووصفهم بما نبه على علة لعنهم بقوله: {الذين كفروا} وصرح بنسبتهم تعييناً لهم وتبكيتاً وتقريعاً فقال: {من بني إسرائيل} وأكد هذا اللعن وفخمه بقوله: {على لسان داود} أي الذي كان على شريعة موسى عليه السلام، وذلك باعتدائهم في السبت فصاروا قردة {وعيسى ابن مريم} أي الذي نسخ شرع موسى عليه السلام، بكفرهم بعد المائدة فمسخوا خنازير، لأنهم خالفوا النبيين معاً، فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود عليه السلام من شرعهم الذي هم مدعون التمسك به، وعارفون بأن ما دعاهم إليه منه حقاً، ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى عليه السلام في بشارته به متقيدين بطاعته، فلم تبق لهم علة من التقيد به ولا التقيد بحق دعاهم إليه غيره، فعلم قطعاً أنهم مع الهوى كما مضى، ولم ينفعهم مع نسبتهم إلى واحدة من الشريعتين نسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام، فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى لاسيما في يوم الفصل إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
ولما أخبر بلعنهم وأشار إلى تعليله بكفرهم، صرح بتعليله بقوله: {ذلك} أي اللعن التام {بما} أي بسبب ما {عصوا} أي فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله {وكانوا يعتدون} أي كانت مجاوزة الحدود التي حدها الله لهم خلقاً.
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور والإنجيل، قال في المزمور السابع والسبعين من الزبور: أنصت يا شعبي لوصاياي، قربوا أسماعكم إلى قول فمي، فإني أفتح بالأمثال فمي، وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها وعرفناها وأخبرنا آباؤنا بها ولم يخفوها عن أبنائهم ليعرفوا الجيل الآتي تسابيح الرب وقوته وعجائبه التي صنعها، أقام شهادته في يعقوب وجعل ناموساً في إسرائيل كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم، لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون ويقومون، ويعلمون أيضاً بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله ولا ينسوا أعمال الرب، ويتبعوا وصاياه لئلا يكونوا كآبائهم الجيل المنحرف المخالف الخلف الذي لم يثق قلبه ولم يؤمن بالله المفرج عنه، بنو إفرام الذين أوتروا ورفعوا عن قسيهم وانهزموا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا عهد الرب ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله، ونسوا حسن أعماله وصنائعه التي أظهرها قدام آبائهم، العجائب التي صنعها بأرض مصر في مزارع صاعان، فلق البحر وأجازهم وأقام المياه كالزقاق، هداهم بالنهار في الغمام وفي الليل أجمع بمصابيح النار، فلق صخرة في البرية وسقاهم منها كاللجج العظيمة، أخرج الماء من الحجر فجرت المياه كجري الأنهار، وعاد الشعب أيضاً في الخطيئة، وأسخطوا العلي حيث لم يكن ماء، جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم، وقذفوا على الله وقالوا: هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية، لأنه ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية، هل يستطيع أن يعطينا خبزاً أو يعد مائدة لشعبه، سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب، وصعد الرجزُ على إسرائيل لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا رجوا خلاصه، فأمر السحاب من فوق وانفتحت أبواب السماء ليشبعوا، أهاج ريح التيمن من السماء وأتى بقوة العاصف، وأنزل اللحم مثل التراب وطير السماء ذات الأجنحة مثل رمل البحار، يسقطن في محالهم حول خيامهم، فأكلوا وشبعوا جداً، أعطاهم شهوتهم ولم يحرمهم إرادتهم، فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم فقتل في كثرتهم وصرع في مختاري إسرائيل، ومع هذا كله أخطؤوا إليه أيضاً ولم يؤمنوا بعجائبه، فنيت بالباطل أيامهم، وتصرمت عاجلاً سنوهم، فحين قتلهم رغبوا إلى الله وعادوا وابتكروا إليه وذكروا أن الله معينهم وأن الله العلي مخلصهم، أحبوه بأفواههم وكذبوه بألسنتهم، ولم تخلص له قلوبهم ولم يؤمنوا بعهده، وهو رحيم رؤوف، يغفر ذنوبهم ولا يهلكهم، ويرد كثرة سخطه عنهم ولا يبعث كل رجزه، وذكر أنهم لحم وروح يذهب ولا يعود، مراراً كثيرة أسخطوه في البرية وأغضبوه في أرض ظامئة، وعادوا وجربوا الله وأسخطوا قدوس إسرائيل، ولم يذكروا يده في يوم نجاهم من المضطهدين- انتهى.
هذا بعض ما في الزبور، وأما الإنجيل فطافح بذلك، منه ما في إنجيل متى، قال: وانتقل يسوع من هناك وجاء إلى عبر الجليل، وصعد إلى الجبل وجلس هناك، وجاء إليه جمع كبير معهم خرس وعمى وعرج وعسم وآخرون كثيرون، فخروا عند رجليه فأبرأهم، وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون والصم يسمعون والعرج يمشون والعمى يبصرون، ومجدوا إله إسرائيل، وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم: إني أتحنن على هذا الجمع، لأن لهم معي ثلاثة أيام ههنا، وليس عندهم ما يأكلون، ولا أريد أطلقهم صياماً لئلا يضيعوا في الطريق، قال مرقس: لأن منهم من جاء من بعيد- انتهى. قال له التلاميذ: من أين نجد من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع؟ فقال لهم يسوع: كم عندكم من الخبز؟ فقالوا: سبعة أرغفة ويسير من السمك، فأمر الجمع أن يجلس على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك وبارك وكسر وأعطى تلاميذه، وناول التلاميذ الجمع، فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة، وكان الذين أكلوا نحو أربعة آلاف رجل سوى النساء والصبيان، وأطلق الجمع وصعد السفينة وجاء إلى تخوم مجدل- وقال مرقس: إلى نواحي مابونا- وجاء الفريسيون والزنادقة يجربونه ويسألونه أن يريهم آية من السماء، فأجابهم يسوع قائلاً: إذا كان المساء قلتم: إن السماء صاحية- لاحمرارها، وبالغداة تقولون: اليوم شتاء- لاحمرار جو السماء العبوس، أيها المراؤون! تعلمون آية هذا الزمان، الجيل الشرير الفاسق يطلب آية، ولا يعطى إلا آية يونان النبي- وتركهم ومضى، ثم جاء التلاميذ إلى العبر ونسوا أن يأخذوا خبزاً- قال مرقس: ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد- وإن يسوع قال لهم: انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والزنادقة- وقال مرقس: وخمير هيرودس- ففكروا قائلين: إنا لم نجد خبزاً، فعلم يسوع فقال لهم: لماذا تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة؟ إنكم ليس معكم خبز، أما تفهمون ولا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف وكم سلاً أخذتم؟ والسبع خبزات لأربعة آلاف، وكم قفة أخذتم؟ لماذا لا تفهمون؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز، حينئذ فهموا أنه لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز، لكن من تعليم الزنادقة والفريسيين، وقال لوقا: تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء، لأنه ليس خفي إلا سيظهر، ولا مكتوم إلا سيعلم، الذي تقولونه في الظلام سيسمع في النور، والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح، أقول لكم: يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد، وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر، خافوا ممن إذا قتل له سلطان أن يلقى في نار جهنم- وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم في سورة الصف إن شاء الله تعالى، والعسم جمع أعسم- بمهملتين، وهو من في يده أو قدمه اعوجاج أو يده يابسة.

.تفسير الآيات (79- 81):

{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)}
ولما علل تعالى لعنهم بعصيانهم وغلوهم في الباطل، بينه مخصصاً للعلماء منهم بزيادة تهديد، لأنهم مع كونهم على المنكر لا ينهون غيرهم عنه، مع أنهم أجدر من غيرهم بالنهي، فصاروا عليّ منكرين شديدي الشناعة، وسكوتهم عن النهي مغوٍ لأهل الفساد ومغرٍ لهم ولغيرهم على الدخول فيه والاستكبار منه فقال تعالى: {كانوا لا يتناهون} أي لا ينهى بعضهم بعضاً، وبين إغراقهم في عدم المبالاة بالتنكير في سياق النفي فقال: {عن منكر}.
ولما كان الفعل ما كان من الأعمال عن داهية من الفاعل سواء كان عن علم أو لا، عبر به إشارة إلى أن لهم في المناكر غرام من غلبته الشهوة، ولم يبق لهم نوع علم، فقال: {فعلوه}؛ ولما كان من طبع الإنسان النهي عن كل ما خالفه طبعاً أو اعتقاداً، لاسيما إن تأيد بالشرع، فكان لا يكف عن ذلك إلا بتدريب النفس عليه لغرض فاسد أداه إليه، أكد مقسماً معبراً بالفعل الذي يعبر به عما قد لا يصحبه علم ولا يكون إلا عن داهية عظيمة فقال: {لبئس ما كانوا} أي جبلة وطبعاً {يفعلون} إشارة إلى أنهم لما تكررت فضائحهم وتواترت قبائحهم صاروا إلى حيز ما لا يتأتى منه العلم.
ولما أخبر بإقرارهم على المناكر، دل على ذلك بأمر ظاهر منهم لازم ثابت دائم مقوض لبنيان دينهم، فقال موجهاً بالخطاب لأصدق الناس فراسة وأوفرهم علماً وأثبتهم توسماً وفهماً: {ترى كثيراً منهم} أي من أهل الكتاب؛ ولما كان الإنسان لا ينحاز إلى حزب الشيطان إلا بمنازعة الفطرة الأولى السليمة، أشار إلى ذلك بالتفعل فقال: {يتولون} أي يتبعون بغاية جهدهم {الذين كفروا} أي المشركين مجتهدين في ذلك مواظبين عليه، وليس أحد منهم ينهاهم عن ذلك ولا يقبحه عليهم، مع شهادتهم عليهم بالضلال هم وأسلافهم إلى أن جاء هذا النبي الذي كانوا له في غاية الانتظار وبه في نهاية الاستبشار، وكانوا يدعون الإيمان به ثم خالفوه، فمنهم من استمر على المخالفة ظاهراً وباطناً، ومنهم من ادعى أنه تابع واستمر على المخالفة باطناً، فكانت موالاته للمشركين دليلاً على كذب دعواه ومظهرة لما أضمره من المخالفة وأخفاه.
ولما كان ذلك منهم ميلاً مع الهوى بغير دليل أصلاً قال: {لبئس ما قدمت} أي تقديم النزل للضيف {لهم أنفسهم} أي التي من شأنها الميل مع الهوى ثم بين المخصوص بالذم- وهو ما قدمتُ- بقوله: {إن سخط الله} أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة {عليهم} ولما كان من وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه، قال مبيناً أن مجرد وقوعه جدير بكل هلاك: {وفي العذاب} أي الكامل من الأدنى في الدنيا والأكبر في الآخرة {هم خالدون}.
ولما كان هذا دليلاً على كفرهم، دل عليه بقوله: {ولو} أي فعلوا ذلك مع دعواهم الإيمان والحال أنهم لو {كانوا} أي كلهم {يؤمنون} أي يوجد منهم إيمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء {والنبي} أي الذي له الوصلة التامة بالله، ولذا أتبعه قوله: {وما أنزل إليه} أي من عند الله أعم من القرآن وغيره إيماناً خالصاً من غير نفاق {ما اتخذوهم} أي المشركين مجتهدين في ذلك {أولياء} لأن مخالفة الاعتقاد تمنع الوداد، فمن كان منهم باقياً على يهوديته ظاهراً وباطناً، فالألف في {النبي} لكشف سريرته للعهد، أي النبي الذي ينتظرونه ويقولون: إنه غير محمد صلى الله عليه وسلم أو للحقيقة أي لو كانوا يؤمنون بهذه الحقيقة- أي حقيقة النبوة- ما والوهم، فإنه لم يأت نبي إلا بتكفير المشركين- كما أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله «الأنبياء أولاد علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد» كما سيأتي قريباً في حديث أبي هريرة، يعني- والله أعلم- أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع فهي متفقة في الأصل وهو التوحيد، ومن كان منهم قد أظهر الإيمان فالمراد بالنبي في إظهار زيغه وميله وحيفه محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن موالاة المشركين، بل عن متاركتهم، ولم يرض إلا بمقارعتهم ومعاركتهم.
ولما أفهمت الشرطية عدم إيمانهم، استثنى منها منبهاً بوضع الفسق موضع عدم الإيمان على أنه الحامل عليه فقال: {ولكن كثيراً منهم فاسقون} أي متمكنون في خلق المروق من دوائر الطاعات.