فصل: تفسير الآيات (88- 89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (88- 89):

{وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}
ولما كان الحال لما ألزموا به أنفسهم مقتضياً للتأكيد، أمر بالأكل بعد أن نهى عن الترك ليجتمع على إباحة ذلك الأمر والنهيُ فقال: {وكلوا} ورغبهم فيه بقوله: {مما رزقكم الله} أي الملك الأعظم الذي لا يرد عطاؤه.
ولما كان الرزق يقع على الحرام، قيده بعد القيد بالتبعيض بقوله: {حلالاً} ولما كان سبحانه قد جعل الرزق شهياً، وصفه امتناناً وترغيباً فقال: {طيباً} ويجوز أن يكون قيداً محذراً مما فيه شبهة تنبيهاً على الورع، ويكون معنى طيبه تيقن حله، فيكون بحيث تتوفر الدواعي على تناوله ديناً توفّرها على تناول ما هو نهاية في اللذة شهوة وطبعاً، وأن يكون مخرجاً لما تعافه النفس مما أخذ في الفساد من الأطعمة لئلا يضر، قال ابن المبارك: الحلال ما أخذ من جهته، والطيب ما غذّي ونميّ، فأما الطين والجوامد وما لا يغذي فمكروه إلا على جهة التداوي، وأن يكون مخرجاً لما فوق سد الرمق في حالة الضرورة، ولهذا وأمثاله قال: {واتقوا الله} أي الملك الذي له الجلال والإكرام من أن تحلوا حراماً أو تحرموا حلالاً، ثم وصفه بما يوجب رعي عهوده والوقوف عند حدوده فقال: {الذي أنتم به مؤمنون} أي ثابتون على الإيمان به، فإن هذا الوصف يقتضي رعي العهود، وخص سبحانه الأكل، والمراد جميع ما نهي عن تحريمه من الطيبات، لأنه سبب لغيره من المتمتعات، فلما نزلت- كما نقل البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما- هذه الآية قالوا: يا رسول الله! وكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه- كما تقدم، فأنزل الله تعالى: {لا يؤاخذكم الله} أي على ما له من تمام الجلال {باللغو} وهو ما يسبق إليه اللفظ من غير قصد {في أيمانكم} على أني لم أعتمد على سبب النزول في المناسبة إلا لدخوله في المعنى، لا لكونه سبباً، فإنه ليس كل سبب يدخل في المناسبة- كما بينته في أول غزوة أحد في آل عمران، وإنما كان السبب هنا داخلاً في مناسبة النظم، لأن تحريم ما أحل يكون تارة بنذر وتارة بيمين، والنذر في المباح- وهو مسألتنا- لا ينعقد وكفارته كفارة يمين، فحينئذ لم تدع الحاجة إلا إلى التعريف بالأيمان وأحكامها، فقسمها سبحانه إلى قسمين: مقصود وغير مقصود، فأما غير المقصود فلا اعتبار به، وأما المقصود فقسمان: حلف على ماض، وحلف على آت، فأما الحلف على الماضي فهو اليمين الغموس التي لا كفارة لها عند بعض العلماء، وسيأتي في آية الوصية، وأما الحلف على الآتي- وهو الذي يمكن التحريم به- فذكر حكمه هنا بقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم}.
ولما كان مطلق الحلف الذي منه اللغو يطلق عليه عقد لليمين، أعلم أن المؤاخذة إنما هي بتعمد القلب، وهو المراد بالكسب في الآية الأخرى، فعبر بالتفعيل في قراءة الجماعة، والمفاعلة على قراءة ابن عامر تنبيهاً على أن ذلك هو المراد من قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف فقال {بما عقدتم الأيمان} أي بسبب توثيقها وتوكيدها وإحكامها بالجمع بين اللسان والقلب، سواء كان على أدنى الوجوه كما تشير إليه قراءة التخفيف، أو على أعلاها كما تشير إليه قراءة التشديد، فلا يحل لكم الحنث فيها إلا بالكفارة بخلاف اللغو فإنه باللسان فقط، فلا عقد فيه فضلاً عن تعقيد، وما مصدرية.
ولما أثبت المؤاخذة سبب عنها قوله: {فكفارته} أي الأمر الذي يستر النكث والحنث عن هذا التعقيد، ويزيل أثره بحيث تصيرون كأنكم ما حلفتم {إطعام عشرة مساكين} أي أحرار مساكين، لكل مسكين ربع صاع، وهو مدمن طعام، وهو رطل وثلث {من أوسط ما} كان عادة لكم أنكم {تطعمون أهليكم} أي من أعدله في الجودة والقدر كمية وكيفية، فهو مد جيد من غالب القوت، سواء كان من الحنطة أو من التمر أو غيرهما.
ولما بدأ بأقل ما يكفي تخفيفاً ورحمة، عطف على الإطعام ترقياً قوله: {أو كسوتهم} أي بثوب يغطي العورة من قميص أو إزار أو غيرهما مما يطلق عليه اسم الكسوة {أو تحرير} أي إعتاق {رقبة} أي مؤمنة سليمة عما يخل بالعمل- كما تقدم في كفارة القتل- حملاً لمطلق الكفارات على ذلك المقيد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما استأذنه أحد في إعتاق رقبة في كفارة إلا اختبر إيمانها، هذا ما على المكلف على سبيل التخيير من غير تعيين. والتعيين إليه إذا كان واجداً للثلاثة أو لأحدها، والإتيان بأحدها مبرئ من العهدة، لأن كل واحد من الثلاثة بعينه أخص من أحدها على الإبهام، والإتيان بالخاص يستلزم الإتيان بالعام {فمن لم يجد} أي واحداً منها فاضلاً عن قوته وقوت من تلزمه مؤنته {فصيام} أي فالكفارة صيام {ثلاثة أيام} ولو متفرقة.
ولما تم ذلك. أكده في النفوس وقرره بقوله: {ذلك} أي الأمر العدل الحسن الذي ذكر {كفارة أيمانكم} أي المعقدة {إذا حلفتم} وأردتم نكثها سواء كان ذلك قبل الحنث أو بعده.
ولما كان التقدير: فافعلوا ما قدرتم عليه منه، عطف عليه لئلا تمتهن الأيمان لسهولة الكفارة قوله: {واحفظوا أيمانكم} أي فلا تحلفوا ما وجدتم إلى ذلك سبيلاً، ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، فإنه سبحانه عظيم، ومن أكثر الحلف وقع في المحذور ولا بد، وإذا حلفتم فلا تحنثوا دون تكفير، ويجوز للمكفر الجمع بين هذه الخصال كلها واستشكل، وحلُّه بما قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في التلويح في بحث أو: والمشهور في الفرق بين التخيير والإباحة أنه يمنتع في التخيير الجمع ولا يمتنع في الإباحة، لكن الفرق هاهنا أنه لا يجب في الإباحة الإتيان بواحد وفي التخيير يجب، وحينئذ إن كان الأصل فيه الحظر وثبت الجواز بعارض الأمر- كما إذا قال: بع من عبيدي هذا أو ذاك- يمتنع الجمع ويجب الاقتصار على الواحد.
لأنه المأمور به. وإن كان الأصل فيه الإباحة ووجب بالأمر واحد- كما في خصال الكفارة- يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية، وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة- انتهى.
ولما اشتملت هذه الآيات من البيان على ما يدهش الإنسان كان كأنه قيل: هل يبين كل ما يحتاج إليه هكذا؟ فنبه من هذه الغفلة بقوله: {كذلك} أي مثل هذا البيان العظيم الشأن {يبين الله} أي على ما له من العظمة {لكم آياته} أي أعلام شريعته وأحكامه على ما لها من العلو بإضافتها إليه.
ولما اشتمل ما تقدم من الأحكام والحِكَم والتنبيه والإرشاد والإخبار بما فيها من الاعتبار على نِعَم جسيمة وسنن جليلة عظيمة، ناسب ختمُها بالشكر المُربى لها في قوله على سبيل التعليل المؤذن بقطعها إن لم توجد العلة: {لعلكم تشكرون} أي يحصل منكم الشكر بحفظ جميع الحدود الآمرة والناهية.

.تفسير الآيات (90- 92):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)}
ولما تم بيان حال المأكل وكان داعية إلى المشرب، احتيج إلى بيانه، فبين تعالى المحرم منه. فعلم أن ما عداه مأذون في التمتع به، وذلك محاذٍ في تحريم شيء مقترن باللازم بعد إحلال آخر لما في أول السورة من تحريم الميتة وما ذكر معها بعد إحلال بهيمة الأنعام وما معها، فقال تعالى مذكراً لهم بما أقروا به من الإيمان الذي معناه الإذعان: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا به. ونبههم على ما يريد العدو بهم من الشر بقوله تعالى: {إنما الخمر} وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال: {والميسر} أي الذي تقدم ذكره في البقرة {والأنصاب والأزلام} المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة، والزلم: القدح لا ريش له- قاله البخاري؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار، ولما كان الميسر مفسدة المال، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام: ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال: {رجس} أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى، ووحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله: {من عمل الشيطان} أي المحترق البعيد، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال: {فاجتنبوه} أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه. وأفرد لما تقدم من الحِكَم، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال: {لعلكم تفلحون} أي تظفرون بجميع مطالبكم، روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء» وفي رواية: «نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب» وفي رواية عنه: «سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب- وفي رواية: من الزبيب- والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل» وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس! فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل» وفي رواية عنه: «حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر» قال الأصبهاني: وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام.
ولما كانت حكمة النهي عن الأنصاب والأزلام قد تقدمت في أول السورة، وهي أنها فسق، اقتصر على بيان علة النهي عن الخمر والميسر إعلاماً بأنهما المقصودان بالذات، وإن كان الآخرينَ ما ضما إلا لتأكيد تحريم هذين- كما تقدم، لأن المخاطب أهل الإيمان، وقد كانوا مجتنبين لذينك، فقال مؤكداً لأن الإقلاع عما حصل التمادي في المرون عليه يحتاج إلى مثل ذلك: {إنما يريد الشيطان} أي بتزيين الشرب والقمار لكم {أن يوقع بينكم العداوة}.
ولما كانت العداوة قد تزول أسبابها، ذكر ما ينشأ عنها مما إذا استحكم تعسر أو تعذر زواله، فقال: {والبغضاء في الخمر والميسر} أي تعاطيهما لأن الخمر تزيل العقل، فيزول المانع من إظهار الكامن من الضغائن والمناقشة والمحاسدة، فربما أدى ذلك إلى حروب طويلة وأمور مهولة، والميسر يذهب المال فيوجب ذلك الإحنة على من سلبه ماله ونغص عليه أحواله.
ولما ذكر ضررهما في الدنيا، ذكر ضررهما في الدين فقال: {ويصدكم عن ذكر الله} أي الملك الأعظم الذي لا إله لكم غيره ولا كفوء له، وكرر الجار تأكيداً للأمر وتغليظاً في التحذير فقال: {وعن الصلاة} أما في الخمر فواضح، وأما في الميسر فلأن الفائز ينسى ببطر الغلبة، والخائب مغمور بهمه، وأعظم التهديد بالاستفهام والجملة الاسمية الدالة على الثبات بعد التأكيد بالحصر والضم إلى فعل الجاهلية وبيان الحِكَم الداعية إلى الترك والشرور المنفرة عن الفعل فقال: {فهل أنتم منتهون} أي قبل أن يقع بكم ما لا تطيقون.
ولما كان ذلك مألوفاً لهم محبوباً عندهم، وكان ترك المألوف أمرّ من ضرب السيوف، أكد دعوتهم إلى اجتنابه محذراً من المخالفة بقوله عاطفاً على ما تقديره: فانتهوا: {وأطيعوا الله} أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ولا أمر لأحد سواه، أي فيما أمركم به من اجتناب ذلك، وأكد الأمر بإعادة العامل فقال: {وأطيعوا الرسول} أي الكامل في الرسلية في ذلك، وزاد في التخويف بقوله: {واحذروا} أي من المخالفة، ثم بلغ الغاية في ذلك بقوله: {فإن توليتم} أي بالإقبال على شيء من ذلك، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك إنما يعمل بمعالجة من النفس للفطرة الأولى، وعظم الشأن في ابتداء الجزاء بالتنبيه بالأمر بالعلم فقال: {فاعلموا} أنكم لم تضروا إلا أنفسكم، لأن الحجة قد قامت عليكم، ولم يبق على الرسول شيء لأنكم علمتم {أنما على رسولنا} أي البالغ في العظمة مقداراً يجل عن الوصف بإضافته إلينا {البلاغ المبين} أي البين في نفسه الموضح لكل من سمعه ما يراد منه لا غيره، فمن خالف فلينظر ما يأتيه من البلاء من قِبَلنا، وهذا ناظر إلى قوله:
{بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67] فكأنه قيل: ما عليه إلا ما تقدم من إلزامنا له به من البلاغ، فمن اختار لنفسه المخالفة كفر، والله لا يهدي من كان مختاراً لنفسه الكفر.

.تفسير الآيات (93- 94):

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}
ولما كانوا قد سألوا عند نزول الآية عما من شأن الأنفس الصالحة الناظرة للورع المتحرك للسؤال عنه، وهو من مات منهم وهو يفعلهما، قال جواباً لذلك السؤال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم {الصالحات جناح} فبين سبحانه أن هذا السؤال غير وارد لأنهم لم يكونوا منعوا منهما، وكانوا مؤمنين عاملين للصالحات متقين لما يسخط الرب من المحرمات، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219]، فقال الناس: لم يحرم علينا، إنما قال: إن فيهما إثماً، وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين المغرب فخلط في قراءته، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فكانوا يشربونها حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، فنزلت {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام} [المائدة: 90]، فقالوا: انتهينا يا رب! وقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجساً من مل الشيطان! فأنزل الله {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} [المائدة: 93]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو حرمت عليهم لتركوها كما تركتم» ولا يضر كونه من رواية أبي معشر وهو ضعيف لأنه موافق لقواعد الدين، وروى الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة رضي الله عنه وما شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، وإذا منادٍ ينادي: ألا! إن الخمر قد حرمت، فقال لي أبو طلحة رضي الله عنه: اخرج فاهرقها، فهرقتها، فقال بعض القوم: قد قتل فلان وفلان وهي في بطونهم؟ فأنزل الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} على أنه لو لم يرد هذا السببُ كانت المناسبة حاصلة، وذلك أنه تعالى لما أباح الطيب من المأكل وحرم الخبيث من المشرب، نفى الجناح عمن يأكل ما أذن فيه أو يشرب عدا ما حرمه. فأتى بعبارة تعم المأكل والمشرب فقال: {فيما طعموا} أي مأكلاً كان أو مشرباً، وشرط ذلك عليهم بالتقوى ليخرج المحرمات فقال: {إذا ما اتقوا} أي أوقعوا جميع التقوى التي تطلب منهم فلم يطعموا محرماً.
ولما بدأ بالتقوى وهي خوف الله الحامل على البعد عن المحرمات، ذكر أساسها الذي لا تقبل إلا به فقال: {وآمنوا} ولما ذكر الإقرار باللسان، ذكر مصداقه فقال: {وعملوا} أي بما أداهم إليه اجتهادهم بالعلم لا اتفاقاً {الصالحات ثم اتقوا} أي فاجتنبوا ما جدد عليهم تحريمه {وآمنوا} أي بأنه من عند الله، وأن الله له أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، وهكذا كلما تكرر تحريم شيء كانوا يلابسونه.
ولما كان قد نفى الجناح أصلاً ورأساً، شرط الإحسان فقال: {ثم اتقوا وأحسنوا} أي لازموا التقوى إلى أن أوصلتهم إلى مقام المراقبة، وهي الغنى عن رؤية غير الله، فأفهم ذلك أن من لم يبلغ رتبة الإحسان لا يمتنع أن يكون عليه جناح مع التقوى والإيمان، يكفر عنه بالبلايا والمصائب حتى ينال ما قدر له مما لم يبلغه عمله من درجات الجنان، ومما يدل على نفاسة التقوى وعزتها أنه سبحانه لما شرطها في هذا العموم، حث عليها عند ذكر المأكل بالخصوص- كما مضى فقال: {واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون} وهذا في غاية الحث على التورع في المأكل والمشرب وإشارة إلى أنه لا يوصل إلى مقام الإحسان إلا به- والله الموفق؛ ولما كان التقدير: فإن الله يحب المتقين المؤمنين، عطف عليه قوله: {والله} أي الذي له صفات الكمال {يحب المحسنين}.
ولما ذكر ما حرم من الطعام في كل حال، وكان الصيد ممن حرم في بعض الأوقات، وكان من أمثل مطعوماتهم، وكان قد ذكر لهم بعض أحكامه عقب قوله: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} {وأحل لكم الطيبات} أخذ هنا في ذكر شيء من أحكامه، وابتدأها- لأنهم خافوا على من مات منهم على شرب الخمر قبل تحريمها بأنه يبتليهم لتمييز الورع منهم من غيره- بالصيد في الحال التي حرمه عليهم فيها كما ابتلى إسرائيل في السبت، فكان ذلك سبباً لجعلهم قردة، ومنَّ سبحانه على الصحابة من هذه الأمة بالعصمة عند بلواهم بياناً لفضلهم على من سواهم، فقال تعالى منادياً لهم بما يكفّهم ذكره عن المخالفة: {يا أيها الذين آمنوا} أي أوقعوا الإيمان ولو على أدنى وجوهه، فعم بذلك العالي والداني {ليبلونكم الله} أي يعاملكم معاملة المختبر في قبولكم تحريم الخمر وغيره المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وذكر الاسم الأعظم إشارة بالتذكير بما له من الجلال إلى أن له أن يفعل ما يشاء، وأشار إلى تحقير البلوى تسكيناً للنفوس بقوله: {بشيء من الصيد} أي الصيد في البر في الإحرام، وهو ملتفت إلى قوله: {هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 60] وشارح لما ذكر أول السورة في قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم}، وما ذكر بعد المحرمات من قوله: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]، ووصف المبتلى به بوصف هو من أعلام النبوة فقال: {تناله أيديكم} أي إن أردتم أخذه سالماً {ورماحكم} إن أردتم قتله، ثم ذكر المراد من ذلك وهو إقامة الحجة على ما يتعارفه العباد بينهم فقال: {ليعلم الله} أي وهو الغني عن ذلك بما له من صفات الكمال التي لا خفاء بها عند أحد يعلم هذا الاسم الأعظم {من يخافه بالغيب} أي بما حجب به من هذه الحياة الدنيا التي حجبتهم عن أن يعرفوه حق معرفته سبحانه، والمعنى أنه يخرج بالامتحان ما كان من أفعال العباد في عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فيصير تعلق العلم به تعلقاً شهودياً كما كان تعلقاً غيبياً لتقوم بذلك الحجة على الفاعل في مجاري عاداتهم، ويزداد من له اطلاع على اللوح المحفوظ من الملائكة إيماناً ويقيناً وعرفاناً، وقد حقق سبحانه معنى هذه الآية فابتلاهم بذلك عام الحديبية حتى كان يغشاهم الصيد في رحالهم ويمكنهم أخذه بأيديهم.
ولما كان هذا زاجراً في العادة عن التعرض لما وقعت البلوى به وحاسماً للطمع فيه بمن اتسم بما جعل محط النداء من الإيمان، سبب عنه قوله: {فمن اعتدى} أي كلف نفسه مجاوزة الحد في التعرض له؛ ولما كان سبحانه يقبل التوبة عن عباده، خص الوعيد بمن استغرق الزمان بالاعتداء فأسقط الجار لذلك فقال: {بعد ذلك} أي الزجر العظيم {فله عذاب أليم} بما التذَّ من تعرضه إليه لما عرف بالميل إلى هذا أنه إلى ما هو أشهى منه كالخمر وما معها أميل.